الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة البقرة
سورة البقرة خمسة وعشرون ألف حرف وخمسمائة حرف، وستّة آلاف كلمة ومائة وإحدى وعشرون كلمة؛ ومائتان وستّة وثمانون آية.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنّ لكلّ شيء سناما؛ وإنّ سنام القرآن سورة البقرة، من قرأها في بيته نهارا لم يدخل بيته شيطان ثلاثة أيّام، ومن قرأها في بيته ليلا لم يدخل بيته شيطان ثلاث ليال]
(1)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [تعلّموا البقرة وآل عمران، فإنّهما يجيئان يوم «القيامة» كالغمامتين أو كفرقين من طير صوافّ يحاجّان عن صاحبهما]
(2)
.
(1)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 6 ص 163:الحديث (5864):ترجمة سعيد بن خالد المدني عن سهل بن سعد. في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: كتاب التفسير: ج 6 ص 311 - 312؛ قال الهيثمي: «رواه الطبراني وفيه سعيد بن خالد الخزاعي المدني، وهو ضعيف» .
في لسان الميزان: ج 2 ص 376:الترجمة (1559)؛قال ابن حجر: «خالد بن سعيد المدني، عن أبي حازم: قال العقيلي: (لا يتابع على حديثه) ثم ساق له هذا الحديث، وقال: (وذكره ابن حبان في الثقات، وهو خالد بن سعيد بن أبي مريم التيمي الذي أخرج له (دق).» .
في رواية الطبراني: تحرف خالد بن سعيد المدني إلى سعيد بن خالد، والأخير مجهول كما نقل ابن حجر في تهذيب التهذيب: الترجمة (1699).والحديث أخرجه ابن حبان من طريق خالد بن سعيد المدني عن أبي حازم عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحديث
…
كما في الإحسان ترتيب صحيح ابن حبان: كتاب الرقائق: الحديث (780).
وله شاهد من حديث أبي هريرة مختصرا، أخرجه عبد الرزاق في المصنف: كتاب فضائل القرآن: الحديث (6019).والحاكم في المستدرك: كتاب فضائل القرآن: الحديث (39/ 2058 و 40/ 2059)،وفي كتاب التفسير: الحديث (156/ 3027).وقال: «حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» .
(2)
رواه الطبراني في الأوسط: ج 9 ص 379:الحديث (8818) بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه وبلفظ قريب. وأخرجه الحاكم في المستدرك عن طريق عبد الله بن بريدة عن أبيه: في كتاب فضائل القرآن: الحديث (38/ 2057)،وقال:«هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه» .
وأخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 5 ص 251 عن أبي أمامة، وفي ج 5 ص 352 و 361 عن عبد الله ابن بريدة عن أبيه. وحديث أبي أمامة أخرجه مسلم في الصحيح. وفي مجمع الزوائد-
وقال صلى الله عليه وسلم: [من قرأ سورة البقرة وآل عمران جعل الله له يوم القيامة جناحين يطير بهما على الصّراط كالبرق الخاطف]
(1)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [تعلّمها بركة، وتركهما حسرة، ولا تستطيعهما البطلة]
(2)
يعني السّحرة.
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}
قوله عز وجل: {الم} (1)؛اختلفوا في تفسير {(الم)} وسائر حروف التهجّي، وروي عن عمر وعثمان وابن مسعود:(أنّ الحروف المقطّعة من المكتوم الّذي لا يفسّر).ووافقهم في ذلك الشعبيّ
(3)
؛وقال: (إنّ لله تعالى سرّا في كتبه؛ وإنّ سرّه في القرآن الحروف المقطّعة) وقال بعضهم: إنّها من المتشابهات التي استأثر الله بعلمها فنحن نؤمن بتنزيلها ونكل إلى الله تأويلها. وقال عليّ رضي الله عنه: (لكلّ شيء صفوة؛ وصفوة هذا الكتاب حروف التّهجّي).
(2)
-ومنبع الفوائد: كتاب التفسير: باب في فضل القرآن: ج 7 ص 159؛قال: «رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح» .
أما في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: ج 6 ص 313،فإنه قال: «عن ابن عباس
…
رواه الطبراني، وفيه عاصم بن هلال البارقي، وثقه أبو حاتم وغيره، وضعفه ابن معين وغيره، وعبد الرحمن بن خلال وعمرو بن مخلد الليثي لم أعرفهما. وقد روى الطبراني في الأوسط عن أنس نحوه، وفيه مبارك بن سحيم، وهو متروك».وليس كما قال فإسناد الحديث عند الطبراني في الأوسط قال:«حدثنا المقدام قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا الضحاك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» وليس في الإسناد من ذكر، ولعله نقله من موضع آخر، والله أعلم. أما حديث أنس فسيأتي إن شاء الله.
(1)
في الدر المنثور في التفسير المأثور: ج 1 ص 55؛قال السيوطي: «أخرجه أحمد والحاكم في الكنى عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم» .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنّ معنى {(الم)}:أنا الله أعلم وأرى، و {(المص)}:أنا الله أعلم وأفصل، و {(كهيعص)}:الكاف من كاف، والهاء من هاد، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصّاد من صادق).ويقال: الألف: مفتاح اسمه الله؛ واللام: لطيف، والميم: مجيد، ومعناه اللطيف المجيد أنزل الكتاب. ويقال: الألف: الله، واللام: جبريل، والميم: محمّد، معناه: الله أنزل جبريل على محمد بهذا القرآن. وقيل:
هذا قسم أقسم الله به أنّ هذا الكتاب الذي أنزل على محمّد هو الكتاب الذي عند الله، وجوابه:{لا رَيْبَ فِيهِ} . وقال محمّد بن كعب: (الألف آلاء الله، واللاّم لطفه، والميم ملكه).وقال أهل الإشارة: الألف أنا، واللاّم لي، والميم منّي.
فصل: وهذه الحروف موقوفة؛ لأنّها حرف هجاء، وحروف الهجاء لا تعرب كالعدد في قوله: واحد اثنان. ولغاية أدخلوا الواو وحرّكوه؛ لأنه صار في حدّ الأسماء، فيقال: ألف ولام كالعدد. وكذلك قال الأخفش: (هي ساكنة لا تعرب).
وقوله: {(الم)} رفع بالابتداء؛ و {(ذلِكَ)} خبره؛ و {(الْكِتابُ)} صلة لذلك. ويحتمل أن يكون {(الم)} خبرا مقدّما تقديره: ذلك الكتاب الذي وعدت أن أوحيه إليك {(الم)} .ومن أبطل محلّ الحروف جعل {(ذلِكَ)} ابتداء و {(الْكِتابُ)} خبره. و {(الم)} صلة؛ فيكون لذلك معنيان؛ أحدهما: أن {(ذلِكَ)} بمعنى، وقد يستعمل {(ذلِكَ)} بمعنى (هذا).قال خفاف
(1)
:
أقول له والرّمح يأطر متنه
…
تأمّل خفافا إنّنى أنا ذلكا
أي إنّني هذا أطرا لعود عطفه.
والثاني: على الإضمار؛ كأنه قال: هذا القرآن {(ذلِكَ الْكِتابُ)} الذي وعدت في
(1)
خفاف بن ندبة السلمي، نقل الطبري الشاهد من شعره في جامع البيان: مج 1 ج 1 ص 143.
فإن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمدا على عين تيمّمت مالكا والخيل: أي فرسان الغارة، والصميم: الخالص من كل شيء، ومالك: هو مالك بن حمار الشمخي الفزاري. والضمير في (له) لمالك. ويأطر متنه: من قولهم: أطر الشّيء يأطره أطرا. أن تقبض على أحد طرفي الشيء ثم تعوجه وتعطفه وتثنيه.
وفيه أن خفافا أظهر اسمه على وجه الخبر عن الغائب وهو يخبر عن نفسه، فكذلك أظهر (ذلِكَ) بمعنى الخبر عن الغائب؛ والمعنى فيه: الإشارة إلى الحاضر المشاهد.
التوراة والإنجيل أن أوحيه إليك. وقيل: {(الم)} ابتداء؛ و {(ذلِكَ)} ابتداء آخر؛ و {(الْكِتابُ)} خبره، والجملة خبر الأول.
وقال بعض المفسرين: اختلف في {(ذلِكَ الْكِتابُ)،} فقال الحسن وابن عباس وقتادة ومجاهد: (هو القرآن).فعلى هذا يكون {(ذلِكَ)} بمعنى (هذا) كقوله تعالى:
{وَتِلْكَ حُجَّتُنا}
(1)
أي هذه حجّتنا
(2)
.وقيل: معناه: {(ذلِكَ الْكِتابُ)} الذي ذكرته في التوراة والإنجيل.
وقوله عز وجل: {ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ؛} أي لا شكّ فيه. ونصب {(رَيْبَ)} لتعميم النفي؛ ألا ترى أنك تقول: لا رجل في الدار؛ بالنصب، فيكون نفيا عامّا. وإذا قلت: لا رجل في الدار؛ بالرفع، جاز أن يكون في الدار رجلان أو ثلاثة
(3)
.
(1)
الأنعام:83.
(2)
فائدة: أن (ذلك) و (هذا) حرفا إشارة، وأصلهما (ذا) لأنه حرف الإشارة، قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي [البقرة:245]،ومعنى (ها) تنبيه، فإذا قرب الشيء أشير إليه، فقيل:(هذا) أي تنبّه أيها المخاطب لما أشرت إليه، فإنه حاضر معك بحيث تراه. وقد تدخل (اللام) و (الكاف) على (ذا) للمخاطبة ولتأكيد معنى الإشارة، فقيل:(ذلك) فكأن المتكلم بالغ في التنبيه؛ للفت انتباه المخاطب إلى المشار إليه لتأخره عنه. مما يدل على أن لفظة (ذلك) لا تفيد البعد في أصل الوضع، بل اختص في العرف بالإشارة إلى البعيد للقرينة التي ذكرناها. فصارت كالدابة فإنها مختصة في العرف بالفرس وإن كانت في أصل الوضع متناولة لكل ما يدب على الأرض. وإذا ثبت هذا فنقول: إن مقتضى الحال في السياق ل (ذلك) يحمل على أصل الوضع اللغوي، لا على مقتضى الاستعمال العرفي، وحينئذ لا يفيد البعد المكاني، وإنما يفيد البعد الذهني لانشغاله عن المطلوب، فتطلّب لفت النظر للفكر بحرف الإشارة للبعيد، وموضوعه هنا القريب بقصد المبالغة في التأكيد. ولأجل هذه المقارنة قام كل واحد من اللفظين مقام الآخر نظير قوله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] والله أعلم.
(3)
الريب: قريب من الشك، وليس بشك؛ في الكليات: ص 464:فصل الراء: قال الكفوي: «كل ما في القرآن من ريب فهو شك، إلا رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور:30] فإن المراد حوادث الدهر» . وهذا ما ذهب إليه جمهور المفسرين. والريب في اللغة: صرف الدهر؛ أي الحوادث؛ والحاجة؛ والظنة؛ والتهمة؛ كالرّيبة بالكسر. يقال: رابني كذا، وأرابني، فهو أن تتوهم بالشيء أمرا ما، فينكشف عما تتوهمه، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ [الحج:5] وقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [البقرة:23] تنبيها على أنه لا ريب فيه.-
قوله عز وجل: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} (2)؛نصب على الحال؛ إما من {(ذلِكَ الْكِتابُ)؛} كأنه قال: ذلك الكتاب هاديا. وإما من {لا رَيْبَ فِيهِ} كأنه قال {لا رَيْبَ فِيهِ} في حال هدايته. ويجوز أن يكون موضعه رفعا على إضمار (هو)،أو {(فِيهِ)} .
فإن قيل: لم خصّ المتقين؛ وهو هدى لهم ولغيرهم؟ قيل: تخصيص الشيء بالذكر لا يدلّ على نفي ما عداه، وفائدة التخصيص تشريف المتقين، ومثله:{إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ}
(1)
{إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها}
(2)
.
قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ؛} أي بالبعث والحساب والجنّة والنار. وقيل: (الغيب) هو الله. قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ،} أي الصّلوات الخمس بشرائطها في مواقيتها. قوله تعالى: {وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} (3)؛يعني الزكاة؛ وهو الأظهر؛ لأن الله تعالى قرن بين الصلاة والزكاة في مواضع كثيرة، وإقامة الصلاة طهارة الأبدان؛ وإعطاء الزكاة طهارة الأموال. وبالأموال قوام الأبدان، وقد قيل: هو نفقة الرجل على أهله.
(3)
-ويقال: أراب الأمر؛ أي صار ذا ريب، واستراب به؛ أي رأى منه ما يريبه من ظنه السوء، وأمر ريّاب؛ أي مفزع، وارتاب: شكّ، وارتاب به: اتّهمه. قال جميل بثينة:
بثينة؛ قالت: يا جميل أربتني فقلت: كلانا يا بثين مريب والريب قريب من الشك وفيه زيادة؛ كأنه ظن السّوء؛ تقول: رابني أمر فلان إذا ظننت به سوء وتوهّمته حتى ينكشف، فهو قلة يقين كما في قوله تعالى: لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ [التوبة:110].لهذا كان الريب قريبا من الشكّ؛ لأنه كما قال الجويني: «الشك ما استوى فيه اعتقادان أو لم يستويا، ولكن لم ينته أحدهما إلى درجة الظهور الذي يبني عليه العاقل الأمور المعتبرة» والريب ما لم يبلغ درجة اليقين وإن ظهر نوع ظهور، فالشك يسبق الريب؛ لأنه سبب الريب، فهو مبدأ له كما أن العلم مبدأ اليقين.
قال الكفوي وغيره: «والريب قد يجيء بمعنى القلق والاضطراب، والحديث [دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإنّ الصّدق طمأنينة والكذب ريبة]» .
ينظر: مفردات غريب القرآن للراغب: ص 368،تحقيق صفوان عدنان. والكليات للكفوي: ص 528.وكتاب الغريبين للهروي: ج 3 ص 802.والقاموس المحيط للفيروزآبادي.
قيل: لمّا نزل قوله عز وجل: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} الآية، قالت اليهود: نحن نؤمن بالغيب ونقيم الصلاة وننفق مما رزقنا الله؛ فأنزل الله تعالى:
{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ،} والذي أنزل إليه القرآن والذي أنزل من قبله التوراة والإنجيل وسائر الكتب المنزّلة؛ فنفروا من ذلك. فإن قيل: لم قال: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (4)،ولم يقل يؤمنون؟ قيل: لأنّ الإيقان توكيد الإيمان؛ واليقين بالآخرة يقين خبر ودلالة، ومعنى الآية: وبالدار الآخرة هم يعلمون ويستيقنون أنّها كائنة
(1)
.
قوله تعالى: {أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (5).
أي أهل هذه الصفة على رشد وثبات وصواب من ربهم. والمفلحون: الناجون الفائزون بالجنة، ونجوا من النار. وقيل: هم الباقون بالثواب والنعيم المقيم.
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (6)،يعني مشركي العرب. وقال الضحّاك:(نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته).وقال الكلبيّ
(2)
: (يعني اليهود) وقيل: المنافقين. والكفر: هو الجحود والإنكار
(3)
.قوله تعالى: {(أَأَنْذَرْتَهُمْ)} الإنذار: التحذير والتخويف. {(أَمْ لَمْ}
(1)
اليقين: هو العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكّا فيه؛ فلذلك لا تقول: تيقّنت وجود نفسي، وتيقّنت أن السماء فوقي، ويقال ذلك في العلم الحادث، سواء أكان ذلك العلم ضروريا أم استدلاليا. فالإيقان واليقين علم من استدلال ونظر؛ لهذا قد يعبر باليقين عن الظن؛ ومنه قول قسم من الفقهاء في اليمين اللغو:«هو أن يحلف بالله على أمر يوقنه ثم يتبيّن له أنه خلاف ذلك، فلا شيء عليه» . الجامع لأحكام القرآن: ج 1 ص 181.واللباب في علوم الكتاب للحنبلي: ج 1 ص 301.
(2)
هو محمّد بن السائب الكلبي، أحد المفسرين الذين يرجع تفسيرهم إلى تفسير ابن عباس، وترجع شهرته أيضا إلى كونه مؤرخا ونسّابة وجغرافيا، كان له ميل إلى التشيع بالمفهوم القديم. أما روايته فكثيرا ما توصف بأنّها ضعيفة، عاش قبل سنة (66) من الهجرة إلى (146) من الهجرة، وله كتاب في التفسير.
(3)
الكفر في اللغة: ستر الشيء، وفي الشريعة عدم الإيمان عما من شأنه يجب الإيمان به. ووصف الليل بالكافر لستره الأشخاص؛ لأن أصله في كلام العرب الستر والتغطية. والكافر أيضا البحر والنهر العظيم. والكافر: الزّارع. والجمع الكفار، قال الله تعالى: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ -
{تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)} وهذه الآية خاصّة فيمن حقّت عليه كلمة العذاب والشقاوة في سابق علم الله.
قوله تعالى: {خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ} . أي طبع على قلوبهم؛ والختم والطبع بمعنى واحد؛ وهو التغطية للشيء. والمعنى طبع الله على قلوبهم؛ أي
(3)
-نَباتُهُ يعني الزرّاع لأنهم يغطون الحبّ. والكافر من الأرض: ما بعد عن الناس لا يكاد ينزله ولا يمر به أحد، من حلّ بتلك المواضع فهم أهل الكفور.
واستعمل لفظ الكفر في القرآن على أربعة أضرب: الأول: أعظمها وهو جحود الوحدانية أو الشريعة أو النبوة، وهو أن إقرار الفطرة بالمعرفة الواضحة الضرورية يستره الكافر بالجحود؛ أي بجحود الوحدانية أو النبوة أو الشريعة أو ثلاثتها، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6].
الثاني: إنكار المعرفة، قال الله تعالى: فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [البقرة:89]. وقال الله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ [النحل 106/].
الثالث: الكفر بمعنى ضد الشكر، والفرق بين الكفر ضد الإيمان والكفر ضد الشكر أن الأول يتعدى بالباء نحو قوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ [البقرة:256]، ومثال الثاني: يتعدى بنفسه قال الله تعالى: أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل 40/].وقال الله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم 7/].
الرابع: استعمل لفظ الكفر للدلالة على البراءة من الكفار، قال الله تعالى: إِنَّنِي بَراءٌ مِنْكُمْ وَمِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ [الممتحنة:4] أي تبرأنا منكم، وقوله تعالى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ [العنكبوت:25].
وخلاصة القول: إن الكفر أربعة أنواع: الأول: كفر الإنكار، وهو أن يكفر بقلبه ولسانه، وأن لا يعترف بما يذكر له من التوحيد. والثاني: كفر الجحود، وهو أن يعرف بعقله ويطمئن قلبه ولا يقر بلسانه. والثالث: كفر عناد، وهو أن يعرف بعقله ويطمئن قلبه ويقر بلسانه ولا يدين به ككفر أبي جهل. والرابع: كفر نفاق، وهو أن يقر بلسانه ولا يعتقد بقلبه. والجميع سواء؛ لأن الله لا يصلح عمل المفسدين.
أغلقها وأقفلها؛ فليست تفقه خيرا ولا تفهمه. {(وَعَلى سَمْعِهِمْ)} فلا يسمعون الحقّ ولا ينتفعون به؛ وإنّما وحّده وقد تخلّل بين جمعين؛ لأنه مصدر؛ والمصدر لا يثنى ولا يجمع. وقيل: أراد سمع كلّ واحد منهم كما يقال: أتاني برأس كبشين؛ أراد برأس كلّ واحد منهما. وقال سيبويه: (توحيد السّمع يدلّ على الجمع؛ لأنّه توسّط جمعين) كقوله تعالى: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ}
(1)
وقوله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ}
(2)
يعني الأنوار والإيمان؛ وقرأ ابن عبلة: «(وعلى أسماعهم)» .
وتمّ الكلام عند قوله: {(وَعَلى سَمْعِهِمْ)} ثم قال: {وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ} .
أي غطاء وحجاب فلا يرون الحقّ. وقرأ المفضّل بن محمّد: «(غشاوة)» بالنصب؛ كأنه أضمر فعلا أو جملة على الختم؛ أي ختم على أبصارهم غشاوة، يدلّ عليه قوله تعالى:{وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً}
(3)
.وقرأ «(غشاوة)» بضمّ الغين. وقرأ الجحدريّ:
«(غشاوة)» بفتح الغين. وقرأ أصحاب عبد الله: «(غشوة)» بفتح الغين بغير ألف. ومن رفع «(غشاوة)» فعلى الابتداء.
قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} (7)،يعني القتل والأسر. وقال الخليل:(العذاب ما يمنع الإنسان من مراده).وقيل: هو إيصال الألم إلى الحيّ مع الهوان به؛ ولهذا لا يسمّى ما يفعل الله بالبهائم والأطفال عذابا؛ لأنه ليس على سبيل الهوان.
قوله عز وجل: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (8)،نزلت هذه الآية في المنافقين: عبد الله بن أبي بن أبي سلول؛
(1)
البقرة 257/.
(2)
المعارج 17/.
(3)
الجاثية 23/.
ومعتّب بن قشير
(1)
؛وجدّ بن قيس
(2)
ومن تابعهم، كانوا يقولون للصّحابة: آمنّا بالذي آمنتم به ونشهد أنّ صاحبكم صادق؛ وليس هم كذلك في الباطن إذا خلوا، وكانوا يقولون فيما بينهم: هذه خلّة نسلم بها عن محمّد وأصحابه ونكون مع ذلك
(1)
معتّب بن قشير بن مليل العطّاف، وهو ممن شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن هشام:«معتّب بن قشير، وثعلبة والحارث ابنا حاطب، وهم من بني أمية بن زيد من أهل بدر، ليسوا من المنافقين فيما ذكر لي من أثق به من أهل العلم» وقال: «وأخبرني من أثق به من أهل العلم أن معتّب بن قشير لم يكن من المنافقين، واحتج بأنه كان من أهل بدر» . السيرة النبوية: ج 2 ص 169 و 172 و 344،وج 3 ص 233.
وفيه نظر؛ لأنه كان أحد الذين بنوا المسجد الظّالم أهله مسجد الضرار، قال ابن هشام:«وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا» منهم قال: «معتب بن قشير» . السيرة النبوية: ج 4 ص 174.
وفي السيرة النبوية: من اجتمع إلى يهود من منافقي الأنصار: ج 2 ص 169؛قال ابن هشام: «وكان ممن بنى مسجد الضرار ثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وهما اللذان عاهدا الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين إلى آخر القصة، ومعتب الذي قال يوم أحد: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا، فأنزل الله تعالى في ذلك قوله: وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ
…
إلى آخر القصة. وهو الذي قال يوم الأحزاب: كان محمّد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الغائط! فأنزل الله عز وجل: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ
…
غُرُوراً. وفي ج 2 ص 172 - 173؛ذكر ابن هشام قصة تحاكمه إلى الكهان حكّام الجاهلية. قلت: ولعل هذا كله قبل توبته، والله أعلم.
(2)
الجد بن قيس من بني سلمة، وكان أول ذكراه حين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم [من سيّدكم يا بني سلمة؟] قالوا: الجدّ بن قيس؛ على بخله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [وأيّ داء أكبر من البخل! سيّد بني سلمة الأبيض الجعد بشر بن البراء]. السيرة النبوية لابن هشام: ج 2 ص 104.وذكر في مواطن النفاق إذ يقول: يا محمّد ائذن لي ولا تفتنّي، فأنزل الله تعالى فيه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [التوبة:49] إلى آخر القصة. السيرة النبوية: ج 2 ص 173.وتخلف عن بيعة الرضوان، يقول ابن اسحاق: «عن جابر رضي الله عنه يقول: [إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايعنا على الموت، ولكن بايعنا على أن لا نفرّ] فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ولم يتخلّف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجدّ بن قيس أخو بني سلمة، فكان جابر بن عبد الله يقول: (والله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته قد ضبأ إليها يستتر بها من الناس) .. ».السيرة النبوية: ج 3 ص 330.وعليه مواقف تشهد له بالنفاق، والله أعلم.
متمسّكين بديننا؛ فقال الله عز وجل: {(وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)} وإنّما وحّد في أوّل الآية وجمع الضمير في آخرها؛ لأنّ لفظ (من) للوحدان، ومعناه يصلح للمذكّر والمؤنّث؛ والاثنين والجماعة؛ فعدل تارة إلى اللّفظ وتارة للمعنى؛ ومنه قوله تعالى:{بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ} الآية، {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلّهِ وَرَسُولِهِ} الآية.
قوله عز وجل: {يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا؛} أي يخالفون الله ويكذبونه ويكذبون المؤمنين. ويخالفونهم في ضمائرهم وهم المنافقون. وأصل الخدع في اللغة الاختفاء؛ ومنه قيل للبيت الذي يخبّأ فيه المتاع: مخدع؛ فالمخادع يظهر خلاف ما يضمر. وقال بعضهم: أصل الخداع في اللغة: الفساد. وقال الشاعر:
أبيض اللّون لذيذ طعمه
…
طيّب الرّيق إذا الرّيق خدع
أي فسد، فيكون المعنى: مفسدون ما أظهروا بألسنتهم مما أضمروا في قلوبهم.
وقيل: معناه: يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {فَلَمّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ} أي آسفوا نبيّنا. وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} أي أولياء الله؛ لأنّ الله تعالى لا يؤذى ولا يخادع. وقد يكون المفاعلة من واحد كالمسافرة.
فإن قيل: ما وجه مخادعتهم الله؛ وهو لا يخفى عليه شيء؟ وما وجه مخادعة المؤمنين ومخادعة أنفسهم؟ قيل: المخادعة الإخفاء، يقال: انخدعت الضّبية في جحرها.
والله تعالى لا يخادع في الحقيقة، ولكن أطلق عليه اسم المخادعة لمّا فعلوا فعل المخادعين. ولو كان يصحّ لهم خداعهم لقال: يخدعون الله. وقيل: معناه: يخادعون رسول الله.
وأما مخادعة المؤمنين؛ فإظهارهم لهم الإسلام تقية؛ وقيل: إظهار الإسلام لهم ليكرموهم ويبجّلوهم. وقيل: أظهروا لهم ذلك ليفشوا إليهم سرّهم فينقلوه إلى
أعدائهم. وأمّا مخادعة أنفسهم فضرر ذلك عليهم. قال الله تعالى: {وَما يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ؛} لأنّ وبال الخداع عائد إلى أنفسهم فكأنّهم في الحقيقة إنّما يخدعون أنفسهم
(1)
.
قوله تعالى: {وَما يَشْعُرُونَ} (9)؛أي وما يعلمون أنه كذلك. والشعر:
هو العلم الدقيق الذي يكون حادثا من الفطنة؛ وهو من شعار القلب؛ ومنه سمي الشاعر شاعرا لفطنته لما يدقّ من المعنى والوزن، ومنه الشعر لدقّته. ويقال: ما شعرت به؛ أي ما علمت به. وليت شعري ما صنع فلان؛ أي ليت علمي.
واختلف القرّاء في قوله تعالى: {(وَما يَخْدَعُونَ)} فقرأ نافع؛ وابن كثير؛ وأبو عمرو: «(يخادعون)» بالألف. وقرأ الباقون: «(يخدعون)» بغير ألف على أشهر اللغتين وأفصحهما؛ واختاره أبو عبيد. ولا خلاف في الأول أنه بالألف.
قوله عز وجل: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ؛} أي شكّ ونفاق، وسمي النفاق مرضا لأنه يهلك صاحبه؛ ولأنه يضطرب في الدّين يوالي المؤمنين باللسان؛ والكفار بالقلب؛ فحاله كحال المريض الذي هو مضطرب بين الحياة والموت. وقيل: إنّ الشكّ؛ أي بالقول: ألم القلب، والمرض: ألم البدن. فسمّي الشكّ مرضا لما فيه من الهمّ والحزن. وقيل: سمي النفاق مرضا؛ لأنه يضعف الدّين واليقين كالمرض الذي يضعف البدن وينقص قواه؛ ولأنه يؤدّي إلى الهلاك بالعذاب كما أن المرض في البدن يؤدّي إلى الهلاك بالموت.
قوله تعالى: {فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً؛} أي شكّا ونفاقا وعذابا وهلاكا.
والفاء في {(فَزادَهُمُ اللهُ)} بمعنى المجازاة. وقيل: على وجه الدّعاء، {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ؛} أي موجع يخلص وجعه إلى قلوبهم؛ وهو بمعنى مؤلم. قوله تعالى:{بِما كانُوا يَكْذِبُونَ} (10)؛قال بعضهم: الباء في (بما) صلة؛ أي لهم عذاب أليم بكذبهم وتكذيبهم الله ورسوله في السرّ؛ فيكون (ما) مصدرية؛ والأولى إعمال الحروف. و (ما) وجد لها مساغ؛ أي بالشّيء الذي يكذّبون.
(1)
النفس هنا: ذات الشيء وحقيقته، ولا تختصّ بالأجسام لقوله تعالى: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ [المائدة:116].
وفي قوله: (يكذبون) خلاف بين القرّاء، فقرأ أهل الكوفة بفتح الياء وتخفيف الذّال؛ أي بكذبهم إذ قالوا: آمنّا، وهم غير مؤمنين
(1)
.
قوله عز وجل: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ؛} قرأ الكسائيّ؛ ويعقوب؛ وهشام: «قيل» و «حيل»
(2)
،و «سيق»
(3)
،و «جئ» و «سيء»
(4)
بإشمام الضمّة
(5)
.ومعنى الآية: وإذا قيل للمنافقين وقيل لليهود؛ أي إذا قال لهم المؤمنون: لا تفسدوا في الأرض بالكفر والمعصية والمداهنة وتعويق النّاس عن الإيمان بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن، {قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ} (11)؛أي عاملون بالطّاعة ومصلحون بالمداهنة؛ لأنّهم كانوا يقولون: لا نعادي المؤمنين ولا الكفار؛ نداري هؤلاء وهؤلاء؛ حتى إذا غلب أحد الفريقين لا يأتينا من دائرتهم شيء
(6)
.
يقول الله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ،} (ألا) كلمة تنبيه، والمعنى: ألا إنّهم هم المفسدون بالمداهنة والعاملون بالمعصية، وقوله تعالى:(هم) عماد وتأكيد. قوله تعالى: {وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ} (12)؛أي لا يعلمون ما أعدّ الله لهم من العذاب. وقيل: لا يعلمون أنّهم كذلك.
قوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النّاسُ؛} أي إذا قيل للمنافقين: صدّقوا كما صدّق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، {قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ؛} أي أنصدّق كما صدّق الجهّال، يقول الله تعالى:{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ}
(1)
وقرأ أهل المدينة: (يكذّبون) بضم الياء وتشديد الذال، والإجماع منعقد على القراءة الأولى، فضلا عن أن القراءة الثانية لا تتفق والقراءة من قوله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ. اِتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [المنافقون:1 - 2] فإنه سبحانه وتعالى قرر كذبهم، ليس لأجل تكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم، فهم يكذبون بدعواهم الإيمان وإظهارهم ذلك خداعا.
(2)
سبأ 54/.
(3)
الزمر 71/.
(4)
هود 77/.
(5)
سيأتي معنى الإشمام في تفسير قوله تعالى: لا تَأْمَنّا [يوسف:11] إن شاء الله.
(6)
الفساد خروج الشيء عن الاعتدال، قليلا كان الخروج أو كثيرا، ويضادّه الإصلاح، وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدّها. ويستعمل ذلك في النفس، والبدن، والأشياء الخارجة عن الاستقامة. والإفساد هو جعل الشيء خارجا عما ينبغي أن يكون عليه، وعن كونه منتفعا به. وفي الحقيقة هو إخراج الشيء عن حالة محمودة لا لغرض صحيح.
{السُّفَهاءُ؛} أي هم الجهّال بتركهم التصديق في السرّ؛ {وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ} (13)؛أنّهم جهّال. وقيل: قالوا: أنصدّق (كما) صدّق الجهال بقول الله تعالى، {(أَلا إِنَّهُمْ)} .. وقيل: معناه: آمنوا كما آمن عبد الله ابن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب.
والسّفهاء: جمع سفيه، وهو البهّات الكذّاب المتعمد بخلاف ما يعلم. وقال قطرب:(السّفيه: العجول الظّلوم القائل خلاف الحقّ)
(1)
.
قوله عز وجل: {وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا؛} قال جويبر عن الضحّاك عن ابن عبّاس: (كان عبد الله بن أبيّ بن سلول الخزرجيّ عظيم المنافقين من رهط سعد بن عبادة، وكان إذا لقي سعدا قال: نعم الدّين دين محمّد، وكان إذا رجع إلى رؤساء قومه من أهل الكفر قال: شدّوا أيديكم بدين آبائكم. فأنزل الله هذه الآية).
وقال الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس؛ قال: (نزلت هذه الآية في عبد الله ابن أبيّ وأصحابه، وذلك أنّهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عبد الله لأصحابه: انظروا كيف أردّ هؤلاء السّفهاء عنكم؟ فذهب فأخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه فقال: مرحبا بالصّدّيق وسيّد بني تميم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثمّ أخذ بيد عمر رضي الله عنه، وقال:
مرحبا بسيّد بني عديّ بن كعب الصّادق القويّ في دين الله عز وجل الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثمّ أخذ بيد عليّ كرّم الله وجهه؛ فقال: مرحبا يا ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وسيّد بني هاشم ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عليّ رضي الله عنه:
اتّق الله ولا تنافق؛ فإنّ المنافقين شرّ خليقة الله. فقال: مهلا يا أبا الحسن، والله إنّ إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم. وفي رواية: والله إنّي مؤمن بالله ورسوله. ثمّ افترقوا، فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت، فإذا رأيتموهم فافعلوا كما
(1)
وأصل السّفه من كلام العرب: الرقّة والخفّة، يقال: ثوب سفيه إذا كان رديء النسج خفيفه أو كان باليا رقيقا. وتسفّهت الريح الشجر: مالت به، وتسفّهت الشيء: استحقرته. والسّفه ضد الحلم، والسفيه هنا: هو من أعرض عن الدليل، ثم نسب التمسّك به إلى السّفاهة. وقد يأتي على معنى من باع آخرته بدنيا غيره فهو السّفيه، أو من عادى الإسلام. وعلى وجه العموم فإن السفيه الجاهل لضعف الرأي، القليل المعرفة بمواضع المنافع والمصالح.
فعلت. فأثنوا عليه؛ وقالوا: لا نزال بخير ما عشت. فرجع المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك، فأنزل الله هذه الآية).ومعناها: وإذا لقوا الذين آمنوا، أبا بكر وأصحابه؛ قالوا: أمنّا كإيمانكم.
وقرأ محمد بن السّميقع: «(وإذا لاقوا)» وهما بمعنى واحد، وأصل (لقوا):لقيوا؛ فاستثقلت الضمّة على الياء فنقلت إلى القاف وسكّنت الواو والياء، فحذفت الياء لالتقاء السّاكنين.
قوله تعالى: {وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ؛} أي مع شياطينهم؛ وهم رؤساؤهم في الضّلالة. قال الأخفش: (كلّ عاقّ متمرّد فهو شيطان).ومعنى {(خَلَوْا)} أي جمعوا. ويجوز أن يكون من الخلوة؛ يقال: خلوت به وخلوت معه وخلوت إليه؛ كلّها بمعنى واحد. قال ابن عبّاس: «{(شَياطِينِهِمْ)} رؤساؤهم وكبراؤهم وكهنتهم وهم خمسة نفر من اليهود).ولا يكون كاهن إلاّ ومعه شيطان، منهم كعب بن الأشرف بالمدينة؛ وأبو بردة في بني أسلم؛ وعبد الدار في جهينة؛ وعوف بن عامر في بني أسد؛ وعبد الله بن السّوداء في الشام. والشيطان المتمرّد العاتي من كلّ شيء؛ ومنه قيل للحيّة النّصناص: شيطان؛ قال الله تعالى: {طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ}
(1)
أي الحيّات.
وقوله تعالى: {قالُوا إِنّا مَعَكُمْ؛} أي على دينكم وأنصاركم، قوله عز وجل:{إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ} (14)؛أي بمحمّد وأصحابه بإظهار قول لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله.
قوله عز وجل: {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (15) أي يجازيهم على استهزائهم فسمّى الجزاء باسم الابتداء؛ إذ كان مثله في الصورة؛ كقوله تعالى: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها}
(2)
فسمّى جزاء السيئة سيئة. وقال تعالى:
{فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ}
(3)
والثاني ليس باعتداء.
(1)
الصافات 65/.
(2)
الشورى 40/.
(3)
البقرة 194/.
قوله تعالى: {(وَيَمُدُّهُمْ فِي)} أي يمهلهم ويتركهم في ضلالتهم يتحيّرون؛ يقال:
مدّ في الشّرّ؛ ويمدّ في الخير؛ وقال يونس: (المدّ التّرك؛ والإمداد في معنى الإعطاء).
وقيل: مدّه وأمدّه بمعنى واحد. وقال الأخفش: {(وَيَمُدُّهُمْ)} أي يمدّ لهم؛ فحذف اللاّم).والطغيان: مجاوزة الحدّ؛ يقال: طغى الماء إذا جاوز حدّه؛ وقيل لفرعون: {إِنَّهُ طَغى}
(1)
أي أسرف في الدعوى حيث قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى}
(2)
.
وقرأ ابن محيصن: «(ويمدّهم)» بضم الياء وكسر الميم؛ وهما لغتان. إلا أن المدّ أكثر ما يجيء في الشرّ، قال الله تعالى:{وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا}
(3)
،والإمداد في الخير قال الله تعالى:{وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ}
(4)
،وقال تعالى:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ}
(5)
.وقيل: معنى {(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)} أي يوبخهم ويعيبهم ويجهّلهم. وقيل: معناه: الله يظهر المؤمنين على نفاقهم.
وقال ابن عبّاس: (هو أن يطلع الله المؤمنين يوم القيامة وهم في الجنّة على المنافقين وهم في النّار، فيقولون لهم: أتحبّون أن تدخلوا الجنّة؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم باب إلى الجنّة ويقال لهم: ادخلوا، فيأتون يتقلّبون في النّار، فإذا انتهوا إلى الباب سدّ عليهم وردّوا إلى النّار؛ ويضحك المؤمنون منهم. فذلك قوله تعالى:
(6)
.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [يؤمر بناس من المنافقين إلى الجنّة حتّى إذا دنوا منها ووجدوا رائحتها ونظروا إلى ما أعدّ الله لأهلها من الكرامة، نودوا أن اصرفوهم عنها؛ فيرجعون بحسرة وندامة لم ترجع الخلائق بمثلها؛ فيقولون: يا ربّنا لو أدخلتنا النّار قبل أن ترينا ما أريتنا كان أهون علينا؟ فيقول الله تعالى: هذا الّذي أردت بكم؛ هبتم النّاس ولم تهابوني؛ أجللتم النّاس ولم تجلّوني؛ كنتم تراءون
(1)
طه 24/.
(2)
النازعات 24/.
(3)
مريم 79/.
(4)
نوح 12/.
(5)
المؤمنون 55/.
(6)
المطففين 29/-34.
النّاس بأعمالكم خلاف ما كنتم تروني من قلوبكم، فاليوم أذيقكم من عذابي ما حرمتكم من ثوابي]
(1)
.
فإن قيل: لم أمر الله تعالى بقتال الكفار المعلنين الكفر ولم يأمر بقتال المنافقين وهم في الدّرك الأسفل من النار؛ وخالف بين أحكامهم وأحكام الكفار المظهرين الكفر وأجراهم مجرى المسلمين في التوارث والأنكحة وغيرها؟ قيل: عقوبات الدنيا ليست على قدر الإجرام؛ وإنّما هي على ما يعلم الله من المصالح؛ ولهذا أوجب رجم الزاني المحصن ولم يزل عنه الرجم بالتوبة؛ والكفر أعظم من الزنا ولو تاب منه قبلت توبته. وكذلك أوجب الله على القاذف بالزنا الجلد ولم يوجبه على القاذف بالكفر؛ وأوجب على شارب الخمر الحدّ ولم يوجبه على شارب الدم.
قوله عز وجل: {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى؛} أي أخذوا الضّلالة وتركوا الهدى؛ واختاروا الكفر على الإيمان. وإنّما أخرجه بلفظ الشراء والتجارة توسّعا؛ لأن الشراء والتجارة راجعان إلى الاستبدال والاختيار؛ لأنّ كل واحد من المتبايعين يختار ما بيد صاحبه على ما في يده. قوله عز وجل: {فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ؛} أي فما ربحوا في تجارتهم؛ تقول العرب: ربح بيعك وخسرت صفقتك؛ ونام ليلك؛ توسّعا. قال الله تعالى: {فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ}
(2)
.وقرأ ابن أبي عبلة: «(فما ربحت تجاراتهم)» على الجمع. وقوله تعالى: {وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} (16)؛أي من الضّلالة؛ وقيل: معناه وما كانوا مصيبين في تجارتهم.
قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً؛} أي مثل المنافقين في إظهارهم الإسلام وحقنهم دماءهم وأموالهم كمثل رجل في مفازة في ليلة مظلمة
(1)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 17 ص 80:الحديث (199 و 200).وفي المعجم الأوسط: الحديث (5474) عن عدي بن حاتم. وأبو نعيم في الحلية: ج 4 ص 124 - 125. وقال: «غريب من حديث الأعمش، لم نكتبه إلا من حديث أبي جنادة. وفيه [يؤمر بناس من النّاس
…
]».وفي مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: ج 10 ص 220؛قال الهيثمي: «وفيه أبو جنادة، وهو ضعيف» .
(2)
محمد:21.
يخاف السّباع على نفسه، فيوقد نارا ليأمن بها السباع، {فَلَمّا أَضاءَتْ،} النار، {ما حَوْلَهُ} المستوقد؛ طفئت. فبقي في الظلمة؛ كذلك المنافق يخاف على نفسه من قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيسلم دماء الناس فيحقن دمه، ويناكح المسلمين فيكون له نور بمنزلة نور نار المستوقد؛ فإذا بلغ آخرته لم يكن لإيمانه أصل في قلبه، ولا حقيقة في عمله، سلب نور الإيمان عند الموت فيبقى في ظلمة الكفر، نستعيذ بالله. وقوله تعالى:{(اسْتَوْقَدَ)} يعني أوقد، قال الشاعر
(1)
:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى
…
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وقوله تعالى: {(كَمَثَلِ الَّذِي)} بمعنى (الذين) دليله سياق الآية؛ ونظيره قوله تعالى: {وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}
(2)
.فإن قلت: كيف يجوز تشبيه الجماعة بالواحد؟ قلت: لأن (الّذي) اسم ناقص، فيتناول الواحد والاثنين ك (من) و (ما)،وفي الآية ما يدلّ على أن معناه الجمع، وهو قوله تعالى:{(وَتَرَكَهُمْ)} .
وقد يجوز تشبيه فعل الجماعة بفعل الواحد مثل قوله تعالى: {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}
(3)
.وقوله تعالى: {(أَضاءَتْ)} يقال: ضاء القمر يضوء ضوءا، وأضاء يضيء إضاءة؛ وإضاءة غيره يكون لازما ومتعدّيا. وقرأ محمّد بن السّميقع:«(ضاءت)» بغير ألف؛ و «(حوله)» نصب على الظرف.
قوله تعالى: {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ؛} أي أذهب الله نورهم. وإنّما قال:
{(بِنُورِهِمْ)} والمذكور في أوّل الآية النار؛ لأنّ النار فيها شيئان: النّور والحرارة؛ فذهب نورهم؛ وبقي الحرارة عليهم، {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ} (17).
وفي بعض التفاسير: قال ابن عبّاس؛ وقتادة؛ والضحّاك: (معنى الآية: مثلهم في الكفر ونفاقهم كمن أوقد نارا في ليلة مظلمة في مفازة فاستضاء به، واستدفأ ورأى ما حوله، فاتّقى ما يحذر ونجا ممّا يخاف وأمن؛ فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره؛ فبقي مظلما خائفا متحيّرا؛ فكذلك المنافقون إذا أظهروا كلمة الإيمان
(1)
هو كعب بن سعد الغنويّ، يرثي أخاه أبا المغوار، والبيت أورده الأخفش في معاني القرآن: ج 1 ص 49 و 208: الشاهد (27)؛وقال: «أي فلم يجبه» .
(2)
الزمر:33.
(3)
الأحزاب:19.
واستناروا بنورها واعتزّوا بعزّها، فناكحوا المسلمين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم وأمنوا على أموالهم وأولادهم؛ فإذا ماتوا عادوا في الظّلمة والخوف وبقوا في العذاب والنّقمة).
وقوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ؛} أي هم صمّ عن الهدي لا يسمعون الحقّ، بكم لا يتكلمون بخير؛ عمي لا يبصرون الهدي؛ أي بقلوبهم كما قال الله تعالى:{وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}
(1)
.وقيل: معناه صمّ يتصامّون عن الحقّ؛ بكم يتباكمون عن قول الحقّ؛ عمي يتعامون عن النّظر إلى الحقّ؛ يعني الاعتبار.
وقرأ عبد الله: «(صمّا بكما عميا)» بالنصب على معنى وتركهم كذلك. وقيل: على الذّمّ، وقيل: على الحال. وقوله تعالى: {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} (18)؛أي من الضّلالة والكفر إلى الهدى والإيمان.
قوله عز وجل: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ؛} هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لهم أيضا؛ معطوف على المثل الأول؛ أي مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ومثلهم أيضا كصيّب. قال أهل المعاني: (أو) بمعنى الواو؛ يريد (وكَصَيِّبٍ) كقوله: {أَوْ يَزِيدُونَ}
(2)
وأنشد الفرّاء
(3)
:
وقد علمت سلمى بأنّي فاجر
…
لنفسي تقاها أو عليها فجورها
أي: وعليها فجورها.
ومعنى الآية: مثل المنافقين مع النبيّ صلى الله عليه وسلم والقرآن (كصيّب) أي كمطر نزل {(مِنَ السَّماءِ)} ليلا على قوم في مفازة {(فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ)} كذلك القرآن نزل من الله، {(فِيهِ ظُلُماتٌ)} أي بيان الفتن وابتلاء المؤمنين بالشّدائد في الدّنيا، {(وَرَعْدٌ)} أي زجر وتخويف، {(وَبَرْقٌ)} أي تبيان وتبصرة. فجعل أصحاب المطر أصابعهم في آذانهم من الصّواعق مخافة الهلاك، كذلك المنافقون كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم من بيان
(1)
الأعراف 198/.
(2)
الصافات 147/.
(3)
في لسان العرب لابن منظور: «وقد زعمت ليلى
…
» والبيت لتوبة بن الحميّر، ونقله الطبري في التفسير.
القرآن ووعده ووعيده وما فيه من الدّعاء إلى الجهاد مخافة أن يقتلوا في الجهاد. ويقال:
مخافة أن تميل قلوبهم إلى ما في القرآن.
وعن الحسن أنه قال: (في الآية تشبيه الإسلام بالصّيّب؛ لأنّ الصّيّب يحيي الأرض، والإسلام يحيي الكفّار. قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ})
(1)
.
وقوله تعالى: (كصيّب) أي كأصحاب الصّيّب؛ لاستحالة تشبيه الحيوان بالصّيب تمثيل العاقل بغير العاقل.
وقوله تعالى: {(مِنَ الصَّواعِقِ)} جمع صاعقة: وهي صوت وبرق فيه قطعة من النار لا تأتي على شيء إلا أحرقته. وقوله تعالى: {(مِنَ السَّماءِ)} كل ما علاك فهو سماء؛ والسماء تكون واحدا وجمعا، قال الله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ}
(2)
.وقيل: هو جمع واحده: سماوة؛ والسّماوات جمع الجمع، مثل جرادة وجراد وجرادات. والسّماء تذكّر وتؤنّث، قال الله تعالى:{السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ}
(3)
و {إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ}
(4)
.
وقوله تعالى: {(فِيهِ ظُلُماتٌ)} أي في الصيّب؛ وقيل في الليل: كناية عن غير مذكور. وظلمات: جمع ظلمة؛ وضمّه اللام على الاتباع لضمة الظاء. وقرأ الأعمش:
«(ظلمات)» بسكون اللام على أصل الكلام؛ لأنّها ساكنة في التوحيد. وقرأ أشهب العقيلي: «(ظلمات)» بفتح اللام؛ لأنه لمّا أراد تحريك اللام حرّكها إلى أخفّ الحركات؛ كقول الشاعر:
فلمّا رأونا باديا ركباننا
…
على موطن لا تخلط الجدّ بالهزل
قوله تعالى: {(وَرَعْدٌ)} الرعد: هو الصوت الذي يخرج من السحاب، {(وَبَرْقٌ)} وهي النار التي تخرج منه. قال مجاهد:(الرّعد: ملك يسبح بحمده؛ ويقال لذلك الملك: رعد، ولصوته أيضا رعد).وقال عكرمة: (الرّعد: ملك موكّل بالسّحاب
(1)
الأنعام 122/.
(2)
البقرة 29/.
(3)
المزمل 18/.
(4)
الانفطار 1/.
يسوقها كما يسوق الرّاعي الإبل)
(1)
.وقال شهر بن حوشب: (هو ملك يزجر السّحاب كما يزجر الرّاعي الإبل).والصواعق أيضا المهالك؛ وهي جمع صاعقة؛ والصاعقة والصّامعة
(2)
والمصعمة
(3)
:كالهلاك. ومنه قيل: صعق الإنسان إذا غشي عليه؛ وصعق إذا مات.
قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ؛} أي مخافة الموت. وهو نصب على المصدر. وقيل: بنزع الخافض. وقرأ قتادة: «(حذير الموت)» .قوله تعالى: {وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} (19)؛أي عالم بهم؛ يدلّ عليه قوله تعالى: {وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}
(4)
.وقيل: معناه: والله مهلكهم وجامعهم في النار؛ دليله {أَنْ يُحاطَ بِكُمْ}
(5)
أي تهلكوا جميعا.
قوله عز وجل: {يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ؛} أي يختلس أبصار المسافرين من شدّة ضوئه؛ كذلك البيان من القرآن يكاد يذهب بأبصار المنافقين؛ فيأخذهم إلى الله لمّا قلبوا الدين. ومعنى (يكاد) أي يقرب من ذلك ولم يفعل
(6)
.وقرأ ابن أبي
(1)
بلفظ قريب منه أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (364).
(2)
الصّامعة: الأصمع: الصغير الأذن، والسيف القاطع، والمترقي أشرف المواضع. وله معاني أخرى، جمعها صمعان. والأصمع: القلب الذكي المتيقظ، فيقال: قلب أصمع: ذكي متوقد فطن، وهو كذلك الرأي الحازم. والأصمعان: القلب الذكي والرأي العازم. والصومعة من البناء: سميت صومعة لتلطيف أعلاها. والصومعة أيضا: منار الراهب، وصومعها: دقّق رأسها، والشيء جمعه. لسان العرب (صمع).وترتيب القاموس المحيط.
(3)
المصعمة: من مصع البرق أي أومض، ومصع فلانا ضربه بالسيف، والمصع التحريك والضرب. وقيل: معناه: عدوّ شديد. ومرّ يصمع؛ أي يسرع. وسئل أعرابي عن البرق فقال: مصعة ملك؛ أي يضرب السحاب ضربة فترى النيران. والماصع: البرّاق، وقيل: المتغيّر. ومصعه بالسّوط: أي ضربه، قال الطبري:«ويكون إزجاء الملك السحاب مصعه إياه بها، وذاك أن المصاع عند العرب أصله المجالدة بالسيوف، ثم تستعمله في كل شيء جولد به في حرب وغير حرب» .
(4)
الطلاق 12/.
(5)
يوسف 66/.
(6)
يكاد: مضارع (كاد) وهي لمقاربة الفعل، تعمل عمل (كان) إلا أن خبرها لا يكون إلا مضارعا، وشذّ غيره. والأكثر في خبرها تجرّده من (أن) عكس (عسى) لأنّها لمقاربة الفعل، وإذا كانت-
إسحاق: «(يخطّف)» بنصب الخاء وتشديد الطاء؛ أي يختطف؛ فأدغم. قوله تعالى:
{كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ؛} أي كلّما أضاء البرق للمسافرين مشوا في ضوئه، {وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا،} بقوا في ظلمة القبر. وفي مصحف عبد الله: (مضوا فيه).
قوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ} . أي لذهب بسمع المسافرين بالرعد وأبصارهم بالبرق؛ كذلك لو شاء الله لذهب بسمع المنافقين وأبصارهم بزجر القرآن ووعده ووعيده والبيان الذي فيه وجعلهم صمّا وعميا في الحقيقة عقوبة لهم. وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (20)؛أي من إذهاب السّمع والبصر.
قوله عز وجل: {يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (21)،قال ابن عبّاس:((يا أيّها النّاس) خطاب لأهل مكّة؛ و (يا أيها الذين آمنوا) خطاب لأهل المدينة).وهو هاهنا عامّ؛ وقوله تعالى: {(اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)} أي وحّدوه وأطيعوه. وقوله تعالى: {(الَّذِي خَلَقَكُمْ)} أي أوجدكم وأنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا. وقوله تعالى: {(وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)} أي وخلق الذين من قبلكم.
{(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)} أي لكي تنجوا من العذاب والسّخط. قال سيبويه: (لعلّ وعسى حرفا ترجّ) وهما من الله تعالى واجبان.
قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً} . أي هو الذي جعل؛ وقيل: اعبدوا ربّكم الذي جعل لكم الأرض فراشا أي بساطا؛ وقوله تعالى: {(وَالسَّماءَ بِناءً)} إنّما أطلق البناء على السماء دون الأرض؛ لأنّ خلقها بعد خلق الأرض. قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوّاهُنَّ}
(1)
قال ابن عباس: (كلّ سماء مطبقة على الأخرى كالقبّة؛ وسماء الدّنيا ملتزقة أطرافها بالأرض).
(6)
- (كاد) مثبتة فإن خبرها منفي في المعنى لا محالة؛ لأنّها للمقاربة، فإذا قلت: كاد زيد يفعل، كان معناه قارب الفعل إلا أنه لم يفعل، فإذا نفيت انتفى خبرها بطريق الأولى؛ لأنه إذا انتفيت مقاربة الفعل انتفى الفعل من باب أولى، وفيه تفصيل.
(1)
البقرة 29/.
قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً،} أي من السّحاب؛ سمّي ماء لقربه من السّماء؛ وقيل: معناه من نحو السماء، وقيل: لأنّ الله تعالى ينزل المطر من السماء إلى السّحاب؛ ومن السّحاب إلى الأرض، وقيل: يخلق الله المطر في السحاب ثم ينزله منه إلى الأرض.
قوله تعالى: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ؛} ظاهر المراد.
قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْداداً؛} أي أمثالا ونظراء. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (22)،أنّ الله خلق كافّة الأشياء دون غيره، وأن ليس للأصنام عليكم نعمة تستحقّ بها عبادتكم.
قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ؛} أي في شكّ، {مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا،} محمّد صلى الله عليه وسلم أنه ليس منّي، وأنّ محمدا يختلقه من نفسه، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ؛} أي من بشر مثله؛ والهاء في (مثله) عائدة إلى النّبيّ عليه السلام. وقيل: معناه فأتوا بسورة من مثله ممّا نزّلنا.
قوله عز وجل: {وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ؛} أي آلهتكم ومن رجوتم معونته في الإتيان بسورة مثله، {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} (23)،أنه ليس من الوحي. وقوله تعالى:(فأتوا) أمر تعجيز؛ لأنه تعالى علم عجز العباد عنه.
قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا؛} أي فإن لم تأتوا بمثله ولن تأتوا بذلك أبدا، {فَاتَّقُوا النّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ؛} أي حطبها الناس والحجارة. وقيل: المراد بالحجارة: حجارة الكبريت؛ لأنّها أسرع وقودا وأبطأ جمودا وأنتن رائحة وأشدّ حرّا وألصق بالبدن، {أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ} . (24)
قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ؛} أي بأنّ لهم، موضع أنّ نصب بنزع الخافض، وقوله تعالى:{جَنّاتٍ؛} أي بساتين، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا؛} أي من تحت شجرها، ومساكنها وغرفها، {الْأَنْهارُ؛} أي أنهار الماء والعسل واللّبن والخمر.
قوله تعالى: {كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ؛} أي كلما أطعموا من أنواع الثمرات بالبكر والعشيّات؛ إذا أوتوا به بكرة قالوا:
هذا الذي أوتينا به عشية؛ وإذا أوتوا به عشية قالوا: هذا الذي أوتينا به بكرة؛ فإذا طعموه وجدوا طعمه غير الطعم الذي طعموه من قبل. وقوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً؛} أي في المنظر مختلفا في الطعم. قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ؛} أي نساء وجوار لا يحضن ولا يستحلمن ولا يلدن ولا يحتجن إلى ما يتطهّرن منه؛ ولا يحسدن ولا يغرن ولا ينظرن إلى غير أزواجهن؛ مهذّبات في الخلق والخلق؛ طاهرات من كل دنس وعيب. قوله تعالى: {وَهُمْ فِيها خالِدُونَ} (25)؛ أي هم مع هذه الكرامات دائمون لا يموتون ولا يخرجون أبدا.
وسئل الرّسول صلى الله عليه وسلم مرّة: ما بال أهل الجنّة عملوا في عمر قصير فخلّدوا في الجنّة؛ وما بال أهل النّار عملوا في عمر قصير فخلّدوا في النّار؟ فقال: [كلّ واحد من الفريقين يعتقد أنّه لو عاش أبدا عمل ذلك العمل].
والبشارة المطلقة هو الخبر السارّ الذي يحدث عند الاستبشار والسرور، وإن كان قد يستعمل مقيّدا فيما يسوء، كما قال تعالى:{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ}
(1)
.ولهذا
(1)
آل عمران 21/. البشارة: اسم لخبر يغيّر بشرة الوجه مطلقا، سارّا كان أم محزنا، إلا أنه غلب استعمالها في الأوّل، وصار اللفظ حقيقة له بحكم العرف حتى لا يفهم منه غيره. واعتبر فيه الصدق على ما نصّ عليه في الكتب الفقهية. فالمعنى العرفي للبشارة هو الخبر الصّدق السارّ الذي ليس عند المخبر به علمه. واستبشر إذا وجد ما يسرّه من الفرح، قال الله تعالى: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ [آل عمران:170] وقال الله تعالى: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ [آل عمران:171].
ووجود المبشّر به وقت البشارة ليس بلازم، لقوله تعالى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا [الصافات: 112] وقال الله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ [الروم:46].وفي الحديث قال عليه الصلاة والسلام: [انقطع الوحي ولم يبق إلاّ المبشّرات، وهي الرّؤيا الصّالحة يراها المؤمن].
والبشارة المطلقة بالخير قال الله تعالى: وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ [فصلت:30] ولا تكون بالشرّ إلا بالتقييد كما أن النّذارة تكون على إطلاق لفظها في الشرّ، قال الله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [التوبة:3].
قال علماؤنا فيمن قال: أيّ عبيدي بشّرني بقدوم فلان فهو حرّ، فبشّره جماعة من عبيده واحد بعد واحد؛ أنّ الأوّل يعتق دون غيره؛ لأن البشارة حصلت بخبره خاصّة؛ بخلاف ما إذا قال: أيّ عبيدي أخبرني بقدوم فلان، فأخبره واحد بعد واحد فإنّهم يعتقون جميعا
(1)
.
قوله تعالى: {*إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها،} هذا مثل آخر للمنافقين؛ وسببه لمّا ذكر الله في المنافقين المثلين المتقدّمين قالوا: إنّ الله تعالى أجل وأعلى من أن يضرب هذه الأمثال؛ فأنزل الله هذه الآية لأن البعوضة تحيى ما دامت جائعة فإذا شبعت هلكت؛ فكذلك المنافقون يحيون ما افتقروا وإذا شبعوا بطروا وهلكوا. فكأنّه قال تعالى: كيف أستحي من ضرب المثل في المنافقين وأنا أضربه بالبعوض الذي هو مثلهم.
وقيل: إنّ المشركين لمّا نزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً}
(2)
وقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ}
(3)
قالوا: إن الله تعالى يضرب المثل بالذّباب والعنكبوت؛ فأنزل الله هذه الآية كأنه قال: لا أستحي بضرب المثل بالبعوض والعنكبوت مع صغرهما فإنّهما يعجزان آلهتهم.
ومعنى الآية: أنّ الله لا يمنعه الحياء أن يضرب الحقّ شبها ما بعوضة فما أكبر منها مثل الذّباب وغيره. وقيل: فما فوقها في الصّغر.
قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ؛} أي فيعلمون أنّ المثل حقّ من ربهم؛ وأما الكافرون فيقولون: أيّ شيء أراد الله بذكر البعوض والذباب مثلا.
(1)
لأن البشارة الخبر الذي يظهر السّرور، وعتق المبشّر أن خبره أفاد ذلك، ولو قال مكان بشّرني: أخبرني، عتقوا جميعا؛ لأنّهم جميعا أخبروه.
(2)
الحج:73.
(3)
العنكبوت:41.
قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً؛} أي قل لهم يا محمّد: يضلّ ويخذل بالمثل كثيرا من الناس، ويوفّق لمعرفته كثيرا، {وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ} (26)؛يعني الخارجين عن طاعة الله. قيل: هم اليهود في هذه الآية.
وأمّا في قوله: {(مَثَلاً ما)} قيل: نكرة معناه أن يضرب مثالا شيئا من الأشياء بعوضة فما فوقها. وقيل: الأصحّ أنّها زائدة مثل {فَبِما نَقْضِهِمْ}
(1)
ولا إعراب لها فيتخطّاها الناصب والخافض إلى ما بعدها. وقيل: نصب بعوضة على معنى ما بين بعوضة إلى ما فوقها؛ فإذا ألقى (بين) و (إلى) نصب
(2)
.ويقال في الكلام: هي أحسن الناس ما قرنا
(3)
،ومدّ {(ما)} .قوله تعالى {(مَثَلاً)} نصب على القطع عند الكوفيّين؛ غير أنّه قطع الإضافة؛ أي بهذا المثل. وعند البصريّين على الحال؛ أي ما أراد الله بالمثل في هذه الحالة.
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ؛} نعت للفاسقين. ومن جعله مبتدأ وقف على الفاسقين. وقوله تعالى: {(يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ)} أي يتركون أمر الله ووصيّته من بعد تغليظه وتوكيده. والعهد: ما أخذه الله على النبيّين ومن اتّبعهم أن لا يكفروا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ويبيّنوا نعته وصفته. وقوله تعالى:
{وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ،} يعني الرحم الذي أمرهم بصلته، {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} (27).
(1)
النساء 155/.
(2)
في نصبها أربعة أوجه؛ نقلها القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 1 ص 242 - 243.
(3)
أصله: (هي أحسن الناس ما قرنا فقدما) حذف ذكر (بين) و (إلى) أي ألقاهما وأدخل الفاء في (ما) الثانية دلالة عليهما، فنصب (بعوضة) على إسقاط الخافض، فأصله (ما بين بعوضة) فلما ألقى (بين) أعربت (بعوضة) بإعرابها، وكانت الفاء في قوله:(فما فوقها) بمعنى (إلى) أي إلى ما فوقها. فقولهم: (هي أحسن الناس ما قرنا فقدما) يعنون ما بين قرنها إلى قدمها. وأنشدوا:
يا أحسن النّاس ما قرنا فقدما ولا حبال محبّ وأصل تصل أي ما بين قرن إلى قدم، فلما أسقط (بين) نصب.
قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً؛} أي وكنتم نطفا في أصلاب آبائكم، {فَأَحْياكُمْ،} في أرحام أمهاتكم، وأخرجكم نسما صغارا، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ،} عند انقضاء آجالكم، {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ،} للبعث، {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (28)،في الآخرة.
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً؛} يعني من الشّجر والثمار والدواب، {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ،} فإن قيل:
هذه الآية تقتضي أن خلق السماء بعد الأرض؛ وقال تعالى في آية أخرى: {أَمِ السَّماءُ بَناها} ثم قال: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها؟} قيل: مجموع الآيتين يدلّ على أن خلق الأرض قبل السّماء؛ إلا أنّ بسط الأرض بعد خلق السّماء، {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (29).
قوله تعالى: {وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً؛} يعني آدم وذريّته. واختلفوا في معنى الخليفة، فروي: أنّ رجلا سأل طلحة والزّبير وكعبا وسلمان: ما الخليفة؛ وما الملك؟ فقال طلحة والزّبير: (ما ندري) وقال سلمان: (الخليفة: هو الّذي يعدل في رعيّته ويقسم بينهم بالسّويّة ويشفق عليهم شفقة الرّجل على أهله والوالد على ولده؛ ويقضي بكتاب الله تعالى).فقال كعب:
(ما كنت أحسب أن أحدا يفرّق الخليفة من الملك غيري؛ ولكنّ الله ملأ سلمان علما وحلما وعدلا).
وروي أنّ عمر رضي الله عنه قال لسلمان: أملك أنا أم خليفة؟ قال سلمان: (إن أنت جبيت أرض المسلمين درهما أو أكثر أو أقلّ؛ ووضعته في غير حقّه!! فأنت ملك.
وإن أنت فعلت بالعدل والإنصاف فأنت خليفة) فاستغفر عمر رضي الله عنه.
وروي أنّ معاوية كان يقول إذا جلس على المنبر: (يا أيّها النّاس إنّ الخلافة ليست بجمع المال ولا تفريقه؛ ولكنّ الخلافة العمل بالحقّ؛ والحكم بالعدل؛ وأخذ النّاس بأمر الله عز وجل
(1)
.
(1)
في المخطوط: أدرج الناسخ عبارة قال: (كذا في تفسير الثعلبيّ رحمه الله.والثعلبي الإمام-
قوله تعالى: {قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها؛} أي يعصيك فيها؛ {وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؛} أي نبرّيك من السّوء ونصلّي لك ونطهّر أنفسنا لك. وقيل: اللام في {(نُقَدِّسُ لَكَ)} زائدة؛ أي نقدّسك.
وقوله تعالى: {قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ} (30)،أي أعلم أنه سيكون فيهم أنبياء وقوم صالحون يسبحون بحمدي ويقدّسون لي ويطيعون أمري.
وروي: (أنّ الله لمّا خلق الأرض جعل سكّانها الجنّ بني الجان؛ وجعل سكّان السّماوات الملائكة؛ لأهل كلّ سماء عبادة أهون من الّتي فوقها، وكان إبليس مع جند من الملائكة في سماء الدّنيا؛ وكان رئيسهم واسمه عزازيل. فلمّا أفسدت الجنّ بني الجان الّذين سكنوا الأرض فيما بينهم وسفكوا الدّماء وعملوا المعاصي بعث الله إليهم إبليس مع جنده؛ فهبطوا إلى الأرض وأجلوا الجنّ منها؛ وألحقوهم بجزائر البحار؛ وسكن إبليس والجند الّذين معه في الأرض. فلمّا أراد الله أن يخلق آدم وذرّيّته؛ قال للملائكة الّذين كانوا مع إبليس في الأرض: {(إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)}. فتعجّبوا
(1)
من ذلك؛ و {(قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها)} كما فعلت الجنّ بنو الجان {(وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)} فلمّا قالوا هذا القول خرجت لهم نار من الحجب واحترقت عشرة آلاف ملك منهم وأعرض الرّبّ سبحانه عن الباقين حتّى طافوا حول العرش سبع سنين يقولون: لبّيك اللهمّ لبّيك اعتذارا إليك.
قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها؛} وذلك أنّ الله لمّا قال للملائكة: {(إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)} قالوا فيما بينهم: يخلق ربّنا ما يشاء؛ فلن يخلق خلقا أفضل ولا أكرم عليه منّا. وإن كان خيرا منّا فنحن أعلم منه؛ لأنّا خلقنا قبله ورأينا ما لم يره؛ فلمّا أعجبوا بعملهم وعبادتهم فضّل الله آدم عليهم بالعلم فعلّمه الأسماء كلّها؛ وهي أسماء الملائكة؛ وقيل: أسماء ذرّيّته؛ وقال ابن عبّاس:
(1)
-المفسر أبو إسحاق أحمد بن محمّد النيسابوري (ت 427 هـ) وله تفسير (الكشف والبيان في تفسير القرآن).ونقل ما ذكره الطبراني بلفظ قريب في: ج 1 ص 177،ط دار إحياء التراث العربي.
(1)
في المخطوط: (فتعبوا)،والمناسب ما أثبتناه، والله أعلم.
[أسماء كلّ شيء من الدّواب والطّيور والأمتعة حتّى الشّاة والبقر والبعير وحتى القصعة والسّكرّجة
(1)
]
(2)
.وقيل: أسماء كلّ شيء من الحيوان والجمادات وغيرها؛ فقيل: هذا فرس وهذا حمار وهذا بغل حتى أتى على آخرها.
{ثُمَّ عَرَضَهُمْ،} أي عرض تلك الشّخوص المسمّيات، {عَلَى الْمَلائِكَةِ،} ولم يقل عرضها ردّة إلى الشخوص المسميات؛ لأن الأعراض لا تعرض؛ وإن شئت قلت: لأن فيهم من يعقل فغلبهم. وفي قراءة أبي: «(ثمّ عرضها)» .
وقال الضحّاك: (علّم الله آدم أسماء الخلق والقرى والمدن والأجيال وأسماء الطّير والشّجر؛ وأسماء ما كان وما يكون وكلّ نسمة الله باديها إلى يوم القيامة).
وعرض تلك الأسماء على الملائكة؛ {فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} (31)؛بأن الخليفة الذي أجعله: يفسد فيها ويسفك الدّماء؟ أراد بذلك: كيف تدّعون علم ما لم يكن وأنتم لا تعلمون علم ما ترون وتعاينون؟!
وقال الحسن وقتادة: (معناه إن كنتم صادقين أنّي لا أخلق خلقا إلاّ كنتم أعلم منه وأفضل!!)
(3)
.
فقالت الملائكة إقرارا بالعجز واعتذارا: {قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاّ ما عَلَّمْتَنا؛} أي تنزيها لك عن الاعتراض في حكمك وتدبيرك، {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (32)،في أمرك.
و {(سُبْحانَكَ)} منصوب على المصدر؛ أي نسبح سبحانا في قول الخليل؛ وقيل:
على النّداء المضاف؛ أي يا سبحانك. قوله تعالى: {(الْحَكِيمُ)} له معنيان؛ أحدهما:
المحكم للفعل كقولهم: عذاب أليم؛ أي مؤلم. وضرب وجميع؛ أي موجع؛ فعلى هذا هو صفة فعل. والآخر: بمعنى الحاكم؛ فحينئذ يكون صفة ذات.
(1)
السّكرّجة: جاءت في الحديث [لا آكل في سكرّجة] هي بضم السين والكاف والراء والتشديد: إناء صغير يؤكل فيه الشيء القليل من الأدم، وهي فارسية معربة. لسان العرب:(سكرج)
(2)
أخرجه ابن جرير الطبري في جامع البيان: الرقم (539 بلفظ قريب.
(3)
أخرجه ابن جرير الطبري في جامع البيان: الرقم (561) بلفظ قريب.
قوله تعالى: {قالَ يا آدَمُ؛} الأدمة: لون مشرّب بسواد؛ وقيل: هي كلّ لون يشبه لون التّراب؛ فلما ظهر عجز الملائكة قال الله تعالى: يا آدم؛ {أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ؛} أي أخبرهم بأسمائهم؛ فسمّى كلّ شيء باسمه وألحق كلّ شيء بجنسه، {فَلَمّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ،} الله: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ،} يا ملائكتي، {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ،} وما كان فيها وما يكون، {وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ،} من الخضوع والطّاعة لآدم، {وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (33)؛في أنفسكم له من العداوة؛ وقيل: ما تبدون من الإقرار بالعجز والاعتذار وما كنتم تكتمون من الكراهة في استخلاف آدم عليه السلام.
وقيل: معناه: أعلم ما أظهرتم من الطاعة وما أضمر إبليس من المعصية لله تعالى في الأمر بالطاعة لآدم عليه السلام؛ وذلك أنّ الله تعالى لمّا صوّر آدم ورآه إبليس قال للملائكة الذين معه: أرأيتم هذا الذي لم تروا من الخلائق مثله إن أمركم الله بطاعته ماذا تصنعون؟ قالوا: نطيع. وأضمر الخبيث في نفسه أنه لا يطيع. وقيل: معناه:
{(أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ)} يعني قولهم: {(أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها)،} {(وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)} يعني قولهم: لن يخلق الله خلقا أفضل ولا أكرم ولا أعلم عليه منّا.
فإن قيل في قوله تعالى: {(أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ)} أمر تكليف ما لا يطاق؛ فهل يجوز تكليف ما لا يطاق؟ قلنا: الصحيح أنه ليس بتكليف. وهذا كمن يلقي المسألة على من يتعلّم منه، فيقول: أخبرني بجواب هذه المسألة؟ ولا يريد بذلك أن يأمره بجوابها؛ لأنه يعلم أنه لا يعرفه. بل يقصد أن يقرر عليه أنه لا يعرف جوابها؛ ليكون أشدّ حرصا على تعلّم تلك المسألة.
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ} (34)؛ظاهر الآية: أن إبليس كان من الملائكة؛ لأنه مستثنى منهم، وإلى هذا ذهب جماعة من العلماء، وقالوا: معنى قوله في آية أخرى: {إِلاّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ}
(1)
يعني من خزّان الجنان. وذهب جماعة آخرون
(1)
الكهف:50.
إلى أنه من أولاد الجانّ؛ لأنه مخلوق من نار وله ذرية، والملائكة من نور وليس لهم ذرية. فعلى هذا يكون مستثنى منقطعا؛ مثل قوله تعالى:{ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ}
(1)
.
وقيل: سبب كونه مع الملائكة: إن الملائكة لمّا حاربت الجنّ سبوا إبليس صغيرا فنشأ معهم؛ فلما أمرت الملائكة بالسّجود امتنع وكفر وعاد إلى أصله.
وقوله تعالى: {(اسْجُدُوا لِآدَمَ)} هو سجود تعظيم وتحيّة لا سجود صلاة وعبادة؛ نظيره في قصّة يوسف عليه السلام: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً}
(2)
وكان ذلك تحيّة الناس وتعظيم بعضهم بعضا؛ ولم يكن وضع الوجه على الأرض وإنّما كان الانحناء. فلما جاء الإسلام أبطل ذلك بالسّلام؛ وفي الحديث: أنّ معاذ بن جبل لمّا رجع من اليمن سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتغيّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:[ما هذا؟] قال: رأيت اليهود يسجدون لأحبارهم والنّصارى يسجدون لقسّيسهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مه يا معاذ! كذب اليهود والنّصارى؛ إنّما السّجود لله عز وجل]
(3)
.
(1)
النساء:157.
(2)
يوسف:100.
(3)
رواه الطبراني في المعجم الكبير: ج 8 ص 31:الحديث (7294) بلفظ: [كذبوا على أنبيائهم كما حرّفوا كتابهم، لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها]،وفيه النهّاس بن قهم القيسي، أبو الخطاب البصري، ضعيف، ترجم له ابن حجر في تهذيب التهذيب: الرقم (7477).
في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: كتاب النكاح: باب حق الزوج على المرأة: ج 4 ص 309؛ قال الهيثمي: «رواه البزار بإسنادين والطبراني، وأحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح» . وقال: «رواه بتمامه البزار وأحمد باختصار ورجاله رجال الصحيح» .
والحديث صحيح وله شواهد وردت في حديث جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منها حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقّه عليها]. رواه النسائي في السنن الكبرى: كتاب عشرة النساء: حق الرجل على المرأة: الحديث (1/ 9147).
ومنها حديث قيس بن سعد رضي الله عنهما قال: أتيت الحيرة، فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فقلت: رسول الله أحقّ أن يسجد له، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحقّ أن يسجد لك؟ قال: [أرأيت لو مررت-
وقال بعضهم: سجدوا على الحقيقة؛ جعل آدم قبلة لهم؛ والسجود لله كما جعلت الكعبة قبلة لصلاة المؤمنين والصلاة لله عز وجل. وإنّما سمّي آدم لأنه خلق من التّراب؛ والتراب بلسان العبرانيّة آدم بالمدّ؛ ومنهم من قال: سمّي بذلك لأنه كان آدم اللّون. وكنيته: أبو محمّد؛ وأبو البشر.
وقوله: {(إِلاّ إِبْلِيسَ)} منصوب على الاستثناء؛ ولا ينصرف للعجمة والمعرفة.
وقوله تعالى: {(وَاسْتَكْبَرَ)} أي تكبّر وتعظّم عن السجود لآدم.
وقوله تعالى: {(وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ)} أي وصار من الكافرين كقوله تعالى:
(1)
.وقال أكثر المفسّرين: معناه: وكان في علمه السابق من الكافرين الذين وجبت لهم الشقاوة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا قرأ ابن آدم السّجدة وسجد، اعتزل الشّيطان يبكي؛ ويقول: يا ويله أمر ابن آدم بالسّجود فسجد فله الجنّة؛ وأمرت بالسّجود فأبيت فلي النّار]
(2)
.
قوله عز وجل: {وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ؛} وذلك أنّ آدم كان في الجنّة وحشيّا؛ لم يكن له من يجالسه ويؤانسه؛ فنام نومة فخلق الله تعالى زوجته حوّاء من قصيراه؛ من شقّه الأيسر من غير أن أحسّ آدم بذلك ولا وجد له ألما؛ ولو ألم من ذلك لما عطف رجل على امرأة؛ فلمّا هبّ آدم من نومه إذ هو بحوّاء جالسة عند رأسه كأحسن ما خلق الله. قال لها: من أنت؟ قالت: زوجتك! خلقني الله لك.
(3)
-بقبري؛ أكنت تسجد له؟] قلت: لا. قال: [لا تفعلوا، لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت النّساء أن يسجدن لأزواجهنّ لما جعل الله لهم عليهنّ من حقّ].رواه أبو داود في السنن: كتاب النكاح: الحديث (2140).والحاكم في المستدرك: كتاب النكاح: باب التشديد في العدل بين النساء: الحديث (2817).وفي إسناده شريك بن عبد الله بن أبي شريك القاضي، صدوق ثقة، سيء الحفظ، ترجم له ابن حجر في تهذيب التهذيب: الرقم (2864).
(1)
هود:43.
(2)
الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ رواه مسلم في الصحيح: كتاب الإيمان: باب إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة: الحديث (81/ 133).وابن ماجة في السنن: كتاب إقامة الصلاة: باب سجود القرآن: الحديث (1052).
فقالت الملائكة عند ذلك امتحانا له: ما هذه يا آدم؟ قال: امرأة، قالوا: وما اسمها؟ قال: حوّاء، قالوا: ولم سمّيت حوّاء. قال: لأنّها خلقت من حيّ، قالوا: يا آدم أتحبّها؟ قال: نعم، قالوا لحوّاء: أتحبينه يا حوّاء؟ قالت: لا، وفي قلبها أضعاف ما في قلبه من حبه، فلو صدقت امرأة في حبها لزوجها لصدقت حوّاء.
قوله تعالى: {وَكُلا مِنْها رَغَداً؛} أي واسعا كثيرا، {حَيْثُ شِئْتُما؛} وأين شئتما وكيف شئتما، {وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ؛} قيل: هي الكرم؛ وقيل:
التين؛ وقيل: شجرة من أحسن أشجار الجنّة عليها كلّ نوع من أطعمة الجنّة؛ ثمرها مثل كلية البقرة؛ ألين من الزّبد؛ وأحلى من الشّهد؛ وأشدّ بياضا من اللّبن.
قوله تعالى: {فَتَكُونا مِنَ الظّالِمِينَ} (35)،أي فتصيرا من الضارّين لأنفسكما بالمعصية؛ وأصل الظّلم: وضع الشّيء في غير موضعه.
قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها؛} أي عن الجنّة؛ ومعنى أزلّهما استزلّهما، وقراءة حمزة:«(فأزالهما الشّيطان)» وهو إبليس؛ وهو فيعال من شطن؛ أي بعد، سمّي بذلك لبعده عن الخير وعن رحمة الله. وقوله عز وجل:{فَأَخْرَجَهُما مِمّا كانا فِيهِ؛} أي من النّعيم.
وذلك أنّ إبليس أراد أن يدخل الجنّة ليوسوس لآدم؛ فمنعه الخزنة؛ فأتى الحيّة وكانت من أحسن الدّواب لها أربع قوائم كقوائم البعير، وكانت من خزّان الجنة؛ ولإبليس صديقا، فسألها أن تدخله في فمها فأدخلته في فمها؛ ومرّت به على الخزنة وهم لا يعلمون. فلما دخل الجنّة وقف بين يدي آدم وحوّاء فناح عليهما نياحة وبكى؛ وهو أوّل من ناح. فقالا له: ما يبكيك؟ قال: أبكي عليكما تموتان وتفارقان ما أنتما فيه من النعيم والكرامة. فاغتمّا لذلك! فقال: يا آدم هل أدلّك على شجرة الخلد؟ فأبى أن يقبل منه. فقاسمهما بالله إنّي لكما من الناصحين. فاغترّا. وما كانا يظنّان أن أحدا يحلف بالله كاذبا. فبادرت حوّاء إلى أكل الشجرة؛ ثم ناولت آدم حتى أكلها
(1)
.
(1)
أصله عن وهب بن منبه يحكيه، أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (619).وروي عن ابن عباس، أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (620).
روي: أن سعيد بن المسيب كان يحلف بالله ما يستثني: ما أكل آدم من الشّجرة وهو يعقل، ولكن حوّاء سقته الخمر حتى إذا سكن مأربه إليها فأكل، فلما أكل تهافتت عنهما ثيابهما؛ وبدت سوءاتهما وأخرجا من الجنّة.
قيل: إن آدم دخل الجنة عند الضّحوة؛ وأخرج ما بين الصّلاتين، مكث نصف يوم من أيّام الآخرة؛ وهي خمسمائة عام.
مسألة: قالت القدرية: إن الجنّة التي أسكنها آدم لم تكن جنّة الخلد، وإنّما كانت بستانا من بساتين الدّنيا؟ قالوا: لأنّ الجنّة لا يكون فيها ابتلاء؛ ولا تكليف.
الجواب: أنّا قد أجمعنا على أنّ أهل الجنّة مأمورون فيها بالمعروف ومكلّفون ذلك. وجواب آخر: أن الله قادر على الجمع بين الأضداد؛ فأري آدم المحنة في الجنّة؛ وأري إبراهيم النعيم في النار؛ لئلاّ يأمن العبد ربّه؛ ولا يقنط من رحمته. وليعلم: أن الله له أن يفعل ما يشاء.
واحتجّوا بأن من دخل الجنّة يستحيل عليه الخروج منها. فالجواب: أن من دخلها للثواب لا يخرج منها أبدا؛ وآدم لم يدخلها للثواب، ألا ترى أن رضوان وخزّان الجنان يدخلونها ثم يخرجون منها وإبليس كان خازن الجنّة فأخرج منها.
قوله عز وجل: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ؛} أي قلنا لآدم وحواء وإبليس والحيّة والطاوس: انزلوا إلى الأرض {(بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)} فإبليس عدوّ لآدم وذريته؛ والحيّة تلدغ ابن آدم؛ وابن آدم يشدخ رأسها.
قيل: إن إبليس قال لآدم وحوّاء: أيّكما أكل من الشجرة كان مسلّطا على صاحبه؛ فابتدءا إلى الشجرة؛ فسبقت حوّاء فأكلت منها؛ وأطعمت آدم. وقيل: إن آدم قال لها: يا حوّاء ويحك ما تعلمين أن الله قد نهانا عنها. فقالت: أما تعلم سعة رحمة الله، فأكلت منها وأطعمته.
قيل: إن إبليس لمّا دخل إلى الجنة في فم الحية سأل الطاوس عن الشجرة التي نهى الله آدم وحوّاء عنها؛ فدلّ عليها. فغضب الله على الطاوس فأهبطه بميسان؛ وهو موضع بسواد العراق. وأهبط إبليس بساحل بحر أيليّة؛ وهي مدينة إلى جنب البصرة. وأهبطت الحيّة بأصبهان.
قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ} (36)؛أي إلى وقت انقضاء آجالكم ومنتهى أعماركم. روي: أن إبراهيم بن أدهم كان يقول:
(أورثتنا تلك الأكلة حزنا طويلا).
قوله تعالى: {فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ؛} قرأ ابن كثير بنصب {(آدَمُ)} ورفع {(كَلِماتٍ)} بمعنى جاءت الكلمات آدم من ربه. وفي قوله تعالى:
{(فَتابَ عَلَيْهِ)} اختصار وتقليب المذكور؛ وإلا فهو قد تاب عليه وعلى حوّاء.
واختلفوا في الكلمات التي تلقّاها آدم، قيل: نزل بها جبريل؛ وهي:
[سبحانك لا إله إلاّ أنت وبحمدك؛ عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي وارحمني وأنت خير الرّاحمين، سبحانك لا إله إلاّ أنت وبحمدك؛ عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي إنّك أنت الغفور الرّحيم؛ سبحانك لا إله إلاّ أنت وبحمدك؛ عملت سوءا وظلمت نفسي فتب عليّ إنّك أنت التّوّاب الرّحيم].هكذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وعن ابن عباس أنّها: [ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين]
(2)
.وروي أنه قال: [يا ربّ؛ أرأيت ما أتيت؛ شيء أبتدعه من نفسي، أو شيء قدّرته عليّ قبل أن تخلقني؟ فقال: بل شيئا قدّرته عليك قبل أن أخلقك، قال:
يا رب فكما قدّرته عليّ فاغفر لي]
(3)
.
(1)
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: باب في معالجة كل ذنب بالتوبة: النص (7173) عن أنس رضي الله عنه، وقال البيهقي:«ذكر أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن شكّ فيه» .ونقل السيوطي في الدر المنثور: ج 1 ص 145 أنه أخرجه ابن عساكر عن أنس أيضا.
(2)
في الدر المنثور: ج 1 ص 144 نقل السيوطي قال: «أخرجه الثعالبي من طريق عكرمة عن ابن عباس» .
(3)
في الدر المنثور: ج 1 ص 144؛ قال السيوطي: «أخرجه وكيع وعبد بن حميد وأبو الشيخ في العظمة، وأبو نعيم في الحلية عن عبيد بن عمير الليثي» .وأخرجه أبو نعيم في الحلية: ج 3 ص 273 مختصرا عن عبيد بن عمير التابعي. والطبري في جامع البيان: النص (454).
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [تحاجّ آدم وموسى؛ فقال له موسى: أنت آدم الّذي أغويت النّاس؛ وأخرجتهم من الجنّة إلى الأرض، فقال له آدم: أنت موسى الّذي أعطاك الله علم كلّ شيء؛ واصطفاك على النّاس بالرّسالة. قال: نعم. قال: أتلومني على أمر كان قد كتب عليّ أن أفعله من قبل أن أخلق. فحجّ آدم موسى]
(1)
.
وعن شهر بن حوشب قال: [بلغني أنّ آدم لمّا أهبط إلى الأرض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه حياء من الله عز وجل].وقال ابن عباس: [بكى آدم وحوّاء على ما فاتهما من نعيم الجنّة؛ ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوما؛ ولم يقرب آدم حوّاء مائة سنة].
وقوله تعالى: {(فَتابَ عَلَيْهِ)} أي تجاوز عنه، {إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ} (37)؛ أي يقبل توبة عباده؛ رحيم بخلقه.
وقوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً؛} آدم وحواء وإبليس والحية والطاوس، {فَإِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً؛} أي كتاب ورسول، {فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ،} فيما يستقبلهم، {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (38)،على ما خلّفوا.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا؛} يعني القرآن، {أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} (39)،لا يخرجون منها
(2)
.
قوله عز وجل: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ؛} أي يا أولاد يعقوب. ومعنى إسرائيل يعني: صفوة الله، و (إيل) هو الله. وقيل:(إسر) هو العبد، و (إيل) هو الله، فمعناه:
عبد الله. وهو خطاب لليهود والنصارى.
