المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الفصل الرابع: في دلالة الأحاديث على تحريم الملاهي بجميع أشكالها - تحريم آلات الطرب

[ناصر الدين الألباني]

الفصل: ‌ الفصل الرابع: في دلالة الأحاديث على تحريم الملاهي بجميع أشكالها

4 -

‌ الفصل الرابع: في دلالة الأحاديث على تحريم الملاهي بجميع أشكالها

اعلم أخي المسلم أن الأحاديث المتقدمة صريحة الدلالة على تحريم آلات الطرب بجميع أشكالها وأنواعها نصا على بعضها كالمزمار والطبل والبربط وإلحاقا لغيرها بها وذلك لأمرين:

الأول: شمول لفظ المعازف لها في اللغة كما تقدم بيانه في الفصل الثاني وكما سيأتي أيضا عن ابن القيم.

والآخر: أنها مثلها في المعنى من حيث التطريب والإلهاء ويؤيد ذلك قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:

الدف حرام والمعازف حرام والكوبة حرام والمزمار حرام.

أخرجه البيهقي 10 / 222، من طريق عبد الكريم الجزري عن أبي هاشم الكوفي عنه.

قلت: وهذا إسناد صحيح إن كان أبو هاشم الكوفي هو أبو هاشم السنجاري المسمى سعدا فإنه جزري كعبد الكريم وذكروا أنه روى عنه لكن لم أر من ذكر أنه كوفي وفي ثقات ابن حبان 4 / 296، أنه سكن دمشق والله أعلم.

غير أن الحديث الأول يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف..

ص: 92

بحاجة إلى شيء من البيان فأقول:

أولا: قوله: يستحلون فإنه واضح الدلالة على أن المذكورات الأربعة ليست حلالا شرعا ومنها المعازف وقد جاء في كتب اللغة ومنها المعجم الوسيط:

استحل الشيء عده حلالا.

ولذلك قال العلامة الشيخ علي القاري في المرقاة 5 / 106:

والمعنى: يعدون هذه الأشياء حلالات بإيراد شبهات وأدلة واهيات منها ما ذكره بعض علمائنا يعني الحنفية من أن الحرير إنما يحرم إذا كان ملتصقا بالجسد وأما إذا لبس من فوق الثياب فلا بأس به فهذا تقييد من غير دليل نقلي ولا عقلي ولإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم:

"من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" 1 وكذلك لبعض العلماء تعلقات بـ المعازف يطول بيانها وهذا الحديث مؤيد بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} .

قلت: ويشبه ما ذكره عن الحنفية تفريقهم بين الخمر المتخذ من العنب فيحرم منه قليله وكثيره والخمر المتخذ من التمر وغيره فلا يحرم منه إلا الكثير المسكر فهذه ظاهرية مقيتة ومثله التفريق بين الموسيقى المثيرة للجنس فتحرم وغيرها من الموسيقى فتحل كما تقدم بيانه في المقدمة في الرد على أبي زهرة

1متفق عليه من حديث أنس وهو مخرج في الأحاديث الصحيحة برقم 383. وفي غاية المرام برقم 78.

ص: 93

ومن قلده ص 6 – 8، وهذا مع ما فيه من التقييد بالرأي والتعطيل للنصوص الشرعية فإن أسوأ منه قول الشيخ الغزالي عقب حديث المعازف الذي رواه البخاري 69 - 70:

ولعل البخاري يقصد أجزاء الصورة كلها أعني المحفل الذي يضم الخمر والغناء والفسوق.

فأقول للشيخ: اجعل لعل عند ذاك الكوكب1 فإن هذا التعليل والتعبير أعجمي رغم أن قائله عربي وكاتب كبير كيف لا وهو يخلط بين كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام البخاري فينسب كلامه صلى الله عليه وسلم إلى البخاري وهذه في غاية العجب كما هو ظاهر فلا أدري أهو خطأ فكري أم غلط قلمي؟ وأحلاهما مر.

هذا أولا.

وثانيا: يبطل ذاك التعليل تصريح ما بعد حديث المعازف من الأحاديث بتحريم أنواع من آلات الطرب وفي الحديث السادس وما تحته من الشواهد التصريح بأن من أسباب المسخ والخسف والقذف اتخاذ الآلات والقينات ومنها حديث ربيعة الجرشي الصحيح وفيه سؤالهم عن السبب:

قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: "باتخاذهم القينات وشربهم الخمر".

وفي حديث عمران:

1 اقتباس مما رواه الطبراني 12/264/13058،. بسند صحيح عن أبي مجلز قال: كنت أسأل ابن عمر عن الوتر؟ فجعل يقول: آخر الليل فقلت: أرأيت؟.. أرأيت..! فقال: "اجعل أرأيت عند ذاك الكوكب". وعند الترمذي 861. قصة أخرى نحوه.

ص: 94

"إذا ظهرت المعازف وكثرت القينات وشربت الخمور".

