المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل: الإيمان بكل ما أخبر به الرسول - تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌فصل: الإيمان بكل ما أخبر به الرسول

‌فصل: الإيمان بكل ما أخبر به الرسول

[55]

ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا، نعلم أنه حق وصدق، وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه، ولم نطلع على حقيقة معناه، مثل حديث الإسراء والمعراج59 وكان يقظة لا مناماً، فإن قريشاً أنكرته وأكبرته، ولم تنكر المنامات.

[56]

ومن ذلك أن ملك الموت لما جاء إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه لطمه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه فرد عليه عينه.

.... الشرح....

السمعيات:

السمعيات كل ما ثبت بالسمع أي: بطريق الشرع ولم يكن للعقل فيها مدخل، وكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار فهي حق يجب تصديقه سواء شاهدناه بحواسنا أو غاب عنا وسواء أدركناه بعقولنا أم لم ندركه لقوله تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119] .

وقد ذكر المؤلف من ذلك أموراً:

59 البخاري "3207""3887" ومسلم "164""264" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن مالك بن صعصعة. وراجع "الآية الكبرى" في شرح قصة الإسراء للسيوطي. ونور المسرى لأبي شامة. والإسراء والمعراج لأبي شهبة.

ص: 101

الأمر الأول: الإسراء والمعراج.

الإسراء لغة: السير بالشخص ليلاً وقيل: بمعنى سرى، وشرعاً: سير جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس لقوله تعالى:

{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1] الآية.

والمعراج لغة: الآلة التي يُعْرَجُ بها وهي المصعد، وشرعاً: السلم الذي عرج به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأرض إلى السماء لقوله تعالى:

{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 1، 2] .

إلى قوله:

{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] .

وكانا في ليلة واحدة عند الجمهور، وللعلماء خلاف متى كانت، فيروى بسند مُنْقَطِع عن ابن عباس وجابر رضي الله عنهم أنها ليلة الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول ولم يعيِّنا السنة. رواه ابن أبي شيبة.

وَيُرْوَى عن الزهري وعروة أنها قبل الهجرة بسنة رواه البيهقي فتكون في ربيع الأول ولم يُعَيِّنا الليلة، وقاله ابن سعد وغيره وجزم به النووي، وَيُرْوَى عن السدي أنها قبلة الهجرة بستة عشر شهراً رواه الحاكم، فتكون في ذي القعدة وقيل: قبل الهجرة بثلاث سنين وقيل: بخمس وقيل: بست.

وكان يقظة لا مناماً لأن قريشا أكبرته وأنكرته، ولو كان مناماً لم تنكره لأنها لا تنكر المنامات.

وقصته أن جبريل أمره الله أن يسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس على البراق ثم يعرج به إلى السموات العلا سماء سماء حتى بلغ مكاناً سمع فيه صريف الأقلام وفرض الله عليه الصلوات الخمس واطلع على الجنة والنار واتصل بالأنبياء الكرام

ص: 102

وصلى بهم إماماً ثم رجع إلى مكة فحدث الناس بما رأى فكذبه الكافرون وصدق به المؤمنون وتردد فيه آخرون.

الأمر الثاني: مجيء ملك الموت إلى موسى صلى الله عليه وسلم:

جاء ملك الموت بصورة إنسان إلى نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام ليقبض روحه فلطمه موسى ففقأ عينه فرجع الملك إلى الله وقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت فرد الله عليه عينه وقال: ارجع إليه وقل له: يضع يده على متن ثور فله بما غطى يده بكل شعرة سنة فقال موسى: ثم ماذا؟ قال: ثم الموت قال: فالآن فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية حجر، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"فلو كنت ثََمَّ لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر". وهذا الحديث ثابت في الصحيحين60 وإنما أثبته المؤلف في العقيدة لأن بعض المبتدعة أنكره معللاً ذلك بأنه يمتنع أن موسى يلطم الملك، ونرد عليهم بأن الملك أتى موسى بصورة إنسان لا يعرف موسى من هو، يطلب منه نفسه، فمقتضى الطبيعة البشرية أن يدافع المطلوب عن نفسه، ولو علم موسى أنه ملك لم يلطمه ولذلك استسلم له في المرة الثانية حين جاء بما يدل أنه من عند الله وهو إعطاؤه مهلة من السنين بقدر ما تحت يده من شعر ثور61.

60 البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء: باب وفاة موسى وذِكُره بعد "3407".

ومسلم كتاب الفضائل: باب فضائل موسى "2372""157".

من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وراجع في الدفاع عن هذا الحديث ضد طعن الطاعنين وتلبيسات المضلين، تعليق الشيخ أحمد شاكر على المسند "7634" والأنوار الكاشفة للمعلمي اليماني "219، 220".

61 قال الإمام ابن حبان في صحيحه تحت عنوان: ذكر خبر شنع به على منتحلي سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم من حُرِمَ التوفيق لإدراك معناه، ثم قال عقب روايته: "إن الله جلا وعلا بعث رسوله صلى الله عليه وسلم معلما لخلقه فأنزله موضع الإبانة عن مراده فبلغ صلى الله عليه وسلم رسالته وبيَّن عن آياته بألفاظ مجملة ومفصلة، عقلها عنه أصحابه أو بعضهم. وهذا الخبر من الأخبار التي يدرك معناه من لم يحرم التوفيق لإصابة الحق؛ وذاك أن الله جل وعلا أرسل ملك الموت إلى موسى عليه

ص: 103

[57]

ومن ذلك أشراط الساعة مثل: خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام فيقتله. وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وأشباه ذلك مما صح به النقل62.

