الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 -
الفصل الأول: في ذكر الأحاديث الصحيحة في تحريم الغناء وآلات الطرب
اعلم أخي المسلم أن الأحاديث الواردة في ذلك كثيرة جدا فقد جاوز عددها العشرة عند ابن حزم وابن القيم فهي من الكثرة أن مجموعها يدل الواقف عليها على أن مضمونها الذي اتفقت عليه متونها وهو التحريم ثابت عنه صلى الله عليه وسلم يقينا حتى ولو فرض أن إسناد كل فرد منها معلول كما زعم ابن حزم وذلك بحكم القاعدة المتفق عليها عند المحدثين والعلماء: أن الحديث الضعيف يتقوى بكثرة الطرق كما هو مفصل في علم مصطلح الحديث وبها قوى الحافظ ابن حجر وغيره حديث "الأذنان من الرأس" في كتابه القيم النكت على ابن الصلاح وقد ساقه فيه عن أربعة من الصحابة وبين عللها 1 / 410 – 415، ثم ختمها بقوله:
"وإذا نظر المنصف إلى مجموع هذه الطرق علم أن للحديث أصلا وإنه ليس مما يطرح وقد حسنوا أحاديث كثيرة باعتبار طرق لها دون هذه والله أعلم".
وقد كنت خرجت هذه الطرق وزيادة في المجلد الأول من سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 56 وتعقبني في بعضها أحد إخواننا الفضلاء جزاه الله خيرا ومع ذلك احتفظت بالحديث في هذه السلسلة من أجل
طرقه. فانظر الاستدراك رقم 2 في آخر المجلد من الطبعة الجديدة منه
وقد كنت قررت أن أسوقها كلها حديثا حديثا وأخرجها تخريجا علميا دقيقا وأتكلم على أسانيدها مميزا ما صح منها مما لم يصح حسب قواعد هذا العلم الشريف وأذكر ألفاظها الدالة على ما ذكرنا ثم بدا لي أن الكلام سيطول بذلك جدا وأن الرسالة ستكبر بذلك وتخرج عن الحجم الذي أردته لها فاكتفيت من تلك الأحاديث على ستة منها لصحتها حسب القواعد المشار إليها أكثرها صحيح لذاته وبعضها له أكثر من طريق واحد والأحاديث الأخرى يجدها الراغب في الإطلاع عليها عند ابن القيم الجوزية في كتابه القيم: إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان في الصفحات التالية من المجلد الأول 239 و 248 و 251 و 254 و 256 و 261 – 2651.
1 ثم قدم إلى أحد الأخوان وأنا على وشك الانتهاء من تبييض هذه الرسالة كتابا بعنوان أحاديث ذم الغناء والمعازف في الميزان للأخ عبد الله بن يوسف الجديع فوجدته كتابا قيما جامعا لأحاديث هذا الباب وآثاره جمعا لم يسبق إليه فيما علمت مع النقد العلمي الحديثي لكل فرد من أفرادها المر الذي يندر وجوده حتى في كتب التخريجات المتقدمة مع التزامه لقواعد هذا العلم الشريف وحسب القارئ دليلا على ما ذكرت أن مجموع أحاديثه وآثاره قرابة المائة 8، منها أحاديث صحيحة و 70، أحاديث ضعيفة وأكثرها شديدة الضعف و18، آثار موقوفة بعضها صحيح. وبذلك يكون الخ الفاضل قد قام بذالك الذي كنت قررته من الكلام على أحادث الباب كلها وزيادة فجزاه الله خيرا.
ولكن كنت أتمنى أن يكون دقيقا في تضعيفها وأن يخلط أحاديث الإباحة بأحاديث التحريم تسهيلا على القراء في فهمها وتمييز هذه بتلك ولا سيما وهو لم يتكلم عليها من الناحية الفقهية ولم يبين دلالاتها كحديث عائشة وابن عمر اللذين استدل بهما ابن حزم على الإباحة ويأتي الجواب عنهما ص 106، 115، و116، 119، إن شاء الله تعالى =
الحديث الأول: عن أبي عامر أو أبي مالك الأشعري قال:
"ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف.
ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة1 فيقولون: ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة".
= وأيضا: كنت أود أن يورد الأحاديث الصحيحة عنده رقم 7، الآتي عندي ص51/الحديث الثاني، لأنه وإن ضعف إسناده وإسناد شاهده المذكور هناك وهو عنده برقم 6، فإن ضعفها ليس شديد فهو داخل في قاعدة تقوية الضعف بالشواهد كما هو مقرر عند العلماء وقد أشار لها في مقدمة كتابه ص17، وبخاصة أنه قال في آخر تخريجه: ولقد حسنت حديثه هذا من قبل يعني حديث شبيب عن أنس قيل أن أتأمل شانه اغترارا بقول بعض أهل العلم،
قلت: فلا أقل أن يحسنه لشاهده المذكور إن لم يصححه بل هو الواجب عليه بعد ان ذكر متابعا ثقة عن أنس واحتج به البخاري وإن رماه المشار به إليه بالتدليس تبعا لابن حبان فقد رده الحافظ وقوى الحديث جمع من الحفاظ كما سترى هناك. وأيضا فقد أورده في أحاديثه الصحيحة ص50،
6-
نهى عن كسب الزمارة من رواية أبي عبيدة من غريب الحديث وفاته في آخره: قال حجاج أحد رواته: الزمارة: الزانية. قلت: وهذا مما يمنع حشره في زمرة أحاديث الغناء وإن كان لفظ الزمارة يحتمله لغة فإنه مؤنث الزمار وهو الزامر بالمزمار مع أني ألاحظ أن بين الزانية والزمر ارتباطا وثيقا ولذلك قيل: الغناء رقية الزنا ولكنه ليس بلازم والله أعلم والحديث في الصحيحة 3275،.
1 أي طالب حاجة كما في رواية الاسماعيلي في مستخرجه.
علقه البخاري في صحيحه بصيغة الجزم محتجا به قائلا في كتاب الأشربة 10 / 51 / 5590 - فتح: وقال هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: حدثنا عطية بن قيس الكلابي: حدثني عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري - والله ما كذبني - سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: فذكره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابها لاستقامة 1 / 294:
والآلات الملهية قد صح فيها ما رواه البخاري في
صحيحه تعليقا مجزوما به داخلا في شرطه.
قلت: وهذا النوع من التعليق صورته صورة التعليق كما قال الحافظ العراقي في تخريجه لهذا الحديث في المغني عن حمل الأسفار 2 / 271، وذلك لأن الغالب على الأحاديث المعلقة أنها منقطعة بينها وبين معلقها ولها صور عديدة معروفة وهذا ليس منها لأن هشام بن عمار من شيوخ البخاري الذين احتج بهم في صحيحه في غير ما حديث كما بينه الحافظ في ترجمته من مقدمة الفتح ولما كان البخاري غير معروف بالتدليس كان قوله في هذا الحديث: قال في حكم قوله: عن أو: حدثني أو: قال لي خلافا لما قاله مضعف الأحاديث الصحيحة ابن عبد المنان كما سيأتي.
ويشبه قول العراقي المذكور قول ابن الصلاح في مقدمة علوم الحديث ص 72:
صورته صورة انقطاع وليس حكمه حكمه وليس خارجا من
الصحيح إلى الضعيف".
ثم رد على ابن حزم إعلاله إياه بالانقطاع وسيأتي تمام كلامه إن شاء الله في الفصل الثالث.
