الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسالة في كلمة الله عيسى بن مريم وخلق القرآن
بسم الله الرحمن الرحيم
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت
سئل الشيخ الإمام العالم أبو العباس أحمد ابن تيمية - رحمه الله تعالى - عن مسلم ونصراني، تفاوضا في الكلام، فقال النصراني: أنتم معاشر المسلمين، في كتابكم: أن عيسى كلمة الله، وتقولون: القرآن كلام الله، وهو غير مخلوق، فبينوا لنا القول في ذلك وابسطوا الجواب.
أجاب - رحمه الله تعالى -:
الحمد لله.. هذه حجة داحضة، يحتج بها النصارى والجهمية، من المعتزلة وغيرهم، الذين يقولون: إن كلام الله مخلوق، والجهمية تقول كما قال الذي امتحن الناس بخلق القرآن من الخلفاء، لمن ناظره: أليس عيسى كلمة الله؟! قال: بلى. قال: أو ليس مخلوق؟ قال: بلى. قال: فالقرآن كلام الله؟ قال: نعم. قال: وهو مخلوق؟ قال: لا. قال: فكيف تكون الكلمة من القرآن كلام الله وهو غير مخلوق، وهذا كلمة الله وهو مخلوق؟
وقد ذكر الإمام أحمد هذا السؤال فيما كتبه في الردّ على الجهمية وبين جوابه وذكر أنَّ النصارى والجهمية يحتجون بهذا وبيّن فساد حجتهم.
ونحن نذكر في هذا الجواب ما يحصل به المقصود، فإن غلط هؤلاء وأمثالهم كان من جهة اللفظ المشترك، وقد قيل إن أكثر* اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء والله تعالى ورسوله إذا خاطب عباده باسم مشترك؛ كان مقرونًا في كل موضع بما يبين المراد به كما في قوله:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} أي قدوة للناس يؤتم به أو يقتدى به. وفي قوله: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي قرن وزمان وأصل الكلام في ذلك أن لغة العرب أنها تعبر بالألفاظ التي هي المصادر عن المفعول كما يقولون هذا درهم ضرب الأمير أي مضروب الأمير، ومنه قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ
[التعليق]
* في الأصل المطبوع: (أكثره) ، وهو خطأ.
الَّذِينَ مِن دُونِهِ} فسمى المخلوقات خلق الله والخلق مصدر خلق يخلق خلقًا فهو لفظ يراد به معنى المصدر تارة ومعنى المفعول تارة فإذا قيل: {مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} فإن المراد معنى المصدر أي ما أشهدتهم تخليق ذلك ولا تكوينه وإذا قيل: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} كان المراد به المفعول أي هذا مخلوق الله فإنه قال تعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} ثم قال:
{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} فالإشارة إلى هذه الأمور التي هي مخلوقة؛ فالسموات وغيرها إذا تبين هذا فالسموات صفات الله* كالأمر والكلام والرحمة والعلم والقدرة وغير ذلك وهي من هذا الباب تطلق على الصفة القائمة بالله وتطلق على مفعول تلك الصفة وما يتعلق بها بلفظ الأمر مصدر أمر يأمر أمرًا وأمر الله من كلامه وذلك الأمر الذي هو كلامه الذي يأمر به غير مخلوق ولهذا فصل بين الخلق والأمر في قوله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} ولفظ الأمر يراد به المفعول الذي هو المأمور وهو ما كوّنه الله فالأمر كقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} . وقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} وكذلك لفظ الرحمة يراد بالرحمة صفة الله القائمة بذته وصفات الله غير مخلوقة كقوله:
[التعليق]
* كذا في الأصل المطبوع، والعبارة تشكو من سقط أو تحريف واضح.
{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} أي وسع كلّ شيء رحمتُك وعلمك ويراد بالرحمة ما يرحم الله به عباده من المخلوقات كما في (الصحيح) : «إن الله تعالى قال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي» .
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة فبها يتراحم الخلق وبها يتعاطفون حتى أن الدابة لترفع حافرها عن ولدها من تلك الرحمة واحتبس عنده تسعة وتسعين رحمة فإذا كان يوم القيامة جمع هذه الرحمة إلى التسعة والتسعين فرحم بها عباده» . ومنه قوله تعالى:
{فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} قيل: هو أثر المطر يقال له رحمة الله تعالى.
وكذلك لفظ القدرة فإن القدرة صفة لله كالعلم كما في (الصحيح) : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كما يعلمهم السورة من القرآن يقول: «إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك» .
ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} . وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} ولفظ القدرة يعبر به