= السلام رسالة ابتلاء واختبار وأمره أن يقول له: "أجب ربك" أمر اختبار وابتلاء، لا أمراً يريد الله جلا وعلا إمضاءه كما أمر خليله -صلى الله على نبينا وعليه- بذبح ابنه أمر اختبار وابتلاء دون الأمر الذي أراد الله جلا وعلا إمضاءه، فلما عزم على ذبح ابنه وتله للجبين، فداه بالذبح العظيم. وقد بعث الله جلا وعلا الملائكة إلى رسله في صور لا يعرفونها كدخول الملائكة على إبراهيم، ولم يعرفهم حتى أوجس منهم خيفة، وكمجيء جبريل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وسؤاله إياه عن الإيمان والإسلام والإحسان فلم يعرفه المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى ولى. فكان مجيء ملك الموت إلى موسى عليه السلام على غير الصورة التي كان يعرفه موسى عليه السلام عليها، وكان موسى غيورًا فرأى في داره رجلاً لم يعرفه، فشال يده فلطمه، فأتت لطمته على فقء عينه التي في الصورة التي يتصور بها لا الصورة التي خلقه الله عليها ولما كان المصرح عن نبينا صلى الله عليه وسلم في خبر ابن عباس حيث قال:"أمَّني جبريل عند البيت مرتين" فذكر الخبر وقال في آخره: "هذا وقتك ووقت الأنبياء قبلك" كان في هذا الخبر البيان الواضح أن بعض شرائعنا قد يتفق مع بعض شرائع من قبلنا من الأمم. ولما كان من شريعتنا أن من فقأ عين الداخل داره بغير إذنه، أو الناظر في بيته بغير أمره من غير جناح على فاعله ولا حرج على مرتكبه؛ للأخبار الجمّة الواردة فيه التي أمليناها في غير موضع من كتبنا كان جائزًا اتفاق هذه الشريعة: شريعة موسى، بإسقاط الحرج عمن فقأ عين الداخل داره بغير إذنه، فكان استعمال موسى هذا الفعل مباحًا له ولا حرج عليه في فعله، فلما رجع ملك الموت إلى ربه وأخبره بما كان من موسى فيه، أمره ثانيا بأمر آخر أمر اختبار وابتلاء -كما ذكرنا من قبل- إذ قال الله له: قل له: إن شئت فضع يدك على متن ثور، فلك بكل ما غطت يدك بكل شعرة سنة، فلما علم موسى كليم الله -صلى الله على نبينا وعليه- أنه ملك الموت وأنه جاءه بالرسالة من عند الله طابت نفسه بالموت ولم يستمهل وقال: فالآن. فلو كانت المرة الأولى عرفه موسى أنه ملك الموت ما استعمل ما استعمل في المرة الأخرى عند تيقنه وعلمه به ضد قول من زعم أن أصحاب الحديث حمالة الحطب ورعاة الليل يجمعون مالا ينتفعون به ويروون ما لا يؤجرون عليه، ويقولون بما يبطله الإسلام جهلاً منهم بمعاني الأخبار وترك التفقه والآثار، معتمدًا في ذلك على رأيه المنكوس وقياسه المعكوس. أ. هـ.

62 راجع في ذلك: النهاية لابن كثير، و"الإذاعة" لصديق حسن خان.

ص: 104

الشرح....

الأمر الثالث: أشراط الساعة:

الأشراط جمع شرط وهو لغةً: العلامة، والساعة لغةً: الوقت أو الحاضر منه، والمراد بها هنا القيامة، فأشراط الساعة شرعًا العلامات الدالة على قرب يوم القيامة قال الله تعالى:

{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَاّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18] .

وذكر المؤلف من أشراط الساعة ما يأتي:

1-

خروج الدجال، وهو لغة: صيغة مبالغة من الدجل وهو الكذب والتمويه وشرعًا: رجل مموه يخرج في آخر الزمان يدعي الربوبية. وخروجه ثابت بالسنة والإجماع، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"قولوا اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات" رواه مسلم63. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ منه في الصلاة متفق عليه64. وأجمع المسلمون على خروجه.

وقصته: "أنه يخرج من طريق بين الشام والعراق فيدعو الناس إلى عبادته فأكثر من يتبعه اليهود والنساء والأعراب. ويتبعه سبعون ألفًا من يهود أصفهان فيسير

63 مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة: باب ما يستعاذ منه في الصلاة "590""134" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

64 البخاري: كتاب الأذان: باء الدعاء قبل السلام "832"

ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة: باب ما يُسْتعاذ منه في الصلاة "589""129" من حديث عائشة رضي الله عنها.

وفي الباب عن أبي هريرة: عند مسلم "588""130".

ص: 105

في الأرض كلها كالغيث استدبرته الريح إلا مكة والمدينة فيمنع منهما ومدته أربعون يوما، يوم كسنةٍ، ويوم كشهر، ويوم كجمعةِ وباقي أيامه كالعادة. وهو أعور العين مكتوب بين عينيه (ك ف ر) يقرؤه المؤمن فقط، وله فتنة عظيمة منها أنه يأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت، معه جنة ونار فجنته نار وناره جنة، حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم وقال:"مَنْ سَمِعَ بهِ فلينأَ عنه، ومن أدركه فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف أو بفواتح سورة الكهف"65.

2-

نزول عيسى ابن مريم: نزول عيسى ابن مريم ثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين.

قال الله تعالى:

{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] .

أي: موت عيسى وهذا حين نزول كما فسره أبو هريرة بذلك.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله لينزلن عيسى ابن مريم حكما وعدلاً". الحديث متفق عليه66.

وقد أجمع المسلمون على نزوله فينزل عند المنارة البيضاء في شرقي دمشق واضعا كفيه على أجنحة ملكين فلا يحل لكافر يجد من ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطلب الدجال حتى يدرك بباب لدٍ فيقتله، ويكسر الصليب

65 راجع حديث النواس بن سمعان عند مسلم: كتاب الفتن: باب ذكر الدَّجال وصفته: "2937""110"، "111".

66 البخاري: كتاب البيوع: باب قتل الخنزير "2222".

كتاب الأنبياء: باب نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام "3448".

ومسلم: كتاب الإيمان: باب نزول عيسى ابن مريم حاكمًا بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم "155""242".

ص: 106

ويضع الجزية، وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين، ويحج ويعتمر، كل هذا ثابت في صحيح مسلم وبعضه في الصحيحين كليهما67. وروى الإمام أحمد وأبو داود:"أن عيسى يبقى بعد قتل الدجال أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون"68 وذكر البخاري في تاريخه أنه يدفن مع النبي صلى الله عليه وسلم فالله أعلم69.

67 راجح حديث النواس بن سمعان عند مسلم "2937""110""111".

وأما قوله: "ويكسر الصليب ويضع الجزية وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين" ففي حديث أبي هريرة عند البخاري "3448" ومسلم "155""242".