والمقصود أن الحديث ليس منقطعا بين البخاري وشيخه هشام كما زعم ابن حزم ومن قلده من المعاصرين كما سيأتي بيانه في الفصل المذكور إن شاء الله تعالى. على أنه لو فرض أنه منقطع فهي علة نسبية لا يجوز التمسك بها لأنه قد جاء موصولا من طرق جماعة من الثقات الحفاظ سمعوه من هشام بن عمار فالمتشبث والحالة هذه بالانقطاع يكابر مكابرة ظاهرة كالذي يضعف حديثا بإسناد صحيح متشبثا بإسناد له ضعيف فلنذكر إذن ما وجدت من أولئك الثقات فيما بين أيدينا من الأصول ثم نحيل في الآخرين على الشروح وغيرها.
أولا: قال ابن حبان في صحيحه 8 / 265 / 6719، - الإحسان: أخبرنا الحسين بن عبد الله القطان قال: حدثنا هشام بن عمار به إلى قوله: المعازف.
والقطان هذا ثقة حافظ مترجم في سير أعلام النبلاء 14 / 287،.
ثانيا: قال الطبراني في المعجم الكبير 3 / 319 / 3417، ودعلج في مسند المقلين / المنتقى منه رواية الذهبيق 1 - 2 / 1، قالا: حدثنا موسى بن سهل الجوني البصري: ثنا هشام بن عمار به مثل رواية البخاري. ومن طريق الطبراني رواه الضياء المقدسي في موافقات هشام بن عمار ق 37 / 1 – 2،
وموسى هذا ثقة حافظ أيضا مترجم في السير 14 / 261، وقرن معه دعلج محمد بن إسماعيل بن مهران الإسماعيلي وهو ثقة حافظ ثبت وهو غير الإسماعيلي صاحب المستخرج.
ثالثا: وقال الطبراني في مسند الشاميين 1 / 334 / 588: حدثنا محمد بن يزيد بن الأصل: عن عبد الصمد الدمشقي: ثنا هشام بن عمار به.
ومحمد بن يزيد هذا مترجم في تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر 16 / 124 برواية جماعة عنه وذكر أنه توفي سنة 269،.
رابعا: قال الإسماعيلي في المستخرج على الصحيح ومن طريقه البيهقي في سننه 10 / 221: حدثنا الحسن بن سفيان: حدثنا هشام بن عمار به.
والحسن بن سفيان - وهو الخرساني النيسابوري حافظ ثبت من شيوخ ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما من الحفاظ - مترجم في السير 14 / 157 - 162 وفي تذكرة الحفاظ.
وهناك أربعة آخرون سمعوه من هشام خرجهم الحافظ في تغليق التعليق 5 / 17 - 19 والذهبي عن بعضهم في السير 21 / 157 و 23 / 7،.
ثم إن هشاما لم يتفرد به لا هو ولا شيخه صدقة بن خالد بل إنهما قد توبعا فقال أبو داود في سننه 4039: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة:
حدثنا بشر بن بكر عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بإسناده المتقدم عن أبي عامر أو أبي مالك مرفوعا بلفظ:
ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير - وذكر كلاما قال -: يمسخ منهم آخرون قردة وخنازير إلى يوم القيامة".
قلت: وهذا إسناد صحيح متصل كما قال ابن القيم في الإغاثة 1 / 260، تبعا لشيخه في إبطال التحليل ص 27، لكن ليس فيه التصريح بموضع الشاهد منه وإنما أشار إليه بقوله: وذكر كلاما وقد جاء مصرحا به في رواية ثقتين آخرين من الحفاظ وهو عبد الرحمن بن إبراهيم الملقب ب دحيم قال: ثنا بشر بلفظ البخاري المتقدم:
"يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف". الحديث.
أخرجه أبو بكر الإسماعيلي في المستخرج على الصحيح كما في الفتح 10 / 56 والتغليق 5 / 19 ومن طريق الإسماعيلي البيهقي في السنن 3 / 272.
والآخر عيسى بن أحمد العسقلاني1 قال: نا بشر بن بكر به إلا أنه قال: الخز بالمعجمتين والراجح بالمهملتين كما في رواية البخاري وغيره. انظر الفتح 10 / 55.
أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 19 / 152، من طريق الحافظ
1 له ترجمة جيدة في التهذيب ووثقه جمع من المتقدمين والمتأخرين منهم النسائي والخليلي والحافظ.
أبي سعيد الهيثم بن كليب الشاشي: نا عيسى بن أحمد العسلاني به مطولا.
وهذه الطريق مما فات الحافظ فلم يذكره في الفتح بل ولا في التغليق فالحمد لله على توفيقه وأسأله المزيد من فضله.
وبهذه المناسبة أقول:
لقد فضح نفسه مضعف الأحاديث الصحيحة المشار إليه آنفا في تصديه لتضعيف حديث البخاري هذا من جميع طرقه ومتابعاته بأساليب ملتوية عجيبة لا تصدر ممن يخشى الله أو على الأقل يستحي من الناس فقد ظهر فيها مينه وتدليسه ومخالفته للقواعد العلمية وأحكام النقاد من حفاظ الأمة وإيثاره لجهله على علمهم وذلك في مقال له نشره في جريدة الرباط الأردنية1 وقد رددت عليه مفصلا في آخر المجلد الأول من سلسلة الأحاديث الصحيحة الطبعة الجديدة في الاستدراك رقم 3 وقد صدر ولله تعالى الحمد والمنة وقد كنت أشرت إلى شيء من ذلك في مقدمة كتابي الجديد ضعيف الأدب المفرد ص 14 - 16 فأرى أنه من الضروري أن ألخص هنا بعض النقاط الهامة لتكون عبرة لمن أراد أن يعتبر ولعله يكون منهم.
لقد قلد ابن حزم في إعلاله الحديث بالانقطاع بين البخاري وشيخه هشام وأعرض عن رد الحفاظ بحق عليه بطرا وكبرا وزاد عليه فاختلق علة من عنده لم يقل بها حتى مقلده ابن حزم فادعى جهالة رواية عطية بن
1 1/369-370،. ثم أعاد ذلك في تعليقه الذي خرب به كتاب ابن القيم إغاثة اللهفان
قيس مخالفا في ذلك كل الحفاظ الذين ترجموا له ووثقوه كما خالف أكثر من عشرة من الحفاظ الذين صرحوا بصحة الحديث وقوة إسناده وجمهورهم رد على ابن حزم المقلد من ذاك المقلد وهو على علم بكل ذلك على حد المثل القائل: عنزة ولو طارت.
وزعم أن قول البخاري: قال لي فلان مثل قوله: قال فلان كلاهما في حكم المنقطع فنسب إلى البخاري التدليس الصريح الذي لا يرضاه لنفسه عاقل حتى ولا هو هذا الجاني بجله على نفسه بنفسه وإلا لزمه أن لا يصدق هو إذا قال في كلامه: قال لي فلان نعوذ بالله من الجهل والعجب والغرور والخذلان.
ومن ذلك أنه صرح بإنكار وجود لفظ المعازف في رواية البيهقي وابن حجر في حديث بشر بن بكر وهو فيها كما رأيت1 وتجاهل رواية ابن عساكر المتقدمة لتي فيها اللفظ المذكور فلم يتعرض لها بذكر وهو على علم بها فقد رآها في سلسلة الأحاديث الصحيحة التي صب رده عليها في تضعيفه لهذا الحديث إلى غير ذلك من المآسي والمخازي نسأل الله السلامة.
