الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لأنفسهم ولا يذيعوها على الناس فيوقعوهم في حيرة واختلاف: منهم من يأخذها على ظاهرها ويعتقد أن ذلك هو مراد الله من كلامه، وإذا عارضه ما ينقل من كتب التفسير على خلافه فربما كذبه أو أشكل عليه.. ومنهم من يكذبها ويرى أنها تقول على الله وبهتان!!.. ليتهم فعلوا ذلك، إذا لأراحونا من هذه الحيرة، وأراحوا أنفسهم من كلام الناس فيهم، وقذف البعض لهم بالكفر والإلحاد في آيات الله!!
…
حقيقة التفسير المنسوب لابن عربي:
هذا التفسير الذي ينسب إلى أبي بكر محي الدين محمد بن علي بن أحمد بن عبد الله الحاتمي الطائي الأندلسي المعروف بابن عربي، وبعض الناس يصدق نسبته إليه ويعتقد أنه من عمل ابن عربي نفسه وبعض آخر لا يصدق هذه النسبة ويرى أنه من عمل عبد الرازق القاشاني، وتنما نسب إلى ابن عربي ترويجا له، نظرا لشهرة ابن عربي، وممن يرى هذا الرأي الأخير الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده عليه رحمة الله، فقد نقل عنه تلميذه المرحوم الشيخ محمد رشيد رضا في مقدمة تفسيره أنه قال بعد ما تكلم عن التفسير الإشاري: "وقد اشتبه على الناس فيه كلام الباطنية بكلام الصوفية، ومن ذلك التفسير الذي ينسبونه للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، وإنما هو القاشاني الباطني الشهير، وفيه من النزعات ما يتبرأ عنه دين الله وكتابه العزيز، تفسير المنار ج1 ص 18.
وما قاله الأستاذ الإمام من أن الكتاب من عمل القاشاني لا من عمل ابن عربي صواب أرتضيه وأؤيده بما يلي:
أولا: أن جميع النسخ الخطية لهذا التفسير منسوبة للقاشاني، والاعتماد على النسخ المخطوطة أقوى لأنها الأصل الذي أخذت عنه النسخ المطبوعة.
ثانيا: قال في كشف الظنون: "تأويلات القرآن المعروف بتأويلات القاشاني، وهو تفسير بالتأويل على اصطلاح أهل التصوف إلى سورة "ص" للشيخ كمال الدين أبي الغنائم عبد الرازق جمال الدين الكاشي السمرقندي المتوفى سنة 730هـ أوله: "الحمد لله الذي جعل مناظم كلامه مظاهر حسن صفاته
…
الخ ". وقد رجعت إلى مقدمة التفسير المنسوب لابن عربي في النسخ المطبوعة قديما وفي أجزاء النسخة التي طبعت أخيرا، فوجدت أولها هذه العبارة المذكورة بنصها.
ثالثا: في تفسير سورة القصص من هذا الكتاب عند قوله تعالى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ
…
} الآية يقول: "وقد سمعت شيخنا نور الدين عبد الصمد، قدس روحه العزيز في شهود الوحدة ومقام الفناء عن أبيه أنه.. الخ "1 ونور الدين هذا هون ور الدين عبد الصمد بن على النطنزي الأصفهاني، المتوفى في أواخر القرن السابع الهجري وكان شيخا لعبد الرزاق القاشاني المتوفى سنة 730 هـ كما يستفاد ذلك من كتاب نفحات الأنس في مناقب الأولياء ص 534-5372. وغير معقول أن يكون نور الدين عبد الصمد النطنزي المتوفى في أواخر القرن السابع الهجري شيخا لابن عربي المتوفى سنة 638هـ.
لهذا كله أقرر أن هذا التفسير ليس لابن عربي، وإنما هو لعبد الرزاق القاشاني الباطني، كما يقول الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده عليه رحمة الله، أو الصوفي المتطرف الغامض كما أباه من خلال هذا التفسير!!.
1 تفسير ابن عربي ج2 ص116 ط: الأميرية سنة 1283 هـ أما النسخة المطبوعة أخيرا فلم تصل- في الطبع- إلى هذا الحد.