وعندهما: "

حتى تكون السجدة الواحدة خيرًا من الدنيا وما فيها".

واللفظ الذي ذكره الشيخ عزاه الحافظ في الفتح "492/6" لابن مردويه.

وأما قوله: "ويحج ويعتمر" فعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم بفج الروحاء حاجًا أو معتمرًا أو ليثنينهما" كتاب الحج: باب إهلال النبي صلى الله عليه وسلم وهديه "1252""216".

68 حديث صحيح: رواه أحمد "9259" وأبود داود "4324" وابن حبان "277/8" والحاكم "595/2" وصححه ووافقه الذهبي. وابن أبي شيبة "158/15" وابن جرير "388/9" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند.

69 البخاري في التاريخ الكبير "263/1" والترمذي "3617" والآجري في الشريعة ص "381" من طريق عثمان بن الضحاك عن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه عن جده قال: مكتوب في التوراة صفة محمد وصفة عيسى ابن مريم يدفن معه.

قال البخاري: هذا لا يصح عندي ولا يتابع عليه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال الهيثمي في المجمع "306/8": في سنده عثمان بن الضحاك وثَّقه ابن حبان وضعفه أبو داود. وقال الحافظ في الفتح "66/7" وروى عنها -أي عائشة- في حديث لا يثبت أنها استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم إن عاشت بعده أن تدفن إلى جانبه فقال لها: "وأنى لك بذلك وليس في ذلك الموضع إلا قبري وقبر أبي بكر وعمر وعيسى ابن مريم" وفي أخبار المدينة من وجه ضعيف عن سعيد بن المسيب قال: إن قبور الثلاثة في صفة بيت عائشة وهناك موضع قبر يدفن فيه عيسى ابن مريم. أ. هـ.

ص: 107

3-

يأجوج ومأجوج اسمان أعجميان أو عربيان مشتقان من المأج وهو الاضطراب أو من أجيج النار وتلهبها.

وهما أمتان من بني آدم موجودتان بدليل الكتاب والسنة.

قال الله تعالى في قصة ذي القرنين:

{حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ، قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 93، 94] الآيات.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله يوم القيامة: يا آدم قم فابعث بعث النار من ذريتك" إلى أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبشروا فإن منكم واحدًا ومن يأجوج ومأجوج ألفًا" أخرجاه في الصحيحين70.

وخروجهم الذي يكون من أشراط الساعة لم يأتِ بعد ولكن بوادره وجدت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها"71.

وقد ثبت خروجهم في الكتاب والسنة.

70 البخاري: كتاب الرقاق: باب قوله عز وجل {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيم} [الحج: 1] . "6530".

ومسلم: كتاب الإيمان: باب قوله: يقول الله لآدم أخرج بعث النار

"222""379" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ولفظه عندهما: "يقول: أخرج بعث النار

" وفي لفظ للبخاري "6529": "أخرج بعث جهنهم من ذريتك" وهذا اللفظ قريب من اللفظ الذي ذكره الشيخ صالح العثيمين.

71 البخاري: كتاب الفتن: باب يأجوج ومأجوج "7135"

ومسلم: كتاب الفتن: باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج "2880""2". من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها.

ص: 108

قال الله تعالى:

{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ ، وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء: 96، 97] .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها لن تقوم الساعة حتى تروا قبلها عشر آيات.." فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم. رواه مسلم72، وقصتهم في حديث النواس بن سمعان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في عيسى ابن مريم بعد قتله الدجال:"فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى أني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر آخرهم" ويقول: "لقد كان بهذه مرة ماء ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر وهو جبل بيت المقدس فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض هلم فلنقتل من في السماء فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد الله عليهم نشابهم محضوبة دما، ويحصر نبي الله وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرًا من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل عليهم طيرًا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله" رواه مسلم73.

72 مسلم: كتاب الفتن: باب في الآيات التي تكون قبل الساعة "2901""39". من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه.

73 مسلم: كتاب الفتن: باب ذكر الدَّجال وصفته "2937""110".

وراجع تعليق النووي على غريب الحديث في رياض الصالحين حديث "1817".

ص: 109

4-

خروج الدابة، الدابة لغة: كل ما دب على الأرض. والمراد بها هنا الدابة التي يُخْرجها الله قرب قيام الساعة، وخروجها ثابت بالقرآن والسنة.

قال الله تعالى:

{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل: 82] .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها لن تقوم الساعة حتى تروا قبلها عشر آيات وذكر منها الدابة" رواه مسلم74.

وليس في القرآن والسنة الصحيحة ما يدل على مكان خروج هذه الدابة وصفتها وإنما وردت في ذلك أحاديث في صحتها نظر، وظاهر القرآن أنها دابة تنذر الناس بقرب العذاب والهلاك والله أعلم.

5-

طلوع الشمس من مغربها: طلوع الشمس من مغربها ثابت بالكتاب والسنة، قال الله تعالى:

{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام: 158] .

والمراد بذلك طلوع الشمس من مغربها.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعين، وذلك حين:{لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام: 158] . متفق عليه75.

74 تقدم تخريجه ص "109".

75 البخاري: كتاب التفسير من سورة الأنعام: باب {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158]"4636"، ومسلم: كتاب الإيمان: باب الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان "157""248" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 110

[58]

وعذاب القبر ونعيمه حق، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه، وأمر به في كل صلاة.

[59]

وفتنة القبر حق، وسؤال منكر ونكير حق، والبعث بعد الموت حق، وذلك حين ينفخ إسرافيل عليه السلام في الصور:

{فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس: 51] .

.... الشرح....

فتنة القبر:

الفتنة لغة: الاختبار، وفتنة القبر سؤال الميت عن ربه ودينه ونبيه.

وهي ثابتة بالكتاب والسنة. قال الله تعالى:

{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله". فذلك قوله تعالى:

{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] متفق عليه76.

76 البخاري: كتاب الجنائز: باب ما جاء في عذاب القبر "1369".

ومسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها: باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه "3871""73" من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.

