الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكونا، فإن الأدلة العقلية تكثره باختلافها فيه، وكلها حق، ومدلولها صدق، والتجلي في الصور كثرة أيضا لاختلافها، والعين واحدة، فإذا كان الأمر هكذا فما تصنع؟ أو كيف يصح لي أن أخطيء قائلا؟.. الخ"1.
وبعد: فالذي أدين الله عليه أن مثل هذا التفسير الذي أخضعه ابن عربي وغيره إلى نظرية وحدة الوجود أو إلى المفاهيم الفلسفية الغامضة، مرفوض بالكلية، لأنه خروج بالنص العربي عن مدلوله، ولا يعرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من صحابته أو تابعيهم: أنه نحى مثل هذا المنحى العجيب في التفسير، وكتاب الله أعلى وأجل من أن تلصق به هذه الأفهام الضالة المضلة. "ومن يضلل الله فما له من هادى".
1 المرجع السابق ج4 ص 16-17.
التفسير الصوفي الفيضي أو الإشاري:
وأما التفسير الصوفي الفيضي أو الإشاري: فهو تأويل آيات القرآن الكريم على خلاف ما يظهر منها، بمقتضى إشارات خفية تظهر لأرباب السلوك، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة من الآيات.
الفرق بين التفسير النظري والتفسير الإشاري:
على ضوء ما تقدم نستطيع القول بأن الفرق بين التفسير النظري والتفسير الإشاري من وجهين:
أولا: أن التفسير الصوفي النظري، ينبني على مقدمات علمية تنقدح في ذهن الصوفي أولا، ثم ينزل القرآن عليها بعد ذلك.
أما التفسير الإشاري، فلا يرتكز على مقدمات علمية، بل يرتكز على رياضة روحية يأخذ بها الصوفي نفسه حتى يصل إلى درجة تنكشف له فيها من سخف العبارات هذه الإشارات القدسية، وتنهل على قلبه من سحب الغيب ما تحمله الآيات من المعارف السبحانية.
ثانيا: أن التفسير الصوفي النظري، يرى صاحبه أنه كل ما تحمله الآية من المعاني، وليس وراءه معنى آخر يمكن أن تحمل الآية عليه.. هذا بحسب طاقته طبعا.
أما التفسير الإشاري، فلا يرى الصوفي أنه كل ما يراد من الآية بل يرى أن هناك معنى آخر تحتمله الآية ويراد منها أولا وقبل كل شيء: ذلك هو المعنى الظاهر الذي ينساق إليه الذهن قبل غيره.
شرعية التفسير الإشاري:
ولسنا ننكر أن للتفسير الإشاري سندا شرعيا، ولا ندعى أنه حدث في الدين ابتدعه المتصوفة في تفسير القرآن الكريم فقد أشار إليه القرآن الكريم بقوله:{.. فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} النساء82، وقوله:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} محمد 24 وبيان ذلك- كما يقرره الشاطبي في الموافقات- 2 ص 382،383-: "أن القرآن له ظهر وبطن، فحيث ينعى القرآن على الكفار أنهم لا يكادون يفقهون حديثا يحضهم على التدبر في آياته، لا يريد بذلك أنهم لا يفهمون نفس الكلام أو حضهم على فهم ظاهره، لأن القوم عرب والقرآن لم يخرج عن لغتهم فهم يفهمون ظاهره ولاشك، وإنما أراد بذلك: أنهم لا يفهمون عن الله مراده من الخطاب، وحضهم على أن يتدبروا في آياته حتى يقفوا على مقصود الله ومراده، وذلك هو الباطن الذي جهلوه ولم يصلوا إليه بعقولهم.
ويقرر الإمام السيوطي وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبه على التفسير الإشاري بقوله في الحديث الذي رواه الغربابي عن الحسن مرسلا "لكل آية ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع " وقد فسر الحديث بتفسيرات عدة، ولم أقف له على أصل صحيح يعتد به فلعل المعنى القريب للحديث ما حكاه ابن النقيب: من أن ظهرها: ما ظهر من معانيه لأهل العلم بالظاهر وبطنها: ما تضمنته من الأسرار التي يطلع الله عليها أرباب الحقائق.
