الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 ـ أُسُس التربية في البيت المسلم:
وفيما يلي عرض موجز لبعض الأسس والقواعد التي تقوم عليها التربية الإسلامية، و هي في الحقيقة من مقومات المنهج التربوي في الإسلام.
أ ـ التربية الخلقية:
إن التربية الخلقية من المثل السامية للتربية في الإسلام، وهي تعمل على تكوين رجال مهذبين ونساء مهذبات، ذوي نفوس أبية، وعزيمة صادقة، وأخلاق عالية، وعندما امتدح الله تعالى نبيه عليه الصلاة و السلام قال:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»
(1)
. و روي عنه أنه قال: «أدَّبني ربي فأحسن تأديبي»
(2)
.
والأخلاق يجب أن تكون قرين العلم، بل تاجه، لأن العلم إن لم يصحبه الخلق، كان وسيلة هدم وشر، وفي هذا يقول الشاعر:
لا تحسبنّ العلمَ ينفعُ وَحْدَه
…
ما لم يُتَوَّجْ ربُّه بخَلاقِ
(1)
أخرجه الإمام مالك في الموطأ:2/ 47. وانظر: مجمع الزوائد للهيثمي:9/ 15.
(2)
رواه السمعاني في أدب الإملاء والاستملاء ص 1، والعسكري في الأمثال. وهو ضعيف من حيث السند. انظر كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما يدور من الحديث على ألسنة الناس للعجلوني: 1/ 16.
فلا بد إذن من شيء آخر بعد العلم والمعرفة، اسمه التهذيب والتربية الخلقية، فينبغي أن يكون دائمًا لوزارة المعارف رسالة مزدوجة، جامعة بين التربية والتعليم جميعًا
…
ولهذا عدَّلت كثير من الدول اسم وزارة المعارف إلى وزارة التربية، لأن التربية لها المحل الأول من العناية، والتعليم وسيلة لا غاية، كما أن التربية تتضمن أيضًا العلم والمعرفة.
وقد عُنِي الإسلام بالتربية الخلقية منذ طفولة الناشئ حتى تتكون لديه العادات الحسنة منذ الصغر، إذ يشيب المرء على ما يشبُّ عليه.
والطفل كالنفس، إن تهمله شبَّ على
…
حبِّ الرضاع وإن تفطمْه ينفطِم
ب ـ تربية الضمير الديني:
إن القرآن الكريم يقف بكل شخص من المسلمين أمام ثلاث محاكم أدبية؛ محكمة الضمير في قلوبنا، ومحكمة الرأي العام من حولنا، ومحكمة السماء من فوقنا، وفي هذا يقول الله تعالى:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].
وقد هيَّأنا القرآن الكريم وأعدَّنا للوقوف أمام هذه المحاكم بأنواع ثلاثة من التربية لوجداننا: تربية الوجدان الخلقي، وتربية الوجدان الاجتماعي، وتربية الوجدان الأدبي.
جـ ـ بناء الشخصية السويَّة:
ومنهج الإسلام في بناء شخصية المسلم، يجعلها شخصية سوية، تتمتع بكل مظاهر الصحة النفسية وأركانها. فالإسلام إذا خالطت بشاشته القلوب: يشيع فيها الطمأنينة والثبات و الاتزان الانفعالي والعاطفي والعقلي، ويقيها من القلق و الخوف و الاضطرابات. كما يُعنى الإسلام بغرس أركان الصحة النفسية في المسلم منذ المراحل الأولى لحياته، ويوجهه إلى المرونة في مواجهة الواقع، والصبر عند البلاء، ويحثه على التعاون مع جماعة، المسلمين، ويحثه على القناعة والرضا والتفاؤل.
د ـ الإقناع وحرية الفكر:
يدعو الإسلام إلى توليد الرغبة والدافع، وتحري الإقناع، والحلم وسعة الصدر، وترك المجاهرة بالتوبيخ؛ ولذلك أمر أن تكون الدعوة بالحسنى والرفق، فقال الله تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125].
كما احترم الإسلام الفكر وأعطاه الحرية في العمل، ولكنه أحاطه بضوابط كثيرة لئلا يضلّ، ومن هنا كانت حرية العقيدة، بمعنى عدم الإكراه على الدين بالنسبة لأهل الكتاب من اليهود و النصارى:
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256].
هـ ـ النهي عن التقليد الأعمى:
يهاجم الإسلام التقليد، وينعى على المقلدين في كثير من آيات القرآن، ويسخر منهم ويجعلهم كالحيوانات التي لا إرادة لها ولا إدراك. قال الله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170].
وقال الله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171].
وقال عليه الصلاة و السلام: «من تشبّه بقوم فهو منهم»
(1)
.
و ـ المساواة وتكافؤ الفُرَص:
ومن أسس التربية الإسلامية المساواة في الحقوق والواجبات. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
وقال عليه الصلاة والسلام: «لا فضل لعربي على أعجمي .. إلا بالتقوى»
(2)
.