ص: 111

والسائل ملكان لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم قال: يأتيه ملكان فيقعدانه..". رواه مسلم77. واسمهما: منكر ونكير، كما رواه الترمذي عن أبي هريرة مروفعًا وقال: حسن غريب، قال الألباني: وسنده حسن وهو على شرط مسلم78، والسؤال عام للمكلفين من المؤمنين والكافرين ومن هذه الأمة وغيرهم على القول الصحيح وفي غير المكلفين خلاف. وظاهر كلام ابن القيم في كتاب الروح ترجيح السؤال. ويستثنى من ذلك الشهيد لحديث رواه النسائي79، ومن مات مرابطًا في سبيل الله لحديث رواه مسلم80.

عذاب القبر أو نعيمه:

عذاب القبر أو نعيمه حق ثابت بظاهر القرآن وصريح السنة وإجماع أهل السنة قال الله تعالى في سورة الواقعة:

{فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة: 83، 84] .

77 البخاري: كتاب الجنائز: باب الميت يسمع خفق النعال "1338".

ومسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها: باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه "2870""70" من حديث أنس رضي الله عنه.

78 حديث حسن: الترمذي "1071" وابن حبان "780 - موارد" وابن أبي عاصم في السنة "864" وقال الترمذي: حسن غريب وحسنه الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة "864" وقال في الصحيحة "1391": إسناده جيد رجاله كلهم ثقات رجال مسلم.

79 حديث صحيح: أخرجه النسائي "279/1" عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال: يا رسول الله: ما بال المؤمنين يُفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: "كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة".

وقال الألباني في أحكام الجنائز ص "36": وسنده صحيح. أ. هـ.

80 مسلم: كتاب الإمارة: باب فضل الرباط في سبيل الله عز وجل: "1913""163" من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه.

ص: 112

إلى قوله:

{فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ، فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة: 88، 89]

السورة.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من عذاب القبر وأمر أمته بذلك81. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البراء بن عازب المشهور في قصة فتنة القبر قال في المؤمن: "فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة فيأتيه من ريحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره" وقال في الكافر: "فينادي منادٍ من السماء أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له بابا من النار فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه". الحديث رواه أحمد وأبوداود82. وقد اتفق السلف وأهل السنة على إثبات عذاب القبر ونعيمه ذكره ابن القيم في كتاب الروح، وأنكر الملاحدة عذاب القبر متعللين بأننا لو نبشنا القبر لوجدناه كما هو ونرد عليهم بأمرين:

1-

دلالة الكتاب والسنة وإجماع السلف على ذلك.

2-

أن أحوال الآخرة لا تقاس بأحوال الدنيا فليس العذاب أو النعيم في القبر كالمحسوس في الدنيا.

81 مسلم: كتاب المساجد: باب ما يستعاذ منه في الصلاة "590""134" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذ بك من عذاب القبر

"الحديث.

وفي الباب عن عائشة: عند البخاري "1049" ومسلم "903""8".

وعن أبي هريرة: عند مسلم "588""130".

وزيد بن ثابت: عند مسلم "2867""67".

82 حديث صحيح: أخرجه أحمد في المسند "287/4، 288، 295، 296" وأبو داود "4753". وقد ساقه الألباني -حفظه الله- سياقًا واحدًا ضامًّا إليه جميع الزوائد والفوائد التي وردت في شيء من طرقة الثابتة فليراجع.

قال الحافظ في الفتح "282/3": وهو أتمُّ الأحاديث سياقًا. أ. هـ.

ص: 113

هل عذاب القبر أو نعيمه على الروح أو على البدن؟

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: مذهب سلف الأمة وأئمتها أن العذاب أو النعيم يحصل لروح الميت وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وأنها تتصل بالبدن أحيانًا فيحصل له معها النعيم أو العذاب83.

النفخ في الصور:

النفخ معروف. والصور لغة: القرن. وشرعًا: قرن عظيم التقمه إسرافيل ينتظر متى يؤمر بنفخه، وإسرافيل أحد الملائكة الكرام الذين يحملون العرش وهما نفختان إحداهما: نفخة الفزع ينفخ فيه فيفزع الناس ويصعقون إلا من شاء الله، والثانية نفخة البعث ينفخ فيه فيبعثون ويقومون من قبورهم.

وقد دل على النفخ في الصور الكتاب والسنة وإجماع الأمة.

قال الله تعالى:

{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَاّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68] .

{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس: 51] .

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثم ينفع في الصور فلا يسمعه أحدٌ إلا أصغى ليتا ورفع ليتا ثم لا يبقى أحد إلا صعق، ثم ينزل الله مطرًا كأنه الطل أو الظل -شك الراوي- فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون". رواه مسلم في حديث طويل.

وقد اتفقت الأمة على ثبوته.

83 مجموع فتاوى ابن تيمية "282/4".

ص: 114

[60]

ويحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غرلاً بُهْما، فيقفون في موقف القيامة، حتى يشفع، فيهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ويحاسبهم الله تبارك وتعالى، وتنصب الموازين، وتنشر الدواوين، وتتطاير صحف الأعمال إلى الأيمان والشمائل:

{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ، وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورا ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ، فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورا ، وَيَصْلَى سَعِيرا} [الانشقاق: 7-12] .

.... الشرح....

البعث والحشر:

البعث لغة: الإرسال والنشر، وشرعًا: إحياء الأموات يوم القيامة.

والحشر لغة: الجمع وشرعًا جمع الخلائق يوم القيامة لحسابهم والقضاء بينهم.

والبعث والحشر حق ثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، قال الله تعالى:

{قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُن} [التغابن: 7] .

وقال تعالى:

{قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ ، لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة: 49، 50] .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد". متفق عليه84.

84 البخاري: كتاب الرقاق: باب يقبض الله الأرض يوم القيامة "6521".

ومسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار: باب في البعث والنشور.. "2790""28" من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.

*بيضاء عفراء: أي غير شديدة البياض، يضرب إلى الحمرة.

والقرصة: الرغيف. والنَّقي: الدقيق المنخول المنظف.

ليس فيها علم لأحد: ليس بها علامة سكنى ولا بناء ولا أثر.

ص: 115

وأجمع المسلمون على ثبوت الحشر يوم القيامة.

ويحشر الناس حفاة لا نعال عليهم، عراة لا كسوة عليهم، غرلا لا ختان فيهم، لقوله تعالى:

{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُه} [الأنبياء: 104] .

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكم تحشرون حفاة عراة غرلا ثم قرأ:

{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104] .