وإنّما سمي يعقوب؛ لأن يعقوب وعيصا كانا توأمين، فاقتتلا في بطن أمهما؛ فأراد يعقوب أن يخرج فمنعه عيص وقال: والله لإن خرجت قبلي لأعترضنّ في بطن
(1)
رواه الإمام مالك في الموطأ: كتاب القدر: باب النهي عن القول بالقدر: الحديث (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه. والإمام أحمد في المسند: ج 2 ص 314،وإسناده على شرط الشيخين وأخرجاه.
(2)
الصّحبة: الاقتران بالشيء في حالة ما، فإن كانت الملازمة والخلطة فهي كمال الصّحبة.
أمي فأقتلها، فتأخّر يعقوب وخرج عيص وأخذ يعقوب بعقبه فخرج بعده فسمي يعقوب؛ فلذلك سمي عيصا لمّا عصي فخرج قبل يعقوب وكان عيص أحبهما إلى أبيه؛ وكان يعقوب أحبّهما إلى أمه؛ وكان عيص صاحب صيد؛ فلما كبر إسحاق وعمي قال لعيص: يا بنيّ أطعمني لحم صيد واقترب مني حتى أدعو لك بدعاء دعا لي به أبي إبراهيم عليه السلام وكان عيص رجلا أشعر؛ وكان يعقوب أجرد، فخرج عيص وطلب الصيد، فقالت أمه ليعقوب: يا بنيّ اذهب إلى الغنم فاذبح شاة منها ثم اشوها والبس جلدها وقدّمها إلى أبيك، وقل أنا ابنك عيص، ففعل ذلك يعقوب، فلما جاء قال: يا أبتاه، كل. قال: من أنت؟ قال: ابنك عيص. فمسّه فقال: المسّ مسّ عيص والريح ريح يعقوب، فقالت أمه: هو ابنك عيص فادع له. قال: قدّم طعامك. فقدمه فأكل منه، ثم قال: ادن مني، فدنى منه فدعا له أن يجعل الله في ذرّيته الأنبياء والملوك.
وذهب يعقوب فجاء عيص، فقال: قد جئتك بالصيد الذي أردته، قال: يا بني قد سبقك أخوك يعقوب، فغضب وقال: والله لأقتلنّه. فقال إسحاق: يا بني قد بقيت لك دعوة فهلمّ أدعو لك بها، فدعا أن تكون ذريته عدد التراب؛ وأن لا يملكهم أحد غيرهم
(1)
.
قوله تعالى: {اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ؛} أي احفظوا واشكروا.
قال الحسن: (ذكر النّعمة شكرها)
(2)
.قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [المتحدّث بنعم الله شاكر، وتاركها كافر]
(3)
.وقوله تعالى: (نعمتي) أراد نعمي؛ لفظها واحد ومعناها
(1)
ينظر: الكتاب المقدس: سفر التكوين: إسحاق يبارك يعقوب (27):ص 32.طبعة العهد الجديد، الإصدار الرابع (1993)،الطبعة الثلاثون، جمعية الكتاب المقدس لبنان.
(2)
في الدر المنثور: ج 8 ص 546؛ قال السيوطي: «وأخرج البيهقي عن الحسن قال: أكثروا ذكر هذه النعمة، فإن ذكرها شكر» ونقل عن ابن أبي حاتم قال: «عن الحسن بن علي في قوله تعالى: وَأَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ قال: (إذا أصبت خيرا فحدّث إخوانك) .. » .وأخرج ابن جرير الطبري في جامع البيان عن أبي نضرة قال: «كان المسلمون يرون أن من شكر النعمة أن يحدّث بها» .
(3)
عن أنس بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر: [من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر النّاس لم يشكر الله، والتّحدّث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، والجماعة رحمة]. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: باب في در السّلام: فصل في المكافأة بالصنائع: الحديث-
جمع؛ نظيرها قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها}
(1)
.والعدد لا يقع على الواحد.
وقوله تعالى: {(أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ)} أي على أجدادكم وأسلافكم؛ وذلك أن الله تعالى فلق لهم البحر فأنجاهم من فرعون وأهلك عدوّهم وأورثهم ديارهم وأموالهم وظلّل عليهم الغمام في التيه تقيهم حرّ الشمس، وجعل لهم عمودا من نور يضيء لهم بالليل؛ إذا لم يكن ضوء القمر، وأنزل عليهم المنّ والسلوى، وفجّر لهم اثني عشر عينا؛ وأنزل عليهم التوراة فيها بيان كلّ شيء يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم، فهذه نعم من الله كثيرة لا تحصى.
وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي؛} أي الذي عهدت إليكم في التوراة، {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ،} أي أدخلكم الجنة وأنجز لكم ما وعدتكم. وقرأ الزهري:
(أوفّ) بالتشديد على التأكيد؛ يقال: وفى ووافى ووفّى بمعنى واحد. قيل: إن الله تعالى كان قد عهد إلى بني إسرائيل في التّوراة: إنّي باعث من بني إسماعيل نبيّا أمّيا فاتبعوه، فمن تبعه وصدّق بالنور الذي يأتي به غفرت له ذنوبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين؛ أجرا باتّباعه ما جاء به موسى والأنبياء من بني إسرائيل؛ وأجرا باتباعه ما جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم.
وقال قتادة: (هو العهد الّذي أخذه الله عليهم في قوله: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} إلى قوله: {قَرْضاً حَسَناً} فهذا قوله
(3)
- (9119) وإسناده ضعيف.
ونقل السيوطي في الدر المنثور: ج 8 ص 546؛قال: «وأخرج أحمد وأبو داود عن جابر ابن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من أعطي عطاء فوجده فليجز به، فإن لم يجد فليثن به، فمن أثنى به فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره]» .
رواه أبو داود في السنن: كتاب الأدب: باب شكر المعروف: الحديث (4813) وفي إسناده من يكره فأبهم، وأخرجه بإسناد آخر ولفظ قريب [من أبلى بلاء فذكره]:الحديث (4814) وإسناده حسن، ولعله يقوى به.
(1)
إبراهيم:34.
{(وَأَوْفُوا بِعَهْدِي)،} ثمّ قال: {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ} الآية، فهذا قوله:{(أُوفِ بِعَهْدِكُمْ»} . وقيل: معناه: أوفوا إليّ بشرط العبوديّة أوف بشرط الرّبوبيّة.
وقال أهل الإشارة: أوفوا بعهدي في دار محنتي بحفظ حرمتي أوف بعهدكم في دار نعمتي على بساط كرامتي بقربي ورؤيتي.
قوله تعالى: {وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ} (40)،أي خافوني في نقض العهد.
قوله تعالى: {وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ،} يعني القرآن، {مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ؛} أي موافقا لما معكم من التّوراة والإنجيل وسائر الكتب في التّوحيد والنبوّة وبعض الشرائع. نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه من علماء اليهود ورؤسائهم.
{وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ؛} أي لا تكونوا أوّل من يكفر بالقرآن فيتابعكم اليهود على ذلك.
وقوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً؛} وذلك أنّ علماء اليهود ورؤساءهم كانت لهم مآكل يصيبونها من سفلتهم وعوامّهم؛ يأخذون منهم شيئا معلوما كلّ عام من زرعهم وضروعهم ونقودهم؛ فخافوا أنّهم إن سمعوا محمّدا صلى الله عليه وسلم وتابعوه وآمنوا به تفوتهم تلك المآكل والرئاسة واختاروا الدّنيا على الآخرة. والهاء في قوله {(كافِرٍ بِهِ)} عائدة إلى ما أنزلت على محمّد؛ ويجوز أن تكون عائدة إلى قوله:
{(لِما مَعَكُمْ)} لأنّهم كتموا نعت محمّد صلى الله عليه وسلم وصفته في التّوراة؛ فإذا كفروا بالقرآن فقد كفروا بالتوراة. وقوله تعالى: {وَإِيّايَ فَاتَّقُونِ} (41)؛أي فاخشون في أمر محمّد صلى الله عليه وسلم ولا ما يفوتكم من الرئاسة والمآكل.
قوله عز وجل: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ،} قال مقاتل: (وذلك لأنّ اليهود أقرّوا ببعض صفة محمّد صلى الله عليه وسلم وكتموا بعضها ليصدّقوا في ذلك؛ فقال الله تعالى: {(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ)} الّذي تقرّون به وتبيّنونه {بِالْباطِلِ،} الّذي تكتمونه. فالحقّ
بيانه والباطل كتمانه).وقيل: معناه: لا تكتموا الحقّ بالباطل هو إيمانهم ببعض ما جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم وكفرهم ببعضه. {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ؛} يعني نعت النبيّ صلى الله عليه وسلم وصفته.
قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (42)؛أي تعلمون أنه نبيّ مرسل؛ وقوله تعالى:
{(وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ)} يحتمل أن يكون تكتموا جزما على النهي. ويحتمل أن يكون نصبا على معنى: وأن تكتموا؛ أي لا تجمعوا بين اللّبس والكتمان، فهذا مثل:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
…
عار عليك إن فعلت عظيم
(1)
وقوله: {(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ)} أي لا تختلطوا، يقال: لبست عليه الأمر؛ أي خلطته.
قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ؛} أي حافظوا على الصّلوات الخمس لمواقيتها بركوعها وسجودها، وأدّوا زكاة أموالكم المفروضة. وقوله تعالى:
{وَارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ} (43)؛أي صلّوا مع المصلّين محمّد وأصحابه في الجماعات إلى الكعبة؛ يخاطب اليهود فعبّر بالركوع عن الصلاة، إذ كان ركنا من أركانها؛ كما عبّر باليد عن الجسد في قوله:{بِما قَدَّمَتْ يَداكَ}
(2)
وبالعنق عن النّفس كقوله تعالى: {أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}
(3)
.والفائدة في تكرار ذكر الصلاة لئلا يتوهّم متوهّم أن الصلاة لا تجب إلا على من تجب عليه الزكاة، وقيل: إن اليهود كانوا يصلّون بغير ركوع فأمر بالركوع في الصلاة.
قوله عز وجل: {*أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرِّ؛} خطاب لعلماء اليهود، كانوا يخبرون مشركي العرب قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم: بأنّ رسولا سيظهر يدعو إلى الحق فاتبعوه وأجيبوا دعوته. فلما بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ حسدوه وكفروا به؛ فأنزل الله هذه الآية مذكّرا لهم ما كان منهم.
(1)
نقل القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 1 ص 367 قال: «وقال أبو الأسود الدؤليّ:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وابدأ بنفسك فانهها عن غيّها فإن انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى بالقول منك وينفع التّعليم»
(2)
الحج 10/.
(3)
الإسراء 13/.
وقوله تعالى: {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ؛} أي تتركون أنفسكم فلا تتّبعونه، وقوله تعالى:{وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ،} يعني التوراة وما فيه، وتعلمون ما فيها من وجوب اتباعه، {أَفَلا تَعْقِلُونَ} (44)،أنّ ذلكم حجّة عليكم وأنه نبيّ حقّ فتصدقونه وتتبعونه.
قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ؛} أي استعينوا على ما استقبلكم من أنواع البلايا. وقيل: على طلب الآخرة بالصبر على أداء الفرائض؛ وبالصلاة على تمحيص الذنوب. وقيل: استعينوا بالصّبر والصلاة على ما يذهب منكم من الرئاسة والمأكلة باتّباع محمّد صلى الله عليه وسلم.
وقال مجاهد: (الصّبر في هذه الآية الصّوم).وقيل: (الواو) هنا بمعنى (على)؛ تقديره: استعينوا فيما ينوبكم بالصبر على الصلاة؛ كقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها}
(1)
.
وروي أن ابن عباس نعيت إليه بنت له وهو في سفر؛ فاسترجع، ثمّ قال:
(عورة سترها الله؛ ومئونة كفاها الله؛ وأجر ساقه الله).ثمّ نزل فصلّى ركعتين. ثمّ قال: (صنعنا ما أمرنا الله به: واستعينوا بالصّبر والصّلاة)
(2)
.
وأصل الصّبر هو الحبس، يقال: قتل فلان صبرا؛ إذا حبس حيّا حتى مات؛ وقيل: الصّبر هو الصوم؛ ويسمّى شهر رمضان شهر الصّبر، وسمي الصوم صبرا؛ لأن صاحبه يحبس نفسه عن الطعام والشراب.
قوله عز وجل: {وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخاشِعِينَ} (45)؛يحتمل أنّ الهاء كناية عن الصلاة؛ لأنّها أشرف الطاعات، ويحتمل أن تكون عن الاستعانة، ويحتمل أن يكون المراد بها الصبر والصلاة جميعا، كما قال الله تعالى:{وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ}
(1)
طه 132/.
(2)
في الدر المنثور: ج 1 ص 163؛ قال السيوطي: «وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس رضي الله عنهما: ونقله» .رواه الطبري في التفسير: النص (712).والبيهقي في شعب الإيمان: باب في الصبر: النص (9681 و 9682).
{يُرْضُوهُ}
(1)
فاكتفى بذكر أحدهما دلالة على الآخر. ونظير القول الأول قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها}
(2)
ردّ الكناية إلى الفضة لأنّها أغلب وأعم. وقال تعالى: {وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها}
(3)
ردّ الكناية إلى التجارة لأنّها الأهم والأفضل. وقال الأخفش: (ردّ الكناية إلى كلّ واحدة منهما؛ أراد كلّ خصلة منهما الكبيرة كقوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها}
(4)
يعني كلّ واحدة منهما، وقال تعالى:{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً}
(5)
ولم يقل آيتين؛ أراد جعلنا كلّ واحد منهما آية).
قوله تعالى: {(وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ)} أي ثقيلة شديدة إلا على الخاشعين؛ أي المؤمنين.
وقيل: إلا العابدين المطيعين. وقيل: الخائفين. وقيل: المتواضعين. وقال الزجّاج:
(الخاشع الّذي يرى أثر الذّلّ والخشوع عليه؛ ويقال: خشع؛ إذا رمى ببصره إلى الأرض، وأخشع إذا طأطأ رأسه للسّجود).والخشوع والخضوع نظيران؛ إلا أن الخضوع يكون بالبدن والخشوع بالبصر والصوت والقلب كما قال تعالى: {خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ}
(6)
{وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ}
(7)
(8)
.
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ؛} أي الذين يعلمون ويستيقنون؛ لأنّهم لو كانوا شاكّين لكانوا كافرين. ومثله: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ}
(9)
أي أيقنت. قوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ} (46)؛فيجزيهم بأعمالهم.
(1)
التوبة 62/.
(2)
التوبة 34/.
(3)
الجمعة 11/.
(4)
الكهف 33/.
(5)
المؤمنون 50/.
(6)
القلم 43/.
(7)
طه 108/.
(8)
الحديد 16/.
(9)
الحاقة 20/.
قوله عز وجل: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ} (47)؛أي عالمي زمانكم.
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً؛} معناه: واخشوا يوما؛ أي عذاب يوم، {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً؛} أي لا تكفي ولا تغني. وفيه إضمار؛ تقديره:
واتّقوا يوما لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا من الشدائد والمكاره. وقيل: معناه: لا تغني نفس مؤمنة ولا كافرة عن نفس كافرة شيئا.
قوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ؛} لأنّها كافرة، وكانت اليهود تزعم أنّ آباءهم الأنبياء؛ كإبراهيم وإسحاق ويعقوب يشفعون لهم؛ فآيسهم الله تعالى بهذه الآية. وقرأ أهل مكة والبصرة «(تقبل)» بتاء التأنيث (الشّفاعة).وقرأ الباقون بالياء بتقديم الفعل؛ أو لأنّ تأنيثه غير حقيقي. وقرأ قتادة:«(لا يقبل منها شفاعة)» بياء مفتوحة، ونصب ال (شفاعة) يعني لا يقبل الله.
قوله تعالى: {وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ؛} أي فداء كما كانوا يأخذون في الدّنيا. وسمّي الفداء عدلا؛ لأنه يساوي المفدى ويماثله، قال الله تعالى:{أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً}
(1)
والفرق بين العدل والعدل: أن العدل بكسر العين: مثل الشيء من جنسه، وبفتحها بدله؛ قد يكون من جنسه أو من غير جنسه، مثل قوله:{طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً} . وقوله {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} (48)؛أي لا يمنعون من عذاب الله.
قوله عز وجل: {وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ؛} يعني نجّينا أسلافكم؛ وإنّما عدّها منّة عليهم؛ لأنّهم نجوا بنجاتهم. وقرأ إبراهيم النخعي: «(نجيتكم)» على التوحيد. و {(آلِ فِرْعَوْنَ)} أشياعه وأتباعه وأسرته وعشيرته وأهل بيته. وفرعون هو الوليد بن مصعب، وكان من العماليق؛ جمع عملاق، وهي قبيلة.
(1)
المائدة 95/.
وقوله عز وجل: {(يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ)} أي يكلّفونكم ويذيقونكم أشدّ العذاب وأسوأه؛ وذلك أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما وخولا. فصنف يبنون؛ وصنف يحرثون ويزرعون؛ وصنف يخدمونه، ومن لم يكن منهم في عمل من هذه الأعمال فعليه الجزية، فذلك سوء العذاب. وقيل: إنّهم كلّفوا الأعمال القذرة.
وقيل: تفسيره ما بعده: {يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ؛} وقرأ ابن محيص: «يذبحون» بالتخفيف. ومن قرأ بالتشديد فعلى التكثير؛ وذلك أن فرعون رأى في منامه نارا أقبلت من بيت المقدس فأحرقت مصر وأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل. فسأل الكهنة، فقالوا: يولد في بني إسرائيل غلام؛ يكون هلاكك على يديه.
فأمر فرعون بقتل كلّ غلام يولد في بني إسرائيل؛ وترك كل أنثى؛ ففعلوا ذلك. وأسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل؛ فقال القبط لفرعون: إن الموت وقع في مشيخة بني إسرائيل وأنت تذبح صغارهم فيوشك أن يقع العمل علينا؛ فأمروا أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة؛ فولد هارون في السنة التي لا يذبحون فيها؛ فترك. وولد موسى في السنة التي يذبحون فيها.
قوله: {(وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ)} أي يتركوهنّ أحياء فلا يذبحوهن بل يستخدموهن.
وقيل: معناه يستحيون من الحياء الذي هو الرّحم؛ فإن القوم كانوا ينظرون إلى فروج نساء بني إسرائيل فيعلموا هل هنّ حبّل أم لا!!
قوله: {وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} (49)؛يعني في سومهم إياكم سوء العذاب محنة وفتنة عظيمة. وقيل: معناه: وفي إنجاء آبائكم منهم نعمة عظيمة. والبلاء ينصرف على وجهين: النعمة والمحنة. قال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}
(1)
.
وقوله عز وجل: {وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ،} وذلك أنه لمّا دنا هلاك فرعون أمر الله موسى أن يسري ببني إسرائيل من مصر؛ فأمر موسى قومه أن يسرجوا في بيوتهم إلى الصّبح. وألقى الله على القبط الموت؛ فاشتغلوا بدفنهم، وخرج موسى في ستمائة ألف وعشرين ألفا سوى الذّرية. وكان موسى على ساقتهم
(1)
الأنبياء 35/.
وهارون على مقدّمتهم، فخرج فرعون على طلبهم وعلى مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف، وسار بنو إسرائيل حتى وصلوا البحر والماء في غاية الزيادة، ونظروا فإذا هم بفرعون وقومه وذلك حين أشرقت الشمس. فبقوا متحيّرين؛ قالوا: يا موسى كيف نصنع؛ وما الحيلة وفرعون خلفنا والبحر أمامنا؟ فقال موسى: (كلاّ؛ إنّ معي ربي سيهديني).فأوحى الله إليه: (أن اضرب بعصاك البحر) فضربه فلم ينفلق.
فأوحى الله إليه: أن كنّه؛ فضربه بعصاه وقال: انفلق أبا خالد بإذن الله عز وجل.
{فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}
(1)
.وظهر فيه اثنا عشر طريقا؛ لكل سبط طريق، وأرسل الله الريح والشمس على قعر البحر فصار يبسا؛ فخاضت بنو إسرائيل البحر كل سبط في طريق، وعن جانبيه الماء كالجبل الضّخم لا يرى بعضهم بعضا، فخافوا! وقال كلّ سبط: قد قتل إخواننا، فأوحى الله إلى جبال الماء: تشبّكي فصار الماء شبكات يرى بعضهم بعضا ويسمع بعضهم كلام بعض؛ حتى عبروا البحر سالمين. فذلك قوله تعالى: {(وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ)} أي فلقناه وصيّرنا الماء يمينا وشمالا. وقوله: {(فَأَنْجَيْناكُمْ)} أي من الغرق ومن آل فرعون.
وقوله: {وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ؛} وذلك أنّ فرعون لمّا وصل إلى البحر ورآه منفلقا. قال لقومه: انظروا إلى البحر انفلق من هيبتي حتى أدرك أعدائي وعبيدي الذين أبقوا فأقتلهم؛ ادخلوا البحر. فهاب قومه أن يدخلوه؛ ولم يكن في خيل فرعون أنثى، فجاء جبريل على فرس أنثى ودنا فتقدّمهم وخاض البحر، فلما شمّت خيول فرعون ريحها اقتحمت البحر في أثرها حتى خاضوا كلّهم البحر، وجاء ميكائيل على فرس خلف القوم يحثّهم ويقول لهم: الحقوا بأصحابكم، حتى إذا خرج جبريل من البحر وهمّ أوّلهم أن يخرج. أمر الله البحر أن يأخذهم؛ فالتطم عليهم؛ فغرقوا جميعا وذلك بمرأى من بني إسرائيل، فذلك قوله تعالى:{(وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ)} {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (50)؛إلى مصارعهم.
قوله عز وجل: {وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً؛} وذلك أن بني إسرائيل لمّا أمنوا عدوّهم ودخلوا مصر لم يكن لهم كتاب ولا شريعة ينتهون إليها، فوعد الله
(1)
الشعراء 63/.
موسى أن ينزّل عليهم التوراة؛ فقال موسى لقومه: إنّي ذاهب لميقات ربي؛ فآتيكم بكتاب فيه بيان ما تأتون وما تذرون. وواعدهم ثلاثين ليلة من ذي القعدة وعشرا من ذي الحجة؛ واستخلف عليهم أخاه هارون. فلما أتى الوعد جاء جبريل عليه السلام على فرس يقال له فرس الحياة؛ لا يصيب شيئا إلا حيى به، فلما رأى السامريّ جبريل عليه السلام على ذلك الفرس؛ قال: إنّ لهذا شأنا؛ وكان رجلا منافقا، قد أظهر الإسلام فأخذ قبضة من تربة حافر فرس جبريل، وكان بنو إسرائيل قد استعاروا حليا كثيرة من قوم فرعون حين أرادوا الخروج من مصر بعلّة عرس؛ فأهلك الله قوم فرعون وبقيت تلك الحليّ في أيدي بني إسرائيل. فلما لم يرجع موسى، قال السامريّ لبني إسرائيل:
إن الأمتعة والحليّ التي استعرتموها من قوم فرعون غنيمة لا تحلّ لكم فاحفروا حفيرة فادفنوها فيها حتى يرجع موسى. ففعلوا ذلك. فلما اجتمعت الحليّ صاغها السامري وكان رجلا صائغا، وجعل عليها القبضة التي أخذها من أثر حافر فرس جبريل؛ فأخرج عجلا من ذهب فخار؛ فذلك قوله تعالى:{عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ}
(1)
فعبدوه من دون الله.
قال السدي: (كان يخور والسامريّ يقول: هذا إلهكم وإله موسى (فنسيه) أي تركه هاهنا وخرج بطلبه).فلما رأوا العجل وسمعوا قول السامري افتتن بالعجل ثمانية آلاف منهم فعبدوه من دون الله.
وقال بعضهم: معنى الآية: واذكروا إذ أخبر الله موسى أن يؤتيه الألواح فيها التوراة على رأس ثلاثين يوما من ذي القعدة، وأمره أن يصومها؛ فوجد من فيه خلوفا؛ أي تغيّر رائحة، فاستاك، فأمره الله أن يصوم عشرة أخرى من أول ذي الحجة؛ كما قال تعالى في موضع آخر:{وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ}
(2)
.فقال السامريّ في الأيام العشرة لبني إسرائيل: قد تمّت الثلاثون ولم يرجع موسى وإنكم قد استعرتم من نساء آل فرعون حليّهم حين سار بكم من مصر؛ فلما لم تردّوا عليهنّ حليّهن لم يردّ الله علينا موسى، فهاتوا ما معكم من الحليّ حتى نحرقه؛ فلعلّ الله أن يردّ علينا موسى،
(1)
الأعراف 148/.
(2)
الأعراف 142/.
فجمعوا الحليّ وكان السامريّ صائغا فاتخذ من ذلك عجلا، فصار العجل جسدا له خوار، فعبدوه فذلك قوله تعالى:{ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ} (51).
قال ابن عباس: (فصار عجلا له لحم ودم وشعر).وقيل: جعل فيه خروقا فكان الريح تقع في تلك الخروق فيسمع منها مثل الخوار، فأوهمهم أن ذلك الصوت خواره. وقوله تعالى:{(مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ)} أي من بعد انطلاق موسى إلى الجبل، {(وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ)} أي ضارّون لأنفسكم بالمعصية؛ واضعون العبادة في غير موضعها.
وفي قوله: {(واعَدْنا)} خلاف بين القرّاء؛ فقرأ أبو عمرو ويعقوب: «(وعدنا)» بغير ألف في جميع القرآن. وقرأ الباقون بالألف؛ وهي قراءة ابن مسعود. فمن قرأ بغير ألف؛ قال: لأنّ الله تعالى هو المنفرد بالوعد. والقرآن ينطق به كقوله: {وَعَدَ اللهُ}
(1)
و {إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ}
(2)
ونحوها. ومن قرأ بالألف فقال: قد تجيء المفاعلة من واحد؛ كقولهم: عاقبت اللّصّ؛ وعافاك الله؛ وطارقت النعل؛ وسافر؛ ونافق.
قال أهل اللغة: الوعد في الخير؛ والوعيد في الشّرّ؛ قال الشاعر
(3)
:
وإنّي إذا أوعدته أو وعدته
…
لمخلف إيعادي ومنجز وعدي
والعجل والعجول: ولد البقرة.
إنّما قرن التاريخ بالليل دون النهار؛ لأن العرب وضعت التاريخ على سنين القمر؛ وإنّما يهلّ بالليل. وقيل: لأن الظلمة أقدم من الضوء؛ والليل خلق قبل النهار؛ قال الله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ}
(4)
.
(1)
النور 55/.
(2)
إبراهيم 22/.
(3)
البيت لعامر بن الطفيل كما في لسان العرب (وعد).
وإنّي، إن أوعدته أو وعدته لأخلف إيعادي وأنجز موعدي يقال: وعدته خيرا، ووعدته شرّا؛ فإذا لم يذكر واحدا منهما قلت: في الخير: وعدته، وفي الشر: أوعدته. قاله الهروي في الغريبين.
(4)
يس 37/.
قوله تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ؛} أي تركناكم فلم نستأصلكم؛ من قوله عليه السلام: [اعفوا اللّحى]
(1)
.وقيل: محونا ذنوبكم من قول العرب: عفت الرياح المنزل فعفا. وقوله عز وجل: {(مِنْ بَعْدِ ذلِكَ)} أي من بعد عبادتكم العجل. وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (52)؛أي لكي تشكروا عفوي عنكم وصنيعي إليكم.
واختلف العلماء في ماهية الشّكر؛ فقال ابن عباس: (هو الطّاعة بجميع الجوارح لرب الخلائق في السّرّ والعلانية).وقال الحسن: (شكر النّعمة ذكرها).
وقال الفضيل: (شكر كلّ نعمة أن لا يعصى الله تعالى بعدها).وقال أبو بكر الرازي:
(حقيقة الشّكر معرفة المنعم؛ وأن لا تعرف لنفسك في النّعمة حظّا؛ بل تراها من الله عز وجل.قال الله: {وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ}
(2)
.ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: [قال موسى: يا رب كيف آدم أن يؤدّي شكر ما أجريت عليه من النّعم؟ خلقته بيدك؛ وأسجدت له ملائكتك؛ وأسكنته جنّتك. فأوحى الله إليه: أنّ آدم علم أنّ ذلك كلّه منّي ومن عندي؛ فذلك شكره].
وقال الجنيد: حقيقة الشكر العجز عن الشكر
(3)
.وقال بعضهم: الشكر أن لا ترى النعمة البتة؛ بل ترى المنعم. وقال أبو عثمان الحيّري
(4)
:صدق الشكر أن لا تمدح بلسانك غير المنعم. وروي عن الشّبل
(5)
أنه قال: الشكر التواضع تحتويه المنّة.
وقيل: الشكر خمسة أشياء: مجانبة السيئات؛ والمحافظة على الحسنات؛ ومخالفة الشهوات؛ وبذل الطاعات؛ ومراقبة رب السموات.
(1)
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. رواه النسائي في السنن كتاب الزينة: باب إحفاء الشارب: ج 8 ص 139،وإسناده صحيح.
(2)
النحل 53/.
(3)
نقله القرطبي عنه أيضا في الجامع لأحكام القرآن: ج 1 ص 398.
(4)
أبو عثمان، سعيد بن إسماعيل بن سعيد الحيري، قال أبو نعيم:«كان حميد الأخلاق مديد الأرفاق، توفي سنة ثمان وتسعين ومائتين» .حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: ج 10 ص 244.
(5)
شبل المدريّ، أو المروزي، ذكره أبو نعيم في الحلية: ج 10 ص 161،ونقل القرطبي عن الشبل:«الشكر التواضع، والمحافظة على الحسنات، ومخالفة الشهوات، وبذل الطاعات، ومراقبة جبار الأرض والسموات» . الجامع لأحكام القرآن: ج 1 ص 398.
وسئل أبو الحسن علي بن عبد الرحيم: من أشكر الشاكرين؟ فقال: الطاهر من الذنوب يعدّ نفسه من المذنبين؛ والمجتهد بعد أداء الفرائض يعدّ نفسه من المقصّرين؛ والراضي من الدنيا بالقليل يعدّ نفسه من الراغبين؛ والقاطع بذكر الله دهره يعدّ نفسه من الغافلين؛ هذا أشكر الشاكرين.
وقوله عز وجل: {وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (53) قال مجاهد والفرّاء: (هما شيء واحد يعني التّوراة؛ وما يفرّق به بين الحقّ والباطل).
وقد سمّى الله تعالى التوراة فرقانا في موضع آخر وهو قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً}
(1)
،وسمّى الله النّصرة يوم بدر على الكفار فرقانا كما قال:
{وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ}
(2)
أراد به يوم بدر؛ وإنّما عطف الشيء على نفسه وكرّره؛ لأن العرب تكرّر الشيء إذا اختلف ألفاظه، قال عنترة
(3)
:
حيّيت من ظلل تقادم عهده
…
أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم
وقال الكسائيّ: الفرقان: بعث الكتاب؛ يريد: {(وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ)} .والفرقان: فرق بين الحلال والحرام؛ والكفر والإيمان؛ والوعد والوعيد، فزيدت الواو فيه كما تزاد في النعوت؛ من قولهم: فلان حسن وطويل. ودليل هذا التأويل: {ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ}
(4)
.
وقال قطرب: (أراد بالفرقان: القرآن).
وفي الآية إضمار معناه: وإذا آتينا موسى الكتاب ومحمّدا الفرقان. قوله تعالى:
{(لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)} أي بهذين الكتابين، وقال بعضهم: أراد بالفرقان انفراق البحر وهو من عظيم الآيات، يدلّ عليه قوله تعالى:{وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ} .
(1)
الأنبياء 48/.
(2)
الأنفال 41/.
(3)
عنترة بن شدّاد العبسيّ: أشهر فرسان العرب في الجاهلية، ومن شعراء الطبقة الأولى من أهل نجد، أمه حبشية، وكان من أحسن العرب شيمة، ومن أعزهم نفسا، يوصف بالحلم على شدة بطشه، وفي شعره رقة وعذوبة، قتل سنة (22) قبل الهجرة.
(4)
الأنعام 154/.
قوله تعالى: {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ؛} يعني الذين عبدوا العجل:
{يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ؛} أي أضررتم أنفسكم، {بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ؛} إلها. فقالوا: فإيش نصنع؛ وما الحيلة؟ فقال: {فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ؛} أي فارجعوا إلى خالقكم. وكان أبو عمرو يختلس الهمزة إلى الجزم في قوله: (باريكم، ويأمركم، ويشعركم، وينصركم) طلبا للخفّة.
وقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ؛} أي يقتل البريء المجرم، قوله تعالى:
{ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ؛} يعني القتل. قال ابن عباس: (أبى الله عز وجل أن يقبل توبة بني إسرائيل إلاّ بالحال الّذي كرهوا أن يقاتلوهم حين عبدوا العجل).
وقال قتادة: (جعل الله توبتهم القتل؛ لأنّهم ارتدّوا. والكفر يبيح الدّم).وقرأ قتادة:
«(فاقتالوا أنفسكم)» من الإقالة؛ أي استقيلوا العثرة بالتوبة. فلما أمرهم موسى بالقتل قالوا: نصبر لأمر الله تعالى، فجلسوا بالأفنية محسّبين وأصلب عليهم القوم الخناجر؛ فكان الرجل يرى ابنه وأخاه وأباه وقريبه وصديقه فلا يمكنهم إلا المضيّ لأمر الله.
وقيل لهم: من حلّ جيوبه أو مدّ طرفه إلى قاتله أو اتّقى بيده أو رجله فهو ملعون مردودة توبته؛ فكانوا يقتلونهم إلى المساء. فلما كثر فيهم القتل عاد موسى وهارون وبكيا وتضرّعا وقالا: يا رب هلكت بنو إسرائيل البقية البقية؛ فأمرهم الله تعالى أن يرفعوا السلاح عنهم ويكفّوا عن القتل وقد قتل منهم ألوف كثيرة فاشتدّ ذلك على موسى، فأوحى الله تعالى إليه أما يرضيك أن أدخل القاتل والمقتول الجنة؛ فكان من قتل منهم شهيدا ومن بقي منهم كفّر عنه ذنوبه، وذلك قوله تعالى:
{فَتابَ عَلَيْكُمْ؛} أي ففعلتم ما أمركم به فتاب عليكم؛ أي فتجاوز عنكم، {إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ} (54).
وفي بعض التفاسير: أن موسى عليه السلام قال لهم بعد ما رجع من الجبل وأعطاه الله التوراة: أنكم ظلمتم أنفسكم بعبادتكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم؛ أي ليقتل الذين لم يعبدوا العجل الذين عبدوا العجل. فقالوا: يا موسى نحن نفعل ذلك، فأخذ عليهم المواثيق ليصبرنّ على القتل، فأصبحوا بأفنية البيوت كل بني أب على حدة فأتاهم هارون والاثنا عشر ألفا الذين لم يعبدوا العجل بالسيوف، فقال لهم
هارون: هؤلاء إخوانكم قد أتوكم شاهرين السيوف فاتّقوا الله واصبروا، فلعن الله رجلا حلّ حبوته أو قام من مجلسه أو مدّ طرفه إليهم أو اتّقاهم بيده أو رجله. فقالوا:
آمين. فجعلوا يقتلونهم إلى المساء.
وقام موسى يدعو ربّه لمّا شقّ عليه من كثرة الدماء. فنزلت التوراة، وقيل له:
ارفع السيف، فإنّي قد قبلت توبتهم جميعا من قتل منهم ومن لم يقتل، وجعلت ذلك القتل لهم شهادة وغفرت لمن بقي منهم. فكان القتلى سبعين ألفا والقاتلون اثنا عشر ألفا. وكان السبب في امتحانهم بذلك: أنه كان فيهم من عرف بطلان عبادة العجل؛ إلا أنّهم لم ينهوا الآخرين لخشية وقوع القتل فيما بينهم، فابتلاهم الله بما تركوا النهي عن المنكر لأجله.
قوله عز وجل: {وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً؛} وذلك أن الله عز وجل أمر موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل؛ فاختار موسى من قومه سبعين رجلا من خيارهم؛ وقال لهم: صوموا وتطهّروا وطهّروا ثيابكم.
ففعلوا ذلك، فخرج بهم موسى إلى طور سيناء لميقات ربه؛ فلما بلغوا هنالك أمرهم موسى بالمكث في أسفل الجبل وصعد هو؛ فقالوا لموسى: أطلب لنا نسمع كلام الله؛ فوقع على الجبل غمام أبيض؛ فغشاه كله.
وكان موسى عليه السلام إذا ناجى ربه وقع على وجهه نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه؛ فضرب دونه الحجاب؛ ودنا القوم حتى دخلوا في الغمام؛ وخرّوا سجّدا؛ فسمعوه وهو يكلّم موسى يأمره وينهاه، فأسمعهم الله تعالى:{إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا}
(1)
أخرجتكم من مصر فاعبدوني ولا تعبدوا غيري؛ فلما فرغ موسى وانكشف الغمام؛ وأقبل إليهم، قالوا:{(لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً)} أي لا نصدّق حتى نرى الله عيانا وعلانية، {فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ؛} أي فأخذتهم الصاعقة؛ أي نزلت نار من السماء فأحرقتهم جميعا. ويقال: سمعوا صوتا فماتوا.
يقال: صعق فلان؛ أي هلك، {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (55).
(1)
طه 14/.
قرأ عمر وعثمان وعليّ بغير ألف «(الصّعقة)» .وقرأ ابن عباس: «(جهرة)» بفتح الهاء وهما لغتان. فلبثوا موتى يوما وليلة.
قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (56)؛ وذلك أنّهم لمّا هلكوا جعل موسى يبكي ويتضرّع؛ ويقول: ماذا أقول لبني إسرائيل إذ أتيتهم وقد أهلكت خيارهم؛ لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي، أتهلكنا بما فعل السفهاء منا، فلم يزل يناشد ربّه حتى أحياهم الله عز وجل جميعا رجلا بعد رجل؛ ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون.
فإن قيل: كيف يقبل الله التوبة بعد الموت قبل البعث في دار الدنيا كالانتباه من النوم؛ لأن الله ردّهم إلى التكليف في الدنيا وأحياهم ليتوفّوا بقية آجالهم وأرزاقهم.
قوله تعالى: {وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ؛} أي في التيه يقيكم حرّ الشمس؛ وذلك أنّهم كانوا في التيه ولم يكن لهم كنّ
(1)
يسترهم؛ فشكوا ذلك إلى موسى؛ فأنزل الله عليهم غماما أبيض؛ أي سحابا رقيقا ليس بغمام المطر؛ لكن أرقّ وأطيب منه؛ فأظلهم وكان يدلي لهم بالليل عمودا من السماء من نور فيسير معهم بالليل حيث ساروا مكان القمر. فقالوا: هذا الظل قد حصل فأين الطعام؛ فأنزل الله عليهم المنّ.
قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى،} المنّ؛ قال مجاهد: (هو شيء كالصّمغ كان يقع على الأشجار؛ وطعمه كالشّهد).وقال الضحّاك: (هو الزّنجبين
(2)
).وقال وهب: (هو الخبز الرّقاق).وقال السديّ: (عسل كان يقع على الشّجر باللّيل. وكان ينزل عليهم هذا المنّ كلّ ليلة؛ يقع على أشجارهم مثل الثّلج؛
(1)
الكنّ بالكسر: وقاء كل شيء وستره، كالكنّة والكنان بكسرهما، والبيت، وجمعه أكنان وأكنّة، وكنّه: ستره، واستكنّ: استتر.
(2)
الزّنجبين: هو طلّ أكثر ما يسقط بخراسان وما وراء النهر. قاله ابن سينا في القانون في الطب: ج 1 ص 443.قال ابن حجر: «هو الطلّ الذي يسقط على الشجر فيجمع ويؤكل حلوا». وقيل: طلّ يقع من السّماء، هو ندى شبيه بالعسل جامد متحبّب. عن المفردات لابن البيطار.
لكلّ إنسان منهم صاع كلّ ليلة؛ فإن أخذ أكثر من ذلك دوّد وفسد. ويوم الجمعة يأخذ صاعين كأنّه كان لم يأتهم يوم السّبت).
وقيل: هو شيء حلو؛ كان يسقط على الشجر كالشهد المعجون بالسّمن، وكان يأخذ كل واحد منهم كل غداة صاعا يكفيه يومه وليلته، فإن أخذ أكثر من ذلك فسد عليه
(1)
.
فقالوا: يا موسى! قتلنا هذا المنّ بحلاوته، فادعوا لنا ربك يطعمنا لحما، فدعا فأنزل عليهم السّلوى: وهو طائر يشبه السّمانيّ؛ كذا قال ابن عباس. وأكثر المفسرين بعث الله سحابة مطرت السمانيّ في عرض ميل وقدر طول رمح في السماء بعضهم على بعض. وقال المؤرّج
(2)
: (السّلوى هو العسل بلغة كنانة؛ فيأخذ كلّ واحد منهم ما يكفيه يوما وليلة، ويوم الجمعة يأخذ ما يكفيه يومين).
قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ؛} أي وقلنا لهم: كلوا من حلائل ما رزقناكم ولا تدّخروا لغد؛ فادّخروا لغد، فقطع الله عنهم ذلك، ودوّد وفسد ما ادّخروا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطّعام، ولم يخنز اللّحم، ولولا حوّاء لم تخن أنثى زوجها]
(3)
.
قوله تعالى: {وَما ظَلَمُونا؛} أي ما ضرّونا بالمعصية، {وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (57)؛أي يضرّون باستيجابهم عذابي وقطع مادة الرزق الذي
(1)
عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الكمأة من المنّ، وماؤها شفاء للعين]. رواه البخاري في الصحيح: كتاب التفسير: الحديث (4478)،وفي كتاب الطب: الحديث (5708).
(2)
المؤرّج: هو مؤرّج بن عمرو السّدوسي، ويكنى أبا فيد، كان من أصحاب الخليل بن أحمد، مات سنة خمس وتسعين ومائة، وهو من علماء اللغة والتفسير، من كتبه: جماهير القبائل، وغريب القرآن، والأمثال، وله شعر جيد.
(3)
رواه مسلم في الصحيح: كتاب الرضاع: باب لولا حواء: الحديث (1467/ 64 و 1468/ 65) من طريق أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه البخاري مختصرا في الصحيح: كتاب أحاديث الأنبياء: الحديث (3330 و 3399).والإمام أحمد في المسند: ج 2 ص 304.
كان ينزل عليهم بلا كلفة ولا مشقّة في الدنيا ولا حساب ولا تبعة في العقبى وهذا كله في التيه.
قوله عز وجل: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ؛} أي قلنا لبني إسرائيل بعد انقضاء التّيه؛ على لسان يوشع بعد موت موسى وهارون: ادخلوا مدينة أريحا بقرب بيت المقدس؛ وهي قرية الجبّارين؛ وكان فيها قوم من بقيّة عاد يقال لهم العمالقة. قال الضحّاك: (هذه القرية يعني الرّملة والأردنّ وفلسطين)
(1)
.وقال مجاهد:
(بيت المقدس).وقال مقاتل: (إيليّا).
قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً؛} أي واسعا بلا حساب.
وقوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً؛} يعني بابا من أبواب القرية، وكان لها سبعة أبواب، وقال: باب مسجد بيت المقدس. (سجّدا) أي ركّعا منحنين متواضعين. وقوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ؛} أي قولوا: مسألتنا حطّة.
قال ابن عباس: (أمروا بالاستغفار).وقيل: أمروا أن يقولوا لا إله إلا الله.
وقيل: قولوا إنما قيل لنا حقّ. وقال قتادة: وحطّ عنا خطايانا. وعن ابن عباس أيضا:
قيل معناه: قولوا: لا إله إلاّ الله؛ لأنّها تحطّ الذّنوب وما كان يحطّ الذّنوب فيصحّ أن يترجم عنه بحطّة. وذلك أنّهم كانوا قد أذنبوا بإبائهم دخول أريحا، فلما فصلوا عن التيه أحبّ الله أن يستنقذهم من الخطيئة.
وحطّة: رفع على الحكاية في قول أبي عبيدة. وقال الزجّاج: (تقديره: مسألتنا حطّة)
(2)
.ومن قرأ «(حطّة)» بالنصب معناه: حطّ عنا ذنوبنا حطّة.
(1)
نقله أيضا القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 1 ص 409،وقال: «وتدمر
…
».
(2)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 1 ص 410؛ قال القرطبي: «والأئمة من القراء على الرفع. وهو أولى في اللغة، لما حكي عن العرب في معنى (بدّل)،قال أحمد بن يحيى: يقال: بدّلته: أي غيّرته ولم أزل عينه، وأبدلته: أزلت عينه وشخصه. كما نقل النحاس في إعراب القرآن عن أبي النجم قال: عزل الأمير للأمير المبدّل» .
قوله تعالى: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ،} قرأ أهل المدينة بياء مضمومة؛ وأهل الشام بتاء مضمومة، والباقون بنون مفتوحة. {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} (58)؛إحسانا وثوابا.
قوله عز وجل: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ؛} أي خالفوا فقالوا: حطّا سمتانا
(1)
؛أي حنطة حمراء بلغتهم. قالوا هذا القول منهم استهزاء وتبديلا مكان القول الذي أمروا به أن يقولوا: حطّة.
وقال الحسن: (أمروا أن يقولوا: حطّة، فقالوا: حنطة. وأمروا أن يدخلوا الباب ركّعا فدخلوا حبوا على أستاههم)
(2)
.وقيل: منحرفين. قال مجاهد: (طوطئ لهم الباب ليخفضوا رءوسهم فلم يخفضوا ولم يركعوا ودخلوا زحفا)
(3)
.وانتصب (قولا) على المصدر؛ أي وقالوا قولا غير الّذي قيل لهم.
وقوله تعالى: {فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً؛} أي عذابا، {مِنَ السَّماءِ،} أرسل الله عليهم طاعونا فهلك منهم في ساعة واحدة سبعون ألفا فجأة.
وقيل: نزلت بهم نار فأحرقتهم لتبديلهم ما أمروا به. وقوله تعالى: {بِما كانُوا يَفْسُقُونَ} (59)؛أي يعصون ويخالفون ما أمر الله.
قوله تعالى: {*وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ؛} أي سأل لهم السّقيا، وذلك أنّهم عطشوا في التّيه فقالوا: يا موسى من أين لنا الشراب، وكان قولهم له حال نزولهم في الأرض القفر بعد غرق فرعون؛ فاستسقى لهم موسى، {فَقُلْنَا؛} أي
(1)
عند القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 1 ص 411: «قالوا: حطّه-بالهاء-سمهاثا بالثاء» . وعند غيره: «حطّا شمقا» .وعند الطبري من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «هطّى سمقا يا أزبة هزبا» :النص (862).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (859) عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «أمروا أن يدخلوا ركعا، ويقولوا: حطّة. قال: أمروا أن يستغفروا-قال: فجعل يدخلون من قبل أستاههم من باب صغير ويقولون: خطّة يستهزءون. فذلك قوله تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ» .وعن الحسن بلفظ قريب منه، أخرجه الطبري في الجامع: الرقم (861).
(3)
أخرجه الطبري في الجامع: الرقم (861).
فأوحى الله إليه: أن؛ {اِضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ؛} وكانت عصاه من آس الجنّة طولها عشرة أذرع على طول موسى؛ ولها شعبتان تتّقدان في الظلمة نورا، وكان آدم حملها معه من الجنّة إلى الأرض فتوارثتها الأنبياء صاغرا عن كابر حتى وصل إلى شعيب فأعطاها موسى.
وأما الحجر الذي أمر موسى بضربه فقد اختلف فيه المفسرون، قال وهب بن منبه: كان موسى يضرب لهم أقرب حجر من عرض الحجارة؛ فتفجّر عيونا لكلّ سبط عينا، وكانوا اثنى عشر سبطا، ثمّ تسيل كلّ عين في جدول إلى السّبط الّذي أمر أن يسقيهم.
ثم إنّهم قالوا: إن فقد موسى عصاه متنا عطشا، فأوحي إليه: يا موسى، لا تقرعنّ الحجارة، ولكن كلّمها تطعك لعلهم يعتبرون. فقالوا: كيف بنا إذا أفضينا إلى الأرض التي ليس فيها حجارة؟ فحمل موسى معه حجرا، فحيثما نزلوا ألقاه.
وقال آخرون: كان حجرا مخصوصا بعينه؛ والدليل على ذلك إدخال الألف واللام عليه وذلك للتعريف؛ ثم اختلفوا فيه ما هو؟ قال ابن عباس: (كان حجرا خفيفا مربّعا مثل رأس الرّجل يحمله معه، فإذا احتاجوا إلى الماء وضعه وضربه بعصاه).وروي أنه كان رخاما. وقيل: كان حجرا فيه اثنا عشر حفرة تنبع من كل حفرة عين ماء عذب فرات؛ فإذا اتخذوا حاجتهم من الماء؛ وأراد موسى حمله ضربه بعصاه، فغار الماء وانقطع. وكان يسقي كلّ يوم ستمائة ألف.
وقال سعيد بن جبير: (هو الّذي وضع موسى عليه ثوبه ليغتسل حين رموه بالأدرة؛ فنفر الحجر بثوبه ومرّ به على ملإ من بني إسرائيل حتّى علموا أنّه ليس بآدرّ؛ فلمّا وقف الحجر أتاه جبريل عليه السلام؛ فقال: يا موسى إنّ الله عز وجل يقول لك: ارفع هذا الحجر فلي فيه قدرة ولك فيه معجزة. وقد ذكر الله تعالى ذلك في قوله: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمّا قالُوا}
(1)
فحمله موسى ووضعه
(1)
الأحزاب 69/.
في مخلاته، وكان إذا احتاج إلى الماء ضربه بعصاه)
(1)
.
وقصّة ذلك الحجر ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة؛ ينظر بعضهم إلى سوأة بعض؛ وكان موسى يغتسل وحده. فقالوا: ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلاّ أنّه أدرّ، فذهب يغتسل مرّة؛ فوضع ثوبه على حجر، ففرّ الحجر بثوبه، فجمح موسى بأثره يقول: ثوبي يا حجر ثوبي يا حجر، حتّى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى؛ فقالوا: والله ما بموسى من بأس فقام بعد ما نظر بنو إسرائيل إليه؛ فأخذ موسى ثوبه فطفق بالحجر ضربا]
(2)
.
قيل: ضربه موسى اثنا عشر ضربة. وكان يظهر على كل ضربة مثل ثدي المرأة ثم يتفجّر بالأنهار المطّردة، فذلك قوله تعالى:{فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً،} وفي الآية إضمار واختصار؛ تقديره: {(فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ)} ؛ فضرب؛ {(فَانْفَجَرَتْ)} أي سالت.
وأصل الانفجار: الانشقاق والانتشار، ومنه: فجر النّهار؛ لأنه ينشقّ من الظلام. وأما قوله في موضع آخر: {فَانْبَجَسَتْ}
(3)
فالانبجاس: أوّل ما يتقاطر من الماء وينشقّ، والانفجار حين السيلان. وكان الانبجاس في أول القصة؛ والانفجار في آخرها. والانبجاس أقلّ من الانفجار. وقال بعضهم: هو حجر أمر الله موسى أن يأخذه من أسفل البحر حين مرّ فيه مع قومه. وقيل: إنه من الجنة.
وقوله تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ؛} أي موضع مشربهم؛ ويكون بمعنى المصدر مثل المدخل؛ والمخرج؛ والمطلع. وكان كل سبط يشربون من عين لا يخالطهم فيها غيرهم للعصبية التي كانت بينهم.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان عن سعيد بن جبير وعبد الله بن الحارث عن ابن عباس: الرقم (21881 و 21885).ومعنى (أدرّ):الرجل انتفخت خصيته لتسرّب السائل في غلافها.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (21881 و 21883) تفسير سورة الأحزاب عن ابن عباس، والنص (21882 و 21885) مكرر، والنص (21887) وإسناده صحيح. رواه البخاري في الصحيح: كتاب أحاديث الأنبياء: الحديث (3404).
(3)
الأعراف 160/.
قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ؛} أي قلنا: كلوا من المنّ والسلوى واشربوا من الماء؛ فهذا كله من رزق الله الذي يأتيكم به بلا مشقّة ولا مئونة ولا تعب.
قوله تعالى: {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (60)،العيث والعثواء: شدّة الفساد؛ وإنّما جمع بين العيث والفساد وإن كان معناهما واحدا تأكيدا كما يقال: كذب وزور؛ وظلم وجور؛ أي قيل لهم: كلوا واشربوا ولا تسرعوا إلى الفساد في الأرض عاثيين. والدليل على أن العيث هو الفساد قول الشاعر
(1)
:
لولا الحياء وأنّ رأسي قد عثى
…
فيه المشيب لزرت أمّ القاسم
قوله عز وجل: {وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ؛} وذلك أنّهم وحموا
(2)
المنّ والسّلوى وملّوهما. قال الحسن: كانوا أناسا أهل كراش
(3)
؛كرّاث؛ وأبصال؛ وأعداس؛ ففزعوا إلى عكرهم عكر السّوء؛ واشتاقت طبائعهم إلى ما جرت عليه عاداتهم؛ فقالوا: {(لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ)} يعنون به المنّ والسلوى. وإنما قال: {(طَعامٍ واحِدٍ)} وهما اثنان؛ لأن العرب تعبر عن الاثنين بلفظ الواحد؛ وعن الواحد بلفظ الاثنين؛ كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ}
(4)
وإنما يخرج من الملح دون العذب. وقال عبد الرحمن بن يزيد: (كانوا يعجنون المنّ والسّلوى ليصير طعاما واحدا فيأكلونه).
قوله تعالى: {فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثّائِها،} قرأ يحيى بن وثّاب وطلحة بن مصرف: «(وقثائها)» بضم القاف، وهي
(1)
ابن بري ينشد لعدي، هو ابن الرقاع. ينظر ديوانه: ص 99.ولسان العرب: (جسم).
(2)
الوحم: شدّة شهوة الحبلى لشيء تأكله، ثم يقال لكلّ من أفرطت شهوته في شيء. ويقال: وحمى لمن يطلب شيئا لا حاجة له فيه من حرصه. لسان العرب: مادة (وحم).
(3)
الكرش-بالفتح والكسر-:هو كل مجترّ، وكرشاء: كثيرة اللحم، واستكرش الصبيّ: عظمت كرشه، واستكرش الجدي: حين يعظم بطنه ويشتدّ أكله.
(4)
الرحمن 22/.
لغة تميم. قوله تعالى: {وَفُومِها؛} قال ابن عباس: (الفوم: الخبز)
(1)
تقول العرب: فوموا لنا؛ أي اخبزوا لنا. ويقال لسائر الحبوب الّتي تختبز: الفوم
(2)
.يقول الرجل لجاريته: فومي؛ أي اختبزي. وقال عطاء: هي الحنطة؛ وهي لغة قديمة. وقال الكلبي: هو الثّوم. قال حسّان:
وأنتم أناس لئام الأصول
…
طعامكم الفوم والحوقل
يريد: الثوم والبصل. والعرب تعاقب بين الفاء والثاء. فتقول للحقير: حدث وحدف؛ ودليل هذا التأويل أنّها في مصحف عبد الله: (وثومها) بالثاء.
قوله تعالى: {وَعَدَسِها وَبَصَلِها؛} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عليكم بالعدس فإنّه مبارك مقدّس؛ وإنّه يرقّ القلب ويكثر الدّمع، وإنّه بارك فيه سبعون نبيّا آخرهم عيسى عليه السلام]
(3)
.فقال لهم موسى: {قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} . وفي مصحف أبيّ: {(أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى)} أي أخسّ وأردى {(بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ)} يعني المنّ والسّلوى. وقوله تعالى: {اِهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ؛} معناه إن أبيتم إلا ذلك فاهبطوا مصرا من الأمصار؛ ولو أراد مصرا بعينها لم يصرفه كقوله تعالى: {اُدْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ}
(4)
.وقال الضحّاك: (هي مصر موسى وفرعون).ودليل هذا القول قراءة الحسن وطلحة:
«(مصر)» بغير تنوين جعلاها معرفة؛ فاجتمع فيها التعريف والتأنيث من حيث أراد البقعة فلم ينصرف.
قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ؛} أي الذلّ والهوان بالجزية، {وَالْمَسْكَنَةُ؛} أي زيّ الفقر فتراهم كأنّهم فقراء وإن كانوا مياسير. وقيل:
فقراء القبل فلا يرى في أهل الملل أذلّ ولا أحرص على المال من اليهود. قوله تعالى:
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (896)،وفيه يقول:«الحنطة والخبز» .
(2)
نقله ابن جرير الطبري في جامع البيان عن أهل اللغة سماعا: مج 1 ص 444.
(3)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 1 ص 427؛ حكاه القرطبي عن علي رضي الله عنه وقال: «ذكره الثعلبي وغيره» .وفي الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة: ص 161:النص (23)؛قال الشوكاني: «هو موضوع» .
(4)
يوسف 99/.
{وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ؛} أي رجعوا؛ وقيل: استحقّوا، والباء صلة. وقيل:
احتملوا واقروا به، ومنه الدعاء المأثور:[أبوء بنعمتك عليّ؛ وأبوء بذنبي]
(1)
.
وغضب الله عليهم: ذمّه إياهم وتوعّده لهم في الدنيا، وإنزال العقوبة بهم العقبى. قوله تعالى:{ذلِكَ؛} أي ذلك الغضب؛ {بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ؛} أي بصفة محمّد وآية الرجم في التوراة والإنجيل والفرقان.
قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ؛} قرأ السلمي:
«(ويقتّلون)» بالتشديد؛ و «(النّبيّين)» في جميع القرآن بالتشديد من غير همزة، وتفرّد نافع بهمز «(النّبيئين)» فمن همز فمعناه: المخبر؛ من قول العرب: أنبأ ينبئ إنباء، ومن حذف الهمزة؛ فإنه أراده؛ لكن حذفه الهمزة طلبا للخفّة؛ لكثرة استعمالها. وقيل: لأنه بمعنى الرّفيع مأخوذ من النبوّة وهي المكان المرتفع. يقال: نبا الشيء بغير همز إذا ارتفع.
وقوله تعالى: {(وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ)} أي بلا جرم مثل زكريّا ويحيى وسائر من قتل اليهود من الأنبياء. وفي الخبر: أنّ اليهود قتلوا سبعين نبيّا في أوّل النهار، وقامت سوق بقلهم في آخر النهار. وقيل: قتلوا في يوم واحد ثلاثمائة نبيّ. قوله تعالى: {ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ} (61)؛أي يتجاوزون أمري ويرتكبون محارمي.
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا؛} أي إنّ الذين آمنوا بموسى والتوراة ثم لم يتهوّدوا؛ والذين آمنوا بعيسى ولم يقسموا بالنصرانيّة، {وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصّابِئِينَ،} أي والذين تهودوا وتنصّروا وتصابئوا، {مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (62).
(1)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 7 ص 292:الحديث (7172) بهذا اللفظ. والبخاري في الصحيح: كتاب الدعوات: باب ما يقول إذا أصبح: الحديث (6306)،وفي (6322):[أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء لك بذنبي].
اختلف العلماء في تسمية الذين هادوا بهذا الاسم؛ فقالوا: بعضهم سمّوا بذلك لأنّهم هادوا؛ أي تابوا من عبادة العجل، قوله تعالى: إخبارا عنهم: {إِنّا هُدْنا إِلَيْكَ}
(1)
أي تبنا. وقال بعضهم: لأنّهم هادوا؛ أي مالوا عن الإسلام وعن دين موسى عليه السلام؛ يقال: هاد يهود هودا؛ إذا مال.
واختلفوا أيضا في تسمية النّصارى بذلك؛ قال مقاتل: (لأنّ أصلهم من قرية يقال لها ناصرة؛ كان ينزلها عيسى وأمّه؛ فنسبوا إليها).وقال الزّهريّ: (سمّوا بذلك لأنّ الحواريّين قالوا: نحن أنصار الله).
«(والصّابيين)» قرأ أهل المدينة بترك الهمزة. وقرأ الباقون بالهمزة وهو الأصل.
يقال: صبا يصبوا صبوا، إذا مال وخرج من دين إلى دين.
واختلفوا في الصابئين من هم؟ فقال عمر: هم طائفة من أهل الكتاب ذبائحهم ذبائح أهل الكتاب؛ وبه قال السديّ. وقال ابن عباس: (لا دين لهم؛ ولا تحلّ ذبائحهم؛ ولا مناكحة نسائهم).وقال مجاهد: (قبيلة نحو الشّام بين اليهود والمجوس لا دين لهم؛ وكان لا يراهم من أهل الكتاب).وقال مقاتل وقتادة: (هم يقرّون بالله؛ ويعبدون الملائكة؛ ويقرءون الزّبور؛ ويصلّون إلى الكعبة، أخذوا من كلّ دين شيئا).
وقال الكلبيّ: (هم قوم بين اليهود والنّصارى يحلقون أوساط رءوسهم ويحنّون مذاكيرهم).وقال عبد العزيز بن يحيى: (قد انقرضوا فلا عين ولا أثر).
قوله تعالى: {(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا)} أي على التحقيق وعقد التصديق؛ وهم الذين آمنوا بعيسى ثم لم يتهوّدوا ولم يتنصّروا ولم يتصابئوا؛ وانتظروا خروج محمّد صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه. وقيل: هم طلاب الدّين؛ منهم حبيب النجار؛ وقسّ بن ساعدة؛ وورقة بن نوفل؛ وزيد بن عمرو بن نفيل؛ وأبو ذرّ الغفاريّ؛ وسلمان الفارسي؛ وبحيرا الراهب، آمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه؛ فمنهم من أدركه وتابعه ومنهم من لم يدركه.
وقيل: هم مؤمنو الأمم الماضية. وقيل: هم المؤمنون من هذه الأمّة.
(1)
الأعراف 156/.
قوله: {(وَالَّذِينَ هادُوا)} أي الذين كانوا على دين موسى ولم يبدّلوا ولم يغيّروا.
(والنّصارى) الذين كانوا على دين عيسى ولم يبدّلوا وماتوا على ذلك، {(وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)} من مات منهم وهو مؤمن.
وقوله تعالى: {(وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ)،} إنّما ذكره بلفظ الجمع؛ لأن لفظة (من) تصلح للواحد؛ والاثنين؛ والجمع؛ والمذكّر؛ والمؤنث، قال الله تعالى:
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ}
(1)
(2)
.قال الفرزدق في التّثنية
(3)
:
تعال فإن عاهدتني لا تخونني
…
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
فإن قيل: ما معنى إعطاء أجر المؤمن وهو عامل لنفسه؟ قيل: لمّا حمل على نفسه المشقّة وحرمها شهواتها؛ فآجره في الآخرة عوضا عما فاته من اللّذّات في الدّنيا.
وقوله تعالى: {(وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)؛} فيما تعاطوا من الحرام، {(وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)،} على ما اقترفوا من الآثام، لما سبق لهم في الإسلام. وقيل:{(لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)} في الكبائر فأنا أغفرها، {(وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)} على الصغائر فإنّي أكفّرها.
قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ؛} أي {(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ)} يا معشر اليهود {(وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ)} وهو الجبل بالسّريانية في قول بعضهم. وقالوا: ليس من لغة في الدّنيا إلاّ وهي في القرآن! وقال الحذّاق من العلماء:
لا يجوز أن يكون في القرآن لغة غير لغة العرب؛ لأنّ الله تعالى قال: {قُرْآناً عَرَبِيًّا}
(4)
وقال: {بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ}
(5)
وإنّما قال هذا وأشباهه وفاقا وقع بين اللّغتين؛ وقد وجدنا الطّور في كلام العرب، قال جرير:
فإن ترسل ما الجنّ نسوا بها
…
وإن يرسل ما صاحب الطّور ينزل
(1)
محمد 16/.
(2)
الأحزاب 31/.
(3)
من الشواهد، ينظر: ديوانه: ج 2 ص 329.ولسان العرب: (منن).
(4)
الزمر 28/.
(5)
الشعراء 195/.
والمأخوذ عليهم ميثاقان؛ الأوّل: حين أخرجهم من صلب آدم كالذّرّ. والثاني:
الذي أخذ عليهم في التوراة وسائر الكتب. والمراد في هذه الآية الثاني؛ وذلك أنّ الله تعالى أنزل التوراة فأمر موسى قومه بالعمل بأحكامها فأبوا أن يقبلوا ويعملوا بها للآصار والأثقال التي كانت فيها، وكانت شريعته ثقيلة فأمر الله جبريل فقطع جبلا على قدر عسكرهم؛ وكان فرسخا في فرسخ، فرفعه فوق رءوسهم مقدار قامة الرّجل.
عن ابن عبّاس: (أمر الله جبلا من جبال فلسطين فانقطع من أصله حتّى قام على رءوسهم مثل الظّلّة).وقال عطاء: (رفع الله فوق رءوسهم الطّور، وبعث نارا من قبل وجوههم؛ وأتاهم البحر الملح من خلفهم).وقيل لهم: {خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ؛} أي اقبلوا ما آتيناكم بجدّ ومواظبة في طاعة الله تعالى. وفيه إضمار؛ أي وقلنا لهم خذوا.
وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا ما فِيهِ؛} أي احفظوه واعملوا بما فيه. وقيل:
معناه: واذكروا ما فيه من الثواب والعقاب. وفي حرف أبي بكر: (وادّكروا) بدال مشدّدة وكسر الكاف. وفي حرف عبد الله: (وتذكّروا ما فيه) ومعناهما اتّعظوا به. قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (63)؛أي لكي تنجوا من العذاب في العقبى والهلاك في الدّنيا إن قبلتموه وفعلتم ما أمرتم به؛ وإلا وضحتكم بهذا الجبل وأغرقتكم في البحر وأحرقتكم بهذه النار. فلما رأوا أن لا مهرب منه قبلوا ذلك وسجدوا خوفا، وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود مخافة أن يقع عليهم؛ فصارت صفة في اليهود لا يسجدون إلاّ على أنصاف وجوههم؛ فلمّا رأوا الجبل قالوا: يا موسى سمعنا وأطعنا ولولا الجبل ما أطعنا.
قوله عز وجل: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ؛} أي أعرضتم وعصيتم من بعد أخذ الميثاق ورفع الجبل، {فَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ،} بتأخير العذاب عنكم، {لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ} (64)؛أي لصرتم من المغبونين في العقوبة وذهاب الدّنيا والآخرة.
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ؛} وذلك أنّهم كانوا في زمن داود بأرض يقال لها: أيلية على ساحل البحر بين المدينة والشّام، وكانت مسكن بني إسرائيل. وكان الله قد حرّم عليهم صيد السّمك يوم السبت، وكان إذا دخل يوم السبت لم يبق حوت إلا اجتمع هناك حتى يخرجن خراطيمهن من الماء لأمنها في ذلك اليوم. فإذا مضى يوم السبت تفرّقن ولم يخرجن ولزمن لجّة البحر، فذلك قوله تعالى:{إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ}
(1)
فعمد رجال فحفروا حفيرة عشيّة الجمعة حيث يدخل السمك وساقوا إليها الماء من البحر، فأقبل الموج بالحيتان فحبسوا السّمك فيها يوم السبت، وأخذوا منها ليلة الأحد ويوم الأحد، وقالوا: نحن لا نصطاد يوم السبت.
وكان في القرية نحوا من سبعين ألفا؛ فصنف منهم أمسك عن الاصطياد ونهى؛ وصنف أمسك ولم ينه؛ وصنف منهم انتهوا؛ وصنف منهم انتهكوا الحرمة. وكان الذين نهوا اثني عشر ألفا؛ فلما أبى المجرمون قبول نصحهم قال النّاهون: والله لاساكنّاكم في قرية واحدة، فقسّموا القرية بجدار ولعنهم داود عليه السلام وغضب الله لإصرارهم على المعصية، فخرج النّاهون ذات يوم من بابهم، والمجرمون لم يفتحوا بابهم ولا خرج منهم أحد؛ فلما أبطئوا تسوّروا عليهم الحائط فإذا هم جميعا قردة.
فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا. ولم يمكث ممسوخ مسخ فوق ثلاثة أيام، ولم يتوالدوا، فذلك قوله تعالى:{فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ} (65)؛أي صاغرين مطرودين بلغة كنانة، قاله مجاهد وقتادة والربيع.
وقال أبو روق: يعني (خرسا لا يتكلّمون)،دليله قوله تعالى:{اِخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ}
(2)
.وقيل: مبعدون من كلّ خير، روي عن ابن مسعود:(أنّهم لم يلدوا بعد ما مسخوا) قال: (ولذلك الممسوخ لا يكون له نسل).وقيل: إنّهم كانوا رجالا ونساء فمسخهم الله تعالى الذكر ذكر والأنثى أنثى؛ وكانوا يتعاوون، وكان تسيل
(1)
الأعراف 163/.
(2)
المؤمنون 108/.
دموعهم ولم يأكلوا ولم يشربوا، ثم أهلكهم الله تعالى. فجاءت ريح فهبّت بهم وألقتهم في الماء، وما مسخ الله تعالى أمّة إلا أهلكها.
قوله عز وجل: {فَجَعَلْناها نَكالاً؛} أي القردة؛ وقيل: المسخة؛ وقيل:
العقوبة؛ وقيل: القرية. وقوله تعالى: {(نَكالاً)} أي عقوبة وعبرة وفضيحة، {لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها؛} أي عقوبة لما مضى من ذنوبهم وعبرة لمن بعدهم. وقال قتادة:(معناه جعلنا تلك العقوبة جزاء لما تقدّم من ذنوبهم قبل نهيهم عن الصّيد؛ وما خلفها من العصيان بأخذ الحيتان بعد النّهي).وقيل: لما بين يديها من عقوبة الآخرة؛ وما بعدها من فضيحة في دنياهم، فتذكرون بها إلى يوم القيامة. وقوله تعالى:
{وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (66)؛أي عظة وعبرة للمؤمنين من أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم الذين يتّقون الشّرك والكبائر والفواحش، فلا يفعلون مثل فعلهم.
قوله عز وجل: {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً؛} هذه الآية نزلت بعد قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيها}
(1)
وإن كانت مقدّمة في التلاوة؛ لأن قتل النفس كان قبل ذبح البقرة.
والقصّة فيه ما روي: أنّ بني إسرائيل قيل لهم في التّوراة: أيّما قتيل وجد بين قريتين فليقس إلى أيّهما أقرب؛ ثمّ ليؤخذ لأهل تلك القرية وليحلف خمسون شيخا من شيوخهم بالله ما قتلوه ولا علموا له قاتلا. فقتل رجلان من بني إسرائيل ابن عمّ لهما اسمه عاميل ليرثاه؛ وكانت لهما ابنة عمّ حسنة، فخافا أن ينكحها؛ فقتلاه لذلك وحملاه إلى جانب قرية فأخذ أهل تلك القرية به فجاءوا إلى موسى عليه السلام، وقالوا:
أدع الله تعالى أن يطلعنا على قاتله، فأوحى الله إليه: امرهم أن يذبحوا بقرة، فأمرهم بذلك ليضرب المقتول ببعض تلك البقرة فيحيى فيخبرهم بمن قتله. ف:{قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً؛} أي تستهزئ بنا يا موسى حين سألناك عن القتل وتأمرنا بذبح بقرة!! وإنّما قالوا ذلك لتباعد الأمرين في الظاهر؛ ولم يدروا ما الحكمة فيه.
(1)
البقرة 72/.
وقرأ ابن محيصن: «(أيتّخذنا)» بالياء يعنون الله عز وجل. ولا يستبعد هذا من جهلهم؛ لأنّهم هم الذين قالوا: {اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ}
(1)
.وفي قوله عز وجل: {(هُزُواً)} ثلاث لغات: (هزوا) بالتخفيف والهمز ومثله كفوا؛ وهي قراءة الأعمش وحمزة وخلف. و «(هزؤا)» و «(كفؤّا)» مهموزان مثقّلان، وهي قراءة أبي عمرو وأهل الحجاز والشام والكسائي. وهزوا وكفوا مثقّلان بغير همز هي قراءة حفص عن عاصم، وكلها لغات صحيحة فصيحة معناها الاستهزاء.
ف: {قالَ؛} لهم موسى: {أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ} (67)؛ أي أمتنع بالله أن أكون من المستهزءين بالمؤمنين.
فلمّا علم القوم أن ذبح البقرة عزم من الله، {قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ،} أي ما هذه البقرة؛ كبيرة أم صغيرة؟ وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
[والّذي نفس محمّد بيده؛ لو أنّهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزت، ولكن شدّدوا على أنفسهم بالمسألة فشدّد الله عليهم]
(2)
.إنّما كان تشديدهم تقديرا من الله عز وجل وحكمة منه.
وكان السبب فيه: أن رجلا من بني إسرائيل كان بارّا بأبويه، وبلغ من برّه أنّ رجلا أتاه بلؤلؤة فابتاعها بخمسين ألفا، وكان فيها فضل. فقال: إن أبي نائم ومفتاح الصندوق تحت رأسه، فأمهلني حتى يستيقظ وأعطيك الثمن. قال: فأيقظه وأعطني الثمن. قال: ما كنت لأفعل، قال: أزيدك عشرة آلاف إن أيقظت أباك وعجّلت النقد.
فقال: وأنا أزيدك عشرين ألفا إن انتظرت انتباه أبي؛ ففعل ولم يوقظ الرجل أباه؛ فأعقبه الله ببرّه أباه أن جعل البقرة تلك بعينها عنده. وأمر بني إسرائيل أن يذبحوا تلك البقرة بعينها.
(1)
الأعراف 138/.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1031 و 1032 و 1033) مرسلا. وفي الدر المنثور: ج 1 ص 189؛ قال السيوطي: «وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة:
…
» ذكره، وسكت عنه.
وقال ابن عبّاس: (كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل؛ وكان له عجلة، فأتى بالعجلة إلى غيضة؛ وقال: اللهمّ إنّي أستودعك هذه العجلة لابني حتّى يكبر. ومات الرّجل فنشأت العجلة في الغيضة وصارت عوانا؛ وكانت تهرب من كلّ من رآها، فلمّا كبر الابن وكان بارّا بأمّه، كان يقسم اللّيلة أثلاثا؛ يصلّي ثلثا؛ وينام ثلثا؛ ويجلس عند رأس أمّه ثلثا، فإذا أصبح ذهب يحتطب على ظهره ويبيعه في السّوق، ثمّ يتصدّق بثلثه؛ ويأكل ثلثه؛ ويعطي أمّه ثلثه.
فقالت له أمّه يوما: إنّ أباك ورّثك عجلة، وذهب بها إلى غيضة كذا واستودعها الله، فانطلق إليها وادع إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب أن يردّها عليك؛ فإنّ من علامتها أنّك إذا نظرت إليها يخيّل إليك أنّ شعاع الشّمس يخرج من جلدها. وكانت تسمّى المذهّبة لحسنها وصفرتها وصفاء لونها.
فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى؛ فصاح بها وقال: أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، فأقبلت تسعى حتّى قامت بين يديه؛ فقبض على عنقها وقادها. فتكلّمت البقرة بإذن الله تعالى؛ وقالت: أيّها الفتى البارّ بوالديه! اركبني فإنّ ذلك أهون عليك. قال: إنّ أمّي لم تأمرني بذلك! ولكن قالت: قودها بعنقها، فقالت: وحقّ إله بني إسرائيل؛ لو ركبتني ما كنت تقدر عليّ أبدا، فانطلق فإنّك لو أمرت الجبل أن ينقطع من أصله وينطلق معك لفعل لبرّك بأمّك!
فجاء بها إلى أمّه فقالت له: يا بنيّ إنّك فقير؛ وشقّ عليك الاحتطاب بالنّهار؛ والقيام باللّيل، فاذهب وبع هذه البقرة فخذ ثمنها. فقال: بكم؟ فقالت: بثلاثة دنانير؛ ولا تبعها بغير رضاي ومشورتي! وكان ثمن البقرة في ذلك الوقت ثلاثة دنانير.
فانطلق بها إلى السّوق، فبعث الله ملكا في صورة بشر ليختبر كيف برّ الفتى بوالديه! فقال الملك: بكم تبيع هذه البقرة؟ قال: بثلاثة دنانير؛ وأشرط عليك رضى والدتي. فقال الملك: بستّة دنانير؛ ولا تستأذن أمّك. فقال: لو أعطيتني وزنها ذهبا لم آخذه إلاّ برضاء والدتي! فردّها إلى أمّه. فقالت: بعها بستّة دنانير على رضى منّي.
فانطلق بها وقال للملك: إنّها أمرتني أن لا أنقصها من ستّة دنانير على أن أستأمرها.
فقال الملك: أنا أعطيك اثنى عشر على أن لا تستأمرها، فأبى، ورجع إلى أمّه
فأخبرها بذلك. فقالت: يا بنيّ إنّ الّذي يأتيك ملك في صورة بشر؛ فقل له: أتأمرنا أن نبيعها أم لا؟ فأتى إليه؛ فقال له ما قالت أمّه. فقال له: اذهب إلى أمّك وقل لها:
أمسكي هذه البقرة، فإنّ موسى يشتريها منكم لقتيل يقتل من بني إسرائيل، فلا تبيعوها إلاّ بملء مشكها ذهبا. وقدّر الله على بني إسرائيل ذبحها مكافأة له على برّ والديه فضلا منه ورحمة).
وروي أنّها كانت لرجل يبيع الجوهر، فجاءه إبليس بجراب من اللّؤلؤ يساوي مائتي ألف، فعرضه عليه بمائة ألف، فوجد الجوهريّ المفتاح تحت رأس أبيه وهو نائم، وقال: كيف أوقظ أبي لربح مائة ألف؟! فكره أن يوقظه، فرجع وقال: إنّ أبي نائم والمفتاح تحت رأسه. فقال له إبليس: اذهب أيقظه فأنا أبيعك بخمسين ألفا. فذهب فلم يحتمل قلبه ذلك، فرجع، فلم يزل إبليس يحطّ من الثمن حتى بلغ عشرة دراهم، فلم يوقظ أباه وترك الشراء، فجعل الله في ماله البركة حتى اشتروا بقرته بملء مشكها ذهبا.
قوله عز وجل: {قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ؛} وفي مصحف عبد الله: «(سل لنا ربّك يبيّن لنا)» .ومعنى الآية: {(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما)} سنّها؟. {(قالَ)} موسى: {(إِنَّهُ)} يعني الله عز وجل {(يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ)} لا كبيرة ولا صغيرة. وارتفع (فارض) و (بكر) بإضمار (هي)؛أي لا هي فارض ولا هي بكر.
قال مجاهد والأخفش: (الفارض: الكبيرة المسنّة الّتي لم تلد. والبكر: الفتيّة الصّغيرة الّتي لم تلد).قال السديّ: (البكر: الّتي لم تلد قطّ إلاّ واحدا).وقيل: معناه لا فارض؛ أي ليست بكبيرة قد ولدت بطونا كثيرة، ولا بكرا؛ أي لم تلد.
قوله تعالى: {عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ؛} أي وسط بين الصغيرة والكبيرة قد ولدت بطنا أو بطنين؛ وجمعها عون. قوله تعالى: {فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ} (68)؛أي افعلوا ما تؤمرون به من الذّبح، ولا تكثروا السؤال.
ثم عادوا في السؤال ف: {قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها؛} موضع (ما) رفع بالابتداء؛ و (لونها) خبره. وقرأ الضحّاك: «(ما لونها)» نصبا كأنه
أعمل فيه التبيين وجعل (ما) صلة. {قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها؛} قيل: يعني سوداء مثل قوله: {جِمالَتٌ صُفْرٌ}
(1)
أي سود، كذا قال الحسن. والعرب تسمي الأسود أصفر. قال الشاعر
(2)
:
تلك خيلي منه وتلك ركابي
…
هنّ صفر أولادها كالزّبيب
والصحيح: أنّها صفراء؛ لأن السوداء لا تؤكّد بالفاقع، وإنّما تؤكّد بالحالك، يقال في المبالغة في الوصف: أصفر فاقع؛ وأحمر قان؛ وأسود حالك؛ وأخضر ناضر؛ وأبيض ناصع. ويقال: أبيض نقيّ، فمعنى (فاقع) أي صاف شديد الصّفرة. وقال ابن عبّاس:(صفراء فاقع لونها شديدة الصّفرة).وقال العتيبيّ: (غلط من قال: الصّفراء هاهنا السّوداء؛ لأنّ هذا غلط في نعوت البقر، وإنّما هو في نعوت الإبل).
قوله تعالى: {تَسُرُّ النّاظِرِينَ} (69)؛أي تعجب الناظرين إليها؛ لتمام خلقها؛ وكمال حسنها؛ ونصوع لونها. قال عليّ رضي الله عنه: (من لبس نعلا صفراء قلّ همّه؛ لأنّ الله تعالى يقول: {صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النّاظِرِينَ}).فإن قيل: لم أمروا بذبح البقرة دون غيرها؟ قيل: لأن القربان تكون من الإبل والبقر والغنم؛ وكانوا يحرّمون لحم الإبل؛ كما قال تعالى: {إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ}
(3)
يعني لحوم الإبل؛ وكان ذبح البقرة أفضل من ذبح الغنم فخصّت بذلك.
قوله عز وجل: {قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ؛} أسائمة أم عاملة؟ قوله تعالى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا؛} هذه قراءة العامة؛ وقرأ محمّد الأمويّ
(4)
: (إنّ الباقر) هو جمع البقر. قال قطرب: يقال في جمع البقرة: بقر وباقر وباقور وبقور. فإن قيل: لم قال (تشابه) والبقر جمع؛ ولم يقل تشابهت؟ قيل: فيه
(1)
المرسلات 33/.
(2)
البيت للأعشى، ينظر: ديوانه: ص 20 من قصيدة في مدح قيس بن معديكرب.
(3)
آل عمران 93/.
(4)
محمّد ذو الشامة الأموي. وقرأ بها عكرمة ويحيى بن يعمر. نقله القرطبي في الجامع: ج 1 ص 452؛وقال: «جعله فعلا مستقبلا» .
ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ذكّر لتذكير لفظ البقر كقوله: {أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ}
(1)
.
وسئل عن هذا سيبويه فقال: (كلّ جمع حروفه أقلّ من حروف لفظ واحده؛ فإنّ العرب تذكّره).وقال الزجّاج: (معناه أنّه أراد جنس البقر).
وقوله تعالى: {(تَشابَهَ)} فيه سبع قراءات: «(تشابه)» بفتح التاء والهاء وتخفيف الشّين؛ وهي قراءة العامّة. وقراءة الحسن: «(تشابه)» بالتخفيف وهاء مضمومة؛ يعني تتشابه. وقراءة الأعرج: «(تشابه)» بفتح التاء والتشديد وضمّ الهاء على معنى: تتشابه.
وقرأ مجاهد: «(تشّبّه)» كقراءة الأعرج إلا أنه بغير ألف. وفي مصحف أبيّ: (تشابهت) أنّثه لتأنيث البقر. وقرأ ابن إسحاق: «(تشّابهت)» بالتشديد
(2)
.وقرأ الأعمش: «(متشابه)» .
قوله تعالى: {وَإِنّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ} (70)؛يعني إلى وصفها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [واسم الله لو لم يستثنوا لما بيّنت لهم إلى آخر الأبد]
(3)
.
قوله تعالى: {قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ؛} أي لا مذلّلة بالعمل، {تُثِيرُ الْأَرْضَ؛} أي ليست بحراثة، {وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ؛} أي ليست ناضحة لا يسقى عليها الزرع. قوله تعالى:{مُسَلَّمَةٌ؛} أي بريّة من العيوب.
وقال الحسن: (مسلّمة القوائم ليس فيها أثر العمل).قوله تعالى: {لا شِيَةَ فِيها؛} أي لا عيب فيها. وقال قتادة: (لا بياض فيها أصلا).وقال مجاهد: (لا بياض فيها ولا سواد).وقيل: ليس فيها لون يفارق سائر لونها. والذّلول في الدواب:
بمنزلة الذليل في الناس؛ يقال: رجل ذليل؛ ودابّة ذلول.
وقوله تعالى: {قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ؛} أي بالوصف البيّن التامّ؛ فطلبوها؛ فلم يجدوها بكمال وصفها إلا عند الفتى البارّ بوالديه؛ فاشتروها منه بملء
(1)
القمر 20/.
(2)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 1 ص 452؛ نقل القرطبي قال: «قال أبو حاتم: وهو غلط؛ لأن التاء في هذا الباب لا تدغم إلا في المضارع» .
(3)
في الدر المنثور: ج 1 ص 189؛ قال السيوطي: «أخرج البزار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: [إنّ بني إسرائيل لو أخذوا بأدنى بقرة لأجزأهم ذلك].وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
» وذكره بلفظ قريب.
مشكها
(1)
ذهبا. وقال السديّ: (بوزنها عشر مرّات ذهبا).وقوله تعالى: {فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ} (71)؛أي من غلاء ثمنها. وقيل: وما كادوا يجدونها باجتماع أوصافها. وقيل: لأن كلّ واحد منهم خشي أن يكون القاتل من قبيلته.
قوله عز وجل: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيها؛} يعني: عاميل. وهذه الآية أوّل القصّة؛ ومعناها: واذكروا إذ قتلتم نفسا فادّارأتم فيها؛ أي اختلفتم فيها، كذا قال ابن عبّاس ومجاهد؛ ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:[كنت خير شريك لا تداري ولا تماري]
(2)
.وقال الضحّاك: ({فَادّارَأْتُمْ فِيها}؛أي اختصمتم).وقال عبد العزيز بن يحيى:
(شككتم).وقال الربيع: (تدافعتم).وأصل الدّرء الدفع. يعني إلقاء ذاك على هذا؛ وهذا على ذاك يدافع كلّ واحد عن نفسه كقوله: {وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ}
(3)
.
وقوله تعالى: {وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (72)؛أي مظهر ما كتمتم من أمر القاتل.
قوله عز وجل: {فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها؛} أي اضربوا المقتول ببعض البقرة؛ أي بعضو منها. واختلفوا في هذا البعض ما هو؟ فقال ابن عبّاس: (العضو الّذي يلي الغضروف وهو المقتل).وقال الضحّاك: (بلسانها).وقال سعيد بن جبير:
(معجب ذنبها؛ وهو العصعص؛ لأنّه أساس البدن الّذي ركّب عليه؛ وهو أوّل ما يخلق وآخر ما يبلى).وقال مجاهد: (بدنها).وقيل: بفخذها. وقيل: فخذها الأيمن.
وقال السديّ: (البضعة الّتي بين كتفيها).ففعلوا ذلك، فلما ضربوه قام القتيل حيّا
(1)
المشكدانة: فارسيّة معناها: موضع المسك. ولقّب بها عبد الله بن عامر المحدث لطيب ريحه وأخلاقه. القاموس المحيط: (مشكدانة).
(2)
عن عبد الله بن السائب قال: كنت شريكا للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما قدمت المدينة قلت: أتعرفني؟ قال: [كنت شريكا لي، فنعم الشّريك أنت، كنت لا تماري ولا تداري].في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: ج 9 ص 409؛قال الهيثمي: «رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير منصور بن أبي الأسود، وهو ثقة» .وعنه قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبايعه، فقلت: يا رسول الله أتعرفني؟ قال: [نعم، ألم تكن شريكا لي، فوجدتك خير شريك لا تداري ولا تماري].قال الهيثمي: «رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح» .والحديث بلفظ قريب خرجه أبو داود وابن ماجة.
(3)
الرعد 22/.
بإذن الله تعالى وأوداجه تشخب دما. فسألوه: من قتلك فقال: فلان وفلان؛ لابني عمّ له. ثم اضطجع ميتا. فأخذا فقتلا. وفي الآية اختصار تقديره: {فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها} فضربوه فحيى.
قوله تعالى: {كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى؛} أي كما أحيا عاميل بعد موته كذلك يحيي الله الموتى. {وَيُرِيكُمْ آياتِهِ؛} أي عجائب قدرته ودلالته، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (73)؛أي لكي تفهموا إحياء الموتى وغير ذلك. قال الواقديّ
(1)
: (كلّ شيء في القرآن (لعلّكم) فهو بمعنى (لكي) غير الّذي في الشّعراء:
{وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}
(2)
فإنّه بمعنى كأنّكم تخلدون فلا تموتون)
(3)
.
والله تعالى كان قادرا على إحيائه بغير هذا السبب؛ إلا أنّ الله أمرهم بذلك؛ لأن إحياء الميت بالميت آكد دليلا وأبين قدرة.
قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ،} قال الكلبي: قالوا بعد ذلك: لم نقتله نحن؛ وأنكروا؛ ولم يكن أعمى قلبا ولا أشدّ تكذيبا منهم لنبيّهم عند ذلك، فقال الله تعالى:{(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ)} .
قال الكلبيّ: (قست؛ أي يبست وفسدت).وقال أبو عبيد: (حقدت).وقال الواقديّ: (جفّت فلم تلن).وقيل: اسودّت. وقال الزجّاج: (تأويل القسوة ذهاب اللّين والخشوع والخضوع).وقيل: قست؛ أي غلظت.
وقوله تعالى: {(مِنْ بَعْدِ ذلِكَ)} أي من بعد إحياء الميت. وقيل: من بعد هذه الآيات التي تقدّمت من مسخ القردة والخنازير؛ ورفع الجبل؛ وخروج الأنهار من الحجر؛ وغير ذلك. {فَهِيَ كَالْحِجارَةِ؛} في غلظها وشدّتها ويبسها؛
(1)
محمّد بن عمر بن واقد السهمي بالولاء، المدني، أبو عبد الله الواقدي، من أقدم المؤرخين في الإسلام وأشهرهم، ومن حفّاظ الحديث، ولد في (130) من الهجرة، وتوفي (207) من الهجرة. من كتبه: تفسير القرآن.
(2)
الآية 129/.
(3)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 1 ص 227؛ قال القرطبي: «إن العرب استعملت (لعل) مجردة من الشكّ بمعنى (لام كي) فالمعنى: لتعقلوا ولتذكروا ولتتقوا» .
{أَوْ أَشَدُّ؛} يبسا وغلظا. ومعنى (أو أشدّ):بل أشدّ، كقوله:{كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}
(1)
.وقيل: (أو) بمعنى الواو؛ أي وأشدّ، {قَسْوَةً،} وقوله تعالى:
{بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ}
(2)
ومثل: {لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ}
(3)
،وقوله تعالى:{آثِماً أَوْ كَفُوراً}
(4)
.وقرأ أبو حيوة: «(أو أشدّ قساوة)» .
ثم عذر الله الحجارة وفضّلها على القلب القاسي، فأخبر أنّ منها ما يكون فيه رطوبة؛ وأنّ منها لما يتردّى من أعلى الجبل إلى أسفله مخافة الله عز وجل فقال تعالى:
{وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ،} وقرأ مالك بن دينار: «(نتفجّر)» بالنون كقوله {فَانْفَجَرَتْ} . وفي مصحف أبيّ «(منها الأنهار)» ردّ الكناية إلى الحجارة.
{وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ 5 فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ،} قرأ الأعمش: «(يتشقّق)» .
وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ؛} أي ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله من خشية الله؛ وقلوبكم يا معشر اليهود لا تلين ولا تخشع ولا تأتي بخير. قيل: لا يهبط من الجبال حجر بغير سبب ظاهر إلا وهو مجعول فيه التمييز.
قوله تعالى: {وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ} (74)؛وعيد وتهديد؛ أي ما الله بتارك عقوبة ما تعملون؛ بل يجازيكم به.
قوله تعالى: {*أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ؛} خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه: أفترجون أيّها المؤمنون أن تصدّقكم اليهود فيما آتاكم به نبيكم محمّد، {وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ؛} أي طائفة، {مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ؛} ؛يعني التوراة، {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ؛} أي يغيّرونه، {مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ؛} أي من بعد ما فهموه وعلموه كما غيّروا آية الرّجم وصفة النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى:{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (75)
(6)
؛أي وهم يعلمون أنّهم كاذبون، هذا قول مجاهد وعكرمة والسديّ وقتادة.
(1)
النحل 77/.
(2)
النور 61/.
(3)
النور 31/.
(4)
الإنسان 24/.
(5)
فيه إدغام التاء؛ في الأصل: يتشقّق.
(6)
أنّهم مفترون، والهمزة للآية؛ أي لا تطمعوا فلا سابقة في الكفر به أبين. تفسير الجلالين.
وقال ابن عبّاس ومقاتل والكلبيّ: (نزلت هذه الآية في السّبعين الّذين اختارهم موسى لميقات ربه لمّا أخذتهم الرّجفة وأحياهم الله تعالى بدعاء موسى؛ حين قالوا: يا موسى أسمعنا كلام الله؟ فطلب ذلك؛ فأجابه الله: مرهم أن يتطهّروا ويطهّروا ثيابهم ويصوموا؛ ففعلوا، ثمّ خرج بهم موسى حتّى أتوا الطّور؛ فلمّا غشيهم الغمام سمعوا صوتا كصوت الشّبّور
(1)
؛فسجدوا، فسمعوا كلام الله يقول:
(إنّي أنا الله ربّكم لا إله إلاّ أنا الحيّ القيّوم، لا تعبدوا إلها غيري ولا تشركوا بي شيئا؛ وأوصيكم ببرّ الوالدين؛ وأن لا تحلفوني كاذبين؛ ولا تزنوا؛ ولا تسرقوا؛ ولا يقتل بعضكم بعضا؛ ولا يشهد بعضكم على بعض شهادة زور؛ وأطعموا المساكين؛ وصلوا القرابة؛ ولا تظلموا اليتيم؛ ولا تقهروا الضّعيف)
(2)
.
فلمّا سمعوا خرجت أرواحهم ثمّ ردّت إليهم. فقالوا: يا موسى إنّا لا نطيق أن نسمع كلام الله عز وجل يقول في آخر كلامه: (إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا، ولا بأس).والمعنى بهذه الآية تقرّ به الصحابة في أنّ اليهود إن كذّبوا النبيّ فلهم سابقة في الكفر والتّحريف.
قوله عز وجل: {وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا؛} قرأ ابن السّميقع «(وإذا لاقوا)» قيل: يعني المنافقين من أهل الكتاب في وقت موسى؛ فإنه كان في قومه منافقون، كما في أمّتنا. وقيل: المراد به منافقو هذه الأمة، وإنّما ذكرهم الله تعالى هنا مع اليهود؛ لأن أكثرهم كانوا منهم من اليهود قبل مبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم.
معناه: {(وَإِذا لَقُوا)} المنافقون من اليهود {(الَّذِينَ آمَنُوا)} ،يعني أبا بكر وأصحابه من المؤمنين. قالوا:{(آمَنّا)} كإيمانكم وشهدنا بأن محمّدا صادق ونجده في كتابنا بنعته وصفته، {وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ،} أي وإذا خلوا إلى رؤسائهم، {قالُوا؛} قال لهم رؤساؤهم-كعب بن أشرف؛ وكعب بن أسد؛ ووهب بن
(1)
على وزن (التنور):وهي البوق.
(2)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 2 ص 2؛ قال القرطبي: «هذا حديث باطل لا يصح. رواه ابن مردان عن الكلبي، وكلاهما ضعيف لا يحتج به» .
يهودا، وغيرهم-من رؤساء اليهود:{أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ؛} أي تخبرونهم أنّهم على الحقّ ليكون لهم الحجّة عليكم عند الله في الدنيا والآخرة إذ كنتم مقرّين بصحة أمرهم ولم تتّبعوهم.
وقال الكلبيّ: (معناه: أتحدّثونهم بما قضى الله عليكم في كتابكم أنّ محمّدا حقّ وقوله صدق).ومنه قيل للقاضي: الفتّاح. وقال الكسائيّ: بما بيّنه الله لكم. وقال الواقديّ: بما أنزل الله عليكم؛ نظيره: {لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ}
(1)
؛أي أنزلنا. وقال أبو عبيد والأخفش: (بما منّ الله عليكم وأعطاكم).
قوله تعالى: {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ؛} أي ليخاصموكم ويحتجّوا بقولكم عليكم عند ربكم. وقال بعضهم: هو أن الرجل من المسلمين يلقى قرينه وصديقه من اليهود فيسأله عن أمر محمّد صلى الله عليه وسلم فيقول: إنه حقّ وهو نبيّ؛ فيرجعون إلى رؤسائهم فيلومونهم على ذلك. وقيل: إن كعب بن الأشرف وغيره من رؤساء الكفار كانوا يقولون لعبد الله بن أبي وأصحابه: إذا أقررتم بنبوّة هذا النبيّ وأنّ ذكره في التوراة حقّ؛ تأكّدت حجته عليكم. وقال مجاهد: (إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سبّ يهود بني قريظة؛ فقال لهم: [يا إخوان القردة والخنازير، ويا عبدة الطّاغوت] فقال بعضهم لبعض:
من أخبر محمّدا بهذا؟ ما سمعه إلاّ منكم؛ أو ما خرج إلاّ منكم!)
(2)
.
وأصل الفتح: فتح المغلق؛ ثم استعمل في مواضع كثيرة من فتح البلدان؛ وفتحك على القارئ. وقد يكون الفتح بمعنى الحكم؛ كما في هذه الآية ومنه قوله:
(3)
.ويسمّى القاضي: الفاتح بلغة عثمان. وقد يكون الفتح بمعنى النّصر مثل قوله تعالى: {وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا}
(4)
أي يطلبون النّصرة عليهم. وقوله تعالى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} (76)؛أي أفليس لكم ذهن الإنسانيّة.
(1)
الأعراف 96/.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1113).
(3)
الأعراف 89/.
(4)
البقرة 89/.
قوله تعالى: {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ} (77) أي ما يسرّون من تكذيب النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما بينهم، وما يعلنون مع الصّحابة من التصديق.
وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ؛} أي ومن اليهود من لا يحسن القراءة ولا الكتابة إلا أن يحدثهم كبارهم بشيء فيظنّونه حقّا؛ فيصدقونهم وهو كذب. قوله تعالى: {لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاّ أَمانِيَّ} . اختلفوا في معنى الأماني، قال الكلبيّ: معناه لا يعلمون إلاّ ما يحدّثهم به علماؤهم. وقال أبو روق: (القراءة من ظهر القلب ولا يقرءون في الكتب) ودليل هذا قوله تعالى: {إِلاّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}
(1)
أي إلاّ إذا قرأ ألقى الشّيطان في قراءته. قال الشاعر
(2)
:
تمنّى كتاب الله أوّل ليلة
…
وآخره لاقى حمام المقادر
وقال مجاهد: (الأمانيّ الكذب والأباطيل؛ كقول عثمان رضي الله عنه: (ما تمنّيت منذ أسلمت) أي ما كذبت).وأراد بالأمانيّ الأشياء التي كتبها علماؤهم من عند أنفسهم ثم أضافوها إلى الله تعالى من تغيير صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن: (معنى: يتمنّون على الله الكذب والباطل مثل قوله: {لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً}
(3)
وقوله: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى}
(4)
وقولهم: {نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبّاؤُهُ}
(5)
).
قوله تعالى: {وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ} (78)؛أي ما هم إلاّ يظنّون ظنّا وتوهّما لا حقيقة ويقينا، قاله قتادة والربيع. وقال مجاهد: معناه: (وإن هم إلاّ يكذبون).
قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ؛} نزلت هذه الآية في علماء اليهود الذين غيّروا صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم في التوراة فكتبوها: محمّد سبطا؛ طويلا؛ أزرقا؛ شبط الشّعر. وكانت صفته في التوراة: حسن الوجه؛ جعد الشعر؛ أسمر ربعة. فبدّلوا وقالوا: هذا من عند الله، وإذا سئلوا عن
(1)
الحج 52/.
(2)
هو كعب بن مالك.
(3)
البقرة 80/.
(4)
البقرة 111/.
(5)
المائدة 18/.
صفته قرءوا ما كتبوه؛ فيجدونه مخالفا لصفته فيكذّبونه. وإنّما فعلت اليهود ذلك؛ لأنّهم خافوا ذهاب ملكهم وزوال رئاستهم حين قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة؛ فاحتالوا في تغيير صفته ليمنعوا الناس عن الإيمان به.
والويل: الشّدّة في العذاب. وقيل: الهلاك. وقيل: الخزي؛ ويكنّى عنه ب (ويس) و (ويح)
(1)
.وقيل: هو واد في جهنّم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يقع إلى قعره. وقيل: يسيل فيه صديد أهل النار. وقيل: لو جعلت فيه جبال الدّنيا لماعت من شدّة حرّه.
وقوله تعالى: {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً؛} يعني ما كان لهم من المأكلة والهدايا من أغنيائهم؛ ألحق الله بهم ثلاث ويلات فيما غيّروا من الكتاب. وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ} (79)؛أي مما يصيبون من المآكل والهدايا. ولفظ الأيدي للتأكيد كقولهم: مشيت برجلي؛ ورأيت بعيني. قال الله تعالى: {وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ}
(2)
.
قوله تعالى: {وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً؛} اختلفوا في هذه الأيّام
(3)
ما هي؟ قال ابن عبّاس ومجاهد: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تقول: مدّة الدّنيا سبعة آلاف سنة؛ وإنّما نعذّب بكلّ ألف سنة يوما واحدا، ثمّ ينقطع العذاب عنّا بعد سبعة أيّام. فأنزل الله هذه الآية)
(4)
.
(1)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 2 ص 8؛ قال القرطبي: «قال الخليل: ولم يسمع على بنائه إلا ويح وويس وويه وويك وويل وويب؛ وكله يتقارب في المعنى. وقد فرق بينها قوم؛ وهي مصادر لم تنطق العرب منها بفعل. قال الجرميّ: ومما ينتصب انتصاب المصادر: ويله وعوله وويحه وويسه؛ فإذا أدخلت اللام رفعت فقلت: ويل له، وويح له» .
(2)
الأنعام 38/.
(3)
في المخطوط (الآيات)،وهو تصحيف، والصحيح كما أثبتناه لمقتضى السياق.
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الرقم (1164) بإسنادين عن عكرمة عن ابن عباس؛ وعن مجاهد: الرقم (1165) بثلاثة أسانيد.
وقال قتادة وعطاء: (يعنون الأربعين يوما الّتي عبد آباؤهم فيها العجل؛ وهي مدّة غيبة موسى عليه السلام.
وفي بعض التّفاسير: اختلف في مقدار عبادتهم العجل؛ فقيل: عشرة أيام.
وقيل: سبعة أيّام. وقيل: أربعون يوما. فقال الله تعالى تكذيبا لهم: {قُلْ؛} يا محمّد: {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً؛} أي موثقا أنّ لا يعذّبكم إلاّ هذه المدّة، {فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ} (80).
وروي أنه يقال لهم عند مضيّ الأجل: يا أعداء الله قد مضى الأجل وبقي الأبد.
ولفظ ال (معدودة) للقلّة كقوله: {بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ}
(1)
،وفي الصّوم:{أَيّاماً مَعْدُوداتٍ}
(2)
.واحتجّ أصحابنا بقوله عليه الصلاة والسلام:
[المستحاضة تدع الصّلاة أيّام أقرائها]
(3)
وقوله صلى الله عليه وسلم: [دعي الصّلاة أيّام أقرائك]
(4)
أن أقلّ الأيام ثلاثة وأكثرها عشرة؛ لأنه يقال لما دون الثلاثة: يوم
(1)
يوسف 20/.
(2)
البقرة 184/.
(3)
رواه أبو داود في السنن: كتاب الطهارة: باب من قال تغتسل من طهر إلى طهر: الحديث (297).والترمذي في الجامع الصحيح: أبواب الطهارة: باب ما جاء في المستحاضة: الحديث (126 و 127)،وقال: «تفرد به شريك عن ابن أبي اليقظان (عثمان بن عمير) وفيه عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم. نقل الترمذي الاختلاف في اسم جده في التهذيب: ج 1 ص 561:ترجمة ثابت الأنصاري: الرقم (878) تضارب الأقوال في جده.
ولقد ضعف أهل الحديث الرواية؛ وأذن بعضهم بكتابته. وضعفه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الطهارة: الحديث (569)،وفي كتاب الحيض: الحديث (1674 و 1676)؛وقال: «وروي عن أبي يوسف مرفوعا» .وضعفه أبو داود والترمذي كما نقله البيهقي في الرقم (1680)،وفي الرقم (1681) قال البيهقي:«تفرد به أبو يوسف عن عبد الله بن علي أبي أيوب الأفريقي، وأبو يوسف ثقة، إذا كان يروي عن ثقة» .والحديث له أصل في الصحيح، فهو حسن إن شاء الله، وقد قال الإمام الشافعي:«لو كان هذا محفوظا عندنا كان أحب إلينا من القياس» .نقله البيهقي في السنن الكبرى: الرقم (1681).
(4)
رواه الدارقطني في السنن: كتاب الحيض: الحديث (36):ج 1 ص 212.وله ألفاظ أخرى أنه قال: [دعي قدر الأيّام الّتي كنت تحيضين].وهو عند البخاري في الصحيح: كتاب الحيض: باب إذا حاضت في شهر: الحديث (325).وأبي داود في السنن: كتاب الطهارة: الحديث (274 و 277).
ويومان، وفيما زاد على العشرة أحد عشر؛ وليس لأحد أن يعترض على هذا بقوله في ليلة الصّيام:{أَيّاماً مَعْدُوداتٍ} أراد بها الشهر كلّه؛ لأنه ظاهر لفظ الأيّام من الثلاثة إلى العشرة. إلاّ أنه قد يذكر ويراد به الزيادة، وقد فسّر الله تعالى أيام الصوم بالشّهر، فانعقد بذلك التفسير. وأما أيام الحيض فمبهمة؛ فلا بدّ أن تكون محصورة؛ لأن الأحكام تختلف بحال الحيض والطّهر، فكان حمل اللفظ على ظاهره وحقيقته أولى
(1)
.
(1)
القول بأن لفظ (معدودة) في الآية للقلة، كقوله تعالى: بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ، وفي آية الصوم أَيّاماً مَعْدُوداتٍ مما يفيد الزيادة والكثرة، فإنه لا يسلّم له؛ لوجود المعارضة من أوجه عديدة:
الأول: أن لفظ مَعْدُوداتٍ ورد وهو يفيد القلة أيضا كقوله تعالى: وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى [البقرة 203/] وهي أيام التشريق ثلاثة أيام، وكقوله تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ [الحج 28/]،وفي الأثر عن ابن عباس قال:«الأيام المعلومات: الأيام العشر، والأيام المعدودات: أيام التشريق» وإسناده حسن. فعلى هذا، فإن الفهم فيه نظر، وعليه جواب فلا يسلّم له.
ومن وجه ثان: أن صفة الجمع التاء أو الألف أو التاء متعلقة الاسم إن كان مذكرا أو مؤنثا، وقد يرد على الوجهين، كما في صورة (معدودة) و (معدودات)،وذلك أن الاسم إذا كان مذكرا، فالأصل في جمعه التاء، يقال: كوز وكيزان مكسورة، وثياب مقطوعة. وإن كان مؤنثا كان الأصل في صفة جمعه الألف والتاء، يقال: جرّة أو جرار مكسورات، وخابية وخوابي مكسورات، إلا أنه قد يوجد الجمع بالألف والتاء فيما واحده مذكر في بعض الصور، وعلى هذا ورد قوله فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ وقوله تعالى: أَيّاماً مَعْدُودَةً، والأيام المعدودات في قوله: أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ هي أيام التشريق كما تقدم، وهي ثلاثة أيام، والأيام المعلومات في قوله: أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ هي الأيام العشر، وهو جمع أيضا يتعين معناه بالأيام العشر. ولكن على ما يبدو لنا أنه يفيد معنى آخر: أن اليهود استهانوا بالأيام وهوّنوا أمرها واستخفوا بها؛ فالمسألة ليس متعلقها العدد، وإنما متعلقها شأن هذه الأيام وأثرها عليهم. ولهذا تعدّ أنّها تفيد العدد المفتوح قلة أو كثرة، ولكنها ارتبطت في الذهن بالشأن، فذكر الله عظم هذه الأيام بالألف والتاء؛ ليتسع معهودها الذهني للزيادة في الثواب حين اقترنت بذكر الله. والله أعلم.
أما الاحتجاج بالحديثين، فإنه بمقتضى الدلالة العقلية للنصوص الشرعية، إذ إن الموضوع مختلف في الصور الثلاث: صورة العذاب، وصورة الحج، وصورة الحيض. وأيام الأقراء غير محددة فهي مبهمة، وغير المحدد لا يبنى عليه فهم لأنه غير معروف أو هو مقدّر، وذلك أن-
وقوله تعالى: {بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً؛} أي ليس كما تقولون. قال الكسائيّ: (الفرق بين بلى ونعم: أنّ بلى إقرار بعد جحد؛ ونعم جواب استفهام لغير جحد. فإذا قيل لك: أليس فعلت كذا؟ تقول: بلى. أو قيل لك: ألم تفعل كذا؟ تقول: بلى).وقال تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى}
(1)
.وقال في غير الجحود: {فَهَلْ}
(1)
-حصر إضافة لفظ الأيام بالعشرة فما دونها، فيقال: أيام خمسة، وأيام عشرة، ولا تضاف إلى ما فوقها، فلا يقال: أيام أحد عشر، فإنه يشكل بأيام الصيام، من قوله تعالى: أَيّاماً مَعْدُوداتٍ وهي أزيد من العشرة. ولا يقال: إنه فسر أيام الصوم بالشهر من قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ [البقرة 185/] فإنه كذلك تفسير للأيام المعدودات فيه، فتكون الأيام المعدودات هي جميع الشهر.
ثم إنه إذا ثبت أن الأيام محمولة على العشر فما دونها، فالأشبه أن يقال: إنه الأقل أو الأكثر؛ لأنها أضيفت إلى عارض ولم يرد به تحديد العدد، فيقال: أيام سفرك، وإقامتك، ومشيك، وإن كان ثلاثين أو عشرين أو ما شئت من العدد؛ لأن من يقول: ثلاثة، يقول: أحمله على أقل الحقيقة، فله وجه. ومن يقول: عشرة، يقول: أحمله على الأكثر، وله وجه، فخرّج الكلام عليه. وفي التقدير أن لفظ (المعدودة) أو (معدودات) يحمل على إرادة القائل حسب ما هو معتاد عنده؛ ويقتضي إما معرفة معهوده في الخطاب؛ أي فهم الواقع المراد عنده في إطلاق اللفظ، أو ورود النص في ذلك.
أما المفهوم الذي ورد عندهم، فإنه اختلف فيه عدد محدد، إما أنه يسير فلا خلاف لورود النص في ذلك، ولكن المختلف فيه هو مقدار هذا اليسير بزعمهم، وأصح القولين فيه: أنه يقبل الأكثر والأقل؛ وكأن الموضوع ليس ذا بال من حيث العدد، ولكن المراد هو اعتقادهم بأنهم ناجون من غير أن يتخذوا عهدا أو وعدا بذلك.
أما حديث لبثهم يسير، أخرجه أحمد والبخاري والدارمي والنسائي والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: لمّا افتتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سمّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[اجمعوا لي من كان ههنا من اليهود] فقال لهم: [من أبوكم؟] قالوا: فلان. قال: [كذبتم، بل أبوكم فلان] قالوا: صدقت وبررت. ثم قال لهم: [هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟] قالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته عن أبينا. فقال لهم:[من أهل النّار؟] قالوا: نكون فيها يسيرا ثم تخلفوننا فيها. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اخسئوا-والله- لا نخلفكم فيها أبدا].
أما حديث الأقل من عشرة، فهو ما تقدم من قولهم بمدة الدنيا.
أما حديث لبثهم أربعين يوما، فقد أسنده الطبري في التفسير: النصوص (1155 و 1159 و 1160).وروي موقوفا عن عكرمة، أخرجه الطبري في النصوص (1161 و 1162) وعن ابن زيد في النص (1163).
(1)
الأعراف 172/.
{وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ}
(1)
.وإنّما قال هاهنا: بلى؛ للجحود الذي قبله.
وهو قوله: {(لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ)} والسبب هنا الشّرك.
قوله تعالى: {وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} . قرأ أهل المدينة: «(خطيئاته)» بالجمع. وقرأ الباقون: «(خطيئته)» على الواحد. والإحاطة: الإحداق بالشّيء من جميع نواحيه؛ أي سدّت عليه طريق النّجاة؛ ومات على الشّرك. وقيل: السّيّئة: الذّنب الذي وعد عليه العقاب. والخطيئة: الشّرك. ولا بدّ أن تكون الخطيئة أكبر من السيئة؛ لأن ما أحاط بغيره كان أكبر منه.
وأصل بلى: بل؛ وهو لردّ الكلام الماضي؛ وإثبات كلام آخر مبتدأ؛ وإنّما زيدت اللام لتحسين الوقف. وقيل: أصله: بل لا؛ فخففت. وقال الربيع بن خيثم في معنى قوله: «(وأحاطت به خطيئاته)» :هو الّذي يصرّ
(2)
على خطيئة قبل أن يموت، ومثله قال عكرمة. وقال مقاتل: يعني أصرّ عليها. وقال الكلبيّ: معنى {(وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)} أي أوبقته ذنوبه.
قوله تعالى: {فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} (82)، ظاهر المعنى.
قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ؛} أي أخذنا عليهم في التوراة العهد الشديد: {لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ؛} بالتاء قرأ ابن كثير وحمزة والكسائيّ؛ وقرأ الباقون بالياء. قال أبو عمرو: ألا ترى {(وَقُولُوا لِلنّاسِ)} فدلّت المخاطبة على التّاء. قال الكسائي: إنّما ارتفع {(لا تَعْبُدُونَ)} لأنّ معناه: أخذنا ميثاق بني إسرائيل أن لا تعبدون إلاّ الله. فلمّا ألقى (أن) رفع، ومثله: لا يسفكون دماءكم، ونظيره قوله تعالى:{قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ}
(3)
يريد: أن أعبد؛
(1)
الأعراف 44/.
(2)
في المخطوط: (يموت) ولا ينسجم من كلام المصنف. والمناسب (يصرّ) فأثبتناه.
(3)
الزمر 64/.
فلما حذف (أن) الناصبة عاد الفعل إلى المضارعة. وقرأ أبيّ بن كعب: «(لا تعبدوا)» جزما على النّهي؛ أي وقل لهم: لا تعبدوا إلاّ الله.
ومعنى الآية: أمرناهم بإخلاص العبادة لله عز وجل، {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً؛} أي وصّيناهم بالوالدين إحسانا برّا بهما؛ وعطفا عليهما. وإنّما قال:
{(وَبِالْوالِدَيْنِ)} وأحدهما والدة؛ لأن المذكّر والمؤنّث إذا اقترنا غلب المذكر لخفّته وقوّته.
قوله عز وجل: {وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ؛} أي وبذي القربى. ووصّيناهم بصلة الرّحم. واليتامى: جمع يتيم؛ وهو الطفل الذي لا أب له.
والمساكين: الفقراء. وقوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً؛} اختلف القرّاء فيه؟ فقرأ زيد بن ثابت وأبو العالية وعاصم وأبو عمرو ونافع بضمّ الحاء وجزم السّين؛ وهي قراءة أبي حاتم، ودليله قوله تعالى:{وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً}
(1)
وقوله: {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ}
(2)
.
وقرأ ابن مسعود وحمزة والكسائي وخلف: «(حسنا)» بفتح الحاء والسّين؛ وهو اختيار أبي عبيد. قال: إنّما آثرناها؛ لأنّها نعت بمعنى قولا حسنا. وقرأ عيسى بن عمر بضمّ الحاء والسّين والتنوين؛ وهو لغة مثل (النّصب والسّحت).وقرأ عاصم الجحدري «(إحسانا)» بالألف. وقرأ أبي بن كعب وطلحة بن مصرف «(حسني)» بالتأنيث مرسلة؛ ومجازه كلمة حسنى.
ومعنى الآية: أيّها الرّؤساء من اليهود قولوا للسّفلة قولا حسنا؛ أي حقّا وصدقا، وبيّنوا لهم صفة النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما في التّوراة، ولا تكتموها، ولا تغيّروا صفة محمّد صلى الله عليه وسلم. هذا قول ابن عبّاس وابن جبير وابن جريج ومقاتل. ودليله قوله تعالى:
{أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً}
(3)
أي صدقا. وقيل: معناه: مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر.
قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} (83)؛ {(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ)} أي ثم أعرضتم عن العهد
(1)
النساء 36/.
(2)
النمل 11/.
(3)
طه 86/.
والميثاق. وقوله {(إِلاّ قَلِيلاً مِنْكُمْ)} هو عبد الله بن سلام وأصحابه. وانتصب (قليلا) على الاستثناء.
وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ؛} أي لا يقتل بعضكم بعضا بغير حقّ، وإنّما قال ذلك لمعنيين: أحدهما: أن كلّ قوم اجتمعوا على دين واحد فهم كنفس واحدة. والآخر: وهو أن الرجل إذا قتل غيره فكأنّما قتل نفسه لأنه يقاد ويقتصّ منه. وقرأ طلحة بن مصرّف: «(لا تسفكون)» بضمّ الفاء وهما لغتان، مثل: يعرشون ويعكفون. وقرأ بعضهم: «(لا تسفّكون)» بالتّشديد على التكثير.
قوله تعالى: {وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ؛} أي لا يخرج بعضكم بعضا من داره؛ وقوله تعالى: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ؛} أي ثم اعترفتم بأنّ هذا العهد قد أخذ عليكم وعلى آبائكم وأنه حقّ، {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} (84)،اليوم على ذلك يا معشر اليهود.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ؛} أي ثم أنتم يا هؤلاء؛ فحذف حرف النّداء للاستغناء بدلالة الكلام عليه. كقوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ}
(1)
.وقوله: {(تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ)} قرأ الحسن: «(يقتّلون)» بالتشديد.
{وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ،} والآية خطاب ليهود قريظة والنضير؛ كانت بنو قريظة حلفاء الأوس؛ وبنو النضير حلفاء الخزرج، فكان كلّ فريق يقاتل الفريق الآخر وإذا غلبهم قتلهم وسبى ذراريهم وأخرجهم من ديارهم.
قوله تعالى: {تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ،} قرأ أهل الشام وأبو عمرو ويعقوب: «(تظّاهرون)» بتشديد الظاء، ومعناه: يتظاهرون؛ فأدغم التاء في الظاء مثل: {(اثّاقَلْتُمْ)} و {(ادّارَكُوا)} .وقرأ عاصم والأعمش وحمزة وطلحة والحسن والكسائي:
{(تَظاهَرُونَ)} بالتخفيف؛ حذفوا تاء التفاعل وأبقوا تاء الخطاب مثل قوله تعالى: {وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ}
(2)
(3)
.وقرأ أبي ومجاهد وقتادة: «(تظّهرون)» بالتشديد من غير ألف؛ أي تتظهرون. ومعناهما جميعا واحد:
(1)
الإسراء 3/.
(2)
المائدة 2/.
(3)
الصافات 25/.
تعاونون. والظّهيرة العون؛ سمي بذلك لإسناده ظهره إلى ظهر صاحبه. وقوله تعالى:
{(بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ)} أي بالمعصية والظّلم.
قوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ؛} متّصل بقوله {(وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ)} لأن قوله: {(وَإِنْ يَأْتُوكُمْ)} داخل في الميثاق. ومعناه: فكّوا أسراكم من غيركم بالفداء. وقرأ السلمي ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: «(أسارى)» بالألف، و «(تفدوهم)» بغير ألف. وقرأ الحسن:«(أسري)» بغير ألف، «(تفادوهم)» بالألف.
وقرأ النخعيّ وطلحة والأعمش وحمزة «(أسري تفدوهم)» كلاهما بغير ألف. وقرأ شيبة ونافع وعاصم وقتادة والكسائي ويعقوب «(أسارى تفادوهم)» كلاهما بالألف.
والأسارى: جمع أسير؛ مثل: مريض ومرضى، وقريع وقرعى، وقتيل وقتلى.
والأسرى: جمع أسير أيضا، مثل: سكارى وكسالى. ولا فرق بين الأسارى والأسرى في الصحيح. قال بعضهم: المقيّدون المشددون أسارى، والأسرى: هم المأسورون غير المقيدين. قوله تعالى: «(تفدوهم)» بالمال، و {(تُفادُوهُمْ)} أي مفاداة الأسير بالأسير.
و (أسرى) في موضع نصب على الحال.
ومعنى الآية ما قال السديّ: (إنّ الله تعالى أخذ على بني إسرائيل في التّوراة أن لا يقتل بعضهم بعضا ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم؛ وأيّما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه وأعتقوه. وكانت قريظة حلفاء الأوس، والنّضير حلفاء الخزرج، وكانوا يقتلون في حرب سمير؛ فيقاتل بنو قريظة مع حلفائهم؛ والنّضير مع حلفائهم، فإذا غلبوا خرّبوا ديارهم وأخرجوهم منها؛ وإذا أسر رجل من الفريقين كلاهما جمعوا له حتّى يفدوه فيعيّرونهم العرب بذلك؛ فيقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ فيقولون: إنّا قد أمرنا أن نفديهم؛ وحرّم علينا قتالهم. قالوا:
فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنّا نستحي أن يستذلّ حلفاؤنا؛ فذلك حين عيّرهم الله تعالى)
(1)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: ج 1 ص 560: النص (1213).
وقال: {(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ)} وفي الآية تقديم وتأخير؛ تقديره:
{(وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ، تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ)} {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ} {(وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ)} .وكان الله تعالى أخذ عليهم أربعة عهود: ترك القتل؛ وترك الإخراج؛ وترك المظاهرة عليهم من أعدائهم؛ وفداء أسرائهم. فأعرضوا عن كلّ ما أمر الله تعالى به؛ إلاّ الفداء. فقال الله تعالى:
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؛} وإيمانهم الفداء؛ وكفرهم القتل والإخراج والمظاهرة. وقال مجاهد: (يقول: إن وجدته في يد غيرك فديته؛ وأنت تقتله بيدك؟!)
(1)
.
قوله تعالى: {فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا؛} أي فما جزاء من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض إلا ذلّ وهوان في الدّنيا. يعني بالخزي: قتل بني قريظة وسبيهم وإجلاء بنو النضير عن منازلهم. يقال في السّوء والشرّ: خزي يخزى خزيا. وفي الحياء: خزى يخزي خزاية.
قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ؛} وهو عذاب النار. وقرأ السلميّ والحسن وأبو رجاء: «(تردّون)» بالتاء. كقوله تعالى: {(أَفَتُؤْمِنُونَ)} .
قوله تعالى: {وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ} (85)؛ «قرأ» بالياء مدنيّ ومكي وأبو بكر ويعقوب. والباقون بالتاء.
قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ؛} أي استبدلوا الدّنيا بالآخرة، {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ؛} أي لا يهوّن، {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} (86)؛من عذاب الله.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ،} أي أعطينا موسى التوراة جملة واحدة، وأردفنا وأتبعنا من بعده رسلا؛ رسولا من بعد رسول؛ يقال: قفى أثره وقفى غيره في التعدية مأخوذ من قفاء الإنسان؛ قال الله
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1218).
تعالى: {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}
(1)
.وقيل: إنّ الله تعالى أنزل التّوراة على موسى جملة واحدة، وأمره أن يحملها فلم يطق؛ فبعث الله بكلّ آية ملكا، فلم يطيقوا حملها؛ فبعث الله بكلّ حرف ملكا، فلم يطيقوا، فخفّفها الله على موسى، فحملها وعمل بها.
قوله تعالى: {وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ؛} يعني من إحياء الموتى؛ وإبراء الأكمه والأبرص؛ ونزول المائدة. ومعنى {(الْبَيِّناتِ)} :الدّلالات اللائحات والعلامات الواضحات. وقوله تعالى: {وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ؛} المدّ (آيدناهما) القوة
(2)
؛أي وأعنّاه بجبريل. خفّف ابن كثير (القدس) وثقّله الآخرون. وهما لغتان مثل (الرعب والسحت).قال السديّ والضحاك وقتادة: (روح القدس: جبريل)
(3)
.قال الحسن: (القدس: هو الله عز وجل، وروحه: جبريل عليه السلام.
وأضافه إلى نفسه تكريما وتخصيصا، نحو: بيت الله؛ وناقة الله؛ وعبد الله. وقال السديّ:
(القدس: البركة)
(4)
وقد أعظم الله تعالى بركة جبريل إذ نزل عامة وحي أنبيائه على لسانه. وتأييد عيسى بجبريل عليه السلام أنه كان قرينه يسير معه حيثما سار؛ ورفعه إلى السّماء حين أراد اليهود قتله. وقيل: سمي جبريل روح القدس؛ لأن بمجيئه يحيي الكفار بالإسلام.
والقدس: الظاهر. وقيل: المبارك. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: (روح القدس: اسم الله الأعظم، وبه كان يحيي الموتى؛ ويري النّاس تلك العجائب).
وقال ابن زيد: هو الإنجيل جعله الله روحا كما جعل القرآن لمحمّد روحا.
قال الله تعالى: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا}
(5)
.
(1)
الاسراء 36/.
(2)
في المخطوط تصحيف (الما دواء لأيديهما).والصحيح ما أثبتناه إن شاء الله.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1227 و 1228 و 1226).
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1233).
(5)
الشورى 52/.
فلما سمعت اليهود بذكر عيسى؛ قالوا: يا محمّد لا مثل عيسى كما تزعم عملت؛ ولا كما تقصّ علينا من الأنبياء فعلت، فائتنا بما أتى به عيسى إن كنت صادقا.
فقال الله تعالى: {أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ؛} أي أفكلّما جاءكم أيّها اليهود رسول بما لا يوافق هواكم {(اسْتَكْبَرْتُمْ)} أي تكبّرتم وتعظّمتم عن الإيمان به، {فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ؛} مثل عيسى ومحمّد عليهما الصّلاة والسّلام، {وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} (87)،مثل زكريّا ويحيى وسائر من قتلوا من الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام. والألف في {(أَفَكُلَّما)} ألف استفهام معناه التوبيخ والزّجر.
قوله تعالى: {وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ؛} أي قالت اليهود: قلوبنا ممنوعة من القبول؛ فردّ الله عليهم بقوله: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ؛} أي أنّهم ألفوا كفرهم فاشتدّ إعجابهم به ومحبّتهم له فمنعهم الله الألطاف والفوائد التي منح الله المؤمنين مجازاة لهم على كفرهم.
قرأ ابن محيصن: «(غلف)» بضمّ اللام. وقرأ الباقون بجزمها. فمن خفّف فهو جمع الأغلف مثل أصفر وصفر؛ وهو الذي عليه غشاوة وغطاء بمنزلة الأغلف غير المختون؛ والأقلف مثله، أي عليها غشاوة فلا تعي ولا تفقه ما تقول يا محمّد! قاله قتادة ومجاهد؛ نظيره قوله تعالى:{وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إِلَيْهِ}
(1)
.
ومن ثقّل (غلّف) فهو جمع غلاف مثل: حجاب وحجب؛ وكتاب وكتب، ومعناه: قلوبنا أوعية لكلّ علم؛ فلا نحتاج إلى علمك وكتابك؛ فهي لا تسمع حديثا إلاّ وعته؛ إلاّ حديثك لا تعيه وكتابك؛ قاله عطاء وابن عباس. وقال الكلبيّ: (يريدون أوعية لكلّ علم فهي لا تسمع حديثا إلاّ وعته؛ إلاّ حديثك لا تعيه ولا تعقله. فلو كان فيه خير لفهمته ولوعته) قال الله تعالى: {(بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ)} وأصل اللّعن:
الطرد والإبعاد؛ فمعناه: طردهم الله؛ أي أبعدهم من كلّ خير. وقال النضر بن شميل:
(الملعون: للمخزى وللملك)
(2)
.
(1)
فصلت 5/.
(2)
لعن: (أبيت اللعن):كلمة كانت العرب تحيّي بها ملوكها في الجاهلية، تقول للملك: أبيت-
قوله عز وجل: {فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ} (88)؛قال قتادة: (معناه ما يؤمن منهم إلاّ قليل؛ وهو عبد الله بن سلام وأصحابه؛ لأنّ من آمن من المشركين أكثر ممّن آمن من اليهود).فعلى هذا القول (ما) صلة معناه: فقليلا يؤمنون. ونصب (قليلا) على الحال، وقيل: على معنى صاروا قليلا يؤمنون. وقيل: معناه: إيمانهم بالله قليل؛ لأنّهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض. وانتصب (قليلا) على هذا التأويل على معنى: إيمانا قليلا يؤمنون.
وقال معمر: (معناه لا يؤمنون إلاّ بقليل ممّا في أيديكم ويكفرون بأكثر) وعلى هذا القول يكون (قليلا) منصوبا بنزع الخافض، و (ما) صلة؛ أي فبقليل يؤمنون.
وقال الواقديّ وغيره: (معناه: لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا) وهذا كقول الرجل للآخر:
ما أقلّ ما تفعل كذا! يريد لا يفعله البتّة.
قوله عز وجل: {وَلَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ؛} يعني القرآن موافقا لما معهم؛ يعني التوراة وسائر الكتب في التوحيد والدّعاء إلى الله؛ وقوله تعالى: {وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا؛} أي وكانوا من قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنصرون بذكر القرآن ونبيّ آخر الزمان على الّذين جحدوا توحيد الله؛ كانوا إذا قاتلوا المشركين؛ قالوا: (اللهمّ انصرنا عليهم باسم نبيّك وبكتابك الّذي تنزّل على الّذي وعدتنا أنّك باعثه في آخر الزّمان؛ الّذي نجد صفته في التّوراة) وكانوا يرجون أنّ ذلك النبيّ منهم، وكانوا إذا قالوا ذلك نصروا، وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين: أطلّ زمان يخرج نبيّ فيصدّق ما قلناه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم.
وقوله تعالى: {فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا؛} أي فلما بعث محمّد صلى الله عليه وسلم وعرفوه بصفته في كتابهم ولم يكن منهم، {كَفَرُوا بِهِ؛} وغيّروا صفته بغيا
(2)
-اللعن؛ معناه: أبيت أيها الملك أن تأتي ما تلعن عليه. واللعن: الإبعاد والطرد من الخير، وقيل: الطرد والإبعاد من الله، ومن الخلق والسبّ والدعاء. ورجل لعين وملعون، والجمع ملاعين. لسان العرب:(لعن).
وحسدا لمّا بعث من غير بني إسرائيل مخافة زوال رئاستهم، {فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ} (89).
قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا،} أي بئسما باعوا به أنفسهم من الهدايا بكتمان صفة محمّد صلى الله عليه وسلم أنّهم اختاروا الدّنيا على الآخرة؛ باعوا أنفسهم بأن يكفروا، {بِما أَنْزَلَ اللهُ؛} يعني القرآن حسدا منهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم. وقيل: معناه: بئس الذي اختاروا لأنفسهم حتى استبدلوا الباطل بالحقّ؛ والكفر بالإيمان. وقوله تعالى: {بَغْياً؛} أصل البغي: الفساد، يقال: بغى الجرح إذا أفسد. ومعنى قولنا: بغيا؛ أي البغي.
وقوله تعالى: {أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ؛} يعني الكتاب والنبوة على محمّد صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: {فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ،} قال قتادة: (الغضب الأوّل: حين كفروا بعيسى والإنجيل، والثّاني: حين كفروا بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن؛ واستوجبوا اللّعنة على إثر اللّعنة)
(1)
.وقال السديّ: (الغضب الأوّل: بعبادتهم العجل؛ والثّاني: كفرهم بمحمّد صلى الله عليه وسلم وتبديل صفته).
قوله تعالى: {وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ} (90)؛أي وللجاحدين بنبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم من الناس كلّهم عذاب مهين؛ يهانون فيه فلا يعزّون.
قوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ؛} أي إذا قيل ليهود المدينة: صدّقوا بالقرآن؛ {قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا؛} يعنون التوراة، {وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ؛} أي ويجحدون بما سوى الذي أنزل عليهم كقوله تعالى:{فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ}
(2)
أي سواه. وقوله تعالى: {وَهُوَ الْحَقُّ؛} يعني القرآن، {مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ؛} أي موافقا للتوراة وسائر الكتب. ونصب (مصدّقا) على الحال.
وقوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ؛} أي قل لهم يا محمّد: إن كنتم تصدّقون التوراة فلم تقتلون أنبياء الله، {مِنْ قَبْلُ؛} وليس فيما أنزل
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1280).
(2)
المؤمنون 7/.
عليكم قتل الأنبياء، قوله تعالى:{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (91)؛أي فلم تقتلون أنبياء الله إن كنتم مؤمنين بالتوراة وقد نهيتم فيها عن قتلهم. وقوله (لم) أصله (لما) فحذفت الألف فرقا بين الخبر والاستفهام؛ كقوله (فيم) و (بم) و (ممّ) و (علام) و (حتّى م).
وقوله عز وجل: {*وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ؛} أي الدّلالات الواضحات والآيات التسع، {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ؛} أي من بعد ذلك إلها
(1)
؛ {وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ} (92)؛أي كافرون بالله. وفائدة الآية: أن تكذيب الأنبياء من عادتكم؛ كما أنّ موسى جاءكم بالبيّنات ثمّ اتّخذتم العجل إلها.
قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ؛} أي أخذنا عليكم العهد في التوراة، {وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ؛} أي الجبل، {خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ؛} أي خذوا ما أعطيناكم بجدّ ومواظبة في طاعة الله تعالى. وقوله تعالى:
{وَاسْمَعُوا؛} أي اسمعوا ما فيه من حلاله وحرامه؛ وما تؤمرون به؛ أي استجيبوا؛ أطيعوا. سميت الطاعة سمعا؛ لأنّها سبب الطاعة والإجابة؛ ومنه قولهم:
سمع الله لمن حمده؛ أي أجابه. قال الشاعر
(2)
:
دعوت الله حتّى خفت أن
…
لا يكون الله يسمع ما أقول
أي يجيب.
وقوله تعالى: {قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا؛} أي سمعنا قولك وعصينا أمرك ولولا مخافة الجبل ما قبلنا. قالوا ذلك بعد ما رفع الجبل عنهم. قوله تعالى:
{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ؛} أي سقوا في قلوبهم حبّ العجل، {بِكُفْرِهِمْ،} وخالطها ذلك كإشراب اللّون؛ لشدّة الملازمة.
(1)
في المخطوط: (ذلك إلها) ولا ينسجم الشرح مع النص؛ لأنه سبق بالضمير (الهاء) في (بعده) فاستغنى عن ذكر ذلك. فحذفناه وأثبتناه كما في النص أعلاه.
(2)
ينظر: اللسان: (سمع).والجامع لأحكام القرآن: ج 3 ص 31.
قوله تعالى: {قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ؛} أي قل لهم يا محمّد: بشرّ ما يأمركم به إيمانكم من عبادة العجل من دون الله؛ أي بشرّ الإيمان إيمان يأمركم بالكفر. وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (93)؛أي إن كنتم مؤمنين بزعمكم؛ لأنّهم قالوا: نؤمن بما أنزل علينا، فكذّبهم الله عز وجل.
قوله: {قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ؛} هذا جواب قول اليهود: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى}
(1)
و {لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً}
(2)
.وقولهم: {نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبّاؤُهُ}
(3)
فكذّبهم الله وألزمهم الحجة فقال: قل لهم يا محمّد: {(إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الْآخِرَةُ)} ؛يعني الجنّة؛ {خالِصَةً؛} أي خاصّة. وقيل: صافية، {مِنْ دُونِ النّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ؛} أي فاسألوا الله الموت؛ فإنّ من كان بهذه الصفة فالموت خير له ولا سبيل إلى دخول الجنّة إلا بعد الموت.
وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} (94)؛أي في قولكم؛ فقولوا:
اللهم أمتنا. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: بعد نزول هذه الآية: [إن كنتم صادقين في مقالتكم فقولوا: اللهمّ أمتنا، فو الّذي نفسي بيده لا يقولها رجل منكم إلاّ غصّ بريقه فمات مكانه] فأبوا أن يفعلوا ذلك
(4)
.
قال ابن عبّاس: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لو قالوا ذلك ما بقي على وجه الأرض يهوديّ إلاّ مات]
(5)
فلمّا لم يقولوا ذلك أنزل الله عز وجل قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ؛} أي أسلفت من المعاصي وكتمان صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقوله: (أبدا) يعني هي مدّة العمر. وأما بعد ذلك فإنّهم يتمنّونه في الآخرة وقت مشاهدة العذاب. وإنّما أضاف إلى الأيدي؛ لأنّ أكثر المعاصي تكون باليد. {وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ} (95).
(1)
البقرة 111/.
(2)
البقرة 80/.
(3)
المائدة 18/.
(4)
أخرجه البيهقي في دلائل النبوة: ج 6 ص 274 بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس؛ طبعة دار الكتب العلمية، تحقيق د. عبد المعطي قلعجي.
(5)
في الدر المنثور: ج 1 ص 220؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس» .وأخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1298).
قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النّاسِ عَلى حَياةٍ؛} اللام لام القسم؛ والنون توكيد القسم، تقديره: والله لتجدنّهم يا محمّد-يعني اليهود-.
ومعنى الآية: لتعلمنّ اليهود أحرص الناس على البقاء. وفي مصحف أبيّ: (على الحياة).قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا؛} قيل: إنه متصل بالكلام الأول؛ معناه: وأحرص من الذين أشركوا. قال الفرّاء: (وهذا كما يقال: هو أسخى النّاس ومن حاتم؛ أي وأسخى من حاتم).وقيل: هو ابتداء؛ وتمام الكلام عند قوله:
(حياة).ثم ابتدأ بواو الاستئناف وأضمر (يودّ) اسما تقديره: ومن الذين أشركوا قوم، {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ}. وقيل: معناه: ولتجدنّهم أحرص الناس على حياة وأحرص من الذين أشركوا؛ وأراد بالذين أشركوا المجوس ومن لا يؤمن بالبعث.
وقوله: {لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ؛} أي أن يعمّر. قوله تعالى: {وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ؛} أي وما أحدهم بمباعده من العذاب تعميره، ولا التعمير بمباعده من العذاب. {وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ} (96)؛تمام الآية مفسّر.
قوله عز وجل: {قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ،} قال ابن عبّاس: إنّ حبرا من الأحبار عالما من علماء اليهود، يقال له ابن صوريا، قال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: كيف نومك؟ فإنّا نعرف نوم النّبيّ الّذي يجتبى في آخر الزّمان، قال:[تنام عيناي وقلبي يقظان] قال: صدقت. فأخبرنا عن الولد أمن الرّجل أم من المرأة؟ قال: [أمّا العظم والعصب والعروق فمن الرّجل؛ وأمّا اللّحم والدّم والظّفر والشّعر فمن المرأة].قال: صدقت. فما بال الولد يشبه أعمامه ليس فيه شبه من أخواله، ويشبه أخواله ليس فيه شبه من أعمامه؟ فقال:[أيّهما علا ماؤه على ماء صاحبه كان الشّبه له] قال: صدقت. بقيت خصلة إن قلتها آمنت بك واتّبعتك! أيّ ملك يأتيك بالوحي؟ قال: [جبريل] قال: ذاك عدوّنا. ينزل بالقتال والشّدّة ورسولنا ميكائيل ينزل بالسّرور والرّخاء، فلو كان ميكائيل هو الّذي يأتيك آمنّا بك وصدّقناك.
فقال عمر رضي الله عنه: اشهدوا أنّ من كان عدوّا لجبريل فإنّه عدوّ لميكائيل. فقال: لا نقولنّ
هذا. فأنزل الله هذه الآية
(1)
.
وقال مقاتل: إنّ اليهود قالت: إنّ جبريل عدوّنا أمر أن يجعل النّبوّة فينا فجعلها في غيرنا. وقال قتادة وعكرمة والسديّ: كان لعمر رضي الله عنه أرض بأعلى المدينة؛ ممرّها على مدارس اليهود، وكان عمر إذا أتى أرضه يأتيهم ويسمع منهم ويكلّمهم، فقالوا: يا عمر ما في أصحاب محمّد أحبّ إلينا منك؛ إنّهم يمرّون بنا فيؤذوننا وأنت لا تؤذينا وإنّا لنطمع فيك! فقال عمر رضي الله عنه: (ما أحببتكم كحبكم إيّاي ولا أسألكم إنّي شاكّ في ديني، وإنّما أدخل إليكم لأزداد بصيرة في أمر محمّد صلى الله عليه وسلم وأرى آثاره في كتابكم).فقالوا: من صاحب محمّد الّذي يأتيه من الملائكة؟ قال: (جبريل) قالوا:
ذاك عدوّنا يطلع محمّدا على سرّنا وهو صاحب كلّ عذاب وخسف وشدّة؛ وإنّ ميكائيل إذا جاء؛ جاء بالخصب والسّلامة. فقال عمر: (تعرفون جبريل وتنكرون محمّدا صلى الله عليه وسلم!) قالوا: نعم، فقال عمر رضي الله عنه:(أنا أشهد أنّ من كان عدوّا لجبريل فهو عدوّ لميكائيل؛ ومن كان عدوّا لهما فالله عدوّ له).ثمّ رجع عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد جبريل قد سبقه بالوحي؛ فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات. وقال: [لقد وافقك ربّك يا عمر].فقال عمر رضي الله عنه: (لقد رأيتني في دين الله بعد ذلك أصلب من الحجر)
(2)
.
قال الله تعالى تصديقا لعمر: {(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ)} أي قل لهم يا محمّد: من كان عدوّا لجبريل. وإذ هو المنزل للكتاب عليّ، فإنه إنّما أنزله على قلبي بأمر الله لا من تلقاء نفسه، وإنّما أنزل ما هو، {مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ،} من الكتب التي في أيديكم، لا مكذّبا لها، وإنه وإن كان فيما أنزل الأمر بالحرب والشدّة على الكافرين، {وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ} (97).
وقيل: معناه: على وجه التّرغيم؛ أي فإنّ جبريل هو الذي نزّل عليك رغما لهم.
(1)
أصله من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه أحمد في المسند: ج 1 ص 278،والطبراني في المعجم الكبير: ج 12 ص 190 - 191:الحديث (13012).وفي مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: ج 8 ص 242؛قال الهيثمي: (رواه أحمد والطبراني ورجالهما ثقات).
(2)
أخرج أصوله الطبري في التفسير: النص (1330 و 1331 و 1333 و 1336 و 1337).
وفي جبريل سبع قراءات: «(جبرئيل)» مهموز مشبع مفتوح الجيم والراء؛ وهي قراءة حمزة والكسائي وخلف. قال الشاعر
(1)
:
شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة
…
مدى الدّهر إلاّ جبرئيل أمامها
و «(جبراييل)» ممدود مشبع على وزن جبراعيل؛ وهي قراءة ابن عبّاس وعلقمة ابن وثاب. و «(جبرائل)» ممدود مختلس على وزن جبراعل؛ وهي قراءة طلحة بن مصرف. و «(جبرئل)» مقصور مهموز مختلس، وهي قراءة يحيى بن آدم. و «(جبرالّ)» مقصور مشدّد اللام من غير ياء؛ وهي قراءة يحيى بن يعمر. و «(جبريل)» بفتح الجيم وكسر الراء من غير همزة؛ وهي قراءة ابن كثير. و «(جبريل)» بكسر الجيم والراء من غير همزة؛ وهي قراءة عليّ رضي الله عنه وابن المسيّب والحسن وأهل البصرة والمدينة. وقد روي ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
و «(جبريل)» بلغة السّريانية: عبد الله. وإن (جبر) هو العبد، و (ايل) هو الله
(2)
.
وعن معاذ رضي الله عنه قال: (إنّما جبريل وميكائيل كقولك: عبد الله وعبد الرّحمن)
(3)
.وقيل:
جبريل: مأخوذ من جبروت الله؛ وميكاييل من ملكوت الله.
قوله تعالى: {(فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ)} يعني: فإنّ جبريل {(نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ)} . (على) كناية عن غير مذكور كقوله تعالى: {ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ}
(4)
و {حَتّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ}
(5)
يعني الشمس.
قال الله تعالى: {مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ} معناه: من كان عدوّا لهؤلاء فليكن، وهذا على التهديد، {فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ} (98)،يعني اليهود. وإنّما قال:{(عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ)} ولم يقل: عدوّ لهم؛
(1)
نسبه ابن منظور في لسان العرب: (جبر) إلى كعب بن مالك. وفي الجامع لأحكام القرآن: ج 1 ص 37؛ قال القرطبي: «وهي لغة تميم وقيس» .
(2)
في الدر المنثور: ج 1 ص 225؛ نقله السيوطي قال: «أخرجه ابن أبي الدنيا عن ابن عباس» .
(3)
في الدر المنثور؛ قال السيوطي: «أخرجه الديلمي عن أبي أمامة» .
(4)
فاطر 45/.
(5)
ص 32/.
لأنه لو قال ذلك لم يعلم بذلك أن عداوة جبريل تكون كفرا، بل كان يجوز أن يتوهّم متوهّم أن عداوة جبريل فسقا ولا تكون كفرا؛ فأزال الله هذا الإشكال.
وفي ميكائيل أربع لغات: ممدود مشبع على وزن ميكاعيل؛ وهي قراءة أهل مكّة والكوفة والشّام. و «(ميكائل)» ممدود مهموز مختلس مثل ميكاعل؛ وهي قراءة أهل المدينة. و «(ميكئل)» مهموز مقصور على وزن ميكعل؛ وهي قراءة الأعمش وابن محيصن. و «(ميكال)» بغير همز؛ وهي قراءة أبي عمرو.
و (ميكائيل) معناه عبد الله. (ميك) عبد؛ و (ايل) هو الله. وكذلك (إسرائيل) وهذه أسماء أعجميّة رفعت إلى العرب فلفظت بها ألفاظ مختلفة. فإنّما عطف جبرائيل وميكائيل على الملائكة بعد دخولهما في اسم الملائكة؛ لفضيلتهما، مثل قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} الآية. ومعنى الآية: من كان عدوّا لأحد من هؤلاء فإنّ الله عدوّ له. الواو فيه بمعنى (أو).يعني: من كفر بالله أو ملائكته أو كتبه؛ لأن الكافر بالواحد كافر بالكلّ.
فقال ابن صوريا: يا محمّد ما جئتنا بشيء نعرفه؟ وما أنزل الله عليك من آية بيّنة!
فأنزل الله قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ؛} أي واضحات مفصّلات بالحلال والحرام؛ والحدود؛ والأحكام.
قوله تعالى: {وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ} (99)؛وهم اليهود وغيرهم؛ سمّى الكفر فسقا؛ لأن الفسق الخروج عن الشيء إلى شيء؛ واليهود خرجوا من دينهم بتكذيب النبيّ صلى الله عليه وسلم، والفاسقون هم الخارجون عن أمر الله.
قوله تعالى:
{أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً،} (واو) العطف دخلت عليها الألف ألف الاستفهام كما تدخل على الفاء في قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ}
(1)
{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ}
(2)
.وعلى (ثمّ) كقوله: {أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ}
(3)
.
قرأ أبو السمّال
(4)
«(أو كلّما)» ساكنة الواو على النسق. و (كلّما) انتصب على الظرف. قوله تعالى: {(عاهَدُوا عَهْداً)} يعني اليهود. قال ابن عبّاس: [لمّا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ما أخذ الله عليهم وما عهده إليهم فيه؛ قال مالك ابن المصفي
(5)
:والله ما عهد إلينا في محمّد عهدا ولا ميثاقا. فأنزل الله هذه الآية]
(6)
.توضّحه قراءة ابن رجاء أبي العطارديّ: «(أوكلّما عوهدوا عهدا)» فجعلهم مفعولين. ودليل هذا التأويل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ} الآية
(7)
.
وقال بعضهم: هو أن اليهود عاهدوا: لئن خرج محمّد لنؤمننّ به ولنكوننّ معه على مشركي العرب وننفوهم من بلادهم. فلما بعث نقضوا العهد وكفروا به، دليله قوله تعالى:{وَلَمّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ} أي طرحوه وراء ظهورهم. {نَبَذَهُ؛} أي طرحه {فَرِيقٌ مِنْهُمْ؛} أي طرحوه كأنّهم لا يعلمون صدق ما جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (100)؛أي أنّهم يعلمون ذلك ولكنّهم تجاهلوه كأنّهم لا يعلمون.
(1)
الزخرف 40/.
(2)
الكهف 50/.
(3)
يونس 51/.
(4)
أبو السمّال العدويّ: وقراءة (أو) ساكنة الواو تجيء بمعنى (بل) كما يقول القائل: لأضربنك؛ فيقول المجيب: أو يكفي الله.
(5)
هكذا في المخطوط؛ وفي السيرة النبوية: (مالك بن الصيف)،وقال القرطبي:«ويقال فيه: مالك ابن الصيف» .
(6)
أخرجه ابن إسحاق في السيرة النبوية لابن هشام: ج 2 ص 196.وأسند ابن جرير الطبري عنهما بإسناده إلى ابن عباس في جامع البيان: ج 4 ص 620: النص (1360).
(7)
آل عمران 187/.
قوله تعالى: {وَلَمّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ،} يعني التوراة، {كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (101)؛يعني القرآن؛ وقيل: التوراة أيضا؛ لأنّهم إذا نبذوا القرآن فقد نبذوا التوراة. والنّبذ: الطّرح. وقرأ ابن مسعود: «(نقضه فريق)» .
وقال عطاء: (هي العهود الّتي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين اليهود كفعل قريظة والنّضير).والدليل قوله تعالى: {الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ}
(1)
وكانوا قد عاهدوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن لا يعينوا عليه أحدا؛ فنقضوا وأعانوا مشركي قريش عليه يوم الخندق. وإنّما قال: {(فَرِيقٌ مِنْهُمْ)} لأن علماءهم هم الذين نبذوا عنادا مع العلم به؛ وإنّما قال: {(بَلْ أَكْثَرُهُمْ)} لأنّ منهم من آمن وهو ابن سلام وكعب الأحبار وغيرهما.
والنبذ وراء الظّهر مثل من يستخفّ بالشيء ولا يعمل به. تقول العرب: اجعل هذا خلف ظهرك؛ وتحت قدمك؛ ودبر أذنك؛ أي اتركه وأعرض عنه، قال الله تعالى:
{وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا}
(2)
.وأنشد الزجّاج
(3)
:
نظرت إلى عنوانه فنبذته
…
كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا
قوله عز وجل: {وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ؛} يعني اليهود. وهو عطف على {(نَبَذَ فَرِيقٌ)} كأنه قال
(4)
:انبذوا كتاب الله واتّبعوا ما تتلوا الشياطين من السّحر، {عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ؛} ومعنى {(ما تَتْلُوا)} يعني ما تلت قبلهم شياطين الجن والإنس {(عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ)} أي على عهد ملك سليمان، قيل: معنى تتلو تكذب، يقال: فلان تلا من فلان؛ إذا صدق في الحكاية عنه، وتلى عليه إذا كذب عليه؛ كما يقال: تال عنه وتال عليه.
وقال ابن عبّاس: (تتلو؛ أي تتبع وتعمل).وقال عطاء: (تتحدّث وتتكلّم به).
وقرأ الحسن: «(الشّياطون)» بالواو في موضع الرفع في كلّ القرآن. وسئل أبو حامد
(1)
الأنفال 56/.
(2)
هود 92/.
(3)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 2 ص 40: قال أبو الأسود.
(4)
أي قال الفريق من اليهود.
الخارجي عن قراءة الحسن هذه فقال: (هي لحن فاحش عند أكثر أهل الأدب).غير أن الأصمعيّ زعم أنه سمع أعرابيا يقول: بستان فلان حوله (بساتون).
وقصة ذلك: أن الشياطين كتبوا السحر والنيرنجات على لسان آصف: هذا ما علّم آصف بن برخيا سليمان الملك. ثم دفنوها تحت مصلاّه حين نزع الله ملكه ولم يشعر بذلك سليمان. فلما مات عليه السلام استخرجوها من تحت مصلاّه وقالوا للناس:
إنّما ملككم سليمان بهذا، فتعلموه. وأما علماء بني إسرائيل وصلحاؤهم فقالوا: معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان؛ فلا نتعلمه.
وأما السّفلة فقالوا: هذا علم سليمان وأقبلوا على تعلّمه؛ ورفضوا كتب أنبيائهم وقالوا: إنّما تمّ ملكه بالسّحر وبه سحر الجن والإنس والطير والرياح. فلم يزالوا على ذلك الاختلاف وفشت الملامة لسليمان حتى بعث الله تعالى محمّدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عذره على لسانه وأظهر براءته مما رمي به من الكفر تكذيبا لليهود، فقال عز وجل:{وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا؛} أي هم الذين كتبوا السحر وهم الذين يعلّمونه الناس. هذا قول الكلبي.
وقال السديّ: كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع؛ فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت أو غيره؛ فيأتون الكهنة فيخلطون بما سمعوا كذبا وزورا في كلّ كلمة سبعين كذبة. ويخبرونهم بذلك؛ فالتفت الناس إلى ذلك وفشى في بني إسرائيل أن الجنّ تعلم الغيب. فبعث سليمان في الناس وجمع تلك الكتب وجعلها في صندوق ودفنها تحت كرسيّه، وقال:(لا أسمع أحدا يقول إنّ الشّياطين تعلم الغيب إلاّ ضربت عنقه).فلما مات سليمان صلوات الله عليه ضلّ الناس وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان. فتمثّل شيطان على صورة إنسان، وأتى نفرا من بني إسرائيل، وقال: هل أدلّكم على كنز؟ قالوا: نعم، قال:
احفروا تحت الكرسيّ، وذهب معهم فأراهم المكان فحفروا فوجدوا تلك الكتب؛ فلما أخذوها، قال الشياطين: إن سليمان كان يضبط الجنّ والإنس والشياطين بهذه الكتب، وأفشى في الناس أن سليمان عليه الصلاة والسلام كان ساحرا. واتخذ بنو إسرائيل الكتب. ولذلك أكثر ما يوجد السحر في اليهود. فلما جاء محمّد صلّى الله عليه وسلّم
خاصمت اليهود بذلك، فبرّأ الله سليمان وأنزل هذه الآية. قوله تعالى:{(وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ)} أي بالسّحر؛ فإن السحر كفر {(وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا)}
(1)
.
قرأ أهل الكوفة إلا عاصما؛ وأهل الشام بتخفيف النون ورفع الشياطين؛ وكذلك في الأنفال: {وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ} {وَلكِنَّ اللهَ رَمى}
(2)
.وقرأ الباقون بالتشديد ونصب ما بعده.
قوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ؛} قال بعضهم: السّحر: العلم والحذق بالشيء؛ قال الله تعالى: {وَقالُوا يا أَيُّهَا السّاحِرُ}
(3)
أي العالم. وقال بعضهم:
هو التّمويه بالشيء حتى يتوهّم أنه شيء ولا حقيقة له كالسراب عند من رآه، قال الله تعالى:{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى}
(4)
.
قوله تعالى: {وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ،} محلّ (ما) نصب بإيقاع التعليم عليه، معناه: ويعلّمون الذي أنزل على الملكين. ويجوز أن يكون نصبا بالاتباع؛ أي واتبعوا ما أنزل على الملكين. قرأ ابن عباس والحسن والضحاك ويحيى وابن كثير:
بكسر اللام من (الملكين) وقال: هما رجلان ساحران كانا ببابل؛ لأن الملائكة لا يعلمون الناس السحر.
قوله تعالى: {بِبابِلَ؛} هي بابل العراق. قوله تعالى: {هارُوتَ وَمارُوتَ} اسمان سريانيّان؛ وهما في محل الخفض على تفسير الملكين بدلا منهما، إلا أنّهما فتحا لعجمتهما ومعرفتهما. وكانت قصتهما على ما حكاه ابن عباس والمفسرون: أن الملائكة رأوا ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة وذنوبهم الكثيرة وذلك زمن إدريس عليه السلام، فعيّروهم بذلك؛ وقالوا: هؤلاء الذين جعلتهم في الأرض واخترتهم؛ فهم يعصونك! فقال الله تعالى: لو أنزلتكم إلى الأرض وركّبت فيكم ما
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1366).
(2)
الآية 17/.
(3)
الزخرف 49/.
(4)
طه 66/.
ركّبت فيهم لارتكبتم ما ارتكبوا. فقالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نعصيك. قال الله تعالى: فاختاروا ملكين من خياركم؛ أهبطهما إلى الأرض. فاختاروا هاروت وماروت؛ وكانا من أعبد الملائكة وأصلحهم. فركّب الله فيهما الشهوة وأهبطهما إلى الأرض؛ وأمرهما أن يحكما بين الناس بالحق؛ ونهاهما عن الشرك والقتل بغير حقّ والزنا وشرب الخمر، فكانا يقضيان بين الناس يومهما، فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم، وصعد به إلى السماء.
قال قتادة: فما مرّ عليهما شهر حتى افتتنا، وذلك أنه اختصم إليهما ذات يوم الزّهرة؛ وكانت من أجمل النساء، وكانت من أهل فارس، ملكة في بلدها. فلما رأياها أخذت بقلوبهما فراوداها عن نفسها فأبت وانصرفت؛ ثمّ عادت في اليوم الثاني ففعلا مثل ذلك، فأبت وقالت: لا؛ إلاّ أن تعبدوا ما أعبد وتصلّيا لهذا الصنم؛ وتقتلا النفس؛ وتشربا الخمر. فقالا: لا سبيل إلى هذا، فإنّ الله تعالى نهانا عنها؛ فانصرفت.
ثم عادت في اليوم الثالث ومعها قدح من الخمر وفي أنفسهما من الميل إليها ما فيها، فراوداها عن نفسها؛ فعرضت عليهما ما قالت بالأمس فقالا: الصلاة لغير الله عظيم؛ وقتل النفس عزيز؛ وأهون الثلاثة شرب الخمر؛ فشربا فانتشيا ووقعا بالمرأة وزنيا، فلما فرغا رآهما إنسان فقتلاه. قال الربيع بن أنس: وسجدا للصنم. فمسخ الله عز وجل الزّهرة كوكبا.
وقال السديّ والكلبيّ: إنّهما لمّا قالت لهما: لن تدركاني حتى تخبراني بالذي تصعدان به إلى السماء؟ فقالا: بالاسم الأكبر. فقالت: ما أنتما مدركاني حتى تعلّمانيه؟ قال أحدهما للآخر: علّمها؟! قال: إني أخاف الله. قال الآخر: فأين رحمة الله؟ فعلّماها ذلك فتكلمت به وصعدت إلى السماء؛ فمسخها الله كوكبا. فعلى قول هؤلاء: هي الزهرة بعينها، وقيّدوها فقالوا: هي الكوكب الأحمر.
يدلّ على صحة هذا القول ما روي عن عليّ رضي الله عنه قال: [كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رأى سهيلا قال: لعن الله سهيلا إنّه كان عشّارا باليمن، وإذا رأى الزّهرة قال: لعن
الله الزّهرة، فإنّها فتنت ملكين]
(1)
.وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا رأى الزهرة قال: (لا مرحبا ولا أهلا)
(2)
.وعن ابن عباس: أنّ المرأة التي فتنت هاروت وماروت مسخت، فهي هذا الكوكب الحمراء. يعني الزّهرة.
وأنكر الآخرون هذا؛ وقالوا: إن الزهرة من الكواكب السبعة السيارة التي أقسم الله تعالى بها؛ فقال: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ}
(3)
وإنّما المرأة التي فتنت هاروت وماروت كان اسمها زهرة من جمالها؛ فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزهرة ذكر هذه المرأة لموافقة الاسمين؛ فلعنها. وكذلك سهيل كان رجلا عشّارا باليمن فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النجم ذكره؛ فلعنه؛ والله تعالى أعلم.
قال المفسرون: فلمّا أمسى هاروت وماروت بعد ما أصابا الذنب همّا بالصعود إلى السماء فلم تطاوعهما أجنحتهما، فعلما ما حلّ بهما، فقصدا إدريس النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبراه بأمرهما وأمراه أن يشفع لهما؛ وقالا: إنا رأيناك يصعد لك من العبادة مثل ما يصعد لجميع أهل الأرض، فاشفع لنا إلى ربك؟ ففعل إدريس؛ فخيّرهما الله تعالى بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا؛ إذ علما أنه ينقطع، فهما ببابل يعذّبان.
واختلف العلماء في عذابهما؛ فقال ابن مسعود: (هما معلّقان بشعورهما إلى يوم القيامة).وقال قتادة: (كبلا من أقدامهما إلى أصول أفخاذهما).وقال مجاهد: (أنّ جبّا مليت نارا فجعلا فيها).وقيل: معلقان منكّسان بالسلاسل. وقيل: منكوسان يضربان بسياط الحديد.
وروي أنّ رجلا أراد تعلّم السحر فقصدهما؛ فوجدهما معلّقين بأرجلهما؛ مزرقة أعينهما؛ مسودّة وجوههما؛ ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلا قدر أربع أصابع وهما معذّبان بالعطش؛ فلما رأى ذلك هاله مكانهما؛ فقال: لا إله إلا الله. فلما سمعا كلامه، قالا: من أنت؟ قال: رجل من الناس. قالوا: ومن أيّ أمّة؟ قال: من أمّة محمد
(1)
أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة: الرقم (644).وفي كنز العمال: الرقم (18457).
(2)
في الدر المنثور: ج 1 ص 238؛ قال السيوطي: «أخرج سعيد وابن جرير والخطيب في تاريخه» .
(3)
التكوير 15/.
صلّى الله عليه وسلّم. قالا: أوقد بعث محمد؟ قال: نعم. قالا: الحمد لله وأظهرا الاستبشار. وقال الرجل: وممّ استبشاركما؟ قالا: إنه نبيّ الساعة، وقد دنا انقضاء عذابنا.
قوله عز وجل: {وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ؛} يعني الملكين؛ و (من) صلة؛ أي لا يعلّمان أحدا السحر، {حَتّى؛} ينصحاه أولا وينهياه و {يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ،} ومحنة؛ {فَلا تَكْفُرْ،} بتعلّم السحر. يقولان له ذلك سبع مرّات.
قال السديّ وعطاء: (فإن أبى إلاّ التّعلّم! قالا له: ائت هذه الرّماد فبل عليه؛ فإذا بال عليه خرج منه نور يسطع في السّماء؛ فتلك المعرفة. وينزل شيء أسود حتّى يدخل مسامعه يشبه الدّخان؛ وذلك غضب الله).
وقوله عز وجل: {(إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ)} (إنّما) وحّدها لأنّها مصدر؛ والمصدر لا يثنّى ولا يجمع مثل قوله: {وَعَلى سَمْعِهِمْ}
(1)
.وفي مصحف أبي: (وما يعلّم الملكان من أحد).وتعلّم السحر لا يكون إثما؛ كمن يقول لرجل: علّمني ما الزّنا، وما السرقة؟ فيقول: هو كذا وكذا؛ ولكنه حرام فلا تفعله. وهما كانا لا يصفان السحر لأحد حتى يقولا: إنّما نحن اختبار وابتلاء للناس؛ فلا تكفر أيها المتعلّم؛ أي لا تتعلّم للعمل به.
وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: قدمت عليّ امرأة من أهل دومة الجندل تبغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته لتسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السّحر ولم تعمل به، فلما لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بكت حتى رحمتها، وقالت: إنّي أخاف أن أكون قد هلكت؛ كان لي زوج فغاب عنّي، فدخلت على عجوز فشكوت ذلك إليها، فقالت:
إن فعلت ما آمرك فأجعله يأتيك. فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الآخر، فلم يكن كثيرا حتى وقفنا ببابل، فإذا برجلين معلّقين بأرجلهما، فقالا: ما جاء بكنّ؟ قلت: لنتعلّم السحر، فقالا: إنّما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي، فقلت: لا، قالا: اذهبي إلى ذلك التنّور؛ فبولي فيه. فذهبت ففزعت ولم أفعل فجئت إليهما، فقالا لي: فعلت؟ فقلت: نعم، فقالا: هل رأيت شيئا؟ قلت: لا، قالا: كذبت، إنك لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك، إنّما نحن فتنة فلا تكفري. فأبيت، قالا: اذهبي إلى تلك التنّور فبولي فيه، فذهبت فاقشعرّ جلدي فرجعت إليهما، فقلت:
(1)
البقرة 7/.
قد فعلت، قالا: هل رأيت شيئا؟ قلت: لا، قالا: كذبت، لم تفعلي ارجعي إلى بلادك فلا تكفري. فأبيت. قالا: اذهبي إلى تلك التنور فبولي فيه، فذهبت فبلت فيه، فرأيت فارسا مقنّعا بحديد خرج مني حتى ذهب في السماء وغاب عني حتى لم أره، فجئتهما، فقلت: قد فعلت، فقالا لي: ما رأيت؟ قلت: رأيت فارسا مقنّعا بالحديد، خرج مني فذهب في السماء حتى غاب، قالا: صدقت، ذاك إيمانك خرج منك، اذهبي. فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كان سقط في يدي وندمت والله يا أمّ المؤمنين، ما فعلت شيئا قط ولا أفعله أبدا
(1)
.
قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ،} قيل: معناه: فيعمل به السامع؛ فيكفر بالعمل؛ فتقع الفرقة بينه وبين زوجته بالردّة، إذا كانت مسلمة. وقيل: معناه: يسعى بينهما بالنميمة والإغراء والإفشاء وتمويه الباطل لكي يبغض كلّ واحد منهما صاحبه فيفارقه.
قرأ الحسن «(بين المرّ)» بالتشديد. وقرأ الزهريّ: بضمّ الميم والهمزة. وقرأ الباقون بفتح الميم والهمزة. {وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ؛} أي بالسحر، {مِنْ أَحَدٍ؛} أي أحدا؛ وقوله:{إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ؛} أي بعلمه وقضائه ومشيئته.
قوله تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ؛} أي يضرّهم في الآخرة ولا ينفعهم في الدنيا. وقيل: معناه: يضرّهم ولا ينفعهم كلاهما في الآخرة؛ لأن السّحر كان ينفعهم في دنياهم، لأنّهم يكتسبون به.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا؛} أي علمت اليهود، {لَمَنِ اشْتَراهُ؛} أي لمن اختار السحر والكفر على الإيمان، {ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ؛} أي من نصيب. وقال الحسن:(من دين ولا وجه عند الله)
(2)
.وقال ابن عباس: (من قوام)
(3)
.
(1)
أخرجه ابن جرير الطبري في جامع البيان: النص (1409).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1426) بلفظ: (ليس له دين).
(3)
قوام كل شيء: عماده ونظامه؛ وما يقيم الإنسان من القوت. وقوام الأمر: ما يقوم به.
وقيل: من خلاص. قال أمية: يدعون بالويل فيها؛ لا خلاق لهم إلا السرابيل من قطر وأغلال؛ أي لا خلاص لهم.
قوله تعالى: {وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ؛} أي باعوا به أنفسهم؛ حيث اختاروا السحر والكفر على الدين والحقّ. وقيل: لبئس ما باع المستعملون السحر به أنفسهم بعقوبة الآخرة، {لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} (102).
وذهب جماعة إلى أن قوله: {(ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ)} عطف على {(وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ)} في معنى النفي، كأنه قال: لم ينزل على الملكين ولكن الشياطين هاروت وماروت وأتباعهما يعلّمان الناس السحر. والغرض من هذه الآية أن بهت اليهود وكذبهم؛ حملهم على أخذ السحر من الشياطين، وادّعوا أنّهم أخذوه من سليمان، وأن ذلك اسم الله الأعظم ليكتسبوا به.
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا؛} أي لو أن اليهود آمنوا بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن واتّقوا اليهودية والسحر، {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ؛} أي لكان ثواب الله خيرا لهم من كسبهم بالكفر والسحر. {لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} (103).
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا؛} وذلك أنّ المسلمين كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: راعنا يا رسول الله، وارعنا سمعك، يعنون من المراعاة؛ وكانت هذه اللفظة شيئا قبيحا باليهودية. قيل: كان معناها عندهم اسمع لا سمعت؛ فلما سمعها اليهود اغتنموها؛ وقالوا فيما بينهم: كنّا نسبّ محمّدا سرّا فأعلنوا له الآن بالشّتم، وكانوا يأتونه ويقولون: راعنا يا محمد؛ ويضحكون فيما بينهم. فسمعها سعد بن معاذ رضي الله عنه ففطن لها؛ وكان يعرف لغتهم، فقال لليهود: عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده يا معشر اليهود لئن نسمعها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربنّ عنقه. قالوا: أولستم تقولونها؟! فأنزل الله هذه الآية: {(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا)} لكيلا تجد اليهود سبيلا إلى سب رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
(1)
لباب النقول في أسباب النزول: ص 24؛ عزاه السيوطي إلى أبي نعيم أنه أخرجه في دلائل النبوة من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.
وقيل معناها: {(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا)} للنبيّ صلى الله عليه وسلم (راعنا) أي اسمع إلينا نستمع إليك. وقيل: إنّ اليهود قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: اسمع إلى كلامنا حتى نسمع إلى كلامك، فنهى الله عنه؛ إذ لا يجوز لأحد أن يخاطب أحدا من الأنبياء إلا على وجه التوقير والإعظام.
قوله تعالى: {وَقُولُوا انْظُرْنا؛} يحتمل أن يكون من النّظر الذي هو الرؤية، ويحتمل أن يكون انظرنا حتى تبيّن لنا ما تعلّمنا. وقال مجاهد:(معناه فهّمنا).
وقال بعضهم: معناه بيّن لنا. وقوله تعالى: {وَاسْمَعُوا؛} أي اسمعوا ما تؤمرون به. والمراد أطيعوا. وقوله تعالى: {وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ} (104)؛تفسيره قد تقدّم.
قوله تعالى: {ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ؛} أي ما يتمنّى الذين كفروا من يهود المدينة ونصارى نجران ولا مشركي العرب عبدة الأوثان أن ينزّل عليكم أيّها المؤمنون من خير، {مِنْ رَبِّكُمْ،} من الوحي وشرائع الإسلام. قوله تعالى: {(وَلا الْمُشْرِكِينَ)} مجرور في اللفظ بالنّسق على (من)،مرفوع في المعنى بفعله، كقوله:{وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ}
(1)
.قوله تعالى: {(مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ)} أي خير كما تقول: ما أتاني من أحد، ف (من) فيه وفي إخوانه صلة، وهي كثيرة في القرآن.
قوله تعالى: {وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ؛} أي يختار برحمته للنبوة والإسلام من يشاء، ويختصّ بها محمّد صلى الله عليه وسلم. والاختصاص آكد من الخصوص؛ لأن الاختصاص لنفسك؛ والخصوص لغيرك، {وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (105)؛ على من اختصّه بالنبوّة والإسلام.
قوله عز وجل: {*ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها؛} قيل: سبب نزول هذه الآية: أنّ اليهود كانوا يقولون حين حوّلت القبلة إلى الكعبة: إن كان الأول حقّا فقد رجعتم، وإن كان الثاني حقّا فقد كنتم على الباطل. وقيل: سببه: أنّ اليهود كانوا
(1)
الأنعام 38/.
ينكرون نسخ الشرائع؛ ويقولون: إن النسخ سبب الندامة، ولا يجوز ذلك على الله.
فنزلت هذه الآية ردّا عليهم وبيّن أنه يدبر الأمر كيف يشاء.
ومعناه: ما نبدّل من آية أو نتركها غير منسوخة نأت بخير من المنسوخة؛ أي أكثر في الثواب. وقيل: ألين، وأسهل على الناس؛ أو مثلها في المصلحة والثواب. قيل:
إن قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها،} مثل الأمر بالقتال؛ فرض الله في القتال أوّل ما فرض في الجهاد بأن يكون كلّ مسلم بدل عشرة من الكفار، وكان لا يحلّ له أن يفرّ من عشرة كما قال تعالى:{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}
(1)
ثم نسخ بقوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ} الآية
(2)
.ولم يقل أحد إن بعض آيات القرآن خير من بعض في التلاوة والنظم؛ إذ جميعه معجز.
وأما قوله تعالى: {أَوْ مِثْلِها؛} فهو مثل آية القبلة جعل الله ثواب الصلاة إلى الكعبة بعد النسخ مثل ثواب الصلاة إلى بيت المقدس قبل النسخ. وروي أن المشركين: قالوا: ألا ترون إلى محمّد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه، ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا، ما هذا القرآن إلا كلام محمّد يقوله من تلقاء نفسه، وهو كلام يناقض بعضه بعضا. فأنزل الله تعالى:{وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}
(3)
.وأنزل أيضا: {(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها)} .
قوله تعالى: {(ما نَنْسَخْ)} قرأ ابن عامر «(ننسخ)» بضم النون وكسر السين، ومعناه على هذه القراءة نجعله نسخة من قولك: نسخت الكتاب؛ إذا كتبته. وقرأ الباقون:
«(ننسخ)» بفتح النون والسين.
وقوله «(أو ننسها)» قراءة سعيد بن المسيب وشيبة ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «(ننسيها)» بضم النون وكسر السين، ومعناه: نأمره بتركها. وقرأ أبي
(1)
الأنفال 65/.
ابن كعب «(أو ننسك)» .وقرأ عبد الله «(ما ننسك من آية أو ننسخها)» .وقرأ سالم مولى حذيفة: «(أو ننسكها)» .وقرأ أبو حاتم: «(أو ننسّها)» بالتشديد. وقرأ الضحاك: «(أو تنسها)» بضم التاء وفتح السين. وقرأ سعد بن أبي وقاص: «(أو تنساها)» بتاء مفتوحة. وعن القاسم بن ربيعة قال: سمعت سعد بن أبي وقّاص يقرأ «(أو تنسها)» ،فقلت: إنّ سعيد ابن المسيّب يقرأ «(أو تنساها)» فقال: (إنّ القرآن لم ينزل على آل المسيّب. قال الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى}
(1)
{وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ}
(2)
)
(3)
.
وقرأ عمر بن الخطاب وابن عباس وعطاء وابن كثير وأبو عمرو والنخعي: «(أو ننسؤها)» بفتح النون الأولى وفتح السين وبعدها همزة مهموزة، ومعناها: نتركها، يقال:
نسيت الشيء؛ إذا تركته، ومنه قوله تعالى:{نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ}
(4)
أي فتركهم. وقيل:
معناه نؤخّرها فلا نبدلها ولا ننسخها، يقال: نسأ الله في أجله؛ وأنسأ الله في أجله، ومنه النسيئة في البيع.
قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها} أي بما هو أسهل وأنفع وأكثر أجرا، لا أن آية خير من آية؛ لأن كلام الله واحد، وكله خير. {(أَوْ مِثْلِها)} يعني في المنفعة والثواب. قوله تعالى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (106)؛أي من النسخ والتبديل. قال الزجّاج: (لفظه استفهام، ومعناه التوقيف والتقرير)
(5)
.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؛} أي ألم تعلم يا محمد أنّ له ملك السموات والأرض ومن فيهنّ، وأنه أعلم بوجوه الصلاح فيما يتعبّده من ناسخ ومنسوخ ومتروك وغير متروك. ويجوز أن يكون هذا الخطاب
(1)
الأعلى 6/.
(2)
الكهف 24/.
(3)
في الحجة في القراءات السبعة: ج 1 ص 364 و 365؛قال أبو علي الفارسي: «رواه هشيم وأسنده» .وهشيم هو ابن بشير بن أبي حازم، قاسم بن دينار السلمي (104 - 183) هجرية، مفسر من ثقات المحدثين، له كتاب التفسير، وكتاب السنن في الفقه. وأخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1455).
(4)
التوبة 67/.
(5)
قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: ج 1 ص 168.وأشار المحقق في الهامش إلى النسخة من المخطوط وقال: (التوقيف والتقرير، والمراد التوقيف على العلم، أي قد علمت).
للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره. كقوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ}
(1)
.
وقوله تعالى: {وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} (107)، ويجوز أن يكون تطييبا لنفوس المؤمنين، وبيانا أنه وليّهم وناصرهم، وأنّهم بنصره إياهم يغلبون من سواهم، ويجوز أن يكون وعيدا لمن لا يؤمن بالناسخ والمنسوخ، أي ليس لكم قرائب تنفعكم ولا مانع يمنعكم من عذاب الله.
قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ؛} قال ابن عباس: (نزلت في عبد الله بن أبي أميّة المخزوميّ وفي رهط من قريش أتوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا محمّد اجعل لنا الصّفا ذهبا ووسّع لنا أرض مكّة، وفجّر الأنهار خلالها تفجيرا، ونحن نؤمن بك. وقالوا أيضا:{وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً}
(2)
فأنزل الله هذه الآية)
(3)
.ومعناها: أتريدون، والميم صلة. وقيل:
معناها: بل؛ وسألوا رؤية الله كما سألها السبعون رجلا من بني إسرائيل موسى.