هذا ولم يتفرد به عطية بن قيس الثقة رغم أنف المضعف المكابر بل قد تابعه اثنان:
أحدهما: مالك بن أبي مريم قال: عن عبد الرحمن بن غنم أنه سمع أبا مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
1 قلت: وأصر على ذلك في تعليقه المشار إليه آنفا دون أدنى حياء أو خجل.
"ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يضرب على رؤوسهم بالمعازف والقينات يخسف الله بهم الأرض. ويجعل منهم القردة والخنازير".
أخرجه البخاري في التاريخ 1 / 1 / 305، قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية بن صالح عن حاتم بن حريث عن مالك بن أبي مريم به.
وقال في ترجمة كعب بن عاصم الأشعري كنيته أبو مالك ويقال: اسم أبي مالك عمرو أيضا له صحبة قال: وقال لي أبو صالح: عن معاوية بن صالح به مختصرا وأخرجه بتمامه ابن ماجه 4020، وابن حبان 1384 - موارد والبيهقي 8 / 295 و 10 / 231، وابن أبي شيبة في المصنف 8 / 107 / 3810، وأحمد 5 / 342، والمحاملي في الأمالي 101 / 611، وابن الأعرابي في معجمه ق 182 / 1، والطبراني في المعجم الكبير 3 / 320 – 321، وابن عساكر في تاريخ دمشق 16 / 229 – 230، والحافظ في تغليق التعليق 5 / 20 – 21، من طرق عن معاوية بن صالح به.
قلت: وهذا إسناد رجاله ثقات غير مالك هذا فإنه لا يعرف إلا برواية حاتم عنه فهو مجهول ولذلك قال الحافظ فيه: مقبول أي عند المتابعة
1 ولفظه: عن مالك بن أبي مريم قال: كنا عند عبد الرحمن بن غنم ومعنا ربيعة الجرشي فذكروا الشراب فقال عبد الرحمن بن غنم وربيعة الجرشي صحابي وله حديث مرفوع نحوا هذا سيأتي بعد الحديث السادس ص64، بسند قوي فانتظر.
كما هنا ومع ذلك ذكره ابن حبان في الثقات 5 / 386، ولعله عمدة سكوت المنذري في الترغيب 3 / 187، على تصحيح ابن حبان إياه ولذلك صدره بقوله: عن وقول ابن القيم في موضعين من الإغاثة 1 / 347 و 361:
وهذا إسناد صحيح. وحسنه ابن تيمية كما سيأتي.
نعم الحديث صحيح بما تقدم وبالمتابعة الآتية ولجملة المسخ منه شواهد كثيرة في الصحيحة 1887،.
وأما قول المضعف المغرور الذي لم يقنع في تضعيف هذا الإسناد بالجهالة المذكورة التي كنت صرحت بها في الصحيحة 90، بل أضاف إلى ذلك التشكيك في ثقة حاتم بن حريث فقال في آخر مقاله الذي تقدمت الإشارة إليه:
"وحاتم فيه ضعف ونظر في أمره جهالة حال".
فأقول: ليتأمل القارئ هذه الحذلقة أو الفلسفة فإن الجملة الأخيرة الجهالة هي التي قالها بعض الأئمة وليست معتمدة كما يأتي بيانه وأما ما قبلها فلغو وسفسطة أو تدليس لأن أحدا من الأئمة لم يضعفه ولم يقل: فيه نظر غاية ما ذكر فيه قول ابن معين: لا أعرفه ومع ذلك فقد رده تلميذه عثمان بن سعيد الدارمي الإمام الحافظ فقال في تاريخه عن ابن معين101 / 287:
قلت: فحاتم بن حريث الطائي كيف هو؟ فقال: لا أعرفه.
فقال عثمان عقبه: هو شامي ثقة.
قلت: ومن المقرر عند العلماء أن من عرف حجة على من لم يعرف قال ابن عدي في الكامل
2 / 439، عليه:
ولعزة حديثه لم يعرفه يحيى وأرجو أنه لا بأس به.
فهذان إمامان عرفا الرجل ووثقاه ويضم إليهما توثيق ابن حبان إياه 4 / 178، وقول ابن سعد: كان معروفا أي: بالعدالة كما حققته في الاستدراك الذي سبقت الإشارة إليه فما الذي جعل هذا المغرور الذي أهلكه حب الظهور ولو بالطعن في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم على مخالفة القاعدة العلمية المنطقية: من عرف حجة على من لم يعرف؟.
ومن تمام تدليسه وغمزه إياي قوله عقب ما تقدم نقله عنه:
ومن حسن أمره ليس كمن تكلم فيه
يشير إلى توثيقي إياه بعموم قولي في المكان المشار إليه من الصحيحة:
قلت: ورجاله ثقات غير مالك بن أبي مريم.
إذا عرفت هذا فقد ذكرني قوله المذكور بالمثل المشهور: رمتني بدائها وانسلت وذلك لأن لفظة: حسن أمره إنما يعني بها التوثيق ولكنه عدل
عن هذا إليها لأنه لو صرح فقال: ومن وثقه ليس كمن تكلم فيه لأصاب به الدارمي وابن عدي لأنهما هما اللذان وثقاه كما تقدم فعدل عنه إلى تلك اللفظة مكرا منه وتدليسا موهما القراء أني تفردت بتحسين أمره والواقع - كما رأيت - أني متبع وهو المبتدع لأن قوله: من تكلم فيه إنما يعني به قول ابن معين المتقدم لا أعرفه وإنما يعني أنه لم يعرفه بجرح ولا بعدالة وهذا ليس جرحا ولا تضعيفا ولا يصح أن يقال في حقه: تكلم فيه في اصطلاح العلماء فقول المبتدع المتقدم: فيه ضعف مخالف لقول ابن معين هذا فضلا عن قول من وثقه فهو مخالف لجميع أقوال الأئمة فيه فصدق فيه المثل المذكور ونحوه: من حفر بئرا لأخيه وقع فيه.
ومعذرة إلى القراء الكرام من هذه الإطالة ونحوها مما نحن في غنى عنها لولا الرد على أعداء السنة الصحيحة والكشف عن زيفهم وطرق تدليسهم.
وأما المتابع الآخر فهو إبراهيم بن عبد الحميد بن ذي حماية عمن أخبره عن أبي مالك الأشعري أو أبي عامر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم في الخمر والمعازف.
هكذا أخرجه البخاري في ترجمة إبراهيم هذا من التاريخ الكبير فقال: 1 / 1 / 304 – 305،: قاله لي سليمان بن عبد الرحمن قال: حدثنا الجراح بن مليح الحمصي قال: ثنا إبراهيم.
قلت: وهذه متابعة قوية لمالك بن أبي مريم وعطية بن قيس فإنه من طبقتهما فإن كان المخبر له هو عبد الرحمن بن غنم فهو متابع لهما كما
هو ظاهر وإن كان غيره فهو تابعي مستور متابع لابن غنم وسواء كان هذا أو ذاك فهو إسناد قوي في الشواهد والمتابعات رجاله كلهم ثقات - باستثناء المخبر - مترجمون في التهذيب سوى إبراهيم بن عبد الحميد هذا وهو ثقة معروف برواية جمع من الثقات في تاريخ ابن عساكر 1 / 454 - 455 وغيره وبتوثيق جمع من الحفاظ فقال أبو زرعة الرازي: "ما به بأس".