وأول من يكسى إبراهيم" متفق عليه85. وفي حديث عبد الله بن أنيس المرفوع الذي رواه أحمد: "يحشر الناس يوم القيامة عراة غرلا بهما، قلنا: وما بهما؟ قال: ليس معهم شيء" الحديث86.

85 البخاري: كتاب الأنبياء: باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} [النساء: 125]"3349".

ومسلم: كتاب الجنة: باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة "2860""58".

86 حديث حسن: تقدم تخريجه ص "74".

ص: 116

الحساب:

الحساب لغة: العدد، وشرعًا إطلاع الله عباده على أعمالهم.

وهو ثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين.

قال الله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 25، 26] .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم في بعض صلاته: "اللهم حاسبني حسابًا يسيرًا" فقالت عائشة رضي الله عنها: ما الحساب اليسير؟ قال: "أن ينظر في كتابه فيتجاوز عنه" رواه أحمد، وقال الألباني إسناده جيد87.

وأجمع المسلمون على ثبوت الحساب يوم القيامة.

وصفة الحساب للمؤمن "أن الله يخلو به فيقرره بذنوبه حتى إذا رأى أنه قد هلك، قال الله له: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته. وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق، هؤلاء الذي كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين" متفق عليه من حديث ابن عمر88.

87 حديث صحيح: أخرجه أحمد "48/6" وابن أبي عاصم في كتاب السنة "885" واللفظ لأحمد.

وقال الألباني في تخريج السنة "429/2": إسناده صحيح. أ. هـ.

وأصل الحديث في الصحيحين عند البخاري "103"، "6536"، "6537" ومسلم "2876" "79" عنها بلفظ:"ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، قلت: أو ليس يقول الله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابا يَسِيرا} [الانشقاق: 8] فقال: إنما ذلك العرض ولكن من نوقش الحساب يهلك".

88 البخاري: كتاب المظالم: باب قول الله تعالى: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِين} [هود: 18]"2441".

ومسلم: كتاب التوبة: باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله "2768""52". من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

ص: 117

والحساب عام لجميع الناس إلا من استثناهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم سبعون ألفًا من هذه الأمة منهم عكاشة بن محصن يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، متفق عليه89. وروى أحمد من حديث ثوبان مرفوعًا:"أن مع كل واحدٍ سبعين ألفًا" قال ابن كثير: حديث صحيح وذكر له شواهد90.

89 البخاري: كتاب الرقاق: باب يدخل الجنة سبعون ألفًا بغير حساب "6541". ومسلم: كتاب الإيمان: باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب "220""374". من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

وفي الباب: عن أبي هريرة رضي الله عنه: عند البخاري "5811""6542" ومسلم "216""367" وعن عمران بن حصين رضي الله عنه: عند مسلم "218""371".

90 حسن: حديث ثوبان عند الطبراني في الكبير "1413" وأحمد "280/5، 281" من طريق محمد بن إسماعيل الحمصي، حدثني أبي عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن ربي عز وجل وعدني من أمتي سبعين ألفًا لا يحاسبون مع كل ألف سبعين ألفًا" وسكت عنه الهيثمي في المجمع "407/10" ولم يتكلم عليه بشيء، مع أن فيه محمد بن إسماعيل بن عياش الحمصي.

قال أبو داود لم يكن بذاك وقال أبو حاتم لم يسمع من أبيه شيئًا، راجع التهذيب "51/9، 52" والمغني في الضعفاء للذهبي "555/2". وللحديث شواهد كثيرة ذكرها ابن كثير في النهاية "322- 330" منها حديث أنس عند البزار فيه أبو عاصم العباداني لين الحديث كما في التقريب، ومنها: حديث أبي أمامة عند أحمد "268/5" والترمذي "3437" وابن ماجه "4286" وصححه ابن حبان "2642 - موارد".

ومنها: حديث أبي سعيد الخدري عند ابن أبي عاصم في السنة "814" وضعف إسناده الألباني في تخريج السنة "385/2". وغير ذلك من الشواهد وراجع النهاية لابن كثير. وبالجملة فالحديث حسن على أقل أحواله بهذه الشواهد.

ص: 118

وأول من يحاسب هذه الأمة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"نحن الآخرون السابقون يوم القيامة المقضي بينهم قبل الخلائق" متفق عليه91، وروى ابن ماجه عن ابن عباس مرفوعًا:"نحن آخر الأمم وأول من يحاسب" الحديث92.

وأول ما يحاسب عليه العبد من حقوق الله الصلاة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله" رواه الطبراني في الأوسط وسنده لا بأس به إن شاء الله، قاله المنذري في الترغيب والترهيب93 "ص: 246، ج: 1" وأول ما يقضى بين الناس في الدماء لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء" متفق عليه94.

[61]

والميزان له كفتان ولسان توزن به الأعمال:

{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 102، 103] .

91 الحديث بهذا اللفظ: عند مسلم كتاب الجمعة: باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة "856""22" من حديث أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما ولفظه عند البخاري "876" ومسلم "855""21": "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا" من حديث أبي هريرة.

92 أخرجه ابن ماجه "4290" وأحمد "282/1، 274/2، 342" والبيهقي في دلائل النبوة "482/5" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال البوصيري في الزوائد "317/3": هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وصححه الشيخ الألباني.

93 حديث صحيح: أخرجه الترمذي "413" والنسائي "232/1" وابن ماجه "1426" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب "185/1".

94 البخاري: كتاب الديات: باب قوله تعالى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93]"6864". ومسلم: كتاب القسامة: باب المجازاة بالدماء في الآخرة "1678""28"، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

ص: 119

الشرح....

الموازين:

الموازين جمع ميزان، وهو لغة: ما تقدر به الأشياء خفة وثقلا، وشرعًا: ما يضعه الله يوم القيامة لوزن أعمال العباد، وقد دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف، قال الله تعالى:

{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 102، 103] .

{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" متفق عليه95، وأجمع السلف على ثبوت ذلك.

وهو ميزان حقيقي له كفتان لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم في صاحب البطاقة قال: "فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة" الحديث رواه الترمذي وابن ماجه قال الألباني: إسناده صحيح96.

95 البخاري: كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]"7563".