وقوله: {(رَسُولَكُمْ)} بمعنى محمّد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ؛} أي من يختار الكفر على الإيمان ويستبدله به، {فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ} (108)؛أي أخطأ قصد الطريق.
قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً،} أنزلت في نفر من اليهود؛ قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار ابن ياسر بعد وقعة أحد: ألم تروا ما أصابكم؟ ولو كنتم على الحقّ ما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل، ونحن أهدى منكم سبيلا، فقال لهم عمّار:
(كيف نقض العهد فيكم؟) قالوا: شديد. قال: (فإنّي عهدت أن لا أكفر بمحمّد صلى الله عليه وسلم
(1)
الطلاق 1/.
(2)
الإسراء 90/-91.
(3)
في الدر المنثور: ج 1 ص 260؛ قال السيوطي: «وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد:
…
وذكره».ورواه ابن جرير الطبري في جامع البيان: النص (1476).
ما عشت) فقالت اليهود: أمّا هذا فقد صبأ. وقال حذيفة: (وأمّا أنا فقد رضيت بالله ربّا وبمحمّد نبيّا وبالاسلام دينا وبالقرآن إماما وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانا).ثمّ أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبراه بذلك فقال: [أصبتما الخير وأفلحتما] فأنزل الله تعالى {(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ)} يا معشر المؤمنين {(مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً)} ونصب كفارا بالردّ. وقيل: بالحال. وقوله تعالى: {حَسَداً،} ) أي حسدا لكم لتشريف الله إياكم عليهم بوضع النبوّة فيكم بعد ما كان في بني إسرائيل. وانتصب ({حَسَداً)}) على المصدر؛ أي يحسدونكم حسدا. وقيل: بنزع الخافض، تقديره: للحسد.
قوله تعالى: {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ،} راجع إلى {(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ)} لا إلى قوله (حسدا) لأن حسد الإنسان لا يكون إلا من قبله؛ فكأنه تعالى بيّن أن مودّتهم ردّكم إلى الكفر؛ لا لأنّ دينهم يأمرهم ذلك، ولكن ذلك من عند أنفسهم، {مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ،} في التوراة وسائر الكتب: أن محمّدا صلى الله عليه وسلم صدق، وأن دينه حقّ. وقيل: معنى {(مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ)} أي لم يأمرهم الله بذلك.
قوله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا؛} أي اتركوهم وأعرضوا عنهم، {حَتّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ؛} أي حتى يأذن الله عز وجل لكم في مقاتلتهم وسبيهم وينصركم عليهم. وقد جاء الله تعالى بأمره حين استقرّت آيات النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومعجزاته ولم يؤمنوا؛ أمر الله النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقتالهم بقوله:{قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ.} . الآية، إلى قوله:{وَهُمْ صاغِرُونَ}
(1)
وغير ذلك من الآيات، فقتلوا بني قريظة؛ وأجلوا بني النضير. وقيل: معناه: {(حَتّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ)} :قيام الساعة ويجازيهم بأعمالهم. {إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (109).
قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ،} لمّا أمر الله تعالى بالصفح عن اليهود، علم أن ذلك يشقّ على المسلمين، فأمرهم الله بالاستعانة على ذلك بالصلاة والزّكاة كما قال الله تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ}
(2)
.
(1)
التوبة 29/: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ
(2)
البقرة 45/.
قوله تعالى: {وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ؛} يعني من طاعة وعمل صالح تجدوا ثوابه ونفعه عند الله. وقيل: أراد بالخير المال، كقوله تعالى:{إِنْ تَرَكَ خَيْراً}
(1)
ومعناه: وما تقدّموا لأنفسكم من زكاة وصدقة الثمرة واللقمة تجدوه عند الله مثل أحد. {إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (110)، وفي الحديث:[إذا مات العبد قال النّاس: ما خلّف؟ وقال الملائكة: ما قدّم؟]
(2)
.
روي أن عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه دخل المقابر، فقال:(السّلام عليكم يا أهل القبور، أموالكم قسّمت؛ ودياركم سكنت؛ ونسائكم نكحت، فهذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم؟) فهتف به هاتف: وعليكم السّلام، ما أكلنا ربحنا؛ وما قدّمنا وجدنا، وما خلّفنا خسرنا
(3)
.
قوله تعالى: {وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى،} قال الفرّاء: وأراد يهودا فحذفت الياء الزائدة. قال الأخفش: (الهود جمع هاد؛ مثل عائد وعود، وحائل وحول).وفي مصحف أبيّ: «(إلاّ من كان يهوديّا أو نصرانيّا)» .
ومعنى الآية: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا ولا دين إلا اليهودية. وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيّا، ولا دين إلا النصرانية. فأنزل الله تعالى:{تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ،} يجوز أن تكون {(تِلْكَ)} كناية عن الجنة؛ ويجوز أن تكون المقالة. وأمانيّهم: أباطيلهم بلغة قريش، وقيل:
شهواتهم التي تمنّوها على الله بغير الحقّ. {قُلْ؛} لهم يا محمّد: {هاتُوا}
(1)
البقرة 180/.
(2)
الحديث عن أبي هريرة؛ أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: باب في الزهد وقصر الأمل: الحديث (10475).ولفظه: [إذا مات الميّت
…
].وفي إسناده يحيى بن سليمان الجعفي، قال النسائي:«ليس بثقة» .ووثقه الدارقطني، وقال ابن حجر:«له أحاديث مناكير» في تهذيب التهذيب: الترجمة (7843).وفي إسناده أيضا: عبد الرحمن بن محمّد المحاربي، ترجم له ابن حجر في التهذيب: الرقم (4112)؛قال: «قال النسائي: ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق إذا حدّث عن الثقات، ويروي عن مجاهيل أحاديث منكرة» .
(3)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 2 ص 73؛ علقه القرطبي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مر ببقيع الغرقد فقال:
…
وذكره.
{بُرْهانَكُمْ؛} أي حجّتكم على ذلك من التوراة والانجيل، {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} (111).
ثم قال الله تعالى ردّا عليهم وتكذيبا لهم: {بَلى؛} أي ليس كما قالوا، بل يدخل الجنّة، {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ؛} أي من أخلص دينه لله. وقيل: من فوّض أمره إلى الله. وقيل: من خضع وتواضع لله. وأصل الإسلام: الاستسلام؛ وهو الخضوع والانقياد. وإنّما خصّ الوجه؛ لأنه إذا جاد بوجهه في السجود لم يبخل بسائر جوارحه.
وقوله تعالى: {وَهُوَ مُحْسِنٌ؛} أي محسن في عمله، وقيل: معناه: وهو مؤمن مخلص، {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ؛} أي فيما يستقبلهم من أهوال القيامة، {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (112)؛على ما خلفوا في الدنيا؛ لأنّهم يتيقّنون بثوابهم عند الله.
قوله تعالى: {وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ} . قال ابن عباس: (صدق كلّ واحد من الفريقين، ولو حلف على ذلك أحد ما حنث، وليس أحد من الفريقين على شيء).قوله تعالى:
{وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ؛} أي وكلا الفريقين يقرءون كتاب الله، ولو رجعوا إلى ما معهم من الكتاب لما اختلفوا.
قوله تعالى: {كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ؛} أي الذين ليسوا من أهل الكتاب؛ نحو المجوس ومشركي العرب. يقولون أيضا: لن يدخل الجنّة إلا من كان على ديننا. وقيل: أراد بالذين لا يعلمون آباءهم الذين مضوا. وقال مقاتل: (هم مشركو العرب؛ قالوا في محمّد صلى الله عليه وسلم وأصحابه: ليسوا على شيء من الدّين).وقال ابن جريج: (قلت لعطاء: كيف قال الّذين لا يعلمون؟ من هم؟ قال:
أمم كانت قبل اليهود والنّصارى)
(1)
مثل قوم نوح؛ وقوم هود؛ وصالح؛ ولوط؛ وشعيب؛ ونحوهم. قالوا في أنبيائهم: ليسوا على شيء، وإنّ الدّين ديننا.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1507).
قوله تعالى: {فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ؛} أي يقضي بين اليهود والنصارى والمشركين يوم القيامة؛ أي يريهم من يدخل الجنة عيانا؛ ومن يدخل النار عيانا. قوله تعالى: {فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (113)؛يعني من الدّين.
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ؛} نزلت هذه الآية في ططوس بن استيسيانوس الرومي وأصحابه، وذلك أنّهم غزوا بني إسرائيل فقتلوا مقاتليهم؛ وسبوا ذراريهم؛ وحرقوا التوراة؛ وخرّبوا بيت المقدس وألقوا فيه الجيف؛ وذبحوا فيه الخنازير، وكان خرابا إلى أن بناه المسلمون في أيام عمر رضي الله عنه. ولم يدخل بيت المقدس بعد عمارتها روميّ إلا خائفا مستخفيا لو علم به لقتل.
وقال قتادة والسديّ: (نزلت في بخت نصّر وأصحابه غزوا اليهود وخرّبوا بيت المقدس وأعانهم على ذلك ططوس الروميّ وأصحابه النّصارى من أهل الرّوم؛ وذلك لبغضهم اليهود)
(1)
.إلاّ أنّ هذا يشبه الغلط، والأول أظهر؛ لأنه لا خلاف أنّ بخت نصّر قبل مولد عيسى عليه السلام بدهر طويل، والنصارى إنّما ينتمون إلى عيسى عليه السلام، فكيف يكونون مع بختنصر؟!
ومعنى الآية: {(وَمَنْ أَظْلَمُ)} أي ومن أكفر عتيا {(مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ)} يعني بيت المقدس ومحاريبه. وقوله: {(أَنْ يُذْكَرَ)} موضع {(أَنْ)} نصب على أنه مفعول ثان؛ لأن المنع يتعدى إلى مفعولين، وإن شئت جعلته نصبا بنزع الخافض؛ أي بأن يذكر.
وقوله تعالى: {وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاّ خائِفِينَ؛} وقال قتادة ومقاتل: (لم يدخل بيت المقدس أحد من النّصارى إلاّ متنكّرا مسارقة لو قدر عليه عوقب ونهك ضربا).قال السديّ: (اختفوا بالجزية).
وقال أهل المعاني: هذا خبر فيه معنى الأمر، يقول: أجهضوهم بالجهاد لئلا يدخلها أحد منهم إلا خائفا من القتل والسبي.
قوله تعالى: {لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ؛} أي عذاب وهوان؛ وهو القتل والسبي إن كانوا حربا، والجزية إن لم يكونوا حربا. قوله تعالى:{وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ} (114)؛وهو النار. قال عطاء: (نزلت هذه الآية في مشركي مكّة).
(1)
أصله أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1511) عن قتادة. و (1512) عن السدي.
وأرادوا بالمساجد: المسجد الحرام؛ منعوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين عن ذكر الله فيه وصدّوهم عنه عام الحديبية، فعلى هذا سعيهم في خرابها هو المنع عن ذكر الله فيها؛ لأن عمارة المساجد بإقامة العبادات فيها.
وقوله تعالى: {(أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاّ خائِفِينَ)} يعني أهل مكّة، يقول الله: أفتحها عليكم حتى يدخلوها، ويكونوا أولى بها منهم، ففتحها الله عليهم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي:[ألا لا يحجّنّ بعد هذا العام مشرك؛ ولا يطوفنّ بالبيت عريان]
(1)
.فمنعوا منها، فهذا خوفهم. {(لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ)} أي ذلّ وقتل ونفي {(وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ)} .
وقيل: المراد بالآية: جميع الكفار الذين منعوا المسلمين من المساجد. وكل موضع يتعبّد فيه فهو مسجد، قال عليه الصلاة والسلام:[جعلت لي الأرض مسجدا]
(2)
.فعلى هذا تقدير {(وَمَنْ أَظْلَمُ)} الآية ممّن خالف ملّة الإسلام؛ {(أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاّ خائِفِينَ)؛} أي يظهر الإسلام على جميع الأديان، ولا يدخل الكفار المساجد إلا خائفين بعد أن كانوا لا يتركوا المسلمين أن يدخلوا مساجدهم.
قوله عز وجل: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ؛} قيل: معناه لا يمنعكم تخريب من خرّب مساجد الله أن تذكروه حيث كنتم من أرضه. وقال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في نفر من الصّحابة رضي الله تعالى عنهم في سفر قبل تحويل القبلة إلى الكعبة، فأصابهم الضّباب، وحضرت الصّلاة، فتحرّوا القبلة فصلّوا؛ فمنهم من صلّى قبل المشرق؛ ومنهم من صلّى قبل المغرب. فلمّا ذهب الضّباب استنار لهم أنّهم لم يصيبوا، فلمّا قدموا؛ سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنزلت هذه الآية)
(3)
.
(1)
رواه البخاري في الصحيح: كتاب الحج: باب لا يطوف بالبيت عريان: الحديث (1622). ومسلم في الصحيح: كتاب الحج: باب لا يحج البيت مشرك: الحديث (1347/ 435).
(2)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 1 ص 51:الحديث (11047)،وإسناده حسن. وفي الحديث (11085) بإسناد ضعيف. ورواه البخاري في الصحيح: كتاب التيمم: الحديث (335)، وكتاب الصلاة: الحديث (438).
(3)
في لباب النقول في أسباب النزول: ص 27؛ قال السيوطي: «وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس:
…
وذكره».
وقال عبد الله بن عامر: [كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة؛ فنزلنا منزلا، فجعل الرّجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا فيصلّي فيه، فلمّا أصبحنا إذا نحن قد صلّينا إلى غير القبلة، فأنزل الله هذه الآية]
(1)
.
وقال عبد الله بن عمر: نزلت في صلاة المسافر يصلّي حيثما توجّهت به راحلته تطوّعا؛ [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي على راحلته في السّفر أينما توجّهت به]
(2)
.وقال عكرمة: (نزلت في تحويل القبلة إلى الكعبة لمّا صلّى إليها المسلمون بعد ما كانت قبلتهم بيت المقدس، قالت اليهود: يصلّون مرّة هكذا، ومرّة يصلّون هكذا! فأنزل الله هذه الآية).
فإن قيل: لم قال: {(وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)} على التوحيد وله المشارق والمغارب؟ قيل: لأنه أخرجه مخرج الجنس كما يقال: أهلك الله الدينار والدرهم.
قوله تعالى: {فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ؛} أي رضي الله كقوله تعالى:
{إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ}
(3)
أي لرضاه. وقيل: معناه: {(فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ)} أي علمه محيط بهم. وقيل: معناه: فأينما تولّوا وجوهكم أيها المؤمنون في سفركم وحضركم فثمّ قبلة الله التي وجّهتكم إليها فاستقبلوها؛ يعني الكعبة.
وقال الكلبيّ: (معناه: فثمّ وجه الله تعالى يرى ويعلم).والوجه صلة كقوله:
(4)
أي تريدونه بالدعاء. وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ}
(5)
أي إلا هو. وقوله: {وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ}
(6)
أي ويبقى ربّك.
قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ} (115)؛قال الكلبيّ: (يعني:
واسع المغفرة).وقال أبو عبيدة: (الواسع: الغنيّ).يقال: فلان يعطي من سعته؛ أي
(1)
أخرجه الترمذي في الجامع الصحيح: أبواب الصلاة: باب ما جاء في الرجل يصلي لغير القبلة: الحديث (345)؛وقال: «هذا حديث ليس إسناده بذاك» .بسبب أشعث بن سعيد أبو الربيع السمان، يضعف في الحديث.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1525).ومسلم في الصحيح: كتاب صلاة المسافرين: الحديث (700/ 33).
(3)
الإنسان 9/.
(4)
الروم 39/.
(5)
القصص 88/.
(6)
الرحمن 27/.
من غناه. وقال الفرّاء: (الواسع: الجواد الّذي يسع عطاؤه كلّ شيء).وقيل: الواسع:
الرحيم؛ دليله {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}
(1)
.وقيل: الواسع: العالم الذي يسع علمه كل شيء. وقال الله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ}
(2)
.وقوله:
{(عَلِيمٌ)} أي عالم بنيّاتهم حيثما صلّوا ودعوا.
قوله تعالى: {وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ؛} نزلت في يهود المدينة حيث قالوا: عزيز ابن الله، وفي نصارى نجران حيث قالوا: المسيح ابن الله، وفي مشركي العرب حيث قالوا: الملائكة بنات الله
(3)
.وقوله: {سُبْحانَهُ؛} تنزيها نزّه نفسه.
قوله تعالى: {بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؛} عبيد وملك؛ أي من كان مالك السموات والأرض؛ فإن الأشياء تضاف إليه من جهة الملك. قوله تعالى:
{كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ} (116)؛أي مطيعون.
وهذا تأويل لا يستغرق الكلّ، فيكون لفظ عموم أريد به الخصوص
(4)
.ثم سلكوا في تخصيصه طريقين؛ أحدهما: راجع إلى عزير والمسيح والملائكة، وهذا قول مقاتل. والطريق الثّاني: راجع إلى أهل طاعته دون الناس أجمعين، وهذا قول ابن عباس والفرّاء. وقال بعضهم: هو عامّ في جميع الخلق.
ثمّ سلكوا في الكفار طريقين؛ أحدهما: أن ظلالهم تسجد لله وتطيعه؛ وهو قول مجاهد؛ ودليله قوله تعالى: {يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلّهِ}
(5)
، وقال تعالى:{وَظِلالُهُمْ}
(6)
.والثّاني: قالوا: هذا في القيامة، قاله السديّ؛ وتصديقه قوله تعالى:{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ}
(7)
.وقال عكرمة ومقاتل: (معنى الآية:
كلّ له مقرّون بالعبوديّة).وقال ابن كيسان: (قائمون بالشّهادة، وأصل القنوت
(8)
(1)
الأعراف 156/.
(2)
البقرة 255/.
(3)
في الأصل المخطوط: (العرب بنات الله)
(4)
قاعدة أصولية.
(5)
النحل 48/.
القيام).وقيل: مصلّون؛ دليله: {أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ}
(1)
.وقيل: داعون، ويسمّى دعاء الوتر: قنوت، الآية
(2)
يدعو قائما.
قوله عز وجل: {بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؛} أي مبتدعهما ومنشؤهما على غير مثال يسبق، {وَإِذا قَضى أَمْراً؛} أي إذا أراد شيئا، {فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (117)،وهذه الآية والتي قبلها جواب عن قول جماعة من النصارى ناظروا النّبيّ صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى عليه السلام. قال لهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم:[هو عبد الله ورسوله] قالوا: هل رأيت من خلق بغير أب؟ فأنزل الله هذه الآية وما قبلها جوابا لهم
(3)
.
ومعناها: إنّ الله مبتدع السموات والأرض وخالقهما، وإذا أراد أمرا مثل عيسى بغير أب أو غير ذلك، فإنّما يقول له: كن، فيكون كما أراده. والإبداع: إيجاد الأشياء على غير مثال سبق؛ والبديع فعيل بمعنى مفعّل، والبديع أشدّ مبالغة من المبدع. قوله تعالى:{(فَيَكُونُ)} من رفعه؛ فمعناه: فهو يكون. ومن نصبه؛ فعلى جواب الأمر بالفاء. فإن قيل: قوله {(كُنْ)} خطاب للموجود أو للمعدوم، ولا يجوز الأول؛ لأنّ الشيء الكائن لا يؤمر بالكون، والثاني لا يجوز أيضا؛ لأنّ المعدوم لا يخاطب؟ قيل: إنّما قال ذلك على سبيل المثل، لأن الأشياء لسهولتها عليه وسرعة كونها بأمره بمنزلة ما يقول له كن فيكون. وهذا مثل قوله:{اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً}
(4)
لم يرد بهذا أن السماء والأرض كانتا في موضع فقال لهما: ائتيا، فجاءا من ذلك الموضع، ولكن أراد به تكوينهما، فعلى هذا معنى {(كُنْ فَيَكُونُ)} أي يريده فيحدث.
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللهُ؛} أراد بالذين لا يعلمون يهود المدينة وغيرهم من الكفار، وقيل: النصارى. وقيل: مشركو العرب؛
(1)
الزمر 9/.
(2)
لعله أراد قوله عز وجل: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً [الزمر 9/].
(3)
من حديث جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في مناظرة النجاشي له في الحبشة. أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 1 ص 203.وفي مجمع الزوائد: ج 6 ص 27؛قال الهيثمي: «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح».
(4)
فصلت 11/.
قالوا: هلاّ يكلّمنا الله عيانا بأنّك رسوله. {أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ؛} أي علامة دالة على صدقك ونبوتك؛ يعنون قولهم: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً}
(1)
الآية.
قوله عز وجل: {كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ؛} يعني اليهود الذين قالوا لموسى: أرنا الله جهرة. قوله تعالى: {تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ؛} أي قلوب الأوّلين والآخرين منهم في القسوة والكفر. ويقال: تشابهت قلوب المشركين واليهود والنصارى في القسوة والكفر. قوله تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (118)،أي لمن أيقن وطلب الحقّ. والآيات مثل بيان نعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وصفته في التوراة؛ وانشقاق القمر؛ وإعجاز القرآن وغير ذلك.
قوله تعالى: {إِنّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ؛} أي أرسلناك يا محمّد بالصّدق؛ من قولهم: فلان محقّ في دعواه إذا كان صادقا، دليله قوله تعالى:{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ}
(2)
أي صدق. وقال مقاتل: (معناه: لن نرسلك عبثا بغير شيء؛ بل أرسلناك بالحقّ) دليله قوله تعالى: {وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاّ بِالْحَقِّ}
(3)
وهو ضدّ الباطل. قال ابن عباس: (بالقرآن) دليله قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمّا جاءَهُمْ}
(4)
.وقال ابن كيسان: (بالإسلام) دليله قوله تعالى: {وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ}
(5)
.
قوله تعالى: {بَشِيراً وَنَذِيراً؛} أي بشيرا للمؤمنين بالثواب، ونذيرا للكافرين بالعقاب. وقوله تعالى:{وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ} (119)؛ أي لست تسأل في الآخرة عن أصحاب الجحيم، كما قال:{فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ}
(6)
وقال: {فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ}
(7)
.ومن فتح التاء فعلى النّهي. وتأويله أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: [ليت شعري، ما فعل بأبويّ؟] فنزلت هذه الآية
(8)
.
(1)
الإسراء:90.
(2)
يونس 35/.
(3)
الحجر 85/.
(4)
ق 5/.
(5)
الاسراء 81/.
(6)
فاطر 8/.
(7)
آل عمران 20/.
(8)
في الدر المنثور: ج 1 ص 271؛ قال السيوطي: «أخرج وكيع وسفيان بن عيينة وعبد الرزاق-
وفيه قراءتان: الجزم على النهي؛ وهي قراءة نافع وشيبة والأعرج ويعقوب.
وقرأ الباقون بالرفع على النّفي؛ يعني ولست تسأل عنهم. وقرأ أبيّ: «(وما تسأل)» .
وقرأ ابن مسعود: «(ولن تسأل)» .والجحيم والجحم والجحمة: معظم الدّار.
قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ؛} وذلك أنّهم كانوا يسألون النّبيّ صلى الله عليه وسلم الهدنة ويطمّعونه في أن يتّبعوه إن هادنهم، فأنزل الله هذه الآية. وقيل: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم حريصا على طلب رضاهم طمعا في أن يرجعوا إلى الحقّ
(1)
.وقيل: كانوا يطلبون من النّبيّ صلى الله عليه وسلم المسالمة ويطمّعونه في أنّه إن هادنهم أسلموا؛ فأمر الله النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن لا يطيعهم ما طلبوا من الهدنة، وأخبر أنّهم لا يرضون عنه بذلك، وهم يهود أهل المدينة ونصارى نجران.
(2)
.
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى؛} أي الصراط الذي دعا الله إليه؛ وهو الذي أنت عليه هو صراط الحقّ. قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ؛} أي إن اتبعت ملّتهم وصلّيت إلى قبلتهم، {بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ؛} أي بعد ما ظهر لك أنّ دين الله الإسلام؛ وأنّ القبلة قد حوّلت إلى الكعبة،
(8)
-وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر، عن محمّد بن كعب القرظي. قال: أخرج ابن جرير عن داود بن أبي عاصم:
…
وذكره. ثم قال: وهذا مرسل ضعيف الإسناد، والآخر معضل الإسناد ضعيف لا يقوم به ولا بالذي قبله حجة».أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1557 و 1558) عن محمّد بن كعب القرظي، وفي النص (1559) عن داود بن أبي عاصم، وشكك في صحة الخبر.
{ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} (120)؛أي ما لك من الله من وليّ ينفعك ويحفظك عن عقابه، ولا نصير يدفع مضرّة عقابه عنك. وهذا خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد به عامّة الناس؛ مثل قوله {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}
(1)
.وقد علم الله أنه لا يشرك؛ وهذا كما يقال في المثل: (إيّاك أعني فاسمعي يا جارة).
قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ؛} قال ابن عباس: (نزلت في أهل السّفينة الّذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب؛ وكانوا أربعين رجلا؛ اثنان وثلاثون من الحبشة؛ وثمانية من رهبان الشّام؛ منهم بحيرا).وقال الضحّاك: (هم من آمن من اليهود: عبد الله بن سلام، وشعبة بن عمرو، وأسيد وأسد ابنا كعب، وابن يامين، وعبد الله بن صوريّا).وقال عكرمة: (هم أصحاب رسول الله محمّد صلى الله عليه وسلم.وقيل: هم المؤمنون عامة.
وقوله تعالى: {(يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ)} قال الكلبيّ: (يصفونه في كتبهم حقّ صفته لمن سألهم من النّاس) وعلى هذا القول تكون الهاء راجعة إلى محمّد صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: هي عائدة إلى الكتاب. واختلفوا في معناه؛ قال ابن مسعود: {(يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ)} أي يحلّلون حلاله ويحرّمون حرامه ويقرءونه كما أنزل، ولا يحرّفونه عن مواضعه
(2)
.وقال الحسن: (معناه: يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه؛ ويكلون علم ما أشكل عليهم إلى عالمه)
(3)
.وقال مجاهد: (يتّبعونه حقّ اتّباعه)
(4)
.
قوله تعالى: {أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ؛} أي بالقرآن ويقرّون بمحمّد صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ؛} أي بالقرآن ويجحد نبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم، {فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} (121)،وهم كعب بن الأشرف وأصحابه.
(1)
الزمر 65/.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1565).
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1572).
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1571).وأخرجه من قول ابن عمر رضي الله عنهما: النص (1564).وعن ابن عباس رضي الله عنهما: النص (1565).وفي الجامع لأحكام القرآن: ج 2 ص 95؛ قال القرطبي: «روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي إسناده غير واحد من المجهولين فيما ذكره الخطيب، إلا أن معناه صحيح» .
قوله تعالى: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ،} تقدّم تفسيره، وفائدة تكرار القصص والألفاظ: أنّ الله تعالى أراد برحمته أن يشهر القصص في أطراف الأرض؛ ويلقيها في كلّ سمع؛ ويثبتها في كلّ قلب؛ ويزيد الحاضرين إفهاما، فإنّ القرآن نزل بلسانهم، ومن مذهبهم أنّ التكرار إرادة التوكيد وزيادة الإفهام. {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} (123).
قوله تعالى: {*وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ؛} أي اختبره بما بعده من السّنن؛ وهي عشر خصال: خمس في الرأس: وهي المضمضة؛ والاستنشاق والسّواك؛ وقصّ الشارب؛ وفرق الرأس. وخمس في الجسد: التقليم؛ والختان؛ والاستنجاء بالماء؛ وحلق العانة؛ ونتف الإبط
(1)
.وقيل: معناه: ابتلاه الله بالمناسك التي تعبّده بها وهي عرفة والمزدلفة والرمي والطواف والسعي. وقيل: معناه:
ابتلاه الله بأمر عظيم؛ فصبر وأحسن الظنّ بالله
(2)
.فأول ذلك الكوكب والقمر والشمس، ثم النار؛ فجعلها عليه بردا وسلاما، ثم بالهجرة من أهله وولده، ثم بالختان على رأس ثمانين سنة، ثم بذبح الولد، فاتخذه الله خليلا.
قوله تعالى: {(فَأَتَمَّهُنَّ)} أي عمل بهنّ ولم يترك منهنّ شيئا. قوله تعالى: {قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً؛} أي مقتدا بك، {قالَ؛} إبراهيم:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِي؛} أي ومن أولادي، فاجعل أئمة يقتدى بهم.
وأصل الذّرّيّة الأولاد الصّغار؛ مشتق من الذّرى لكثرته. وقيل: من الذّرء؛ وهو الخلق. وفيه ثلاث لغات: (ذرّيّة) بكسر الذال وهي قراءة زيد بن ثابت. و «(ذرّيّة)» بفتح الذال وهي قراءة أبي جعفر. و «(ذرّيّة)» بضمّ الذال وهي قراءة العامة.
قوله تعالى: {قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ} (124)؛أعلمه الله تعالى أنّ في ذريته الظالم؛ والظالم لا يصلح إماما. وفيه ثلاث قراءات: {(عَهْدِي الظّالِمِينَ)}
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان عن ابن عباس: الأثر (1580).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان عن ابن عباس: الأثر (1589).
بالواو؛ وهي قراءة ابن مسعود. و «(عهدي الظّالمين)» بإسكان الياء؛ وهي قراءة الأعمش وحفص وحمزة. «(وعهدي)» بفتح الياء؛ وهي قراءة العامّة.
واختلفوا في هذا العهد. قال عطاء: (رحمتي).وقال الضحّاك: (طاعتي) ودليله قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}
(1)
.وقال السديّ: (بنبوّتي).وقال حذيفة: (أمانتي) ودليله قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ}
(2)
.وقال أبو عبيد: (أماني) دليله قوله تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ}
(3)
وقال السديّ:
(ليس للظّالم أن يطاع في ظلمه)
(4)
.
قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَأَمْناً؛} أي جعلنا الكعبة مثابة؛ أي مرجعا. وقال ابن عباس: (يعني معاذا وملجأ).وقال ابن جبير ومجاهد والضحّاك: (يثوبون إليه من كلّ جانب، ويحجّونه، ولا يملّون منه، فما من أحد قصده إلاّ ويتمنّى العود إليه)
(5)
.وقال قتادة وعكرمة: (مجمعا)
(6)
.وقال طلحة:
(مثابا يحجّون إليه ويثابون عليه).قوله تعالى: (وأمنا) وصف للبيت؛ والمراد به جميع الحرم، كما قال:{بالِغَ الْكَعْبَةِ}
(7)
والمراد الحرم لا الكعبة؛ لأنه لا يذبح فيها ولا في المسجد.
ومعنى {(وَأَمْناً)} أي مأمنا يأمنون فيه. قال ابن عبّاس: (فمن أحدث حدثا خارج الحرم ثمّ لجأ إليه أمن من أن يهاج فيه) أي لم يتعرّض له، ولكن لا يبالغ ولا يخالط ويوكل به، فإذا خرج منه أقيم عليه الحدّ فيه. وهذا كانوا يتوارثونه من زمن إسماعيل
(1)
البقرة 40/.
(2)
النحل 91/.
(3)
التوبة 4/. نقله أيضا أبو عبيد الهروي في الغريبين: ج 4 ص 1346.
(4)
في الدر المنثور: ج 1 ص 288؛ قال السيوطي: «أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في الآية، قال: (ليس لظالم عليك عهد في معصية الله أن تطيعه).» .
(5)
في جامع البيان: النص (1619 و 1613).
(6)
في جامع البيان: النص (1620).
(7)
المائدة 95/.
إلى أيّام النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكانت العرب في الجاهلية تعتقد ذلك في الحرم، ويستعظم القتل فيه. كان الرجل منهم يؤوي إليه قاتل أبيه فلا يتعرّض له. ومن الأمن الذي جعله الله فيه: اجتماع الصيد والكلب ولا يهيج الكلب الصيد، ولا ينفر الصيد من الكلب حتى إذا خرجا منه عدا الكلب على الصيد، وعاد الصيد إلى الهرب.
قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى؛} قرأ شيبة ونافع وابن عامر والحسن: «(واتّخذوا)» بفتح الخاء على الخبر. وقرأ الباقون بالكسر على الأمر.
قال ابن كيسان: (ذكروا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بالمقام ومعه عمر رضي الله عنه؛ فقال: يا رسول الله؛ أليس هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: [بلى].قال: أفلا تتّخذه مصلّى؟ قال: [لم أومر بذلك].فلم تغب الشّمس من يومه حتّى نزل: {(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى)}
(1)
.
وعن أنس بن مالك قال: قال عمر رضي الله عنه: (وافقني ربي في ثلاث: قلت: لو اتّخذت من مقام إبراهيم مصلّى؛ فأنزل الله تعالى {(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى)}. وقلت: يا رسول الله؛ إنّه يدخل عليك البرّ والفاجر؛ فهلاّ حجّبت أمّهات المؤمنين؟ فأنزل الله آية الحجاب. قال: وبلغني شيء كان بين أمّهات المؤمنين وبين النّبيّ صلى الله عليه وسلم فاستفزّ منهنّ. أقول: لتكفّنّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ليبدّلنّه الله أزواجا خيرا منكنّ حتّى أتيت على آخر أمّهات المؤمنين، فقالت أمّ سلمة: يا عمر؛ ما في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من يعظ نساءه حتّى تعظهنّ. فأمسكت. فأنزل الله تعالى:
{عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ}
(2)
)
(3)
.
واختلفوا في قوله تعالى: {(مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ)؛} قال النخعيّ: (الحرم كلّه من مقام إبراهيم)
(4)
.وقيل: المسجد كلّه مقام إبراهيم. وقال قتادة ومقاتل والسديّ: (هو الصّلاة عند مقام إبراهيم؛ أمروا بالصّلاة عنده ولم يؤمروا بمسحه ولا تقبيله).
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان عن أنس: النص (1629).
(2)
التحريم 5/.
(3)
رواه البخاري في الصحيح: كتاب التفسير: الحديث (4483).
(4)
في الدر المنثور: ج 1 ص 291؛ قال السيوطي: «أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم، عن ابن عباس» .
وقصّة ذلك: ما روي عن ابن عباس: [لمّا أتى إبراهيم عليه السلام بابنه إسماعيل وأمّه هاجر؛ فوضعهما بمكّة، ومضى مدّة، وتزوّج إسماعيل امرأة من الجرهميّين، استأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر، فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل. فقدم إبراهيم وقد ماتت هاجر، فقال لامرأة إسماعيل: أين صاحبك؟ قالت: ليس هو هاهنا، ذهب يتصيّد. وكان إسماعيل يخرج من الحرم فيصطاد، فقال لها إبراهيم: هل عندك من ضيافة من طعام أو شراب؟ قالت: لا!! فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السّلام وقولي له: فليغيّر عتبة بابه؛ فذهب. وجاء إسماعيل فوجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: جاءني شيخ صفته كذا وكذا، كالمستخفّة بشأنه.
قال: فما قال لك؟ قالت: قال: أقرئي زوجك السّلام وقولي له: يغيّر عتبة بابه، فطلّقها وتزوّج أخرى.
فلبث إبراهيم ما شاء الله، ثمّ استأذن سارة في زيارة إسماعيل، فأذنت له، واشترطت عليه أن لا ينزل. فجاء، فقال لامرأة إسماعيل: أين ذهب صاحبك؟ قالت: يتصيّد وهو يجيء الآن إن شاء الله؛ فانزل يرحمك الله. قال: هل عندك ضيافة؟ قالت: نعم، فجاءت باللّبن واللّحم فدعا فيها بالبركة. ولو جاءت يومئذ بخبز برّ أو شعير أو تمر لكانت أكثر أرض الله برّا أو شعيرا أو تمرا. فقالت له: انزل حتّى أغسل رأسك. فلم ينزل، فجاءته بالمقام فوضعته في شقّه الأيمن فوضع قدميه عليه، فبقي أثر قدميه عليه، فغسلت رأسه الأيمن، ثمّ حوّلت المقام إلى شقّه الأيسر فغسلته، وبقي أثر قدميه عليه. فقال: إذا جاء زوجك فأقرئيه السّلام وقولي له: قد استقامت عتبة بابك. فلمّا جاء إسماعيل فوجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: نعم، شيخ أحسن النّاس وجها وأطيبهم ريحا. فقال: كذا، وقلت له:
كذا، وغسلت رأسه وهذا موضع قدمه على المقام. قال: ذاك إبراهيم]
(1)
.
قال أنس بن مالك: (رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه، غير أنّه أذهبه مسح النّاس بأيديهم)
(2)
.وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال: أشهد بالله
(1)
في الدر المنثور: ج 1 ص 304؛ قال السيوطي: «وأخرجه أحمد وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم والبيهقي في الدلائل، عن سعيد بن جبير» .
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان عن قتادة: النص (1641).
ثلاث مرّات أنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [الرّكن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنّة طمس الله نورهما، ولولا أنّ الله طمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب]
(1)
.
وقيل: مقام إبراهيم الحجّ كلّه: عرفة؛ والمزدلفة؛ والرمي. وقيل: الحرم كله؛ وقيل: الحجر الأسود المعروف الذي وضعته امرأة إسماعيل تحت قدميه فغابت رجليه فيه، وهذا من معجزات إبراهيم عليه السلام.
وقوله عز وجل: {وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ؛} أي أمرناهما وأوصيناهما، {أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ؛} أي مسجدي؛ يعني الكعبة من الأوثان والنّجاسات. وعن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنّ الله أوحى إليّ أن أنذر قومك أن لا يدخلوا بيتا من بيوتي إلاّ بقلوب سليمة؛ وألسنة صادقة؛ وأيد نقيّة؛ وفروج طاهرة. ولا يدخلوا بيتا من بيوتي ولأحد عندهم مظلمة؛ فإنّي ألعنه ما دام قائما بين يديّ يصلّي حتّى يردّ تلك الظّلامة إلى أهلها، فأكون سمعه الّذي يسمع به؛ وبصره الّذي يبصر به؛ ويكون من أوليائي وأصفيائي].
وعن معاذ بن جبل؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [جنّبوا مساجدكم صبيانكم؛ ومجانينكم؛ وسلّ سيوفكم؛ ورفع أصواتكم؛ وحدودكم؛ وخصومتكم؛ وبيعكم؛ وشراءكم. وجمّروها يوم جمعكم؛ واجعلوا على أبوابها مطاهركم]
(2)
.
وقرأ الحسن وحفص وهشام ونافع: «(بيتي)» بفتح الياء. والباقون بإسكانها.
وإضافة الله عز وجل البيت لنفسه تخصيصا وتفضيلا.
(1)
أخرجه الترمذي في الجامع: كتاب الحج: باب ما جاء في فضل الحجر الأسود: الحديث (878)؛ وقال: غريب. وابن حبان في الصحيح: كتاب الحج: باب فضل مكة: الحديث (3710)،وإسناده حسن. والحاكم في المستدرك: كتاب المناسك: الحديث (1420)،وإسناده صحيح.
(2)
من حديث معاذ بن جبل، ووائلة بن الأسقع، وأبي أمامة، وأبي الدرداء. أما حديث معاذ، فأخرجه عبد الرزاق في المصنف: النص (1726):ج 1 ص 442.لأنه قيل: إن مكحول لم يسمع من معاذ بن جبل. وفي نصب الراية: ج 1 ص 492؛قال الزيلعي: «وأخرجه الطبراني في معجمه بالسند نفسه، ولكن فيه عن مكحول عن يحيى بن العلاء عن معاذ،
…
فذكره».
قوله تعالى: {لِلطّائِفِينَ؛} وهم الغرباء؛ وقوله تعالى: {وَالْعاكِفِينَ؛} أي المقيمين والمجاورين؛ وقوله تعالى: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (125)؛يعني المصلّين. وقيل: أراد بذلك جميع المسلمين. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
[إنّ لله في كلّ يوم وليلة عشرين ومائة رحمة ينزل على أهل البيت ستّون للطّائفين وأربعون للمصلّين، وعشرون للنّاظرين]
(1)
.
قوله تعالى: {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً؛} يعني مكّة والحرم آمنا من الجدب والقحط، وقيل: من الحرب. قوله تعالى: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛} لا يكون إلا ويوجد فيه أنواع الثمرات، فأحبّ إبراهيم أن لا يأكل طعام الله إلا الموحّدون؛ فأعلمه الله أن لا يخلق خلقا إلا يرزقه، فذلك قوله تعالى:{قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً؛} أي سأرزقه في الدنيا يسيرا. قيل: خشي إبراهيم أن لا يستجاب له في الرزق كما لم يستجب له في الإمامة؛ فخصّ المؤمنين في المسألة في الرزق، فأعلمه الله أنّ المؤمن والكافر في الرزق سواء.
قوله تعالى: {(مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ)} في موضع نصب بدل من {(أَهْلَهُ)} بدل بعض من كلّ كقوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}
(2)
.وقوله تعالى: {(وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً)} أي فسأرزقه إلى منتهى أجله. قرأ ابن عامر: «(فأمتعه)» بفتح الألف وجزم العين، «(ثمّ أضطرّه)» موصولة الألف مفتوحة الراء على جهة الدّعاء من إبراهيم عليه السلام، وقرأ الباقون بالتشديد. وقوله تعالى:{ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النّارِ؛} أي ألجئه إلى عذاب النار في الآخرة، {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ؛} (126) أي بئس المرجع يصير إليه.
واختلفوا في مكّة: هل كانت حرما آمنا قبل دعاء إبراهيم؛ أم صارت كذلك بدعائه؟ قيل: إنّما صارت كذلك بدعائه، بدليل أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: [إنّي حرّمت
(1)
أخرجه أبو نعيم الأصبهاني في تاريخ أصبهان: ج 1 ص 151: النص (116) عن ابن عباس.
(2)
آل عمران 97/.
المدينة كما حرّم إبراهيم مكّة]
(1)
.والأصحّ: أنّها كانت حرما آمنا قبل دعائه بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: [إنّ الله حرّم مكّة يوم خلق السّماوات والأرض ووضعها بين أخشبين]
(2)
أي جبلين؛ فعلى هذا كانت أمنا قبل دعائه من الخسف والاصطلام لأهله.
وكان الله قد جعل في قلوب الناس هيبة ذلك المكان حتى كانوا لا ينتهكون حرمة من كان فيه بمال ولا بنفس، ثم بدعاء إبراهيم صارت حرما آمنا بأن أمر الله الناس بتعظيمه على ألسنة الرّسل. والواو في قوله {(وَمَنْ كَفَرَ)} دليل على إجابة الله دعوة إبراهيم خاصة.
قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ؛} قيل: إنّ الله تعالى خلق موضع البيت قبل أن يخلق الأرض بألفي عام، وكان ربوة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحتها، فلمّا أهبط الله آدم إلى الأرض كان رأسه يلمس السماء حتى صلع، وأورث أولاده الصلع. ونفرت من طوله دوابّ الأرض، وكان يسمع كلام أهل السماء وتسبيحهم، ويأنس إليهم. فاشتكت نفسه فقبضه الله إلى ستين ذراعا بذراع آدم. فلما فقد آدم ما كان يسمع من أصوات الملائكة وتسبيحهم استوحش وشكى إلى الله، فأنزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة لها بابان من زمرّدة خضراء؛ باب شرقي وباب غربيّ، وفيه قناديل من الجنة، فوضعه على موضع البيت الآن. ثم قال: يا آدم إنّي أهبطت لك بيتا يطّوّف به كما يطاف حول عرشي، ويصلّى عنده كما يصلّى عند عرشي. وأنزل عليه الحجر ليمسح به دموعه وكان أبيض. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[إنّ الحجر ياقوتة من ياقوت الجنّة، ولولا ما مسّه المشركون بأنجاسهم ما مسّه ذو عاهة إلاّ شفاه الله تعالى]
(3)
.فتوجّه آدم من أرض الهند إلى مكّة ماشيا، وقيّض له ملك يدلّه على البيت.
(1)
رواه مسلم في الصحيح: كتاب الحج: باب فضل المدينة: الحديث (1360/ 454).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1668).
(3)
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: باب في المناسك: فضيلة الحجر الأسود: النص (4030 و 4033) في إسناد أيوب بن سويد، وهو لين الحديث، فهو حسن لغيره.
قيل لمجاهد: يا أبا الحجّاج؛ ألا كان يركب؟ قال: وأيّ شيء يحمله! فو الله إن خطوته مسيرة ثلاثة أيام، وكلّ موضع وضع عليه قدمه صار عمرانا، وما تعدّاه صار مفاوزا وقفارا. فأتى مكة وحجّ البيت وأقام المناسك؛ فلما فرغ تلقّته الملائكة فقالوا:
برّ حجّك يا آدم، فلقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام.
قال ابن عباس: (حجّ آدم أربعين سنة من الهند إلى مكّة على رجليه؛ فكانت الكعبة كذلك إلى أيّام الطّوفان، فرفعها الله إلى السّماء الرّابعة، فهو البيت المعمور يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك ثمّ لا يعودون إليه إلى يوم القيامة. وبعث الله جبريل حتّى جاء الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له عن الغرق، فكان موضع البيت خاليا إلى زمن إبراهيم عليه السلام، ثمّ أمر الله إبراهيم بعد ما ولد إسماعيل وإسحاق عليهما السلام أن يبني بيتا له يعبد ويذكر فيه، فلم يدر إبراهيم أين يبني؟ فسأل الله أن يبيّن له موضعه، فبعث الله إليه السّكينة لتدلّه على موضع البيت؛ وهي ريح خجوج لها رأسان تشبه الحيّة، فتبعها إبراهيم حتّى أتيا مكّة، فجعلت السّكينة تطوف على موضع البيت كما تطوف الحيّة. وأمر إبراهيم أن يبني عليه لتستقرّ السّكينة. فبناه) وهذا قول عليّ كرّم الله وجهه.
قال ابن عباس رضي الله عنه: (بعث الله سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير وإبراهيم يسير في ظلّها إلى أن وافت مكّة ووقفت على موضع البيت، ونودي: يا إبراهيم ابن على ظلّها لا تزيد ولا تنقص، فبنى بخيالها).وقال بعضهم: أرسل الله جبريل ليدلّه على موضع البيت وذلك قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ}
(1)
.فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت؛ كان إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجارة والملائكة ينقلون الحجارة من خمسة أجبل: طور سيناء؛ وطور زيناء؛ والجوديّ؛ ولبنان؛ وحراء.
قيل: إنّ قواعده من حراء.
فلما انتهى إبراهيم إلى موضع الحجر الأسود قال لإسماعيل: ائتني بحجر حسن يكون للناس علما؛ فأتاه بحجر؛ فقال: ائتني بحجر أحسن من هذا؛ فمضى إسماعيل
(1)
الحج 26/.
ليأتي بحجر فصاح أبو قبيس: يا إبراهيم إن لك عندي وديعة فخذها، فأخذ الحجر الأسود ووضعه مكانه.
وقيل: إنّ الله تعالى أمدّ إبراهيم وإسماعيل بتسعة أملاك يعينوهما على بناء البيت، فلما فرغا من بنائه جثيا على الرّكب وقالا:{رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (127).فقيل: قد فعل لكما، فقالا:{رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ؛} فقيل: قد فعل لكما ذلك، فقالا:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ؛} أي موحّدين مخلصين.
والقواعد هي أساس الكعبة؛ كذا قال الكلبيّ. وقوله تعالى: {(إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)} أي بنيّاتنا.
وقوله تعالى: {(وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ)} قرأ عوف: «(مسلمين)» على الجمع. وقوله تعالى: {(وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)} أي واجعل من ذرّيتنا أمة مخلصة لك بالتوحيد والطاعة. {وَأَرِنا مَناسِكَنا؛} أي عرّفنا متعبّداتنا وشرائع ديننا وأعلام حجّنا. وأصل النّسك العبادة، ويقال للعابد: ناسك.
وقرأ ابن مسعود: «(وأرهم مناسكهم)» ردّه إلى الأمّة. وقرأ قتادة وابن كثير بسكون الراء في جميع القرآن. وقرأ أبو عمرو باختلاس كسرة الراء. وقرأ الباقون بكسر الراء.
فأجاب الله دعاءهما؛ فبعث الله جبريل عليه السلام فأراهما المناسك في يوم عرفة، فلما بلغ عرفات قال: يا إبراهيم عرفت؟
(1)
.قال: نعم؛ فسمّي الوقت عرفة، والموضع عرفات.
قوله تعالى: {وَتُبْ عَلَيْنا؛} أي وتجاوز عن ذنوبنا الصغائر؛ لأن ذنوب الأنبياء لا تكون إلاّ الصغائر
(2)
.وقوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ} (128)؛أي المتجاوز الرجّاع بالرحمة على عباده.
(1)
في هامش المخطوط: وصل في سرعة وأن آدم عليه السلام تعارف مع حواء بعرفة فلذلك سميت عرفة.
(2)
ويجوز طلب التجاوز عن مطلق الذنوب كبائر أو صغائر، ولو كانت الأنبياء عليهم السلام معصومين عنها يطلق التجاوز كسرا للنفس لاستغفار النبي مع عصمته من الذنوب.
قوله تعالى: {رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ؛} أي وابعث في ذرّيتنا الأمّة المسلمة؛ أي ذريّة إبراهيم وإسماعيل من أهل مكّة، {(رَسُولاً مِنْهُمْ)} أي من أهل نسبهم، {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ؛} أي يقرأ عليهم كتابك، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ؛} الذي ينزل عليه ومعانيه، {وَالْحِكْمَةَ؛} أي فقه الحلال والحرام.
وقال مجاهد: (فهم القرآن).وقال مقاتل: (هي مواعظ القرآن وبيان الحلال والحرام).
وقال ابن قتيبة: (هي العلم والعمل، ولا يسمّى الرّجل حكيما حتّى يجمعهما).وقال بعضهم: كلّ حكمة وعظتك أو زجرتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة؛ وقيل: الحكمة وضع الأشياء في مواضعها. وقيل: هي السّنّة البيّنة.
قوله تعالى: {وَيُزَكِّيهِمْ؛} أي يطهّرهم من الكفر والفواحش والدّنس والذنوب. وقيل: يصلحهم بأخذ زكاة أموالهم. وقال ابن كيسان: (أن يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة إذا شهدوا للأنبياء بالبلاغ).قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (129)؛العزيز: هو المنيع الذي لا يغلبه شيء. والحكيم: الذي يحكم ما يريد.
وقال ابن عباس: (العزيز: الّذي لا يوجد مثله) دليله قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}
(1)
.وقال الكلبيّ: (العزيز: المنتقم ممّن أساء) دليله قوله تعالى: {وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ}
(2)
.وقال الكسائيّ: (العزيز: الغالب) دليله قوله: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ}
(3)
أي غلبني. وقال ابن كيسان: (العزيز: الّذي لا يعجزه شيء).وقال المفضّل: (العزيز: الممتنع الّذي لا تناله الأيدي؛ ولا يردّ له أمر؛ ولا غالب له فيما أراد).وقيل: العزيز: هو القويّ ذو القدرة؛ دليله قوله: {فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ}
(4)
أي قوّينا.
وأصل العزّة في اللغة: الشّدّة؛ يقال: عزّ عليّ كذا؛ إذا شقّ. والمراد بالرسول في هذه الآية محمّد صلى الله عليه وسلم. وبالكتاب القرآن.
(1)
الشورى 11/.
(2)
آل عمران 4/.
(3)
ص 23/.
(4)
يس 14/.
روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: [أنا إنّما دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى]
(1)
يعني قوله تعالى: {رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} وقوله: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}
(2)
فاستجاب الله دعاء إبراهيم عليه السلام وبعث فيهم محمّدا سيّد الأنبياء؛ لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنّي عبد الله وخاتم النّبيّين وإنّ آدم لمنجدل في طينته]
(3)
.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ،} هذا تحريض من الله على ملّة نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم التي هي ملّة إبراهيم؛ لأنّ إبراهيم وإسماعيل كانا سألا في دعائهما أن يجعل الله من ذريّتهما في مكة رسولا؛ لأن الكلام كان في ذكر مكة ولم يكن أحد من أهل مكة من ذريّتهما نبيا سوى محمّد صلى الله عليه وسلم. وملة إبراهيم داخلة في ملة نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم مع الزيادات التي في شرائع هذه الملّة.
وسبب نزول هذه الآية: أنّ عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه مسلمة ومهاجر إلى الإسلام، وقال لهما: قد علمتما أنّ الله تعالى قال في التّوراة: (إنّي باعث من ولد إسماعيل نبيّا اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد؛ ومن لم يؤمن به فملعون) فأسلم مسلمة وأبى مهاجر أن يسلم. فأنزل الله تعالى: {(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ)}
(4)
أي يترك دينه وشريعته.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1408).والطبراني في المعجم الكبير: ج 8 ص 175: الحديث (7729) عن أبي أمامة. والإمام أحمد في المسند: ج 5 ص 262 عن خالد بن معدان. والحاكم في المستدرك: ذكر أخبار سيد المرسلين: الحديث (4230)؛وقال: «خالد بن معدان من خيار التابعين، صحب معاذ بن جبل فمن بعده من الصحابة، فإذا أسند حديثا إلى الصحابة، قال: صحيح الإسناد وإن لم يخرجاه» .
(2)
الصف 6/.
(3)
في الدر المنثور: ج 1 ص 334؛ قال السيوطي: «أخرجه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل، عن العرباض بن سارية» .وأخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 5 ص 262.والطبري في جامع البيان: النص (1709).وفي مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: ج 8 ص 223؛قال الهيثمي: «أحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سويد، وقد وثقه ابن حبان» .
(4)
في لباب النقول في أسباب النزول: ج 29؛ قال السيوطي: (قال ابن عيينة وذكره).
يقال: رغبت في الشيء؛ إذا أردته، ورغبت عنه؛ إذا تركته. والرغبة في اللغة:
محبّة ما للنّفس فيه منفعة. ولهذا لا يجوز في صفات الله: راغب.
قوله تعالى: {(إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ)} أي خسر وهلك. وقال الكلبيّ: (ضلّ من قبل نفسه).وقال بعض أهل اللغة: سفه بمعنى يسفه، وقيل:{(سَفِهَ نَفْسَهُ)} أي جهل نفسه بمعنى لم يتفكّر في نفسه أنّ لها خالقا. وقيل: سفه في نفسه؛ إلا أنه حذف الخافض فنصب، مثل قوله تعالى:{وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ}
(1)
أي على عقدة النكاح.
ويقال: ضربته الظهر والبطن؛ أي على الظهر والبطن. وأصل السّفه والسّفاهة:
الجهل وضعف الرّأي.
قوله تعالى: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا؛} أي للرسالة. وأصل الطّاء فيه التاء، جعلت طاء لقرب مخرجها ولتطوّع اللّسان به. قوله تعالى:{وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ} (130)؛أي الفائزين. قاله الزجّاج
(2)
.وقيل: المستوجبين للكرامة. وقيل: في الآية تقديم وتأخير، تقديره: ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنّه لمن الصالحين، نظيره في سورة النحل:{وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ}
(3)
.
قوله تعالى: {إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ؛} أي استقم على الإسلام واثبت عليه؛ لأنه كان مسلما كقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ}
(4)
أي اثبت على علمك. وقال ابن عبّاس: (إنّما قال ذلك حين خرج من السّرب
(5)
ورأى الكوكب والقمر والشّمس، فألهمه الله الإخلاص فاستدلّ وعرف وحدانيّة الله فأسلم حينئذ، وقال:{إِنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
(6)
) وليس أنه كان حين أفلت الشمس كافرا؛ لأنّ الله تعالى لا ينبئ من كان كافرا قطّ.
(1)
البقرة 235/.
(2)
قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: ج 1 ص 185.
(3)
الآية 122/.
(4)
محمد 19/.
(5)
السّرب بالتحريك: الحفير، وبيت تحت الأرض. القرطبي: ج 2 ص 134.
(6)
الأنعام 78/-79.
ويجوز أن يكون معنى الإسلام: تسليم الأمور إلى الله تعالى والانقياد له من غير امتناع وعصيان. وقال الكلبيّ: (معناه: أخلص دينك لله بالتّوحيد).وقال عطاء: (سلّم نفسك إلى الله وفوّض أمرك إليه).وقيل: اخضع واخشع.
قوله تعالى: {قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ} (131)؛ظاهر المعنى.
قوله تعالى: {وَوَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ؛} قرأ أهل المدينة وأهل الشّام: «(وأوصى)» بالألف. وقرأ الباقون بالتشديد. وهما لغتان؛ يقال: أوصيته ووصيّته؛ إذا أمرته مثل انزل ونزّل. وقوله تعالى: {(بِها)} يعني بكلمة الإخلاص: لا إله إلاّ الله. وقال أبو عبيدة: (إن شئت رددت الكناية إلى الملّة؛ لأنّه ذكر ملّة إبراهيم؛ وإن شئت رددتها إلى الوصيّة).وقال المفضّل: (بالطّاعة كناية عن غير مذكور).
وكناية الملّة هنا أصحّ؛ لأن ردّها إلى المذكور أولى من ردّها إلى المدلول، وكلمة الإخلاص مدلول عليها في ضمن قوله تعالى:{(قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)} .
وبنو إبراهيم أربعة: إسماعيل؛ وإسحاق؛ ومدين؛ ومدائن. قوله تعالى:
{(وَيَعْقُوبُ)} قيل: سمي بيعقوب؛ لأنه خرج على إثر العيص؛ وقد مضت قصتهما.
وقيل: سمي بيعقوب لكثرة عقبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[بعثت على إثر ثمانية آلاف نبيّ: أربعة آلاف من بني إسرائيل]
(1)
.ومعنى الآية: وصّى بها أيضا يعقوب بنيه الاثني عشر. وحكي عن مجاهد أنه حكى عن بعضهم: {(وَيَعْقُوبُ)} بالنصب عطفا على بنيه داخلا في جملتها الموصّيين.
قوله تعالى: {يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ؛} أي الإسلام، {فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (132)؛أي مؤمنون. وقيل: مخلصون. وقيل:
محسنون بربكم الظنّ. وقيل: مفوّضون.
روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية قال اليهود للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: ألست تعلم أنّ يعقوب يوم مات أوصى بنيه بدين اليهوديّة؟
فأنزل الله تعالى قوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ}
(1)
أخرجه أبو نعيم في حيلة الأولياء وطبقات الأصفياء: ج 3 ص 162؛وقال: «غريب من حديث زياد، تفرد به زكريا» .
{يَعْقُوبَ الْمَوْتُ؛} أي أكنتم أيّها اليهود حضورا حين حضر يعقوب الموت، {إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ؛} الصادق، {وَإِسْحاقَ؛} الحليم.
والمراد بحضور الموت: حضور أسبابه؛ لأن من حضره الموت لا يتمكّن من القول، وقد سمي سبب الشيء باسمه. كما قال تعالى:{وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها}
(1)
.
وقال الكلبيّ: (معنى الآية: أنّ يعقوب لمّا دخل مصر رأى أهلها يعبدون الأوثان والنّيران؛ فجمع أولاده وخاف عليهم ذلك. وقال لهم: ما تعبدون من بعدي).وقال عطاء: (إنّ الله تعالى لم يقبض نبيّا حتّى يخيّره بين الحياة والموت، فلمّا خيّر يعقوب قال: أنظرني حتّى أسأل أولادي وأوصيهم، فجمع أولاده وأولاد أولاده وقال لهم: قد حضر أجلي، فما تعبدون من بعدي؟ أي من بعد موتي. {(قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ)} {إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (133)
(2)
.
قرأ يحيى بن معمّر: «(إله أبيك)» على التوحيد؛ قال: لأنّ إسماعيل عمّ يعقوب لا أبوه. وقرأ العامّة: «(وإله آبائك)» على الجمع. وقالوا: عمّ الرجل صنو أبيه
(3)
.وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم للعباس: [هذا بقيّة آبائي] والعرب تسمي العمّ أبا كما تسمّي الخالة أمّا. قال الله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ}
(4)
يعني يعقوب وليان؛ وهي خالة يوسف عليه السلام.
(1)
الشورى 41/.
(2)
على ما يبدو أنه يتأوّل حديث عائشة رضي الله عنها؛ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما أسمعه يقول: [إنّ الله لم يقبض نبيّا حتّى يخيّره]. أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 6 ص 234.
(3)
عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: [إنّ عمّ الرّجل صنو أبيه].أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 10 ص 72:الحديث (9985) وص 291:الحديث (10698)، وإسنادهما حسن.
(4)
يوسف 100/.
قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ؛} أي لا تتّكلوا أيها اليهود على آبائكم وأسلافكم اعتمادا منكم على شفاعتهم عنكم فإنّهم جماعة قد مضت. قوله تعالى:
{لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ؛} أي لها جزاء ما عملت من خير أو شرّ ولكم جزاء ما عملتم. وقوله تعالى: {وَلا تُسْئَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ} (134)؛ أي إنّما تسألون عن أعمالكم.
قوله تعالى: {وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا؛} قال ابن عبّاس:
(نزلت في رءوس يهود المدينة كعب بن الأشرف ومالك بن الضّيف ووهب بن يهودا وأبي ياسر، وفي نصارى نجران السّيّد والعاقب وأصحابهما، خاصموا المسلمين في الدّين، فقالت اليهود: نبيّنا موسى أفضل الأنبياء؛ وكتابنا التّوراة أفضل الكتب؛ وديننا أفضل الأديان؛ وكفرت بعيسى والإنجيل ومحمّد والقرآن. وقالت النّصارى: نبيّنا عيسى أفضل الأنبياء؛ وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب؛ وديننا أفضل الأديان؛ وكفرت بمحمّد والقرآن. وقال كلّ واحد من الفريقين للمسلمين: كونوا على ديننا؛ فلا دين إلاّ ذلك؛ دعوهم إلى دينهم)
(1)
.فقال الله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً؛}
(2)
أي مسلما مخلصا مائلا عن كلّ دين سوى الإسلام، {وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (135)؛يعني إبراهيم عليه السلام.
والحنف: مثل أصابع القدمين. سمي إبراهيم حنيفا؛ لأنه حنف عمّا كان يعبد آباؤه؛ أي عدل. وقيل: الحنف: الاستقامة، وإنّما سمي الرجل الأعرج أحنفا تأوّلا
(3)
؛كما يقال للأعمى بصيرا.
والفائدة في ذكر ملّة إبراهيم (كونه) لا شكّ أنه حقّ عندنا وعند اليهود والنصارى، ولم يختلف الناس في أن ملّته الإسلام والتوحيد. قال ابن عباس:
(الحنيف: هو المائل عن الأديان كلّها إلاّ دين الإسلام).وقال مقاتل: (الحنيف:
(1)
ذكره مختصرا ابن هشام في السيرة: ما نزل من البقرة في المنافقين ويهود: ج 2 ص 198.
(2)
في المخطوط: أدرج (مسلما) إلى النص القرآني.
(3)
في المخطوط: (تعاولا) وهو تصحيف.
المخلص).وانتصب حنيفا على القطع عند الكوفيّين؛ لأن تقديره: بل ملّة إبراهيم الحنيف، فلما سقطت الألف واللام لم يتبع النكرة المعرفة فانقطع منه، فنصب. وقال البصريّون: انتصب على الحال.
قوله تعالى: {قُولُوا آمَنّا بِاللهِ؛} الآية، وذلك أنه جاء أحبار اليهود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا له: بمن نؤمن من الأنبياء؟ فأنزل الله: {قُولُوا آمَنّا بِاللهِ} {وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا؛} يعني القرآن، {وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ؛} وهي عشرة صحف، {وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ؛} يعني أولاد يعقوب واحدهم سبط، سموا بذلك لأنه ولد لكلّ واحد منهم جماعة من الناس، وسبط الرّجل: حافده، ومنه قيل للحسن والحسين: سبطين لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب؛ والشعوب من العجم، فكان في الأسباط أنبياء، فلذلك قال الله تعالى {(وَما أُنْزِلَ)} إليهم؛ وقيل: هم بنو يعقوب من صلبه صاروا كلّهم أنبياء.
وقوله تعالى: {وَما أُوتِيَ مُوسى؛} يعني التوراة، {وَعِيسى؛} يعني الإنجيل، {وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (136)؛أي لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى، بل نؤمن بجميع أنبياء الله وكتبه؛ فلما نزلت هذه الآية قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود والنصارى وقال:[إنّ الله أمرني بهذا] فلما سمعت اليهود بذكر عيسى أنكروا وكفروا وقالوا: لا نؤمن بعيسى. قالت النصارى: إنّ عيسى ليس بمنزلة الأنبياء ولكنه ابن الله، فأنزل الله تعالى قوله تعالى:{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ؛} أي فإن آمنوا بجميع ما آمنتم به كإيمانكم. قيل: معناه: فإن آمنوا بما آمنتم به.
و (مثل) هنا صلة، وهكذا كانوا يقرءونها. كان يقرؤها ابن عباس ويقول: اقرءوا
{(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ)} فليس لله مثل. وقيل: بمعنى (على).وقيل: الباء زائدة. ومعنى الآية: إن آمنوا بالله ورسله وكتبه فقد اهتدوا.
وقوله تعالى: {(وَإِنْ تَوَلَّوْا)} أي وإن أعرضوا عن الإيمان بالقرآن ومحمّد صلى الله عليه وسلم {(فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ)} أي خلاف وعداوة، يقال: فلان وفلان تشاقّا؛ أي أخذ كلّ
واحد منهم بشقّ غير شقّ صاحبه. دليله قوله تعالى حاكيا عن شعيب: {وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي}
(1)
أي خلافي. وقيل: مأخوذ مما أخذ كلّ واحد فيما يشقّ على صاحبه. وقال مقاتل: (معناه: فإنّما هم في ضلال).وقال الكسائيّ: (معناه: فإنّما هم في خلع الطّاعة).وقال الحسن: (معناه: فإنّما هم في بعاد وفراق إلى يوم القيامة).
وقيل: لمّا انتهى النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى: {وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى} قالت النصارى: لن نؤمن بموسى
(2)
ولا نؤمن بك، فأنزل الله تعالى:{قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنّا إِلاّ أَنْ آمَنّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ}
(3)
.
وإنّما أضاف الله الإنزال إلى إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وإنّما كان الإنزال على آبائهم؛ لأنّهم كانوا جميعا يعلمون ذلك، فأضاف الإنزال إليهم كما قال:
{(قُولُوا آمَنّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا)} أي إلى نبيّنا.
قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ؛} يعني اليهود والنصارى؛ أي فسيكفيكهم الله يا محمّد وسائر المسلمين شرّ اليهود والنصارى، {وَهُوَ السَّمِيعُ،} لأقوالهم، {الْعَلِيمُ} (137)،بأحوالهم، فكفاه الله أمرهم بالقتل والسّبي في بني قريظة؛ والجلاء والنّفي في بني النّضير؛ والجزية والذّلة في نصارى نجران.
قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللهِ؛} أي دين الله وفطرته؛ لأن دين الإسلام يؤثر في المتديّن من الطهور والصلاة والوقار وسائر شعائر الإسلام كالصّبغ الذي يكون في الثوب. ولا شيء في الأديان أحسن من دين الإسلام، قال الله تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً؛} وقيل: أراد بالصبغة الختان. وروي أنّ صنفا من
(1)
هود 89/.
(2)
في أصل المخطوط: (لن نؤمن بموسى وعيسى، ولا نؤمن بك).وعلى ما يبدو أنه تصحيف لأنه لا ينسجم ومعتقدهم، فأثبتناه على النسق الصحيح.
(3)
المائدة 59/.
النّصارى كانوا إذا ولد لهم ولد وأتى عليه سبعة أيّام صبغوه؛ أي غمسوه في ماء لهم يقال له: المعمودي ليطهّروه بذلك، وقالوا: هذا طهوره ومكان الختان
(1)
.فقيل لهم: {(صِبْغَةَ اللهِ)} أي التطهر الذي أمر الله به أبلغ في النظافة.
وأول من اختتن إبراهيم عليه السلام بالقدّوم؛ وهي موضع ممرّه بالشام؛ وكان يومئذ ابن مائة وعشرين سنة، ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة.
ونصب {(صِبْغَةَ اللهِ)} على الإغراء؛ أي الزموا صبغة الله، أو اتّبعوا. وقال الأخفش:
(هو بدل من قوله تعالى: {بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ}. وقال ابن كيسان: {صِبْغَةَ اللهِ} أي وجهة الله؛ بمعنى القبلة).وقال الزجّاج: (معناه: خلقة الله، من صبغت الثّوب إذا غيّرت لونه وخلقته، فيكون المعنى أنّ الله تعالى ابتدأ الخلقة على الإسلام)
(2)
دليله قول مقاتل في هذه الآية: {فِطْرَتَ اللهِ}
(3)
أي دين الله. ويوضّحه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كلّ مولود يولد على الفطرة، إلاّ أنّ أبواه يهوّدانه ويمجّسانه وينصّرانه، كما تنتجون البهيمة، فهل تجدون من جدعاء حتّى تكونوا أنتم تجدعونها؟] قالوا: يا رسول الله أرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: [الله أعلم بما كانوا عاملين]
(4)
.
وقال أبو عبيدة: (معناه: سنّة الله).قوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ} (138)؛ أي مطيعون.
وقوله تعالى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنا،} وذلك أنّ اليهود كانوا يقولون: نحن أهل الكتاب الأوّل والعلم القديم. وكانوا يقولون هم والنصارى: نحن أبناء الله وأحبّاؤه.
فأمر الله تعالى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بهذه الآية أن {(قُلْ)} لهم يا محمّد: {(أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ)؛} أي أتجادلوننا وتخاصموننا. وقرأ الأعمش والحسن: «(أتحاجّونّا)» بنون واحدة مشدّدة. وقوله تعالى: {(فِي اللهِ)} أي في دين الله. وذلك أنّهم قالوا: إنّ الأنبياء كانوا منّا وعلى ديننا ولم يكونوا من العرب؛ فلو كنت نبيّا لكنت منّا على ديننا.
(1)
جامع البيان: ج 1 ص 292.
(2)
قاله في معاني القرآن وإعرابه: ج 1 ص 189.
(3)
الروم 30/.
(4)
رواه البخاري في الصحيح: كتاب القدر: الحديث (6599 و 6600).ومسلم في الصحيح: كتاب القدر: باب معنى كل مولود: الحديث (2658/ 24).
قوله تعالى: {وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ؛} أي لنا ديننا ولكم دينكم. وهذه الآية منسوخة بآية السّيف. وقوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} (139)؛أي موحّدون. قال عبد الواحد بن زيد: سألت الحسن عن الإخلاص ما هو؟ قال: سألت حذيفة عن الإخلاص ما هو؟ قال: سألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الإخلاص ما هو؟ قال: [سألت جبريل عن الإخلاص ما هو؟ قال: سألت ربّ العزّة عن الإخلاص ما هو؟ فقال: سرّ من سرّي أودعته قلب من أحببت من عبادي]
(1)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [ما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتّى لا يحبّ أن يحمد على شيء من علم الله تعالى].
وقال سعيد بن جبير: (الإخلاص أن يخلص العبد دينه وعمله لله ولا يشرك به في دينه ولا يرائي بعمله أحدا).وقال الفضيل: (ترك العمل من أجل النّاس رياء، والعمل من أجل النّاس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما).وقال يحيى بن معاذ: (الإخلاص تمييز العمل من العيوب كتمييز اللّبن من الفرث والدّم).وقال بعضهم: هو ما لا يكتبه الملكان؛ ولا يفسده الشيطان؛ ولا يظلم عليه الإنسان.
وقيل: هو أن لا تشوبه الآفات؛ ولا تتبعه رخص التأويلات. وقيل: هو أن تستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن. وقيل: هو أن يكتم حسناته كما يكتم سيّئاته. قال أبو سليمان: (للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده؛ وينشط إذا كان في النّاس؛ ويزيد في العمل إذا أثني عليه).
قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ،} قرأ ابن عامر وحمزة والكسائيّ وخلف وحفص بالتاء للمخاطبة التي قبلها «(قل أتحاجّوننا)» والتي بعدها: {(قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ)} .وقرأ
(1)
في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين: ج 6 ص 2403: الحديث (/3832 ب)؛قال العراقي: «رويناه في جزء من مسلسلات القزويني مسلسلا، يقول كل واحد من رواته: سألت فلانا عن الإخلاص، وهو من رواية أحمد بن عطاء الجهيمي عن عبد الله بن زبد عن الحسين عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن الله تعالى. وأحمد وعبد الواحد كلاهما متروك، وهما من الزهاد. ورواه أبو القاسم القشيري في الرسالة من حديث علي رضي الله عنه بسند ضعيف» .
الباقون بالياء إخبارا عن اليهود والنصارى أنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى. ومعنى الآية: أتحاجّوننا بقولكم كونوا هودا أو نصارى تهتدوا، وقولكم: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، أم بقولكم:
إنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى، مع علمكم بخلاف ذلك. وهذا استفهام بمعنى التوبيخ، فإنّهم كانوا يزعمون أنّ الدين الصحيح هو اليهودية والنصرانية؛ وأنّ هؤلاء الأنبياء تمسّكوا بها.
يقول الله تعالى: {(قُلْ)} لهم يا محمد: {(أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ)} فإنّ الله قد أخبر أنّهم كانوا مسلمين، وأنّهم لم يكونوا يهودا ولا نصارى، فقالوا: ما هو كما قلت، وإنا على دين إبراهيم، وما أنت برسول الله؛ ولا على دينه. فأنزل الله تعالى قوله تعالى:{(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ)} يعني علماء اليهود والنصارى؛ لأنّهم علموا أنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا حنفاء مسلمين؛ وأنّ رسالة نبيّنا حقّ بيّنه الله في التوراة والإنجيل، فكتموه حسدا وطلبا للرئاسة.
قوله تعالى: {وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ} (140)؛يعني من كتمان نعت محمّد صلى الله عليه وسلم وصفته؛ يجازيكم عليه في الآخرة.
قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ} (141)؛قد تقدّم تفسيرها. فائدة التكرار: أنّ القرآن أنزل على لغة العرب، ومن عادتهم ذكر الجواب الواحد في أوقات مختلفة لأغراض مختلفة؛ يعدّون ذلك فصاحة. وإنّما يعاب تكرار الكلام في مجلس واحد لغرض واحد.
قوله تعالى: {*سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ؛} أي الجهّال: {ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ؛} أي ما صرفهم وحوّلهم عن قبلتهم؛ {الَّتِي كانُوا عَلَيْها؛} يعني بيت المقدس. نزلت في اليهود ومشركي مكّة ومنافقي المدينة؛ طعنوا في تحويل القبلة، وقال مشركو مكة: قد تردّد على محمد أمره، واشتاق إلى مولده ومولد آبائه؛ وقد توجّه نحو قبلتهم؛ وهو راجع إلى دينكم عاجلا. فقال الله تعالى:{قُلْ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} (142)؛أي لله المشرق والمغرب ملكا وخلقا؛ والخلق عبيد يحوّلهم كيف يشاء.
وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي بمكة إلى الكعبة، وكان يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة أمر بأن يصلّي إلى بيت المقدس لئلاّ يكذّبه اليهود؛ لأن نعته في التوراة أن يكون صاحب قبلتين؛ يصلّي إلى بيت المقدس نحو مدة سبعة عشر شهرا أو ثمانية عشر شهرا، ثم يأمره الله تعالى بالتحويل إلى الكعبة ليمتحن أهل الإسلام، فيظهر من تبع الرسول من غيرهم من منافقي اليهود.
فلمّا حوّلت القبلة إلى الكعبة بعد إقامة الحجّة على الكفار، علم أنّهم يقولون في نسخ القبلة أشياء يؤذون بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبر الله تعالى نبيّه بما سيقولون في المستأنف؛ ليعجّل السّكن ويعرف أنّ ذلك من باب الوحي والغيب كما كان أخبر الله تعالى.
ومعناه: سيقول السفهاء وهم اليهود وكفّار مكة: ما الّذي صرف أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم عن قبلتهم بيت المقدس، قل يا محمّد: لله المشرق والمغرب {(يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)} إلى طريق قويم؛ وهو الإسلام وقبلة الكعبة.
وقوله تعالى: {(لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)} أي من كان مالك المشرق والمغرب لا يعترض عليه في جميع ما يأمر، ويجوز أن يكون معناه: أنّ الله خالق الأماكن كلّها، فليس بعض ما خلق أولى أن يجعل قبلة في العقل من بعض، فوجب الانتهاء إلى أمر الله باستقبال ما شاء الله.
قوله تعالى: {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً؛} أي عدلا؛ وقيل: خيارا، يقال في صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم:[هو أوسط قريش حسبا] ويقال: فلان وسيط في حسبه؛ أي كامل منته في الكمال؛ ولأن المتوسّط في الأمور لا يفرّط فيغلو ولا يقصّر فيتّضع، فهذه الأمة لم تغلو في الأنبياء كغلوّ النصارى حيث قالوا: المسيح ابن الله! ولم يقصّروا كتقصير اليهود حيث كذّبوا الأنبياء وقتلوهم. وأصله أن خير الأشياء أوسطها.
قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ؛} أي شهداء للنبيين صلوات الله عليهم بالتبليغ. وقد يقام مقام اللام في مثل قوله: {وَما ذُبِحَ عَلَى}
{النُّصُبِ}
(1)
أي للنّصب؛ وقوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً؛} أي ويكون محمّد صلى الله عليه وسلم عليكم شهيدا معدّلا مزكّيا لكم، وذلك أن الله تعالى يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، ثم يقول لكفار الأمم:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ}
(2)
،فينكرون ويقولون: ما جاءنا من نذير، فيسأل الأنبياء عن ذلك فيقولون: قد بلّغناهم. فيسألهم البينة إقامة للحجة عليهم؛ وهو أعلم بذلك، فيؤتى بأمة محمّد صلى الله عليه وسلم فيشهدون لهم بالتبليغ، فتقول الأمم الماضية: من أين علموا ذلك وبيننا وبينهم مدة مديدة؟ فيقولوا:
علمنا ذلك بإخبار الله تعالى إيّانا في كتابه الناطق على لسان رسول الله، فيؤتى بالنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فيزكّي أمّته ويشهد بصدقهم.
قوله تعالى: {وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ؛} أي ما أمرتك يا محمّد بالتوجه إلى بيت المقدس ثم بالتحويل منها إلى الكعبة إلا ليتميز من يتبع الرسول ممن يرجع إلى دينه الأول. وقيل: ومعناه: {(وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي)} أنت (عليها) وهي الكعبة لقوله تعالى:
(3)
أي أنتم؛ إلا لنرى ونميّز من يتبع الرسول في القبلة ممن ينقلب على عقبيه فيرتدّ ويرجع إلى قبلته الأولى. قوله: {(لِنَعْلَمَ)} أي ليتقرّر علمنا عندكم.
وقيل: معناه: ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم؛ فأضاف علمه إلى نفسه تفصيلا وتخصيصا كقوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ}
(4)
.
قوله تعالى: {وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً؛} أي وإن كان اتباع بيت المقدس ثم الانتقال إلى الكعبة لشديد؛ {إِلاّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ؛} أي حفظ الله قلوبهم على الإسلام. قوله تعالى: {وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ؛} أي تصديقكم بالقبلتين. وقيل: معناه: وما كان الله ليفسد صلاتكم إلى بيت المقدس؛ وذلك أنّ حييّ ابن أخطب وأصحابه من اليهود قالوا للمسلمين: أخبرونا عن صلاتكم إلى بيت المقدس أكانت هدى أم ضلالة؟ فإن كانت هدى فقد تحولتم عنها! وإن كانت
(1)
المائدة 3/.
(2)
الملك 8/.
(3)
آل عمران 110/.
(4)
الأحزاب 57/.
ضلالة فقد ذنّبتم الله بها. ومن مات منكم عليها فقد مات على الضّلالة؛ وكان قد مات قبل التّحويل إلى الكعبة سعد بن زرارة من بني النّجّار؛ والبراء بن معرور من بني سلمة ورجال آخرون. فانطلقت عشائرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك، وقالوا: إنّ الله تعالى قد حوّلك إلى قبلة إبراهيم؛ فكيف بإخواننا الّذين ماتوا وهم يصلّون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: {(وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ)} أي صلاتكم إلى بيت المقدس.
قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} (143)،الرّءوف:
شديد الرحمة؛ وهو الذي لا يضيّع عنده عمل عامل. رحيم بهم حين قبل طاعتهم وتعبدهم في كل وقت بما يصلح لهم. والجمع بين الرحمة والرأفة في الآية للتأكيد كما في قوله: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} .
وفي «(رءوف)» ثلاث قراءات: مهموز مثقّل؛ وهي قراءة شيبة ونافع وابن كثير وابن عامر وحفص، واختاره أبو حاتم. قال الشاعر
(1)
:
سنطيع رسولنا ونطيع ربّاه
…
هو الرّحمن كان بنا رءوفا
و «(رووف)» مثقل غير مهموز؛ وهي قراءة أبي جعفر. و «(رؤف)» مهموز مخفف؛ وهي قراءة الباقين، واختاره أبو عبيد. قال جرير
(2)
:
بتّ ترى للمسلمين عليك حقّا
…
كفعل الوالد الرّءوف الرّحيم
والرأفة: أشدّ الرحمة.
قوله عز وجل: {قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ؛} وذلك أنّ النّبيّ
(1)
هو كعب بن مالك الأنصاري، في ديوانه: ص 236.ولسان العرب: (رأف).وبلا نسبة في معجم مقاييس اللغة لابن فارس: ج 2 ص 471.وفي لسان العرب بلفظ:
نطيع نبيّنا ونطيع ربّا هو الرّحمن كان بنا رءوفا
(2)
البيت لجرير في ديوانه: ص 219 من قصيدة: صراط أمير المؤمنين، يمدح هشام بن عبد الملك، وهو من شواهد اللغة. وفي لسان العرب:(رأف)،ومعجم مقاييس اللغة: ج 2 ص 472 بلفظ:
ترى للمسلمين عليك حقّا كفعل الوالد الرّءوف الرّحيم
صلّى الله عليه وسلّم قال لجبريل عليه السلام: [وددت أنّ الله تعالى صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها؟] فقال جبريل: إنّما أنا عبد مثلك لا أملك شيئا؛ فاسأل ربّك أن يحوّلك عنها، فارتفع جبريل وجعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم يديم النّظر إلى السّماء رجاء أن يأتيه جبريل بما سأل؛ فأنزل الله هذه الآية
(1)
:قد نرى تقلّب وجهك في السّماء، {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} .
وروي: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلّون بمكّة إلى الكعبة، فلمّا هاجروا إلى المدينة أمره الله أن يصلّي إلى بيت المقدس؛ ليكون أقرب إلى تصديق اليهود له إذا صلّى إلى قبلتهم مع ما يجدون من صفته في التّوراة. فروي أنّه صلى الله عليه وسلم صلّى هو وأصحابه نحو بيت المقدس سبعة عشر شهرا؛ وكانت الكعبة أحبّ القبلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
واختلفوا في السبب الذي كان لأجله يكره قبلة بيت المقدس وهوي الكعبة.
فقال ابن عباس: (لأنّها قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام.وقال مجاهد: (من أجل أنّ اليهود قالوا: يخالفنا محمّد في ديننا ويتّبع قبلتنا).
وقال مقاتل: (لمّا أمر الله النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي إلى بيت المقدس، قالت اليهود:
يزعم محمّد أنّه نبيّ؛ وما نراه أحدث في نبوّته شيئا! أليس يصلّي إلى قبلتنا، ويستنّ بسنّتنا! فإن كانت هذه نبوّة فنحن أقدم وأوفر نصيبا. فشقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وازداد شوقا إلى الكعبة وقال:[وددت أنّ الله تعالى صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، فإنّي أبغضهم وأبغض موافقتهم] فقال جبريل عليه السلام: إنّما أنا عبد مثلك، ليس لي من الأمر شيء، فاسأل ربّك. ثمّ عرج جبريل عليه السلام؛ فجعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم يديم النّظر
(1)
في الدر المنثور: ج 1 ص 343؛ قال السيوطي: «وأخرج أبو داود في ناسخه عن أبي العالية:
…
وذكره».
(2)
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1849).وفي الدر المنثور: ج 1 ص 343؛ قال السيوطي: «وأخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه والبيهقي، عن ابن عباس
…
وذكر شطرا منه. وأخرجه ابن أبي شيبة وأبو داود في ناسخه والنحاس والبيهقي في سننه».
إلى السّماء رجاء أن ينزل جبريل بما يحبّ من أمر القبلة، فأنزل الله تعالى:{(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها)} أي فلنلحقك إلى قبلة تحبّها وتهواها، {(فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)} أي نحوه وقصده. وهو نصب على الظرف. وقيل: شطر الشيء نصفه، فكأن الله أمره أن يحوّل وجهه إلى نصف المسجد الحرام؛ والكعبة في النصف منه من كلّ جهة.
قوله تعالى: {وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ؛} أي أينما كنتم من برّ أو بحر أو جبل أو سهل أو شرق أو غرب فولوا وجوهكم نحوه. فحولت القبلة في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين.
وقال مجاهد: (نزلت الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد بني سلمة وقد صلّى بأصحابه ركعتين من الظّهر، فتحوّل في الصّلاة فاستقبل الميزاب فسمّي ذلك المسجد مسجد القبلتين. فلمّا حوّلت القبلة إلى الكعبة؛ قالت اليهود: يا محمّد ما أمرت بهذا وما هو إلاّ شيء تبتدعه من نفسك، فتارة تصلّي إلى بيت المقدس، وتارة تصلّي إلى الكعبة، فلو ثبت على قبلتنا لكنّا نرجو أن تكون صاحبنا الّذي كنّا ننتظره، فأنزل الله تعالى قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ،} يعني أمر الكعبة وأنّها قبلة إبراهيم، أي وأنّ اليهود والنصارى ليعلمون أنّ استقبال الكعبة حقّ من ربهم؛ لأنّ نعت النبيّ صلى الله عليه وسلم في التوراة أن يكون صاحب القبلتين، ثم هدّدهم فقال عز وجل: {وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ} (144)؛أي لا يخفى عليه جحودهم.
قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ؛} يعني يهود المدينة ونصارى نجران، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ائتنا بآية كما أتى الأنبياء قبلك، فأنزل الله هذه الآية. وقوله {(ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ)} يعني الكعبة، وقوله:
{وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ؛} أي وما أنت بمصلّ إلى قبلتهم بعد التحويل؛ {وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ؛} لأن اليهود تستقبل بيت المقدس والنصارى تستقبل المشرق.
قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ؛} أي إن صليت إلى قبلتهم واتبعت ملّتهم، {مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ؛} إنّها حقّ وإنّها قبلة إبراهيم، {إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ} (145)؛أي الجاحدين الضارين لأنفسهم، وهذا وعيد على معصية علم الله أنّها لا تقع منه كقوله:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}
(1)
وقد علم الله أنه لا يشرك.
قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ؛} يعني مؤمني أهل الكتاب:
عبد الله بن سلام وأصحابه، {يَعْرِفُونَهُ؛} أي يعرفون محمّدا صلى الله عليه وسلم، {كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ،} من بين الصّبيان. روي عن ابن عباس أنه قال: [لمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال عمر رضي الله عنه لعبد الله بن سلام: قد أنزل الله على نبيّه عليه السلام {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ} كيف يا عبد الله هذه المعرفة؟ قال: يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني إذا رأيته مع الصّبيان يلعب، وأنا أشدّ معرفة بمحمّد صلى الله عليه وسلم منّي لابني، فقال عمر: وكيف ذلك؟ قال: أشهد أنّه رسول الله حقّ من الله تعالى وقد نعته الله في كتابنا. فقال له عمر: وفّقك الله يا ابن سلام، فقد صدقت وأصبت]
(2)
.
قوله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ؛} مثل كعب بن الأشرف وأصحابه (يكتمون الحقّ) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وأمر الكعبة، {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (146)؛ أن ذلك حقّ. روي عن عبد الله بن سلام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية: (كنت يا رسول الله أشدّ معرفة لك منّي بابني. قال له: [وكيف ذلك؟] قال:
لأنّي أشهد أنّ محمّدا رسول الله صلى الله عليه وسلم حقّا يقينا؛ ولا أشهد بذلك لابني؛ لأنّي لا أدري ما أحدثت النّساء. فقال له عمر: وفّقك الله يا عبد الله)
(3)
.
(1)
الزمر 65/.
