المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌موقف ابن عربي من التفسير الإشاري: - تفسير ابن عربي للقرآن حقيقته وخطره

[محمد حسين الذهبي]

الفصل: ‌موقف ابن عربي من التفسير الإشاري:

ثم لابد مع ذلك من اعتقاد أن المعنى الظاهر مراد الله تعالى، ومن ادعى أن الظاهر غير مراد لله عد كافرا. قال ابن الصلاح في فتاواه- وقد سئل عن كلام الصوفية في القرآن-: وجدت عن الإمام أبى الحسن الواحدي المفسر- رحمه الله أنه قال: صنف أبو عبد الرحمن السلمي حقائق التفسير، فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر. قال ابن الصلاح: وأنا أقول: الظن بمن يوثق به منهم أنه إذا قال شيئا من ذلك أنه لم يذكره تفسيرا، ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة من القرآن العظيم، فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية "وإنما ذلك ذكر منهم لنظير ما ورد به القرآن، فإن النظير يذكر بالنظير، ومن ذلك قتال النفس في الآية المذكورة- يريد قوله تعالى في الآية (133) من سورة التوبة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} فكأنه قال: "أمرنا بقتل النفس ومن يلينا من الكفار، ومع ذلك فياليتهم لم يتساهلوا في مثل ذلك لما فيه من الإبهام والإلباس"1.

1 فتاوى ابن الصلاح ص 29.

ص: 18

‌موقف ابن عربي من التفسير الإشاري:

ما ذكرناه من كلام الإمام أبي الحسن الواحدي، وما عقب به عليه العلامة ابن الصلاح في فتاواه، ليس إلا حسن ظن بالقوم ومنهم ابن عربي. وكنت أود أن أقف من هؤلاء ومن ابن عربي بخاصة- وهو الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر كما يقولون- هذا الموقف الذي وقفه ابن الصلاح منهم حملا لحال المسلم على الصلاح. ولكن تبدد أملي في حسن الظن بابن عربي وبمن يحطب في حبله من المتصوفة أثر مقالة قرأتها لابن عربي في فتوحاته وفيها يصرح بأن مقالات الصوفية في كتاب

ص: 18

الله ليست إلا تفسيرا حقيقيا لمعاني القرآن الكريم، وشرحا لمراد الله من ألفاظه وآياته، ويقول بكل صراحة: أن تسميتها إشارة ليس إلا من قبيل التقية والمداراة لعلماء الرسوم أهل الظاهر.. وفي هذه المقالة يحمل حملة شعواء على أهل الرسوم- على حد تعبيره- الذين ينكرون عليه وعلى غيره من الصوفية هذا المسلك في التفسير. وإليك ما قاله بالنص، لتقف على رأيه الصريح الذي لا لبس فيه ولا خفاء.

مقالة ابن عربي في التفسير الإشاري:

قال رحمه الله: "اعلم أن الله عز وجل لما خلق الخلق، خلق الإنسان أطوارا، فمنا العالم والجاهل، ومنا المنصف والمعاند، ومنا القاهر ومنا المقهور، ومنا الحاكم ومنا المحكوم، ومنا المتحكم ومنا المتحكم فيه، ومنا الرئيس ومنا المرءوس، ومنا الأمير ومنا المأمور، ومنا الملك ومنا السوقة، ومنا الحاسد ومنا المحسود، وما خلق الله أشق ولا أشد من علماء الرسوم على أهل الله المختصين بخدمته.. العارفين به من طريق الوهب الإلهي الذي منحهم أسراره في خلقه، وفهمهم معاني كتابه، وإشارات خطابه فهم لهذه الطائفة مثل الفراعنة للرسل عليهم السلام، لما كان الأمر في الوجود الواقع على ما سبق به العلم القديم- كما ذكرنا- عدل أصحابنا إلى الإشارات، فكلامهم- رضي الله عنهم في شرح كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إشارات وإن كان ذلك حقيقة وتفسيرا لمعانيه النافعة، ورد ذلك كله إلى نفوسهم مع تقديرهم إياه في العموم وفيما نزل فيه، كما يعلمه أهل اللسان الذين نزل الكتاب بلسانهم، فعم به- سبحانه- عندهم الوجهين كما قال:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} ، يعني الآيات المنزلة في الآفاق وفي أنفسهم، فكل آية منزلة لها وجهان:

ص: 19

وجه يرونه في نفوسهم، ووجه آخر يرونه فيما خرج عنهم، فيسمون ما يرونه في نفوسهم إشارة ليأنس الفقيه صاحب الرسوم إلى ذلك ولا يقولون في ذلك أنه تفسير وقاية لشرهم وتشنيعهم في ذلك بالكفر عليه، وذلك لجعلهم بمواقع خطاب الحق، واقتدوا في ذلك بسنن الهدى، فإن الله كان قادرا على تنصيص ما تأوله أهل الله في كتابه، ومع ذلك فما فعل، بل أدرج في تلك الكلمات الإلهية التي نزلت بلسان العامة علوم معاني الاختصاص التي فهمها عباده حين فتح لهم فيها بعين الفهم الذي رزقهم.

ولو كان علماء الرسوم ينصفون لاعتبروا في نفوسهم إذا نظروا في الآية بالعين الظاهرة التي يسلمونها فيما بينهم، فيرون أنهم يتفاضلون في ذلك، وبعلو بعضهم على بعض لا الكلام في معنى تلك الآية، وبقر القاصر بفضل غير القاصر فيها وكلهم في مجرى واحد، ومع هذا الفضل المشهود لهم فيما بينهم في ذلك، ينكرون على أهل الله إذا جاءوا بشيء مما يغمض عن إدراكهم، وذلك لأنهم يعتقدون فيهم أنهم ليسوا بعلماء، وأن العلم لا يحصل إلا بالتعلم المعتاد في العرف، وصدقوا، فان أصحابنا ما حصل لهم ذلك العلم إلا بالتعلم، وهو الإعلام الرحماني الرباني، قال تعالى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فإنه القائل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} . {خَلَقَ الْأِنْسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} فهو- سبحانه- علم الإنسان فلا نشك أن أهل الله هم ورثة الرسل عليهم السلام، والله يقول في حق الرسول:{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} وقال في حق عيسى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ} وقال في حق خضر صاحب موسى عليهما السلام: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} فصدق علماء الرسوم

ص: 20

عندنا فيما قالوا: أن العلم لا يكون إلا بالتعلم وأخطأوا في اعتقادهم أن الله لا يعلم من ليس بنبي ولا رسول بقول الله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} وهي العلم، وجاء بمن وهي نكرة، ولكن علماء الرسوم لما آثروا الدنيا على الآخرة، وآثروا جانب الخلق على جانب الحق وتعودوا أخذ العلم من الكتب ومن أفواه الرجال الذين من جنسهم ورأوا- في زعمهم- أنهم من أهل الله بما علموا وامتازوا به على العامة، حجبهم ذلك عن أن يعلموا أن لله عبادا تولى الله تعليمهم في سرائرهم بما أنزله في كتبه وعلى السنة رسله وهو العلم الصحيح عن العالم المعلم الذي لا يشك مؤمن في كمال علمه ولا غير مؤمن، فان الذين قالوا: إن الله لا يعلم الجزئيات ما أرادوا نفي العلم عنه، وإنما قصدوا بذلك أنه تعالى لا يتجدد له علم بشيء بل علمها مندرجة في علمه بالكليات، فأثبتوا له العلم- سبحانه- مع كونهم غير مؤمنين، وقصدوا تنزيهه- سبحانه- في ذلك وإن أخطأوا في التعبير عن ذلك، فتولى الله بعنايتة لبعض عباده تعليمهم بنفسه بإلهامه وإفهامه إياهم {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} في أثر قوله {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} فبين لها الفجور من التقوى إلهاما من الله لها لتتجنب الفجور وتعمل بالتقوى.