وقال الطبراني في المعجم الصغير: "كان من ثقات المسلمين".
وقد عرفه ابن حبان معرفة جيدة فذكره في الثقات وكناه ب أبي إسحاق وقال 6 / 13،:
من فقهاء أهل الشام كان على قضاء حمص يروي عن ابن المنكدر وحميد الطويل وروى عنه الجراح بن مليح وأهل بلده تحول في آخر عمره إلى أنطرسوس ومات بها مرابطا.
هذه أقوال أئمتنا في إبراهيم هذا تعديلا وتوثيقا فماذا كان موقف مضعف الأحاديث الصحيحة منها لقد تعامى عنها كلها ولم يقم لها وزنا كعادته وابتدع من عنده فيه رأيا لم يقل به أحد من قبله فقال في آخر مقاله المشار إليه سابقا:
فإبراهيم فيه نظر1 مترجم عند البخاري وابن أبي حاتم وابن حبان.
1وكذا قال في تعليقه الذي أشرت إليه آنفا. هداه الله.
فماذا يقول القراء في موقف هذا الرجل من أقوال أئمتنا وتقديمه لرأيه القائم على الجهل والهوى؟ نسأل الله السلامة.
ثم لاحظت فائدتين في تخريج هذا الحديث:
الأولى: قول البخاري في روايته لحديث ابن صالح عن معاوية بن صالح: حدثنا عبد الله بن صالح
وهو أبو صالح وقال في موضع آخر - كما تقدم -: قال لي أبو صالح فهذا دليل قاطع على أنه لا فرق عند البخاري بين القولين: حدثنا و: قال لي وأن قوله: قال لي فلان متصل وأنه ليس منقطعا كما زعم الجاهل بالعلم واللغة معا كما تقدم.
والأخرى: قول البخاري عقب حديث إبراهيم - فيه شك الراوي في صحابي الحديث بقوله: أبي مالك الأشعري أو أبي عامر:
إنما يعرف هذا عن أبي مالك.
قلت: ففيه إشعار لطيف بأن مالك بن أبي مريم معروف عنده لأنه قدم روايته التي فيها الجزم بأن الصحابي هو أبي مالك الأشعري على رواية شيخه هشام بن عمار التي أخرجها في صحيحه كما تقدم وراية إبراهيم المذكورة آنفا وفي كل منهما الشك في اسم الصحابي فلولا أن البخاري يرى أن مالك بن أبي مريم ثقة عنده لما قدم روايته على روايتي هشام وإبراهيم فلعل هذا هو الذي لاحظه ابن القيم رحمه الله حين قال في حديث مالك هذا: إسناده صحيح والله أعلم.
وخلاصة الكلام في هذا الحديث الأول: أن مداره على عبد الرحمن بن غنم وهو ثقة اتفاقا رواه عنه قيس بن عطية الثقة وإسناده إليه صحيح كما تقدم وعلى مالك بن أبي مريم وإبراهيم بن عبد الحميد وهو ثقة وثلاثتهم ذكروا المعازف في جملة المحرمات المقطوع بتحريمها فمن أصر بعد هذا على تضعيف الحديث فهو متكبر معاند ينصب عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" الحديث وفيه: "الكبر بطر الحق وغمط الناس".
رواه مسلم وغيره وهو مخرج في غاية المرام 98 / 114،.
الحديث الثاني: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة ورنة عند مصيبة".
أخرجه البزار في مسنده 1 / 377 / 795، - كشف الأستار: حدثنا عمرو بن علي: ثنا أبو عاصم: ثنا شبيب بن بشر البجلي قال: سمعت أنس بن مالك يقول: فذكره ومن طريق أبي عاصم - واسمه الضحاك بن مخلد - أخرجه أبو بكر الشافعي في الرباعيات 2 / 22 / 1، - مخطوط الظاهرية والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة 6 / 188 / 2200، 2201،.
وقال البزار: لا نعلمه عن أنس إلا بهذا الإسناد.
قلت: ورجاله ثقات كما قال المنذري 4 / 177، وتبعه الهيثمي 3 / 13، لكن شبيب بن بشر مختلف فيه ولذلك قال الحافظ فيه في مختصر زوائد البزار 1 / 349،:
وشبيب وثق. وقال في التقريب: صدوق يخطئ.
قلت: فالإسناد حسن بل هو صحيح بالتالي.
وتابعه عيسى بن طهمان عن أنس.
أخرجه ابن سماك في الأول من حديثه ق 87 / 2 – مخطوط.
وعيسى هذا ثقة من رجال البخاري كما فيمغني الذهبي وقال العسقلاني:
صدوق أفرط فيه ابن حبان والذنب فيما استنكره من غيره.
فصح الحديث والحمد لله.
وله شاهد يزداد به قوة من حديث جابر بن عبد الله عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إني لم أنه عن البكاء ولكني نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير الشيطان وصوت عند مصيبة لطم وجوه وشق جيوب ورنة شيطان".
أخرجه الحاكم 4 / 40، والبيهقي 4 / 69، وفي الشعب 7 / 241 / 1063، و 1064، وابن أبي الدنيا فيذم الملاهي ق 159 /
1 -
ظاهرية" والآجري في "تحريم النرد.." 201 / 63 والبغوي في شرح السنة 5 / 430 - 431 والطيالسي في مسنده 1683 وابن سعد في الطبقات 1 / 138، وابن أبي شيبة في المصنف 3 / 393 وعبد بن حميد في المنتخب من المسند 3 / 8 / 1044، من طرق عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عطاء عن جابر ومنهم من لم يذكر عبد الرحمن وفيه قصة ورواه الترمذي رقم 1005، عن جابر مختصرا وقال:
حديث حسن يعني لغيره لحال ابن أبي ليلى وأقره الزيلعي في نصب الراية 4 / 84، وابن القيم في الإغاثة 1 / 254: وسكت عنه الحافظ في الفتح 3 / 173 و 174 مشيرا إلى تقويته كما هي قاعدته وقال الهيثمي في المجمع 3 / 17:
رواه أبو يعلى والبزار وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وفيه كلام.
وأما قول الحافظ في الدراية 2 / 172، بعد أن عزاه لجمع ممن ذكرنا:
وأخرجه البزار وأبو يعلى من وجه آخر فقالا: عن جابر عن عبد الرحمن ابن عوف وأخرجه الحاكم من طريق أخرى عن عبد الرحمن بن عوف.
فهو يوهم أنه عندهم من غير طريق ابن أبي ليلى وليس كذلك كل ما في الأمر أن بعضهم جعله من مسند جابر عنه صلى الله عليه وسلم وذكر عبد الرحمن في القصة ومنهم من جعله من مسند عبد الرحمن نفسه كما تقدم والله
سبحانه وتعالى أعلم1.
تنبيه: لقد رأيت أيها القارئ الكريم كثرة من أخرج الحديث من الأئمة وفي مصادر عديدة عن الصحابيين الجليلين: أنس وعبد الرحمن وهناك ثالث بنحوه وزيادة في متنه أعرضت عن ذكره لشدة ضعف إسناده خرجته في الضعيفة 4095.
مع هذا كله قال ابن حزم في رسالته ص 97:
لا يدرى من رواه؟
وأكد ذلك في محلاه فقال 9 / 57 - 58:
لا ندري له طريقا إنما ذكروه هكذا مطلقا وهذا لا شيء.