ومسلم: كتاب الذكر والدعاء: باب فضل التهليل "2694""31"، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو خاتمة صحيح البخاري.

96 حديث صحيح: أخرجه أحمد "213/2" والترمذي "2639" وابن ماجه "4300" وإسناده صحيح، وقد صححه ابن حبان "2524" والحاكم "6/1، 529" ووافقه

ص: 120

واختلف العلماء هل هو ميزان واحد أو متعدد؟

فقال بعضهم: متعدد بحسب الأمم أو الأفراد أو الأعمال؛ لأنه لم يرد في القرآن إلا مجموعًا، وأما إفراده في الحديث فباعتبار الجنس.

وقال بعضهم: هو ميزان واحد؛ لأنه ورد الحديث مفردًا، وأما جمعه في القرآن فباعتبار الموزون، وكلا الأمرين محتمل والله أعلم.

والذي يوزن العمل؛ لظاهر الآية السابقة والحديث بعدها وقيل: صحائف العمل، لحديث صاحب البطاقة، وقيل: العامل نفسه لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة" وقال اقرءوا:

{فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنا} [الكهف: 105] متفق عليه97.

وجمع بعض العلماء بين هذه النصوص بأن الجميع يوزن أو أن الوزن حقيقة للصحائف، وحيث إنها تثقل وتخف بحسب الأعمال المكتوبة صار الوزن كأنه للأعمال، وأما وزن صاحب العمل فالمراد به قدره وحرمته، وهذا جمع حسن والله أعلم.

نشر الدواوين:

النشر لغة: فتح الكتاب أو بث الشيء، وشرعًا: إظهار صحائف الأعمال يوم القيامة وتوزيعها.

= الذهبي، وحسنه الترمذي، وصححه الألباني في الصحيحة "135"، وقال: والأحاديث في ذلك متضافرة إن لم تكن متواترة. أ. هـ.

97 البخاري: كتاب التفسير من سورة الكهف: باب {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} [الكهف: 105]"4729".

ومسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار "2785""18".

ص: 121

والدواوين جمع ديوان، وهو لغة:الكتاب يحصى فيه الجند ونحوهم، وشرعًا: الصحائف التي أحصيت فيها الأعمال التي كتبها الملائكة على العامل، فنشر الدواوين إظهار صحائف الأعمال يوم القيامة فتتطاير إلى الأيمان والشمائل، وهو ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.

قال الله تعالى:

{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ، وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ، فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ، وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق: 7-12] .

{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 25] .

وعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل تذكرون أهليكم؟ قال: "أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحدًا: عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل؟ وعندتطاير الصحف حتى يعلم أين يقع كتابه في يمينه أم في شماله أم وراء ظهره؟ وعند الصراط إذا وضع بين ظهراني جهنم حتى يجوز" رواه أبو داود والحاكم وقال: صحيح على شرطهما98.

وأجمع المسلمون على ثبوت ذلك.

98 أخرجه أبو داود "4755" والحاكم في المستدرك "578/4" والآجري في الشريعة "385" من طرق عن الحسن عن عائشة، وذكره الشيخ الألباني في ضعيف أبي داود.

وقال الحاكم: صحيح إسناده على شرط الشيخين لولا إرسال فيه بين الحسن وعائشة وأقره الذهبي.

وللحديث طريق آخر رواه أحمد "110/6" من طريق ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن القاسم بن محمد عن عائشة.

وقال الهيثمي في المجمع "359/10": عند أبي داود طرف منه رواه أحمد، وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف وقد وثق، وبقية رجاله رجال الصحيح.

ص: 122

صفة أخذ الكتاب:

المؤمن يأخذ كتابه بيمينه فيفرح ويستبشر ويقول:

{هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] .

والكافر يأخذه بشماله أو من وراء ظهره فيدعو بالويل والثبور ويقول:

{يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 25، 26] .

[62]

ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم حوض في القيامة، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وأباريقه عدد نجوم السماء، ومن شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا.

..... الشرح....

الحوض:

الحوض لغة: الجمع يقال حاض الماء يحوضه إذا جمعه، ويطلق على مجتمع الماء.

وشرعًا: حوض الماء النازل من الكوثر في عرصات القيامة للنبي صلى الله عليه وسلم.

ودل عليه السنة المتواترة وأجمع عليه أهل السنة.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني فرطكم على الحوض" متفق عليه99.

99 البخاري: كتاب الرقاق: باب في الحوض "6583"، "6584".

ومسلم: كتاب الفضائل: باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم "2290""26"، "2291""26" من حديث سهل بن سعد وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما.

ص: 123

وأجمع السلف أهل السنة على ثبوته، وقد أنكر المعتزلة ثبوت الحوض ونرد عليهم بأمرين:

1-

الأحاديث المتواترة عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

2-

إجماع أهل السنة على ذلك.

صفة الحوض:

طوله شهر وعرضه شهر وزواياه سواء وآنيته كنجوم السماء، وماؤه أبيض من اللبن وأحلى من العسل وأطيب من ريح المسك، فيه ميزابان يمدانه من الجنة أحدهما من ذهب والثاني من فضة، يرده المؤمنون من أمة محمد، ومن يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدًا، وكل هذا ثابت في الصحيحين أو أحدهما100. وهو موجود الآن لقوله

= *قال ابن أبي العز في شرح الطحاوية "277/1": والأحاديث الواردة في ذكر الحوض تبلغ حد التواتر، رواها من الصحابة بضع وثلاثون صحابيًّا رضي الله عنهم ولقد استقصى طرقها شيخنا عماد الدين ابن كثير تغمده الله برحمته في آخر تاريخه الكبير المسمى بالبداية والنهاية. أ. هـ، وكذا انظر فتح الباري "468/11، 469".

وقوله: "إني فرطكم على الحوض"، أي: متقدمكم إليه، النهاية لابن الأثير "434/3".

100 البخاري: كتاب الرقاق: باب في الحوض "6579".

ومسلم: كتاب الفضائل: باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته "2292""27".

من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

والبخاري: كتاب الرقاق: باب في الحوض "6580".

ومسلم: كتاب الفضائل: باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته "2303""43" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

ومسلم: في المصدر نفسه "2301""37"، من حديث ثوبان رضي الله عنه.