(2)
في الدر المنثور: ج 1 ص 357؛ قال السيوطي: «وأخرجه الثعلبي من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن ابن عباس» .
(3)
في الدر المنثور: ج 1 ص 356؛ قال السيوطي: «وأخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج
…
وذكر شطرا منه».
قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ؛} أي هذا القرآن حقّ. وقيل: جاءك بالحقّ من ربك يا محمد أنّ الكعبة قبلة إبراهيم تعلمها اليهود. وقرأ عليّ رضي الله عنه: «(الحقّ)» نصبا على الإغراء. قوله تعالى: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (147)؛أي لا تكوننّ من الشاكّين في أمر القرآن والقبلة. والخطاب في هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ والمراد به غيره، وكذلك كل ما ورد عليك من هذا فهذا سبيله.
قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها؛} أي لكل ملّة من اليهود والنصارى قبلة هو موليها، أي مستقبلها؛ ومقبل إليها. يقال: ولّيته ووليت إليه إذا أقبلت إليه، ووليت عنه إذا أدبرت عنه. وقيل: معناه: الله مولّيها؛ أي يولي أهل كل ملة القبلة التي يريدونها. وقرأ ابن عباس وابن عامر وأبو رجاء: «(ولكلّ وجهة هو مولّيها)» أي مصروف إليها. وفي حرف أبي: «(ولكلّ قبلة هو مولّيها)» .وفي حرف عبد الله: «(ولكلّ جعلنا قبلة هو مولّيها)» .
قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ؛} أي فبادروا بالطاعات أيها المسلمون فقد ظهر لكم الحق، واستبقوا إلى أوامر الله وطاعته مبادرة من يطلب الاستباق إليها، تقديره: فاستبقوا إلى الخيرات، فحذف الخافض كقول الشاعر
(1)
:
ثنائي عليكم يا آل حرب ومن يمل
…
سواكم فإنّي مهتد غير مائل
يعني: ومن يمل إلى سواكم.
قوله تعالى: {أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً؛} أي أينما تكونوا أنتم وأهل الكتاب يقبض الله أرواحكم ويجمعكم للحساب فيجزيكم بأعمالكم، وإن كانت قد تفرقت بكم البقاع والملل. وقيل: هذا خطاب للمؤمنين الذين قد سبق في علم الله أنّهم يصلّون إلى الكعبة. ومعناه: أينما تكونوا في شرق الأرض وغربها، في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات يجمعكم الله تعالى إلى هذه القبلة. قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (148)؛أي من الخلق والبعث والحساب وغير ذلك.
(1)
البيت للراعي النميري، عبيد بن حصين (؟ -90 هـ).
قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ؛} هذا تأكيد لأمر التحويل إلى الكعبة؛ وبيان أنه لا يتغير فينسخ كما تغير بيت المقدس.
و {(حَيْثُ)} مبني على الضمّ مثل (قط).وقيل: رفع على الغاية مثل (قبل، وبعد).وقرأ عبيد بن عمير: «(ومن حيث)» بالنصب؛ قال: لأنّها ساكنة في الأصل، وإذا اجتمع ساكنان حرّك الثاني بالفتح، لأنه أخف الحركات مثل (ليت، وكيف).
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ؛} أي الأمر بالتوجه إلى الكعبة لصدق {(مِنْ رَبِّكَ)} . {وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ} (149).
قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ؛} بيان أن حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم وأمته في التوجه إلى الكعبة في السفر والحضر سواء؛ لأنه كان يجوز أن يظنّ ظانّ الفرق بين المسافر والمقيم كالنفل على الراحلة، فبيّن الله تعالى أن المسافر كالمقيم في التوجه.
قوله تعالى: {لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ؛} أي لئلا يكون لليهود عليكم حجّة، ولأنّ المسلمين لو لم يصلوا إلى الكعبة لكان ذلك مخالفة للبشارة السابقة؛ فيكون ذلك حجّة لهم بأن يقولوا: ليس هو النبي المبشّر.
قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ؛} أي لا يحاجكم أحد إلا من ظلم فيما وضح له؛ واحتج بغير الحق. وأراد بالذين ظلموا قريشا واليهود. وكانت حجة قريش الباطلة أن قالوا: إنّما رجع إلى الكعبة لأنه علم أنّها قبلة آبائه وهو الحق وكذا يرجع إلى ديننا ويعلم أنه حقّ. وأما اليهود فإنّهم يقولون: إن كانت قبلتنا ضلالة فقد صليت إليها سبعة عشر شهرا، وإن كانت هدى فقد انصرفت عنها. وقيل: لأن اليهود يقولون: إن محمدا لم ينصرف عن بيت المقدس مع علمه بأنه حقّ إلا أنه إنما يفعل برأيه ويزعم أنه أمر به. وقيل: إن من حجة مشركي مكة أنّهم قالوا لمّا صرفت القبلة إلى الكعبة: إنّ محمّدا قد تحيّر في دينه وتوجّه إلى قبلتنا وعلم أنّا أهدى سبيلا منه وإنه لا يستغني عنا ولا شكّ أنه يرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا. فأجابهم الله تعالى بهذه الآية {(لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ)} نفى أن لا
يكون لأحد حجة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. بسبب
(1)
تحويلهم إلى الكعبة. إلا الذين ظلموا من قريش فإن لهم قبلهم حجة لما ذكرنا.
والحجة: الخصومة والجدال والدعوة الباطلة كقوله تعالى: {لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ}
(2)
أي لا خصومة. وقوله تعالى: {أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ}
(3)
و {لِيُحَاجُّوكُمْ}
(4)
وحاججتهم؛ كلها بمعنى المخاصمة والمجادلة لا بمعنى الدليل والبرهان. وموضع {(الَّذِينَ)} (الّذين) نصب بنزع الخافض، تقديره: إلاّ الّذين ظلموا. وقال الفرّاء: موضعه نصب بالاستثناء. وإنما قال: {(مِنْهُمْ)} ردّا إلى لفظ الناس؛ لأنه عامّ وإن كان كل واحد منهم غير الآخر. وقال بعضهم: هذا الاستثناء منقطع من الكلام الأول، ومعناه: لئلا يكون كلهم عليكم حجة؛ اللهم إلا الذين ظلموا فإنّهم يحاجونكم بالباطل ويجادلونكم بالظلم، وهذا كما يقدر في الكلام للرجل: الناس كلّهم لك حامدون إلا الظالم لك. وقولهم للرجل: ما لك عندي حقّ إلا أن يظلم.
وما لك حجّة إلا الباطل.
وقال أبو روق: (معنى الآية: {(لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ)} يعني اليهود عليكم حجة).
وذلك أنّهم قد عرفوا أن الكعبة قبلة إبراهيم عليه السلام وقد كانوا وجدوا في التوراة أن محمّدا صلى الله عليه وسلم يحوّله الله إليها لئلا يكون لهم حجة فيحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم الذي نجده سيحوّل إليها، ولم تحول أنت. فلما حوّل النبي صلى الله عليه وسلم ذهبت حجتهم. ثم قال:{(إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ)} يعني إلا الذين يظلموكم فيكتموا ما عرفوا من ذلك. وكان أبو عبيدة يقول: (إلاّ) هنا بمعنى (ولا) كأنه قال: لئلا يكون للناس عليكم حجة ولا الذين ظلموا، والذين ظلموا لا يكونوا حجة لهم. قال الشاعر:
وكلّ أخ مفارقه أخوه
…
لعمر أبيك إلاّ الفرقدان
(1)
في أصل المخطوط (ليست) وعلى ما يبدو أنه تصحيف لأنه لا ينسجم مع السياق فأثبتناه على النسق الصحيح.
(2)
الشورى 15/.
(3)
البقرة 139/.
(4)
البقرة 76/.
يعني: والفرقدان أيضا يفترقان. وقال آخر
(1)
:
ما بالمدينة دار غير واحدة
…
دار الخليفة إلاّ دار مروانا
يعني: ولا دار من دار وإنما حسن ذلك بعد قوله غير واحدة.
قوله عز وجل: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي؛} أي لا تخشوا الكفار في انصرافكم إلى الكعبة؛ وفي تظاهرهم عليكم في المحاجة والمحاربة فإني وليكم أظهركم عليهم بالحجة والنصر، واخشوني في تركها ومخالفتها. قوله تعالى:{وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (150)؛عطف على قوله: {(لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ)} أي ولكي أتم نعمتي عليكم بهدايتي إياكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام فيتم لكم الملّة الحنيفية
(2)
،وقال علي كرّم الله وجهه:(تمام النّعمة الموت على الإسلام).وروي عنه أنه قال: (النّعم ستّ: الإسلام، والقرآن، ومحمّد صلى الله عليه وسلم، والسّنن، والعافية، والغنى عمّا في أيدي النّاس).قوله تعالى: {(وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)} أي لكي تهتدوا من الضلالة.
قوله تعالى: {كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً؛} هذه الكاف للتشبيه وتحتاج إلى شيء يرجع إليه. واختلفوا؛ فقال بعضهم: هو راجع إلى ما قبله؛ تقديره:
{(فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ)} كما أرسلت فيكم رسولا، {مِنْكُمْ،} فيكون إرسال الرسل مؤذنا بإتمام النعمة. والآية خطاب للعرب؛ أي ولأتمّ نعمتي عليكم كما ابتدأت النعمة بإرسال رسول منكم إليكم؛ لأن اختياره من العرب نعمة عظيمة وشرف لهم، واستدعاء إلى الإسلام؛ لأنه لو اختاره من العجم لكانت العرب مع عزمها ونجوتها لا تتبعه.
قوله تعالى: {يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا،} يعني القرآن؛ {وَيُزَكِّيكُمْ؛} أي يصلحكم بأخذ زكاتكم؛ ويأمركم بأشياء تكونوا بها أزكياء؛ {وَيُعَلِّمُكُمُ}
(1)
هو للفرزدق، وأراد مروان بن الحكم. عن شرح الشواهد.
(2)
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [تمام النّعمة دخول الجنّة والنّجاة من النّار]. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 20 ص 48:الرقم (97 و 98) وإسناده حسن؛ قاله الترمذي في الجامع: الحديث (3527).
{الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ؛} القرآن والفقه والمواعظ ومعرفة التأويل والسّنة؛ {وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (151)؛من الأحكام وشرائع الإسلام وأقاصيص الأنبياء وأخبارهم ما لم تكونوا تعلمون قبل إرساله؛ ونعمتي بهذا الرسول محمّد صلى الله عليه وسلم.
قوله عز وجل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ؛} متصل بما قبله؛ أي كما أنعمنا عليكم برسالة رجل؛ أي منكم إليكم فاذكروني. ومعنى الآية: قال ابن عبّاس:
(تذكروني بالطّاعة أذكركم بمعونتي).وقال ابن جبير: (معناه اذكروني بطاعتكم أذكركم بمغفرتي)
(1)
.وقال الفضيل: (اذكروني بطاعتي أذكركم بثوابي).
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [من أطاع الله فقد ذكر الله، وإن قلّ صيامه وصلاته. ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثر صيامه وصلاته وتلاوته القرآن]
(2)
.
وقيل: معناه اذكروني بالتوحيد والإيمان أذكركم بالدرجات والجنان. وقال أبو بكر رضي الله عنه: (كفى بالتّوحيد عبادة، وكفى بالجنّة ثوابا).وقال ابن كيسان: (معناه اذكروني بالشّكر أذكركم بالزّيادة).وقيل: اذكروني على ظاهر الأرض أذكركم في بطنها.
وقال الأصمعي: (رأيت أعرابيا واقفا يوم عرفة بعرفات وهو يقول: إلهي عجّت إليك الأصوات بضروب اللّغات يسألونك الحاجات، وحاجتي إليك أن تذكرني عند البلاء إذا نسيني أهل الدّنيا).وقيل: معناه: اذكروني في الدنيا أذكركم في العقبى. وقيل: اذكروني بالطاعات أذكركم بالمعافاة، دليله قوله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً}
(3)
.
وقيل: معناه اذكروني في الخلاء والملأ أذكركم في الخلاء والملأ. بيانه: ما روي في الخبر: أن الله تعالى قال في بعض الكتب: [أنا عند ظنّ عبدي بي، فليظنّ بي عبدي
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1917) بلفظ: (اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي).
(2)
في الدر المنثور: ج 1 ص 361؛ قال السيوطي: «وأخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان» .
(3)
النحل 97/.
ما شاء؛ فأنا معه إذا ذكرني، فمن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم؛ ومن تقرّب إليّ شبرا تقرّبت منه ذراعا، ومن تقرّب إليّ ذراعا تقرّبت إليه باعا، ومن أتاني مشيا أتيته هرولة، ومن أتاني بقراب الأرض خطيئة أتيته بمثلها مغفرة بعد أن لا يشرك بي شيئا]
(1)
.
وقيل: معناه اذكروني في الرخاء أذكركم في الشدة والبلاء. وقيل: اذكروني بالسلم والتفويض أذكركم بأصلح الاختيار. دليله قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}
(2)
.وقيل: اذكروني بالشوق والمحبة أذكركم بالوصل والقربة. وقيل:
اذكروني بالتوبة أذكركم بغفران الحوبة. وقيل: اذكروني بالدعاء أذكركم بالعطاء.
وقيل: اذكروني بالسؤال أذكركم بالنوال. اذكروني بلا غفلة أذكركم بلا مهلة، اذكروني بالندم أذكركم بالكرم، اذكروني بالمعذرة أذكركم بالمغفرة، اذكروني بالإرادة أذكركم بالإفادة، اذكروني بالإخلاص أذكركم بالخلاص، اذكروني بالقلوب أذكركم بكشف الكروب، اذكروني بلا نسيان أذكركم بالأمان، اذكروني ذكرا فانيا أذكركم ذكرا باقيا، اذكروني بصفاء السرّ أذكركم بخلاص البرّ، اذكروني بالصفو أذكركم بالعفو، اذكروني بالتعظيم أذكركم بالتكريم، اذكروني بالمناجاة أذكركم بالنجاة، اذكروني بترك الجفاء أذكركم بحفظ الوفاء، اذكروني بالجهد في الخدمة أذكركم بإتمام النعمة، اذكروني بالاستغفار أذكركم بالاغتفار، اذكروني بالمناجاة أذكركم بإعطاء الحاجات، اذكروني بالاعتراف أذكركم بمحو الاقتراف، ولذكر الله أكبر.
قال سفيان بن عيينة: إنّ الله عز وجل قال: [لقد أعطيت عبادي ما لو أعطيت جبريل وميكائيل قد أجزلت لهما، قلت: اذكروني أذكركم. قلت لموسى: قل للظّلمة لا يذكروني؛ فإنّي أذكر من ذكرني وإنّ ذكري إيّاهم أن ألعنهم]
(3)
.وقال أبو عثمان
(1)
في الدر المنثور: ج 1 ص 361؛ قال السيوطي: «وأخرجه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة والبيهقي في شعب الإيمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه» .
(2)
الطلاق 3/.
(3)
في الدر المنثور: ج 1 ص 361؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف وأحمد في الزهد والبيهقي في شعب الإيمان، عن ابن عبّاس؛ قال:[أوحى الله إلى داود: قل للظّلمة لا يذكروني، فإنّ حقّا عليّ أذكر من ذكرني، وإنّ ذكري إيّاهم أن ألعنهم].
الهندي: (إنّي لأعلم حين يذكرني ربي)،قيل: كيف ذلك؟ قال: (إنّ الله تعالى قال:
{(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)} فإذا ذكرت الله ذكرني)
(1)
.
قوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} (152)؛أي اشكروا لي نعم الدنيا والدين ولا تكفروا نعمتي وإحساني إليكم.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصّابِرِينَ} (153)؛أي استعينوا على ما أكرمتكم من عبادة وشكر بالصبر على أداء الفرائض واجتناب المحارم؛ وبالمواظبة على الصلوات والاستكثار منها {(إِنَّ اللهَ مَعَ الصّابِرِينَ)} على أداء الفرائض.
قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ؛} نزلت في قتلى بدر من المسلمين وكانوا أربعة عشر رجلا؛ ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين، كان الناس يقولون للرجل يقتل في سبيل الله: مات فلان، وكان الكفار يقولون للشهداء على طريق الطعن: إنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلون أنفسهم في الحرب من غير سبب ثم يموتون فيذهبون، فنهى الله المسلمين أن يقولوا مثل هذا، ونبّه على أن ذلك كذب بقوله:{(بَلْ أَحْياءٌ)} .
واختلفوا في حياتهم؛ والصحيح: أنّهم اليوم أحياء على الحقيقة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنّ أرواح الشّهداء في أجواف طير خضر تسرح في رياض الجنّة وتأكل وتشرب من أنهارها وتأوي اللّيل إلى قناديل من نور معلّقة بالعرش]
(2)
.وقال الحسن: (إنّ الشّهداء أحياء عند ربهم يصل إليهم الرّوح والفرح).وقيل: إنّ مساكن الشهداء سدرة المنتهى.
(1)
رواه ابن أبي شيبة في المصنف: ج 7 ص 210:النص (35367).
(2)
في الدر المنثور: ج 1 ص 376؛ قال السيوطي: «أخرجه مالك وأحمد والترمذي وصححه، والنسائي وابن ماجة عن كعب بن مالك
…
وذكره».والحديث أخرجه الترمذي في الجامع: الرقم (1641)؛وقال: «حديث حسن صحيح» .والنسائي في المجتبى: ج 4 ص 108 بلفظ قريب.
وقال صلى الله عليه وسلم: [يعطى الشّهيد ستّ خصال عند أوّل قطرة من دمه: يكفّر عنه كلّ خطيئة؛ ويرى مقعده من الجنّة؛ ويزوّج من الحور العين؛ ويؤمّن من الفزع الأكبر؛ ومن عذاب القبر؛ ويحلّى حلية الإيمان]
(1)
.قوله تعالى: {وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ} (154)؛أي لا يشعرون أنّهم كذلك.
قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ؛} أي ولنختبرنّكم يا أمة محمّد بشيء من الخوف؛ يعني خوف العدوّ والفزع في القتال؛ وقحط السنين وقلة ذات اليد؛ {وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ؛} أي هلاك المواشي وذهاب الأموال. وقوله تعالى: {وَالْأَنْفُسِ؛} أراد به الموت والقتل والأمراض، وقوله تعالى:
{وَالثَّمَراتِ؛} أي لا يخرج الثمار والزروع كما كانت تخرج من قبل؛ أو تصيبها آفة؛ وأراد بالثمرات الأولاد لأنّهم ثمرة القلب وهم إذا هم شغلوا بالجهاد منعهم ذلك عن عمارة البساتين ومناكحة النساء؛ فيقلّ أولادهم وثمرة بساتينهم.
وقال بعضهم: معناه {(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ)} أي خوف الله تعالى، {(وَالْجُوعِ)} يعني صوم رمضان؛ {(وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ)} أداء الزكاة الصدقات؛ {(وَالْأَنْفُسِ)} الأمراض؛ {(وَالثَّمَراتِ)} موت الأولاد؛ لأن ولد الرجل ثمرة فؤاده؛ يدل عليه قوله عليه السلام:[إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: أقبضتم ثمرة فؤاده، فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجعك، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنّة وسمّوه بيت الحمد]
(2)
.
قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصّابِرِينَ} (155)؛أي على هذه الشدائد والبلايا بالثواب لتطيب أنفسهم.
ثم وصفهم فقال: {الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ}
(1)
عن قيس الجذامي، أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 4 ص 200،وتفرد به. والبخاري في التاريخ الكبير: ج 7 ص 143 - 144:الرقم (642)،وقال:«عن قيس الجذامي، رجل كانت له صحبة» .
(2)
رواه الترمذي في الجامع: أبواب الجنائز: الحديث (1021)؛وقال: حديث حسن غريب. وأحمد في المسند: ج 4 ص 415.وابن حبان في الصحيح: كتاب الجنائز: الحديث (2948).
{قالُوا إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ} (156)؛ {(الَّذِينَ)} نعت للصابرين؛ ومعناه: الذين إذا أصابتهم مصيبة من هذه المصائب؛ {(قالُوا إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ)} عبيد وملك يحكم فينا بما يشاء من الشدة والرخاء، إن عشنا فإليه أرزاقنا، وإن متنا فإليه مردّنا، وإنا إليه راجعون في الآخرة.
قال عكرمة: (طفئ سراج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [إنّا لله وإنّا إليه راجعون] فقيل:
يا رسول الله أمصيبة هي، قال:[نعم، كلّ شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة])
(1)
.
وقال ابن جبير: (ما أعطي أحد في المصيبة ما أعطيت هذه الأمّة-يعني الاسترجاع-ولو أعطيها أحد لأعطيها يعقوب عليه السلام، ألا تسمع إلى قوله تعالى في فقد يوسف:{يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ}
(2)
)
(3)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه، وجعل له خلفا صالحا يرضاه]
(4)
.
قوله تعالى: {أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (157)؛قال ابن عباس: (مغفرة من ربهم ونعمة).قيل: الصلاة هنا الثناء والرحمة والبركة. وجمع الصلوات لأنه عنى بها الرحمة بعد الرحمة. {(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)} إلى الاسترجاع. وقيل: إلى الجنة والثواب. وقيل: إلى الحقّ والصواب.
وقيل: الرحمة التي لا يعلم مقاديرها إلا الله كما قال تعالى في آية أخرى: {إِنَّما يُوَفَّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ}
(5)
.وعن عمر رضي الله عنه: أنّه كان إذا قرأ هذه الآية قال:
(نعم العدلان ونعم العلاوة).ويعني بالعدلين: قوله {(صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ)} وبالعلاوة قوله: {هُمُ الْمُهْتَدُونَ} .وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [يقول الله تعالى: إذا
(1)
في الدر المنثور: ج 1 ص 380؛ عزاه السيوطي إلى عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في العزاء.
(2)
يوسف 84/.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1934).
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1932).وعزاه السيوطي إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان، عن ابن عباس. وفي مجمع الزوائد: ج 2 ص 230 - 231؛ قال الهيثمي: «فيه علي بن أبي طلحة، وهو ضعيف» .
(5)
الزمر 10/.
وجّهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في أهله أو ولده أو بدنه فاستقبل ذلك منه بصبر جميل استحيت منه يوم القيامة أن أنشر له ديوانا أو أنصب له ميزانا]
(1)
.
قوله تعالى: {*إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ؛} أي من أعلام دينه ومتعبداته؛ وأراد بالشعائر هاهنا مناسك الحج. وسبب نزول هذه الآية: أنّ أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنّا نكره الطّواف بين الصّفا والمروة لأنّهما كانا من مشاعر قريش في الجاهليّة فتركناه في الإسلام، فأنزل الله هذه الآية)
(2)
.
وقال ابن عباس: (كان على الصّفا صنم على صورة رجل يقال له: إسافا، وعلى المروة صنم على صورة امرأة يقال لها: نائلة. وإنّما ذكّروا الصّفا لتذكير إساف، وأنّثوا المروة لتأنيث نائلة؛ وزعم أهل الكتاب أنّهما زنيا في الكعبة فمسخهما الله، فوضعهما على الصّفا والمروة ليعتبر بهما، فلمّا طالت المدّة عبدا من دون الله تعالى. وكان أمر الجاهليّة إذا طافوا بين الصّفا والمروة مسحوا الصّنمين.
فلمّا جاء الإسلام كره المسلمون الطّواف بينهما لأجل الصّنمين، وقالت الأنصار:
إنّ السّعي من أمر الجاهليّة، فأنزل الله تعالى هذه الآية {(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ} الله»
(3)
.
قوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما؛} أي فلا إثم في الطواف بينهما لمكان الأصنام عليهما، فإن الطواف بينهما واجب. والجناح هو الإثم؛ وأصله يتطوّف وأدغمت التاء في الطاء. وقرأ أبو حيوة:
«(يطوف بهما)» مخففة.
واختلف العلماء في السعي؛ فقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: هو واجب وينجبر بالدم. وقال مالك والشافعي: هو فرض، ولا ينجبر بالدم كطواف الزيارة.
(1)
في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين: ج 5 ص 2167:الحديث (3419)؛ قال: «رواه الحكيم في النوادر، والديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس» .
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1941 و 1945).ورواه البخاري في الصحيح: كتاب التفسير: الحديث (4496).
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1937) عن الشعبي.
وقال أنس بن مالك وابن الزبير ومجاهد: هو تطوع إن فعله فحسن، وإن تركه لم يلزمه شيء، واحتجّوا بقراءة ابن عباس وابن سيرين:«(فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما)» .
وكذلك هو في مصحف عبد الله؛ وبقوله بعد ذلك: {(وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً)} وهذا دليل على أنه تطوّع.
والجواب عنه: أن (لا) صلة كقوله: {ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ}
(1)
وقوله: {لا أُقْسِمُ}
(2)
.وحجة من أوجبه: أنّ الله سماهما {(مِنْ شَعائِرِ اللهِ)} .وأما قوله: {(وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً)} فمعناه من زاد على الطواف الواجب. وحجة من قال إنه فرض: فتسمية الله له من شعائره. قلنا: هذا لا يدلّ على الفرضية؛ فإن الله سمّى المزدلفة المشعر الحرام؛ ولا خلاف أنّ الدم يقوم مقامه.
وسمّي الصّفا؛ لأنه جلس عليه صفيّ الله آدم عليه السلام. وسميت المروة؛ لأنّها جلست عليها امرأته حوّاء، وأصل السعي: أنّ هاجر أمّ إسماعيل لمّا عطش ابنها إسماعيل وجاع صعدت على الصّفا فقامت عليه تنظر؛ هل ترى من أحد؟ فلم تر أحدا؛ فهبطت من الصّفا حتى جاوزت الوادي ورفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي؛ ثم أتت المروة وقامت عليها؛ هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا، فعلت ذلك سبع مرات.
قوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} ؛ قرأ حمزة والكسائي: «(يطّوّع)» بالياء وتشديد الطاء والجزم. وكذلك الثاني بمعنى يتطوع. وقرأ عبد الله: «(يتطوّع)» وقرأ الباقون: «(تطوّع)» بالتاء ونصب العين. ومعنى الآية: ومن زاد في الطواف الواجب.
وقال ابن زيد: (ومن تطوّع خيرا فاعتمر).وقيل: من تطوع بالحج والعمرة بعد حجته الواجب. وقال الحسن: (فعل غير المفروض عليه من زكاة وصلاة ونوع من أنواع الطّاعات كلّها)؛ {فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ} (158)؛أي مجاز له بعمله عليم
(3)
بنيّته يشكر اليسير ويعطي الكثير ويغفر الكبير.
(1)
الأعراف 12/.
(2)
القيامة 1/.
(3)
في المخطوط: عليهم، بدل عليم.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى؛} هم علماء اليهود الذين كتموا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم وصفته في التوراة، وكتموا أمر القبلة والأحكام والحلال والحرام؛ {مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتابِ؛} أي من بعد ما أوضحناه للناس في التوراة والإنجيل؛ وأراد بالناس بني إسرائيل. قوله تعالى:
{أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ؛} أي يبعدهم الله من رحمته. وأصل اللّعن في اللغة: هو الطّرد، {وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ} (159).
اختلف المفسرون في هؤلاء اللاعنين؛ فقال قتادة: (هم الملائكة).وقال عطاء:
(الجنّ والإنس).وقال الحسن: (عباد الله أجمعون).وقال ابن عباس: (كلّ شيء إلاّ الجنّ والإنس).وقال مجاهد: (اللاّعنون: البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدّت السّنة وأمسكت القطر، ويقولون: هذا لشؤم بني آدم)
(1)
.وقال عكرمة: (دوابّ الأرض وهوامها حتّى الخنافس والعقارب، فيقولون: منعنا القطر لمعاصي بني آدم)
(2)
.
وإنّما قال لهذه الأشياء اللاعنون ولم يقل اللاعنات؛ لأن من شأن العرب إذا وصفت شيئا من البهائم والجمادات بما هو صفة للناس من قول أو فعل أن يخرجوه على مذهب بني آدم وجمعهم كقوله تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ}
(3)
ولم يقل ساجدات وأشباه ذلك. وفي الآية دلالة على وجوب إظهار علوم الدين وزجر عن كتمانها؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا السبب المخصوص.
قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا؛} أي إلا الذين تابوا من اليهودية وأصلحوا أعمالهم فيما بينهم وبين ربهم. وقيل: أصلحوا ما كانوا أفسدوه مما لا علم لهم به، وبيّنوا صفة محمّد صلى الله عليه وسلم في كتابيهم، وشهدوا بالحق فيما عندهم من العلم؛ {فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ؛} أي أتجاوز عنهم وأقبل التوبة منهم، قوله
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1972).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1973).
(3)
يوسف 4/.
تعالى: {وَأَنَا التَّوّابُ الرَّحِيمُ} (160)؛أي المتجاوز عن التائبين، الرحيم بهم بعد التوبة.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفّارٌ؛} هذا عامّ في جميع الكفار؛ {أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ} (161)؛أما المؤمنون فيلعنوهم في الدنيا والآخرة؛ وأما الكفار فيلعن بعضهم بعضا في الآخرة كما قال تعالى: {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً}
(1)
.وروي: أن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ثم الملائكة والناس أجمعون.
وقوله تعالى: {خالِدِينَ فِيها؛} أي في اللعنة والنار مقيمين. وقيل: إن اللعنة هنا النار؛ لأن اللعنة هي إبعاد الله من رحمته وذلك عذابه. قوله تعالى: {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} (162)؛أي ولا هم يمهلون ويؤجلون.
قال أبو العالية: (لا ينظرون فيعتذرون).
قوله عز وجل: {وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ} (163)؛ قال الكلبيّ: (نزلت هذه الآية في كفّار مكّة، قالوا: يا محمّد صف لنا وانسب لنا ربّك، فأنزل الله سورة الإخلاص وهذه الآية)
(2)
.وقال الضّحاك: عن ابن عباس:
(كان للمشركين في الكعبة ثلاثمائة وستّون صنما يعبدونهم من دون الله إفكا وإثما، فدعاهم الله إلى توحيده والإخلاص في عبادته، فقال: {(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ)}
(3)
.ويقال: نزلت هذه الآية في صنف من المجوس؛ ويقال لهم:
الملكانية، يقولون: هما اثنان: خالق الخير، وخالق الشر.
(1)
العنكبوت 25/.
(2)
أصل قول الكلبي ما روي عن أبي بن كعب: أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربّك؟ فأنزل الله: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ. أخرجه الترمذي في الجامع: كتاب التفسير: الحديث (3364) موصولا ومرسلا.
(3)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 2 ص 190؛ قال القرطبي: «لما حذّر تعالى من كتمان الحق، بيّن أن أول ما يجب إظهاره ولا يجوز كتمانه أمر التوحيد، ووصل ذلك بذكر البرهان وعلم طريق النظر، وهو الفكر في عجائب الصنع، ليعلم أنه لا بد له من فاعل لا يشبهه شيء» .
ومعنى الآية: أن الذي يستحق أن تأله قلوبكم إليه في المنافع والمضار وفي جميع حوائجكم وفي التعظيم له إله واحد لا يستحق الإلهية أحد غيره. فلما نزلت هذه الآية عجب المشركون وقالوا: إن محمدا يقول: إن إلهكم إله واحد، فليأتنا بآية إن كان من الصادقين.
فأنزل الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ؛} أي في تعاقب الليل والنهار؛ وفي الذهاب والمجيء.
والاختلاف مأخوذ من خلف يخلف بمعنى أن كل واحد منها يخلف صاحبه وإذا ذهب أحدهما جاء الآخر خلافه؛ أي بعده. نظيره قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً}
(1)
.وقال عطاء: (أراد اختلاف اللّيل والنّهار في اللّون والطّول والقصر والنّور والظّلمة والزّيادة والنّقصان).والليل: جمع ليلة مثل نخلة ونخل؛ والليالي جمع الجمع. والنهار واحد وجمعه نهر. وقدّم الليل على النهار؛ لأنه هو الأصل والأقدم. قال الله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ}
(2)
.
قوله تعالى: {(وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ)} يعني السّفن، واحده وجمعه سواء، قال الله تعالى في واحده:{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}
(3)
وقال في جمعه: {حَتّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ}
(4)
.ويذكّر ويؤنث قال الله تعالى في التذكير: {الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} وقال في التأنيث: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} .
قوله تعالى: {(بِما يَنْفَعُ النّاسَ)} يعني ركوبها والحمل عليها في التجارات والمكاسب وأنواع المطالب.
قوله تعالى: {وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ؛} يعني المطر، {فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها؛} أي بعد يبسها وجذوبتها، {وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ؛} أي نشر وفرق من كل دابة من أجناس مختلفة، منهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين، ومنهم من يمشي على أربع، {وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ؛} أي تقليبها دبورا وشمالا وجنوبا وصبا. وقيل: تصريفها مرة بالرحمة ومرة بالعذاب.
(1)
الفرقان 62/.
(2)
يس 37/.
(3)
يس 41/.
(4)
يونس 22/.
وقرأ حمزة والكسائي وخلف: «(وتصريف الرّيح)» بغير ألف على الواحد. وقرأ الباقون: «(الرّياح)» على الجمع. قال ابن عباس: (الرّياح للرّحمة؛ والرّيح للعذاب)، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا هاجت الريح يقول:[اللهمّ اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا]
(1)
.
قوله تعالى: {وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ؛} أي المذلّل، {بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؛} سمي سحابا لأنه ينسحب بالسير في سرعة. قوله تعالى:{لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (164)؛أي لعلامات دالة على وحدانية الله لقوم يعرفون لو كانت هذه الأمور إلى اثنين لاختلفا. وقيل: لآيات لقوم يعقلون فيعلمون أنّ لهذه الأشياء خالقا وصانعا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ويل لمن قرأ هذه الآية ولم يتفكّر فيها ويعتبر بها]
(2)
.
قيل: إنّ السحاب كالمنخل يخرج منه المطر قطرة قطرة ولا تلتقي منه قطرتان في الجوّ؛ إذ لو خرج منهمرا سيّالا لأغرق ما أتى عليه كما في طوفان نوح عليه السلام قال الله تعالى في طوفان نوح: {فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ}
(3)
.
قوله تعالى: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً؛} وهم المشركون. والأنداد: هم الأصنام المعبودة من دون الله، قاله أكثر المفسرين، وقال السديّ:(يعني سادتهم وقادتهم الّذين كانوا يطيعونهم في معصية الله)
(4)
.
قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ؛} أي كحب المؤمنين الله تعالى.
يقال: بعت غلامي كبيع غلامك؛ أي كبيعك غلامك. وأنشد الفرّاء:
(1)
رواه الطبراني في المعجم الكبير: ج 11 ص 170:الحديث (11533).وفي مجمع الزوائد: ج 1 ص 135 - 136؛قال الهيثمي: «وفيه حسين بن قيس الملقب ب (حنش) وهو متروك، وقد وثقه حصين بن نمير، وبقية رجاله رجال الصحيح» .
(2)
أخرجه ابن حبان في الصحيح: كتاب الرقاق: باب التورية: الحديث (620) عن عائشة، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
(3)
القمر 11/.
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (1997). قال: «قال السدي: (الأنداد من الرجال يطيعونهم كما يطيعون الله، إذا أمروهم أطاعوهم وعصوا الله» .
أبيت ولست مسلّما ما دمت حيّا
…
على زيد كتسليم الأمير
أي كتسليمي على الأمير، وهذا قول أكثر العلماء. وقال الزجّاج: (تقدير الآية:
يحبّونهم كحب الله؛ يعني يسوّون بين هذه الأصنام وبين الله تعالى في المحبّة).
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ؛} أي يخلصون في محبة الله لا يشركون به غيره؛ وهم يشركون معه معبوداتهم. وقيل: إنّ المؤمنين يعبدون الله في كلّ حال؛ والكفار يعبدون الأوثان في الرخاء فإذا أصابتهم شدة تركوا عبادتها. وقال ابن عباس: (معناه أثبت وأدوم، وذلك أنّ المشركين كانوا يعبدون صنما فإذا رأوا شيئا أحسن منه تركوه وأقبلوا على عبادة الأحسن).وقال قتادة: (إنّ الكافر يعرض عن معبوده في وقت البلاء ويقبل على الله تعالى كما قال تعالى: {فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}
(1)
والمؤمن لا يعرض عن الله تعالى في السّرّاء والضّرّاء والشّدّة والرّخاء).وقيل: لأنّ الكفار يرون معبودهم مصنوعهم؛ والمؤمنون يرون الله تعالى صانعهم.
قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ} . قرأ أبو رجاء والحسن وشيبة ونافع وقتادة ويعقوب وأيوب: «(ولو ترى)» بالتاء على أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. والجواب محذوف تقديره: ولو ترى يا محمد {(الَّذِينَ ظَلَمُوا)} أي أشركوا {(إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ)} لرأيت أمرا عظيما؛ ولعلمت ما يصيرون إليه، أو تعجبت منه. وقرأ الباقون بالياء؛ فمعناه:{(وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)} أنفسهم عند رؤية العذاب لعلموا، {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً؛} أو لآمنوا أو لعلموا مضرّة الكفر. نظيره هذه الآية في المحذوف:
{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ}
(2)
أي لكان هذا القرآن.
وقوله تعالى: {(إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ)} قرأ ابن عامر: «(إذ يرون العذاب)» بضم الياء على التعدي. وقرأ الباقون بفتحه على اللّزوم. وقيل: معنى الآية: ولو يرى عبدة الأوثان اليوم ما يرون حين رؤية شدة عذاب الله وقوته لتركوا عبادة الأوثان ومحبتها.
(1)
العنكبوت 65/.
(2)
الرعد 31/.
وهذا التأويل على قراءة الياء. وقوله: {(أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً)} أي لأن القوة لله جميعا؛ {وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ} (165)؛للرؤساء والأتباع من عبدة الأوثان.
وقرأ الحسن وقتادة وشيبة وسلام ويعقوب: «(إنّ القوّة لله جميعا وإنّ الله)» بالكسر فيهما على الاستئناف. والكلام تامّ عند قوله: {(يَرَوْنَ الْعَذابَ)} مع إضمار الجواب؛ كما ذكرنا. وقرأ الباقون بفتحها على معنى بأنّ القوة لله جميعا معطوف على ما قبل. وقيل: على معنى لرأوا أنّ القوة لله جميعا، أو لأيقنوا.
قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا،} متصل بقوله:
{(شَدِيدُ الْعَذابِ)} أي شديد العذاب وقت تبرّأ المتّبعون من التابعين، {وَرَأَوُا الْعَذابَ،} جميعا ودخلوا في النار جميعا وعاينوا ما فيها. قرأ مجاهد بتقديم الفاعلين على المفعولين؛ وقرأ الباقون بالضدّ. (والتّابعون هم الأتباع والضّعفاء والسّفلة) قاله أكثر المفسرين. وقال السديّ: (هم الشّياطين يتبرّءون من الإنس).
قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ} (166)،قال ابن عبّاس ومجاهد وقتادة:(يعني أسباب المودّة والوصلات الّتي كانت بينهم في الدّنيا، فصارت محبّتهم عداوة).وقال الكلبيّ: (يعني بالأسباب الأرحام).وقال أبو روق:
(الحلف والعهود الّتي كانت بينهم في الدّنيا؛ وتقطّع بينهم الأسباب؛ أي لا سبب يبقى لهم إلى رحمة الله تعالى بوجه من الوجوه).
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا؛} أي قال السفلاء والخدم: {لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنّا؛} أي قالوا: لو أن لنا رجعة إلى الدنيا لتبرأنا منهم كما تبرّءوا منا في الآخرة، يقول الله تعالى:{كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ؛} التي عملوها في الدنيا لغير الله؛ {حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ؛} أي كما أراهم العذاب؛ وكما تبرأ بعضهم من بعض كذلك يريهم الله أعمالهم التي عملوها في الدنيا لغير الله حسرات عليهم؛ أي ندمات عليهم كما أراهم تبرّأ بعضهم عن بعض. وقيل:
أراد أعمالهم الصالحة التي عملوها. قال السديّ: (ترفع لهم الجنّة فينظرون إليها وإلى تبوّئهم فيها لو أطاعوا الله، فيقال لهم: تلك منازلكم لو أطعتم الله تعالى؛
ثمّ يمنعون عنها، فذلك حين يندمون)
(1)
.وقوله تعالى: {وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النّارِ} (167)؛أي التابعون والمتبوعون.
قوله عز وجل: {يا أَيُّهَا النّاسُ كُلُوا مِمّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً؛} أي من الزروع والأنعام وغير ذلك مما أحلّ الله لكم. والطيب صفة للحلال؛ وهما واحد، ويجوز أن يكون الحلال المستلذّ. {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ؛} أي لا تسلكوا طريقة التي يدعوكم إليها.
وقيل: نزلت هذه الآية في ثقيف وخزاعة وبني عامر بن صعصعة؛ كانوا يحرّمون البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وبعض الحروث.
ووجه دخول (من) التي هي للتبعيض: أن كل ما في الأرض لا يمكن أكله لا يحلّ. وقوله تعالى: {(حَلالاً طَيِّباً)} انتصبا على الحال. وقيل: على المفعول؛ أي كلوا حلالا طيبا مما في الأرض.
وقوله: {(خُطُواتِ الشَّيْطانِ)} قرأ شيبة ونافع وعاصم في رواية أبي بكر، والأعمش وحمزة وأبي عمرو؛ وابن كثير في رواية: بسكون الطاء في جميع القرآن. وقرأ قنبل وحفص: بضم الخاء والطاء في جميع القرآن. وقرأ عليّ رضي الله عنه وسلام عليه: بضمّ الخاء والطاء وهمزة بعد الطاء. وقرأ أبو السمّال العدويّ وعبيد بن عمير:
«(خطوات)» بفتح الخاء والطاء.
فمن أسكن الطاء بقّاه على الأصل؛ وطلب الخفّة؛ لأنه جمع خطوة بإسكان الطاء، ومن ضمّ الطاء فإنه اتبع ضمة الخاء ضمة الطاء مثل ظلمة وظلمات وقربة وقربات. ومن همز الواو مع الضم ذهب بها مذهب الخطيئة، ومن فتح الخاء والطاء فإنه أراد جمع خطوة مثل ثمرات.
(1)
في جامع البيان: النص (2014) نقله الطبري بلفظ: «فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها لو أنهم أطاعوا الله، فيقال: تلك مساكنكم لو أطعتم الله، ثم تقسم بين المؤمنين فيرثونهم، فذلك حين يندمون» .
واختلف المفسرون في قوله: {خُطُواتِ الشَّيْطانِ؛} فعن ابن عبّاس: (أنّ خطوات الشّيطان عمله)
(1)
.وقال مجاهد وقتادة والضحاك: (خطاياه)
(2)
.وقال الكلبيّ والسديّ: (طاعته)
(3)
.وقال عطاء: (زلاّته وشهواته).وقال المؤرّج: (آثاره).وقال القتبيّ والزجّاج: (طرقه).
قوله تعالى: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (168)؛أي بيّن العداوة، وقيل:
مظهرها قد بان عداوته لكم بإبائه السجود لأبيكم آدم وغروره إياه حين أخرجه من الجنة.
ثم بيّن الله عداوته فقال: {إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ؛} أي بالإثم والمعاصي، وقيل: السوء: ما يجب به التعزير؛ والفحشاء: ما يجب به الحدّ. وقيل: كل ما كان في القرآن من الفحشاء فهو زنا، إلا قوله تعالى:{وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ}
(4)
فإنه منع الزكاة. وقيل: الفحشاء: ما قبح من القول والفعل. وقال طاوس: (الفحشاء: ما لا يعرف في شريعة ولا سنّة).وقال عطاء: (هي البخل).وقال السديّ: (هي الزّنا).
قوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ} (169)؛من تحريم الحرث والأنعام وغير ذلك؛ ومن وصفكم الله تعالى بالأنداد والأولاد، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. فإن قيل: كيف يصحّ أن يأمر الشيطان وهو لا يشاهد ولا يسمع صوته؟ قيل: معنى يأمركم يدعوكم ويرغبكم كما يقول الإنسان: نفسي تأمرني بكذا؛ أي تدعوني إليه.
قوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ؛} أي إذا قيل لهؤلاء الكفار: اتبعوا في التحليل والتحريم ما أنزل الله؛ {قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا؛} أي ما وجدنا عليه آباءنا من عبادة الأوثان وتحريم البحيرة والسائبة ونحو ذلك. يقول الله تعالى: {أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ؛} أي أيتبعون آباءهم وإن كانوا جهّالا لا يعقلون؛ {شَيْئاً؛} من الدين، {وَلا يَهْتَدُونَ} (170)؛للسّنة.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2018).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2019 و 2020 و 2021).
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2022).
(4)
البقرة 268/.
وقيل: إن هذه الآية قصة مستأنفة؛ وإنّها نزلت في اليهود؛ فعلى هذا تكون الهاء والميم في قوله: {(لَهُمُ)} كناية عن غير مذكور. وعن ابن عباس قال: [دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنّصارى إلى الإسلام ورغّبهم فيه وحذّرهم عذاب الله، فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف: بل نتّبع ما وجدنا عليه آباءنا فهم كانوا خيرا منّا وأعلم؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية]
(1)
.
قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاّ دُعاءً وَنِداءً؛} هذا مثل ضربه الله تعالى للكفار فوصفهم بعد ما أمرهم ونهاهم؛ فلم يأتمروا ولم ينتهوا بصفة الدواب، معناه: مثلنا أو مثلك يا محمّد مع الكفار أو مثل واعظ الذين كفروا. فحذف اختصارا كمثل الذي يصيح بها بما لا يدري ما يقال له إلا أنه يسمع الصوت، وهو الإبل والبقر والغنم ينزجر بالصوت ولا تفقه ما يقال لها؛ ولا تحسن جوابا؛ فكما أنّ البهائم لا تفهم كلام من يدعوها، فكذا هؤلاء الكفار لا ينتفعون بوعظ النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا قول ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وعطاء والربيع وأكثر المفسرين، فإنّهم قالوا المراد {(بِما لا يَسْمَعُ إِلاّ دُعاءً وَنِداءً)} البهائم التي لا تعقل كالأنعام والحمير ونحوها
(2)
.
وأضاف المثل إلى الكفار اختصارا لدلالة الكلام عليه؛ وتقديره: مثلك يا محمد ومثل الذين كفروا في وعظهم ودعائهم إلى الله تعالى كمثل الداعي الذي ينعق بهم؛ أي يصوّت ويصيح بها، يقال: نعق ينعق نعقا ونعاقا؛ إذا صاح وزجر، قال الشاعر
(3)
:
فانعق بضأنك يا جرير فإنّما
…
منّتك نفسك في الخلاء ضلالا
(1)
في الدر المنثور: ج 1 ص 405؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم» .أخرجه ابن هشام في السيرة النبوية عن ابن إسحاق: ج 2 ص 200.والطبري في جامع البيان: النص (2025).
(2)
نقل أقوالهم الطبري في جامع البيان: النصوص (2028 - 2035).
(3)
هو الأخطل، ينظر: في ديوانه:250.والبيت أيضا في نقائض جرير والأخطل: ص 81.ولسان العرب: مادة (نعق).ونعق: صاح.
فكما أنّ هذه البهائم تسمع الصوت ولا تفهم ولا تعقل ما يقال لها؛ كذلك الكافر لا ينتفع بوعظ إن أمرته بخير أو زجرته عن شرّ؛ غير أنه يسمع صوتك. وقال الحسن:
(معناه: مثله فيما أتيتم به حيث يسمعونه ولا يعقلونه كمثل راعي الغنم الذي ينعق بها، فإذا سمعت الصوت رفعت رأسها فاستمعت إلى الصوت والدعاء ولا تعقل منه شيئا، ثم تعود بعد ذلك إلى مرعاها؛ لم تفقه ما ناداها به).وقال قوم: معنى الآية: مثل الكفار في دعائهم الأصنام وعبادتهم الأوثان كمثل الرجل يصيح في جوف الجبال، فيجيبه فيها صوت يقال لها الصّدى؛ يجيبه ولا ينفعه.
قوله تعالى: {(إِلاّ دُعاءً وَنِداءً)} . وقيل: إنّ الدعاء والنداء واحد كما أن الحلال والطّيب واحد. وقيل: الدعاء ما يكون للقريب، والنداء إنما يكون مدّ الصوت للبعيد.
قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} (171)؛أي هم صمّ عن الخير لا يسمعون الحقّ؛ والعرب تقول لمن يسمع ولا يعمل بما يسمعه: كأنه أصمّ.
وقوله تعالى: {(بُكْمٌ)} أي خرس لا يتكلمون بخير، {(عُمْيٌ)} لا يبصرون الهدى فهم لا يعقلون ما يؤمرون به.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ؛} أي من حلال ما رزقناكم من الحرث والأنعام وسائر المأكولات، قال صلى الله عليه وسلم:[إنّ الله سبحانه وتعالى طيّب لا يقبل إلاّ الطّيّب، وإنّ الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين؛ فقال: يا أيّها الرّسل كلوا من الطّيّبات، وقال: يا أيّها الّذين آمنوا كلوا من طيّبات ما رزقناكم]
(1)
.
قوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ} (172)؛ أي واشكروا لله على ما رزقكم وأباح لكم من النعم إن كنتم إيّاه تعبدون؛ أي إن كنتم تقرّون أنه إلهكم ورازقكم، وهذا أمر إباحة وتخيير؛ أعني قوله تعالى:{(كُلُوا)} لأن تناول المشتهى لا يدخل في التعبد؛ وقد يكون الأكل تعبّدا في بعض الأحوال عند دفع ضرر النفس أو تقويتها على الطاعة، وعند مساعدة الضيف إذا امتنع عن الأكل.
(1)
في الدر المنثور: ج 1 ص 406؛ قال السيوطي: «أخرجه أحمد ومسلم والترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن أبي هريرة» . (1) طه 69/.
فلما نزلت هذه الآية قالت الكفار: إذا لم تكن البحيرة والسائبة والوصيلة محرمة في المحرمات، فأنزل الله تعالى قوله تعالى:{إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ؛} قرأ السلمي: «(إنما حرم عليكم)» براء مضمومة مخففة «(الميتة والدم ولحم الخنزير)» رفعا.
وروي عن أبي جعفر أن قرأ: «(حرم)» بضم الحاء وكسر الراء وتشديدها ورفع ما بعدها. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة: «(إنما حرم عليكم الميتة)» بنصب الحاء والراء وتشديد الراء ورفع الميتة وما بعدها، وجعل (ما) بمعنى الذي المنفصلة، ويكون موضع (ما) نصبا باسم إنّ؛ وما بعدها خبرها. كما قال:{إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ} (1).وقرأه الباقون «(حرم)» بنصب الحاء وتشديد الراء ونصب «(الميتة)» وما بعدها، وجعلوا {(إِنَّما)} كلمة واحدة تأكيدا وتحقيقا. والميتة: ما لم يذكّ، والدم: يعني المسفوح الجاري. وهذه الآية مخصوصة بالسّنة؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: [أحلّت لنا ميتتان: السّمك والجراد، والدّمان:
الكبد والطّحال]
(1)
.
قوله تعالى: {(وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ)} أراد جميع أجزائه وكل بدنه، فعبّر ذلك باللحم؛ لأنه معظمه وقوامه. وقوله تعالى:{(وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ)} أي ما ذكر عليه عند الذبح اسم غير الله، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك:(يعني ما ذبح للأصنام والطّواغيت كلّها) وأصل الإهلال رفع الصوت، ومنه إهلال الحجّ؛ وهو رفع الصوت بالتلبية، ومنه إهلال الصبي واستهلاله؛ وهو صياحه عند خروجه من بطن أمّه.
قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ؛} قرأ عاصم وحمزة ويعقوب وأبو عمرو: «(فمن اضطرّ)» بكسر النون فيه وفيما يشابهه مثل (أن اقتلوا) وأمثاله. وقرأ ابن محيصن: «(فمن اضطرّ)» بإدغام الضاد في الطاء حتى يكون طاء خالصة.
(1)
في الدر المنثور: ج 1 ص 407؛ قال السيوطي: «أخرجه أحمد وابن ماجة والدارقطني وابن مردويه، عن ابن عمر» .رواه أحمد في المسند: ج 2 ص 97.وابن ماجة في السنن: كتاب الصيد: الحديث (3218)،وإسناده حسن. وفي نصب الراية: ج 4 ص 202؛قال الزيلعي: «وله طريق آخر، قاله ابن مردويه في تفسير سورة الأنعام» .
ومعنى الآية: فمن أحرج فالتجأ إلى ذلك بالمجاعة والإكراه، {(غَيْرَ باغٍ)} أي غير طالب لذلك؛ أي غير طالب تلذّذ، {(وَلا عادٍ)} أي ولا متجاوز قدر ما يسدّ به رمقه، وقوله عز وجل:{(غَيْرَ باغٍ)} نصب {(غَيْرَ)} على الحال، وقيل: على الاستثناء؛ وإذا رأيت (غير) لا يقع في موضعها (إلاّ) فهي حال؛ وإذا يقع في موضعها (إلاّ) فهي استثناء؛ فقس على هذا.
وقال بعض المفسرين: على معنى {(غَيْرَ باغٍ)} أي غير قاطع للطريق، {(وَلا عادٍ)} أي ولا مفارق للأئمة ولا مشاقّ للأمّة خارج عليهم بسيفه، ومن خرج يخيف السبيل؛ أو يفسد في الأرض؛ أو آبق من سيده؛ أو فرّ من غريمه؛ أو خرج عاصيا بأيّ وجه كان فاضطرّ إلى الميتة؛ لم يجز أكلها، واضطرّ إلى الخمر عند العطش؛ لم يحلّ له شربها، وهذا قول مجاهد وابن جبير والكلبيّ، وبهذا التأويل أخذ الشافعيّ رحمه الله، وقال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله:«يجوز ذلك لهم ولو كانوا بغاة خارجين على المسلمين كما يجوز لأهل العدل» .
قال ابن عباس والحسن ومسروق: (تفسير قوله: {(غَيْرَ باغٍ)} أي غير باغ في الميتة، ولا عاد في الأكل).وقال مقاتل:(أي غير باغ ومستحلّ، ولا عاد أي ولا متزوّد منها).وقال السديّ: (غير باغ في أكله بشهوة وتلذّذ، ولا عاد أي لا يأكل حتّى يشبع منها، ولكن يأكل منها ما يمسك رمقه).وقال بعضهم: غير باغ؛ أي متجاوز للقدر الذي يحل له، ولا عاد؛ أي لا يقصر فيها فيما يحل له منها؛ فلا يأكله.
قال مسروق: (بلغني أنّه من اضطرّ إلى الميتة فلم يأكلها حتّى مات دخل النّار).
واختلف الفقهاء في حدّ الاضطرار إلى الميتة فيما يحلّ للمضطر أكله من الميتة، فقال بعضهم: إنه لا يجوز له الأكل إلا عند خوف التلف في آخر الرمق وهو الصحيح، وقال بعضهم: إذا كان يضعف عن الفرائض. وقال بعضهم: إذا كان بحيث لو دخل إلى سوق لا ينظر إلى شيء سوى المطعوم.
وأما مقدار ما يأكل عند الضرورة فقال أبو حنيفة: (لا يأكل إلا ما يسدّ رمقه)، وهو أحد قولي الشافعي. وقال مالك:(يأكل حتى يشبع ويتزوّد منها، فإن وجد شيئا مباحا طرحها).وقال مقاتل: (لا يزيد على ثلاثة لقم).
قوله: (فلا إثم عليه) أي فلا حرج عليه في أكلها، {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ؛} لمن أكل من الحرام في حالة الاضطرار، {رَحِيمٌ} (173)؛به حيث رخّص له في ذلك، فإن قيل: قوله تعالى: {(فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)} تناقض قوله: {(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)} ؛لأنّ الغفران يقتضي إثبات الإثم؟ قيل: لأنه بالغفران قد يسّر ما لولا الإباحة لكانت معصية، وبرحمته جوّز عند الضرورة إحياء النفس بتناوله.
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ،} نزل في علماء اليهود والنصارى، قال الكلبيّ: عن أبي صالح عن ابن عباس: (كان علماء اليهود يأخذون من سفلتهم الهداية، وكانوا يرجون أن يكون النّبيّ المبعوث منهم، فلمّا بعث الله محمّدا صلى الله عليه وسلم من غيرهم، خافوا ذهاب مآكلهم وزوال رئاستهم، فعمدوا إلى صفة محمّد صلى الله عليه وسلم فغيّروها ثمّ أخرجوها إليهم وقالوا: هذا نعت النّبيّ الّذي يخرج في آخر الزّمان، لا يشبه نعت هذا النّبيّ الّذي بمكّة، فإذا نظرت السّفلة إلى النّعت المغيّر وجدوه مخالفا لصفة محمّد صلى الله عليه وسلم فلا يتّبعونه، فأنزل الله تعالى هذه الآية {(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ)} يعني صفة محمّد صلى الله عليه وسلم ونبوّته)
(1)
{وَيَشْتَرُونَ بِهِ؛} أي بالمكتوب، {ثَمَناً قَلِيلاً؛} أي عوضا يسيرا؛ يعني المآكل التي كانوا يصيبونها من سفلتهم، {أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النّارَ؛} ذكر البطون هاهنا للتأكيد؛ ما يأكلون إلا ما يوردهم النار؛ وهي الرّشوة والحرام، ومن الدين والإسلام، فلما كان عاقبته النار سمّاه في الحال نارا، كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً}
(2)
يعني أنّ عاقبته النار، وقال عليه السلام في الذي يشرب في الإناء الذهب والفضة:[إنّما يجرجر في بطنه نار جهنّم]
(3)
أخبر عن المال بالحال.
(1)
في الدر المنثور: ج 1 ص 409؛ قال السيوطي: «وأخرج الثعلبي بسند ضعيف عن ابن عباس:
…
وذكره».
(2)
النساء 10/.
(3)
رواه البخاري في الصحيح: كتاب الأشربة: باب آنية الفضة: الحديث (5634).والإمام أحمد في المسند: ج 6 ص 301 و 306.
قوله عز وجل: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ؛} أي لا يكلمهم كلاما ينفعهم ويسرهم كما يكلم أولياءه من البشارة والرضا، وأما التهديد فلا بدّ منه لقوله تعالى:{فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}
(1)
.وقيل: معناه: لا يسمعهم كلام نفسه، بل يرسل إليهم ملائكة العذاب، فيكلمونهم بأمر الله، وإنّما أضاف السؤال إلى نفسه؛ لأن سؤال الملائكة بأمره.
قوله تعالى: {وَلا يُزَكِّيهِمْ؛} أي لا يطهّرهم من دنس ذنوبهم؛ ولا يثني عليهم خيرا؛ ولا يصلح أعمالهم الخبيثة؛ {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} (174)؛ أي مؤلم.
قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النّارِ} (175)؛أي الذين مالوا إلى التحريف للتوراة والإنجيل هم الذين استبدلوا الكفر بالإيمان، وقوله تعالى:{(وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ)} معناه: أنّ الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم يوجب المغفرة؛ والكفر به يوجب العذاب؛ فيكون المستبدل للكفر بالإيمان مشتريا للعذاب بالمغفرة.
قوله تعالى: {(فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النّارِ)} قال الحسن وقتادة والربيع: (والله وما لهم عليها من صبر، ولكن ما أجرأهم على العمل الّذي يقرّبهم إلى النّار!)
(2)
.وقال الكسائيّ وقطرب: (ما أصبرهم على عمل أهل النّار؛ أي ما أدومهم عليه).وقيل:
معناه: ما ألقاهم في النار. وقال عطاء والسدي: (معناه: ما الّذي أصبرهم على النّار، وأيّ شيء صبّرهم على النّار حين تركوا الحقّ واتّبعوا الباطل)
(3)
.
وقيل: هو لفظ استفهام بمعنى التوبيخ لهم والتعجب لنا، كأنه قال: ما أجرأهم على فعل أهل النار مع علمهم. قالوا: وهذه لغة يمانية. وقال الفراء: (أخبرني
(1)
الحجر 92/.
(2)
في جامع البيان: النص (2067) عن الحسن، والنص (2066) عن قتادة، والنص (2069) عن الربيع.
(3)
في جامع البيان: النص (2071).
الكسائيّ؛ قال: أخبرني قاضي اليمن: أنّ خصمين اختصما إليه، فوجبت اليمين على أحدهما؛ فحلف، فقال له خصمه: ما أصبرك على الله! أي ما أجرأك على الله).
قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ؛} أي ذلك العذاب لهم في الآخرة. وقيل: ذلك الضلال {(بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ)} أي بالعذاب والصّدق. واختلفوا فيه؛ فحينئذ يكون ذلك في موضع الرفع. وقال بعضهم: هو في محل النصب؛ معناه: فعلنا ذلك بهم؛ بأنّ الله أو لأن الله نزّل الكتاب بالحق فاختلفوا فيه وكفروا به؛ فنزع الخافض.
قوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ؛} قيل: هم اليهود والنصارى، وأراد بالكتاب: التوراة والإنجيل وما فيهما من البشارة بمحمّد صلى الله عليه وسلم وصحّة أمره ودينه.
وقيل: هم الكفار كلهم، وأراد بالكتاب القرآن واختلافهم فيه؛ لأنّ بعضهم قال: هو سحر، وبعضهم قال: هو قول البشر، وبعضهم قال: هو أساطير الأولين، {(وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ)} {لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ؛} (176) أي خلاف طويل.
قوله عز وجل: {*لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ؛} قرأ حمزة وحفص: «(ليس البرّ)» بالنصب، ووجه ذلك: أنهما جعلا (أن) وصلتها في موضع الرفع على اسم ليس، تقديره: ليس توليتكم وجوهكم البرّ، كقوله تعالى:
{فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النّارِ}
(1)
.وقرأ الباقون بالرفع على أنه اسم (ليس).
واختلف المفسرون في هذه الآية؛ فقال قوم: أراد بها اليهود والنصارى قبل المشرق، وزعم كل فريق منهم أن البرّ في ذلك، فأخبر الله تعالى أن البرّ غير دينهم وعملهم، وعلى هذا القول قتادة والربيع ومقاتل.
وقيل: لمّا حوّلت القبلة إلى الكعبة كثر الخوض في أمر القبلة، فتوجّهت النصارى نحو المشرق، واليهود يصلون قبل المغرب إلى بيت المقدس، واتخذوهما قبلة
(1)
الحشر 17/.
وزعموا أنه البرّ، فأكذبهم الله تعالى بهذا وبيّن أن البر في طاعته واتباع أمره، وأن البرّ يتمّ بالإيمان. وقيل: معناه: ليس البرّ كله في الصّلاة فقط، {وَلكِنَّ الْبِرَّ،} الذي يؤدّي للثواب، {مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ،} والإقرار بالملائكة أنّهم عباد الله ورسله؛ لا كما قال بعض الكفار: أنّ الملائكة بنات الله. والإقرار بالنبيّين كلهم.
فإن قيل لهم: جعل {(مَنْ)} خبر {الْبِرَّ،} {(الْبِرَّ)} و {(مَنْ)} اسم و {(الْبِرَّ)} فعل، وهم لا يجبرون:{(الْبِرَّ)} زيد. قيل: معناه عند بعضهم: ولكنّ البرّ الإيمان بالله، والعرب تجعل الاسم خبرا للفعل كقولهم: البرّ الصادق الذي يصل رحمه ويخفي صدقته، يريدون صلة الرحم وإخفاء الصدقة، فيكون {(مَنْ)} في موضع المصدر كأنه قال: ولكن البرّ من آمن بالله والبرّ برّ من آمن بالله، كما يقال: الجود من حاتم، والشجاعة من عنتر؛ أي الجود جود حاتم، والشجاعة شجاعة عنتر، ومثله قوله تعالى:{وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}
(1)
.
أي أهل القرية. {ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ}
(2)
؛أي كخلق نفس. وقال أبو عبيدة: (معناه: ولكنّ البارّ من آمن بالله، كقوله:{وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى}
(3)
أي للمتّقي).وقيل: معناه: ولكن ذا البرّ من آمن بالله، كقوله:{هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ}
(4)
هم ذو درجات.
قوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ؛} أي من آمن بالله والملائكة كلهم والكتاب يعني الكتب، والنبيين أجمع.
قوله تعالى: {وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ؛} اختلفوا في الهاء الذي في {(حُبِّهِ)} ؛ فقال أكثر المفسرين: الهاء في {(حُبِّهِ)} راجع إلى المال؛ يعني إعطاء المال في صحته ومحبته إياه وصلته به، وهو صحيح يخشى الفقر ويأمل الغنى، ولا يهمل حتى إذا بلغت الحلقوم فيقول: لفلان كذا أو لفلان كذا. أو قيل: هي عائدة إلى الله؛ أي على حب الله تعالى. وقيل: على حب الأنبياء.
(1)
يوسف 82/.
(2)
لقمان 28/.
(3)
طه 132/.
(4)
آل عمران 163/.
قوله تعالى: {ذَوِي الْقُرْبى؛} أي أهل القربى؛ قال صلى الله عليه وسلم: [أفضل الصّدقة على ذوي الرّحم الكاشح]
(1)
.وعن ميمونة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: أعتقت جارية لي، فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك؛ فقال:[آجرك الله، أما أنّك لو أعطيتها بعض أخوالك كان أعظم لأجرك]
(2)
.
وقوله تعالى: {وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ}
(3)
{وَابْنَ السَّبِيلِ؛} يعني المجتاز، قال مجاهد:(وهو المسافر والمنقطع عن أهله يمرّ عليك)
(4)
.وقال قتادة:
(وهو الضّيف ينزل بالرّجل) قال: (لقوله صلى الله عليه وسلم: [من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه] وقال صلى الله عليه وسلم: [حقّ الضّيافة ثلاث، فما فوق ذلك فهو صدقة]
(5)
.وإنّما قيل للمسافر والضّيف: ابن السّبيل؛ لملازمته الطّريق كما يقال للرّجل الّذي أتت عليه الدّهور: ابن اللّيالي والأيّام)
(6)
.
قوله تعالى: {وَالسّائِلِينَ؛} يعني المستطعمين الطالبين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[للسّائل حقّ وإن جاء على ظهر فرس]
(7)
وقال صلى الله عليه وسلم: [هديّة الله للمؤمن
(1)
في الدر المنثور: ج 1 ص 414؛ قال السيوطي: «أخرجه الطبراني والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط. وقال: وأخرجه أحمد والدارمي والطبراني عن حكيم بن حزام» .وفي نصب الراية: ج 4 ص 406؛قال الزيلعي: «ورواه الطبراني في معجمه، قال ابن طاهر: سنده صحيح» .
(2)
في الدر المنثور: ج 1 ص 414؛ قال السيوطي: «وأخرجه أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم وصححه» .
(3)
لقد بيّن معنى اليتامى والمساكين فيما مضى، ص 200.
(4)
في جامع البيان: النص (2092).
(5)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2090).
(6)
قاله الطبري في جامع البيان بعد النص (2092).
(7)
عن الحسين بن علي رضي الله عنهما؛ أخرجه أحمد وأبو داود وابن أبي حاتم. وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 3 ص 130:الحديث (2893).والإمام أحمد في المسند: ج 1 ص 201.وأبو داود في السنن: كتاب الزكاة: الحديث (1665).وفي مجمع الزوائد: ج 3 ص 101؛قال الهيثمي: «رواه الطبراني في الصغير والأوسط، وفيه عثمان بن فائد، وهو ضعيف» .قلت: وقد أخرجه الطبراني من طريق آخر في المعجم الكبير.
السّائل على بابه]
(1)
.قوله تعالى: {وَفِي الرِّقابِ؛} يعني المكاتبين؛ كذا قال أكثر أهل التفسير. وقيل: فداء الأسارى. وقيل: عتق النّسمة هو شراؤها للعتق وفكّ الرقبة.
قوله تعالى: {وَأَقامَ الصَّلاةَ؛} يعني المفروضة، وقوله تعالى:
{وَآتَى الزَّكاةَ؛} يعني الواجبة، وقوله تعالى:{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا؛} يعني فيما بينهم وبين الله، وفيما بينهم وبين الناس إذا وعدوا أنجزوا؛ وإذا حلفوا برّوا؛ وإذا نذروا أوفوا؛ وإذا قالوا صدقوا؛ وإذا ائتمنوا أدّوا. وقيل: معناه الموفون بالعهود التي أمر الله بوفائها من سائر المواثيق؛ مدحهم على الوفاء بما عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصرته على الأعداء؛ ومظاهرته بالجهاد.
واختلفوا في رفع الموفين؛ فقال الفراء والأخفش: (هو عطف على محلّ (من) في قوله {وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} كأنّه قال: ولكنّ البرّ المؤمنون والموفون)
(2)
.
وقيل: هو رفع على الابتداء، والخبر تقديره: وهم الموفون.
قوله تعالى: {وَالصّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرّاءِ؛} في انتصابه خلاف؛ قال الكسائيّ: (عطف على ذوي القربى، كأنّه قال: وآتى الصّابرين).وقال بعضهم:
معناه: أعني الصابرين. وقال الخليل والفرّاء: (نصب على المدح، والعرب تنصب على المدح والذّمّ، فالمدح مثل قوله تعالى:{وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ}
(3)
،والذّمّ مثل قوله تعالى:{مَلْعُونِينَ}
(4)
)
(5)
.وقوله تعالى: {(فِي الْبَأْساءِ)} يعني الشدة والفقر، {(الضَّرّاءِ)} يعني المرض والزّمانة، وفي هاتين الحالتين يعظم موقع الصبر على العبادة.
(1)
في التمهيد لما في موطأ مالك من المعاني والمسانيد: ج 2 ص 623؛قال ابن عبد البر: «ومما وضع على مالك مما يدخل في هذا الباب وأسنده عن موسى بن محمّد وقال: ورواه أيضا سعيد ابن موسى، ثم قال: وموسى بن محمّد وسعيد بن موسى متروكان، والحديث موضوع، وحسبنا الله ونعم الوكيل» .وفي الدر المنثور: ج 1 ص 416؛ قال السيوطي: «أخرجه أبو نعيم والثعلبي والديلمي والخطيب في رواة مالك بسند واه عن ابن عمر» .
(2)
معاني القرآن للأخفش: ج 1 ص 348، تحقيق د. عبد الأمير محمّد الورد.
(3)
النساء 162/.
(4)
الأحزاب 61/.
(5)
معاني القرآن للفراء: ج 1 ص 105.وذكره الإمام الطبراني على سبيل الإجمال وليس نصا.
قوله تعالى: {وَحِينَ الْبَأْسِ؛} أي وقت القتال وشدة الحرب، يقال: لا بأس عليك؛ أي لا شدة. وقوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا؛} أي في إيمانهم وجهادهم {وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (177)؛محارم الله تعالى. قيل: [جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الإيمان؛ فقرأ هذه الآية]
(1)
.
قوله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى؛} نزلت هذه الآية في الأوس والخزرج وكان بينهما قتلى وجراحات في الجاهلية، وكان لأحدهما طول على الآخر في الكثرة والشرف، فأقسموا ليقتلنّ بالعبد منا الحرّ منهم؛ وبالمرأة منا الرجل منهم؛ وبالرجل منا الرجلين منهم، وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك، فلم يأخذها بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام، فرفعوا أمرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمرهم بالمساواة؛ فرضوا وسلّموا.
قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ؛} قيل: إن (من) اسم القاتل من ترك له القود وصحّ عنه من القصاص في قتل العمد؛ فرضي منه بالدّية، وقوله:
{(مِنْ أَخِيهِ)} أي من أخ المقتول منه؛ فيسع العافي بالمعروف؛ أي بترفق في طلب الدية من القاتل ولا يعسر؛ وليؤدّ القاتل إليه بإحسان؛ أي لا يبخس ولا يماطل، هذا قول أكثر المفسرين. قالوا: العفو: أن يقبل الدية في قتل العمد، وقيل في تأويله: إن العفو في اللغة ما سهل وتيسر، قال الله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ}
(2)
؛أي ما سهل من الأخلاق، فعلى هذا يكون قوله تعالى:{(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ)} أي وليّ القتيل إذا بدل له من بدل أخيه شيء من المال من جانب القاتل؛ فله {فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ؛} أي فليقبله، {وَأَداءٌ؛} أي ليؤدّ، {إِلَيْهِ،} القاتل {بِإِحْسانٍ} .
(1)
في الدر المنثور: ج 1 ص 410؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن أبي حاتم وصححه عن أبي ذر، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان؟ فتلا: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ حتى فرغ منها. ثم سأله أيضا، فتلاها. ثم سأله فتلاها، وقال:[وإذا عملت حسنة أحبّها قلبك، وإذا عملت سيّئة أبغضها قلبك].
(2)
الأعراف 199/.
قوله تعالى: {ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ؛} أي أن الصلح عن القصاص على شيء من الدية أو غير ذلك تسهيل من ربكم عليكم، رحمة رحمكم الله بها؛ وذلك أن الله كتب على أهل التوراة في النفس والجراح أن يقيدوا ولا يأخذوا الدية ولا يعفوا، وعلى أهل الإنجيل أن يعفوا ولا يقيدوا ولا يأخذوا الدية، فخيّر الله هذه الأمة بين القصاص والدية والعفو.
قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ} (178)؛أي إذا قتل الوليّ قاتل وليه بعد أخذ الدية منه فله عذاب أليم: القتل في الدنيا والنار في الآخرة، ومن قتل بعد أخذ الدية يقتل ولا يعفى عنه، قال صلى الله عليه وسلم:[لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدّية]
(1)
.
وفي هذه الآية دليل على أن القاتل لا يصير كافرا ولا يخلد في النار؛ لأن الله تعالى خاطبهم فقال: {(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ)} وقال في آخر الآية: {(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)} فسمّى القاتل أخا للمقتول، وقال تعالى:{(ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ)} وهما يلحقان المؤمنين دون الكفار. ويروى أن مسروقا: (سئل هل للقاتل توبة؟ فقال: لا أغلق بابا فتحه الله).
قوله عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ؛} يعني أن الذي يريد قتل غيره إذا علم أنه إذا قتل قتل؛ أمسك عن القتل وارتدع؛ فيكون ذلك حياة له وحياة للذي همّ بقتله، وفي بقائهما بقاء لمن يتعصب لهما؛ لأن الفتنة تنبئ بالقتل؛ فتؤدي إلى المحاربة التي لا منتهى لها. وقيل: أراد الآخرة بذلك لا من اقتصّ منه في الدنيا حيّ في الآخرة، وإذا لم يقتصّ منه في الدنيا اقتص منه في الآخرة؛ فمعنى الحياة سلامته في الآخرة. قوله تعالى:{(يا أُولِي الْأَلْبابِ)} أي يا ذوي العقول، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (179)؛أي لكي تتقوا القتل مخافة القصاص.
(1)
رواه أبو داود في السنن: كتاب الديات: باب من قتل بعد أخذ الدية: الحديث (4507) عن جابر بن عبد الله. والإمام أحمد في المسند: ج 3 ص 363.
قوله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ؛} أي فرض عليكم إذا حضر أحدكم أسباب الموت من العلل والأمراض، {إِنْ تَرَكَ خَيْراً؛} أي مالا، {الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ؛} وفي ارتفاع الوصية وجهان؛ أحدهما: اسم ما لم يسمّ فاعله؛ أي كتب عليكم الوصية، والثاني: بخبر الجار والمجرور. وفي قوله: {لِلْوالِدَيْنِ} .وقوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ؛} أي لا يزيد على الثّلث؛ ولا يوصي للغني ويترك الفقير. كما قيل: الوصية للأحوج فالأحوج. وقوله تعالى:
{حَقًّا؛} أي حقّا واجبا وهو نعت على المصدر، معناه: حقّ ذلك حقا. وقيل:
على المفعول؛ أي جعل الوصية حقّا. وقوله تعالى: {عَلَى الْمُتَّقِينَ} (180)؛أي على المؤمنين.
وسبب نزول هذه الآية: أنّهم كانوا في ابتداء الإسلام يوصون للأباعد طلبا للرياء، فأمر الله تعالى من {(تَرَكَ خَيْراً)} أي مالا. نظيره قوله تعالى:{وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ}
(1)
أي من مال، وقوله:{إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}
(2)
أي من مال، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}
(3)
.وقوله تعالى: {(إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ)} أي إذا مرض أحدكم؛ لأنه إذا عاين الموت فقد شغل عن الوصية.
وهذه الآية منسوخة عند أكثر العلماء، واختلفوا بأيّ دليل نسخت؛ فقال بعضهم: بآية المواريث، وهذا لا يصحّ؛ لأنّ الله تعالى قال فيها:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها}
(4)
.والصحيح: أنّها نسخت بقوله عليه السلام: [لا وصيّة لوارث]
(5)
.وهذا الخبر وإن كان خبر واحد فقد تلقّته الأمة بالقبول، فقد جرى مجرى التواتر، ويجوز نسخ القرآن بمثل هذه السّنة، ولا تجب الوصية إلا على من عليه شيء من الواجبات لله تعالى أو لعباده، وتستحبّ لمن لا شيء عليه بالوصية بالثلث لأقاربه الذين لا يرثونه بالرحم، وفي جهات الخير إذا لم يخف ضررا على ورثته، قال الضّحاك: (من
(1)
البقرة 272/.
(2)
القصص 24/.
(3)
العاديات 8/.
(4)
النساء 11/.
(5)
رواه الترمذي في الجامع: كتاب أبواب الوصايا: باب ما جاء لا وصية لوارث: الحديث (2120)،وقال: إسناده حسن.
مات ولم يوص لذي قرابته، فقد ختم عليه بمعصيته)
(1)
.وقيل: لا يجب على أحد وصية، فإن أوصى فحسن، وإن لم يوص فلا شيء عليه، وهذا قول عليّ وابن عمر وعائشة وعكرمة ومجاهد والسديّ.
قال عروة بن الزبير: (دخل عليّ رضي الله عنه على مريض يعوده؛ فقال: إنّي أريد أن أوصي، قال عليّ رضي الله عنه: إنّ الله عز وجل قال: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} وإنّما تترك شيئا يسيرا فدعه لعيالك، فإنّه أفضل)
(2)
.وروى نافع عن ابن عمر: (أنّه لم يوص، فقال: أمّا رباعي فلا أحبّ أن يشارك ولدي فيها أحد)
(3)
.وروي: (أنّ رجلا قال لعائشة رضي الله عنها: إنّي أريد أن أوصي، قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة، قالت: إنّما قال الله تعالى {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} وهذا شيء يسير فاترك لعيالك)
(4)
.وقد روي عن عروة بن ثابت قال للربيع بن خيثم: (أوص لي بمصحفك، فنظر إلى ابنه، وقال: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ})
(5)
.
قوله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ؛} أي فمن غيّر الوصية من الأوصياء أو الأولياء أو الشّهدة بعد ما سمعه؛ {فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} أي المبدّل بعد الموصي؛ {إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ؛} لما قاله الموصي؛ {عَلِيمٌ} (181)؛بما فعله الوصيّ. وإنّما ذكّر الوصية وهي مؤنّثة؛ لأنّها في معنى الإيصاء كقوله: {فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} ردّه إلى الوعظ، وقيل: لأنّ الوصية قول فذهب إلى المعنى وترك اللفظ.
(1)
رواه الطبري في جامع البيان: النص (2161).
(2)
في الدر المنثور: ج 1 ص 422؛ قال السيوطي: «وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في سننه، عن عروة» .
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2191).
(4)
في الدر المنثور: ج 1 ص 423؛ قال السيوطي: «وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي، عن عائشة:
…
وذكره».
(5)
رواه الطبري في جامع البيان: النص (2192).
قوله تعالى: {فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً؛} لما توعّد الله المبدّل؛ خاف الأوصياء من التبديل، فكانوا ينفذون وصية الميت وإن جار في وصيته واستغرقت كلّ المال، فأنزل الله هذه الآية وبيّن أن الإثم في تبديل الحقّ بالباطل، وإذا غيّر الوصيّ من باطل إلى حقّ على طريق الإصلاح فهو محسن فلا أثم عليه.
ومعنى الآية: لمن علم من موص جنفا مثل قوله تعالى: {إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما}
(1)
أي إلا أن يعلما. وقوله تعالى: {(جَنَفاً)} أي ميلا عن الحقّ على جهة الخطأ.
وقوله تعالى: {(أَوْ إِثْماً)} أي ميلا إلى جهة العمد؛ بأن زاد في الوصية على الثّلث؛ أو أقرّ بغير الواجب؛ أو جحد حقّا عليه، {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ؛} أي الوصيّ بين ورثة الموصي وغرمائه، بأن ردّ الوصية إلى المعروف الذي أمر الله به، {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ،} في التبديل.
والهاء والميم في قوله تعالى: {(بَيْنَهُمْ)} كناية عن الورثة، والكناية تصحّ عن المعلوم وإن لم يكن مذكورا، قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (182)؛يعني غفور رحيم إذ رخّص للوصي في خلاف الوصية على جهة الإصلاح.
قرأ مجاهد وعطاء وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشيبة ونافع وحفص:
«(موص)» بالتخفيف، وقرأ الباقون:«(موصّ)» بالتشديد.
وقوله تعالى: {(جَنَفاً)} أي جورا وعدولا عن الحق، والجنف: الميل في الكلام وفي الأمور كلّها. وقرأ عليّ كرّم الله وجهه: «(حيفا)» بالحاء والياء؛ أي ظلما. قال الفراء: (الفرق بين الجنف والحيف: أنّ الجنف عدول عن الشّيء، والحيف حمل على الشّيء حتّى ينتقصه، وعلى الرّجل حتّى ينتقص حقّه).قال المفسّرون: الجنف الخطأ، والإثم العمد.
ومعنى الآية: من حضر مريضا وهو يوصي، فخاف أن يخطئ في وصيّته ليفعل ما ليس له فعله، أو يتعمّد جورا فيها فيأمر بما ليس له، فلا حرج على من حضره أن يصلح بينه وبين ورثته؛ بأن يأمره بالعدل في وصيته وينهاه عن الجنف؛ فينظر للموصي
(1)
سورة البقرة 229/.
وللورثة، وهذا قول مجاهد؛ قال:(هذا حين يحضره الموت، فإذا أسرف أمره بالعدل، وإذا قصّر؛ قال: افعل كذا، أعط فلانا كذا)
(1)
.
وقال آخرون: هو إذا أخطأ الميت في وصيته وأحاف فيها متعمّدا، فلا حرج على وليّه أو وصيّه أو والي أمور المسلمين أن يصلح بعد موته بين الورثة وبين الموصى لهم، ويردّ الوصية إلى العدل والحقّ، وهذا قول ابن عباس وقتادة والربيع.
وروي عن عطاء أنه قال: (هو أن يعطي عند حضور أجله بعض ورثته دون بعض ممّا سيرثونه بعد موته، فلا إثم على من أصلح بين الورثة)
(2)
.
وقال طاوس: (هو أن يوصي لبني ابنه يريد ابنه، أو لبني بنته يريد بنته، أو لزوج ابنته يريد ابنته، فلا حرج على من أصلح بين الورثة)
(3)
.
وقال السديّ: (هو في الوصيّة للآباء والأقربين، يميل إلى بعضهم ويحيف على بعضهم، فالأصلح أن لا ينفّذها؛ ولكن يصلح بينهم على ما يرى أنّه الحقّ، ينقص بعضا ويزيد بعضا)
(4)
.
قال ابن زيد: (فعجز الموصي أن يوصي للوالدين كما أمره الله تعالى، وعجز الموصى إليه أن يصلح، فانتزع الله ذلك منهم، وفرض الفرائض)
(5)
.قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنّ الله لم يرضى بملك مقرّب، ولا بنيّ مرسل حتّى تولّى قسمة مواريثكم]
(6)
.
(1)
رواه الطبري في جامع البيان: النص (2214).
(2)
رواه الطبري في جامع البيان: النص (2219).
(3)
رواه الطبري في جامع البيان: النص (2220).
(4)
رواه الطبري في جامع البيان: النص (2222).
(5)
رواه الطبري في جامع البيان: النص (2223).
(6)
في معناه من باب الصدقات أخرج أبو داود في السنن: الحديث (1630).والبيهقي في السنن الكبرى: الحديث (7826)،ولفظه:[إنّ الله لم يرض يحكم نبيّ ولا غيره في الصّدقات حتّى حكم هو فيها، فجزّأها ثمانية أجزاء].
وقوله تعالى: {(فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ)} ولم يخيّر للورثة ولا للمختانين في الوصيّة ذكر؛ لأن سياق الآية وما تقدّم من ذكر الوصية يدلّ عليه. روي أن سعد بن أبي وقّاص قال: مرضت مرضا أشرفت منه على الموت؛ فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إنّ لي مالا كثيرا، وليس يرثني إلاّ بنت واحدة لي أفأوصي بثلثي مالي؟ قال:
[لا] فقلت: بشطر المال؟ قال: [لا].قلت: فثلث مالي؟ قال: [نعم، والثّلث كثير، إنّك يا سعد إن تترك ولدك غنيّا خيرا من أن تتركهم عالة يتكفّفون النّاس]
(1)
.
وروي أنّ جارا لمسروق أوصى فدعا مسروقا يشهده، فوجده قد زاد وأكثر، فقال:(لا أشهد، إنّ الله تعالى قد قسّم بينكم فأحسن القسمة، فمن يرغب برأيه عن أمر الله فقد ضلّ، أوص لذي قرابتك الّذين لا يرثون؛ ودع المال على قسم الله)
(2)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: [من حاف في وصيّته ألقي في اللّواء؛ واللّواء واد في جهنّم]
(3)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: [إنّ الرّجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى وحاف في وصيّته فيختم له بشرّ عمله فيدخل النّار]
(4)
.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ؛} قال الحسن: (إذا سمعت الله تعالى يقول: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فارع لها سمعك، فإنّها لأمر تؤمر به ولنهي تنهى عنه).وقال جعفر الصّادق: (لذّة ما في النّداء إزالة تعب العبادة والعناء).
قوله تعالى: {(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ)} أي فرض عليكم الصيام، {كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ،} كما فرض على الذين من قبلكم من الأنبياء والأمم،
(1)
رواه البخاري في الصحيح: كتاب الجنائز: الحديث (1295).ومسلم في الصحيح: كتاب الوصية: الحديث (102/ 5).
(2)
ذكره الثعلبي في الكشف والبيان: ج 2 ص 60 عن مسلم بن صبيح.
(3)
ذكره الثعلبي في الكشف والبيان: ج 2 ص 60 عن أبي أمامة.
(4)
رواه الطبراني في الأوسط: ج 4 ص 22:الحديث (3026).والإمام أحمد في المسند: ج 2 ص 278.وابن ماجة في السنن: كتاب الوصايا: الحديث (2704).وعند أبي داود والترمذي بلفظ: [ستين سنة].وسبب ضعفه شهر بن حوشب إذا تفرّد.
أوّلهم آدم عليه السلام. وهو ما روي عن علي كرّم الله وجهه أنه قال: أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم عند انتصاف النّهار، فسلّمت عليه فردّ عليّ السّلام ثمّ قال:[يا عليّ، هذا جبريل يقرئك السّلام] قلت: وعليه السّلام يا رسول الله، قال:[يا عليّ، يقول لك جبريل: صم من كلّ شهر ثلاثة أيّام؛ يكتب لك بأوّل يوم عشرة آلاف حسنة، وباليوم الثّاني ثلاثون ألف حسنة، وباليوم الثّالث مائة ألف حسنة] فقلت: يا رسول الله، ثواب لي خاصّة أم للنّاس عامّة؟ فقال:[يا عليّ، يعطيك الله هذا الثّواب ولمن يعمل مثل عملك بعدك] قلت: يا رسول الله، وما هي؟ قال:[أيّام البيض؛ ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر]
(1)
.
قال عنترة: قلت لعليّ رضي الله عنه: لأيّ شيء سميت هذه الأيام البيض؟ قال: [لمّا أهبط الله آدم عليه السلام من الجنّة أحرقته الشّمس، فاسودّ جسده، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: يا آدم أتحبّ أن تبيّض جسدك، قال: نعم، قال: صم من الشّهر ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر. فصام آدم عليه السلام أوّل يوم فابيضّ ثلث جسده، وصام اليوم الثّاني فابيضّ ثلثاه، وصام اليوم الثّالث فابيضّ كلّ جسده، فسمّيت أيّام البيض]
(2)
.