وثالثا: قال ابن القيم في إغاثة اللهفان عقب حديث المعازف ما مختصره 1 / 260 - 261:

ووجه الدلالة أن المعازف هي آلات اللهو كلها لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك ولو كانت حلالا لما ذمهم على استحلالها ولما قرن استحلالها باستحلال الخمر والحر.. وقد توعد مستحلي المعازف فيه بأن يخسف الله بهم الأرض ويمسخهم قردة وخنازير وإن كان الوعيد على جميع هذه الأفعال فلكل واحد قسط في الذم والوعيد.

فهذا الحق ليس به خفاء

فدعني عن بنيات الطريق

والحقيقة المرة أن الشيخ الغزالي وأمثاله من الدعاة أو الكتاب المعاصرين ليس لديهم منهج علمي ينطلقون منه فيما يذهبون إليه من الأحكام والمسائل لا من الناحية الفقهية ولا من الناحية الحديثية وإنما هي العشوائية العمياء المقرونة في كثير من الأحيان باتباع الأهواء فتارة تراه مع الآرائيين أو العقلانيين - كما يقولون اليوم - في مخالفة النصوص الصحيحة الصريحة بل إنه تقدمهم في ذلك بأشواط فخالف الأئمة والفقهاء جميعا بدون استثناء وقد ذكرت في المقدمة بعض الأمثلة وتارة تاره ظاهريا جامدا كالصخر الجلمود مقلدا لبعض أئمة الظاهرية المتنطعين ولو خالف أئمة الحديث والفقه جميعا فإنه كما قلده ابن حزم في تضعيفه لأحاديث المعازف الصحيحة فإنه كذلك قلده في تأويله لحديث المعازف تأويلا باطلا ولكن ابن حزم مع ذلك كان أعقل منه في اختيار

ص: 95

النص الذي تأوله فإنه لم يتجرأ على تأويل حديث البخاري - كما فعل الغزالي - لقوله فيه: يستحلون وإنما تأول حديث معاوية بن صالح الخالي منه وفيه - كما تقدم ص 45 -:

"ويضرب على رؤوسهم بالمعازف.." فقال ابن حزم 9 / 57:

وليس فيه أن الوعيد المذكور إنما هو على المعازف كما أنه ليس على اتخاذ القينات والظاهر أنه على استحلالهم الخمر بغير اسمها.

ومع أن هذا الذي استظهره تكلف ظاهر وتأويل باطل لما تقدم من الأحاديث وتفسير ابن القيم فقد أجاب عنه الشوكاني بجواب آخر فقال فينيل الأوطار 8 / 85، بعد أن حكى تأويل ابن حزم ملخصا دون أن يعزوه إليه وفيه رد ظاهر على الغزالي أيضا:

ويجاب بأن الاقتران لا يدل على أن المحرم هو الجمع فقط وإلا لزم أن الزنا المصرح به في الحديث يعني حديث البخاري لا يحرم إلا عند شرب الخمر واستعمال المعازف واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله وأيضا يلزم في مثل قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ. وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} أنه لا يحرم عدم الإيمان بالله إلا عند عدم الحض على طعام المسكين فإن قيل: تحريم مثل هذه الأمور المذكورة في الإلزام قد علم من دليل آخر فيجاب بأن تحريم المعازف قد علم من دليل آخر أيضا كما سلف على أنه لا ملجيء إلى ذلك حتى يصار إليه.

وها هنا تنبيه مهم على معنى الاستحلال الوارد في الحديث: فقد قال

ص: 96

شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعلى - في كتاب إبطال التحليل ص 20 - 21 - الكردي:

لعل الاستحلال المذكور في الحديث إنما هو بالتأويلات الفاسدة فإنهم لو استحلوها مع اعتقادهم أن الرسول حرمها كانوا كفارا ولم يكونوا من أمته ولو كانوا معترفين بأنها حرام لأوشك أن لا يعاقبوا بالمسخ كسائر الذين لم يزالوا يفعلون هذه المعاصي ولما قيل فيهم: يستحلون فإن المستحل للشيء هو الذي يأخذه معتقدا حله فيشبه أن يكون استحلالهم الخمر يعني أنهم يسمونها بغير اسمها كما في الحديث فيشربون الأشربة المحرمة ولا يسمونها خمرا واستحلالهم المعازف باعتقادهم أن آلات اللهو مجرد سمع صوت فيه لذة وهذا لا يحرم كألحان الطيور واستحلال الحرير وسائر أنواعه باعتقادهم أنه حلال للمقاتلة وقد سمعوا أنه يباح لبسه عند القتال عند كثير من العلماء فقاسوا سائر أحوالهم على تلك وهذه التأويلات الثلاثة واقعة في الطوائف الثلاثة التي قال فيها ابن المبارك رحمه الله تعالى:

وهل أفسد الدين إلا الملوك

وأحبار سوء ورهبانها

ومعلوم أنها لا تغني عن أصحابها من الله شيئا بعد أن بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم وبين تحريم هذه الأشياء بيانا قاطعا للعذر كما هو معروف في مواضعه.

ص: 97