وأقول: أن بعض الصحابة كانت لهم في القرآن أفهام فوق ظاهر النص، هي في الواقع إشارات قد لا يفهما الكثير منهم، فمن ذلك مثلا:
ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: أنه من حيث علمتم، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم، قال: ماتقولون في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا، فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له: قال إذا جاء نصر الله والفتح، فذلك علامة أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا، فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول"1.
فبعض الصحابة لم يفهم من السورة أكثر من معناها الظاهر، أما
1 البخاري: باب التفسير ج 6 ص 179.
ابن عباس وعمر- رضي الله عنهم فقد فهما معنى آخر وراء الظاهر هو المعنى الباطن الذي تدل عليه السورة بطريق الإشارة.
وأيضا ما ورد من أنه لما نزل قوله تعالى في الآية (12) من سورة المائدة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} ، فرح الصحابة وبكى عمر رضي الله تعالى عنه وقال: ما بعد الكمال إلا النقص مستشعرا نعيه عليه الصلاة والسلام، فقد أخرج ابن أبى شيبة: أن عمر رضي الله عنه لما نزلت الآية بكى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما يبكيك؟ " قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا كمل، فانه لم يكمل شيء قط إلا نقص، فقال عليه الصلاة والسلام:"صدقت"1.
فعمر- رضي الله عنه أدرك المعنى الإشاري، وهو نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقره النبي على فهمه هذا. وأما باقي الصحابة فقد فرحوا بنزول الآية، لأنهم أيفهموا أكثر من المعنى الظاهر لها.
هذه الأدلة مجتمعة تعطينا أن القرآن الكريم له ظهر وبطن.. ظهر يفهمه كل من يعرف اللسان العربي، وبطن يفهمه أصحاب المواهب وأرباب البصائر، غير أن المعاني الباطنية للقرآن لا تقف عند الحد الذي تصل إليه مداركنا القاصرة، بل هي أمر فوق ما نظن وأعظم مما نتصور، ولقد فهم ابن مسعود رضي الله عنه: أن في فهم معاني القرآن مجالا رحبا ومتسعا بالغا فقال: "من أراد علم الأولين والآخرين فليثور2 القرآن" وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} سورة الأنعام "28".
1 تفسير الآلوسي ج6 ص60
2 أي لينقر عنه ويفكر في معانيه وتفسيره وقراءته.
هذا، وينبغي أن يعلم أن المعاني الظاهرة للنص القرآني لا يشترط لمعرفتها أكثر من الجريان على اللسان العربي، وكل معنى مستنبط من القرآن غير جار على اللسان العربي فليس من تفسير القرآن في شيء.. لا مما يستفاد منه ولا مما يستفاد به، ومن ادعى فيه ذلك فهو مبطل في دعواه.
أما المعنى الباطن، فلا يكفي فيه الجريان على اللسان العربي وحده، بل لابد فيه مع ذلك من نور يقذفه الله تعالى في قلب الإنسان يصير به نافذ البصيرة في التفكير، ومن هذا: أن التفسير الإشاري ليس أمرا خارجا عن مدلول اللغة، ولهذا اشترط العلماء لصحة هذا اللون من التفسير شرطين أساسيين:
أولهما: أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب، بحيث يجرى على المقاصد العربية.
ثائيهما: أن يكون له شاهد نصا أو ظاهرا في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض.
أما الشرط الأول: فظاهر من قاعدة كون القرآن عربيا، فإنه لو كان له فهم لا يقتضيه كلام العرب لم يوصف بكونه عربيا، ولأنه مفهوم يلصق بالقرآن وليس في ألفاظه ولا في معانيه ما يدل عليه، وما كان كذلك فلا يصح أن ينسب إلى القرآن أصلا، ومن قال هذا فهو متقول على الله بالهوى والغرض.
وأما الشرط الثاني: فانه إذا لم يكن له شاهد في محل آخر، أو كان له معارض، صار مرر جملة الدعاوى التي تدعى على القرآن، والدعوة المجردة عن الدليل غير مقبولة باتفاق العلماء"1.
1 انظر الموافقات للشاطبي ج 3 ص 394.