قال المفسّرون: فرض الله تعالى على رسوله محمّد صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين صيام يوم عاشوراء وصوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر حين قدم المدينة، فكانوا يصومون إلى أن نزل صوم شهر رمضان قبل قتال بدر بشهر وأيّام.
وقال الحسن: (أراد بالّذي من قبلنا النّصارى، فشبّه صيامنا بصيامهم لاتّفاقهما في الوقت والقدر؛ لأنّ الله تعالى فرض على النّصارى صوم شهر رمضان، فاشتدّ
(1)
ذكره الثعلبي في الكشف والبيان: ج 2 ص 62.
(2)
في الحديث الصحيح عن أصحاب السنن: عن قتادة بن ملحان-ويقال: ابن منهال-:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصوم البيض: ثلاث عشرة؛ وأربع عشرة؛ وخمس عشرة، وقال:[هي كهيئة الدّهر].وللنسائي من حديث جرير مرفوعا: [صيام ثلاثة أيّام من كلّ شهر صيام الدّهر: أيّام البيض صبيحة ثلاث عشرة].والحديث إسناده صحيح. وفي الفتح: ج 4 ص 284:شرح الحديث (1981)؛قال ابن حجر: «قيل: المراد بالبيض الليالي وهي التي يكون فيها القمر من أول الليل إلى آخره» .
ذلك عليهم؛ لأنّهم ربّما كان يأتي في الحرّ الشّديد؛ وكان يضرّهم في أسفارهم؛ فاجتمع رأي علمائهم ورؤسائهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السّنة بين الشّتاء والصّيف، فجعلوه في الرّبيع وزادوا فيه عشرة أيّام كفّارة لما صنعوا؛ فصار أربعين يوما).قال مجاهد:(أصابهم موتان عظيم؛ فقالوا: زيدوا في صيامكم؛ فزادوا عشرا قبل، وعشرا بعد، فصار خمسين يوما).
قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (183)؛أي لكي تتّقوا الأكل والشّرب والجماع في زمان الصّوم. وقيل: معناه لتكونوا أتقياء. وأصل الصيام والصوم في اللغة: الإمساك، يقال: صامت الريح إذا سكنت، وصامت الخيل إذا وقفت وأمسكت عن السير. قال النابغة
(1)
:
خيل صيّام وخيل غير صائمة
…
تحت العجاج وأخرى تعلك اللّجما
ويقال: صام النهار إذا اعتدل وقام قائم الظهيرة؛ لأن الشمس إذا بلغت كبد السماء وقفت وأمسكت عن السّير سويعة. قال امرؤ القيس
(2)
:
فدع ذا وسلّ الهمّ عنك بجسرة
…
ذمول إذا صام النّهار وهجّرا
وقال آخر:
حتّى إذا صام النّهار واعتدل
…
وسال للشّمس لعاب فنزل
ويقال للرجل إذا أمسك عن الكلام: صام، قال الله تعالى:{إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً}
(3)
أي صمتا. فالصوم: هو الإمساك عن المفطرات.
قوله عز وجل: {أَيّاماً مَعْدُوداتٍ؛} يعني شهر رمضان ثلاثين يوما أو تسعة وعشرين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [نحن أمّة أمّيّة لا نحسب ولا نكتب، الشّهر هكذا وهكذا وهكذا] وعقد الإبهام في الثالثة [والشّهر هكذا وهكذا وهكذا] إتمام الثّلاثين
(4)
.
(1)
ينظر: الديوان: ص 112.واللسان: (صوم).
(2)
ينظر: لسان العرب: (صوم).
(3)
مريم 26/.
(4)
رواه البخا ري في الصحيح: كتاب الصوم: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: [لا نكتب]:الحديث-
ونصب (أيّاما) على الظرف؛ أي في أيام؛ وقيل: على خبر ما لم يسمّ فاعله؛ أي كتب عليكم الصيام أياما. وقيل: بإضمار فعل؛ أي صوموا أياما.
قوله تعالى: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ؛} أي فافطر فعدة كقوله: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ}
(1)
تقديره: فحلق أو قصر ففدية؛ فاختصر وتقديره: فعليه عدة.
قراءة أبي عبيد: «(فعدّة)» بالنصب؛ أي فليصم عدة. و «(أخر)» في موضع خفض؛ إلا أنّها لا تنصرف؛ لأنّها معدولة عن جهتها فكان حقّها (أخريات) فلما عدل إلى (فعل) لم يجز مثل عمر وزفر. ومعنى الآية: فليصم عدة من أيام أخر غير أيام مرضه أو سفره.
قوله عز وجل: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ؛} قرأ ابن عباس وعائشة وعطاء وابن جبير وعكرمة ومجاهد «(يطوّقونه)» بضمّ الياء وفتح الطاء والواو والتشديد؛ أي يكلّفونه. وروي عن مجاهد وعكرمة بفتح الياء وتشديد الطاء والواو؛ أي يطّوّقونه بمعنى يكلّفونه. وروي عن ابن عبّاس أيضا أنه قرأ:
«(يطّيّقونه)» بفتح الياء وتشديد الطاء والياء الثانية وفتحها بمعنى يطيقونه. يقال: طاق وأطاق بمعنى واحد.
قوله تعالى: {(فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ)} قرأ أهل المدينة والشام «(فدية طعام)» مضافا إلى «(مساكين)» جمعا؛ أضاف الطعام إلى الفدية وإن كانا واحدا لاختلاف اللفظين، كقوله تعالى:{وَحَبَّ الْحَصِيدِ}
(2)
.وقولهم: مسجد الجامع، وربيع الأوّل. وقرأ ابن عبّاس:«(طعام مسكين)» على الواحد، وهي قراءة الباقين غير نافع، فمن وحّد فمعناه لكل يوم طعام مسكين واحد، ومن جمع ردّة إلى الجمع؛ أي عليه إطعام مساكين فدية أيّام يفطر فيها.
(4)
- (1913).ومسلم في الصحيح: كتاب الصيام: باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال: الحديث (1080/ 15) واللفظ له.
(1)
البقرة 196/
(2)
ق 9/.
ومعنى الآية: {(وَعَلَى الَّذِينَ)} يطيقون الصوم فلم يصوموا {(فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ)} وذلك أنه كان يرخص في الصوم الأول لمن يطيق الصوم أن يفطر ويتصدق مكان كلّ يوم على مسكين؛ ثم نسخ بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
(1)
.
قوله عز وجل: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ؛} قرأ يحيى بن وثّاب وحمزة والكسائيّ: «(يطّوّع)» بالياء وتشديد الطاء وجزم العين على معنى يتطوّع. وقرأ الآخرون بالتاء وفتح العين وتخفيف الطاء على الفعل الماضي. ومعنى الآية: فمن يتطوّع خيرا؛ أي زاد على طعام مسكين واحد فهو خير له؛ {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ؛} من أن تطعموا وتفطروا، {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (184)؛ثواب الله في الصوم.
واختلف العلماء في تأويل هذه الآية وحكمها؛ فقال قوم: كان ذلك في أوّل ما فرض الله الصوم، وذلك أن الله عز وجل لمّا نزّل فرض صيام شهر رمضان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه بذلك، شقّ عليهم الصوم؛ وكانوا قوما لم يتعوّدوا الصوم؛ فخيّرهم الله تعالى بين الصيام والإطعام؛ فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وافتدى بالطعام. ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ونزلت العزيمة في إيجاب الصّوم. وعلى هذا القول معاذ بن جبل وأنس بن مالك وسلمة بن الأكوع وابن عمر وعلقمة وعكرمة والشعبي والزهري وإبراهيم والضّحاك. وهي إحدى الروايات عن ابن عبّاس
(2)
.
وقال آخرون: بل هذا خاصّ للشّيخ الكبير والعجوزة الكبيرة اللذين يطيقان الصّوم ولكن يشقّ عليهما؛ رخص لهما إن شاءا أفطرا مع القدرة ويطعما لكلّ يوم مسكينا؛ ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وثبتت الرخصة للذين لا يطيقونه. وهذا قول الربيع بن أنس ورواية سعيد بن جبير عن ابن عبّاس، قال الحسن: (هذا في المريض، كان إذا وقع عليه اسم المرض وكان يستطيع
(1)
البقرة 185/.
(2)
نقل جميع هذه الروايات وأخرجها الطبري في جامع البيان: النصوص (2246 - 2259).
الصّيام، فهو بالخيار إن شاء صام وإن شاء أفطر وأطعم حتّى نسخ ذلك)
(1)
.
فعلى هذه الأقاويل: الآية منسوخة؛ وهذا قول أكثر الفقهاء والمفسّرين. وقال قوم: لم تنسخ هذه ولا شيء منها، وإنّما تأويلها: وعلى الذين يطيقونه في حال شفائهم وفي حال صحّتهم وقوّتهم، ثم عجزوا عن الصّوم؛ فدية طعام مسكين؛ وجعلوا هذه الآية محكمة؛ وهذا قول سعيد بن المسيّب والسديّ؛ وإحدى الروايات عن ابن عبّاس. فجملة ما ذكرنا من الأقاويل على قراءة من قرأ «(يطيقونه)» من الإطاقة وهي القراءة الصحيحة التي عليها عامة أهل القرآن ومصاحف البلدان.
وأما على قراءة «(يطّوّقونه)» فيؤوّلونه أنه الشيخ الكبير والعجوزة الكبيرة والمريض الذي لا يرجى برؤه؛ فهم مكلفون ولا يطيقونه، فلهم أن يفطروا ويطعموا مكان كلّ يوم مسكينا، وقالوا: الآية محكمة. قوله تعالى: {(وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ)} أي خير لكم من أن تفطروا وتطعموا. قوله تعالى: {(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)} أي إن كنتم تعلمون ثواب الله تعالى في الصّوم.
ثم بيّن الله تعالى أيام الصيام بقوله عز وجل: {شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ؛} قرأ العامّة «(شهر)» بالرفع على معنى أتاكم شهر رمضان. وقال الفرّاء: (ذلكم شهر رمضان).وقيل: ابتداء وما بعده خبر. وقال الأخفش: (هو شهر رمضان).وقال الكسائيّ: (كتب عليكم شهر رمضان).
وقرأ الحسن ومجاهد: «(شهر رمضان)» نصب على معنى صوموا شهر رمضان.
وقال الأخفش: (نصب على الظّرف؛ أي كتب عليكم الصّيام شهر رمضان)
(2)
.
وقيل: نصب على الإغراء؛ أي التزموا شهر رمضان. وقيل: نصب على البدل من قوله: {(أَيّاماً مَعْدُوداتٍ)} .
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2260).
(2)
في معاني القرآن للأخفش: ج 1 ص 352؛ قال الأخفش: «أو جعله ظرفا على كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ شَهْرُ رَمَضانَ أي في شهر رمضان و (رَمَضانَ) في موضع جر لأن (شَهْرُ) أضيف إليه ولكنه لا ينصرف» .
وسمي الشّهر شهرا لشهرته. واختلفوا في رمضان؛ فقال بعضهم: هو اسم من أسماء الله؛ فيقال: شهر رمضان كما يقال: شهر الله؛ ويدلّ على ذلك ما روي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تقولوا رمضان، انسبوه كما نسبه الله عز وجل في القرآن فقال: شهر رمضان]
(1)
.
قال أبو عمر: (وإنّما سمّي رمضان لأنّه رمضت فيه الفصال من الحرّ).وقيل:
سمي بذلك لأنه يرمض الذنوب؛ أي يحرقها. وقيل: لأن القلوب تأخذ فيه من حرارة الموعظة كما يأخذ الرمل والحجارة من حرّ الشمس. وقال الخليل: (هو مأخوذ من الرّمض؛ وهو مطر يأتي في الخريف؛ سمّي به هذا الشّهر لأنّه يغسل الأبدان من الآثام غسلا ويطهّر قلوبهم تطهيرا).
قوله تعالى: {(الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)} روي أن عطية بن الأسود قال لابن عباس: إنه قد وقع الشكّ في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وقوله: {إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} و {إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ}
(2)
وقد نزل في سائر الشّهور قال الله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً}
(3)
؟ فقال: (أنزل القرآن جملة واحدة من اللّوح المحفوظ في ليلة القدر في شهر رمضان، فوضع في بيت العزّة في سماء الدّنيا، ثمّ نزل به جبريل عليه السلام على
(1)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الصيام: باب ما روي في كراهية قول القائل: جاء رمضان، وذهب رمضان: الحديث (7996).وقال: «وفيه أبو معشر، وهو نجيح السندي، ضعفه يحيى بن معين، وكان يحيى القطان لا يحدث عنه، وكان عبد الرحمن بن مهدي يحدث عنه. والله أعلم» .وفي الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة: ص 87؛قال الشوكاني: «رواه ابن عدي عن أبي هريرة مرفوعا، وفي إسناده محمّد بن أبي معشر، ورواه تمام في فوائده من حديث ابن عمر من غير طريق أبي معشر، وأخرجه ابن النجار من حديث عائشة، وكلها طرق لا تصح، فيها انقطاع أو سند مظلم» .
(2)
الدخان 3/.
(3)
الإسراء 106/.
النّبيّ عليه السلام نجوما عشرين سنة، وذلك قوله عز وجل:{فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ}
(1)
)
(2)
.
وقيل: كان ينزل في كلّ شهر من شهر رمضان إلى سماء الدّنيا ما كان ينزل في تلك السّنة، فنزل من اللوح المحفوظ في عشرين شهرا، ونزل به جبريل في عشرين سنة. وقال بعضهم: كان ابتداء إنزاله على النبيّ صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان، فأضيف إنزال الكلّ إلى ذلك.
وعن واثلة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أنزلت صحف إبراهيم في ثلاث ليال مضين من شهر رمضان، وأنزلت التّوراة في ستّ ليال مضين من شهر رمضان، وأنزل الإنجيل في ثلاث عشرة مضين من رمضان، وأنزل الزّبور في ثماني عشرة ليلة مضت من رمضان، وأنزل الفرقان على محمّد صلى الله عليه وسلم في الرّابعة والعشرين من شهر رمضان]
(3)
.وروي أن التوراة أنزلت في اثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان، والإنجيل في ثماني عشرة من رمضان.
قوله تعالى: {هُدىً لِلنّاسِ؛} أي أنزل الفرقان هاديا للناس من الضّلالة، وانتصب {(هُدىً)} على القطع؛ لأنّ القرآن معرفة وهدى نكرة. قوله تعالى:
{وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ؛} أي ودلالات واضحات من الهدى والفرقان بين الحقّ والباطل. وقيل: معناه: بيّنات من الحلال والحرام؛ والحدود والأحكام.
(1)
الواقعة 75/.
(2)
في الدر المنثور: ج 1 ص 456؛ قال السيوطي: «أخرج ابن جرير ومحمد بن نصر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في الأسماء والصفات قال:
…
وذكره».
(3)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 22 ص 62:الحديث (158).والإمام أحمد في المسند: ج 4 ص 107.وفي مجمع الزوائد: ج 1 ص 197:باب التاريخ؛ قال الهيثمي: «رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط، وفيه عمران بن داود القطان، ضعفه يحيى، ووثقه ابن حبان، وقال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث، وبقية رجاله رجال ثقات».وفي المخطوط ساق الحديث عن أبي ذر، والصحيح عن واثلة. والله أعلم.
وعن سعيد بن المسيب عن سلمان رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان؛ فقال: [يا أيّها النّاس، قد أظلّكم شهر عظيم؛ شهر مبارك؛ شهر فيه ليلة القدر خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة؛ وقيام ليلة تطوّعا، فمن تقرّب بخصلة من خصال الخير كان كمن أدّى فيه فريضة، ومن أدّى فيه فريضة كان كمن أدّى سبعين فريضة فيمن سواه. وهو شهر الصّبر، والصّبر ثوابه الجنّة، وشهر المواساة، وشهر يزاد فيه رزق المؤمن، وشهر أوّله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النّار، من فطّر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبة من النّار وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيئا.
قالوا: يا رسول الله، ليس كلّنا يجد ما يفطّر الصّائم؟ فقال صلى الله عليه وسلم:[يعطي الله هذا الثّواب من فطّر صائما على مذقة لبن أو تمر أو بشربة ماء، ومن أشبع فيه صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يضمأ بعدها أبدا حتّى يدخل الجنّة، وكان كمن أعتق رقبة، ومن خفّف عن مملوكه فيه غفر الله له فيه وأعتقه من النّار. فاستكثروا فيه من أربع خصال؛ خصلتان ترضون بهما ربّكم، وخصلتان لا غناء لكم عنهما: فأمّا اللّتان ترضون بهما ربّكم: فشهادة أن لا إله إلاّ الله، وتستغفرونه. وأمّا اللّتان لا غناء لكم عنهما: فتسألون الله الجنّة، وتعودون به من النّار]
(1)
.
وعن أبي سعيد الخدري؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنّ أبواب السّماء وأبواب الجنّة لتفتح أوّل ليلة من شهر رمضان، فلا تغلق إلى آخر ليلة منه، وليس من عبد يصلّي في ليلة منها إلاّ كتب الله له بكلّ سجدة ألف حسنة وسبعمائة حسنة، وبنى له بيتا في الجنّة من ياقوته حمراء له سبعون ألف باب، لكلّ باب منها مصراعان من ذهب. فإذا صام أوّل يوم من شهر رمضان غفر الله له كلّ ذنب إلى آخر يوم من رمضان، وكان كفّارة إلى مثله، وله بكلّ يوم يصومه قصر في الجنّة له ألف باب من ذهب، واستغفر له سبعون ألف ملك من غدوّه إلى أن تورى بالحجاب، وله بكلّ
(1)
في الدر المنثور: ج 1 ص 446؛ قال السيوطي: «وأخرج العقيلي وضعفه، وابن خزيمة في صحيحه، والبيهقي والخطيب والأصبهاني في الترغيب، عن سلمان الفارسي
…
وذكره».
سجدة يسجدها من ليل أو نهار شجرة يسير الرّاكب في ظلّها مائة عام لا يقطعها]
(1)
.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا كان أوّل ليلة من شهر رمضان، نادى الجليل جلّت قدرته وعظمته: يا رضوان حلّي جنّتي وزيّنها للصّائمين من أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم ولا تغلقها حتّى ينقضي شهرهم. ثمّ ينادي: يا مالك أغلق أبواب جهنّم عن الصّائمين من أمّة محمّد، ثمّ لا تفتحها حتّى ينقضي شهرهم. ثمّ ينادي: يا جبريل انزل إلى الأرض فغلّ مردة الشّياطين عن أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم حتّى لا يفسدوا عليهم صيامهم. ولله عز وجل في كلّ يوم عند طلوع الشّمس وعند وقت الإفطار عتقا يعتقهم من النّار عبيد وإماء، وله في كلّ سماء ملك طرفه تحت العرش وقوائمه في تخوم الأرض السّابعة، له جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، ينادي: هل من تائب يتاب عليه؟ هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل يعطى سؤله؟ ولو أذن الله للسّموات والأرض أن يتكلّما لبشّرتا من صام رمضان الجنّة]
(2)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: [نوم الصّائم عبادة، وصمته تسبيح، وعمله مضاعف]
(3)
.
قوله عز وجل: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ،} قرأ العامة بجزم اللام. وقرأ الحسن والأعرج بكسر اللام، وهي لام الأمر، وحقّها الكسر إذا انفردت؛ كقوله تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}
(4)
؛وإذا وصلت بشيء ففيه وجهان:
الجزم والكسر، وإنّما الوصل بثلاثة أحرف؛ بالفاء كقوله تعالى:{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا}
(1)
في الدر المنثور: ج 1 ص 450؛ قال السيوطي: «وأخرج البيهقي والأصبهاني
…
وذكره».
(2)
في لسان الميزان: ج 1 ص 462:الرقم (1424):ترجمة أحرم بن حوشب: ذكره ابن حجر وقال: «قال يحيى: كذاب خبيث. وقال البخاري ومسلم والنسائي: متروك الحديث. وقال الدارقطني: منكر الحديث. وقال ابن حبان في الثقات: كان يضع الحديث. فالحديث ضعيف» . ذكره ابن الجوزي في الموضوعات: ج 2 ص 187،ط 1.والسيوطي في اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة: ج 2 ص 52 - 53.
(3)
أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء: ج 5 ص 83 عن ابن مسعود رضي الله عنه. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان: باب في الصوم: الحديث (3937 و 3939) عن عبد الله بن أبي أوفى، وقال:«معروف ابن حسان ضعيف، وسليمان بن عمرو النخعي أضعف منه» .
(4)
الطلاق 7/.
{الْبَيْتِ}
(1)
،وبالواو كقوله تعالى:{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا}
(2)
وب (ثمّ) كقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}
(3)
.
واختلف العلماء في معنى هذه الآية؛ فقال بعضهم: معناها: فمن شهد بالغا عاقلا مقيما صحيحا مكلفا فليصمه، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال قوم: معناه:
فمن دخل عليه شهر رمضان وهو مقيم في داره فليصم الشهر كله غاب بعده فسافر أو أقام فلم يبرح، قاله السديّ والنخعي. قال قتادة:(إنّ عليّا كان يقول: إذا أدركه رمضان وهو مقيم ثمّ سافر فعليه الصّوم).
قالوا: والمستحبّ له أن لا يسافر إذا أدركه رمضان مقيما إن أمكنه حتى ينقضي الشهر. وروي في ذلك عن إبراهيم بن طلحة (أنّه جاء إلى عائشة رضي الله عنها يسلّم عليها، فقالت له: فأين تريد؟ قال: أريد العمرة، قالت: جلست حتى إذا دخل عليك شهر رمضان خرجت فيه؟ قال: قد خرج رحلي، قالت: اجلس حتّى إذا أفطرت فاخرج، فلو أدركني رمضان وأنا ببعض الطّريق لأقمت له)
(3)
.
وقال آخرون: معناه: {(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)} أي ما شهد منه وكان حاضرا؛ فإن سافر فله الإفطار إن شاء، قاله ابن عبّاس وعامّة أهل التفسير؛ وهو أصحّ الأقاويل؛ ويدل عليه ما روى ابن عباس؛ قال:[خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح صائما في رمضان حتّى إذا كان بالكديد أفطره]
(4)
.وعن الشعبيّ: (أنه سافر في رمضان فأفطر عند باب الجسر).وعن أبي ميسرة: (أنه خرج في رمضان حتى إذا بلغ القنطرة دعا بماء فشرب).
قوله عز وجل: {وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ؛} أي من كان مريضا أو مسافرا فأفطر فعليه قضاء ما أفطر فيه.
(1)
قريش 3/.
(2)
الحج 29/.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2325).
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (2334 و 2335).والكديد: موضع بالحجاز. ويوم الكديد من أيام العرب، وهو موضع على اثنين وأربعين ميلا من مكة. معجم البلدان:(الكديد).
واختلفوا في المرض الذي أباح الله فيه الإفطار؛ فقال قوم: هو كلّ مرض يسمى مرضا. قال طريف بن تمّام: (دخلت على ابن سيرين في رمضان وهو يأكل، فلمّا فرغ قال: إنّه وجعت إصبعي هذه)
(1)
.وقال آخرون: هو كلّ مرض كان الأغلب من أمر صاحبه بالصوم الزيادة في علته زيادة غير محتملة. وقال حسن وإبراهيم: (إذا لم يستطع المريض أن يصلّي الفرائض فله أن يفطر)
(2)
.والأصل فيه أنه إذا لم يمكنه الصوم وأجهده أفطر، وإذا لم يجهده فهو بمعنى الصحيح الذي يطيق الصوم.
وقوله تعالى: {(أَوْ عَلى سَفَرٍ)} واختلفوا في صيام المسافر، فقال قوم: الإفطار في السفر عزيمة واجبة وليس برخصة، فمن صام في السّفر فعليه القضاء إذا أقام؛ وهو قول أبي هريرة وابن عبّاس وعروة بن الزبير والضحاك، وتمسكوا بقوله صلى الله عليه وسلم:[ليس من البرّ الصّيام في السّفر]
(3)
.وعن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: (الصّائم في السّفر كالمفطر في الحضر)
(4)
.
وقال آخرون: الإفطار في السفر رخصة من الله عز وجل؛ والفرض الصوم، فمن صام ففرضه أدّى؛ ومن أفطر فبرخصة الله أخذ، ولا قضاء على من صام إذا أقام. وهذا هو الصحيح؛ وعليه عامة الفقهاء؛ يدلّ عليه ما روى جابر قال:[كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فمنّا المفطر ومنّا الصّائم؛ فلم يكن بعضنا يعيب ببعض]
(5)
.
(1)
هو طريف بن تمّام العطاردي، أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2340).
(2)
أخرجهما الطبري في جامع البيان: النص (2337 و 2339) عن الحسن، والنص (2338) عن إبراهيم.
(3)
رواه البخاري في الصحيح: كتاب الصوم: باب (36):الحديث (1946) عن جابر رضي الله عنه. ومسلم في الصحيح: كتاب الصيام: الحديث (1115/ 92).والنسائي في السنن: كتاب الصيام: الباب (46):ج 4 ص 175.
(4)
رواه النسائي في السنن: كتاب في الصيام: باب (53):ج 4 ص 183.وابن ماجة في السنن: كتاب الصيام: باب (11):الحديث (1666).
(5)
الحديث رواه مسلم في الصحيح: كتاب الصيام: باب جواز الصوم والفطر: الحديث (1117/ 97)،من طريقين عن جابر وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما. والطبري في جامع البيان: الحديث (2336).
وعن حمزة بن عمرو أنه قال: يا رسول الله، إنّي أجد فيّ قوّة على الصّوم في السّفر، فهل عليّ جناح؟ قال:[هي رخصة من الله عز وجل، فمن أخذها فحسن، ومن أحبّ أن يصوم فلا جناح عليه]
(1)
.
فأمّا قوله صلى الله عليه وسلم: [ليس من البرّ الصّيام في السّفر] فإنّ أصله ما روى جابر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ برجل في ظلّ شجرة يرشّ عليه الماء، فقال:[ما بال صاحبكم هذا؟] قالوا: يا رسول الله، هو صائم. فقال:[ليس من البرّ أن تصوموا في السّفر، فعليكم برخصة الله تعالى الّتي رخّص لكم فاقبلوها]
(2)
.وكذلك تأويل قوله عليه السلام:
[الصّيام في السّفر، كالفطر في الحضر] يدلّ عليه حديث مجاهد: (عن ابن عمر أنّه مرّ برجل ينضح عليه الماء في وجهه وهو صائم، فقال له: أفطر ويحك! فإنّي أراك إن متّ على هذا دخلت النّار)
(3)
.
والذي يؤيّد ما قلناه ما روي عن عروة وسالم: (أنّهما كانا عند عمر بن عبد العزيز إذ هو أمير على المدينة، فتذاكروا الصّوم في السّفر، فقال سالم: كان ابن عمر لا يصوم في السّفر. وقال عروة: كانت عائشة تصوم في السّفر، فقال سالم: إنّما أحدّثك عن ابن عمر، فقال عروة: إنّما أحدّثك عن عائشة، فارتفعت أصواتهما، فقال عمر بن عبد العزيز: اللهمّ عفوا إن كان يسرا فصوموا وإن كان عسرا فأفطروا)
(4)
.
ثم اختلف في المستحب؛ فقال قوم: الصوم أفضل؛ وهو قول معاذ بن جبل وأنس وإبراهيم ومجاهد؛ وروي أن أنس بن مالك أمر غلامه أو غلاما له بالصوم في السفر، فقيل له في هذه الآية. فقال:(نزلت ونحن نرتحل يومئذ جياعا وننزل على غير شبع، فمن أفطر فرخصته، ومن صام فالصّوم أفضل)
(5)
.
(1)
رواه مسلم في الصحيح: كتاب الصيام: باب التخيير في الصوم والفطر: الحديث (1121/ 107).والطبري في جامع البيان: الحديث (2368).
(2)
تقدم.
(3)
أصله أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (2361) وما بعده.
(4)
رواه الطبري في جامع البيان: النص (2350).
(5)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الصيام: الأثر (8262).
وقال آخرون: المستحبّ الإفطار لما روي عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكّة عام الفتح في رمضان، فصام حتّى إذا بلغ كراع الغميم
(1)
فصام النّاس، فبلغه أنّ النّاس قد شقّ عليهم الصّيام، فدعا بقدح ماء بعد العصر فشرب والنّاس ينظرون، فأفطر بعضهم وصام بعضهم، فبلغه أنّ ناسا صاموا، فقال:[أولئك العصاة]
(2)
.
وعن يعلى بن يوسف؛ قال: سألت ابن عمر عن الصّوم في السّفر، فقال:
(أرأيت لو تصدّقت على رجل فردّها عليك، ألم تغضب؟) قلت: بلى، قال:(فإنّها صدقة من الله تعالى تصدّق بها عليكم)
(3)
.
قوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ؛} أي حين رخّص الإفطار للمريض والمسافر؛ {وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ؛} أي تكليف الصوم في المرض والسفر.
قرأ يزيد بن القعقاع: «(اليسّر)» و «(العسّر)» مثقّلين في جميع القرآن. وقرأ الباقون بالتخفيف؛ وهو الاختيار وهما لغتان جيدتان.
قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ؛} قرأ أبو بكر: بتشديد الميم. وقرأ الباقون بالتخفيف؛ وهو الاختيار لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}
(4)
.والواو في قوله: {(وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ)} واو العطف؛ واللام لام (كي)،تقديره:{(يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ)} أي يريد لأن يسهّل عليكم {(وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ)} .
(1)
كراع الغميم: اسم موضع بين مكّة والمدينة؛ والكراع: جانب مستطيل من الحرّة، تشبيها بالكراع، وهو ما دون الرّكبة من السّاق. والغميم: واد بالحجاز.
(2)
رواه مسلم في الصحيح: كتاب الصيام: باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر: الحديث (1114/ 90).والترمذي في الجامع: كتاب الصوم: باب ما جاء في كراهية الصوم في السفر: الحديث (710).
(3)
في الدر المنثور: ج 1 ص 461؛ قال السيوطي: «وأخرج عبد بن حميد عن ابن عمر: .... وذكره» .
(4)
المائدة 3/.
وقال الزجّاج: (معناه: فعل الله ذلك ليسهّل عليكم ما أفطرتم في مرضكم وسفركم، إذا برأتم وأقمتم فقضيتموها)
(1)
.وقيل: ومعنى (ولتكملوا العدّة) أي ولتتمّموا مدة ما أفطرتم بالمرض والسفر. وقيل: معناه عدة ثلاثين يوما إذا غمّ عليكم هلال شوال.
قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ؛} أي ولتعظّموا الله بقلوبكم وأفواهكم وأعمالكم على ما هداكم لدينه وشريعته ووفّقكم ورزقكم شهر رمضان، وخصّكم به دون سائر أهل الملل.
ويقال: أراد بذلك التكبير في صلاة عيد الفطر. وقال بعضهم: أراد به التكبير ليلة الفطر، قال ابن عباس:(حقّ على المسلمين إذا رأوا هلال شوّال أن يكبروا)
(2)
.
وروي عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة وغيرهما: (أنّهم كانوا يكبرون ليلة الفطر يجهرون بالتّكبير).
قوله تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (185)؛أي لكي تشكروا الله على الرخصة ونعمة الهدى.
وقوله عز وجل: {وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ؛} إلا أنه اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية؛ فقال ابن «عباس»
(3)
: (نزلت في عمر رضي الله عنه وأصحابه حين أصابوا من أهليهم في ليالي رمضان) وستأتي قصّتهم إن شاء الله تعالى.
وروى الكلبيّ عن أبي صالح عنه قال: (قال يهود المدينة: يا محمّد، كيف يسمع ربّنا دعاءنا وأنت تزعم بيننا وبين السّماء مسيرة خمسمائة عام؛ وأنّ غلظ كلّ سماء مثل ذلك؟ فأنزل الله هذه الآية).وقال عطاء وقتادة: (لمّا نزل قوله تعالى:
(1)
ينظر: معاني القرآن وإعرابه: ج 1 ص 220.
(2)
رواه الطبري في جامع البيان: النص (2380).
(3)
بياض في أصل المخطوطة، لم يذكر الاسم.
{اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}
(1)
قال رجل: يا رسول الله! كيف ندعو ربّنا؟ ومتى ندعوه؟ فأنزل الله هذه الآية)
(2)
.وقال الضحّاك: (سأل بعض الصّحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أقريب ربّنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله هذه الآية).
قال أهل المعاني: فيه إضمار كأنه قال: فقل لهم يا محمّد وأعلمهم أني قريب منهم بالعلم.
قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ؛} فإن قيل: ما وجه هذه الآية وقوله: {اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقد يدعوه كثير من خلقه فلا يجيب دعاءه؟! قلنا: اختلف العلماء في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى الدعاء هنا الطاعة، ومعنى الإجابة الثّواب. كأنه قال: أجيب دعوة الدّاعي بالثواب إذا أطاعني.
وقيل: معناه الخصوص؛ وإن كان اللفظ عامّا، أي أجيب دعوة الدّاعي إن شئت
(3)
،وأجيب دعوة الداعي إذا وافق القضاء، وأجيب دعوة الداعي إذا كانت الإجابة له خيرا. ويدلّ عليه ما روي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما من مسلم دعا الله بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إمّا أن يعجّل دعوته؛ وإمّا أن يدّخر له في الآخرة؛ وإمّا أن يدفع عنه من السّوء مثلها]،قالوا: يا رسول الله إذن نكثر؟ قال: [الله أكثر]
(4)
.
(1)
غافر 60/.
(2)
رواهما الطبري في جامع البيان: النصوص (2383) و (2388).
(3)
في أصل المخطوط: الورقة (40): (إذا تثبت).وهو تصحيف، وقد ضبطته على تفسير الثعلبي: ج 2 ص 75.وعلى ما يبدو من متابعته أنه ينقل كثيرا من الطبراني وربما يختصر أو يضيف الاسناد لمروياته.
(4)
رواه الإمام أحمد في المسند: ج 3 ص 18.وابن عبد البر في التمهيد: آخر باب زيد بن أسلم: ج 2 ص 652:النص (51/ 121).وفي الجامع لأحكام القرآن: ج 2 ص 310؛ قال القرطبي: «خرجه أبو عمر بن عبد البر، وصححه أبو محمّد عبد الحق، وهو في الموطأ منقطع السند. قال أبو عمر: وهذا الحديث يخرج في التفسير المسند» .وفي مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: ج 10 ص 148؛قال الهيثمي: «رواه أحمد وأبو يعلى بنحوه، والبزار والطبراني في الأوسط، ورجال أحمد وأبي يعلى وأحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح، غير علي بن علي الرفاعي، وهو ثقة» .
و «قال» بعضهم: هو عامّ وليس فيه أكثر من إجابة الدعوة؛ فأما إعطاء الأمنية وقضاء الحاجة، فليس بمذكور. وقد يجيب السيد عبده؛ والوالد ولده، ولا يعطيه سؤاله؛ فالإجابة كائنة لا محالة عند حصول الدعوة؛ لأن قوله: أجيب وأستجيب هو خبر؛ والخبر لا يعترض عليه النسخ؛ لأنه إذا نسخ صار المخبر كذّابا، فتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
ودليل هذا التأويل ما روى ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [من فتح له باب في الدّعاء فتحت له أبواب الإجابة]
(1)
.وأوحى الله إلى داود عليه السلام: [قل للظّلمة لا يدعوني، فإنّي أوجبت على نفسي أن أجيب من دعاني؛ وإنّي إذا أجيب الظّالمين لعنتهم]
(2)
.وقيل: إن الله تعالى يجيب دعاء المؤمن في الوقت، إلا أنه يؤخر إعطاء مراده ليدعوه فيسمع صوته. يدل عليه ما روى جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنّ العبد ليدعو الله تعالى وهو يجيبه؛ فيقول: يا جبريل اقض لعبدي هذا حاجته وأخّرها؛ فإنّي أحبّ أن لا أزال أسمع صوته. وإنّ العبد ليدعو الله وهو يبغضه؛ فيقول: يا جبريل اقض لعبدي هذا حاجته وأعجلها؛ فإنّي أكره أن أسمع صوته]
(3)
.
وبلغنا عن يحيى بن سعيد قال: «رأيت ربّ العزّة في المنام فقلت: يا رب، كم أدعوك فلم تستجب لي؟ فقال: يا يحيى، إنّي أحبّ أن أسمع صوتك» .
وقال بعضهم: إن للدعاء آدابا وشرائط هي أسباب الإجابة ونيل الأمنية، فمن راعاها واستكملها كان من أهل الإجابة، ومن أغفلها وأخلّ بها فهو من أهل الاعتداء في الدعاء. وقيل: ما من أحد يدعو الله تعالى على ما توجبه الحكمة إلا وهو يجيب دعاءه. والدعاء على شرط الحكمة أن يقول: اللهم افعل لي كذا، أو كذا إن لم يكن مفسدة في ديني وفيما يرضيك عني.
(1)
رواه ابن أبي شيبة في المصنف: ج 6 ص 22:الحديث (29159).والترمذي في الجامع: كتاب الدعوات: الحديث (3548)،وقال:«هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن ابن أبي بكر القرشي، وهو ضعيف في الحديث، ضعّفه بعض أهل العلم من قبل حفظه» .
(2)
ذكره أيضا الثعلبي في الكشف والبيان: ج 2 ص 75.
(3)
كنز العمال: النص (3274) عن أنس وجابر معا، وعزاه إلى تهذيب تاريخ ابن عساكر، وقال: وفيه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، متروك.
ويحكى أن إبراهيم بن أدهم رحمه الله قيل له: ما بالنا ندعو الله عز وجل فلا يستجيب لنا؟ فقال: (لأنّكم عرفتم الله فلم تطيعوه؛ وعرفتم رسوله فلم تتّبعوه؛ وعرفتم القرآن فلم تعملوا به؛ وأكلتم نعمة الله فلم تؤدّوا شكرها؛ وعرفتم الجنّة فلم تطلبوها؛ وعرفتم النّار فلم تهربوا منها؛ وعرفتم الشّيطان فوافقتموه؛ وعرفتم الموت فلم تستعدّوا له؛ ودفنتم الأموات فلم تعتبروا بهم؛ وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب النّاس).
قوله عز وجل: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي؛} أي فليجيبوا لي بالطاعة؛ يقال:
أجاب واستجاب بمعنى. قال الشاعر:
وداع دعاء من يجيب إلى النّداء
…
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وقال رجاء الخرسانيّ
(1)
: (معناه فليدعوني).والإجابة من الله تعالى الإعطاء؛ ومن العبد الطّاعة. وفي بعض التفاسير: الاستجابة أن تقول في بعض صلاتك: لبّيك اللهمّ لبّيك
…
إلى آخر التلبية.
وقوله تعالى: {وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (186)؛الإيمان أن تقول: آمنت بالله وكفرت بالجبت والطاغوت؛ وعدك حقّ؛ ولقاؤك حقّ؛ وأشهد أنك واحد فرد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد؛ وأشهد أن الساعة آتية لا ريب فيها؛ وأنك تبعث من في القبور.
قال ابن عباس: (ما تركت هذه الكلمات بعد صلاة بعد ما نزلت هذه الآية).
وقال الكلبيّ: (ما تركتها منذ أربعين سنة).فعلى هذا معنى الاستجابة: الإجابة بالطاعة والانقياد في كلّ ما ألزمه؛ وقوله: {(لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)} أي ليكونوا على رجاء الرّشد في مصالح الدّنيا والآخرة.
(1)
في هامش المخطوط كتب: هو مدفون بجيلة؛ وله مقام بها وأوقافه كثيرة؛ له قرى ومزارع وجواميس وزروع وكروم وبساتين وغير ذلك ما يبلغ في كل سنة ألف دينار كبيرة وخمسمائة دينار.
قوله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ؛} قال المفسّرون: كان الرجل في ابتداء الأمر إذا أفطر أحلّ له الطعام والشراب والجماع إلى أن يصلّي العشاء الأخيرة أو ترقّد قبلها، فإذا صلّى العشاء ورقد قبل الصلاة ولم يفطر، حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى مثلها من القابلة. ثم إنّ عمر رضي الله عنه واقع أهله بعد ما صلّى العشاء؛ فلمّا اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه، ثمّ أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقال: يا رسول الله، إنّي أعتذر إليك وإلى الله من نفسي هذه الخاطئة، إنّي راجعت أهلي بعد ما صلّيت صلاة العشاء الأخيرة؛ فوجدت رائحة طيّبة فسوّلت لي نفسي فجامعت أهلي، فهل لي من رخصة؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:[ما كنت جديرا بذلك يا عمر!] فقام رجال فاعترفوا بالّذي كانوا صنعوا بعد العشاء، فنزلت في عمر وأصحابه {(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ)}
(1)
أي أبيح لكم ليلة الصّيام الرّفث.
قرأ ابن مسعود والأعمش: «(الرّفوث)» برفع الواو والفاء وبواو. والرفوث والرفث كناية عن الجماع. قال ابن عباس: (إنّ الله حييّ كريم؛ فكلّ ما ذكر الله تعالى في القرآن من المباشرة والملامسة والإفضاء والدّخول، فإنّما يريد به الجماع)
(2)
.
قال الشاعر:
فضلنا هنالك في نعمة
…
وكلّ اللّذاذة غير الرّفث
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2415) عن ابن عباس، والنص (2413) عن كعب ابن مالك. وفي الدر المنثور: ج 1 ص 476؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم» . وروي عن صرمة بن قيس؛ أخرجه أبو داود في السنن: كتاب الصوم: الحديث (2314).وفي الجامع لأحكام القرآن: ج 2 ص 317؛ قال القرطبي: «قال ابن العربي: يدلّ على أن سبب الآية جماع عمر لا جوع قيس؛ لأنه لو كان السبب جوع قيس لقال: فالآن كلوا، فابتدأ به لأنه المهم الذي نزلت الآية لأجله» . قاله ابن العربي في أحكام القرآن: ج 1 ص 91.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان بلفظ قريب منه: النص (2425) عن عطاء وعن ابن عباس. وفي الدر المنثور: ج 1 ص 478؛ قال السيوطي: «وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في سننه عن ابن عباس
…
وذكره».
وقال القتيبيّ: (الرّفث هو الإفصاح عمّا تحبّ أن يكنى به عن ذكر النّكاح؛ وأصله الفحش والقول القبيح).وقال الزجّاج: (الرّفث كلّ كلمة جامعة لكلّ ما يريده الرّجال من النّساء)
(1)
.
قوله عز وجل: {هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ؛} أي هن سكن لكم وأنتم سكن لهن؛ قاله أكثر المفسّرين. ونظيره قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً}
(2)
أي سكنا، ودليله قوله تعالى:{وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها}
(3)
.
وقال أهل المعاني: اللّباس: الشّعار الذي يلي الجلد من الثياب؛ فسمي كل واحد من الزّوجين لباسا؛ لتجرّدهما عند النوم واجتماعهما في ثوب واحد؛ وانضمام جسد كلّ واحد منهما إلى جسد صاحبه، حتى يصير كلّ واحد منهما لصاحبه كالثّوب الذي يلبسه. وقال بعضهم: يقال: لما ستر الشيء وواراه لباسا، فجاز أن يكون كلّ واحد منهما لصاحبه سترا عما لا يحل، كما روي في الخبر [من تزوّج فقد أحرز نصف دينه]
(4)
.
قوله عز وجل: {عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ؛} أي علم الله أنكم كنتم تظلمون أنفسكم بمعصيتكم وجماعكم بعد العشاء الأخيرة في ليالي الصّوم فتجاوز عنكم ولم يعاقبكم على ذلك وعفا عنكم ذنوبكم. قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ؛} أي جامعوهن في ليالي الصوم فهو حلال لكم. سميت المجامعة مباشرة؛ لتلاصق بشرة كلّ واحد منهما لصاحبه.
(1)
قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: ج 1 ص 221.
(2)
النبأ 10/.
(3)
الأعراف 189/.
(4)
في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين: ج 2 ص 942:الحديث (1281)؛ قال العراقي: «رواه ابن الجوزي في العلل من حديث انس بسند ضعيف، وهو عند الطبراني في الأوسط بلفظ [استكمل نصف الإيمان]» .وأخرجه الطبراني في الأوسط: ج 8 ص 315:الحديث (7644) وفي ج 9 ص 367:الحديث (7890).والحاكم في المستدرك: كتاب النكاح: الحديث (2728)؛ وقال: «هذا حديث صحيح ولم يخرجاه» بإسناد آخر غير إسناد الطبراني.
وقوله تعالى: {وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ؛} أي واطلبوا ما قضى الله لكم من الولد. قال مجاهد: (إن لم تلد هذه فهذه)
(1)
.وقال ابن زيد: «وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ)} أي «ما» أحلّ لكم من الجماع)
(2)
.وقرأ معاذ بن جبل: «(وابتغوا ما كتب الله لكم من الاتّباع)» يعني ليلة القدر، وكذلك روى أبو الجوزاء عن ابن عباس.
وقرأ الأعمش: «(وأتوا ما كتب الله لكم)» أي افعلوا.
وأشبه الأقاويل فظاهر الآية في تأويل قوله: {(وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ)} قول من تأوّله على الولد؛ لأنه عقيب قوله {(بَاشِرُوهُنَّ)} وهو أمر بإباحة الطلب وندب كقوله صلى الله عليه وسلم: [تناكحوا تكثروا، فإنّي أباهي بكم الأمم يوم القيامة حتّى بالسّقط]
(3)
.
وقال أهل الظاهر: هو أمر إيجاب وحتم يدلّ عليه ما روى أنس بن مالك: أنّ امرأة كان يقال لها الخولاء عطّارة أهل المدينة، دخلت على عائشة رضي الله عنها؛ فقالت: يا أمّ المؤمنين، زوجي فلان أتزيّن له كلّ ليلة وأتطيّب كأنّي عروس زفّت إليه، فإذا أوى إلى فراشه دخلت في لحافه ألتمس بذلك رضي الله تعالى؛ فحوّل وجهه عنّي أراه قد أبغضني؟ فقالت: اجلسي حتّى يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت:
فبينما أنا كذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [ما هذه الرّوائح الّتي أجدها، هل أتتكم الخولاء؟ ابتعتم منها شيئا؟] قالت عائشة: لا والله يا رسول الله، فقصّت عليه الخولاء قصّتها، فقال لها:[اذهبي واسمعي له وأطيعي] فقالت: أفعل يا رسول الله، فما لي من الأجر؟ قال:[ما من امرأة رفعت من بيت زوجها ووضعته تريد الإحسان إلاّ كتب الله لها حسنة، ومحى عنها سيّئة، ورفع لها درجة. وما من امرأة حملت من زوجها حين تحمل إلاّ كتب الله لها من الأجر مثل القائم ليلة الصّيام نهاره والغازي في سبيل الله. وما من امرأة يأتيها طلق إلاّ كتب الله لها بكلّ طلقة عتق نسمة؛ وبكلّ رضعة عتق رقبة. فإذا فطمت ولدها نادى مناد من السّماء: أيّتها المرأة قد كفيت بالعمل فيما مضى، فاستأنفي العمل فيما بقي].
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2435).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3437).
(3)
في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين: ج 2 ص 939؛ قال العراقي: «رواه أبو بكر بن مردويه في تفسيره من حديث ابن عمر بسند ضعيف» .
قالت عائشة: قد أعطي النّساء خيرا كثيرا، فما بالكم يا معشر الرّجال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال:[ما من رجل أخذ بيد امرأته يراودها إلاّ كتب الله له حسنة؛ وإن عانقها فعشر حسنات؛ وإن قبّلها فعشرون حسنة؛ وإن أتاها كان خيرا من الدّنيا وما فيها، فإذا قام ليغتسل لم يمرّ الماء على شعرة من جسده إلاّ تمحى عنه سيّئة ويعطى له درجة، ويعطى بغسله خيرا من الدّنيا وما فيها، وإنّ الله عز وجل يباهي به الملائكة، يقول: انظروا إلى عبدي قام في ليلة باردة يغتسل من الجنابة، يتيقّن بأنّي ربّه، اشهدوا أنّي قد غفرت له]
(1)
.
قوله عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ؛} هذا أمر إباحة مثل {وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا}
(2)
وشبهه.
نزلت في رجل من الأنصار يسمى صرمة بن أنس هكذا قال الكلبيّ. وقال معاذ بن جبل: (اسمه أبو صرمة).وقال عكرمة والسديّ: (اسمه أبو أقيس بن صرمة).وقال مقاتل: (صرمة بن إياس).
وكانت قصته: أنّه ظلّ نهاره يعمل في أرض له وهو صائم، فلمّا أمسى قال لأهله: قدّمي الطّعام، فأرادت المرأة أن تطعمه شيئا سخنا، فأخذت تعمل له سخينة، وكان ذلك الوقت من صلّى العشاء أو نام حرم عليه الطّعام والشّراب والجماع، فلمّا فرغت من طبخ طعامه؛ إذ به قد نام فأيقظته فكره أن يعصي الله تعالى ورسوله، فأبى أن يأكل فأصبح صائما مجهودا، فلم ينتصف النّهار حتّى غشي عليه، فلمّا أفاق أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أجهده الصّوم، فلمّا رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:[يا أبا قيس، ما لك طريحا!] قال: ظللت أمس في النّخل نهاري كلّه أجرّ بالجريد حتّى أمسيت.
-وفي بعض النّسخ: أجرّ الجريد-فأتيت أهلي، فأرادت امرأتي أن تطعمني شيئا سخنا، فأبطأت عليّ فنمت، فأيقظوني وقد حرم الطّعام والشّراب؟ فطويت
(1)
في فتح الباري شرح صحيح البخاري: شرح الحديث (1915) من كتاب الصوم؛ قال ابن حجر: «والجمع بين هذه الروايات أنه أبو قيس صرمة بن أبي أنس قيس بن مالك بن عدي بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، كذا نسبه ابن عبد البر وغيره» .
(2)
المائدة 2/.
فأصبحت قد أجهدني الصّوم. فاغتمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)}
(1)
.أي كلوا في ليالي الصّوم واشربوا فيها حتى يتبين لكم بياض النهار وضوءيه من سواد الليل وظلمته، كذا قال المفسّرون. وقيل: معناه حتى يتبين لكم الفجر الأول من الثاني، قال الشاعر:
الخيط الأبيض قبل الصّبح منصدع
…
والخيط الأسود حين اللّيل مركوم
وعن عديّ بن حاتم قال: علّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم الصّلاة والصّيام فقال: [صلّ كذا وكذا، وصم كذا وكذا، فإذا غابت الشّمس فكل واشرب حتّى يتبيّن لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود؛ وصم ثلاثين يوما إلاّ أن ترى الهلال قبل ذلك] قال:
فأخذت خيطين من حرير أبيض وأسود، وكنت أنظر فيهما فلا يتبيّن لي، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك حتّى بدت نواجذه، فقال:[يا عدي، إنّما ذلك بياض النّهار من سواد اللّيل]
(2)
.
وقوله: {(مِنَ الْفَجْرِ)} يعني المستطير الذي ينتشر ويأخذ الأفق؛ وهو الثاني؛ وهو الفجر الصادق الذي تحلّ فيه الصّلاة؛ ويحرم فيه الطعام على الصّيام. وأما الفجر الأول؛ وهو الذي يستطع في السّماء مستطيلا كذنب السّرحان ولا ينتشر؛ فذلك من الليل لا تحلّ الصلاة فيه، ولا يحرم الطعام فيه على الصائم؛ وهو الفجر الكاذب
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الصوم: الحديث (1915).وأبو داود في السنن: كتاب الصوم: باب مبدأ فرض الصوم: الحديث (2314).
(2)
في الدر المنثور: ج 2 ص 481؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم» وأصله في جامع البيان للطبري: النص (2448).ورواه البخاري في الصحيح: كتاب التفسير: سورة البقرة: الباب (28):الحديث (4510).وأبو داود في السنن: كتاب الصوم: الحديث (2349).
(3)
في الدر المنثور: ج 2 ص 482؛ قال السيوطي: «وأخرج ابن شيبة وابن جرير والدارقطني والبيهقي عن محمّد بن عبد الرحمن عن ثوبان؛ أنه بلغه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [الفجر فجران، فأمّا الّذي كأنّه ذنب السّرحان، فإنّه لا يحلّ شيئا ولا يحرّمه. وأمّا المستطير الّذي يأخذ الأفق، فإنّه يحلّ الصّلاة ويحرّم الطّعام].قال: وأخرجه الحاكم من طريقه عن جابر موصولا» .وهو في جامع البيان: النص (2453).
وعن سمرة بن جندب؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يمنعكم من السّحور أذان بلال، ولا الصّبح المستطيل؛ ولكن الصّبح المستطير في الأفق]
(1)
.
قوله عز وجل: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ؛} قال عبد الله بن أبي أوفى:
كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير وهو صائم؛ فلمّا غربت الشّمس قال لرجل: [انزل فأخرج لي ماء؟] فقال: يا رسول الله، لو أمسيت؟ قال:[انزل فأخرج لي ماء] فقال: يا رسول الله، إنّ علينا نهارا؟ فقال له الثّالثة؛ فنزل فخرج له، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[إذا أقبل اللّيل من هاهنا، وأدبر النّهار من هاهنا، فقد أفطر الصّائم].وفي بعض الألفاظ: [أكل أو لم يأكل]
(2)
.
قوله عز وجل: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ؛} أصل العكوف والاعتكاف الملازمة والاقامة
(3)
؛يقال: عكف بالمكان إذا أقام به، قال الله تعالى:{فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ}
(4)
أي يقيمون. قال الفرزدق
(5)
يصف القدور:
ترى حولهنّ المعتفين كأنّهم
…
على صنم في الجاهليّة عكّف
والاعتكاف: هو حبس النّفس في المسجد على عبادة الله تعالى.
واختلف العلماء في معنى المباشرة التي نهى المعتكف عنها؛ فقال قوم: هي المجامعة خاصة؛ معناه: ولا تجامعوهنّ وأنتم معتكفين في المساجد؛ قاله ابن عباس
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2454).ومسلم في الصحيح: كتاب الصيام: الحديث (41 - 1094/ 43).وأبو داود في السنن: كتاب الصوم: الحديث (2346).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2478).والبخاري في الصحيح: كتاب الصوم: باب الصوم في السفر: الحديث (1941)،وفي باب متى يحل فطر الصائم: الحديث (1955 و 1956).
(3)
في المخطوط (البينات) بدلا من (الملازمة). ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 2 ص 332. واللباب في علوم الكتاب: ج 3 ص 318.
(4)
الأعراف 138/.
(5)
في ديوان الفرزدق: ج 2 ص 561،وجمهرة أشعار العرب: ص 319.والمعتفون: الذين جاءوا يطلبون العطاء والطعام.
وعطاء والضحاك والربيع. وقال قتادة
(1)
ومقاتل والكلبيّ: (نزلت هذه الآية في نفر من الصّحابة كانوا يعتكفون في المسجد، فإذا أعرضت بالرّجل منهم حاجة إلى أهله خرج إليها، فجامعها ثمّ يغتسل ويرجع إلى المسجد، فنهوا أن يجامعوا نساءهم ليلا ونهارا حتّى يفرغوا من اعتكافهم).
وقال ابن زيد: (المباشرة: الجماع واللّمس والقبلة وأنواع التّلذّذ)
(2)
.والجماع مفسد للاعتكاف بالإجماع. وأما المباشرة غير الجماع فعلى ضربين: ضرب يقصد به التلذّذ بالمرأة فهو مكروه ولا يفسد الاعتكاف عند أكثر الفقهاء؛ وقال مالك: (يفسده).
والضرب الثاني: ما لا يقصد به التلذّذ بالمرأة؛ فهو مباح كما جاء في خبر عائشة رضي الله عنها [أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل إليها رأسه فترجّله وهو معتكف]
(3)
.قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من اعتكف عشرا في رمضان كان بحجّتين وعمرتين]
(4)
.
قوله عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ؛} أي المجامعة في الاعتكاف معصية. وقيل: جميع ما في هذه الآية إلى آخرها أحكام الله، {فَلا تَقْرَبُوها؛} يعني المباشر في الاعتكاف. وقيل: أحكام الله لا تقربوها بالخلاف، {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ،} لكم هذه الأحكام؛ أي فهكذا يبيّن للناس سائر أدلّته على دينه وشرائعه، وقيل: سائر أوامره ونواهيه لكي تتّقوا معاصيه.
و {(حُدُودُ اللهِ)} قال السديّ: (شروط الله)
(5)
وقال شهر بن حوشب: (فرائض الله).وقال الضحّاك: (معصية الله)
(6)
.وأصل الحد في اللغة: المنع، وقيل منه للبوّاب:
حداد. وقال الخليل بن أحمد: الحدّ: الجامع المانع، ومنه حدود الدّار والأرض؛ وهي
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2494).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2499).
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2500) بأسانيد.
(4)
في الدر المنثور: ج 2 ص 486؛ قال السيوطي: «أخرجه البيهقي وضعفه، عن علي بن الحسين عن أبيه» .
(5)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2501).
(6)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2502).
ما تمنع غيرها أن يدخل فيها غيرها. وسمي الحديد حديدا لأنه يمتنع به من الأعداء.
ويقال: حدّت المرأة وأحدّت إذا منعت نفسها من الزينة. فحدود الله هي ما منع الله منها أو منع من مخالفتها والتعدّي إلى غيرها.
قوله تعالى: {(فَلا تَقْرَبُوها)} أي فلا تأتوها، يقال: قربت من الشيء أقربه، وقربته وقربت منه بضمّ الراء؛ إذا دنوت منه.
وقوله تعالى: {(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ)} أي هكذا يبيّن الله؛ {آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (187)؛لكي تتّقوها وتنجوا من سخط الله والعذاب.
قوله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ؛} أكل المال بالباطل على وجهين؛ أحدهما: أخذه على وجه الظّلم بالغصب والخيانة وشهادة الزّور واليمين الفاجرة؛ والثاني: أخذه من جهات محظورة مع رضاء صاحبه؛ مثل القمار وأجرة الغناء والملاهي والنائحة وثمن الخمر والخنزير والرّبا وأشباه ذلك. ومعنى الآية: ولا يأكل بعضكم أموال بعض بالباطل؛ أي من غير الوجه الذي أباحه الله تعالى. وأصل الباطل: الشيء الذاهب الزائل؛ يقال: بطل يبطل بطولا وبطلانا؛ إذا ذهب.
قوله تعالى: {وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكّامِ؛} أي ولا تظهروا حجّتكم للحكام بالباطل، فيحكم الحاكم في الظاهر مع علم المحكوم له أنه غير مستحقّ في الباطن. وأصل الإدلاء: هو إرساله الدلو في البئر؛ يقال: أدلى دلوه؛ إذا أرسلها، قال الله تعالى:{فَأَدْلى دَلْوَهُ}
(1)
ودلاّها يدلوها؛ إذا أخرجها ثم جعل كلّ إلقاء قول أو فعل إدلاء، ومنه قيل للمحتجّ بدعواه: أدلى بحجّته؛ لأن الحجّة سبب وصوله إلى دعواه كالدلو سبب وصوله إلى الماء.
واختلف النحاة في محلّ قوله: {(وَتُدْلُوا بِها)} قال بعضهم: الجزم لتكرّر حرف النهي؛ أي لا تأكلوا ولا تدلوا وكذلك هو في حرف أبي بإثبات (لا).وقيل: هو
(1)
يوسف 19/.
نصب على الظّرف كقول الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
…
عار عليك إن فعلت عظيم
وقيل: نصب بإضمار (إن) المخفّفة. وقال الأخفش: (نصب على الجواب بالواو).
قوله عز وجل: {لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (188)؛أي لتأكلوا طائفة من أموال الناس بالظلم والجور وأنتم تعلمون أنكم مبطلون في دعواكم. قال ابن عباس: (هذا في الرّجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بيّنة؛ فيجحد المال ويخاصمهم فيه إلى الحكّام؛ وهو يعرف أنّ الحقّ عليه ويعلم أنّه إثم أكل حرام)
(1)
.وقال مجاهد: (معنى الآية: لا تخاصم وأنت ظالم)
(2)
.وقال الحسن: (هو أن يكون للرّجل على صاحبه حقّ؛ فإذا طالبه به دعاه إلى الحاكم؛ فيحلف له ويذهب بحقّه).وقال الكلبيّ: (هو أن يقيم شهادة الزّور).
وقال شريح لبعض الخصوم: (إنّي أقضي لك وأنا أظنّك ظالما؛ ولا يسعني إلاّ أن أقضي بما يحضرني من البيّنة؛ وإنّ قضائي لا يحلّ لك حراما).
وعن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنّما أنا بشر مثلكم، ولعلّ بعضكم يكون ألحن بحجّته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فإنّما أقطع له قطعة من نار]
(3)
.
قوله عز وجل: {*يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجِّ} نزلت هذه الآية في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة
(4)
الأنصاريين، سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2503).وفي الدر المنثور: ج 2 ص 488 - 489؛ قال السيوطي: «وأخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم» .
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2504).
(3)
أخرجه ابن ماجة في السنن: كتاب الأحكام: باب قضية الحاكم: الحديث (2318)،وإسناده صحيح.
(4)
في المخطوط: (عثمان)،وصوّبناه من الدر والإصابة في تمييز الصحابة: ج 1 ص 406: الرقم (95).
فقالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو رقيقا مثل الخيط، ثمّ يزداد حتّى يمتلئ ويستوي، ثمّ لا يزال ينقص حتّى يعود كما بدأ، ولا يكون على حالة واحدة
(1)
.
فأنزل الله تعالى: {(يَسْئَلُونَكَ)} يا محمد {*عَنِ الْأَهِلَّةِ} عن الحكمة في معناها. وهي جمع هلال مثل رداء وأردية؛ وسمي هلالا لأنه حين يرى يهلّ الناس بذكر الله؛ أي يرفعون أصواتهم كما يقال: أهلّ القوم بالحج؛ إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية.
قوله تعالى: {(قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ)} أي هي بيان المواقيت التي يحتاج الناس إليها في صومهم وفطرهم وعدّة نسائهم وآجال ديونهم ومدّة إجاراتهم وحيض الحائض وعدّة الحامل وغير ذلك، أخبرهم الله تعالى عن الحكمة في زيادة القمر ونقصانه واختلاف أحواله؛ فلهذا خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة على حال واحد. وقوله:{وَالْحَجِّ} أي وبيان وقت حجّهم. ولو جعل القمر مدوّرا كالشمس أبدا لم تعرف المواقيت ولا السّنون ولا الشهور.
وقوله عز وجل: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها؛} قال المفسرون: كان النّاس في الجاهلية وفي أوّل الإسلام إذا أحرم الرجل منهم بالحجّ والعمرة لم يدخل حائطا ولا دارا ولا بيتا من بابه؛ فإن كان من أهل المدر؛ أي البيوت نقب نقبا في ظهر بيته، ويتخذ سلّما إليه يدخل منه ويخرج؛ ولا يدخل من الباب. وإن كان من أهل الوبر؛ أي الخيام والفساطيط خرج ودخل من خلف الخيمة والفساطيط؛ ولا يدخل في الباب ولا يخرج منه حتى يحلّ من إحرامه. ويرون ذلك برّا إلا أن يكون الرجل من الحمس وهم: قريش؛ وكنانة؛ وخزاعة؛ وثقيف؛ وجثيم؛ وبنو عامر بن صعصعة؛ وبنو النضر بن معولة؛ سمّوا حمسا لتشدّدهم في دينهم وعلى أنفسهم، فإنّهم كانوا لا يستظلّون أيام منى ولا يسلون السّمن ولا يأقطون الأقط. والحماسة الشدة والصلابة، إلا أنّهم كانوا مع هذا يدخلون البيوت من أبوابها بخلاف الفريق الأوّل. فلما كان في زمن الحديبية أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة فدخل
(1)
في الدر المنثور: ج 2 ص 490؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن عساكر بسند ضعيف» .وأخرجه الطبري مختصرا في جامع البيان: النصوص (2510 - 2517) بأسانيد عن قتادة والربيع وابن جرير وابن عباس وعلي.
بستانا من بابه قد خرب وهو محرم، فأتبعه عطيّة بن عامر السلمي من غير الحمس؛ فدخل معه من الباب وهو محرم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:[لم دخلت من الباب وأنت محرم من غير الحمس؟] فقال: رأيتك يا رسول الله دخلت الباب وأنت محرم، فدخلت على أثرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[أنا من الحمس] فقال الرّجل: إن كنت أحمسيّا يا رسول الله فأنا أحمسيّ؛ لأنّ ديننا واحد؛ رضيت بهديك وسنّتك يا رسول الله، فأنزل الله هذه الآية
(1)
.
وقال الزهريّ: (كان ناس من الأنصار إذا أهلّوا بالعمرة لا يستظلّون بشيء ولا يدخلون البيت كي لا يحول بينهم وبين السّماء شيء ما داموا محرمين، حتّى كان زمن الحديبية؛ أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة فدخل حجرة؛ فدخل رجل منهم على أثره من الأنصار. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لم فعلت ذلك؟] فقال: إنّي رأيتك يا رسول الله عليك السّلام دخلت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أنا أحمس؛ والحمس لا يبالون بذلك] فقال الأنصاريّ: أنا أحمس؛ يعني أنا على دينك وسنّتك، فأنزل الله هذه الآية {(وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها)} أي ليس من خلفها إذا أحرمتم)
(2)
.
قرأ حمزة والكسائي وعاصم ونافع وابن عامر وابن كثير: بكسر الباء (من البيوت) في جميع القرآن. وقرأ الباقون بضمها.
قوله تعالى: {وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى؛} أي ليس البرّ بأن تأتوا البيوت من خلفها إذا أحرمتم؛ ولكن البرّ من اتّقى الشرك والمعاصي. قوله تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها؛} أي ائتوا البيوت محرمين ومحلّين من أبوابها، وقوله تعالى:{وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (189)؛أي اتّقوا الله في جميع ما أمركم به ونهاكم عنه لكي تنجوا من العقوبة وتفوزوا بالبقاء في الجنّة.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2520).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2524).
وقد روي عن بعضهم أنه كان يقول في هذه الآية: (ليس البرّ أن تطلبوا المعروف من غير أهله، ولكن اطلبوه من أهله).
قوله عز وجل: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ؛} أي وقاتلوا في دين الله وطاعته الذين يقاتلونكم. قال الربيع وعبد الرحمن بن زيد: (هذه أوّل آية نزلت في القتال، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه خرجوا في العام الّذي أرادوا فيه العمرة فنزلوا بالحديبية قريبا من مكّة)
(1)
.والحديبية اسم للبئر فسمّي ذلك الموضع باسم البئر، فصدّه المشركون عن البيت، فأقام بالحديبية شهرا ثمّ صالحه المشركون على أن يرجع عامه ذلك على أن يخلوا له مكّة من العام القابل ثلاثة أيّام، فيطوف وينحر الهدي ويفعل ما يشاء؛ وصالحوه على أن لا يكون بينه وبينهم قتال إلى عشر
(2)
سنين. فرجع النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلمّا كان العام المقبل تجهّز لعمرة القضاء؛ وكانوا يخافون أن لا تفي قريش بذلك؛ وكانوا يكرهون قتالهم في الشّهر الحرام وفي الحرم، فأنزل الله هذه الآية.
ومعناها: وقاتلوا في طاعة الله الذين يبدءونكم بالقتال؛ {وَلا تَعْتَدُوا؛} أي ولا تنقضوا العهد بالبداءة بقتالهم قبل تقديم الدعوة، {إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (190)؛أي المتجاوزين عن الحدود؛ أي لا يرضى عنهم عملهم.
فلما نزلت هذه الآية كان صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله ويكفّ عمن كفّ عنه، حتى نزل قوله تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}
(3)
فنسخت هذه الآية وأمر بالقتال مع المشركين كافّة
(4)
.
وقال بعضهم: هذه الآية محكمة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال ولم ينسخ شيء من حكم هذه الآية؛ فعلى هذا القول معنى قوله: {(وَلا تَعْتَدُوا)} أي لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير ولا من ألقى إليكم السّلم وكفّ يده عن قتالكم؛ فإن فعلتم
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2530 و 2531).
(2)
في المخطوط: عشرين سنة. والصحيح كما أثبتناه.
(3)
التوبة 5/.
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2547) من قول قتادة.
ذلك فقد اعتديتم؛ وهو قول ابن عبّاس ومجاهد
(1)
.فمعنى الآية: {(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ)} أي الذين هم من أهل القتال دون النساء والولدان الذين لا يقاتلون. فعلى هذا القول الآية غير منسوخة.
وقال يحيى بن يحيى
(2)
: (كتبت إلى عمر بن عبد العزيز أسأله عن قوله تعالى:
{وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} فكتب إليّ أنّ ذلك في النّساء والذّرّيّة والرّهبان ومن لم ينتصب للحرب منهم)
(3)
.
وقال الحسن: «ولا تعتدوا) أي لا تأتوا من نهيتم عنه).وقال بعضهم:
الاعتداء ترك قتالهم. وقال بعضهم: نزلت هذه الآية والقتال كان محظورا قبل الهجرة كما قال تعالى: {وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
(4)
ثم أمر الله بالقتال بعد الهجرة لمن قاتلهم بهذه؛ ثم نزلت آية أخرى في الإذن بالقتال عامة لمن قاتلهم ولمن لم يقاتلهم، وهو قوله تعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}
(5)
.
وعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث على سريّة أو جيش أميرا أوصاه في نفسه خاصّة بتقوى الله عز وجل وبمن تبعه من المسلمين خيرا. وقال: [اغزوا باسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثّلوا ولا تقتلوا وليدا]
(6)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2534) عن ابن عباس، والنص (2533) عن مجاهد.
(2)
في أصل المخطوط: (يحيى بن عامر)،والصحيح:(يحيى بن يحيى الغساني) كما جاء عند الطبري وفي الدر المنثور. وترجمه ابن حجر في تهذيب التهذيب: الرقم (7948)؛وقال: «استعمله عمر ابن عبد العزيز على قضاء الموصل» .
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2532).وفي الدر المنثور: ج 1 ص 493؛ قال السيوطي: «أخرجه وكيع وابن أبي شيبة» .
(4)
النحل 125/.
(5)
الحج 29/.
(6)
أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الجهاد: باب تأمير الأمير: الحديث (2 و 1731/ 3).وأخرجه أبو داود في السنن: كتاب الجهاد: باب في دعاء المشركين: الحديث (2612).والترمذي في الجامع: كتاب الديات: باب ما جاء في النهي عن المثلة: الحديث (1408).
قوله عز وجل: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ؛} أي اقتلوا الذين يبدءونكم بالقتال من أهل مكّة حيث وجدتموهم؛ {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ؛} أي كما أخرجوكم من مكّة؛ قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ؛} أي والشّرك الذي هم فيه أعظم ذنبا من قتلكم إياهم في الحرم والأشهر الحرم والإحرام. هكذا قال عامة المفسرين. وقال الكسائيّ: (الفتنة هاهنا العذاب) وكانوا يعذّبون من أسلم.
قوله تعالى: {وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ؛} أي إذا بدءوكم في غير الحرم، ثم لجئوا إلى الحرم فكفوا عن قتالهم ولا تقاتلوهم في الحرم حتّى يقاتلوكم فيه، فإن بدءوكم بالقتال في الحرم فاقتلوهم فيه، {كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ} (191).
قرأ عيسى بن عمر وطلحة بن مصرّف ويحيى بن وثّاب والأعمش وحمزة والكسائي: «(ولا تقتلوهم)» بغير ألف من القتل على معنى ولا تقتلوا بعضهم. تقول العرب: قتلنا بني تميم؛ وإنّما قتلوا بعضهم. وقرأ الباقون كلها بالألف من القتال.
واختلفوا في حكم هذه الآية؛ فقال بعضهم: هي منسوخة؛ نهوا عن الابتداء بالقتال، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:{وَقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ،} وهذا قول قتادة والربيع
(1)
.وقال مقاتل: {(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ)} أي حيث أدركتموهم في الحلّ والحرم. لما نزلت هذه الآية نسخها قوله تعالى: {(وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)} ثمّ نسختها آية السيف التي في براءة، فهي ناسخة منسوخة).
وقال آخرون: هذه آية محكمة؛ ولا يجوز الابتداء في القتال في الحرم. وهو قول مجاهد
(2)
وأكثر المفسرين. وسمّي الكفر فتنة؛ لأنه يؤدي إلى الهلاك كما أن الفتنة تؤدي إلى الهلاك.
قوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (192)؛أي فإن انتهوا عن القتال والكفر فإن الله {(غَفُورٌ)} لما مضى من جهلهم ولما سلف من كفرهم، {(رَحِيمٌ)} بهم بعد توبتهم وإسلامهم.
(1)
أخرجهما الطبري في جامع البيان: النص (2543 و 2544).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2545).
قوله عز وجل: {وَقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ؛} أي قاتلوا المشركين حتى لا يكون شرك؛ أي قاتلوهم حتى يسلموا، فليس يقبل من الوثنيّ جزية ولا يرضى منه إلا بالإسلام، وليسوا كأهل الكتاب الذين يؤخذ منهم الجزية. والحكمة في ذلك: أنّ مع أهل الكتاب كتبا منزّلة فيها الحقّ وإن كانوا قد أهملوها، فأمهلهم الله بحرمة تلك الكتب من القتل وأمر بإذلالهم بالجزية، ولينظروا في كتبهم وليدبّروها فيقفوا على الحقّ منها فيتبعوه. وأما أهل الأوثان فليس لهم كتب ترشدهم إلى الحقّ وكان إمهالهم زائدا في شركهم؛ فأبى الله أن يرضى منهم إلاّ بالإسلام أو القتل.
قوله تعالى: {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ؛} أي وتكون الطاعة لله وحده وأن لا يعبدوا دونه شيئا. قوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ} (193)؛أي {(فَإِنِ انْتَهَوْا)} عن القتال والكفر {(فَلا عُدْوانَ)} أي فلا سبيل ولا حجّة في القتل في الحرم والشهر الحرام إلا على الظالمين. قال قتادة وعكرمة: (في هذه الآية الظّالم الّذي أبى أن يقول لا إله إلاّ الله)
(1)
.وإنّما سمّي الكافر ظالما لوضعه العبادة في غير موضعها. وقيل: معناه: فلا عدوان إلا على الذين يبدءون بالقتال. ومن الدليل على أن هذه الآية غير ناسخة للأولى: أنّها معها في خطاب واحد، ولا يصحّ النسخ إلا بعد التمكّن من الفعل.
قال ابن عباس: فسار النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخلى له أهل مكّة الحرم ثلاثة أيّام؛ فدخل هو وأصحابه فطافوا ونحروا الهدي وأقاموا بمكّة حتّى قضوا حاجتهم من البيت،
ثمّ رجعوا، فأنزل الله قوله تعالى:{الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ؛} أي الشهر الذي دخلت فيه مكة وهو ذو القعدة، واعتمرت فيه أنت وأصحابك وقضيتم من مكة فيه وطركم في سنة سبع بالشهر الحرام وهو ذو القعدة أيضا الذي صدّوك فيه عن البيت أنت وأصحابك ومنعوكم من مرادكم في سنة ستّ.
وقوله تعالى: {(وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ)} أي اقتصصت لكم منهم في الشهر الحرام في ذي القعدة كما صدّوكم في ذي القعدة مراغمة. {(وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ)} جمع الحرمة
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2558) عن قتادة، والنص (2560) عن عكرمة.
كالظلمات جمع الظلمة، والحجرات جمع حجرة. والحرمة: ما يجب حفظه وترك انتهاكه، وإنّما جمع {(وَالْحُرُماتُ)} لأنه أراد الشهر الحرام والبلد الحرام؛ وحرمة الإحرام. والقصاص: المساواة؛ وهو أن يفعل بالفاعل كما فعل.
قوله عز وجل: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} أي {(فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ)} بالقتال في الحرم فكافئوه وقاتلوه كمثل ما فعل. وسمّى الجزاء اعتداء على مقابلة اللفظ.
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (194)؛أي {(اتَّقُوا اللهَ)} في كل ما أمرتم به ونهيتم عنه {(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)} بالنصر والمعونة.
قوله عز وجل: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ؛} وفي هذه الآية نهي عن البخل. معناه: تصدّقوا يا أهل الميسرة ولا تمسكوا عن الإنفاق {(فِي سَبِيلِ اللهِ)} فإن البخل؛ والإمساك عن ذلك هو الهلاك. وهذا قول حذيفة والحسن وعكرمة وعطاء والضحاك. قال ابن عبّاس في هذه الآية: (أنفق في سبيل الله وإن لم يكن لك إلاّ سهم واحد، ولا يقولنّ أحدكم أنّي لا أجد شيئا)
(1)
.وقال السديّ: (أنفق في سبيل الله ولو عقالا).
وقوله تعالى: {(وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)} معناه: ولا تلقوا أنفسكم، فعبّر بالبعض عن الكلّ كقوله تعالى:{ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}
(2)
و {فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}
(3)
.وإنّما حذف ذكر النفس هنا لأن في الباء دليلا عليه؛ والباء زائدة كقوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ}
(4)
.والعرب لا تقول: ألقى بيده إلاّ في الشرّ، والإلقاء في التهلكة معناه: ولا تمسكوا بأيديكم عن الصدقة في الجهاد فتهلكوا. وقيل: هو
(1)
هذه الأقوال وغيرها أخرجها الطبري في جامع البيان: النصوص (2575 - 2598).وذكره القرطبي في جامع البيان: ج 3 ص 305،ونقل عن ابن عطية قوله:«وليس هذا بثابت الإسناد» .
(2)
آل عمران 182/.
(3)
الشورى 30/.
(4)
المؤمنون 20/.
الإسراف في الإنفاق حتى لا يبقي له شيئا يأكله فيتلف. وقيل: هو أن يخرج بين الصفّين فيستقتل من غير قصد بنكاية العدوّ.
وقيل: معنى {(وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)} أي لا يقل: ليس عندي شيء.
وقال الحسن: (إنّهم كانوا ينفرون للغزو ولا ينفقون من أموالهم، فأنزل الله هذه الآية)
(1)
.وقال مقاتل: (لمّا أمر الله تعالى بالإنفاق؛ قال رجل: أمرنا بالنّفقة في سبيل الله؛ فإن أنفقنا أموالنا بقينا فقراء ذوي مسكنة، فقال الله تعالى: {(وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)} يعني أنفقوا ولا تخشوا الفقر فإنّي رازقكم ومخلف عليكم).
وعن أبي الدّرداء وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وجابر وأبي أمامة والحسن بن عليّ بن أبي طالب وعمران بن الحصين؛ كلهم حدّثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
[من أرسل نفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكلّ درهم سبعمائة درهم، ومن غزا بنفسه فأنفق فله بكلّ درهم سبعمائة ألف درهم. ثمّ تلا هذه الآية {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} أي {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}
(2)
.
وقال زيد بن أسلم: (إنّ رجالا كانوا يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير نفقة؛ فإمّا أن يعطوهم؛ وإمّا كانوا عيالا ووبالا. فأمرهم الله تعالى بالإنفاق على أنفسهم في سبيل الله تعالى، فإذا لم يكن عندك ما تنفق فلا تخرج نفسك بغير نفقة ولا قوّة فتلقي بيدك إلى التّهلكة، فتهلك من الجوع والعطش أو من المشي).
التّهلكة: مصدر بمعنى الإهلاك؛ وهو تفعلة من الهلاك. ولم يجئ من كلام العرب مصدر على تفعلة بضمّ العين إلا هذا. وقال بعضهم: التهلكة: كلّ شيء عاقبته إلى الهلاك.
قوله عز وجل: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (195)؛أي (أحسنوا) في النفقة والإفضال على المحتاج. وروى أبو الجوزاء
(3)
عن ابن عبّاس رضي الله عنه: قال:
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (2581).
(2)
البقرة 267/.
(3)
في المخطوط: أبو الحوري، وهو تحريف. وأبو الجوزاء هو أوس بن عبد الله الربعي البصري، من ربعة الأزد، تابعي روى عن أبي هريرة وعائشة وابن عباس وغيرهم. ترجم له ابن حجر في التهذيب: الرقم (619) ونقل عن العجلي قال: تابعي ثقة.
(التّهلكة: عذاب الله)
(1)
.فمعنى قوله: {(وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)} أي لا تتركوا الجهاد فتعذّبوا، دليله قوله تعالى:{إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً}
(2)
.وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من مات ولم يغز ولم يحدّث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النّفاق]
(3)
.وقال ابن سيرين: (الإلقاء في التّهلكة: هو القنوط من رحمة الله).وقال أبو قلابة: (هو الرّجل يصيب الذّنب فيقول: قد هلكت ليس لي توبة فييأس من رحمة الله وينهمك في المعاصي، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك).
وسئل بعضهم عن الإلقاء باليد في التهلكة؛ أهو الرجل يحمل على الكتيبة وهم ألف بالسّيف؟ قال: لا، ولكنه الرجل يصيب الذنب فيقول: قد أهلكت لا توبة لي.
وقال الفضيل بن عياض في هذه الآية: {(وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)} : (بإساءة الظّنّ بالله، فأحسنوا الظّنّ بالله؛ إنّ الله يحبّ المحسنين الظّنّ بالله عز وجل.
قوله عز وجل: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ؛} إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك. وقيل: إتمام العمرة إلى البيت، وإتمام الحج إلى آخر الحجّ كله. وقيل:
إتمامهما أن تكون النفقة حلالا وينتهي عن جميع ما نهى الله عنه؛ ويأتي بجميع ما شرع الله من المشاعر والمواقف. وقيل: أتمّوا الحجّ والعمرة من المواقيت. {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ؛} أي إن منعتم من البيت بعد ما أحرمتم بحجّ أو عمرة؛ فأردتم الإحلال فعليكم مما تيسّر من الهدي.
قال ابن عبّاس: (أعلاه بدنة؛ وأوسطه بقرة؛ وأدناه شاة، يبعث المحصر بها إلى مكّة ويواعدهم اليوم الّذي يذبحوه عنه. فإذا ذبح عنه حلّ ورجع إلى أهله، ثمّ يقضي ما كان أحرم به).
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (2595) عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
(2)
التوبة 39/.
(3)
أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الإمارة: باب ذم من مات ولم يغز: الحديث (1910/ 158).وأبو داود في السنن: كتاب الجهاد: باب كراهية ترك الغزو: الحديث (2502).
قوله عز وجل: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ؛} أي لا يحلق أحدكم رأسه ولا يحل من الإحرام حتى يبلغ الهدي الحرم؛ أي حتى يعلم أن الهدي قد ذبح عنه في الحرم.
قوله عز وجل: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً؛} أي من كان مريضا من المحرمين؛ محصرين أو غير محصرين، فلم يستطع الإقامة على شروط الإحرام، فعجّل وفعل شيئا مما يفعله الحلال قبل أن ينحر عنه الهدي، {أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ؛} أي أو كان في رأسه قمل يؤذيه لا يستطيع أن يصبر عليه، فحلق رأسه.
قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ؛} أي فعليه فداء ما صنع صيام ثلاثة أيام، {أَوْ صَدَقَةٍ؛} على ستّة مساكين؛ لكل مسكين نصف صاع من برّ أو صاع من تمر، أو صاع من شعير، {أَوْ نُسُكٍ؛} أي شاة يذبحها في الحرم.
روي عن كعب بن عجرة؛ أنه قال: نزلت هذه الآية فيّ؛ مرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي؛ فقال لي: [أتؤذيك هوامّ رأسك؟] قلت: نعم، قال:
[احلق رأسك وأطعم ستّة مساكين؛ لكلّ مسكين نصف صاع من حنطة، أو صم ثلاثة أيّام، أو أنسك بنسيكة]
(1)
.
قوله تعالى: {فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ؛} أي فإذا أمنتم الموانع من المرض والعدوّ وكل مانع. ويقال: في الآية إضمار تقديره: فإذا أمنتم من العدوّ وبرئتم من المرض، فاقضوا ما كنتم أحرمتم به قبل الإحصار من حجّ أو عمرة.
قوله تعالى: {(فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ)} أي من بدأ بالعمرة في أشهر الحجّ؛ وأقام بمكة في عامه للحجّ؛ فحج من غير أن يرجع إلى أهله؛ فعليه ما تيسّر من الهدي.
وقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ؛} أي
(1)
في الدر المنثور: ج 2 ص 514؛ قال السيوطي: «أخرجه أحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي وابن جرير والطبراني والبيهقي في سننه؛ وقال: أخرجه وكيع وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة» .وأخرجه البخاري في الصحيح: كتاب التفسير: الحديث (4517).ولفظ مسلم قريب منه؛ أخرجه في الصحيح: كتاب الحج: الحديث (1201/ 80).
فمن لم يجد الهدي ولا عنه؛ فعليه صيام ثلاثة أيام في الحجّ يصومها قبل يوم النّحر متتابعات ومتفرّقات؛ وصيام سبعة أيّام إذا رجع إلى أهله. ويقال: إذا رجع من منى.
ويقال: إذا رجع إلى ما كان عليه؛ أي فرغ من أمر الحجّ.
قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ؛} أي كاملة للثواب. وقيل: كاملة للهدي. قوله تعالى: {ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ؛} أي ذلك التمتع والهدي لمن لم يكن أهله حاضري مكة. قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ} (196)؛أي اتقوا الله في جميع ما أمرتم به ونهيتم عنه.
وقد اختلف السلف في وجوب العمرة؛ فروي عن ابن مسعود والشعبيّ وإبراهيم النخعيّ: (إنّها تطوّع)،وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ومالك. وعن عائشة وابن عبّاس وابن عمر ومجاهد:(أنّها واجبة)؛وبه قال الشافعيّ. ولا دلالة في هذه الآية على الوجوب؛ لأن لفظ الإتمام يقتضي نفي النقصان عنها إذا فعلت؛ لأن ضدّ الإتمام هو النّقصان.
وقرئ «(والعمرة لله)» بالرفع على معنى الابتداء. ومن نصب العمرة احتمل أن تكون للابتداء؛ لكن نصبها اتباعا للحجّ، كذا قال الزجّاج. وقوله تعالى: قوله عز وجل: {(لِلّهِ)} فإنّ أهل الجاهلية كانوا يشركون في إحرامهم؛ كانوا يقولون: (لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك).تعالى الله عمّا يقولون علوّا كبيرا. فأمر الله تعالى بإخلاص القول والعمل لله تعالى.
وأما لفظ الإحصار فقد ذكر الكسائيّ وأكثر أهل اللغة: (أنّ الإحصار هو أن يكون بمرض أو عدوّ، والحصر: أن يكون بحبس عدوّ، يقال: أحصره المرض أو العدوّ فهو محصر. وحصره العدوّ فهو محصور) وهذا على مذهبنا مستمرّ. وقال الفرّاء: (لا فرق بين الحصر والإحصار، وهما شريكان في المعنى) وهذا قريب من مذهب الشّافعي، فإن عنده لا يكون المريض محصرا ولا يكون الإحصار إلا بالعدوّ.
فأما المريض فلا يتحلّل بالهدي وإن لم يقدر على الذّهاب. وأنكر المبرد والزجاج على الفراء وقالا: (إنّ الحصر والإحصار مختلفان في المعنى؛ ألا ترى أنّك تقول:
حبست الرّجل؛ إذا جعلته في الحبس، وأحبسه إذا عرّضته للحبس).
والهدي في اللغة: اسم لما يهدى إلى البيت؛ وهو جمع هديّة كما يقال: جدي وجديّة
(1)
.وعن عائشة وابن عمر أنّهما قالا: (إنّ الهدي إنّما يكون بقرة أو بدنة).
وفائدة قوله: {(فَمَا اسْتَيْسَرَ)} على هذا القول التخير بين أعيان الإبل والبقر، ولا يجوز من كلّ شيء إلا الشيء فصاعدا، إلا الجذع من الضأن فإنه يجزي على ما ورد في الأضحية؛ وهو ما مضى له ستة أشهر. والثّنيّ: البالغ من كل شيء؛ وهو عند الفقهاء في الغنم ما له سنة؛ وفي البقر ما له سنتان؛ وفي الإبل ما له خمس سنين.