ص: 124

صلى الله عليه وسلم: "وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن" رواه البخاري101، واستمداده من الكوثر لقوله صلى الله عليه وسلم:"وأعطاني الكوثر وهو نهر في الجنة يسيل في حوض". رواه أحمد، قال ابن كثير: وهو حسن الإسناد والمتن102.

ولكل نبي حوض ولكن حوض النبي صلى الله عليه وسلم أكبرها وأعظمها وأكثرها واردة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي حوضًا وإنهم ليتباهون أيهم أكثر واردة وإني لأرجو أن أكون أكثرهم واردة". رواه الترمذي وقال: غريب، وروى ذلك ابن أبي الدنيا وابن ماجه من حديث أبي سعيد وفيه ضعف لكن صححه بعضهم من أجل تعدد الطرق103.

[63]

والصراط حق يَجُوزه الأبرار، وَيَزِلّ عنه الفجار.

101 البخاري: كتاب الرقاق: باب في الحوض "6590"،

من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.

102 نهاية البداية والنهاية "244/2" وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف.

103 حديث صحيح: الترمذي "2443" من طريق الحسن عن سمرة، وقال الترمذي: هذا حديث غريب.

قال الحافظ في الفتح "467/11": وأشار -أي: الترمذي- إلى أنه اختلف في وصله وإرساله، وأن المرسل أصح، قلت: والمرسل أخرجه ابن أبي الدنيا بسند صحيح عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي حوضًا وهو قائم على حوضه بيده عصا يدعو من عرف من أمته، إلا أنهم يباهون أيهم أكثر تبعًا، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تبعًا"، وأخرجه الطبراني من وجه آخر عن سمرة موصولا ومرفوعًا مثله وفي سنده لين، وأخرج ابن أبي الدنيا أيضًا حديث أبي سعيد رفعه:"وكل نبي يدعو أمته، ولكل نبي حوض، فمنهم من يأتيه الفئام ومنهم من يأتيه العصبة ومنهم من يأتيه الواحد ومنهم من يأتيه الاثنان ومنهم من لا يأيته أحد، وإني لأكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة" وفي إسناده لين. وإن ثبت فالمختص بنبينا صلى الله عليه وسلم الكوثر الذي يصب من مائه في حوضه فإنه لم ينقل نظيره لغيره. أ. هـ.

وصححه الألباني في الصحيحة "1589".

ص: 125

الشرح....

الصراط:

الصراط لغة: الطريق، وشرعًا: الجسر الممدود على جهنم ليعبر الناس عليه إلى الجنة، وهو ثابت بالكتاب والسنة وقول السلف.

قال الله تعالى:

{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَاّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] .

فّسَّرها عبد الله بن مسعود وقتادة وزيد بن أسلم بالمرور على الصراط، وفسرها جماعة منهم ابن عباس بالدخول في النار لكن ينجون منها.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون: اللهم سلم سلم"، متفق عليه104. واتفق أهل السنة على إثباته.

صفة الصراط:

سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصراط فقال: "مدحضة مزلة عليها خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفاء تكون بنجد يقال لها السعدان" رواه البخاري105، وله من حديث أبي هريرة: "وبه كلاليب مثل شوك السعدان غير

104 جزء من حديث أبي سعيد الخدري الطويل الذي أخرجه: البخاري: كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22]"7439".

ومسلم: كتاب الإيمان: باب معرفة طريق الرؤية "183""302".

* الجسر: بفتح الجيم وكسرها لغتان مشهورتان وهو الصراط. شرح النووي لمسلم "29/3".

105 جزء من حديث أبي سعيد الخدري المتقدم عند البخاري ومسلم.

ص: 126

أنها لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله، يخطف الناس بأعمالهم" 106، وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: "بلغني أنه أدق من الشعر وأحد من السيف" 107، وروى الإمام أحمد نحوه عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا.

العبور على الصراط وكيفيته:

لا يعبر الصراط إلا المؤمنون على قدر أعمالهم لحديث أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: "فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناجٍ مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في جهنم". متفق عليه108، وفي صحيح مسلم:"تجرى بهم أعمالهم ونبيكم قائم على الصراط يقول: يا رب سلم سلم، حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفًا" 109، وفي صحيح البخاري:"حتى يمر آخرهم يسحب سحبا"110.

106 البخاري: كتاب الرقاق: باب الصراط جسر جهنم "6573".

ومسلم: كتاب الإيمان: باب معرفة طريق الرؤية "182""299". من حديث أبي هريرة مطولا.

107 ذكره الإمام مسلم في صحيحه عقب روايته لحديث أبي سعيد الخدري "183""302" المتقدم، قال: قال أبو سعيد: بلغني أن الصراط أحدُّ من السيف وأدَقٌ من الشَّعرة، وراجع تعليق الحافظ ابن حجر في الفتح "454/11" على هذا البلاغ في بحث جيد.

108 تقدم تخريجه ص "126".

109 مسلم: كتاب الإيمان باب أدنى أهل الجنة منزلة "195""329"، من حديث حذيفة وأبي هريرة رضي الله عنهما.

110 البخاري: كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]"7439" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 127

وأول من يعبر الصراط من الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم ومن الأمم أمته لقوله النبي صلى الله عليه وسلم: "فأكون أنا وأمتي أول من يجيزها ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعاء الرسل يومئذ اللهم سلم سلم" رواه البخاري111.

[64]

ويشفع نبينا صلى الله عليه وسلم فيمن دخل النار من أمته من أهل الكبائر فيخرجون بشفاعته بعدما احترقوا وصاروا فحمًا وحممًا فيدخلون الجنة بشفاعته.

[65]

ولسائر الأنبياء والمؤمنين والملائكة شفاعات، قال تعالى:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28] .

[66]

ولا تنفع الكافر شفاعة الشافعين.

.... الشرح....

الشفاعة:

الشفاعة لغة: جعل الوتر شفعًا، واصطلاحًا: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة والشفاعة يوم القيامة نوعان خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وعامة له ولغيره.

فالخاصة به صلى الله عليه وسلم شفاعته العظمى في أهل الموقف عند الله ليقضي بينهم حين يلحقهم من الكرب والغم ما لا يطيقون فيذهبون إلى آدم فنوح فإبراهيم فموسى فعيسى وكلهم يعتذرون فيأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيشفع فيهم إلى الله فيأتي سبحانه وتعالى للقضاء بين عباده.