فهذا من الأدلة الكثيرة على صحة قول الحافظ ابن عبد الهادي في ابن حزم:
وهو كثير الوهم في الكلام على تصحيح الحديث وتضعيفه وعلى أحوال الرواة
كما كنت نقلته عنه في الصحيحة بمناسبة تضعيف ابن حزم لحديث البخاري المتقدم.
ومنه يعلم القراء الألباء جهل الشيخ الغزالي بمراتب العلماء وتفاوتهم في اختصاصهم في العلم أو اتباعه لهواه حين يتكئ في تضعيفه كل أحاديث تحريم المعازف على ابن حزم وهذه حاله في هذا العلم ولم يكتف الغزالي بهذا
1 ووهم ابن القيم في مسألة السماع ص115، فعزاه للبخاري في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن عوف ولم ينبه عليه المحقق وإنما رواه البخاري من حديث انس بقصة وفاة ابنه إبراهيم وليس فيه الشاهد.
الاتكاء بل حرف بجهل بالغ أو تأكيدا لهواه قول ابن حزم المذكور: "وهذا لا شيء" إلى قوله: "وسنده لا شيء" وسبق بيان ذلك في المقدمة ص 29 - 30 فلا نعيد الكلام فيه وقد قال ابن تيمية في كتابه القيم الاستقامة 1 / 292 - 293:
هذا الحديث من أجود ما يحتج به على تحريم الغناء كما في اللفظ المشهور عن جابر بن عبد الله "صوت عند نعمة: لهو ولعب ومزامير الشيطان" فنهى عن الصوت الذي يفعل عند النعمة كما نهى عن الصوت الذي يفعل عند المصيبة والصوت الذي عند النعمة هو صوت الغناء.
الحديث الثالث: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الله حرم علي - أو حرم - الخمر والميسر والكوبة وكل مسكر حرام".
رواه عنه قيس بن حبتر النهشلي وله عنه طريقان:
الأولى: عن علي بن بذيمة: حدثني قيس بن حبتر النهشلي عنه.
أخرجه أبو داود 3696 والبيهقي 10 / 221 وأحمد في المسند 1 / 274 وفي الأشربة رقم 193 وأبو يعلى في مسنده 2729 وعنه ابن حبان في صحيحه 5341 وأبو الحسن الطوسي في الأربعين ق 13 / 1 - ظاهرية والطبراني
في المعجم الكبير 12 / 101 - 1 - 2 - / 12598 و 12599 من طريق سفيان عن علي بن بذيمة: قال سفيان: قلت لعلي بن بذيمة: ما الكوبة؟ قال: الطبل.
والأخرى: عن عبد الكريم الجزري عن قيس بن حبتر بلفظ: "إن الله حرم عليهم الخمر والميسر والكوبة" - وهو الطبل - وقال: " كل مسكر حرام".
أخرجه أحمد 1 / 289 وفي الأشربة 14 والطبراني 12601 والبيهقي 10 / 213 – 221،.
وهذا إسناد صحيح من طريقيه عن قيس هذا وقد وثقه أبو زرعة ويعقوب في المعرفة 3 / 194 وابن حبان 5 / 308 والنسائي والحافظ في التقريب واقتصر الذهبي في الكاشف على ذكر توثيق النسائي وأقره ولذلك صححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند في الموضعين 4 / 158 و 218 وشذ ابن حزم فقال في المحلى 7 / 485: مجهول مع أنه روى عنه جمع من الثقات وهو من الأحاديث التي فاتته فلم يسقه في زمره الأحاديث التي ضعفها في تحريم المعازف ومثله ما يأتي.
الحديث الرابع: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الله عز وجل حرم الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وكل مسكر حرام"
وله ثلاث طرق:
الأولى: عن الوليد بن عبدة ويقال: عمرو بن الوليد بن عبدة به.
أخرجه أبو داود 3685 والطحاوي في شرح المعاني 2 / 325 والبيهقي 10 / 221 - 222 وأحمد 2 / 158 و 170 والأشربة 207 ويعقوب الفسوي في المعرفة 2 / و 519 وابن عبد البر في التمهيد 5 / 167 والمزي في التهذيب 31 / 45 - 46 من طريق محمد بن إسحاق وابن لهيعة وعبد الحميد ابن جعفر ثلاثتهم عن يزيد بن أبي حبيب عنه.
الأول منهم قال: الوليد بن عبدة والآخران قالا: عمرو بن الوليد ابن عبدة وهذا هو الراجح كما حققه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على المسند 9 / 241، قال:
واثنان أقرب إلى أن يكونا حفظا الاسم من واحد فراجعه.
وأيضا محمد بن إسحاق لو صرح بالتحديث فليس بحجة عند المخالفة فكيف وهو قد عنعنه؟.
وإذا كان الأمر كذلك فما حال عمرو بن الوليد هذا؟ مقتضى قول الذهبي في الميزان: "وما روى عنه سوى يزيد بن أبي حبيب" أنه مجهول،.
لكن قد ذكره يعقوب بن سفيان في ثقات المصريينمن المعرفة 2 / 519 وكذلك ذكره ابن حبان في ثقات التابعين 5 / 184 ولذا قال الحافظ في التقريب: صدوق.
وعلى هذا فالحديث حسن لذاته أو على الأقل حسن لغيره بل هو صحيح بما تقدم ويأتي.
الثانية: عن ابن وهب: أخبرني ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن أبي هريرة أو هبيرة العجلاني عن مولى لعبد الله بن عمرو عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم ذات يوم وهم في المسجد فقال: "إن ربي حرم علي الخمر والميسر والكوبة والقنين". والكوبة: الطبل.
أخرجه البيهقي 10 / 222 وأحمد 2 / 172: ثنا يحيى: ثنا ابن لهيعة به إلا أنه قال: عن أبي هبيرة الكلاعي عن عبد الله بن عمرو.. لم يشك ولم يذكر المولى.
قلت: ورجال البيهقي ثقات غير المولى فلم أعرفه ولعله هو أبو هبيرة نفسه وهو مجهول كما في تعجيل المنفعة والله أعلم.
الثالثة: عن فرج بن فضالة عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن رافع عن أبيه عن عبد الله بن عمرو مرفوعا بلفظ:
"إن الله حرم على أمتي الخمر والميسر والمزر والكوبة والقنين وزادني صلاة الوتر" قال يزيد بن هارون: القنين: البرابط.
أخرجه أحمد في المسند 2 / 165 و 167 والأشربة 212 و 214 والطبراني في المعجم الكبير 13 / 51 - 52 / 127،.
قلت: وهذا إسناد ضعيف لضعف عبد الرحمن بن رافع وهو التنوخي القاضي - والفرج بن فضالة وشيخه إبراهيم بن عبد الرحمن ذكروه في الرواة عن أبيه ولم أجد له ترجمة وفيما تقدم من الطرق والشواهد خير وبركة وكفاية.
الحديث الخامس: عن قيس بن سعد رضي الله عنه وكان صاحب راية النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك - يعني حديث مولى ابن عمرو المتقدم - قال: "والغبيراء وكل مسكر حرام".
أخرجه البيهقي 10 / 222 من طريق محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: أنبا ابن وهب: أخبرني الليث بن سعد وابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد بن عبدة عن قيس بن سعد به قال عمرو بن الوليد: وبلغني عن عبد الله بن عمرو بن العاص مثله ولم يذكر الليث: القنين وكذا رواه الطبراني في الكبير 13 / 15 / 20 من طريق آخر عن يزيد.