2 هذا الكتاب باللغة التركية، وقد رجعت إليه- من زمن- بمعرفة المرحوم الشيخ زاهد الكوثري وكيل المشيخة العثمانية بدار الخلافة سابقا.
وابن عربي- في رأيي ورأي الكثير من العلماء: صوفي لا يقل في تطرفه وغموضه عن القاشاني وقد بلغ من أمر تطرفه وغموضه حدا جعل بعض العلماء يرمونه بالكفر والزندقة، وذلك لما كان يدين به من القول بوحدة الوجود ولما كان يصدر عنه من المقالات الموهمة التي تحمل في ظاهرها كل معاني الكفر والزندقة وبين يدي كثير من النصوص الشاهدة على ذلك، نقلتها من مؤلفاته وأهمها "الفتوحات المكية" ومن الناقمين على ابن عربي: الحافظ الذهبي، وابن تيمية، ولقد بلغ من عداوة بعض الناس لابن عربي، أنهم حاولوا اغتياله بمصر.
وبعض الناس يحسن الظن بابن عربي، ومن هؤلاء الإمام السيوطي، ولكنه إذ يزكيه ويعتقد ولايته، يحرم النظر في كتبه وذلك حيث يقول فما كتابه "تنبيه الغبي على تنزيه ابن عربي" ما نصه:"والقول الفصل في ابن عربي اعتقاد ولايته، وتحريم النظر في كتبه، وذلك لأن الصوفية تواضعوا على ألفاظ اصطلحوا عليها، وأرادوا بها معاني غير المعاني المتعارفة فمن حمل ألفاظهم على معانيها المتعارفة بين أهل العلم الظاهر كفر".
وقال الحافظ الذهبي في ابن عربي: "وله توسع في الكلام وذكاء وقوة خاطر، وحافظة وتدقيق في التصوف وتآليفه جمة في العرفان، ولولا شطحه في الكلام لم يكن به بأس".
ومهما يكن من شيء فابن عربي والقاشاني كلاهما معقد في أفكاره، موهم في ألفاظه وتعابيره، مشكل أكثر ما يقول..
وسواء أكان التفسير الذي نحن بصدده لابن عربي أم كان للقاشاني، فإن مؤلفه قد جمع فيه بين التفسير الصوفي النظري وبين التفسير الإشاري أو الباطني، ولم يتعرض فيه للكلام عن التفسير الظاهر بحال من الأحوال، وقد التزم هو في مقدمة تفسيره بالاكتفاء
بالتفسير الباطني دون التعرض للتفسير الظاهر فقال: "فرأيت أن أعلق على بعض ما سنح لي في الأوقات من أسرار حقائق البطون وأنوار شوارق المطلعات، دون ما يتعلق بالظواهر والحدود فإنه قد عين لها حد محدود" اهـ. ج1 ص 4، 5، من المطبوع أخيرا.
وما في الكتاب من التفسير الصوفي النظري، فغالبه يقوم على مذهب وحدة الوجود، ذلك المذهب الذي كان له أثر سيء في تفسير القرآن الكريم.
وأما ما فيه من التفسير الإشاري، فكثير منه لا نفهم له معنى، ولا نجد له من سياق الآية أو لفظها ما يدل عليه، ولو أن مؤلف هذا التفسير كان واضحا في كلامه أو جمع بين التفسير الظاهر والباطن لهان الأمر إلى حد ما، ولكنه لم يفعل شيئا من ذلك، مما جعل الكتاب مغلقا، وموهما لمن يقرؤه أن هذا مراد الله من كلامه.
والكتاب في جملته إن لم يكن تفسيرا باطنيا. فهو أشبه ما يكون به، من ناحية ما فيه من تفسيرات تقوم على نظرية وحدة الوجود، وما فيه من المعاني الإشارية البعيدة، ثم هو بعد ذلك يورد أحاديث لا أصل لها، وفيما يلي نماذج من هذا التفسير تكشف عما فيه من زيغ وفساد:
"أ" من الأحاديث التي لا أصل لها:
قال عند شرحه للبسملة ما نصه:
"سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ألف الباء- من باسم الله الرحمن الرحيم- إلى أين ذهبت؟ قال: "سرقها الشيطان " وأمر- يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم بتطويل باء "باسم الله" تعويضا عن ألفها، إشارة إلى احتجاب ألوهية الآلهية في صورة الرحمة الإنتشارية، وظهورها في الصورة الإنسانية، بحيث لا يعرفها إلا أهلها" اهـ. ج1 ص 9. من النسخة الحديثة.