وكما كان أصل تنزيل الكتاب من الله على أنبيائه، كان تنزيل الفهم على قلوب بعض المؤمنين به، فالأنبياء عليهم السلام ما قالت على الله ما لم يقل لها، ولا أخرجت ذلك من نفوسها ولا من أفكارها ولا تعلمت فيه، بل جاءت من عند الله، كما قال تعالى:{تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} وقال فيه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} وإذا كان الأصل المتكلم فيه من عند الله لا من فكر الإنسان ورويته-وعلماء الرسوم يعلمون ذلك- فينبغي أن يكون أهل الله العاملون به أحق بشرحه وبيان ما أنزل الله فيه من علماء الرسوم، فيكون شرحه

ص: 21

أيضا- تنزيلا من عند الله على قلوب أهل العلم كما كان الأصل، وكذا قال علي بن أبى طالب رضي الله عنه في هذا الباب:"ما هو إلا فهم يؤتيه الله من يشاء من عباده في هذا القرآن " فجعل ذلك عطاء من الله، يعبر عن ذلك العطاء بالفهم عن الله، فأهل الله أولى به من غيرهم فلما رأى أهل الله أن الله قد جعل الدولة في الحياة الدنيا لأهل الظاهر من علماء الرسوم، وأعطاهم التحكم في الخلق بما يفتون به، وألحقهم بالذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون- وهم في إنكارهم على أهل الله يحسبون أنهم يحسنون صنعا- سلم أهل الله لهم أحوالهم لأنهم علموا من أين تكلموا، وصانوا عنهم أنفسهم بتسميتهم الحقائق إشارات، فإن علماء الرسوم لا ينكرون الإشارات، فإذا كان في غد يوم القيامة يكون الأمر في الشكل كما قال القائل:

سوف ترى إذا انجلى الغبار

أفرس تحتك أم حمار

كما يتميز المحق من أهل الله من المدعى في الأهلية، غدا يوم القيامة. قال بعضهم:

إذا اشتبكت دموع في خدود

تبين من بكى ممن تباكى

أين عالم الرسوم من قول علي بن أبى طالب- رضي الله عنه-حين أخبر عن نفسه: أنه لو تكلم في الفاتحة من القرآن لحمل منها سبعين وقرأ؟ هل هذا إلا من الفهم الذي أعطاه الله في القرآن؟ فاسم الفقيه أولى بهذه الطائفة من صاحب علم الرسم، فإن الله يقول فيهم {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} فأقامهم مقام الرسول في التفقه في الدين والإنذار، وهو الذي يدعو إلى الله على بصيرة كما يدعو رسول الله لصلى الله عليه وسلم على بصيرة لا على غلبة ظن كما يحكم عالم الرسوم، فشتان بين من هو فيما يفتى به وبقوله على بصيرة

ص: 22

منه في دعائه إلى الله وهو على بينة من ربه، وبين من يفتى في دين الله بغلبة ظنه.

ثم إن من شأن عالم الرسوم في الذب عن نفسه أن يجهل من يقول: فهمني ربي، ويرى أنه أفضل منه وأنه صاحب العلم إذ يقول من هو من أهل الله: إن الله ألقى في سرى مراده بهذا الحكم في هذه الآية، أو يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في واقعتي فأعلمني بصحة هذا الخبر المروي عنه وبحكمه عنده. قال أبو يزيد البسطامي- رضي الله عنه في هذا المقام يخاطب علماء الرسوم: "أخذتم علمكم ميتا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت".

يقول أمثالنا: حدثني قلبي عن ربي، وأنتم تقولون حدثني فلان.. وأين هو؟ قالوا: مات. عن فلان، وأين هو؟ قالوا؟ مات. وكان الشيخ أبو مدين- رحمه الله إذا قيل له: قال فلان، عن فلان، عن فلان، يقول: ما في يد نأكل قديدا هاتوا ائتوني بلحم طري- يرفع همم أصحابه- فأولئك أكلوه لحما طريا، والواهب لم يمت، وهو أقرب إليكم من حبل الوريد.

والفيض الإلهي والمبشرات ما سد بابها، وهي من أجزاء النبوة، والطريق واضحة، والباب مفتوح، والعمل مشروع، والله يهرول لتلقى من إليه يسعى، وما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، وهو معهم أينما كانوا، فمن كان معك بهذه المثابة من القرب- مع دعواك العلم بذلك والإيمان به- لم تترك الأخذ عنه والحديث معه، وتأخذ عن غيره ولا تأخذ عنه، فتكون حديث عهد بربك

" انتهى كلام ابن عربي، من الفتوحات المكية ج1 ص279-.28.

ص: 23