قلت: وهذا إسناد حسن رجاله ثقات على ما عرفت من تفرد يزيد بن أبي
حبيب بالرواية عن عمرو بن الوليد وفي إسناده هذا إشعار بانقطاع السند بينه وبين روايته المتقدمة عن عبد الله بن عمرو في الطريق الأولى عنه في الحديث الرابع. لكني رأيت حديث قيس هذا قد أخرجه عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم في فتوح مصر ص 273 رواه عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد بن عبدة عن قيس بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم
…
الحديث قال: حدثني أبي عبد الله بن عبد الحكم وربما أدخل فيما بين عمرو بن الوليد وبين قيس: أنه بلغه.
قلت: فاختلف محمد بن عبد الله بن عبد الحكم مع عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم وهما أخوان صدوقان لكن الأول أشهر وقد جعل الانقطاع بين عمرو بن الوليد وعبد الله بن عمرو وجعله الآخر بين عمرو بن الوليد وقيس بن عبادة ولعل الأول أرجح لأنه قرن مع ابن لهيعة الليث بن سعد وهذا ثقة حافظ بينما أخوه لم يذكر إلا ابن لهيعة وفيه ضعف معروف والله أعلم.
وللحديث طريق آخر يرويه عبيد الله بن زحر عن بكر بن سوادة عن قيس بن سعد مرفوعا بلفظ:
"إن ربي تبارك وتعالى حرم علي الخمر والكوبة والقنين وإياكم والغبيراء فإنها ثلث خمر العالم".
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 8 / 197 / 4132 والبيهقي وأحمد 3 / 422 والأشربة 27 وابن عبد الحكم في فتوح
مصر 273 والطبراني في المعجم الكبير 18 / 352 / 897،.
قلت: وهذا إسناد ضعيف لضعف عبيد الله بن زحر ولذلك ضعفه الحافظ العراقي في تخريج الإحياء 2 / 272 وعزاه لأحمد فقط وفاتته الطريق الأولى كما فاتته الأحاديث: الثاني والثالث والرابع بطرقها المتعددة وهذا يعتبر تقصيرا فاحشا بالنسبة لمثل هذا الحافظ لا سيما وهو في صدد تخريج قول الغزالي - بعد أن ذكر أنه لا اختلاف في سماع صوت العندليب وسائر الطيور وقاس عليه القضيب والطبل والدف وغيره ومع ما في هذا القياس من المخالفة لما تقدم من الأحاديث وللأصول القائلة: لا اجتهاد في مورد النص فإنه مع ذلك فقد أحسن ومال إلى الصواب حين عقب على ذلك بقوله:
ولا يستثنى من هذه إلا الملاهي والأوتار والمزامير التي ورد الشرع بالمنع منها.
قلت: فهذا الاستثناء مما يشعرنا بأن الغزالي لم يقف على منع الشارع من الطبل مثلا ولذلك فإني أرى أنه كان من الواجب على الحافظ العراقي أن يذكر في تخريجه لجملة الاستثناء هذه بعض الأحاديث المتقدمة الصريحة في تحريم الطبل ولا يكتفي بتخريج بعض الأحاديث الضعيفة كحديث عبيد الله بن زحر هذا ونحوه ثم يعقب عليها بقوله: وكلها ضعيفة وإن كان قد خرج قبلها حديث البخاري في استحلال المعازف ورد على ابن حزم تضعيفه إياه بوصل أبي داود والإسماعيلي له فإن في تخريج ما أشرت إليه تقوية لدلالة هذا
الحديث على التحريم لا سيما وقد تأوله ابن حزم ومن قلده بتأويل أبطلوا به دلالته فيقف هذا الحديث الصحيح في طريق إبطالهم لدلالته كما سيأتي لأن الأحاديث يفسر ويؤيد بعضها بعضا كما هو ظاهر.
وعلى كل حال فلقد كان تخريج الحافظ خيرا بكثير مما صنعه عبد الوهاب السبكي في ترجمة الشيخ الغزالي في كتابه طبقات الشافعية الكبرى فإنه عقد فيه 4 / 145 - 182 فصلا جمع فيه ما وقع في كتاب الإحياء من الأحاديث التي لم يجد لها إسنادا فذكر تحته ص 158 هذا الاستثناء بلفظ: حديث المنع من الملاهي والأوتار والمزامير وهذا غريب جدا أن يخفى عليه حتى حديث البخاري وله من مثله أحاديث أخرى نفى أن يكون لها أصلا مثل حديث " ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله إليه شيطانين على منكبيه.." الحديث وقد رواه الطبراني وغيره وهو مخرج في الضعيفة 931 ويأتي ص 68 وحديث أنه قال لعائشة: "أتحبين أن تنظري إلى زفن الحبشة"؟ وهو صحيح رواه النسائي وغيره وهو مخرج في آداب الزفاف 272 - 275 في حديثها عند الشيخين الذي كنت ضممت إليه كثيرا من الزيادات الثابتة عند غيرهما ثم رأيت أن أفرزه في الصحيحة لإنكار السبكي إياه وغيره مما هو مذكور فيها رقم 3277،.
هذا ومما يحسن ذكره في ختام تخريج هذه الأحاديث المحرمة للطبل أن الإمام أحمد قد أشار إلى صحتها فروى الخلال في كتابه الأمر بالمعروف
ص 26 عنه أنه قال:
"وأكره الطبل وهي الكوبة ونهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم".
كما أشار إلى صحته الحافظ ابن حجر في التلخيص4 / 202 بتخريجه عن الصحابة المذكورين: ابن عباس وابن عمر وقيس بن سعد بن عبادة.
الحديث السادس: عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون في أمتي قذف ومسخ وخسف".
قيل: يا رسول الله ومتى ذاك؟ قال:
"إذا ظهرت المعازف وكثرت القيان وشربت الخمور".
أخرجه الترمذي في كتاب الفتن وقم 2213 وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي ق 1 / 2 وأبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن ق 39 / 1 و 40 / 2 وابن النجار في ذيل تاريخ بغداد 18 / 252 من طرق عن عبد الله بن عبد القدوس قال: حدثني الأعمش عن هلال بن يساف عنه وقال الترمذي:
"وقد روي هذا الحديث عن الأعمش عن عبد الرحمن بن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل وهذا حديث غريب".
قلت: ورجاله ثقات غير عبد الله بن عبد القدوس قل الحافظ:
"صدوق رمي بالرفض وكان أيضا يخطئ".
قلت: رفضه لا يضر حديثه وخطؤه مأمون بالمتابعات أو الشواهد التي تؤيد حفظه له كما سأبينه.
ومرسل الأعمش الذي علقه الترمذي قد وصله أبو عمرو الداني ق 40 / 2 من طريق حماد بن عمرو عن الأعمش به.
لكن حماد هذا متروك فلا يرجح على ابن عبد القدوس بيد أن الأعمش قد توبع من قبل ليث بن أبي سليم عند الداني ق 37 / 2 و 39 / 1.
وليث وإن كان معروفا بالضعف فقد توبع أيضا فقال ابن أبي الدنيا ق 2 / 2:
حدثنا إسحاق بن إسماعيل قال: حدثنا جرير عن أبان بن تغلب عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن سابط قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره.
قلت: وهذا إسناد مرسل صحيح رجاله كلهم ثقات رجال مسلم غير إسحاق بن إسماعيل وهو الطالقاني وهو من شيوخ أبي داود وقال: ثقة.