واختلفوا في المذكور في قوله {(حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)} قال ابن مسعود وابن عبّاس؛ وعطاء وطاوس ومجاهد: (محلّه: منحره؛ وهو الحرم) وقال مالك والشافعيّ: (محلّه: الموضع أحصر فيه؛ فيكون المعنى حتّى يبلغ الهدي محلّه؛ أي ينحر الهدي فيحلّ أكله).وظاهر الآية تقتضي أن (يبلغ الهدي) بعد الإحصار مبلغا لم يكن بالغا قبل ذلك؛ ولو كان موضع الإحصار محلا للهدي لكان بالغا محله لوقوع الإحصار، وأدّى ذلك إلى بطلان الغاية المذكورة في الآية.
وأما قوله في شأن الحديبية {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً}
(2)
أي يبلغ محله فهو حجة في أن المحل هو الحرم؛ وليس في تلك الآية بيان موضع الذّبح أنه كان في الحلّ أو الحرم، فيحتمل أن الهدي كان ممنوعا عن الحرم؛ ولمّا وقع الصلح أطلقوا الهدي حتى ذبح في الحرم.
وذهب أبو يوسف ومحمّد: إلى أنّ هدي المحصر بالحجّ مؤقّت بيوم النحر؛ وليس في هذه الآية أنّ المراد بالمحل الزمان؛ لأنّ قوله تعالى: {(فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ)} عائد إلى الحجّ والعمرة المذكورين في أوّل هذه الآية. ولا خلاف أن هدي المحصر بالعمرة غير مؤقّت بيوم النحر، وفي ظاهر قوله تعالى:{(وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)} دليل على أن المحصر إذا لم يجد الهدي لا يحلّ حتى يجد الهدي فيذبح عنه. وقال عطاء: (يصوم عشرة أيّام ويحلّ كالمتمتّع إذا لم يجد).
(1)
الجدا بالقصر و (الجدوى) العطيّة و (جداه واجتداه واستجداه) أي طلب جدواه، وأجداه أعطاه. مختار الصحاح: مادة (جدى)
(2)
الفتح 25/.
فصل: وإذا لم يصم الثلاثة أيام قبل يوم النحر-أعني المتمتع والقارن-فقد اختلفوا في ذلك؛ فقال عمر وابن عبّاس وابن جبير: (لا يجزيه إلاّ الهدي، ولا يحلّ إلاّ به).وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. وقال ابن عمر وعائشة: (يصوم أيّام منى) وهو قول مالك. وقال عليّ كرّم الله وجهه: (يصوم أيّام التّشريق) وهو قول الشافعيّ.
والفائدة في قوله: {(تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ)} أنه كان يجوز أن يتوهّم متوهّم أن البدل لا يلحق بالمبدل في الثواب؛ فبيّن الله تعالى أنه في الكمال بمنزلة المبدّل أن لو فعله.
ويقال: إنّ (الواو) قد جاءت في القرآن بمعنى (أو) التي للتخيير كما في قوله تعالى: {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ}
(1)
فربّما يتوهّم أن هذا مثل ذلك؛ فأكّد الله تعالى صوم العشرة كلّها بقوله: {(تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ)} لإزالة هذا الإشكال.
فصل: اختلفوا في حاضر المسجد الحرام؛ فقال عطاء ومكحول: (هم كلّ من دون المواقيت إلى مكّة) وهو قول أبي حنيفة وأصحابه؛ إلا أنّ أبا حنيفة وأصحابه يقولون: (أهل المواقيت بمنزلة من دونها؛ لأنّهم كلّهم في حكم أهل مكّة يجوز لهم دخولها بغير إحرام).وقال ابن عبّاس ومجاهد: (هم أهل الحرم) وقال الحسن وطاوس ونافع: (هم أهل مكّة).وقال الشافعيّ: (هم من كان داره دون اللّيلتين من مكّة؛ وذلك مقدار أقرب المواقيت إلى مكّة).
وظاهر قوله تعالى: {(ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)} يقتضي الإشارة إلى الهدي والمتعة جميعا؛ فلا يباح المتعة والقران لأهل المواقيت ومن دونها إلى مكة. وذهب الشافعيّ إلى أن قوله: (ذلك) إشارة إلى الهدي دون المتعة والقران، فتجوز عنده المتعة والقرآن لأهل مكّة، ولكن لا هدي عليهم.
قوله عز وجل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ؛} في هذه الآية تقدير حذف مبتدأ؛ تقديره: مدّة الحجّ أشهر معلومات. ويقال: الحجّ في أشهر معلومات. وقوله:
{غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ}
(2)
أي مدّة غدوّها ومدة رواحها.
(1)
النساء 3/.
(2)
سبأ 12/.
واختلفوا في هذه الأشهر؛ فقال ابن عباس وأكثر المفسّرين: (إنّها شوّال وذو القعدة وعشر من ذي الحجّة).وأما من قال: إنّها شوال وذو القعدة وذو الحجة، فليس باختلاف لأن المراد بعض ذي الحجة؛ لأن الحجّ كله لا محالة في بعض هذه الأشهر لا في جميعها. ويجوز إضافته إلى جميع هذه الأشهر وإن كان هو في بعضها؛ ألا ترى إنك تقول: لقيت فلانا سنة كذا، وقمت يوم كذا؛ بمعنى بعض المدة.
قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ؛} أي من أوجب فيهنّ الحجّ بالتلبية أو ما يقوم مقامها من ذكر أو سوق الهدي فلا يرفث ولا يفسق، وهذا لفظ خبر بمعنى النهي؛ كما أنّ قوله:{يَتَرَبَّصْنَ}
(1)
و {يُرْضِعْنَ}
(2)
خبران لفظا؛ وأمران معنى.
والرّفث: قال ابن عبّاس: (هو مراجعة النّساء بذكر الجماع).والفسوق: قال ابن عمر: (هو ما نهى الله عنه في الإحرام).واختار بعضهم هذا القول؛ وقالوا: لو كان المراد به جميع المعاصي لكان لا يخصّ بالنهي عنها حالة الإحرام.
وقال ابن عبّاس وجماعة من المفسّرين: (المراد بها جميع المعاصي).وفائدة تخصيص حالته هذه بالنهي فهو تعظيم حرمة هذه العبادة؛ كما يقال: لا تغتب في صومك؛ وكما قال صلى الله عليه وسلم: [إذا كان يوم صوم أحدكم؛ فلا يرفث؛ ولا يجهل، وإن جهل عليه فليقل: إنّي صائم]
(3)
.
قوله تعالى: {(وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ)} قال بعضهم: الجدال: أن تجادل صاحبك حتى تغضبه أو يغضبك. وقيل: كانت قريش تقف بالمزدلفة؛ وكانت اليمن وربيعة تقف بعرفة خارج الحرم؛ وكان كلّ فريق منهم يجادل صاحبه في الموقف؛ فنزلت هذه الآية.
(1)
البقرة 228/.
(2)
البقرة 233/.
(3)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الصوم: باب هل يقول إني صائم: (1904).ومسلم في الصحيح: كتاب الصوم: باب فضل الصيام: الحديث (1151/ 163).
قوله سبحانه وتعالى: {وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ؛} أي ما تفعلوا من أسباب الحجّ وترك الرّفث والفسوق والجدال يعلمه الله؛ أي يقبله منكم فيجزيكم عليه، والله تعالى عالم من دون أن يفعلوا، ولكن المراد به يعلمه الله مفعولا؛ وكان من قبله يعلمه غير مفعول. وأراد الله بهذا الحثّ على فعل الخير ودلّ به على العدل؛ إذ بيّن أنه لا يجازي العبد على ما يعلمه منه، وإنّما يجازيه على ما يقع منه.
قوله عز وجل: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى؛} أي تزوّدوا في سفر الحجّ والعمرة ما تكفّون به وجوهكم عن المسألة. نزلت في قوم كانوا يخرجون بأهاليهم بغير زاد ويتّكلون على الناس؛ ويسمّون أنفسهم المتوكّلة، يقولون: نحجّ بيت ربنا والله رازقنا. وقيل: نزلت في قوم يتركون أزوادهم ويصيبون في حجّهم من أهل الطريق ظلما؛ فبيّن الله تعالى أن الزاد هو أن تتّقوا ما لا يحلّ، لا أن تلقوا أزوادكم وتصيروا كلاّ على الناس.
ويقال: في الآية تقديم وتأخير؛ تقديره: وتزوّدوا من الطاعات، {وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ} (197)، {(فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى)} ولا يمتنع أن يكون المراد به زاد الدّنيا وزاد الآخرة. كأنّ الله خصّ على الزّادين جميعا وأمر بالتزوّد لسفر الدّنيا بالطعام ولسفر الآخرة بالتّقوى؛ فإن النجاة من هلكات سفر الدّنيا بالزاد، ومن سفر الآخرة بالعمل الصالح. قال الشاعر:
إذ أنت لم ترحل بزاد من التّقى
…
ولاقيت بعد الموت من قد تزوّدا
ندمت على أن لا تكون كمثله
…
وأنّك لم ترصد كما كان أرصدا
واختلف العلماء في جواز الإحرام بالحجّ قبل أشهر الحج؛ فروي عن ابن عبّاس وجابر وعطاء ومجاهد وعكرمة أنّهم قالوا: (لا يحرم الرّجل بالحجّ قبل أشهر الحجّ).وقال عطاء: (من فعل ذلك فيجعلها عمرة).وقال الشافعيّ: (تكون عمرة).
وعن إبراهيم النخعيّ: (جواز الإحرام بالحجّ قبل أشهر الحجّ) وهو قول أبي حنيفة وأصحابه؛ ومالك والليث؛ والثوري. وحجّتهم: قوله عز وجل: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجِّ} . وهذا عموم في كون الأهلّة كلها وقتا
للحجّ؛ ومعلوم أنّ الأهلة ليست بميقات لأفعال الحج؛ فوجب أن يكون حكم ذلك اللفظ مستعملا في إحرام الحجّ.
أما قوله تعالى: {(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ)} فيحتمل أنه توقيت لأفعال الحجّ؛ فإن من قدم مكة قبل أشهر الحج محرما وطاف وسعى لم يكن ذلك السّعي معتدّا به في الحجّ. وذهب بعض أصحابنا إلى أنّ قوله تعالى: {(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ)} توقيت لاستحباب الإحرام؛ لأنه إذا قدّم الإحرام على شوال امتدّ
(1)
مكثه في الإحرام واضطرّ إلى شيء من محرّمات الإحرام.
فصل: والنصب في قوله تعالى: {(فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ)} على التمييز؛ ويقرأ بالرفع والتنوين؛ فكلا الوجهين جائز في كلام العرب. وأما قوله تعالى: {(وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ)} فأكثر القرّاء على نصبه؛ ولم ينقل فيه الرفع والتنوين إلا في رواية شادّة. ومن رفع الرفث والفسوق جعل ما بعده كلاما مبتدأ.
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ؛} روي عن عبد الله ابن عمر: أنّ رجلا سأله فقال: إنّي لأكري إبلي إلى مكّة، أفيجزئ حجّي؟ فقال: أولست تلبي وتقف بعرفات وترمي الجمار؟) قال: بلى، قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل ما سألتني عنه فلم يجبه حتّى أنزل الله هذه الآية:
{(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ)} ،فقال صلى الله عليه وسلم:[أنتم حجّاج]
(2)
.
ومعنى الآية: ليس عليكم جناح أن تطلبوا رزقا في التجارة في أيام الحجّ. وكان ابن عبّاس يقرؤها «(ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحجّ)» .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا كان يوم عرفة غفر الله للحاجّ الخالص؛ وإذا كان ليلة المزدلفة غفر الله للتّجّار، وإذا كان يوم منى غفر الله
(1)
أشار الناسخ في هامش المخطوط كتب: (امتدّ) كأنه اشتبه عليه، فأثبت (اشتدّ) في متن المخطوط. والصحيح على ما يبدو لنا أنه:(امتدّ)،فأثبتناه.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3011).وأبو داود في السنن: كتاب المناسك: الحديث (1377).
للجمّالين، وإذا كان عند جمرة العقبة غفر الله للسّؤال، ولا يشهد ذلك الموقف خلق ممّن قال: لا إله إلاّ الله، إلاّ غفر الله له]
(1)
.
قوله عز وجل: {فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ؛} معناه: إذا دفعتم من عرفات فاذكروا الله باللّسان عند المشعر الحرام؛ وهو الجبل الذي يقف عليه الناس بالمزدلفة. وقوله تعالى:
{وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ؛} أي اذكروه بالثناء والتوحيد والشّكر ذكرا مثل هدايته إيّاكم؛ أي ذكرا يكون جزاء لهدايته، قوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضّالِّينَ} (198)؛أي وإن كنتم من قبل هدايته إياكم لمن الضّالين عن الهدى.
وقيل: إنّ المراد بالذّكر الأول في هذه الآية صلاة المغرب والعشاء التي يجمع بينهما في وقت العشاء بالمزدلفة. والمراد بالذّكر الثاني هو الذكر المفعول بالمزدلفة غداة جمع في موقف المزدلفة. فعلى هذا يكون الذكر الأول غير الثاني. وقد سمّى الصّلاة ذكرا على معنى أن الذّكر ركن من أركانها.
والإفاضة: هي الدفع بالكثرة، يقال: أفاض القوم في الحديث؛ إذا تدافعوا فيه وأكثروا التصرّف؛ وأفاض المرجل إناه؛ إذا صبّه، وفاض الإناء إذا انصبّ منه الماء للامتلاء، وأفاض البعير بجرّته؛ إذا رمي بها متفرقة كثيرة
(2)
.
وعرفات: جمع عرفة؛ وهي مكان واحد ذكرها بلفظ الجمع؛ وإرادته جمع أجزائها. وسميت عرفات لارتفاعها من بشر الأرض، وقيل: سميت بذلك لأن آدم
(1)
في لسان الميزان: ج 2 ص 277:الترجمة (981)؛قال ابن حجر: «فيه-أي في اسناده-علي ابن عيسى أبو عبد الغني؛ قال ابن حبان: يضع الحديث على الثقات لا تحل الرواية عنه بحال. وذكر له الحديث أعلاه» .وفي التمهيد لابن عبد البر: ج 1 ص 99:ذكر الحديث بإسناده وقال: «هذا حديث غريب من حديث مالك، وليس محفوظا عنه إلا من هذا الوجه، وأبو عبد الغني لا أعرفه، وأهل العلم ما زالوا يسامحون أنفسهم في رواية الرغائب والفضائل عن كل أحد، وإنما كانوا يتشددون في أحاديث الأحكام» .
(2)
لسان العرب: ج 10 ص 368.
وحوّاء تعارفا بها بعد التفاقد. ويقال: لأنّ جبريل عرّفها إبراهيم عليه السلام ليقف عليها حين كان يعلّمه أمر المناسك؛ فقال إبراهيم: عرفت. وقال بعضهم: سميت بذلك لأن الناس يعترفون في هذا اليوم على ذلك الموقف بذنوبهم. وقيل: هي مأخوذة من العرف وهو الطّيب، قال الله تعالى:{عَرَّفَها لَهُمْ}
(1)
أي طيّبها لهم.
قوله عز وجل: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (199)؛قال عامّة المفسرين: كانت قريش وحلفاؤها ومن دان بدينها وهم الحمس لا يخرجون من الحرم إلى عرفات؛ وكانوا يقفون بالمزدلفة يقولون: نحن أهل الله وسكّان حرمه؛ فلا يخلف الحرم ولا يخرج منه فلسنا كسائر الناس، كانوا يتعظّمون أن يقفوا مع سائر العرب بعرفات. ويقول بعضهم لبعض: لا تعظّموا إلا الحرم، فإنكم إن عظّمتم غير الحرم تهاون الناس بحرمكم، فقفوا بجمع، فإذا أفاض الناس من عرفات أفاضوا من المشعر وهو المزدلفة.
فأمرهم الله أن يقفوا بعرفات ويفيضوا منها إلى المزدلفة مع سائر الناس فيكون المراد بالإفاضة في هذه الآية على هذا القول: الإفاضة من عرفات.
وكان سائر الناس غير الحمس يقفون بعرفات، فأنزل الله هذه الآية وأمر قريشا وغيرهم من الحمس أن يقفوا بعرفة حيث يقف الناس، ويدفعوا منها معهم.
وإنّما ذكر الناس وأراد قريشا بالإفاضة من حيث أفاض الناس؛ لأن قريشا ومن دان بدينها كانوا قليلا بالإفاضة إلى سائر الناس.
قوله تعالى: {(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ)} على هذا التأويل راجع إلى أوّل الكلام، كأنه «قال»
(2)
{(فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ)} {(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ)} {(فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ)} المسجد (الحرام).فيكون في الآية تقديم وتأخير. ويكون الأمر بالإفاضة عطفا على الإحرام دون الإفاضة من عرفات؛ فكأنه قال: أحرموا كما أمركم الله {(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ)} . وعلى هذا التأويل جمهور المفسرين.
(1)
محمّد 6/.
(2)
«قال» سقطت من المخطوط، ويقتضيها السياق بالضرورة.
وقال الضحّاك: (معنى الآية: ثمّ أفيضوا من المزدلفة الّتي تفيض منها قريش).
وإنّما ذهب الضحاك إلى أن المراد بالإفاضة في هذه الآية الإفاضة من المزدلفة؛ لأنّ الله تعالى عطف هذه الآية على الإفاضة من عرفات؛ فعلم أن المراد بهذه الإفاضة الإفاضة من المزدلفة؛ إلاّ أن عامّة المفسرين على الوجه الأول.
والمراد بقوله: {(مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ)} هم العرب كلهم غير الحمس، وقال الكلبيّ:(هم أهل اليمن).وقال الضحّاك: (النّاس هنا إبراهيم عليه السلام وحده؛ لأنّه كان الإمام المقتدى به، فسمّاه الله ناسا كما قال الله تعالى في آية أخرى:{إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً}
(1)
وقد يسمّى الرّجل الواحد باسم الناس كما قال الله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ}
(2)
يعني محمّدا صلى الله عليه وسلم.وكذلك قوله {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ}
(3)
يعني نعيم بن مسعود الأشجعي {إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} يعني أبا سفيان. وإنّما يقال هذا لمن هو ندب يقتدى به أو يكون لسان قومه وإمامهم.
وقال الزهريّ: (النّاس هاهنا آدم عليه السلام ودليله قراءة ابن مسعود: «(ثمّ أفيضوا من حيث أفاض النّاس يعني آدم)».وقال: (لأنّه نسي ما عهد إليه؛ قال الله تعالى:
{وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ}
(4)
.
وقوله تعالى: {(وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)} أي استغفروا الله هناك من ذنوبكم؛ أي في مواطن الحجّ، فإن الدعاء في تلك المواطن جدير بالإجابة. وقال بعضهم: هذا خطاب للحمس أمرهم الله بالاستغفار مما كان منهم في الجاهليّة من مخالفة أمره بترك الوقوف بعرفات. {(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ)} لذنوب عباده إذا تابوا، ({(رَحِيمٌ)} بهم بعد التوبة. ويقال: معناه: إنّ الله غفور رحيم للحاج.
(1)
النحل 120/.
(2)
النساء 54/.
(3)
آل عمران 173/.
(4)
طه 115/.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الحاجّ والعمّار وفد الله تعالى، إن دعوا أجابهم، وإن استغفروا غفر لهم]
(1)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [اللهمّ اغفر للحاجّ ولمن استغفر له الحاجّ]
(2)
.
وقد اختلف العلماء في الوقوف بالمزدلفة، فذهب أكثرهم إلى أنه ليس بركن على ما يروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم [إنّه قدّم ضعفة أهله بليل]
(3)
.وفي بعض الأخبار: أنّه قدّم أغيلمة بني عبد المطّلب بليل، وجعل يلطّخهم بيده ويقول:[أي بنيّ، لا ترموا جمرة العقبة إلاّ مصبحين]
(4)
.فلو كان الوقوف بها فرضا لما رخّص في تركه للضعيف كالوقوف بعرفة.
قوله عز وجل: {فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً؛} أي إذا فرغتم من متعبّداتكم {(فَاذْكُرُوا اللهَ)} عز وجل بالخير {(كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ)} بل أشدّ ذكرا. وذلك أنّهم كانوا يقفون بعد قضاء المناسك يوم النحر بين المسجد الذي في منى وبين الجبل، يتناشدون الأشعار ويتفاخرون بذكر فضائل آبائهم، يقول أحدهم: يا رب إنّ عبدك فلانا-يعني أباه-كان يفعل كذا وكذا من الخير. فأمرهم الله تعالى أن يذكروه فهو الذي فعل ذلك الخير إلى آبائهم، وأنّ أياديه عندهم أكثر وأعظم من أيادي آبائهم عليهم.
وروي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لهم بعد نزول هذه الآية: [إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهليّة وتعظّمها بالآباء، إنّ النّاس من آدم وإنّ آدم من تراب؛ لا فضل لعربيّ على أعجميّ إلاّ بالتّقوى] ثمّ تلا {يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى .. } .
الآية
(5)
.
(1)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الحج: باب فضل الحج والعمرة: الحديث (10525)؛ وقال: «فيه صالح بن عبد الله، منكر الحديث» .
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: ج 8 ص 81:الحديث (10516).
(3)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: الحديث (12078).والترمذي في الجامع: أبواب الحج: باب ما جاء في تقديم الضعفة: الحديث (893)،وقال:«حسن صحيح» .
(4)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الحج: باب الوقت المختار لرمي العقبة: الحديث (9651) عن ابن عباس، والحديث (9654).
(5)
أخرجه أبو داود في السنن: كتاب الأدب: باب في التفاخر بالأحساب: الحديث (5116).
وقال بعضهم: معناه: اذكروا الله بالتوحيد كما تذكرون آباءكم بذلك؛ فإنّكم لا ترضون أن تنسبوا إلى أبوين، وكذلك لا ترضون من أنفسكم باتّخاذ إلهين.
وعن عطاء والربيع والضحاك في قوله: {(كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ)} : (هو كقول الصّغير أوّل ما يفقه الكلام (أبه أبه) أي استغيثوا بالله وافزعوا إليه في جميع أموركم؛ كما يفزع الصّغير إلى أبيه في جميع أموره ويلتحّ بذكره)
(1)
.وعن أبي الجوزاء قال: قلت لابن عباس رضي الله عنه: أخبرني عن قول الله عز وجل: {(فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ)} وقد يأتي على الرّجل اليوم لا يذكر أباه، فقال ابن عبّاس:(ليس كذلك، ولكن أن تغضب لله إذا عصي أشدّ من غضبك لوالديك إذا شتما)
(2)
.
وأما وجه نصب (أشدّ) فقال الأخفش: (اذكروه ذكرا أشدّ ذكرا).وقال الزجّاج: (هو في محلّ الخفض، ولكنّه لا ينصرف لأنّه صفة على وزن (أفعل).
ونصب (ذكرا) على التّمييز)
(3)
.
قوله عز وجل: {فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} (200)؛نزلت في مشركي قريش كانوا يقولون في عادتهم في الحجّ: اللهمّ ارزقنا إبلا وبقرا وغنما وعبيدا وإماء وأموالا. ولم يكونوا يسألون لأنفسهم التوبة والمغفرة، كانوا لا يرجون إلا نعيم الدّنيا، ولا يخافون البعث والنشور
(4)
.فبيّن الله تعالى بقوله: {(وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)} أي من نصيب ولا ثواب.
والمعنى: من يطلب بحجّه أمور الدّنيا لا يريد بذلك ثواب الله تعالى، فلا نصيب له في ثواب الآخرة. وقال أنس بن مالك: (كانوا يطوفون بالبيت عراة فيدعون
(1)
في الدر المنثور: ج 1 ص 558؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن أبي حاتم عن عطاء» .
(2)
في الدر المنثور: ج 1 ص 558؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم» .
(3)
قاله في معاني القرآن وإعرابه: ج 1 ص 236.
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3071) عن أبي بكر بن عياش.
ويقولون: اللهمّ اسقنا المطر وأعطنا على عدوّنا الظّفر)
(1)
.وقال قتادة: (هذا عبد نوى الدّنيا؛ لها أنفق ولها عمل ولها نصب)
(2)
فهي همّه وسؤله وطلبه.
ثم بيّن الله تعالى دعاء المؤمنين بقوله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النّارِ} (201)؛ واختلفوا في معنى الحسنتين؛ فقال عليّ كرّم الله وجهه: {(آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً)} أي امرأة صالحة، {(وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً)} الحور العين، {(وَقِنا عَذابَ النّارِ)} المرأة السّوء).
وقال الحسن: (معناه: آتنا في الدّنيا العلم والعبادة، وفي الآخرة الجنّة)
(3)
.قال السديّ: (معناه: آتنا في الدّنيا رزقا حلالا واسعا وعملا صالحا، وفي الآخرة مغفرة وثوابا).وقال عطيّة: (معناه: {(آتِنا فِي الدُّنْيا)} العلم والعمل به، {(وَفِي الْآخِرَةِ)} تيسير الحساب ودخول الجنّة).وقال مجاهد:(معنى الحسنة: النّعمة، فكأنّهم سألوا الله نعمة الدّنيا والآخرة وأن يقيهم عذاب النّار).
وقيل: معناه: آتنا في الدنيا التوفيق والعصمة، وفي الآخرة النجاة والرحمة.
وقيل: معناه: آتنا في الدنيا أولادا أبرارا، وفي الآخرة مرافقة الأنبياء. وقيل: معناه: آتنا في الدنيا المال والنعمة، وفي الآخرة تمام النعمة، وهو الفوز من النار ودخول الجنة.
وقيل: معناه آتنا في الدنيا: الدين واليقين، وفي الآخرة اللقاء والرضاء. وقيل: معناه:
آتنا في الدنيا الثّبات على الإيمان، وفي الآخرة السلامة والرضوان. وقيل: معناه: آتنا في الدنيا حلاوة الطاعة، وفي الآخرة لذّة الرؤية. وقيل: معناه: آتنا في الدنيا الإخلاص، وفي الآخرة الخلاص.
وقال قتادة: (معناه: آتنا في الدّنيا عافية، وفي الآخرة عافية)
(4)
.ودليل ذلك ما روي عن أنس: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد مريضا قد أضنى ونحل جسمه حتّى صار كالفرخ المنتوف، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم:[هل كنت تدعو الله بشرّ أو تسأله شيئا؟] قال:
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3072) بلفظ قريب.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3074).
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3079).
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3077).
كنت أقول: اللهمّ ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجّله لي في الدّنيا. فقال: [سبحان الله! إذن لا تستطيعه ولا تطيقه، إنّك ضعيف لا تستطيع أن تقوم لعذاب الله، هلاّ قلت: ربّنا آتنا في الدّنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النّار] فدعا الرّجل بذلك فشفاه الله عز وجل وأبرأه من مرضه
(1)
.
وقال سهل بن عبد الله: معنى الآية: {(رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا)} السّنّة {(وَفِي الْآخِرَةِ)} الجنّة. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (عند الرّكن اليمانيّ ملك قائم منذ خلق الله السّماوات والأرض يقول: آمين، فإذا مررتم به فقولوا: {(رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النّارِ)}.وقال عوف في هذه الآية: (من آتاه الله الإسلام والقرآن ومالا وولدا فقد أوتي في الدّنيا حسنة وفي الآخرة حسنة).
وروي أنّ قوما قالوا لأنس بن مالك: أدع لنا؛ فقال: {(رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النّارِ)} فقالوا: زدنا، فأعادها، فقالوا: زدنا، فأعادها، فقالوا: زدنا، فقال:(ما تريدون! قد سألت الله لكم خير الدّنيا والآخرة).قال أنس:
وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يكثر أن يدعو بها يقول: [اللهمّ ربّنا آتنا في الدّنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النّار]
(2)
.
قوله عز وجل: {أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ} (202) معناه: إنّ الذين يسألون الله تعالى الدنيا والآخرة لهم حظّ ونصيب وافر من الثواب والخير والجزاء اكتسبوه في حجّهم؛ وفي هذا بيان استجابة دعائهم على القطع.
(1)
في الدر المنثور: ج 1 ص 559؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو يعلى وابن حبان وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب» .وأخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الذكر: باب كراهية الدعاء: الحديث (23 و 2688/ 24).
(2)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الدعوات: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم «ربنا آتنا في الدنيا حسنة» :الحديث (6389).ومسلم في الصحيح: كتاب الذكر والدعاء: باب فضل الدعاء باللهم: الحديث (26 و 2690/ 27).
وعن ابن عباس في هذه الآية: أنّ رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ أبي مات ولم يحجّ، أفأحجّ عنه؟ قال:[أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته، أما كان ذلك يجزي؟] قال: نعم، قال:[فدين الله أحقّ أن يقضى]،قال: فهل لي من أجر؟ فأنزل الله عز وجل: {(أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا)}
(1)
.يعني من حجّ عن ميت كان الأجر بينه وبين الميت.
وقال سعيد بن جبير: جاء رجل إلى ابن عبّاس فقال: إنّي أكريت دابّتي واشترطت عليهم أن أحجّ، فهل يجزيني ذلك؟ قال: (أنت من الّذين قال الله فيهم:
{(أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا} ».
قوله تعالى: {(وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ)} يعني إذا حاسب فحاسبه سريع لا يحتاج إلى عقد يد ولا إلى وعي صدر ولا رؤية ولا فكر. وقال الحسن: (أسرع من لمح البصر).
وفي الخبر: أنّ الله تعالى يحاسب العباد في قدر حلب شاة؛ وأن محاسبة الله تعالى ليست كمحاسبة الناس بعضهم لبعض، يحاسبهم جميعا في لحظة واحدة، يظنّ كلّ واحد أنه
(1)
عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما؛ قال: كان الفضل بن عبّاس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه فقالت: يا رسول الله: إنّ فريضة الله في الحجّ على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الرّاحلة! أفأحجّ عنه؟ قال: [نعم] وذلك في حجّة الوداع. رواه النسائي في السنن: كتاب الحج: باب حج المرأة عن الرجل: ج 5 ص 119.وبمعناه في صحيح البخاري: كتاب جزاء الصيد: باب الحج عمن لا يستطيع: الحديث (1854 و 1855).
عن عبد الله بن الزّبير؛ قال: جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ أبي شيخ كبير لا يستطيع الرّكوب وأدركته فريضة الله في الحجّ؛ فهل يجزئ أن أحجّ عنه؛ قال: [أنت أكبر ولده؟] قال: نعم! قال: [أرأيت لو كان على أبيك دين! أكنت تقضيه؟] قال: نعم. قال: [فحجّ عنه]. رواه الإمام أحمد في المسند: ج 4 ص 5.والنسائي في السنن: كتاب الحج: باب تشبيه قضاء الحج بقضاء الدين: ج 5 ص 117 - 118.وإسناده صحيح.
عن ابن عبّاس رضي الله عنهما؛ أنّ امرأة من جهينة جاءت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: إنّ أمّي نذرت أن تحجّ! فلم تحجّ حتّى ماتت، أفأحجّ عنها؟ قال:[نعم حجّي عنها؛ أرأيت لو كان على أمّك دين؛ أكنت قاضيته؟ اقضوا الله فالله أحقّ بالوفاء].رواه البخاري في الصحيح: كتاب جزاء الصيد: باب الحج والنذر عن الميت: الحديث (1852).
يحاسبه خاصة، لا يشغله شيء عن شيء. ومعنى الحساب: تعريف الله تعالى عباده مقادير الخير على أعمالهم، وتذكيره إياهم بما قد نسوه. يدلّ عليه قوله تعالى:{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ}
(1)
.وقيل: معناه سريع الحساب؛ أي سريع المجازاة، وفيه إخبار عن سرعة فناء الدنيا وقيام الساعة.
قوله عز وجل: {*وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ؛} يعني اذكروا الله تعالى بالتكبير إدبار الصلوات وعند الجمرات، يكبر مع كلّ حصاة؛ وغيرها من الأوقات. واختلفوا في الأيام المعدودات؛ فروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وعطاء والضحاك والنخعي:(أنّ الأيّام المعدودات: أيّام التّشريق؛ والأيّام المعلومات: أيّام العشر من ذي الحجّة)
(2)
؛وهكذا روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. وروي أيضا عن ابن عباس: (أنّ الأيّام المعدودات: أيّام العشر، والأيّام المعلومات: أيّام النّحر).
ولا شكّ أن في هذه الرواية غلطا وهي خلاف الكتاب؛ لأنّ الله تعالى عقّب الأيام المعدودات بقوله: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ؛} وليس في العشر حكم بتعليق يومين دون الثالث. وعن أبي يوسف: (أنّ المعلومات: أيّام النّحر، والمعدودات: أيّام التّشريق)؛قال هذا القول استدلالا من الآيتين؛ لأنّ الله تعالى قال في ذكر الأيام المعلومات: {عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ}
(3)
.وقال في هذه الآية: {(فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)،} فيوم النّحر على هذه الرواية من المعلومات دون المعدودات؛ وآخر أيام التشريق من المعدودات دون المعلومات؛ واليوم الثاني والثالث من أيام النحر من المعلومات والمعدودات جميعا.
والجواب عن استدلال أبي يوسف من الآيتين: أنّ لفظ المعلومات يقتضي الشّهرة، ولفظ المعدودات يقتضي تقليل العدد كما في قوله:{دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ}
(4)
فاقتضى الظاهر أنّ المعدودات أقل من المعلومات؛ ويحتمل أن يكون معنى {عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ}
(1)
المجادلة 6/.
(2)
أخرجه الإمام الطبري في جامع البيان: النص (3086 - 3089).
(3)
الحج 28/.
(4)
يوسف 20/.
{بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ} لما رزقهم كما قال الله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ} أي لما هداكم، فكأنّ الله تعالى أراد بالمعلومات أيام العشر؛ لأنّ فيها يوم النحر وفيه الذبح، ويكون ذلك اليوم بتكرار سنين عليه أيّاما.
وأما الذّكر المذكور في هذه الآية فهو الذّكر عند رمي الجمار في أيام التشريق.
وقال بعضهم: هو التكبير في إدبار صلاة العصر في هذه الأيام؛ يكبّر من صلاة الغداة من يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق عند جماعة من الفقهاء. والتأويل الأول أصحّ وأقرب إلى ظاهر القرآن؛ لأن الله تعالى عقّب الذكر في هذه الآية بقوله:
{(فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)} أي من تعجّل الرجوع إلى أهله فلا إثم عليه في ترك الرمي في اليوم الثالث؛ {وَمَنْ تَأَخَّرَ؛} إلى آخر النّفر وأقام هنالك في اليوم الثالث، {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} .
قوله تعالى: {لِمَنِ اتَّقى؛} أي لمن اتّقى الإثم والفسوق والتفريط في حقوق الحجّ كلها. وأما من لم يتّق فغير موعود له الثواب. وقال ابن عمر وابن عباس وعطاء وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك والنخعيّ والسديّ: (معنى الآية: فمن تعجّل في يومين من أيّام التّشريق فنفر في اليوم الثّاني من أيّام التّشريق؛ فلا إثم عليه في تعجيله، ومن تأخّر عن النّفر في الثّاني من أيّام التّشريق إلى اليوم الثّالث حتّى ينفر في اليوم الثّالث؛ فلا إثم عليه في التّأخير، فإن لم ينفر في اليوم الثّاني وأقام حتّى تغرب الشّمس؛ فليقم إلى الغد من اليوم الثّالث فيرمي الجمار ثمّ ينفر مع النّاس).
وقال بعضهم: معنى الآية: فمن تعجّل في يومين فهو مغفور له لا إثم عليه ولا ذنب، ومن تأخّر فكذلك، وهو قول عليّ بن أبي طالب وأبي الدّرداء وابن مسعود والشعبي. قال معاوية بن قرة:(خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه)
(1)
.وقال يحيى بن إسحاق: سألت مجاهدا عن ذلك فقال: (معناه: فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه إلى قابل، ومن تأخّر فلا إثم عليه أيضا إلى قابل)
(2)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3125).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3126).
وقوله تعالى: {(لِمَنِ اتَّقى)} قال الكلبيّ: (معناه: لمن اتّقى قتل الصّيد، فإنّه لا يحلّ له أن يقتل صيدا حتّى يخلف أيّام التّشريق).وقال قتادة: (معناه: لمن اتّقى أن يصيب في حجّته شيئا ممّا نهى الله عنه).وقال أبو العالية: (معناه: فلا إثم عليه لمن اتّقى الله فيما بقي من عمره).وكان ابن مسعود يقول: (إنّما جعل مغفرة للذّنوب لمن اتّقى الله في حجّه).قال ابن جريج: (وهي في مصحف عبد الله: فلا إثم عليه لمن اتّقى الله).وعن ابن عباس: (معناه: لمن اتّقى عبادة الأوثان ومعاصي الله).فإن قيل كيف قال الله تعالى: {(وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)} ومعلوم أنّ من تأخر إنّما تأخّر لإقامة واجب، فلا يليق بحاله أن يقال: فلا إثم عليه، بل يليق أن يقال: ومن تأخر كان أعظم لأجره؟ قيل: هذا على مزاوجة الكلام.
وقيل: إنّ رمي الجمار لا يجوز أن يكون تطوّعا؛ إذ المتنفل به يكون غائبا؛ فلمّا قال الله تعالى: {(فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)} أوهم ذلك كون الرمي في ذلك اليوم الثالث تطوّعا؛ لأنّ هذا تخيير بين فعله وتركه، فقال تعالى:{(وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)} ليبيّن أنّ هذا واجب خيّر بين فعله.
فصل: والأيام المسمّاة في الحجّ ستة أيام: يوم التّروية؛ ويوم عرفة
(1)
؛ويوم النّحر؛ ويوم القرّ؛ ويوم النّفر؛ ويوم الصّدر. وسمي يوم التروية لأنّ جبرائيل عليه السلام قال لإبراهيم عليه السلام: [احمل ريّك من الماء].وأما عرفة فقد ذكرنا لم سمي به، ويوم النّحر معلوم؛ ويوم القرّ لاستقرار الناس بمنى، ويوم النّفر لأنّهم ينفرون من منى إلى مكة، ويوم الصّدر لأنّهم يصدرون إلى أهاليهم. ورمي الجمار مشروع في يوم القرّ والنفر والصدر؛ وهي أيام التشريق.
قوله عز وجل: {وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (203)؛ هذا أمر لهم بالتقوى في مستقبل أعمارهم؛ أي لا تتّكلوا فيما أسلفتم من أعمال البرّ، ولكن زيدوا في الطاعة في باقي العمر. وقوله تعالى:{(وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)} أي في الآخرة يجازيكم بأعمالكم؛ إذ الحشر إنّما يكون للمجازاة، ومن تصوّر أنه لا بد
(1)
سقط من المخطوط: (ويوم عرفة).
من حشر ومحاسبة ومساءلة؛ ولا بد من أحد أمرين: إمّا الجنة وإما النار، يدعوه بذلك إلى التقوى والتشديد.
والحشر في اللغة: هو الجمع للناس من كلّ ناحية؛ والمحشر هو المجمع؛ فيكون معنى الآية: {(وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)} أي تجمعون.
قوله عز وجل: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ} (204)؛قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق، كان حسن المنظر؛ حلو الكلام؛ فاجر السّريرة؛ حلاّفا شديد الخصومة في الباطل، وكان يجالس النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيظهر له الحسن ويحلف بالله أنّه يحبّه ويتّبعه على دينه؛ وكان صلى الله عليه وسلم يسمع كلامه فيعجبه، وكان يدنيه من مجلسه، فأظهره الله على نفاقه)
(1)
.
ومعنى الآية: {(وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ)} كلامه وحديثه؛ أي يفرح بإظهاره الإيمان وتسرّ بقوله، {(وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ)} {(وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ)} أي يقول: الله شهيد على ما في قلبي كما هو على لساني من الإيمان. وقوله تعالى: {(وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ)} أي شديد الخصومة جدل بالباطل. والألدّ: مأخوذ من لديدتي العنق؛ وهما صفحتاه. وتأويله: أن خصمه في أيّ وجه أخذ من أبواب الخصومة من يمين أو شمال غلبه في ذلك.
قوله تعالى: {وَإِذا تَوَلّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ} (205)؛أي إذا أعرض عنك الأخنس يا محمد وفارقك أسرع مشيا في الأرض ليعصي فيها ويضرّ المؤمنين، وليهلك ما قدر عليه من زرع ونسل، {(وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ)} أي لا يرضى المعاصي.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3140).وفي الدر المنثور: ج 1 ص 572؛ قال السيوطي: «أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر عن الكلبي قال: كنت جالسا بمكة، فسألوني عن هذه الآية؟ قلت: هو الأخنس بن شريق، وسمعني فتى من ولده، فلما قمت أتبعني فقال: إن القرآن إنما أنزل في أهل مكة، فإن رأيت أن لا تسمّي أحدا حتى تخرج منها فافعل» .
روي: أنّ الأخنس خرج من عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فمرّ بزرع فأحرقه؛ وبحمار فعقره؛ فنزلت هذه الآية بما فيها من الوعيد، فحسبه جهنّم
(1)
،وصارت عامة في جميع المفسدين. وقيل: معنى الآية: {(لِيُفْسِدَ فِيها)} أي ليوقع الفتنة بين الناس فيشتغلوا عن الزراعة وعن أعمالهم، فيكون في ذلك هلاك الحرث والنسل. وقيل: يخيف الناس حتى يهربوا من شرّه، فيخرّب الضّياع وينقطع نسل الناس والدواب.
وفي هذه الآية تحذير من الاغترار بظاهر القول وما يبديه الرجل من حلاوة المنطق، وأمر بالاحتياط في أمر الدين والدنيا حتى لا يقتصر على ظاهر أمر الإنسان خصوصا فيمن هو ألدّ الخصام؛ ومن ظهرت منه دلائل الريبة. ولهذا قالوا: إنّ علينا استبراء حال من نراه في الظاهر أهلا للقضاء والشهادة والفتيا والأمانة، وأن لا يقبل منهم ظاهرهم حتى يسأل عنهم ويبحث عن أمرهم، إذ قد حذّر الله تعالى أمثالهم في توليتهم على أمور المسلمين؛ ألا ترى أنه عقّبه بقوله:{(وَإِذا تَوَلّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها)} فيحتمل أن يكون المراد بالتولّي: أن يتولّى أمرا من أمور المسلمين، فأعلم الله بهذه الآية أنه لا يجوز الاقتصار على الظاهر دون الاحتياط والاستبراء.
قوله عز وجل: {وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ؛} أي إذا قيل لهذا المنافق: احذر عقوبة الله ولا تفسد، أخذته المنعة والحميّة والأنفة بسبب الإثم الذي فيه والكفر الذي في قلبه؛ يعني أنه تكبّر وقال: أمثلي يقال له: اتّق. ويقال:
حملته العزّة على فعل ما يوجب الإثم.
وقوله تعالى: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ؛} أي كفاه النار في الآخرة عقوبة ونكالا. قوله تعالى: {وَلَبِئْسَ الْمِهادُ} (206)؛أي لبئس القرار النار.
والمهاد: الفراش الموطئ للنوم كما يمهد للطفل؛ فلما كان المعذّب يلقى في نار جهنم، جعل ذلك مهادا له على معنى: أنّ جهنم للكافر مكان كالمهاد للمؤمن في الجنة.
(1)
أخرجه الطبري عن السدي في جامع البيان: الأثر (3140).ولم يثبت أن الأخنس أسلم. قاله ابن عطية في التفسير.
ويحكى: أنّ يهوديا كانت له حاجة إلى هارون الرشيد، فاختلف إلى بابه زمانا فلم يقض حاجته، فوقف يوما على الباب، فخرج هارون وهو يسعى بين يديه، فقال له: اتّق الله يا أمير المؤمنين! فنزل هارون عن دابّته وخرّ ساجدا؛ فلما رفع رأسه أمر بحاجته فقضيت. فقيل له: يا أمير المؤمنين، نزلت عن دابّتك لقول يهودي؟! قال: لا، ولكن ذكرت قول الله {(وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ)} .
قوله عز وجل: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ؛} قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في صهيب بن سنان وعمّار بن ياسر وأمّه سميّة وأبيه ياسر وبلال وخبّاب بن الأرتّ وغيرهم، أخذهم المشركون في طريق مكّة؛ فعذّبوهم، فأمّا صهيب فقال لهم: أنا شيخ كبير لا يضرّكم أمنكم كنت أم من عدوّكم، أعطيكم جميع مالي ومتاعي وذروني وديني نشتريه منكم بمالي، ففعلوا؛ فأعطاهم ماله وتوجّه إلى المدينة. فلمّا دخل المدينة لقيه أبو بكر فقال: ربح البيع يا صهيب، قال: وبيعك لا يخسر، وما ذاك يا أبا بكر! فأخبره بما نزل فيه؛ وهو قوله:
{(وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ)}
(1)
.
وأمّا سميّة وياسر فقتلا، وكانا أوّل قتيلين قتلا من المسلمين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما بمكّة:[اصبروا يا آل ياسر، فإنّ موعدكم الجنّة]
(2)
.وأمّا الآخرون؛ فإنّهم أعطوا على العذاب بعض ما أراد المشركون من كلمة الكفر وسب الإسلام؛ وكانت قلوبهم مطمئنّة بالإيمان، فتركوا وقدموا المدينة، وفيهم نزل قوله تعالى:
{مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ}
(3)
.
ومعنى قوله: {(وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ)} على هذا التأويل الذي ذكرناه:
ومن الناس من يشري نفسه ودينه بماله. وعن عمر وعليّ رضي الله عنهما: أنّهما قالا
(1)
أخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب معرفة الصحابة: باب ذكر هجرة صهيب: الحديث (5759) عن سعيد بن المسيب مرسلا. والطبراني في المعجم الكبير: ج 8 ص 29:ذكر وفاة صهيب: الحديث (7290) مرسلا.
(2)
نقله الهندي في كنز العمال، ونسبه للطبراني والخطيب: النص (33568).
(3)
النحل 106/.
في هذه الآية: (هو الرّجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيقتل عليه)
(1)
فعلى هذا معنى قوله تعالى: {(يَشْرِي نَفْسَهُ)} أي يبيع نفسه يبذلها في الجهاد في سبيل الله. وهذا من أسماء الأضداد، قال الشاعر
(2)
في شريت بمعنى بعت:
وشريت بردا ليتني
…
من بعد برد كنت هامه
أي هلكت. وقوله تعالى: {(ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ)} نصب على أنه مفعول له؛ كأنّه قال: لابتغاء مرضاة الله. وقوله تعالى: {وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ} (207)؛أي رحيم بهم يرغّبهم في الخير، ويثيبهم عليه رأفة بهم. ويقال: إنّه لرأفته ورحمته أمرهم ببيع أنفسهم لكي ينالوا من كريم ثوابه ما هو خير لهم.
قوله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً؛} قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية فيمن أسلم من أهل الكتاب: عبد الله بن سلام وأصحابه، وذلك أنّهم عظّموا السّبت وكرهوا لحوم الإبل وألبانها، واتّقوا أشياء كانوا يتّقونها قبل أن يسلموا. وقالوا: يا رسول الله، إنّ التّوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم في صلاتنا باللّيل؟ فأنزل الله هذه الآية وأمرهم أن يدخلوا في جميع شرائع محمّد صلى الله عليه وسلم
(3)
.
ومعناها: {(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)} أي في الإسلام، وقال مجاهد:(في أحكام الدّين وأعماله)
(4)
.وأصله من الاستسلام والانقياد؛ ولذلك قيل للصلح: سلم. وقال حذيفة في هذه الآية: (الإسلام ثمانية أسهم: الصّلاة سهم، والزّكاة سهم، والصّوم سهم، والحجّ سهم، والعمرة سهم، والجهاد سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنّهي عن المنكر سهم. وقد خاب من لا سهم له)
(5)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3180).
(2)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 3 ص 21؛ قال القرطبي: البرد هنا اسم غلام.
(3)
في الدر المنثور: ج 1 ص 579؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن أبي حاتم» .وعن عكرمة قال: «أخرجه ابن جرير» .وفي جامع البيان عن عكرمة: النص (3088).
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3191).
(5)
الجامع لأحكام القرآن: ج 3 ص 23.
وقال الحسن رضي الله عنه: (معنى الآية: {(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)} تكلّموا بكلمة الإيمان؛ أي أقيموا على الإيمان) حثّ الله تعالى بهذه الآية جميع المؤمنين على الإسلام والطاعة لمن يشري نفسه؛ ألا تراه قال بعد ذلك: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ؛} أي لا تفعلوا فعل ألدّ الخصام. وقيل: {(وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ)} أي لا تقتفوا آثاره؛ لأنّ ترككم شيئا من شرائع الإسلام اتباع للشيطان.
قوله تعالى: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (208)؛أي إنه عدوّ لكم ظاهر العداوة، فإن قيل: كيف قال الله تعالى: {(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)} وهو لم يبدلنا شخصه؟ قيل: قد كان إبداؤه العداوة لأبينا آدم عليه السلام حين امتنع من السّجود له وقال: أنا خير منه، فكان إبداؤه وإظهاره العداوة لأبينا آدم عليه السلام إبداء وإظهارا لنا.
قوله تعالى: (كافّة) أي جميعا مأخوذ من: ككفت الثّوب؛ أي جمعته وضممت بعضه إلى بعض. ومعنى كافّة في اللغة: مشتق من كفّ الشّيء يكفّه؛ أي منعه.
وسميت الراحة مع الأصابع كفّا؛ لأنّها يكفّ بها عن سائر البدن. ورجل مكفوف:
أي كفّ بصره عن النظر. ومنه قيل لحاشية القميص: كفّة؛ لأنّها تمنع الثوب من أن ينتشر. وكلّ مستطيل فحرفه كفّة بالضم، وكل مستدير فحرفه كفّة بالكسر نحو: كفّة الميزان.
واختلف القراء في السّلم؛ فقرأ ابن عباس والأعمش: «(السّلم)» بكسر السين هنا وفي الأنفال وسورة محمد. وقرأ أهل الحجاز والكسائي بالفتح، وقرأ حمزة وخلف في الأنفال بالفتح وسائرها بالكسر، وقرأ الباقون هنا بالكسر والباقي بالفتح، وهما لغتان.
قوله عز وجل: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (209)؛أي إن زللتم؛ أي إن عدلتم عن الطريق المستقيم بالخروج عن طاعة الله إلى المعصية. وقال ابن عباس: (معناه: فإن ملتم إلى أوّل شريعتكم من تحريم لحوم الإبل والسبت). {(مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ)} أي الدّلالات والحجج؛ يعني محمّدا صلى الله عليه وسلم وشرائعه، {(فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)} أي غالب بالنقمة ولا يعجزه شيء من ذلك.
وقوله {(حَكِيمٌ)} أي محكم في الفعل، حكيم في أمره. ويقال: عالم ذو حكمة فيما شرع لكم من دينه. وقال ابن حبان
(1)
: (معنى: فإن زللتم؛ أي أخطأتم).وقال السديّ: (فإن ضللتم).وقال ابن عباس: (يعني الشّرك).
وقرأ أبو السمّال العدوي: «(فإن زللتم)» بكسر اللاّم، وفي هذه الآية تشبيه العصيان بزلّة القدم.
قوله عز وجل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ؛} افترق الناس في تفسير هذه الآية على أربعة أقوال؛ فرقة منهم يتأولونها على ظاهرها ويصفون الله بالإيتاء الذي هو زوال من مكان إلى مكان. وهذا القول غير مرض تعالى الله عنه. وفرقة يفسرون الإتيان تفسيرا مجملا لا يعدون ظاهر اللفظ، يقولون: يأتي كيف شاء بلا كيف. وهذا غير مرض أيضا.
وأما الفرقتان الأخريان من أهل السّنّة والجماعة؛ فإحداهما لا يفسّرون هذه الآية ويقولون: نؤمن بظاهرها ونسكت عن الخوض في معناها؛ لما فيه من الاشتباه والتشبيه. وقال الكلبيّ: (هذا من المكتوم الّذي لا يفسّر).وقال ابن عباس: (نؤمن بها ولا نفسّرها كما قال تعالى في المتشابهات: {وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ}
(2)
).
وأمّا الفرقة الرابعة فيفسرونها ويردّون مثل هذه المتشابهات إلى الآيات المحكمات ويقولون: معناها ما ينظر الكفار بعد قيام الحجة عليهم، إلا أن يأتيهم أمر الله وهو الحساب، أو أن يأتيهم عذاب الله؛ لأنّ الإتيان لفظ مشتبه يحتمل حقيقة الإتيان ويحتمل إتيان الأمر، وقد قامت الدلالة على أنّ الله تعالى لا يجوز عليه الإتيان والمجيء والانتقال والمزاولة؛ لأنّ ذلك من صفات الأجسام والمحدثين، والله تعالى منزّه عن ذلك، قال عليّ رضي الله عنه:(من زعم أنّ الله في شيء أو من شيء أو على شيء فقد ألحد؛ لأنّه لو كان من شيء لكان محدثا؛ ولو كان في شيء لكان محصورا؛ ولو كان على شيء لكان محمولا).وإذا كان لفظ الإتيان مشتبها وجب ردّه إلى المحكم
(1)
الإمام الحافظ محمّد بن حبان، صاحب الصحيح (270 - 354) من الهجرة.
(2)
آل عمران 7/.
نحو قوله تعالى في سورة النحل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ}
(1)
.
وقال بعضهم: معناه: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بظلل من الغمام وبالملائكة أو مع الملائكة، فتكون في معنى الباء، فعلى هذا التأويل زال الإشكال وسهل الأمر.
وأما ذكر الظّلّة في الآية، فإنّ الهول إذا بدا من الظّلة المظلمة من السحاب كان أعظم وأشدّ، يدلّ عليه قوله تعالى في قصة شعيب:{فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}
(2)
.
وأما قوله: {(وَالْمَلائِكَةُ)} قرأ أبو جعفر بخفض «(الملائكة)» عطفا على الغمام؛ أي «(والظّلل)» من الملائكة؛ أي جماعة من الملائكة. قوله «(والملائكة)» وسمّاهم الله ظللا؛ لأن الملائكة لا تسير بالأقدام ولكنها تطير بالأجنحة كما تطير الطير. ومن قرأ:
«(والملائكة)» بالرفع؛ وهي قراءة الجمهور والإجماع فتقديره: وتأتيهم الملائكة في ظلل، يدلّ عليه قراءة أبي وعبد الله:«(هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام)» .والغمام: هو السّحاب الرقيق الأبيض، سمّي بذلك لأنه يغمّ؛ أي يستر.
قوله تعالى: {(وَقُضِيَ الْأَمْرُ)} أي المعنى: الحكم بإنزال الفريقين منازلهم من الجنة والنار. قوله تعالى: {وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} (210)؛أي عواقب الأمور ومصير الخلائق إلى الله تعالى، ومن قرأ «(ترجع)» برفع التاء فعلى ما لم يسم فاعله، ومن قرأ بنصب التاء فمعناه: والى الله تصير الأمور. ومن قرأ بالياء؛ فلأن تأنيث الأمور غير حقيقيّ.
قوله عز وجل: {سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ؛} أي سل يا محمد يهود أهل المدينة كم أعطيناهم؛ أي أعطينا أسلافهم وإمامهم من علامة واضحة مثل العصا، واليد البيضاء؛ وفلق البحر؛ وتظليل الغمام؛ وإنزال المنّ والسلوى وغير ذلك مما كان في وقت موسى عليه السلام من المعجزات، كما آتيتك من المعجزات فلم يؤمن أولئك كما لم يؤمن هؤلاء الكفار.
(1)
الآية 33/.
(2)
الشعراء 189/.
وهذا السؤال سؤال تقريع وإنكار للكفار وتقرير لقلب النبي صلى الله عليه وسلم لا سؤال استفهام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يحتاج إلى السؤال. والمعنى: كما أن هؤلاء لم يؤمنوا بالآيات البينات التي أعطيتها فلا تغتمنّ. و {(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ)} أي انظرها في آيات بني إسرائيل كم أعطيناهم من علامات واضحات في زمن موسى عليه السلام.
قوله عز وجل: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ} (211)؛أي من يغيّر حجّة الله الدالة على أمر نبيّه صلى الله عليه وسلم من بعد ما جاءته حجة الله بأن يجحدها أو يصرفها عن وجهها، {(فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)} أي شديد التعذيب لمن استحقّه، وسمى الله تعالى الحجّ نعمة؛ لأنّها من أعظم النّعم على الناس في أمر الدين.
قوله عز وجل: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ؛} نزلت هذه الآية في مشركي العرب أبي جهل وأصحابه، كانوا يتنعّمون بما بسط الله لهم في الدنيا من المال ويكذبون بالمعاد، ويسخرون من المؤمنين الذين يرفضون الدنيا ويقبلون على الطاعة والعبادة، ويقولون:
لو كان محمّد نبيا لا تبعه أشرافنا، والله ما يتبعه إلا الفقراء مثل ابن مسعود وعمار وصهيب وسالم وأبي عبيدة بن الجراح وبلال وخبّاب وعامر بن فهيرة وغيرهم، هكذا قال الكلبيّ.
وقال مقاتل: (نزلت في المنافقين: عبد الله بن أبيّ وأصحابه)
(1)
،كانوا يتنعّمون في الدّنيا بما بسط الله لهم فيها من الخير، ويسخرون من ضعفاء المؤمنين وفقراء المهاجرين، ويقولون: انظروا إلى هؤلاء الّذين يزعم محمّد صلى الله عليه وسلم أنّه يغلب بهم! وكانوا يعيّرونهم بقلّة ذات أيديهم. وقال عطاء: (نزلت في علماء اليهود ورؤسائهم من بني قريظة والنّضير، سخروا من فقراء المهاجرين فوعدهم الله تعالى أن يعطيهم أموال بني قريظة والنّضير بغير قتال أسهل شيء وأيسره).
(1)
قاله مقاتل في التفسير: ج 1 ص 110.
وعن عليّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من استذلّ مؤمنا أو مؤمنة أو حقّره لفقره وقلّة ذات يده، شهّره الله تعالى يوم القيامة ثمّ يفضحه، ومن بهت مؤمنا أو مؤمنة أو قال فيه ما ليس فيه، أقامه الله تعالى على تلّ من نار حتّى يخرج ممّا قال فيه، وإنّ المؤمن عند الله أعظم من ملك مقرّب، وليس شيء أحبّ إلى الله تعالى من مؤمن تائب أو مؤمنة تائبة، وإنّ المؤمن يعرف في السّماء كما يعرف الرّجل أهله وولده]
(1)
.وقال أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه: (لا تحقرنّ أحدا من المسلمين، فإنّ صغير المسلمين عند الله كبير).وقال يحيى بن معاذ: (بئس القوم قوم إذا استغنى المؤمن بينهم حسدوه، وإذا افتقر بينهم استذلّوه).
قوله عز وجل: {(وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ)} أي فوقهم في الدرجة، يعني الذين اتّقوا الشرك والفواحش والكبائر فوق الكفار يوم القيامة، في الجنة يكون المؤمنون في علّيّين والكفار في الجحيم.
قوله عز وجل: {وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ} (212)؛قال ابن عباس: (يعني كثيرا بغير مقدار؛ أي يرزق رزقا كثيرا لا يعرف حسابه).وقال الضحاك: (يعني بغير تبعة، يرزقه في الدّنيا ولا يحاسبه في الآخرة).
وقيل: معناه: أن الله تعالى لا يحاسب على ما يرزق؛ لأنه لا شريك له فيمانعه ولا قسيم فينازعه، ولا يقال له: لم أعطيت هذا وحرمت هذا، ولا لم أعطيت هذا أكثر من هذا؛ لأنه عز وجل لا يسأل عما يفعل. وقيل: معناه: يعطي من غير أن يخاف نفاذ خزائنه، فلا يحتاج إلى حساب ما يخرج منها؛ إذ كان الحساب من المعطي إنّما يكون ليعلم قدر العطاء لئلا يتجاوز في عطائه إلى ما يجحف به؛ فهو لا يحتاج إلى الحساب لأنه عالم غنيّ لا يخاف نفاذ خزائنه؛ لأنّها بين الكاف والنون. وقيل: معناه:
{(وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ)} من الكفار وغيرهم {(بِغَيْرِ حِسابٍ)} أي بغير مقدار لا يعرف حسابه.
(1)
الجامع لأحكام القرآن: ج 3 ص 23.وفي هامش اللباب في علوم الكتاب: ج 3 ص 495؛قال المحقق: ذكره ابن عراق في تنزيه الشريعة: ج 2 ص 316،وعزاه ابن لال إلى (مكارم الأخلاق) من حديث علي، وحكم عليه بالوضع.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يقول الله عز وجل: لولا أن يجزع عبدي المؤمن لعصبت الكافر بعصابة من حرير ولصبّيت الدّنيا عليه صبّا].ومصداق ذلك قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ}
(1)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [لو أنّ الدّنيا عند الله تزن جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء]
(2)
.
وعن قطرب: في قوله تعالى: {(وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)} : (أي أنّ الله يعطي العدد المتناهي لا من عدد أكثر منه كما يفعله العباد، ولكن يعطي المتناهي من غير المتناهي).فإن قيل: أليس الله تعالى قال في آية أخرى: {جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً}
(3)
فكيف قال في هذه الآية {بِغَيْرِ حِسابٍ؟} قيل: العطاء من جهة الله عز وجل على ضربين؛ أحدهما: ثواب، والآخر: تفضّل، فما كان ثوابا كان له حساب؛ لأنه يكون على قدر الاستحقاق بالعمل.
وأما التفضّل فلا يكون له حساب كما قال تعالى: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}
(4)
.والمراد بقوله: {عَطاءً حِساباً} الثواب دون التفضل، والمراد بقوله:
{يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ} التفضّل، فإن قيل: كيف قال: بغير حساب؛ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [حلالها حساب وحرامها عذاب]
(5)
.
قيل: روي عن عائشة رضي الله عنها في معنى الحساب في المؤمنين: العرض، [ومن نوقش الحساب عذّب]
(6)
.
(1)
الزخرف 33/.
(2)
علقه الهندي في كنز العمال: النص (18603).
(3)
النبأ 36/.
(4)
فاطر 30/.
(5)
في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين: الحديث (2977)؛ قال العراقي: «رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب من طريقه موقوفا على علي بن أبي طالب بإسناد منقطع» .وعلقه الديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب: النص (8192) عن ابن عباس بلفظ: [يا ابن آدم ما تصنع؟ الدّنيا حلالها حساب وحرامها عذاب].
(6)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الرقاق: باب من نوقش الحساب عذب: الحديث (6536)، وفي الحديث (6537) بلفظ:[وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلاّ عذّب].ومسلم في الصحيح: كتاب الجنة: باب إثبات الحساب: الحديث (79 و 2876/ 80).
فإن قيل: من الذي زيّن للذين كفروا الحياة الدنيا؟ قيل: ذهب بعض المفسرين إلى أن الذي زيّنها لهم إبليس كما قال الله تعالى في آية أخرى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ}
(1)
.وعن الحسن أنه قال: (زيّنها والله لهم الشّيطان، فلا أحد أذمّ للدّنيا ممّن خلقها قال الله تعالى:{قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ}
(2)
وقال تعالى: {وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ الْغُرُورِ}
(3)
).
وذهب بعضهم إلى أنّ الله تعالى هو الذي زيّنها لهم؛ إذ خلق فيها الأشياء المعجبة وركّب الشهوات في قلوب العباد؛ فنظر الذين كفروا إلى الدنيا بأكثر من مقدارها؛ فاغترّوا بذلك كما قال تعالى: {إِنّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}
(4)
.قالوا: إنّما فعل الله ذلك؛ لأن التكليف لا يتمّ إلا مع الشهوة، فإن الإنسان لا يجوز أن يكلّف إلا بأن يدعى إلى ما تنفر عنه نفسه أو يزجر عما تتوق إليه نفسه، وهو معنى قوله عليه السلام:[حفّت الجنّة بالمكاره، وحفّت النّار بالشّهوات]
(5)
.
وقرأ مجاهد وحميد: «(زيّن للّذين كفروا)» بفتح الزاء، على معنى زيّنها الله عز وجل لهم.
قوله عز وجل: {كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً؛} قال ابن عباس: (معناه: كان النّاس أهل ملّة واحدة: كفّارا كلّهم في ابتداء عهد نوح عليه السلام وكذلك في عهد إبراهيم) يعني أنّ أمم الأنبياء عليهم السلام الذين بعث إليهم الأنبياء كانت كفارا كما كانت هذه الأمة. وجائز أن يقال: كانت أمة واحدة على الكفر وإن كان فيهم مسلمون؛ إذا كان المسلمون قليلين مقهورين في البقية؛ لانصراف اسم الأمة إلى الأعمّ الأكثر. وقال قتادة والضحاك: (كان النّاس أمّة واحدة على الحقّ) أي كانوا مؤمنين في زمن آدم عليه السلام وبعد وفاته إلى مبعث نوح عليه السلام، وكان بين آدم ونوح عشرة قرون
(1)
الأنفال 48/.
(2)
النساء 77/.
(3)
الحديد 20/.
(4)
الكهف 7/.
(5)
أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الجنة: الحديث (2822/ 1).والترمذي في الجامع: أبواب صفة الجنة: الحديث (2559).
كلهم على شريعة واحدة من الحقّ والهدى. ثم اختلفوا في زمن نوح عليه السلام فبعث الله إليهم نوحا وكان أوّل نبيّ بعث، ثم بعث بعده النبيون. وقال الكلبيّ: (هم أهل سفينة نوح، كانوا كلّهم مؤمنين، ثمّ اختلفوا بعد وفاة نوح، فبعث الله إليهم نبيّه هود عليه السلام.
قوله عز وجل: {فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ؛} أي مبشّرين لمن أطاع الله تعالى بالجنة، ومنذرين بالنار والسّخط لمن عصاه. قوله تعالى:
{وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ؛} أي وأنزل عليهم الكتاب؛ إذ الأنبياء صلوات الله عليهم لم يكونوا منذرين حتى ينزل الكتاب معهم، وقوله:{(بِالْحَقِّ)} أي بالعدل.
وقوله: {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ؛} أي ليقضي الكتاب بينهم بالحكمة، وأضاف الحكم إلى الكتاب وإن كان الله تعالى هو الذي يحكم على جهة التفخيم لأمر الكتاب. وقوله:{(فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)} أي من أمر الدين.
قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ؛} أي ولم يختلف في أمر الدين وبعث النبيين إلا الذين أعطوا الكتاب من بعد ما جاءتهم الدلالات الواضحات من الله. وقوله: {(بَغْياً بَيْنَهُمْ)} نصب على أنه مفعول له؛ أي لم يختلفوا إلا للبغي والحسد والتفرّق؛ وذلك أنّ أهل الكتاب كانوا علموا حقيقة أمر النبي صلى الله عليه وسلم في كتبهم قبل مبعثه، فلما بعثه الله كفروا به إلا قليلا منهم.
قوله عز وجل: {فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ؛} أي فأرشد الله المؤمنين {(لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ)} الذي اختلف فيه اهل الزيغ {(بِإِذْنِهِ)} أي بتوفيقه وقضائه وعلمه. قوله تعالى: {وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} (213)؛أي والله يوفّق لمعرفته من يشاء ممن كان أهلا لذلك إلى طريق واضح يرضاه الله تعالى.
والأمّة في اللغة على وجوه؛ منها الجماعة كقوله تعالى: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النّاسِ يَسْقُونَ}
(1)
وقوله: {أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ}
(2)
أي جماعات وقرون. ومنها الدين والملة كقوله تعالى: {إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ}
(3)
.ومنها الحين والزمان كقوله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ}
(4)
.ومنها الرجل القدوة للناس في الخير قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً}
(5)
ويسمّى الإمام أمّة أيضا؛ لأنه يجمع خصال الخير.
ومنها الرجل المنفرد بدين على حدة لا يشركه فيه غيره قال صلى الله عليه وسلم: [يبعث زيد ابن عمرو بن نفيل أمّة واحدة]
(6)
وكان قد أسلم قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن بمكة يومئذ مؤمن غيره، ثم تابعه بعد ذلك ورقة بن نوفل، وعاش ورقة إلى وقت خروج النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها القامة؛ يقال: فلان حسن الأمّة؛ أي القامة. والإمة بالكسر النّعمة؛ يقال:
فلان ذو إمة؛ أي ذو نعمة.
(1)
القصص 23/.
(2)
الأعراف 38/.
(3)
الزخرف 22/.
(4)
يوسف 45/.
(5)
النحل 120/.
(6)
هو زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى القرشي العدوي، أحد حكماء العرب، وهو ابن عم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لم يدرك الإسلام، وكان يكره عبادة الأوثان، ولا يأكل مما ذبح عليها. ورحل باحثا عن الدين الحق؛ فلم تستمله اليهودية ولا النصرانية، وعرف بدين إبراهيم عليه السلام اسما، فأخذ يعبد الله على دين إبراهيم منتظرا بلوغ الدعوة وجاهر بعدائه للأوثان، فتألبت عليه قريش، فأخرجوه من مكة، فانصرف إلى (حراء) فسلط عليه عمه (الخطاب) شبابا لا يدعونه يدخل مكة؛ فكان يدخلها سرّا، وكان عدوّا لوأد البنات، ولا يعلم ببنت يراد وأدها إلا قصد أباها وكفاه مئونتها، فيربيها حتى إذا ترعرعت عرضها على أبيها، فإن لم يأخذها، بحث لها عن كفء فزوجها به، رآه النبي قبل البعثة، وسئل عنه فقال:[يبعث يوم القيامة أمّة وحده]. ينظر: دلائل النبوة للبيهقي: ج 2 ص 102،والحديث أخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب معرفة الصحابة: سعيد بن زيد بن عمرو سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لزيد بن عمرو، فقال: [يبعث يوم
…
:الحديث: ج 3 ص 439،440.
وأما الكتب المنزّلة قبل القرآن فقد روي أنّ الله أنزل على شيث خمسين صحيفة وكان يعمل بها هو ومن معه ومن بعده إلى زمن إدريس، ثم أنزل الله على إدريس عليه السلام ثلاثين صحيفة فكان يعمل بها إلى زمن إبراهيم، ثم أنزل على إبراهيم عشر صحائف، فكان يعمل بها إلى زمن موسى، ثم أنزل على موسى عليه السلام عشر صحائف قبل التوراة، فكان يعمل بها موسى ومن معه إلى غرق فرعون، ثم أنزل الله التوراة، فكان يعمل بها إلى زمن داود، ثم أنزل الله تعالى الزّبور على داود، فكان يعمل بها إلى زمن عيسى عليه السلام، ثم أنزل الله الإنجيل فكان يعمل بها إلى بعث محمّد صلى الله عليه وسلم، ثم أنزل الله الفرقان ناسخا لما قبله من الكتب.
قوله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرّاءُ؛} أي أظننتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة ولم تصبكم صفة الذين محنوا من قبلكم؛ أي ولم تبتلوا كما ابتلي الذين من قبلكم، {(مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ)} أي الشدّة وهي القتل، (والضّرّاء) والبلاء والفقر والمرض.
وقيل: البأساء: نقيض النعماء، والضرّاء: نقيض السرّاء.
قوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ؛} أي حرّكوا وخوّفوا {(حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا)} أي جاهدوا حتى قال كلّ رسول بعث إلى أمته: متى فتح الله؟ يقول الله تعالى: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} (214)؛يعني ألا إنّ نصر الله لك ولأمتك يا محمد قريب عاجل كما نصرت الرسل قبلك، والمثل قد يذكر بمعنى الصفة كما قال الله تعالى:{مَثَلُ الْجَنَّةِ}
(1)
أي صفة الجنة، ذهب السديّ إلى أن هذه الآية نزلت بالمدينة يوم الخندق حين اشتدّت مخافة المؤمنين من العدوّ.
ووجه إيصال هذه الآية بما قبلها: أنّ الله تعالى قال فيما تقدّم: {(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)} ثم قال: {(فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا)} . وكان المسلمون اتّكلوا على مجرّد اهتدائهم، فبيّن الله في هذه الآية أنه لا يجوز الاتّكال على مجرّد
(1)
الرعد 35/.
الإيمان من غير مكابدة ما قاساه السلف من المؤمنين كما قال تعالى: {أَحَسِبَ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}
(1)
.
وأما القراءة في قوله تعالى: {(حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ)} من نصب فعلى الأصل؛ لأن {(حَتّى)} تنصب الفعل. ومن قرأ بالرفع أدخل {(حَتّى)} على جملة ما بعده لا على الفعل خاصة؛ كأنه قال: حتى الرسول يقول، فلا يظهر عمل (حتى).قال الشاعر:
فيا عجبا حتّى كليب تسبّني
…
كان أباها نهشل أو مجاشع
قوله عز وجل: {يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ؛} الآية قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية جوابا عن سؤال عمرو بن الجموح الأنصاريّ لمّا حثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصّدقة ورغّب فيها النّاس، وذلك قبل نزول الفرائض؛ قال عمرو: يا رسول الله، بماذا نتصدّق؟ وعلى من يتصدّق؟ فأنزل الله هذه الآية)
(2)
.ومعناه يسألونك أيّ شيء يتصدقون به، فقل لهم: ما تصدقتم به من مال: فعلى الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السّبيل؛ والضّيف النازل بكم.
قوله تعالى: {وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} (215)؛أي وما تفعلوا من خير من وجوه البرّ فإنّ الله به عليم يحصيه ويجازيكم عليه، لا يضيع عنده عمل عامل، فإن قيل: كيف يطابق في هذه الآية جواب هذا السؤال؛ لأنّ السؤال إنّما وقع على المنفق، والجواب إنّما وقع على المنفق عليه؟ قيل: إن الجواب مطابق لهذا السؤال؛ لأن قوله: و {(ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ)} يتناول القليل والكثير لشمول اسم الخير، فكأن الجواب صدر عن القليل والكثير مع بيان من تصرف إليه النفقة؛ لأن المسئول إذا كان حكيما يعلم ما يحتاج إليه السائل؛ أجاب عن كل ما يحتاج إليه، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه سئل عن ماء البحر؛ فقال: [هو الطّهور ماؤه؛ الحلّ
(1)
العنكبوت 2/.
(2)
في الدر المنثور: ج 1 ص 585؛ قال السيوطي: «وأخرج ابن المنذر عن ابن حبان قال:
…
وذكره».
ميتته]
(1)
.وإنّما قال ذلك لأنه علم أنّهم لمّا جهلوا حكم ماء البحر، فإنّهم أشدّ جهلا بحكم ما فيه من المأكول، كذلك هؤلاء لمّا جهلوا المنفق كان جهلهم بالمنفق عليهم أكثر؛ فلهذا ذكر الله المنفق عليهم مع ذكر المنفق.
واختلفوا في هذه النفقة المذكورة؛ هل هي واجبة أم لا؟ قال الحسن: (المراد بها التّطوّع على من لا يجوز وضع الزّكاة فيه كالوالدين والمولودين؛ ووضع الزّكاة فيمن يجوز وضعها فيهم).وقال السديّ: (هذه الآية منسوخة بآية الزّكاة)
(2)
.
والصحيح أنّها ثابتة الحكم عامّة في الفرض والتطوع؛ لأن الآية متى أمكن استعمالها لم يجز الحكم بنسخها، ويحتمل أن يكون المراد بها النفقة على الوالدين والأقربين إذا كانوا محتاجين
(3)
.
قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ؛} قال ابن « ..... »
(4)
: (لمّا كتب الله الجهاد على المسلمين شقّ ذلك عليهم، وكرهته نفوسهم، وقبلته قلوبهم، وأحبّ الله تعالى أن يطيّب نفوسهم بهذه الآية).
وقيل في وجه اتصالها بما قبلها: أنّ ما قبلها ذكر التعبّد بالنفقة التي تشقّ على البدن، وفي هذه الآية ذكر ما لا شيء في التعبّد أشقّ منه وهو القتال. ومعنى الآية:
فرض عليكم القتال وهو شاقّ عليكم، وأراد بالكراهة كراهة الطبع لا عدم الرضا بالأمر، وهذا كما يكره الإنسان الصوم بالصيف من جهة الطبع، وهو مع ذلك يحبّه ويرضاه من حيث إنّ الله أمره به.
(1)
تقدم.
(2)
أخرج الطبري في جامع البيان: النص (3237): قال السدي: (يوم نزلت هذه الآية لم تكن زكاة، وإنما هي النفقة ينفقها الرجل أهله، والصدقة يتصدق بها. فنسختها الزكاة).
(3)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 3 ص 37؛ قال القرطبي: «وقال ابن جريج وغيره: هي ندب؛ والزكاة غير الإنفاق، فعلى هذا لا نسخ فيها، وهي مبيّنة لمصارف صدقة التطوع، فواجب على الرجل الغني أن ينفق على أبويه المحتاجين ما يصلحهما في قدر حالهما من حاله، من طعام وكسوة وغير ذلك» .
(4)
أسقطه الناسخ سهوا.
قوله تعالى: {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ؛} أي لعلّكم تكرهون الجهاد وهو خير لكم لما فيه من النصر لدين الله تعالى على أعداء الله؛ والفوز بالغنيمة مع عظم المثوبة، وإدراك محلّ الشّهداء {(وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ)} أي لعلّكم تحبّون القعود عن الجهاد وهو شرّ لكم، تحرمون الفتح والغنيمة والشهادة، ويتسلط عليكم العدوّ.
قوله تعالى: {وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (216)؛أي يعلم ما فيه مصلحتكم وما هو خير لكم في عاقبة أموركم وأنتم لا تعلمون ذلك، فبادروا إلى ما أمرتم به إذ ليس كلّ ما تشتهون خيرا، ولا كل ما تحذرون شرّا.
وفي هذه الآية دلالة على فرض القتال كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ}
(1)
وأراد به فرض الصيام. ثم لا يخلو القتال المذكور في هذه الآية من أن يرجع إلى معهود قد عرفه المخاطبون وهو قوله تعالى: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ}
(2)
وقوله: {وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ}
(3)
.
وتكون هذه الآية تأكيدا لذلك القتل المعهود الذي علم حكمه، فيكون القتال في هذه الآية راجعا إلى جنس القتال، فتكون هذه الآية مجملة مفتقرة إلى البيان؛ لأن من المعلوم أن الله تعالى لم يأمر بالقتال الناس كلهم، فلا يصحّ اعتقاد العموم فيه، فكان بيان هذا المجمل بقوله تعالى:{قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}
(4)
وقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}
(5)
.
قوله عز وجل: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ؛} قال ابن عباس في سبب نزول هذه الآية: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعث ابن عمّته عبد الله بن حجش
(6)
قبل قتال بدر، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين وهو
(1)
البقرة 183/.
(2)
البقرة 190/.
(3)
البقرة 191/.
(4)
التوبة 29/.
(5)
التوبة 5/.
(6)
عبد الله بن جحش الأسدي: أمه أميمة بنت عبد المطلب. أسلم قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، هاجر الهجرتين، أخته زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم. وأول لواء عقد رسول الله كان-
أميرهم، كتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا، وقال له:[إذا نزلت منزلتين، فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك، ثمّ امض لما أمرتك به، ولا تكره أحدا من أصحابك على السّير معك].
فسار عبد الله حتّى بلغ منزلتين، ثمّ فتح الكتاب فإذا فيه:[بسم الله الرّحمن الرّحيم، أمّا بعد: فسر على بركة الله بمن اتّبعك من أصحابك حتّى تنزل بطن نخلة، فترصد بها عير قريش، لعلّك تأتينا منهم بخبر. والسّلام.].فقال عبد الله: سمعا وطاعة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانطلق القوم معه حتّى وصلوا بطن نخلة بين مكّة والطّائف فنزلوا هناك.
فبينا هم كذلك إذ مرّ بهم عمرو بن الحضرميّ في عير لقريش في أوّل يوم من رجب، والمؤمنون يظنّون أنّها آخر يوم من جمادى الأخرى، فأمر عبد الله أن يحلقوا رأس عكاشة ليشرف على المشركين، فيظنّوا أنّهم عمّار فيأمنوا. ففعل ذلك وأمنه المشركون، وقالوا: قوم عمّار لا بأس عليكم منهم.
ورمى واقد بن عبد الله عمرو بن الحضرميّ فقتله واستأسر بعض المشركين، وهرب بعضهم إلى مكّة، واستاق المسلمون العير، فعيّرهم المشركون بذلك وقالوا:
استحلّ محمّد الشّهر الحرام، شهرا يأمن فيه الخائف ويطلق فيه الأسير. ووقف النّبيّ صلى الله عليه وسلم في أمر الغنيمة، فأنزل الله تعالى هذه الآية)
(1)
.
ويقال: لمّا أمر الله المسلمين بالقتال، ظنّوا عموم الأمر في جميع الشهور، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعرفوا، فنزلت هذه الآية. والقول الأول أقرب إلى ظاهر القرآن.
ومعنى الآية: {(يَسْئَلُونَكَ)} عن قتال في (الشّهر الحرام) لأن قوله: {(قِتالٍ فِيهِ)} بدل الاشتمال عن الشهر الحرام، وقوله تعالى:{(قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)} أي القتال في
(6)
-لعبد الله ابن جحش. استشهد يوم أحد ودفن هو وحمزة في قبر واحد. ترجمه ابن عبد البر في الاستيعاب: الرقم (1502).
(1)
السيرة النبوية لابن هشام: سرية عبد الله بن جحش: ج 2 ص 252.وطبقات ابن سعد: ج 2 ص 10:سرية عبد الله الأسدي.
الشهر الحرام عظيم الذنب عند الله تعالى، ثم استأنف الكلام فقال:{(وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)} أي منع الناس عن الكعبة أن يأتوها ويطوفوا بها {(وَكُفْرٌ بِهِ)} أي وكفر بالله تعالى، ويقال: بالحجّ، أو كفر بالمسجد الحرام.
وقيل: فيه تقديم وتأخير، تقديره: وصدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام وكفر بالله وإخراج أهل المسجد الحرام منه أعظم عقوبة عند الله من القتال في الشهر الحرام، أي الكفار مع هذا الإحرام أولى بالعنت ممن قتل مشركا في الشهر الحرام كما قال تعالى:{وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ؛} أي الشرك بالله أعظم عقوبة وإثما من القتال.
ومعنى كفرهم بالمسجد الحرام: أنّ الله جعل المسجد الحرام للمؤمنين ولعبادتهم إياه فيه، فلما جعله الكفار لأوثانهم ومنعوا المسلمين منه، كان ذلك كفرا منهم بالمسجد الحرام.
قوله عز وجل: {وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا؛} معناه: لا يزال أهل مكة يقاتلونكم أيها المسلمون حتى يصرفونكم عن دينكم الإسلام إلى دينهم الكفر إن قدروا على ذلك، ثم حذّر الله المؤمنين ليثبتوا على الإسلام فقال عز وجل:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} (217)؛أي من يرجع منكم عن دين الإسلام فيمت على كفره، {(فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ)} أي التي عملوها للآخرة؛ أي لا يبقى لعمل من أعمالكم ثواب يجازون به في الدارين، الآية:{(وَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)} مقيمون دائمون.
والصّدّ والصّرف والمنع، يقال: صدّ يصدّ صدّا؛ إذا صرف غيره عن الشيء، وصدّ يصدّ صدودا؛ إذا أعرض بنفسه. ومن قرأ «(يرتدد)» بدالين فهو لغة أهل الحجاز، أظهروا التضعيف حذرا من التقاء الساكنين، ومن قرأ «(يرتدّ)» بالتشديد فهو لغة بني تميم أدغموا الحرفين من جنس واحد وحرّكوه إلى الفتحة. وقوله:{(فَيَمُتْ)} جزم بالعطف على {(يَرْتَدِدْ)} ولو كان جوابا لكان رفعا. وأكثر الأمة على أن النهي عن القتال
في الشهر الحرام منسوخ؛ نسخته سورة براءة، وهو قوله تعالى:{قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية؛ لأنّها نزلت بعد حظر القتال في الشهر.
فإن قيل: إذا كان نفس الارتداد يحبط العمل حتى يبطل حجة الذي أداه، فأين فائدة قوله:{(فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ)؟} قيل: إنّما ذكر الله تعالى في هذه الآية أمر الآخرة لا أمرا يرجع إلى إحباط عمله في الماضي؛ إذ المعلوم من حال المرتدّ أنه إذا عاد إلى الإسلام والتوبة والعمل الصالح ومات على ذلك لا يعاقب في الآخرة، فلما جمع الله في هذه الآية بيّن إحباط عمله فيما يتصل بالدنيا والآخرة حتى يزول ثوابه إلى العقاب الدائم، كذلك شرط موته على الكفر.
روي في التفسير: أنه لمّا نزلت هذه الآية قام عبد الله بن جحش وأصحابه؛ فقالوا: يا رسول الله، أنطمع من ربنا أن تكون لنا هذه غزوة في الجهاد، فنزل قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (218)؛معناه أن الذين صدّقوا وهاجروا من مكة إلى المدينة وجاهدوا في محاربة المشركين في طاعة الله تعالى أهل هذه الصفة، يعطون مغفرة الله تعالى وجنّته، {(وَاللهُ غَفُورٌ)} لما كان منهم من القتال والأسر وأخذ الغنيمة في الشهر الحرام، {رَحِيمٌ} بهم حين رفع إثم ذلك عنهم.
والمهاجرة: مفاعلة من الهجر، وفي هذا الموضع هجران الموطن والعشيرة في رضا الله تعالى، والهجر نقيض الوصل، وأطلق اللفظ في هذه الآية على المفاعلة، ويزاد ما ذكرناه؛ ونظيره المساعدة: وهي ضمّ الرجل ساعده إلى ساعد أخيه بالتقوية والمعونة. وأما المجاهدة: فهي بذل الرجل الجهد من نفسه مع إخوانه، ويجوز أن يراد بذلك أن يبذل الجهد في قتال عدوّه، وقد فعل العدوّ مثل فعله، فيصير مفاعلة.
وإنّما قال الله تعالى: {(أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ)} لأنّ أحدا لا يعلم أنه صابر إلى أن يبلغ في الطاعة كلّ مبلغ؛ إلا بخبر الله تعالى أو بخبر محمّد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يدري لعله قصّر في شيء من الواجبات، وما يدري ما الذي يكون منه وما بينه وبين موته، ولا يعلم أحد من المسلمين بما يختم له، ختم الله لنا بالسّعادة والشّهادة.
قوله عز وجل: {*يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما؛} قال ابن عباس: (كان المسلمون يشربون الخمر في بدوّ الإسلام، وهي لهم حلال، وكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي في اليوم واللّيلة وقت الصّلاة: ألا من كان سكرانا فلا يحضر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجماعة؛ تعظيما للجماعة وتوقيرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنّ عمر جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بيّن لنا أمر الخمر، فإنّها مهلكة للمال مذهبة للعقل، فنزلت هذه الآية ({يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ)}
(1)
.
وأما الميسر فقد كان جماعة من العرب يجتمعون فيشترون جزورا، ثم يجعلون لكلّ واحد منهم سهما، ثم يقترعون عليها، فمن خرج سهمه برئ من ثمنها وأخذ نصيبه من الجزور وبقي آخرهم عليه ثمن الجزور كلّه ولا يذوق من لحمها شيئا، فتقتسم أصحابه نصيبه، وربما كانوا يتصدقون بذلك على الفقراء، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله هذه الآية.
والميسر: هو القمار، ويقال للقمار: ميسر، والمقامر الياسر، وقال مقاتل:
(سمّي ميسرا لأنّهم كانوا يقولون: يسّروا لنا ثمن الجزور)
(2)
؛وذلك أنّ أهل الثروة من العرب كانوا يشرون جزورا فينحرونها، ويجزّءونها أجزاء، قال ابن عمر:(عشرة أجزاء) وقال الأصمعيّ: (ثمانية وعشرين جزءا) ثم يسهمون عليها بعشرة أقداح ويقال لها الأزلام والأقلام، سبعة منها لها أنصب؛ وهي القذولة نصيب واحد، والتوأم
(1)
في الدر المنثور: ج 1 ص 605؛ ذكر السيوطي الحديث عن عمر رضي الله عنه، وقال: «أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي وصححه، والنسائي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر عن عمر:
…
وذكره».
(2)
قاله مقاتل في التفسير: ج 1 ص 116.