(1)
أخرجه أبو داود في اللباس، باب لباس الشهرة: 6/ 24 (من مختصر المنذري وتعليق ابن قيم). وبأتم منه أخرجه الإمام أحمد: 2/ 50، وفي طبعة الرسالة: 9/ 123، وعبد ابن حميد، ص 267، و ابن أبي شيبة: 5/ 313. وقوّاه ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: 1/ 236. وانظر تعليق المحقق على المسند في الموضع السابق.
(2)
أخرجه الإمام أحمد في المسند:5/ 411، و في طبعة الرسالة: 38/ 474. وقال محققه: إسناده صحيح.
وهذه المساواة لا تغفل عوامل الذكاء والاستعدادات والملكات الفطرية، واختلاف القدرات العامة والخاصة وأثر ذلك كله في النشاط العام وترقية الحياة.
ز ـ الدعوة إلى العمل:
إن القرآن الكريم يدعو إلى العمل الذي يجلب الخير للناس، ويؤدي إلى زيادة وتنمية الحصيلة الإنتاجية للأفراد والجماعات، ولذلك يجب أن توجه العناية إلى تدريب القوى البشرية للارتفاع بمستوى الحياة من جميع نواحيها. قال الله تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10].
ح ـ الدعوة إلى العلم:
وليست الدعوة إلى العلم مقصورة على العلم الديني فحسب، ولكنها تتناول جميع العلوم والمعارف التي تساعد على النهوض بمستوى الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، وبذلك فتح الإسلام آفاقًا رحيبة أمام العقل الإنساني ودعاه إلى الفكر والنظر. والآيات والأحاديث في العلم و فضله والحث عليه، وفي النظر والفكر والتفكر والمطالبة بالدليل، كثيرة تعزُّ على الحصر، كقول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].
ط ـ الوسطية والاعتدال:
استمدت التربية الإسلامية روحها من روح الإسلام فكانت تربية وسطاً في النواحي المادية والروحية، أو الدنيوية والأخروية، فهي تدعو إلى الأخذ من كلٍّ منهما بنصيب. قال الله تعالى:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].
ي ـ الرفق والحب:
يوجِّه الإسلام أتباعه إلى المعاملة بالرفق والحب، والبعد عن العنف بكل صوره، قال عليه الصلاة و السلام:«إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه»
(1)
. وفي سيرة النبي عليه الصلاة و السلام، وفي سيرة أصحابه أمثلةٌ رائعة للتربية برفقٍ على أساس الحب والمودة.
ك ـ التكليف بالوسع:
يوجه الإسلام إلى أن تكون معاملتنا لمن نربيهم قائمة على سياسة واعية تقدر طبيعة المرحلة التي يمرون بها وما يتناسب مع قدراتهم وإمكاناتهم، فلا نكلفهم فوق ما يطيقون، مما يعجزون عن تنفيذه والالتزام به، قال الله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
(1)
أخرجه مسلم في البر والصلة، باب فضل الرفق: 3/ 2004 برقم (2594).
هذه لمحات عن بعض أسس التربية في الإسلام، نكتفي بها في هذا المقام، تاركين التفصيل والتوسع للمراجع المختصة بالتربية الإسلامية.
وفي ختام هذه الفقرة: من الواجب أن نؤكد على توجيه الأبناء توجيهاً سليماً واضحاً، والابتعاد عن السطحية والضحالة في تقديم الأفكار الدينية لهم وتعليمهم إياها؛ إذ يجب أن نوسِّع ثقافتهم من الناحية الدينية حتى ننهض بمستواهم الروحي، ونرى أثر هذه الثقافة في أخلاقهم وسلوكهم.
والذي ينبغي تأكيده من أجل أن تقوم الأسرة بدورها في تربية الأبناء: هو أن نسعى لتوفير البيئة النظيفة الصالحة كي تتضافر العوامل كلها على عملية البناء، ولذلك فإن كل من بيده الأمر ــ قدرة وعلمًا وسلطاناً ــ يجب عليه أن يقف في وجه وسائل الإعلام الهدّامة التي تدعو إلى الخنا والفجور والرذيلة، لأنها أسرع فتكًا و أعون على الهدم من غيرها. وهنا تأتي أهمية المحاضن النظيفة المؤثرة كالمراكز الشبابية و المراكز الصيفية والنوادي العلمية و الاجتماعية.
وهذا هو الطريق السوي السليم ــ فيما أحسب ــ في توجيه الأبناء دينيًا واجتماعيًا وخلقيًا، بحيث نبعث في نفوسهم السكينة والاطمئنان، والثقة بالنفس، مع القناعة العقلية والوجدانية، والمباعدة بينهم وبين الغرور، وبهذا نحفظهم من رياح الإلحاد والاستهتار