111 البخاري كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]"7437" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 128

وقد ذكرت هذه الصفة في حديث الصُّور المشهور لكن سنده ضعيف متكلم فيه112، وحذفت من الأحاديث الصحيحة فاقتصر منها على ذكر الشفاعة في أهل الكبائر.

قال ابن كثير وشارح الطحاوية: وكان مقصود السلف من الاقتصار على الشفاعة في أهل الكبائر هو الرد على الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة.

وهذه الشفاعة لا ينكرها المعتزلة والخوارج ويشترط فيها إذن الله لقوله تعالى:

{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِه} [البقرة: 255] .

النوع الثاني: العامة، وهي الشفاعة فيمن دخل النار من المؤمنين أهل الكبائر أن يخرجوا منها بعدما احترقوا وصاروا فحمًا وحميمًا. لحديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أو كما قال تصيبهم النار بذنوبهم أو قال بخطاياهم فيميتهم إماتة حتى إذا صاروا فحمًا أذن في الشفاعة" الحديث رواه أحمد113.

قال ابن كثير في النهاية ص: 204، ج: 2، وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه من هذا الوجه.

وهذه الشفاعة تكون للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والملائكة والمؤمنين لحديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: "فيقول الله تعالى: شفعت الملائكة وشفع النبيون

112 حديث ضعيف: وهو حديث طويل جدًا في إسناده إسماعيل بن رافع وهو ضعيف، ومحمد بن يزيد أو زياد: هو مجهول، وقد أورده الحافظ ابن كثير في تفسيره "146/2- 148" عن الطبراني، وقال: هذا حديث مشهور وهو غريب جدًا، ولبعضه شواهد في الأحاديث المتفرقة، وفي بعض ألفاظه نكارة، تفرد به إسماعيل بن رافع قاص أهل المدينة، وقد اختلف فيه، فمنهم من وثقه، ومنهم من ضعفه، ونصَّ على نكارة حديثه غير واحد من الأئمة، وراجع النهاية لابن كثير "253/1".

113 أحمد في مسنده "94/3".

ص: 129

وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قومًالم يعملوا خيرًا قط قد عادوا حممًا" متفق عليه114.

وهذه الشفاعة ينكرها المعتزلة والخوارج بناء على مذهبهم أن فاعل الكبيرة مخلد في النار فلا تنفعه الشفاعة ونرد عليهم بما يأتي:

1-

أن ذلك مخالف للمتواتر من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

2-

أنه مخالف لإجماع السلف.

ويشترط لهذه الشفاعة شرطان:

الأول: إذن الله في الشفاعة لقوله تعالى:

{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِه} [البقرة: 255] .

الثاني: رضا الله عن الشافع والمشفوع له لقوله تعالى:

{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنْ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]

فأما الكافر فلا شفاعة له لقوله تعالى:

{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] .

أي: لو فرض أن أحدًا شفع لهم لم تنفعهم الشفاعة.

وأما شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب حتى كان في ضحضاح من نار وعليه نعلان يغلي منهما دماغه، وإنه لأهون أهل النار عذابا، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" رواه مسلم116. فهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وبعمه

114 حديث أبي سعيد الخدري تقدم تخريجه ص "126".

115 مسلم: كتاب الإيمان: باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه "209""357" من حديث العباس بن عبد المطلب أنه قال: يا رسول الله، هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال:"نعم هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار".

ص: 130

أبي طالب فقط، وذلك -والله أعلم- لما قام به من نصرة النبي صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه، وعما جاء به.

[67]

والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان، فالجنة مأوى أوليائه، والنار عقاب لأعدائه، وأهل الجنة فيها مخلدون:

{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ، لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف: 74، 75] .

.... الشرح....

الجنة والنار:

الجنة لغة: البستان الكثير الأشجار، وشرعًا: الدار التي أعدها الله في الآخرة للمتقين.

والنار لغة: معروفة، وشرعًا: الدار التي أعدها الله في الآخرة للكافرين.

وهما مخلوقتان الآن لقوله تعالى في الجنة:

{أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين} [آل عمران: 133] .

وفي النار:

{أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين} [البقرة: 24] .

والإعداد: التهيئة ولقوله صلى الله عليه وسلم حين صلى صلاة الكسوف: "إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودًا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أر كاليوم منظرًا قط أفظع منها". متفق عليه116.

116 البخاري: كتاب الكسوف: باب صلاة الكسوف جماعة "1052".

مسلم: كتاب الكسوف: باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار "907""17" من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.

ص: 131

وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث البراء بن عازب المشهور في قصة فتنة القبر: "فيقول الله -عزوجل- اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض"117.

والنار في أسفل سافلين لقوله تعالى:

{كَلَاّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين: 7] .

وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث البراء بن عازب السابق: "فيقول الله تعالى اكتبوا كتاب عبدي في سجين في الأرض السفلى"118.

أهل الجنة وأهل النار:

أهل الجنة كل مؤمن تقي؛ لأنهم أولياء الله، قال الله تعالى في الجنة:

{أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين} [آل عمران: 133] .

{أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد: 21] .

وأهل النار كل كافر شقي، قال الله تعالى في النار:

{أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24] .

{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّار} [هود: 106] .

[68]

ويؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت.

117، 118 تقدم تخريجه من حديث البراء بن عازب المشهور في أحوال الموتى وفتنة القبر.

ص: 133

الشرح....

ذبح الموت:

الموت زوال الحياة، وكل نفس ذائقة الموت، وهو أمر معنوي غير محسوس بالرؤية، ولكن الله تعالى يجعله شيئًا مرئيا مجسما، وَيُذْبَح بين الجنة والنار لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناديًا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت وكلهم قد رآه ثم ينادي يا أهل النار فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيذبح ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت" ثم قرأ: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39] .

أخرجه البخاري في تفسير هذه الآية119، وروى نحوه في صفة الجنة والنار من حديث ابن عمر مرفوعًا120.

119 البخاري: كتاب التفسير من سورة مريم: باب {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم: 39]"4730".

120 البخاري: كتاب الرقاق: باب صفة الجنة والنار "6548".

ص: 134