"ب" من التفسير الإشاري:
ا- عند تفسيره لقوله تعالى في سورة البقرة: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} الآية. يقول ما نصه: "ولا تأكلوا أموالكم" معارفكم ومعلوماتكم "بينكم " بباطل شهوات النفس ولذاتها، بتحصيل مآربها، واكتساب مقاصدها الحسية والجمالية باستعمالها "وتدلوا بها إلى الحكام " وترسلوا إلى حكام النفوس الأمارة بالسوء "لتأكلوا فريقا من أموال الناس" بالقوى الروحانية "بالإثم" أي بالظلم بصرفكم إياها في ملاذ القوى النفسانية "وأنتم تعلمون" أن ذلك إثم ووضع الشيء في غير موضعه أهـ ج2 ص 117 من النسخة الحديثة.
2-
عند تفسيره لقوله تعالى في سورة آل عمران: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ..} الآية- قال ما نصه:
"فلما أحس عيسى" القلب من القوى النفسانية "الكفر" الاحتجاب والإنكار والمخالفة "قال من أنصاري إلى الله " أي اقتضى من القوى الروحانية نصرته عليهم في التوجه إلى الله "قال الحواريون " أي صفوته وخالصته من الروحانيات المذكورة "نحن أنصار الله آمنا بالله " أي بالاستدلال والتنور بنور الروح "واشهد بأنا مسلمون " مذعنون منقادون "اهـ ج 3 ص 189 من النسخة الحديثة.
"جـ" من التفسير المبني على وحدة الوجود:
ا- عند تفسيره لقوله تعالى في سورة آل عمران {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} قال ما نصه: "ربنا ما خلقت هذا الخلق باطلا"، أي شيئا غيرك، فإن غير الحق هو الباطل، بل جعلته أسماءك ومظاهر صفاتك "سبحانك " ننزهك
أن يوجد غيرك، أي يقارن شيء فردانيتك، أو يثني وحدانيتك" اهـ. ج1 ص ا 14 من النسخة الأميرية".
2-
وعند تفسيره لقوله تعالى في سورة الواقعة: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} أو يقول ما نصه: "نحن خلقناكم بأظهاركم بوجودنا وظهورنا في ظهوركم "أهـ ج2 ص ا 29 من النسخة الأميرية".
3-
وعند تفسيره لقوله تعالى في سورة الحديد: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} يقول ما نصه: "وهو معكم أينما كنتم بوجودكم به، وظهوره في مظاهركم " أهـ ج2 ص 294 من النسخة الأميرية".
4-
وعند تفسيره لقوله تعالى في سورة المزمل: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} قال ما نصه: "واذكر اسم ربك " الذي هو أنت، أي اعرف نفسك واذكرها ولا تنسها فينسك الله، واجتهد لتحصيل كمالها بعد معرفة حقيقتها "رب المشرق والمغرب " أي الذي ظهر عليك نوره فطلع من أفق وجودك بإيجادك، والمغرب الذي اختفى بوجودك وغرب نوره فيك واحتجب لك "اهـ ج2 ص 352 من النسخة الأميرية".
وبعد: فهذه نماذج تكشف عن روح هذا التفسير وهي روح كلها شر، وكتاب هذا شأنه يفسد على المسلمين عقيدتهم ويوقعهم في حيرة وشك من كتاب ربهم، ولهذا أرى من الواجب على المسئولين أن يصادروا ما طبع من هذا التفسير، ويحال دون طبع باقيه وإخراجه للناس مخافة أن يفتنوا في دينهم، ويضلوا في فهم كتاب ربهم.
دكتور محمد حسين الذهبي