وكذا قال الدارقطني وقال عثمان بن خرزاذ:
ثقة ثقة.
ثم وجدت له متابعا آخر فقال ابن أبي شيبة 15 / 164 / 19391: وكيع عن عبد الله بن عمرو بن مرة عن أبيه به.
قلت: وهذا إسناد جيد عبد الله بن عمرو بن مرة صدوق يخطئ.
وقد جاء مرسلا من وجه آخر وموصولا وهو أصح فقال أبو العباس
الهمداني عن عمارة بن راشد عن الغازي بن ربيعة رفع الحديث:
"ليمسخن قوم وهم على أريكتهم قردة وخنازير لشربهم الخمر وضربهم بالبرابط والقيان".
أخرجه ابن أبي الدنيا ق 2 / 2 ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق 12 / 582 وقال:
أبو العباس هو عتبة بن أبي حكيم.
قلت: قال الحافظ: صدوق يخطئ كثيرا.
وقد خالفه هشام بن الغاز فحدث عن أبيه عن جده ربيعة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يكون في آخر أمتي الخسف والقذف والمسخ".
قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: " باتخاذهم القينات وشربهم الخمور".
أخرجه الدولابي في الكنى 1 / 52 وابن عساكر في التاريخ 14 / 124 - 125 من طريق أحمد بن زهير وغيره عن علي بن بحر عن قتادة بن الفضيل بن عبد الله الرهاوي قال: سمعت هشام بن الغاز به.
وأحمد بن زهير هو أحمد بن أبي خيثمة الحافظ ابن الحافظ وقد عزاه إليه الحافظ في ترجمة ربيعة الجرشي من الإصابة وكذا في الفتح
8 / 292 وسكت عليه إشارة منه إلى قوته كما جرى عليه فيه وهو حري بذلك لأن رجاله ثقات غير الغاز بن ربيعة وقد وثقه ابن حبان 5 / 294 وترجم له ابن عساكر برواية ثلاثة عنه فمثله حسن الحديث إذا لم يخالف كما هنا فهو بذلك صحيح ويزداد قوة بما له من الشواهد في أحاديث الفتن وغيرها منها عن أبي سعيد الخدري مرفوعا مثله.
رواه الطبراني في الأوسط 6901 – ط، والصغير 1004
– الروض، وفيه زياد بن أبي زياد الجصاص وهو ضعيف كما في التقريب. ومنها حديث أبي هريرة مرفوعا:
"إذا اتخذ الفيء دولا". الحديث وفيه:
"وظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور"
أخرجه الترمذي 2212، وابن أبي الدنيا ق 2 / 2، من طريق أخرى وقد تكلمت على إسناد الترمذي في الروض النضير تحت الحديث 1004، وفي المشكاة 5450، والضعيفة 1727،
ومنها حديث علي رضي الله عنه بلفظ:
"إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء" الحديث وفيه:
"وشربت الخمور ولبس الحرير واتخذت القينات والمعازف"
أخرجه الترمذي 2211، وابن أبي الدنيا 2 / 1، وقد تكلمت عليه في المشكاة 5451، والروض النضير أيضا وله طريق أخرى
عند ابن أبي الدنيا
وعن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعا:
"يبيت قوم من هذه الأمة على طعام وشراب فيصبحون وقد مسخوا قردة وخنازير"
الحديث وفيه:
"بشربهم الخمر وأكلهم الربا واتخاذهم القينات ولبسهم الحرير وقطيعتهم الرحم".
أخرجه الحاكم 4 / 515 والبيهقي في شعب الإيمان 5 / 16 وأحمد 5 / 329 وابن أبي الدنيا 1 / 2 والأصبهاني في الترغيب 1 / 498 - 499 كذا الطيالسي 155 / 1137 وعنه أبو نعيم في الحلية 6 / 295 وابن عساكر في التاريخ 8 / 659 من طريق فرقد السبخي: حدثني عاصم بن عمرو عنه وصححه الحاكم والذهبي وفيه نظر بينته في الصحيحة 1604.
نعم هذا القدر منه صحيح بلا ريب لهذه الشواهد وقد روي عن فرقد على وجوه أخرى تراها هناك
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا استحلت أمتي ستا فعليهم الدمار: إذا ظهر فيهم التلاعن وشربوا الخمور ولبسوا الحرير واتخذوا القيان واكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء".
أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط 1 / 59 / 1060 بترقيمي والبيهقي في الشعب 5 / 377 - 378 من طريقين عنه وقواه البيهقي بهما وله في ذم الملاهي طريقان آخران عنه بنحوه ق 2 / 1 و 3 / 1 أعرضت عن ذكرهما لأنه لا يستشهد بهما.
الحديث السابع: عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن ولا تجارة فيهن وثمنهن حرام - وقال: - إنما نزلت هذه الآية في ذلك": {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} حتى فرغ من الآية ثم أتبعها:
والذي بعثني بالحق ما رفع رجل عقيرته بالغناء إلا بعث الله عز وجل عند ذلك شيطانين يرتقيان على عاتقيه ثم لا يزالان يضربان بأرجلهما على صدره - وأشار إلى صدر نفسه - حتى يكون هو الذي يسكت".
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 8 / رقم 7749 و 7805 و 7825 و 7855 و 7861 و 7862، من طريقين عن القاسم بن عبد الرحمن عنه.
قلت: وقد كنت أوردته من أجلهما في الصحيحة برقم 2922، ثم تبين لي أن في أحدهما ضعفا شديدا فعدلت عن تقويته إلا نزول الآية فإن لها شواهد عن غير واحد من الصحابة وسيأتي ذكر بعضها في الفصل الثامن إن شاء الله تعالى ص 142.
وفي ختام هذه الأحاديث الصحيحة بنوعيها الصحيح لذاته والصحيح لغيره لا بد من ذكر مسألة هامة لتتم بها الفائدة فأقول:
لقد جرى علماء الحديث - جزاهم الله خيرا - على قواعد علمية هامة جدا في سبيل المحافظة على تراث نبي الأمة سالما من الزيادة والنقص فكما لا يجوز أن يقال عليه صلى الله عليه وسلم ما لم يقل فكذلك لا يجوز أن يهدر ما قال أو يعرض عنه فالحق بين هذا وهذا كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} .
ومما لا شك فيه أن تحقيق الاعتدال والتوسط بين الإفراط والتفريط وتمييز الصحيح من الضعيف لا يكون بالجهل أو بالهوى وإنما بالعلم والاتباع وأن ذلك لا يكون إلا بالفقه الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الفقه لن يكون إلا بمعرفة ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من قول وفعل وتقرير.
وإذ الأمر كذلك فإنه لا يمكن أن ينهض به إلا من كان من الفقهاء عالما أيضا بعلم الحديث وأصوله أو على الأقل يكون من أتباعهم وعلى منهجهم ولقد أبدع من قال:
أهل الحديث هم أهل النبي وإن
…
لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا
وهم المقصودون بالحديث المشهور - على الاختلاف في ثبوته1 -:
"يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين"
بل وبالحديث الصحيح: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا،" رواه
1 انظر تعليقي على المشكاة 248.
الشيخان1.
ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في فصل له في مجموع الفتاوى 18 / 51:
"فكما أن من لا يعرف أدلة الأحكام لا يعتد بقوله ف كذلك من لا يعرف طرق العلم بصحة الحديث لا يعتد بقوله بل على كل من ليس بعالم أن يتبع إجماع أهل العلم".
قلت: ومما لا يخفى على العلماء أن من مستند هذا الإجماع قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فمن لم يكن عالما بالحديث يميز صحيحه من سقيمه لم يجز له أن يحتج به إلا بعد سؤال العارفين به هذا نص الآية فمن باب أولى أن لا يجوز له أن يصحح ويضعف بجهله كما فعل الغزالي وغيره من متفقهة العصر الحاضر.
والمقصود أن على أمثال هؤلاء أن لا يركبوا رؤوسهم فيضعفوا نوعا من أنواع الحديث وهو المعروف عند العلماء بالحديث الحسن أو الصحيح لغيره كمثل هذا الحديث السادس وغيره فإن من أصولهم وقواعدهم تقوية الحديث الضعيف بكثرة الطرق اقتباسا منهم من مثل قوله تعالى في شهادة المرأة: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} .
وتطبيق هذه القاعدة لا يستطيع النهوض به إلا القليل من المشتغلين بهذا
1وهو مخرج عندي في الروض النضير 579.
العلم الشريف فضلا عن غيرهم لأنه يتطلب معرفة واسعة بالأحاديث وطرقها وألفاظها ومواضع الاستشهاد منها ولا يساعد على ذلك في كثير من الأحيان الاستعانة بفهارس أطراف الأحاديث وإنما هو العلم القائم في نفس المتمرس بها زمنا طويلا.
وأحسن من تكلم على هذه القاعدة ودعمها بما آتاه الله تعالى من علم إنما هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى 18 / 25 – 26، فقال كما في كتابي الرد المفحم يسر الله لي تبييضه ونشره:
"والضعيف عندهم نوعان:
ضعيف لا يمتنع العمل به وهو يشبه الحسن في اصطلاح الترمذي.
وضعيف ضعفا يوجب تركه وهو الواهي.
وقد يكون الرجل عندهم ضعيفا لكثرة الغلط في حديثه ويكون الغالب عليه الصحة [فيرون حديثه] لأجل الاعتبار به والاعتضاد به فإن تعدد الطرق وكثرتها يقوي بعضها بعضا حتى قد يحصل العلم بها ولو كان الناقلون فجارا فساقا فكيف إذا كانوا علماء عدولا ولكن كثر في حديثهم الغلط وهذا مثل عبد الله بن لهيعة فإنه من كبار علماء المسلمين وكان قاضيا في مصر كثير الحديث لكن احترقت كتبه فصار يحدث من حفظه فوقع في حديثه غلط كثير مع أن الغالب على حديثه الصحة قال أحمد: قد أكتب حديث الرجل للاعتبار به مثل ابن لهيعة".
ولقد أبان ابن تيمية رحمه الله في كلمة أخرى عن السبب في تقوية الحديث الضعيف بالطرق والشرط في ذلك ووجوب التمسك بهذه القاعدة فقال في الفتاوى 13 / 347،:
والمراسيل إذا تعددت طرقها وخلت عن المواطأة قصدا أو [كان] الاتفاق بغير قصد كانت صحيحة قطعا فان النقل إما أن يكون صدقا مطابقا للخبر وأما أن يكون كذبا تعمد صاحبه الكذب أو أخطأ فيه فمتى سلم من الكذب العمد والخطأ كان صدقا بلا ريب.
وإذا كان الحديث جاء من جهتين أو جهات قلت: كحديثنا هذا وقد علم أن المخبرين لم يتواطئا على اختلاقه وعلم أن مثل ذلك لا تقع الموافقة فيه اتفاقا بلا قصد - علم أنه صحيح مثل شخص يحدث عن واقعة جرت ويذكر تفاصيل ما فيها من الأقوال والأفعال ويأتي شخص آخر قد علم أنه لم يواطىء الأول فيذكر ما ذكره الأول من تفاصيل الأقوال والأفعال فيعلم قطعا أن تلك الواقعة حق في الجملة فانه لو كان كل منهما كذبها عمدا أو خطأ لم يتفق في العادة أن يأتي كل منهما بتلك التفاصيل التي تمنع العادة اتفاق الاثنين عليها بلا مواطأة من أحدهما لصاحبه قال: وبهذه الطريق يعلم صدق عامة ما تتعدد جهاته المختلفة على هذا الوجه من المنقولات وإن لم يكن أحدها كافيا إما لإرساله وإما لضعف ناقله. قال:
وهذا الأصل ينبغي أن يعرف فإنه أصل نافع في الجزم بكثير من المنقولات في الحديث والتفسير والمغازي وما ينقل من أقوال الناس وأفعالهم،
وغير ذلك.
ولهذا إذا روى الحديث الذي يأتي فيه ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجهين مع العلم بأن أحدهما لم يأخذه عن الآخر جزم بأنه حق لا سيما إذا علم أن نقلته ليسوا ممن يتعمد الكذب وإنما يخاف على أحدهما النسيان والغلط.
وذكر نحو هذا المقطع الأخير من كلامه رحمه الله الحافظ العلائي في جامع التحصيل ص 38 وزاد:
فإنه يرتقي بمجموعهما إلى درجة الحسن لأنه يزول عنه حينئذ ما يخاف من سوء حفظ الرواة ويعتضد كل منهما بالآخر.
ونحوه في مقدمة ابن الصلاح ومختصرها لابن كثير.
ثم قال ابن تيمية رحمه الله تعالى ص 352:
وفى مثل هذا ينتفع برواية المجهول والسيئ الحفظ وبالحديث المرسل ونحو ذلك ولهذا كان أهل العلم يكتبون مثل هذه الأحاديث ويقولون: إنه يصلح للشواهد والاعتبار ما لا يصلح غيره.
ثم ذكر قول أحمد المتقدم: قد أكتب حديث الرجل لأعتبره.
قلت: ومما سبق يتبين لطالب العلم فائدة من فوائد رواية الحفاظ المتقدمين الأحاديث بالأسانيد وفيها ما إسناده ضعيف ثم سجلوها مع ذلك في كتبهم وهي أنها مرجع أساسي للاعتبار وتتبع المتابعات والشواهد المقوية لبعضها على أنه قد يستفاد من بعضها فوائد أخرى تربوية وتوجيهية صحيحة
المعنى وإن كان ذلك لا يسوغ لأحد أن يجزم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما هو معروف لدى أهل العلم خلافا لبعض أهل الأهواء قديما وحديثا كما تقدم بيانه في الرد على الشيخ الغزالي في مقدمة هذه الرسالة ولذلك قال الحافظ ابن عبد البر في التمهيد 1 / 58:
والحديث الضعيف لا يرفع أي: لا يهمل وإن كان لم يحتج به ورب حديث ضعيف الإسناد صحيح المعنى.
والخلاصة أن الحديث الضعيف سندا قد يكون صحيحا معنى لموافقة معناه لنصوص الشريعة مثل حديث: "طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس"1 ونحوه كثير ولكن ذلك مما لا يجيز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم
وقد يكون صحيح المعنى والمبنى معا لشواهده المقوية له كهذا الحديث السادس وبعض ما قبله فليكن هذا منك على ذكر ولا يصدنك عنه شقشقة الجاهلين وشغب المشاغبين فإننا في زمان كثير فيه كتابه قليل فيه علماؤه وإلى الله المشتكى ولا حول ولا قوة إلا بالله.
1وهو مخرج في المجلد الثامن من الضعيفة برقم 3835.