له نصيبان، والرقيب وله ثلاثة، والجليس وله أربعة، والنامس وله خمسة، والمسيل وله ستة، والمعلى وله سبعة. وثلاثة منها لا أنصب لها، وهي المسح والسفيح والوغد، ثم يجعلون القداح في خريطة سمّيت الربابة، قال أبو ذؤيب
(1)
:
وكأنّهنّ ربابة وكأنّه
…
يسر يفيض على القداح ويصدع
ويضعون الرّبابة على يد واحد عدل عندهم ويسمى المجيل
(2)
والمفيض
(3)
، ثم يجيلها ويخرج منها قدحا باسم واحد منهم، فأيّهم خرج سهمه أخذ نصيبه على قدر ما يخرج، فإن كان خرج له سهم من هذه الثلاثة التي لا أنصب لها، اختلفوا فيه؛ قال بعضهم: كان لا يأخذ شيئا ويغرم ثمن الجزور كلّه، وقال بعضهم: لا يأخذ شيئا ولا يغرم، ويكون ذلك القدح لغوا فيعاد سهم ثانيا، فهؤلاء الياسرون، ثم يدفعون ذلك الجزور إلى الفقراء ولا يأكلون منه شيئا، وكانوا يفتخرون بذلك ويذمّون من لم يفعل منهم ويسمونه البرم
(4)
.
فهذا أصل القمار التي كانت العرب تفعله، وإنّما عنى الله تعالى بالميسر في هذه الآية أنواع القمار كلّها، وقال طاوس ومجاهد وعطاء:(كلّ شيء فيه قمار فهو من الميسر، حتّى لعب الصّبيان الصّغار بالجوز والكعاب).وعن عليّ رضي الله عنه قال:
(النّرد والشّطرنج من الميسر).قال القاسم
(5)
: (كلّ شيء ألهاك عن ذكر الله وعن الصّلاة فهو من الميسر).
(1)
شعر أبي ذؤيب يصف الحمار وأتنه. ويفيض: يدفع؛ ومنه الإفاضة. وصدعت الشيء: أظهرته وبيّنته. لسان العرب: ج 5 ص 99.
(2)
المجيل: هو من أجال يجيل إجالة؛ إذا حرّك الرّبابة؛ أي يضع يده في الخريطة ويحركها مرتين أو ثلاثا. ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: ج 3 ص 58.
(3)
المفيض: من الإفاضة، والإفاضة بالقداح: الضرب بها وإجالتها عند القمار.
(4)
في لسان العرب: (برم)؛قال ابن منظور: «البرم: الذي لا يدخل مع القوم في الميسر، والجمع أبرام» .
(5)
القاسم بن محمّد. والأثر رواه الطبري في جامع البيان: الرقم (3285).
قال ابن عباس: (فلمّا نزلت هذه الآية ترك بعض النّاس الخمر، وقالوا: لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير. ولم يتركها بعضهم وقالوا: نأخذ منفعتها ونترك إثمها.
وكانوا على ذلك حتّى أصاب رجل من الصّحابة خمرا فأنشا منها، فحضرت الصّلاة فقام يصلّي المغرب، فقرأ {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ}
(1)
على غير وجهها، قال: أعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد. فنزل قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ}
(2)
).وكانوا يشربونها قبل الصلاة؛ وكانوا يتناشدون الأشعار في شربها ويفتخرون، فقال عمر: (اللهمّ بيّن لنا بيانا شافيا في الخمر، فنزل قوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}
(3)
؛فقال عمر: انتهينا يا رب)
(4)
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإراقة الخمر حتى أمر بكسر الدّنان تغليظا وتشديدا.
ومعنى الآية: يسألونك يا محمد عن الخمر والميسر، قل فيهما إثم عظيم؛ لأن الخمر يوقع العداوة والبغضاء ويحول بين الإنسان وبين عقله الذي يعرف به ما يجب عليه لخالقه. والقمار يورث العداوة أيضا؛ فإنّ المقمور إذا رأى غيره قد فاز بماله من غير منفعة رجعت إليه؛ بغضه وعاداه. وقيل: معنى قوله تعالى: {(قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ)} أي وزر عظيم من المشاتمة والمخاصمة وقول الفحش والزور وزوال العقل، والمنع من الصلاة، واستحلال مال الغير بغير حقّ.
وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما: «(قل فيهما إثم كثير)» بالثّاء؛ وقرأ الباقون بالباء؛ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لقوله تعالى: {(وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما)} ولقوله تعالى:
{إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً}
(5)
.
(1)
الكافرون 1/.
(2)
النساء 43/.
(3)
المائدة 90/-91.
(4)
أخرجه أبو داود في السنن: كتاب الأشربة: الحديث (3670).والترمذي في الجامع: أبواب تفسير القرآن: الحديث (3049).والحاكم في المستدرك: كتاب الأشربة: الحديث (7306؛وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(5)
النساء 2/.
قوله عز وجل: {(وَمَنافِعُ لِلنّاسِ)} فالمنفعة في الخمر اللذّة في شربها والتجارة فيها قبل التحريم. والمنفعة في الميسر: مصير الشيء الذي يصيبه من المال في القمار بلا كدّ ولا تعب.
قوله تعالى: {(وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما)} قال المفسرون: إثم الخمر: هو أنه يشرب ويسكر ويؤذي الناس، وإثم الميسر: هو أن يقامر فيمنع الحقّ ويظلم. وقال الربيع: (المنافع قبل التّحريم؛ والإثم بعد التّحريم)
(1)
.
قوله عز وجل: {وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ؛} معناه: يسألونك أيّ شيء يتصدّقون به؟ قل الفضل وما يسهل عليك إنفاقه؛ وهذا نزل جوابا عن قول عمرو بن الجموح: بماذا ننفق؟ وفي الآية المتقدمة جواب عن قوله: لمن نتصدّق؟.
واختلفوا في معنى قوله تعالى: {(قُلِ الْعَفْوَ)؛} فقال ابن عمر وقتادة وعطاء والسدي: (هو ما فضّله من المال عن العيال)؛وهو رواية عن ابن عباس. وقال الحسن: (هو أن لا يفنى مالك في النّفقة، ثمّ تقعد تسأل النّاس).وقال مجاهد: (هو ما كان عن ظهر غنى).وقال الضحّاك: (هو قدر الطّاقة).وقال الربيع: (هو العفو، هو الطّيب؛ كأنّه قال: أفضل مالك وأطيبه)
(2)
.
وأصل العفو في اللغة: الزّيادة والكثرة. قال الله تعالى: {حَتّى عَفَوْا}
(3)
أي كثروا. وقال صلى الله عليه وسلم: [أعفوا اللّحى]
(4)
.والعفو أيضا: ما تأخذه وتعطيه سهلا بلا تكلّف من قولهم: خذ ما أعفاك؛ أي ما أتاك سهلا من غير إكراه.
ونظيره هذه الآية من الأخبار ما روي: أنّ رجلا قال: يا رسول الله، عندي دينار، قال:[أنفقه على نفسك] قال: عندي آخر، قال:[أنفقه على أهلك]،قال: عندي آخر، قال:[أنفقه على ولدك]،قال: عندي آخر، قال:[أنفقه على والديك]،قال:
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: سورة البقرة: النص (3301).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3327).
(3)
الأعراف 95/.
(4)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 2 ص 52 و 156.
عندي آخر، قال:[أنفقه على فرسك]،قال: عندي آخر، قال:[أنفقه على قرابتك]، قال: عندي آخر، قال:[أنت أبصر به]
(1)
.
وعن جابر قال: أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيضة من ذهب أصابها في بعض المعادن، فقال: يا رسول الله، خذ هذه صدقة فو الله ما أصبحت أملك غيرها، فأعرض عنه. فأتى من ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك، فأعرض عنه، ثمّ أتاه من ركنه الأيسر، فقال له مثل ذلك، فأعرض عنه، ثمّ قال مثل ذلك، فقال مغضبا:[هاتها] فأخذها منه فحذفه بها لو أصابه لشجّه أو عقره، ثمّ قال:[يجيء أحدكم بماله كلّه ليتصدّق به ويجلس يتكفّف النّاس، أفضل الصّدقة ما كان عن ظهر غنى، وليبدأ أحدكم بمن يعول]
(2)
.
قال الكلبيّ: (كان الرّجل بعد نزول هذه الآية إن كان من أهل الزّرع والنّخيل؛ نظر إلى ما يكفيه وعياله سنة؛ ويتصدّق بما فضل. وإن كان من أهل التّجارة أمسك رأس ماله ومن الرّبح ما يتقوّت به ويحتاج إليه؛ ويتصدّق بما فضل. وإن كان ممّن يعمل بيده؛ أمسك ما يكفيه وعياله يومه ذلك ويتصدّق بسائره. وكانوا على ذلك إلى أن فرضت الزّكاة مقدّرة معلومة).
واختلفوا في قراءة قوله: «(قل العفو)» فقرأ الحسن وقتادة وأبو عمرو: «(قل العفو)» رفعا على معنى الذي ينفقونه هو العفو، أو على معنى قل هو العفو. ودليله قوله تعالى:{وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ}
(3)
.وقرأ الباقون «(العفو)» بالنصب على معنى: قل أنفقوا العفو، ودليله قوله تعالى:{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً}
(4)
.
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 2 ص 251 و 471.والطبري في جامع البيان: الحديث (3330) وإسناده حسن.
(2)
رواه أبو داود في السنن: كتاب الزكاة: باب الرجل يخرج من ماله: الحديث (1673).والطبري في جامع البيان: الحديث (3332).
(3)
النحل 24/.
(4)
النحل 30/.
قوله عز وجل: {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (219) أي مثل هذا البيان يبيّن الله لكم أوامره ونواهيه ودلائله في الدين {(لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} في الدّنيا) أنّها دار فناء وبلاء لا يبقى إلا العمل الصالح، (و) في أمر (الآخرة) فإنّها دار جزاء وبقاء لا ينفع فيها إلا سابق تقوى الله عز وجل.
وقال المفضّل
(1)
: {(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ)} في أمر النّفقة {(لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} في الدّنيا والآخرة) فتحبسون من أموالكم ما يصلحكم في معايش الدّنيا، وتنفقون الباقي فيما ينفعكم في العقبى. وقال بعضهم: معناه يبيّن لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون في زوال الدنيا وفنائها، فتزهدوا فيها؛ وفي إقبال الآخرة وبقائها فترغبون فيها؛ وهذا القول قريب من الأول.
قال الزجّاج: (إنّما قال: {(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ)} وهو يخاطب الجماعة؛ وكان ينبغي أن يقول: كذلكم؛ لأنّ الجماعة معناها القبيل؛ كأنّه قال: كذلك أيّها القبيل).ويجوز أن يكون الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن خطابه مشتمل على خطاب أمته كما قال تعالى:
{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ}
(2)
.وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [تفكّر ساعة خير من عبادة سنة]
(3)
.
قوله عز وجل: {فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ؛} قال ابن عباس: (لمّا نزل في أمر اليتامى {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
(4)
(1)
المفضل بن سلمة بن عاصم، قال الخطيب:(وكان فهما فاضلا وله كتاب (ضياء القلوب) وغيره من الكتب في الأدب، وأبو سلمة بن عاصم صاحب الفراء). تاريخ بغداد: ج 13 ص 125: الرقم (7109).
(2)
الطلاق 1/.
(3)
في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين: النص (3879)؛ قال العراقي: «رواه أبو الشيخ ابن حيان في كتاب العظمة من حديث أبي هريرة بلفظ [ستين سنة] بإسناد ضعيف. ومن طريقه ابن الجوزي في الموضوعات.
(4)
الأنعام 152/.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً}
(1)
أشفق المسلمون من مخالطتهم؛ وكان كلّ من في حجره يتيم يجعل لليتيم بيتا وطعاما وخادما على حدة؛ وكانوا لا يخالطون اليتامى في شيء
(2)
،فشقّ ذلك عليهم، فجاء عبد الله بن رواحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ الله تعالى أنزل في أمر اليتامى ممّا أنزل من الشّدّة، أفيصلح لنا يا رسول الله أن نخالطهم نستعير منهم الخادم والدّابّة ونشرب من لبن شاتهم؟ فأنزل الله هذه الآية). {(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى)} أي عن مخالطة اليتامى، {(قُلْ إِصْلاحٌ)} لأموالهم خير الأشياء إذ هو خير من الإنفاق.
قوله تعالى: {(وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ)} أي وإن تشاركوهم وتخلطوا أموالهم بأموالكم في نفقاتكم ومطاعمكم ومساكنكم وخدمكم ودوابكم فتصيبوا من أموالهم عوضا من قيامكم بأمورهم وتكافئوهم على ما يصيبون من أموالكم، فهم إخوانكم في الدين.
وقرأ طاوس: «(قل إصلاح لهم خير)» بمعنى الإصلاح لأموالهم من غير أجرة ولا أخذ عوض منهم خير وأعظم أجرا. وقرأ أبو مخلّد: «(فإخوانكم)» بالنصب؛ أي تخالطوا إخوانكم. قوله تعالى: {(وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ)} أي يعلم من كان غرضه بالمخالطة إصلاح أمر اليتامى، ومن يكون غرضه إفساد أمرهم.
قوله عز وجل: {وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ؛} أي لأثّمكم في مخالطتهم وضيّق عليكم. والعنت: الإثم؛ ويسمى الفجور عنتا؛ لما فيه من الإثم. وأصل العنت: الشدّة والمشقّة؛ يقال: عقبة عنوت؛ أي شاقّة كئود. وقال أبو عبيدة: (معناه:
ولو شاء الله لأهلككم).قوله عز وجل: {إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (220)؛أي منيع غالب لا يمانع فيما يفعل من المساهل والمشاق، ذو حكمة فيما أمركم به في أمر اليتامى وغير ذلك.
واسم اليتيم إذا أطلق انصرف إلى الصغير الذي لا أب له. والعرب تسمي المنفرد يتيما؛ يقولون: الدّرّة اليتيمة؛ يريدون بذلك أنّها منفردة لا نظير لها.
(1)
النساء 10/.
(2)
في المخطوط: (في شق).
وفي الآية ضروب من الأحكام: منها قوله تعالى: {(قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ)} يدلّ على جواز خلط الوصي ماله بمال اليتيم في مقدار ما يغلب على ظنه أن اليتيم يأكل قدر طعام نفسه بغالب الظن. ويدلّ على جواز التصرف في ماله بالبيع والشراء؛ وجواز دفعه مضاربة إذا كان ذلك صلاحا. ويدلّ على أن لوليّ اليتيم أن يعاقد نفسه في ماله إذا كان فيه خير ظاهر لليتيم على ما قاله أبو حنيفة رحمه الله. ويدلّ على أنّ للوصيّ أيضا أن يؤجّر اليتيم ممن يعلمه الصناعات والتجارات، أو يستأجر من يعلّمه ما له فيه صلاح من أمر الدين والأدب؛ لأن كلّ ذلك من الصلاح.
وقوله تعالى: {(وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ)} فيه دليل على أن للولي أن يزوّج اليتيم ابنته، أو يزوّج اليتيمة ابنه، أو يتزوج اليتيمة لنفسه، فيكون قد خلط اليتيم بنفسه وعياله واختلط أيضا به. يقال: فلان خليط فلان؛ إذا كان شريكا له في المال.
ويقال: قد اختلط فلان بفلان؛ إذا صاهره. ولا يكون التزويج إلا للولي الذي يكون ذا نسب من اليتيم؛ لأن الوصاية لا تستحقّ بها الولاية في النكاح.
قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ؛} قال عبد الله بن عباس: (نزلت هذه الآية في مرثد بن أبي مرثد الغنويّ وكان شجاعا فورا، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكّة ليخرج منها ناسا من المسلمين سرّا؛ فلمّا قدمها سمعت به امرأة مشركة يقال لها: عناق، وكانت خليلته في الجاهليّة؛ فأتته وقالت له: يا مرثد، ألا تخلو بي؟ فقال: ويحك يا عناق! إنّ الإسلام قد حال بيننا وبين ذلك. فقالت: هل لك أن تتزوّج بي، فقال: نعم، لكن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره ثمّ أتزوّجك.
فقالت: أنت تتبرّم، ثمّ استعانت عليه فضربوه ضربا شديدا ثمّ خلّوا سبيله. فلمّا رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه بما كان من أمره وأمر عناق وما لقي بسببها، فقال: يا رسول الله، أيحلّ لي أن أتزوّجها؟ فأنزل الله هذه الآية)
(1)
.ومعناها: ولا تتزوجوا المشركات حتى يصدّقن بتوحيد الله.
(1)
نقله علي بن أحمد الواحدي في أسباب النزول عن تفسير الكلبي: ص 45.
قال المفضل: (أصل النّكاح الوطء، ثمّ كثر ذلك حتّى قيل لعقد التّزويج:
النّكاح).فحرّم الله نكاح المشركات عقدا ووطءا، ثم استثنى الحرائر الكتابيّات، فقال تعالى:{وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}
(1)
.
قوله عز وجل: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ؛} أي نكاح أمة مؤمنة خير من نكاح حرّة مشركة ولو أعجبتكم الحرة المشركة بحسنها وجمالها ومالها. نزلت في أمة سوداء كانت لحذيفة بن اليمان يقال لها خنساء، فقال لها حذيفة:
يا خنساء، قد ذكرت في الملإ الأعلى مع سوادك ورمامتك، وأنزل الله ذلك في كتابه، فأعتقها حذيفة وتزوّجها
(2)
.
وقال السديّ: (نزلت في أمة سوداء لعبد الله بن رواحة، كان قد غضب عليها عبد الله فلطمها، ثمّ فزع وأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبره بذلك، وقال صلى الله عليه وسلم: [وما هي يا عبد الله؟] فقال: هي تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسول الله، وتصوم رمضان، وتحسن الوضوء فتصلّي، فقال: [هذه مؤمنة]،وقال عبد الله بن رواحة: والّذي بعثك بالحقّ نبيّا لأعتقها ولأتزوّجها؛ ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا: أتنكح أمة؛ وقد عرضوا عليه حرّة مشركة وكانوا يرغبون في نكاح المشركات رجاء إسلامهنّ، فأنزل الله هذه الآية)
(3)
.
قوله تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا؛} أي لا تزوّجوا المشركين مسلمة حتى يصدّقوا بالله، {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ؛} أي ولو أعجبكم الحرّ المشرك بماله وحسن حاله.
قوله تعالى: {أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النّارِ؛} يعني المشركين والمشركات يدعون إلى عمل أهل النار. قوله تعالى: {وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ}
(1)
المائدة 5/.
(2)
في الدر المنثور: ج 1 ص 616؛ قال السيوطي: «وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان:
…
وذكره».
(3)
رواه الطبري في جامع البيان: النص (3379).
{بِإِذْنِهِ؛} أي والله يدعو إلى أسباب الوصول إلى الجنة والمغفرة ومخالطة المؤمنين وغير ذلك، {(بِإِذْنِهِ)} أي بأمره وعلمه الذي علم أنه به وصولكم
(1)
إليهما.
قوله عز وجل: {وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (221)؛أي يبيّن أمره ونهيه في التزويج وغيره للناس لعلهم يتّعظون ويرغبون في أهل الديانة والأمانة.
واعلم: أنّ الظاهر أنّ اسم المشركات يتناول الوثنيات، وقال الله تعالى:{ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ}
(2)
ففرّق بينهما في اللفظ. وظاهر العطف يقتضي أن المعطوف غير المعطوف عليه؛ فعلى هذا لا يكون تزويج المسلمين بالكتابيات داخلا في هذه الآية، لكن استفيد جوازه لهم بقوله تعالى في سورة المائدة:
{وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}
(3)
.
وعن ابن عباس والحسن ومجاهد: (أنّ هذه الآية عامّة في جميع الكافرات؛ الكتابيّات منهم وغير الكتابيّات، ثمّ نسخت منها الكتابيّات بآية المائدة)
(4)
.وعن ابن عمر: أنه كان إذا سئل عن نكاح اليهوديّة والنصرانية، قال:(إنّ الله حرّم المشركات على المؤمنين، ولا أعلم شيئا من الشّرك أكبر من أن تقول: ربّها عيسى عليه السلام، أو عبد من عباد الله، والتّكذيب بمحمّد صلى الله عليه وسلم عدل في الإثم والجرم والإشراك بالله)
(5)
.
(1)
في المخطوط: (وصلة لكم إليهما) وهو تصحيف، وأثبتناه حسب مقتضى السياق.
(2)
البقرة 151/.
(3)
الآية 5/.
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3368) عن ابن عباس، والنص (3369) عن الحسن البصري، والنص (3370) عن مجاهد، والنص (3371) عن الربيع.
(5)
في الدر المنثور: ج 1 ص 615؛ قال السيوطي: «وأخرج البخاري والنحاس في ناسخه عن نافع عن ابن عمر:
…
وذكره».وفي الجامع لأحكام القرآن: ج 3 ص 67 - 68؛ نقل القرطبي عن النحاس قوله: «صح سنده:
…
وذكره» ثم قال: «هذا قول خارج عن قول الجماعة الذين تقوم بهم الحجة؛ لأنه:
1.
قد قال بتحليل نكاح نساء أهل الكتاب من الصحابة والتابعين جماعة، منهم عثمان وطلحة وابن عباس وجابر وحذيفة. ومن التابعين سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وطاوس وعكرمة والشعبي والضحاك؛ وفقهاء الأمصار.-
فإن قيل: في هذه الآية نهي عن نكاح المشركات بسبب وهو دعاء أهل الشرك إلى النار، وهذه العلّة تعمّ الكتابيات وغيرهن، فكيف أبيح للمسلمين نكاح الكتابيات والعلّة قائمة؟ قيل: يحتمل أن يكون قوله: {(أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النّارِ)} راجعا إلى قوله: {(وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ)} لا إلى قوله: قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ} ؛لأن أولئك كناية عن الرجال دون النساء. ولا يجوز تزويج المسلمة من مشرك ولا كتابيّ.
قوله عز وجل: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً؛} قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار يقال له: أبو الدّحداحة، أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف نصنع بالنّساء إذا حضن؛ هل نقربهنّ أو لا؟ فنزلت هذه الآية)
(1)
.فلما نزلت هذه الآية عمد المسلمون إلى النساء الحيّض فأخرجوهن من لبيوت كما كانت الأعاجم تفعل بنسائهم إذا حضن، وإذا فرغن واغتسلن ردّوهن إلى البيوت، فقدم ناس من الأعراب المدينة، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عزل النساء عنهم، وقالوا: يا رسول الله، إنّ البرد شديد والثياب قليلة وقد عزلنا النساء، فإن آثرناهنّ بالثياب هلك أهل البيت بردا، وإذا آثرنا أهل البيت هلك النساء الحيّض، وليس كلنا يجد وسعة فيوسع عليهم جميعا، فقال صلى الله عليه وسلم:[إنّما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهنّ إذا حضن، ولم تؤمروا أن تخرجوهنّ من البيوت] وقرأ عليهم الآية
(2)
.
(5)
-2.وأيضا؛ فيمتنع أن تكون هذه الآية من سورة (البقرة) ناسخة للآية التي في سورة (المائدة)؛ لأن (البقرة) من أول ما نزل بالمدينة، (والمائدة) من آخر ما نزل. وإنما الآخر ينسخ الأول.
3.
وأما حديث ابن عمر، فلا حجة فيه؛ لأن ابن عمر رحمه الله كان رجلا متوقفا، فلما سمع الآيتين، في واحدة التحليل، وفي الأخرى التحريم ولم يبلغه النسخ توقف، ولم يؤخذ عنه ذكر النسخ، وإنما تؤوّل عليه، وليس يؤخذ الناسخ والمنسوخ بالتأويل».
4.
في الدر المنثور: ج 1 ص 619؛قال السيوطي: «وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قال: الذي سأل عن ذلك ثابت بن الدحداح» .وقال: «وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان:
…
وذكره».
(1)
أبو الدحداحة: هو ثابت بن الدحداح، ويقال: ابن الدحداحة بن نعيم، يكنى: أبا الدحداح. مات سنة ست من الهجرة. الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر: ج 2 ص 278: الترجمة (254).
(2)
أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الحيض: باب جاز غسل المرأة الحائض رأس زوجها:-
وقال بعضهم: كانت العرب في الجاهلية إذا حاضت المرأة، لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يساكنوها في بيت، ولم يجالسوها على فراش كفعل اليهود والمجوس، فسأل أبو الدّحداح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال: يا رسول الله، كيف نصنع بالحيض؟ فأنزل الله هذه الآية.
ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها آية أخرى فيما تقدّم «من» حديث نكاح من تحرم ومن تحلّ، فبيّن الله بعده حال التحليل والتحريم بهذه الآية.
وقال ابن عباس: (ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ما سألوه إلاّ عن ثلاثة عشر مسألة حتّى قبض، كلّهنّ في القرآن:{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ}
(1)
{يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ}
(2)
{يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}
(3)
{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ}
(4)
{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}
(5)
{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى}
(6)
{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ}
(7)
{يَسْئَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْساها}
(8)
{وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي}
(9)
{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ}
(10)
{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ}
(11)
{وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ}
(12)
{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ}
(13)
)
(14)
.
(2)
-الحديث (302/ 16).وأبو داود في السنن: كتاب الطهارة: باب مؤاكلة الحائض ومجامعتها: الحديث (258)،وفي كتاب النكاح: باب في إتيان الحائض ومباشرتها: الحديث (2165). وإسناده صحيح. والحديث حكاه السيوطي في الدر المنثور: ج 1 ص 619 بلفظ قريب؛ قال: «وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس» .
(1)
البقرة 217/.
(2)
البقرة 215/.
(3)
البقرة 219/.
(4)
البقرة 189/.
(5)
البقرة 219/.
(6)
البقرة 220/.
(7)
البقرة 222/.
(8)
الأعراف 187/.
(9)
البقرة 186/.
(10)
الأنفال 1/.
(11)
الإسراء 85 /.
(12)
الكهف 83 /.
ومعنى الآية: {(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً)} أي الدم مستقذر نجس، وقال الكلبيّ:(الأذى ما يعمّ ويكره من كلّ شيء).
قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ؛} أي اعتزلوا مجامعتهن وهن حيّض، {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ؛} أي ولا تجامعوهنّ حتى ينقطع عنهن الدم. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من وطئ امرأته وهي حائض فقضي بينهما ولد فأصابه جذام فلا يلومنّ إلاّ نفسه؛ ومن احتجم يوم السّبت أو الأربعاء فأصابه وضح فلا يلومنّ إلاّ نفسه]
(1)
.
فوطئ النساء الحيّض حرام بنص القرآن، فإن وطأها زوجها أثم ولزمته الكفارة، روي عن ابن عباس: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجل جامع امرأته وهي حائض؛ قال: [إن كان دما غليظا فليتصدّق بدينار؛ فإن كان صفرة فنصف دينار]
(2)
.ولا بأس باستخدام الحائض وبمباشرة بدنها إذا كانت متّزرة، والاستمتاع بما فوق الإزار.
قال مسروق: قلت لعائشة رضي الله عنها: ما يحلّ للرّجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قالت: (كلّ شيء إلاّ الجماع)
(3)
.وروي أنّ عائشة رضي الله عنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعة في ثوب واحد، وأنّها وثبت وثبة شديدة، فقال لها رسول
(1)
أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط: ج 4 ص 181:الحديث (3324) عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ وقال: «لم يرو هذا الحديث عن أبي هريرة إلا الحسن بن الصلت، شيخ من أهل الشام، تفرد به ابن أبي السّريّ» .وفي مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: كتاب النكاح: باب فيمن وطئ الحائض: ج 4 ص 299؛قال الهيثمي: «رواه الطبراني في الأوسط عن بكر بن أبي سهل، وقد ضعفه النسائي، وقال الذهبي: قد حمل الناس عنه وهو مقارب الحديث» .
(2)
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا كان دما أحمر فدينار، وإن كان دما أصفر فنصف دينار]. رواه الإمام أحمد في المسند: ج 1 ص 272.ومختصرا رواه أبو داود في السنن: كتاب الطهارة: الحديث (264 و 265).والحاكم في المستدرك: كتاب الطهارة: الحديث (629)؛وقال: حديث صحيح. وأخرجه الترمذي في الجامع: أبواب الطهارة: باب ما جاء في الكفارة في ذلك: الحديث (127).
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3396).
الله صلى الله عليه وسلم: [ما لك؟ لعلّك نفست] يعني حضت؛ قالت: نعم، قال:[شدّي عليك إزارك وعودي إلى مضجعك]
(1)
.
وعن أمّ سلمة رضي الله عنها قالت: بينما أنا مضطجعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخميلة إذ حضت، فانسللت منها وأخذت ثياب حيضي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[أنفست؟] قلت: نعم، فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة
(2)
.
وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: [كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ونحن جنبان؛ وكنت أغسل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في المسجد وأنا حائض؛ وكان يأمرني إذ كنت حائضا أن أتّزر ثمّ يباشرني]
(3)
.
وسئلت عائشة رضي الله عنها: هل تأكل المرأة مع زوجها وهي طامث؟ قالت: (نعم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوني فآكل معه وأنا عارك؛ وكان يأخذ العرق فيضعه على فيه؛ وأغترف به ثمّ أضعه، فيأخذه ويشرب منه ويضع فمه حيث وضعت
(1)
أخرجه الإمام مالك في الموطأ: كتاب الطهارة: باب ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض: الحديث (94).وقال ابن عبد البر: «لم يختلف رواة الموطأ في إرسال هذا الحديث، ولا أعلم أنه روي بهذا الإسناد من حديث عائشة البتة، ويتصل معناه من حديث أم سلمة» .
(2)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الحيض: باب من سمى النفاس حيضا: الحديث (298). ومسلم في الصحيح: كتاب الحيض: باب الاضطجاع مع الحائض في لحاف واحد: الحديث (296/ 5).
(3)
أخرجه أبو عوانة في مسنده: ج 1 ص 309 و 313.وعلى ما يبدو أن الإمام الطبراني جمع الأحاديث في نص واحدة لضرورة الاختصار، فالشطر الأول منه أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الحيض: باب غسل الحائض رأس زوجها وترجيله: الحديث (295) وأطرافه في (296 و 301 و 2028 و 2029 و 2031 و 2046).ومسلم في الصحيح: كتاب الحيض: باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله: الحديث (297/ 6).
وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة الشطر الثالث منه. أما البخاري ففي الصحيح: كتاب الحيض: الحديث (302).ومسلم في الصحيح: كتاب الحيض: باب مباشرة الحائض فوق الإزار: الحديث (293).وأبو داود في السنن: كتاب الطهارة: الحديث (268 و 273).والترمذي في الجامع: أبواب الطهارة: باب ما جاء في مباشرة الحائض: الحديث (132) واللفظ له.
من المعدن، ويدعو بالشّراب فيشرب ثمّ آخذ القدح فأشرب منه، ثمّ أضعه فيأخذه فيشرب منه ويضع فمه حيث وضعت فمي من القدح)
(1)
.
فدلّت هذه الآية على أنّ المراد الاعتزال من الحيّض جماعهنّ، وذلك أن اليهود والمجوس كانوا يجتنبون الحيّض في كلّ شيء؛ وكانت النصارى يجامعونهن ولا يبالون بالحيض، فأمر الله تعالى بالاقتصاد بين هذين الأمرين (وخير الأمور أوسطها).
قال أنس رضي الله عنه: لمّا أنزل الله تعالى: {(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً)} الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[افعلوا كلّ شيء إلاّ الجماع] فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرّجل أن يدع من أمرنا شيئا إلاّ خالفنا فيه
(2)
.
قوله تعالى: {(وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ)} قرأ الأعمش وعاصم وحمزة والكسائي: «(يطّهرن)» بالتشديد؛ أي يغتسلن؛ يدلّ عليه قراءة عبد الله «(حتّى يتطهّرن)» بالتاء على الأصل. وقرأ الباقون «(يطهرن)» مخفّفا؛ أي حتى يطهرن من حيضهنّ وينقطع الدم.
(1)
أخرجه النسائي في السنن (المجتبى):كتاب الطهارة: باب مؤاكلة الحائض والشرب من سؤرها: ج 1 ص 148 - 149،وباب الانتفاع بفضل الحائض: ج 1 ص 149.والإمام أحمد في المسند: ج 6 ص 210.
(2)
بلفظ [اصنعوا كلّ شيء إلاّ النّكاح].أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الحيض: باب جواز غسل الحائض رأس زوجها: الحديث (302/ 16).وأبو داود في السنن: كتاب الطهارة: باب في مؤاكلة الحائض: الحديث (258)،وفي كتاب النكاح: باب في إتيان الحائض ومباشرتها: الحديث (2165).وابن حبان في الصحيح: كتاب الطهارة: باب الحيض والاستحاضة: الحديث (1362).
وبلفظ: [اصنعوا كلّ شيء إلاّ الجماع].أخرجه ابن ماجة في السنن: كتاب الطهارة: باب ما جاء في مؤاكلة الحائض وسؤرها: الحديث (642).
وبلفظ: [وأن يصنعوا كلّ شيء ما خلا الجماع].أخرجه النسائي في المجتبى: كتاب الطهارة: باب تأويل قول الله عز وجل: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ: ج 1 ص 152.
وبلفظ: [وأن يفعلوا كلّ شيء ما خلا النّكاح].أخرجه الترمذي في الجامع: أبواب تفسير القرآن: الحديث (2977).
واختلف الفقهاء في الحائض متى يحلّ وطؤها؛ فقال أبو حنيفة وصاحباه: (إذا طهرت لعشرة أيّام جاز وطؤها دون الغسل؛ وإن طهرت لأقلّ من عشرة أيّام لم يجز وطؤها حتّى تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة كامل).وقال مجاهد وطاوس وعطاء: (إذا انقطع دمها وغسلت فرجها وتوضّأت جاز وطؤها).وقال الشافعيّ: (لا يحلّ وطؤها إلاّ بشرطين: انقطاع الدّم والاغتسال).فمن قرأ «(يطّهّرن)» بالتشديد كان حجة للشافعي ومن تابعه؛ ومن خفّف كان حجة للمبيحين وطأها قبل الغسل.
قوله تعالى: {فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ؛} أي فإذا اغتسلن فجامعوهن من حيث أمركم الله تنحية في الحيض وهو الفرج، قاله ابن عباس وقتادة والربيع. وقيل: معناه: فأتوهنّ من قبل النكاح والجهات التي يحلّ فيها أن يقرب المرأة في الشريعة. وقال مجاهد: (كانوا على استخارة إيتائهنّ في الأدبار في أيّام الحيض؛ فأنزل الله هذه الآية وحرّم بها ما كانوا يفعلونه)
(1)
؛فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
[إتيان النّساء في أعجازهنّ حرام]
(2)
.وقال ابن كيسان: (معناه لا يأتونهنّ صائمات ولا معتكفات ولا محرمات؛ وإيتاؤهنّ وغشيانهنّ لكم حلال).
قوله عز وجل: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (222)؛قال عطاء ومقاتل والكلبي: (معناه: إنّ الله يرضى عمل التّوّابين من الذّنوب ومن إتيان النّساء في وقت الحيض، ويحبّ المتطهّرين بالماء عن الأحداث والحيض والنّجاسات والجنابات).وقال مجاهد: (معناه: {(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ)} عن الذّنوب و {(الْمُتَطَهِّرِينَ)} عن أدبار النّساء أن يأتوها)،وقال:(من أتى امرأة في دبرها فليس من المتطهّرين)
(3)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3387 و 3434).
(2)
والحديث بمعناه عن أبي هريرة؛ أخرجه أبو داود في السنن: كتاب النكاح: باب في النكاح: الحديث (2162).وابن ماجة في السنن: كتاب النكاح: الحديث (1923) بإسناد صحيح. وعن جابر بن عبد الله؛ أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب النكاح: باب جواز جماع امرأته في قبلها: الحديث (117 - 1435/ 119).والترمذي في الجامع: كتاب التفسير: باب ومن سورة البقرة: الحديث (2979).وابن ماجة في السنن: الحديث (1925).
(3)
في الدر المنثور: ج 1 ص 625؛ قال السيوطي: «وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد:
…
وذكره». وأخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3444).
وقال بعضهم: معناه: {(التَّوّابِينَ)} من الذنوب و {(الْمُتَطَهِّرِينَ)} من الشرك. وقال سعيد بن جبير: {(التَّوّابِينَ)} من الشّرك، و {(الْمُتَطَهِّرِينَ)} من الذّنوب).وعن عبد الرحيم:(معناه: {(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ)} من الكبائر، و {(الْمُتَطَهِّرِينَ)} من الصّغائر).
وقيل: {(التَّوّابِينَ)} من الأفعال، و {(الْمُتَطَهِّرِينَ)} من الأقوال. وقيل:{(التَّوّابِينَ)} من الأقوال والأفعال، و {(الْمُتَطَهِّرِينَ)} من القعود والإضمار
(1)
.وقيل: {(التَّوّابِينَ)} من الآثام، و {(الْمُتَطَهِّرِينَ)} من الإجرام. وقيل:{(التَّوّابِينَ)} من الذنوب، و {(الْمُتَطَهِّرِينَ)} من العيوب.
والتّوّاب: هو الذي كلّما أذنب تاب. والمحيض: مصدر يقال: حاضت المرأة حيضا ومحيضا ومحاضا؛ كلّ ذلك مصدر.
قوله عز وجل: {نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ؛} قال ابن عباس: (كانت اليهود يقولون: إنّا لنجد في التّوراة أنّ كلّ إتيان يؤتى النّساء غير مستلقيات فإنّه دنس عند الله؛ ومنه يكون الحول والخبل في الولد. فأكذبهم الله تعالى بهذه الآية)
(2)
.
وعن جابر بن عبد الله قال: كانت اليهود يقولون: من جامع امرأته ضحيّة من قفاها في قبلها كان ولدها أحولا!؟ فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: [كذبت اليهود].فأنزل الله تعالى: {(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ)}
(3)
.
وقال الحسن وقتادة ومقاتل والكلبيّ: (تذاكر المهاجرون والأنصار واليهود إتيان النّساء؛ فقال المهاجرون: إنّا نأتيهنّ باركات وقائمات ومستلقيات ومن بين أيديهنّ ومن خلفهنّ بعد أن يكون المأتى واحدا وهو الفرج. فقال اليهود: وما أنتم إلاّ كالبهائم؛ لكنّا نأتيهم على هيئة واحدة، وإنّا لنجد في التّوراة أنّ كلّ إتيان يؤتى
(1)
في أصل المخطوطة مرسومة كما أثبتناه، ولا تدل على المراد.
(2)
الحديث عن جابر، تقدم.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (3475).والبخاري في الصحيح: كتاب التفسير: الحديث (4528).ومسلم في الصحيح: كتاب النكاح: باب جواز جماع امرأته في قبلها من قدامها وورائها: الحديث (1435/ 117).
النّساء غير مستلقيات فإنّه دنس عند الله، ومنه يكون الحول والخبل. فذكر ذلك المسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله، إنّا كنّا في جاهليّتنا وبعد ما أسلمنا نأتي النّساء كيف شئنا؛ وإنّ اليهود عابت ذلك علينا؛ وزعمت أنّا كذا وكذا؟ فأكذب الله تعالى اليهود؛ ورخّص للمسلمين في ذلك فقال:{(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}
(1)
.
وعن ابن عباس قال: (كان هذا الحيّ من الأنصار مع هذا الحيّ من اليهود وهم أهل الكتاب؛ فكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم؛ وكانوا يقتدون بكثير من فعلهم؛ وكان من شأن اليهود أن لا يأتوا النّساء إلاّ على حرف واحد، وذلك أشدّ ما يكون على المرأة. وكان هذا الحيّ من الأنصار قد أخذوا ذلك من فعلهم. وكان هذا الحيّ من قريش يشرحون النّساء شرحا منكرا، ويتلذّذون بهنّ مقبلات ومدبرات ومستلقيات؛ فلمّا قدم المهاجرون إلى المدينة، تزوّج رجل منهم امرأة من الأنصار، فذهب يصنع بها كذلك، فأنكرت عليه! وقالت: إنّما كنّا نؤتى على حرف، فإن شئت فاصنع ذلك وإلاّ فاجتنبني حتّى شري أمرهما. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: {(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ)} مقبلات ومدبرات ومستلقيات)
(2)
.والمعنى: {(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} أي مزدرع
(3)
لكم للولد
(4)
.
وقال الزجّاج: (معناه: نساؤكم ذوات حرث لكم؛ فبيّن كيف يحرثون للولد واللّذّة) أي {(فَأْتُوا حَرْثَكُمْ)} كيف {(شِئْتُمْ)} وحيث شئتم ومتى شئتم بعد أن يكون في موضع واحد وهو الفرج. قال أبو عبيد: (سمّيت المرأة حرثا على وجه الكناية؛ فإنّها للولد كالأرض للزّرع).وفي الآية دليل على تحريم الوطء في الدّبر؛ لأنه موضع
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3453) عن مرة الهمداني، والنص (3456) عن عبد الله بن علي عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3474).
(3)
في لسان العرب: مادة (زرع):المزدرع: موضع الزّرع؛ قال الشاعر:
واطلب لنا منهم نخلا ومزدرعا كما لجيراننا نخل ومزدرع
(4)
أخرجه أبو داود في السنن: كتاب النكاح: باب في جامع النكاح: الحديث (2164)،وإسناده صحيح.
الفرث لا موضع الحرث؛ وإنما قال الله تعالى: {(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ)} وهذا من لطف كنايات القرآن.
وقال أهل المعاني: معنى الآية: نساؤكم كحرث لكم، كقوله تعالى:{حَتّى إِذا جَعَلَهُ ناراً}
(1)
أي كنار؛ والعرب تسمي النّساء حرثا؛ قال الشاعر:
إذا أكل الجراد حروث قوم
…
فحرثي همّه أكل الجراد
يريد امرأتي.
وأنشد أحمد بن يحيى ثعلب:
حبّذا من هبة اللّ
…
هـ البنات الصّالحات
هنّ النّسل والزّر
…
وع وهنّ الشّجرات
يجعل الله لنا في
…
ما يشاء البركات
إنّما الأرحام أرض
…
ون لنا محرثات
فعلينا الزّرع فيها
…
وعلى الله النّبات
قوله تعالى: {(أَنّى شِئْتُمْ)} أي كيف شئتم. وقال سعيد بن المسيّب: (هذا في العزل؛ أي إن شئتم فاعزلوا وإن شئتم فلا تعزلوا).ودليل هذا ما روي عن عبد الله أنه قال: (تستأمر الحرّة في العزل؛ ولا تستأمر الأمة)
(2)
.
وقد وهم بعض الناس في تأويل هذه الآية وتعلّق بظاهرها وجوّز إتيان المرأة في دبرها؛ وهذا لا يصحّ؛ لأنّ قوله تعالى: {(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ)} يقتضي إباحة إتيان المرأة في قبلها؛ والقول بجواز إتيان المرأة في دبرها باطل.
والصحيح: أنه حرام؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ملعون من أتى المرأة في دبرها]
(3)
.
(1)
الكهف 96/.
(2)
رواه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب النكاح: باب من قال يعزل عن الحرّة بإذنها: الأثر (14671)،والأثر (14672) عن ابن عمر:[يعزل عن الأمة، وتستأمر الحرّة].
(3)
أخرجه أبو داود في السنن: كتاب النكاح: باب في جامع النكاح: الحديث (2162).
وعن عبد الله بن الحسن عن أبيه: أنّه لقي سالم بن عبد الله؛ فقال له: ما حديث يحدّث به نافع عن ابن عمر؟ قال: وما هو؟ قال: زعم أنّ عبد الله بن عمر لم ير بأسا بإتيان النّساء من أدبارهنّ! قال: كذب العبد وأخطأ، وإنّما قال عبد الله:(يؤتون في فروجهنّ من أدبارهنّ)
(1)
.
والدليل على تحريم الوطء في الدبر قوله صلى الله عليه وسلم: [ولا تأتوا النّساء في أدبارهنّ]
(2)
.وعن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا ينظر الله تعالى إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في دبرها]
(3)
.وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ملعون من أتى المرأة في دبرها]
(4)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [من أتى حائضا أو امرأة في دبرها؛ أو أتى كاهنا فصدّقه فيما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمّد صلى الله عليه وسلم]
(5)
.
قوله عز وجل: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ؛} أي قدّموا من العمل الصالح لآخرتكم. وقيل: معناه: سمّوا الله تعالى عند الجماع
(6)
،كما روي عن ابن عباس أنه
(1)
ذكره أهل التفسير؛ ينظر: اللباب في علوم الكتاب: ج 4 ص 81.وأخرجه النسائي في السنن الكبرى: كتاب عشرة النساء: الحديث (5/ 8978) بلفظ قريب منه من طريق كعب بن علقمة، عن أبي النضر أنه أخبره أنه قال لنافع: مولى عبد الله بن عمر: .... وذكره.
(2)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 4 ص 88 - 90:الحديث (3733 - 3734) عن خزيمة بن ثابت. وابن حبان في صحيحه: كتاب النكاح: باب النهي عن إتيان النساء في أعجازهن: الحديث (4198) وإسناده صحيح. وأخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 5 ص 312 و 215.والنسائي في السنن الكبرى: كتاب عشرة النساء: ذكر اختلاف الناقلين لخبر خزيمة بن ثابت: الحديث (8982 - 8996).
(3)
أخرجه النسائي في السنن الكبرى: كتاب عشرة النساء: ذكر حديث ابن عباس: الحديث (1/ 9001 و 2/ 9002).وابن حبان في صحيحه: كتاب النكاح: باب ذكر الزجر عن إتيان المرء امرأة في غير موضع الحرث: الحديث (4203).والترمذي في الجامع: كتاب الرضاع: باب ما جاء في كراهية إتيان النساء في أدبارهن: الحديث (1165)؛وقال: هذا حديث حسن غريب.
(4)
تقدم. وأخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 2 ص 279.والنسائي في السنن الكبرى: ج 5 ص 322: الحديث (5/ 9015).
(5)
أخرجه النسائي في السنن الكبرى: كتاب عشرة النساء: الحديث (7/ 9017).
(6)
في جامع البيان: ج 2 ص 542: النص (3480؛قال ابن جرير: «عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: (التسمية عند الجماع يقول: بسم الله).».
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا أراد أحدكم أن يأتي أهله فليقل: بسم الله، اللهمّ جنّبني الشّيطان؛ وجنّب الشّيطان ما رزقتنا، فإن قدّر بينهما ولد لم يضرّه الشّيطان]
(1)
.
وقيل: معنى: {(وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ)} النية الصالحة عند ذلك؛ وهو أن ينوي: ربّما قضى الله ولدا يعبده. وقيل: معناه: {(وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ)} هو التزويج بالعفائف ليكون الولد صالحا طاهرا.
وقيل: هو تقديم الأفراط
(2)
،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحلم-الحنث-لم تمسّه النّار إلاّ تحلّة القسم] فقالوا: يا رسول الله، واثنان. قال:[واثنان]،فظننّا أنّه لو قيل له وواحد، قال: وواحد
(3)
.
وقال السديّ والكلبي: (يعني العمل الصّالح) دليله سياق الآية: {وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ؛} قوله تعالى: {(وَاتَّقُوا اللهَ)} أي اخشوه ولا تقربوهنّ في حال الحيض ولا على وجه لا يحلّ، {(وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ)} يوم القيامة فيجزيكم
(1)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب بدء الخلق: الحديث (3271)،وكتاب النكاح: باب ما يقول الرجل إذا أتى أهله: الحديث (5165).ومسلم في الصحيح: كتاب النكاح: باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع: الحديث (1434/ 116).ولفظهما: [جنّبنا].وأخرجه النسائي في السنن الكبرى: كتاب عشرة النساء: باب ما يقول إذا أتاهن: الحديث (1/ 9030 و 2/ 9030).
(2)
الأفراط: جمع فرط، وهم الأولاد الذين ماتوا قبل أن يبلغوا الحلم.
(3)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 2 ص 276 عن أبي هريرة رضي الله عنه وج 3 ص 306 عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وعنه أيضا أخرجه ابن حبان في الصحيح: كتاب الجنائز: باب ما جاء في الصبر: ذكر رجاء نوال الجنان: الحديث (2947)،وإسناده قوي، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد: ج 3 ص 6 - 7؛وقال: «رواه أحمد ورجاله ثقات» .
وعن أنس؛ أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الجنائز: باب فضل من مات له ولد فاحتسب: الحديث (1248).وفي باب ما قيل في أولاد المسلمين: الحديث (1381).وأخرجه من طريق أبي هريرة رضي الله عنه: الحديث (1251)،وعلقه في باب ما قيل في أولاد المسلمين.
بأعمالكم. قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (223)؛أي المصدّقين بالبعث والثواب بالجنة
(1)
.
قوله عز وجل: {وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ؛} نزلت هذه الآية في عبد الله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه حلف ألاّ يدخل على ختنه بشير بن النعمان الأنصاريّ ولا يكلّمه ولا يصلح بينه وبين خصمه؛ وجعل يقول: حلفت بالله أن لا أفعل ولا يحلّ لي إلاّ أن أبرّ في يميني؛ فنزلت هذه الآية؛ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ عليه الآية، وقال:[من حلف على يمين فرأى أنّ غيرها خير منها؛ فليأت الّذي هو خير؛ وليكفّر عن يمينه، افعلوا الخير ودعوا الشّرّ].وكفّر ابن رواحة عن يمينه ورجع إلى الذي هو خير
(2)
.
ومعنى الآية: {(وَلا تَجْعَلُوا اللهَ)} علّة {(لِأَيْمانِكُمْ)} أي لا تجعلوا اليمين بالله مانعة لكم من البرّ والتقوى؛ وهو أن يجعل الرجل اليمين معترضا بينه وبين ما هو مندوب إليه أو مأمور به من البرّ والتقوى والإصلاح؛ يفعل ذلك للامتناع من الخير؛ لأن المعترض بين الشيئين يمنع وصول أحدهما إلى الآخر. ومعنى {(أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا)} أي لا تبرّوا ولا تتقوا القطيعة، ولا تصلحوا بين المتشاجرين كما قال امرؤ القيس:
(1)
قلت: هذا بعيد وإن كان محتملا ضمنا، والمقام يقتضي المعنى: أي الملتزمون المقيّدون المتبعون لأمر الله عز وجل في إتيان النساء، المجتنبون لما نهى الله عنه في إتيانهن. في الجامع لأحكام القرآن: ج 3 ص 96؛ قال القرطبي: «تأنيس لفاعل البر ومبتغ سنن الهدى» .
(2)
ذكره ابن عطية في تفسيره، والسمرقندي في بحر العلوم: ج 1 ص 206 عن الكلبي. وفي الجامع لأحكام القرآن: ج 3 ص 97؛ قال القرطبي: «وقيل: نزلت في عبد الله بن رواحة حين حلف أن لا يكلم بشير بن النعمان، وكان ختنه على أخته» .
أما الحديث إلى قوله: [وليكفّر عن يمينه] أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الإيمان: باب ندب من حلف يمينا: الحديث (11 و 12 و 13 و 1650/ 14) عن أبي هريرة، والحديث (15 و 16 و 17 و 1651/ 18) عن عدي بن حاتم، والحديث (1652/ 19) عن عبد الرحمن بن سمرة.
وفي الجامع لأحكام القرآن: ج 3 ص 97؛ قال القرطبي: «نزلت بسبب الصدّيق، إذ حلف أن لا ينفق على مسطح حين تكلم في عائشة رضي الله عنها؛ وقيل: حين حلف أن لا يأكل مع الأضياف» .
فقلت يمين الله أبرح قاعدا
…
ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
أراد بذلك: لا أبرح؛ وكان أبو العباس
(1)
ينكر إضمار حرف النفي في هذه الآية ويقول: (هذا إنّما يكون في تصريح اليمين) كقولك: والله أقوم؛ بمعنى والله لا أقوم. وأما في مثل هذا الموضع، فلا يجوز حذف حرف النفي. قال:(والصّواب أنّ معناه: لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم كراهة أن تبرّوا).فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه؛ ونظير هذا قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ}
(2)
.
وذهب بعض المفسرين إلى أنّ معنى الآية: {وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ} أي لا تعترضوا باليمين بالله تعالى في كلّ حقّ وباطل؛ وهو نهي عن كثرة الحلف، لما في ذلك من الجرأة على الله عز وجل والابتذال لاسمه في كلّ حقّ وباطل. يقال: هذه عرضة لك؛ أي عدة لك تبتذلها فيما تشاء. ومعنى {(أَنْ تَبَرُّوا)} على هذا الإثبات؛ أي لا تحلفوا في كلّ شيء لأن تبرّوا إذا حلفتم وتتّقوا المآثم فيها.
ويجوز أن يكون قوله تعالى: {(أَنْ تَبَرُّوا)} مبتدأ، وخبره محذوف تقديره: أن تبرّوا وتتّقوا وتصلحوا بين النّاس؛ أي أولى. فعلى هذا يكون موضع {(أَنْ تَبَرُّوا)} رفعا.
وعلى التأويل الأول يكون نصبا؛ لأن معناه: لأن تبرّوا، موضعه نصب بنزع الخافض.
وقال مقاتل: (نزلت في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه حين حلف لا يصل ابنه عبد الرّحمن حتّى يسلم)
(3)
.وقال ابن جريج: (نزلت في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه حين حلف لا ينفق على مسطح حين خاض في حديث الإفك)
(4)
.
(1)
أبو العباس محمد بن يزيد المبرّد، شيخ أهل النحو، وحافظ علم العربية، وكان عالما فاضلا موثوقا به في الرواية، توفي في شوال سنة خمس وثمانين ومائتين. ترجم له الخطيب في تاريخ بغداد: الرقم (1814):ج 4 ص 151.
(2)
النور 22/.
(3)
قاله مقاتل في التفسير: ج 1 ص 119.
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3496).
قال المفسرون: هذا في الرجل يحلف بالله أن لا يصل رحمه، ولا يكلّم قرابته، ولا يتصدّق، ولا يصنع خيرا، ولا يصلح بين اثنين. فأمره الله تعالى أن يحنث في يمينه ويفعل ذلك الخير ويكفّر عن يمينه. قوله تعالى:{وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (224)؛ أي سميع لأيمانكم عليم بما تقصدون باليمين عند الحلف.
قوله تعالى: {لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ؛} اختلف العلماء في لغو اليمين المذكور في هذه الآية؛ فقال قوم: هو ما يسبق به اللسان على سرعة وعجلة ليصل به كلامه من غير عقد ولا قصد؛ مثل قول الإنسان: لا والله؛ بلى والله، ونحو ذلك. فهذا لا كفّارة فيه ولا إثم عليه، وعلى هذا القول عائشة رضي الله عنها والشعبيّ وعكرمة ومجاهد.
وقال آخرون: لغو اليمين هو أن يحلف الإنسان على شيء يرى أنه صادق فيه، ثم تبين له خلاف ذلك؛ فهو خطأ منه غير عمد، فلا إثم عليه ولا كفارة؛ وعلى هذا القول ابن عباس والزهري والحسن وإبراهيم النخعي وقتادة والربيع وزرارة بن أوفى ومكحول والسديّ. وقال عليّ رضي الله عنه وطاوس:(اللّغو اليمين في حالة الغضب والضّجر من غير عقد ولا عزم)،ومثله مرويّ عن ابن عباس
(1)
.يدلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم:
[لا يمين في غضب]
(2)
.
وقال بعضهم: هو اليمين في المعصية، لا يؤاخذه الله بالحنث في يمينه ويكفّر، وبه قال سعيد بن جبير
(3)
.وقال غيره: ليس عليه في ذلك كفّارة
(4)
.وقال مسروق في الرجل يحلف على المعصية: (كفّارته أن يتوب عنها، وكلّ يمين لا يحلّ له أن يفي بها
(1)
في الدر المنثور: ج 1 ص 644؛ أخرجه السيوطي بلفظ: «لغو اليمين أن تحلف بالله وأنت غضبان» ،وقال:«أخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي» .
(2)
أخرجه ابن جرير في جامع البيان: النص (3530).
(3)
جامع البيان: النص (3531)،والنصوص (3532).
(4)
جامع البيان: النص (3526) عن مكحول.
فليس فيها كفّارة؛ ولو أمره بالكفّارة لأمرته أن يتمّ على قوله)
(1)
.يدلّ عليه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [من نذر فيما لا يملك فلا نذر له، ومن حلف على معصية فلا يمين له]
(2)
.
وعن إبراهيم النخعيّ قال: (لغو اليمين أن يصل الرّجل كلامه بالحلف، كقوله: والله ليأكلنّ؛ والله ليشربنّ؛ ونحوها، لا يقصد بذلك اليمين ولا يريد به حلفا، فليس عليه فيه كفّارة)
(3)
.يدلّ عليه ما روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بقوم يتنضّلون ومعهم رجل من أصحابه؛ فرمى رجل من القوم فقال: والله أصبت؛ والله أخطأت.
فقال الرّجل الّذي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: حنث الرّجل يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: [كلّ أيمان الرّماة لغو لا كفّارة فيها ولا عقوبة]
(4)
.
وقالت عائشة: (أيمان اللّغو ما كان في الهزل والمراء والخصومة والحديث الّذي لا يعقد عليه القلب)
(5)
.وقال زيد بن أسلم: (هو دعاء الحالف لنفسه، كقوله:
أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا، أخرجني الله من مالي إن لم آتك غدا)
(6)
.
(1)
أخرجه ابن جرير في جامع البيان: النص (3535)؛ من قول الشعبي، والنص (3536) فيه قول مسروق:«كلّ يمين لا يحلّ لك أن تفي بها فليس فيها كفارة» .
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3537).والحاكم في المستدرك: كتاب الأيمان والنذور: باب من طلق ما لا يملك فلا طلاق له: الحديث (7892) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال:«حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» .وهو في سنن أبي داود: الرقم (3273). والنسائي في السنن الصغرى: ج 7 ص 12.وابن ماجة في السنن: الرقم (2111)
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3539).
(4)
أخرجه الطبراني في المعجم الصغير: ج 2 ص 271:الحديث (1151).وفي مجمع الزوائد: ج 4 ص 185:باب في لغو اليمين؛ قال الهيثمي: (رواه الطبراني في المعجم الصغير ورجاله ثقات إلا شيخ الطبراني يوسف بن يعقوب لم أجد من وثقه ولا جرحه).وأخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5342) عن الحسن البصري.
(5)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3541).
(6)
خرجه الطبري في جامع البيان: النص (3543).
قوله تعالى: {(وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ)} أي بما تعمّدتم الكذب؛ وهو أن يحلف على شيء يعلم أنه ليس كذلك. والمعنى: {(وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ)} بما عزمتم وقصدتم وتعمدتم؛ لأن كسب القلب العقد والنية. قوله تعالى: {وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (225)؛أي {(غَفُورٌ)} لمن تاب من اليمين الغموس، {حَلِيمٌ} عن الحالف إذ لم يعجّل عليه بالعقوبة. وقيل: معناه: {وَاللهُ غَفُورٌ} {وَاللهُ غَفُورٌ} لمن حنث وكفّر عن يمينه، {حَلِيمٌ} حين رخّص لكم في الحنث ولم يعاقبكم على اليمين على ترك البرّ.
واللّغو في اللغة: الكلام السّاقط الّذي لا فائدة فيه ولا حكم له، يقال: ألغيت الشّيء إذا طرحته. وقد يذكر اللّغو ويراد به الكلام الفاحش القبيح، قال الله تعالى:
{وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ}
(1)
وقال تعالى: {وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً}
(2)
.
قوله عز وجل: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (226)؛قال ابن عباس: (إنّ العرب في الجاهليّة كان الرّجل منهم يكره امرأته ويكره أن يتزوّجها غيره، فيحلف أن لا يطأها أبدا ولا يخلي سبيلها إضرارا؛ فتبقى معلّقة لا ذات زوج ولا مطلّقة، حتّى يموت أحدهما. فأبطل الله ذلك من فعلهم، وجعل الأجل في هذا بعد هذا القول أربعة أشهر إذا تمّت هذه المدّة ولم يفئ إليها بانت بتطليقة)
(3)
.
وفي قراءة عبد الله: «(للّذين آلوا من نسائهم)» على لفظ الماضي؛ والإيلاء:
الحلف؛ يقال: آلى يؤلي إيلاء؛ والاسم الألية، قال الشاعر:
عليّ الله وصيام شهر
…
أمسك طائعا إلا يكفي
(1)
القصص 55/.
(2)
الفرقان 72/.
(3)
ذكر معناه أهل التفسير؛ وفي الدر المنثور: ج 1 ص 647؛ قال السيوطي: «وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد والطبراني والبيهقي والخطيب في تالي التلخيص عن ابن عباس:
…
وذكر شطرا منه».وفي مجمع الزوائد: ج 5 ص 10؛قال الهيثمي: «رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح» .وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الإيلاء: النص (15632).
وجمع الأليّة الألايا قال الشاعر
(1)
:
قليل الألايا حافظ ليمينه
…
إذا نذرت منه الإليّة برّت
والإيلاء في الشرع: هو الحلف على ترك الجماع الذي يكسب الطلاق بمضيّ المدة. ومعنى الآية: للذين يحلفون من نسائهم لا يقربوهن أربعة أشهر. والتربّص:
التّوقّف. وقال بعضهم: التّربّص: التّصبّر.
قوله: {(فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)} فإن رجعوا عما حلفوا عليه؛ فقرب الرجل امرأته أو كان عاجزا عن الوطء ففاء بلسانه، {فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ)} لذنب الإضرار بالامتناع عن الجماع، {(رَحِيمٌ)} بهم إذ رخّص لهم القربان بالكفارة. وفي قراءة ابن مسعود:«(فإن فاءوا فيهنّ)» .
واختلف العلماء فيما يكون موليا به على وجوه؛ أحدها: ما روي عن علي وابن عباس والحسن رضي الله عنهم: (أنّ الإيلاء هو الامتناع من الجماع على جهة الغضب؛ والإصرار بتأكيد اليمين حتّى لو كان له ولد رضيع يخشى أن يقرب أمّه أن تحبل فيضرّ ذلك بالولد، فحلف أن لا يقربها لم يكن موليا)
(2)
.
وقال النخعيّ وابن سيرين والشعبيّ: (هو اليمين على أن لا يجامعها، سواء كان في الغضب أو في الرّضا)
(3)
.وبهذا القول قال علماؤنا رحمهم الله تعالى حتى قال أبو يوسف وأبو حنيفة ومحمد
(4)
: (كلّ يمين في زوجة منعت جماع أربعة أشهر من غير حنث يلزمه تعيين إيلاء؛ وفي أخرى فهو إيلاء)
(5)
.
(1)
هو كثير عزة. وفي بعض كتب التفسير: (إذا صدرت). (إن سبقت)
(2)
عن علي؛ أخرجه الطبري بأسانيد في جامع البيان: النصوص (3560 و 3561 و 3562 و 3568)،وأخرى عن ابن عباس: النصوص (3565)،وعن الحسن:(3574 و 3570).
(3)
أخرجه الطبري عن النخعي في النص (3580)،وعن الشعبي في النص (3578)،وعن ابن سيرين في النص (3574).
(4)
أي محمّد بن الحسن الشيباني، الإمام العلم المشهور.
(5)
هذا ما ذهب إليه النخعي كما نقله الطبري في جامع البيان: النص (3573 و 3575)،والشعبي في النص (3576)،وسعيد بن المسيب في النص (3582).
والقول الثالث: ما روي عن سعيد بن المسيّب: (أنّ الإيلاء هو اليمين في الجماع وغير ذلك من الضّرر حتّى لو حلف لا يكلّمها كان موليا)
(1)
.
والقول الرابع: قول عبد الله بن عمر: (أنّه إذا هجرها فهو إيلاء)،ولم يذكر الحلف
(2)
.
والتّربّص: انتظار الشيء خيرا أو شرّا يحلّ بك أو به؛ ولذلك سمي المحتكر متربصا لانتظاره غلاء السّعر، قال الشاعر:
تربّص بها ريب المنون لعلّها
…
تطلّق يوما أو يموت حليلها
قوله عز وجل: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (227)؛أي وإن حقّقوا الطلاق بالإقامة على حكم اليمين إلى تمام أربعة أشهر؛ {(فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ)} لإيلائهم؛ {(عَلِيمٌ)} بهم وبنيّاتهم. والعزم في اللغة: هو العقد على فعل في المستقبل؛ يقال: عزم على كذا؛ إذا عقد قلبه عليه. والعزم الشرعيّ المذكور في هذه الآية على ثلاثة أوجه: قال ابن عباس: (عزيمة الطّلاق انقضاء الأربعة أشهر قبل أن يفيء من غير عذر)
(3)
،وهو قول ابن مسعود
(4)
وزيد بن ثابت وعثمان بن عفان رضي الله عنهم
(5)
؛قالوا: (إنّها تبين بعد هذه المدّة بتطليقة)،وبه أخذ أبو حنيفة وأصحابه.
(1)
ذكره الطبري في جامع البيان: النص (3582).
(2)
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ قال: «أيما رجل آلى من امرأته، فإذا مضت الأربعة أشهر، وقف حتى يطلق أو يفيء، ولا يقع الطلاق إذا مضت الأربعة أشهر حتى يوقف» .
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الإيلاء: الأثر (15611)،وقال: رواه البخاري في الصحيح؛ وهو كذلك كتاب الطلاق: الحديث (5291).
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3633).
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3633 و 3627).
(5)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3624 و 3625).
وعن عليّ
(1)
وابن عمر
(2)
وأبي الدرداء رضي الله عنهم مثل القول الأول
(3)
.
وروي عنهم أيضا: (أنّه يوقف بعد مضيّ المدّة، فإمّا أن يفيء وإمّا أن يطلّق)
(4)
وهذا قول عائشة
(5)
وآخرين. وبه قال مالك والشافعيّ؛ فإن امتنع عنهما؛ فللشافعيّ قولان؛ أحدهما: يحبسه الحاكم ولا يجبره على أحد الأمرين. والثاني: يطلّق عليه الحاكم.
وقال ابن جبير وسالم والزهريّ وعطاء وطاوس: (إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة رجعيّة).فإن قيل: قوله تعالى: {(فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)} يقتضي أنّ عزيمة الطلاق مسموعة ولا يكون كذلك إلا بقول من الزوج بعد الإيلاء؟ قلنا: هذا القول لا يصحّ؛ لأن الله تعالى لم يزل سميعا ولا مسموع وقد قال تعالى: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
(6)
وليس هناك قول
(7)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3622 و 3623).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3635).
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3666).
(4)
عن علي رضي الله عنه؛ أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3664)،وعن عثمان رضي الله عنه في النص (3665)،وعن أبي الدرداء رضي الله عنه في النص (3667 - 3669).
(5)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3665).
(6)
البقرة 244/.
(7)
قوله عز وجل: {وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛} وقال ابن عباس: (كان أهل الجاهليّة يطلّق الرّجل امرأته، فإن كانت حبلى كان أحقّ برجعتها وإلاّ كانت أحقّ بنفسها، فكانت المرأة إذا أحبّت الرّجل قالت: أنا حبلى، وليست حبلى ليراجعها. وإذا كرهته وهي حبلى قالت: لست حبلى؛ لكي لا يقدر على مراجعتها؛ فجعل الله عدّة المطلّقات ثلاثة قروء، ونهى النّساء عن كتمان ما في أرحامهنّ من الحيض والحبل).
ومعنى الآية: {وَالْمُطَلَّقاتُ} ينتظرن {(بِأَنْفُسِهِنَّ)} ماذا يصنع بهن أزواجهنّ من المراجعة وترك المراجعة. وقد اختلف السلف في القرء المذكور؛ قال أبو بكر وعمر وعثمان وابن عباس وابن مسعود وأبو موسى الأشعري: (هو الحيض)،وقالوا:(إنّ الزّوج أحقّ بها ما لم تغتسل من الحيضة الثّالثة)
(1)
،وبه أخذ أبو حنيفة وأصحابه.
وقال ابن عمر وزيد بن ثابت وعائشة: (الأقراء هي الأطهار)
(2)
، (وإذا دخلت في الحيضة الثّالثة، فلا سبيل له عليها)
(3)
،وبه قال مالك
(4)
والشافعيّ.
وإنّما اختلف السلف في هذه المسألة؛ لأن القرء في اللغة عبارة عن الحيض وعن الطّهر؛ وهو من أسماء الأضداد؛ قال أبو عبيدة: (هو خروج من شيء إلى شيء؛ يقال: قرأ النّجم إذا طلع؛ وقرأ النّجم إذا غاب).والمرأة تخرج من الطهر إلى الحيض، ومن الحيض إلى الطهر. قال الشاعر:
يا ربّ ذي ضغن عليّ فارض
…
له قروء كقروء الحائض
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3707).والبيهقي في السنن الكبرى: كتاب العدد: الأثر (15798).وأخرج حديث عثمان في الأثر (15800)،وحديث أبي موسى الأشعري في الأثر (15801).
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب العدد: الأثر (15787).
(3)
عن عائشة أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: الأثر (15788)،وعن زيد بن ثابت في الأثر (15789 و 15790)،وعن ابن عمر في الأثر (15791).
(4)
في السنن الكبرى: الأثر (15795)؛قال البيهقي: «قال مالك رحمه الله: وذاك الأمر الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا، والله أعلم» .
وأراد بذلك الحيض؛ يعني: أن عداوته تهيج في أوقات معلومة كما أن المرأة تحيض في أوقات معلومة. وقال آخر
(1)
:
أفي كلّ عام أنت جاشم غزوة
…
تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا
ومورّثة عزّا وفي الحيّ رفعة
…
لما ضاع فيها من قروء نسائكا
وأراد بالقرء في هذا البيت الطّهر؛ لأنه خرج إلى الغزو ولم يغش نساءه فأضاع أقراءهن؛ أي أطهارهن.
فلما اختلف السلف واختلفت اللغة في هذا الاسم لم يجب حمله على الأمرين جميعا، ووجب حمله على حقيقته دون مجازه. واسم القرء حقيقة في الحيض؛ مجاز في الطهر؛ لأن كلّ طهر لا يسمى قرءا وإنّما الطهر الذي يكون بين الحيضتين، فسمّي بهذا الاسم لمجاوزته الحيض. فلو كان هذا الاسم حقيقة في الطهر لكان لا ينتفي عنه بحال؛ لأنّ الأسماء الحقائق لا تنتفي عن مسمّياتها بحال؛ ووجدنا هذا الاسم ينتفي عن طهر الآيسة والصغيرة، فكان حمله على الحيض أولى من حمله على غيره
(2)
.
فإذا اختلفت الأمة في ذلك كان المرجع إلى لغة النبيّ صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم:
[المستحاضة تدع الصّلاة أيّام أقرائها]
(3)
وأراد بالأقراء الحيض بالإجماع، واتّفق
(1)
في الجامع: ج 3 ص 113؛قال القرطبي: «قال الأعشى في الأطهار» وفي الهامش في الديوان: ص 29 من قصيدة في مدح هوذة بن علي الحنفي. وجشم الأمر: تكلفه على جهد ومشقة، والعزيم: الجدّ، والعزاء: حسن الصبر عن الصبر فقد الشيء.
(2)
في السنن الكبرى: كتاب العدد: جماع أبواب عدة المدخول بها: في ذيل النص (15797)؛قال البيهقي: «وقد روي هذا اللفظ الذي احتجوا به في أحاديث ذكرناها في كتاب الحيض، وتلك الأحاديث في نفسها مختلف فيها، فبعض الرواة قال فيها: [أيّام أقرائها] وبعضهم قال فيها: [أيّام حيضها]،وما في معناه، وكل ذلك من جهة الرواة، كل واحد منهم يعبّر عنه بما يقع له، والأحاديث الصحاح متفقة على العبارة عنه بأيام الحيض دون لفظ الأقراء، والله اعلم» .
وفي جامع البيان: مج 2 ص 603؛ قال أبو جعفر الطبري رحمه الله: «والقرء في كلام العرب جمعه قروء
…
وأقرأ إذا جاء وقت طلوعه».والله أعلم.
(3)
أخرج طرقه أبو داود في السنن: كتاب الطهارة: باب من قال تغتسل من طهر إلى طهر: الحديث (297 - 300) وقال: كلها ضعيفة لا تصح.
الصّحابة أن عدّة أمّ الولد بالحيض وكذلك الاستبراء
(1)
.
وذهب الزجّاج إلى أن القرء الجمع من قولهم: قرأت القرآن؛ أي لفظت به مجموعا. ويقال: قريت الماء في الحوض
(2)
.ويسمى الحوض مقراة. قال: (وإنّما يجتمع الدّم في البدن في الطّهر فهو القرء) غير أن الأمر لا يظهر في الحقيقة؛ لأن هذا من علم ما في الأرحام، وقد خصّ الله تعالى نفسه بعلم ما في الأرحام، ولا يمتنع أن يجتمع الدم في حالة الحيض قطرة أو قطرتين كالعبرة ونحوها؛ إذ لو اجتمع جملة لدرّ درورا لا ينقطع كالبول وسائر المائعات المجتمعة.
والمطلّقة قبل الدخول مخصوصة من هذه الآية بآية أخرى وهو قوله تعالى:
(3)
.وكذلك الحامل مخصوصة بآية أخرى.
وروي أنّ رجلا من أشجع قال: يا رسول الله، طلّقت امرأتي وهي حامل وقد ذهبت وأنا أخاف أن تنطلق فتتزوّج من بعدي فيكون ولدي له، فأنزل الله تعالى:
{(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)} إلى آخر الآية. فردّت امرأة الأشجعي إلى الأشجعيّ، فقام معاذ بن جبل فقال: يا رسول الله، أرأيت الكبيرة الّتي يئست من الحيض ما عدّتها؟ فنزل:{وَاللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ}
(4)
.فقال آخر: يا رسول الله، أرأيت الصّغيرة الّتي لم تبلغ الحلم؛ ما عدّتها؟ فأنزل {وَاللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ}. فقام آخر فقال: يا رسول الله، والحوامل ما عدّتهنّ؟ فنزل:{وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} .
(1)
أسند البيهقي آثارا في السنن الكبرى: كتاب العدد: باب استبراء أم الولد.
(2)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 3 ص 114؛ قال القرطبي: «قال أبو عمر بن عبد الله: قول من قال: إن القرء مأخوذ من قولهم: قريت الماء في الحوض ليس بشيء؛ لأن القرء مهموز وهذا غير مهموز» .
(3)
الأحزاب 49/.
(4)
الطلاق 4/.
قوله تعالى: {(وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ)} تخويفا من الله تعالى للمعتدّات كي لا {(يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ)} من الحبل فيخبرن بانقضاء العدة ثم يتزوجن فيلزمن الولد غير أبيه؛ ولا يكتمن الحيض فيمتنعن عن الإخبار بانقضاء العدّة ليستوجبن النفقة على أزواجهن.
وفي هذه الآية دليل على أنّ قول المرأة يقبل على أمر رحمها حتى لو قالت:
حضت؛ حرم على الزوج وطؤها؛ وإذا قالت: طهرت؛ حلّ له وطؤها؛ إذ لو لم يجب قبول قولها لم يكن لنهيها عن الكتمان معنى ولا فائدة؛ ولهذا إذا قال لامرأته: إذا حضت فأنت طالق؛ فقالت: حضت؛ طلّقت، وكان قولها كالبينة في حقّ نفسها؛ لأنّا قبلنا قولها فيما يخصّها من انقضاء عدتها وإباحة وطئها وحظره.
وفرّقوا بين هذا وبين سائر الشروط نحو قوله: إذا دخلت الدار أو كلّمت زيدا؛ فقالوا: لا يقبل قولها فيه إلا ببينة. فأما إذا علّق عتق عبده بحيضة زوجته؛ فقالت:
حضت؛ لم تصدّق؛ لأن ذلك حكم في غيرها لا يخصّها ولا يتعلق بها؛ فهو كغيره من الشروط ولا تصدّق.
قوله عز وجل: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً؛} أي أزواجهن أحقّ بمراجعتهن في الأجل الذي أمرن أن يتربصن فيه؛ إن أرادوا بمراجعتهن حسن الصحبة والمعاشرة دون الإضرار والعدوان.
قوله عز وجل: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ؛} أي لهن على أزواجهنّ من الحقّ والحرمة وحسن المعاشرة مثل ما للزوج عليهن من الحقوق بالمعروف. واسم المعروف عامّ في كلّ ما يعرف من إقامة الحقّ، يسمى بذلك لأن كلّ واحد يعرف بأنه حقّ.
قوله تعالى: {وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ؛} أي لهم زيادة فيما للنساء عليهم وهو الفضل بنفقتهن وقيامهم بما يصلحهن. والفضل في العقل والميراث أن يكون الرجل مسلّطا على تأديب المرأة إذا نشزت. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: [لو أذنت لبشر أن يسجد لبشر ولو صحّ ذلك؛ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقّه
عليها؛ والّذي نفسي بيده لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه لشحب بالقيح والصّديد ثمّ لحسته ما أدّت حقّه]
(1)
.
قوله عز وجل: {وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (228)؛أي ملك غالب يحكم ما أراد ويمتحن بما أحبّ فينتقم ممّن عصاه، وهو ذو حكمة فيما يأمر من أمر الدين والدنيا؛ لا يأمر شيئا إلا لحكمة.
قوله عز وجل: {الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ؛} قال عروة بن الزبير وقتادة في معنى هذه الآية: (إنّ الطّلاق الّذي يملك فيه الرّجعة مرّتان؛ فإنّه بعد الطّلقة الثّالثة لا يملك الرّجعة).وفي الآية ما يدلّ على هذا؛ لأنّ الله
(1)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: الحديث (12003) عن ابن عباس رضي الله عنهما. وفي مجمع الزوائد: ج 9 ص 5؛قال الهيثمي: «رواه الطبراني وفيه أبو عزة الدباغ، وثقه ابن حبان، واسمه الحكم بن طهمان، وبقية رجاله ثقات» .ولفظه من دون ذكر الزيادة: [والذي نفسي بيده-ما أدت حقه].
وأخرجه أيضا: الحديث (5084 و 5116 و 5117) عن زيد بن أرقم، والزيادة فيه بلفظ آخر:[ولا تؤدّي المرأة حقّ زوجها حتّى لو سألها نفسها على قتب لأعطته].في الزوائد: ج 4 ص 308؛قال الهيثمي: «رواه الطبراني في الكبير والأوسط-وفي إسناد الأول-قال: رجاله رجال الصحيح خلا المغيرة بن مسلم، وهو ثقة» .وفي ج 4 ص 310؛قال: «رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وأحد إسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح خلا صدقة بن عبد الله السمين، وثقه أبو حاتم وجماعة، وضعفه البخاري وجماعة» .
أما الزيادة، فهي على ما يبدو من كلام معاذ، وربما أدرجه البعض في الحديث. في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: ج 4 ص 308؛قال الهيثمي: «رواه أحمد والطبراني من رواية عبد الحميد ابن بهرام عن شهر؛ وفيهما ضعف وقد وثقا» .
ولفظ الحديث كما في السنن: [ما ينبغي لأحد أن يسجد لأحد، ولو كان أحد ينبغي أن يسجد لأحد، لأمرت الزّوجة أن تسجد لزوجها لما عظّم الله عليها من حقّه].أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه: أبواب الرضاع: الحديث (1159).وابن حبان في الصحيح: كتاب النكاح: باب معاشرة الزوجين: الحديث (4162) واللفظ له. وفي إسنادهما محمّد بن عمرو، روى له أصحاب السنن، وروى له البخاري مقرونا، ومسلم متابعة، وهو حسن الحديث. وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
عقّبه بقوله: {(فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ)} . وعن ابن عباس ومجاهد: (أنّ المراد بالآية بيان طلاق السّنّة).
وقوله: {(الطَّلاقُ مَرَّتانِ)} لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر والندب، وفي لفظ المرّتين دليل على أن التفريق سنّة؛ لأن من طلّق اثنتين معا لا يقال طلّقها مرتين، وليس في هذه الآية كيفية سنة التفريق. وقد فسّره الله تعالى بقوله:{إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}
(1)
وأراد بذلك تفريق الطلاق على إظهار العدة؛ ألا ترى أنه تعالى خاطب الرجال إحصاء العدة، وذكر الرجعة في سياق الآية بقوله:{لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً} . وعلى هذا قال صلى الله عليه وسلم لابن عمر حين طلّق امرأته في حال الحيض:
[ما هكذا أمرك ربّك؛ إنّما أمرك أن تستقبل الطّهر استقبالا، فطلّقها لكلّ قرء تطليقة؛ فإنّها العدّة الّتي أمر الله أن يطلّق فيها النّساء]
(2)
.
قوله تعالى: {(فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ)} أي عليكم إمساكهن بحسن الصحبة والمعاشرة إذا أردتم الرجعة، {(أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ)} أي يتركوهن حتى ينقضي تمام الطّهر ويكنّ أملك لأنفسهن. والإحسان: أن يوفّي الزوج حقّها في المهر ونفقة العدّة؛ وأن لا يطوّل العدة عليها. وروي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية؛ فقيل له: أين التّطليقة الثّالثة؟ فقال: [في قوله: {(أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ)}]
(3)
.
قوله عز وجل: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ؛} قال ابن عباس: (نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي
(1)
الطلاق 1/.
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الخلع والطلاق: باب الاختيار للزوج أن لا يطلق إلا واحدة: الحديث (15313 و 15314).وأخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الطلاق: الحديث (5251)،وفيه أنه صلى الله عليه وسلم أمر عمر أن يأمر ابنه. وأخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الطلاق: باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها: الحديث (1 - 1471/ 14).ولم يرد أن الرسول صلى الله عليه وسلم خاطب ابن عمر مباشرة.
(3)
عن أبي رزين؛ أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (3784) من ثلاثة طرق. وأبو رزين هو الأسدي، واسمه مسعود، تابعي كوفي ثقة، غير أبي رزين العقيلي الصحابي، فالحديث مرسل.
ابن سلول
(1)
وفي زوجها ثابت بن قيس، كانت تبغضه بغضا شديدا لا تقدر على النّظر إليه، وكان يحبّها حبّا شديدا لا يقدر على أن يصبر عنها؛ وكان بينهما كلام، فأتت أباها فشكت عليه وقالت: إنّه يضربني ويسيء إليّ! فقال لها: ارجعي إلى زوجك، فأتته الثّانية وبها أثر الضّرب، فشكت إليه فقال لها: ارجعي إلى زوجك.
فلمّا رأت أنّه لا يشكيها ولا ينظر في أمرها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت عليه وأرته أثر الضّرب بها، فقالت: يا رسول الله، لا أنا ولا هو، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثابت وقال:[يا ثابت، ما لك ولأهلك؟] قال: والّذي بعثك بالحقّ نبيّا؛ ما على الأرض شيء أحبّ إليّ منها غيرك، لكنّها لا تطيعني، فقال لها النّبيّ صلى الله عليه وسلم:[ما تقولين؟] فكرهت أن تكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: ما كنت أحدّثك اليوم حديثا ينزل عليك خلافه غدا، هو من أكرم النّاس لزوجته لا أعيب عليه في دين ولا خلق، ولكنّي أبغضه لا أنا ولا هو. فقال ثابت: قد أعطيتها حديقة لي، قل لها فلتردّها عليّ وأنا أخلي سبيلها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:[أتردّين عليه حديقته وتملكين أمرك؟] قالت: نعم، وزيادة. فأنزل الله قوله:{(وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ)} الآية، فقال صلى الله عليه وسلم:[أمّا الزّيادة فلا] ثمّ قال لثابت:
خذ منها ما أعطيتها وخلّ سبيلها، ففعل. وكان ذلك أوّل خلع في الإسلام)
(2)
.
(1)
اضطرب النقل في اسم امرأة ثابت بن قيس. وفي فتح الباري شرح صحيح البخاري: شرح الحديث (5273)؛وما بعده قال ابن حجر: «وأبهم في هذه الطريق اسم المرأة، وفي الطرق التي بعدها، وسميت في آخر الباب؟ جميلة» .قال: «وقع في رواية النسائي والطبراني من حديث الربيع بن معوّذ: أن ثابت بن قيس ضرب امرأته فكسر يدها، وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي، فأتى أخوها يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
الحديث، وبذلك جزم ابن سعد في (الطبقات) فقال: جميلة بنت عبد الله بن أبي، أسلمت وبايعت، وكانت تحت حنظلة بن أبي عامر غسيل الملائكة
…
».وقال عن اختلاف الأسماء وتعددها بأنه لا تنفي فيما بينها «لاحتمال أن يكون لها أسماء وأحدهما لقب» .
(2)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الطلاق: باب (12):الحديث (5277).وابن ماجة في السنن: كتابا الطلاق: باب المختلعة تأخذ ما أعطاها: الحديث (2056).والبيهقي في السنن الكبرى: كتاب الخلع: الحديث (15210 - 15212).
ومعنى الآية: {(وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا)} شيئا مما أعطيتموهن من مهر ولا غيره، {(إِلاّ أَنْ يَخافا)}. قال أبو عبيد:(معناه: معلّما ومؤقّتا حقيقته؛ أي إلاّ أن يكون الأغلب عليها على ما ظهر منهما من أسباب التّباعد الخوف من أن لا {(يُقِيما حُدُودَ اللهِ)} وهو ما فرض الله تعالى للزّوج).
ومن قرأ «(يخافا)» على فعل ما لم يسمّ فاعله، كان المعنى إلا أن يخافا عليهما أن لا يقيما حدود الله، وهو ما فرض الله تعالى للزوج على المرأة، والمرأة على الزوج.
وقد يذكر الخوف في معنى العلم كما قال أبو محجن الثقفيّ
(1)
:
إذا متّ فادفنّي إلى أصل كرمة
…
تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنّني
…
أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها
وأما قوله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ؛} أي علمتم بغالب ظنّكم أن لا يكون بينهما صلاح ولا مقام على النكاح. {فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ؛} أي لا حرج عليهما في الأخذ والإعطاء. ويقال: معناه: لا حرج على الزوج أن يأخذ ما افتدت به المرأة نفسها مما أعطاها الزوج. قال الفرّاء: (هذا كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ}
(2)
وإنّما يخرج ذلك من أحدهما؛ كذلك في هذه الآية أراد بقوله تعالى: {(فَلا جُناحَ عَلَيْهِما)} نفي الحرج عن الزّوج في الأخذ؛ فأمّا المرأة فهي مفتدية باختيارها ورضاها).
وإنّما يباح للزوج أن يخلعها إذا كان النّشوز من قبل المرأة؛ وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (لو اختلعت بكلّ شيء لها لأخذته)
(3)
.
(1)
رفع الفعل المضارع بعد (أن) لوقوعها بعد الخوف، بمعنى العلم واليقين، واسم (أن) المخففة ضمير شأن محذوف أو ضمير متكلم، وجملة (لا أذوقها) في محل رفع خبرها. أي أعلم إذا متّ أني لا أذوقها، إشارة منه إلى أن من شرب الخمر في الدنيا لا يشربها في الآخرة.
(2)
الرحمن 22/.
(3)
يذكر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ أخرجه الإمام مالك في الموطأ: كتاب الطلاق: الحديث (32).
وروي أن امرأة نشزت فرفعت إلى عمر رضي الله عنه فأباتها في بيت الزّبل ثلاث ليال ثم دعا بها فقال رضي الله عنه: (كيف وجدت مبيتك؟) فقالت: ما بتّ ليالي منذ كنت عنده أقرّ لعيني منهنّ. فقال عمر رضي الله عنه لزوجها: (اخلعها، ولو بقرطها)
(1)
.
قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها؛} الآية؛ أي هذه الآيات المنزّلة من الأوامر والنواهي فرائض الله وأحكامه {(فَلا تَعْتَدُوها)} أي فلا تتجاوزوها، {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ؛} أي من يتجاوز أحكام الله ويترك ما أمر الله به أو يعمل بما نهاه، {فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ} (229)؛الضّارّون لأنفسهم بمعصيتهم.
وإذا كان النشوز من قبل الزوج، فلا يحلّ له أخذه شيئا منها ديانة؛ لقوله تعالى:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً}
(2)
.
واختلف السلف رضي الله عنهم في الخلع؛ هل هو طلاق أو فسخ؟ فذهب بعضهم إلى أنه فسخ؛ وهي رواية عن ابن عباس، واستدلّوا بظاهر هذه الآية؛ فقالوا:
إنّ الله ذكر الطلاق الثالث بعد هذا بقوله: {فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ؛} فلو كان الخلع طلاقا لجعل الطلاق أكثر من ثلاث.
وأكثر فقهاء الأمصار قالوا: الخلع طلاق؛ وهو «رواية عن»
(3)
عمر وعثمان وابن مسعود والحسن وإبراهيم النخعي وغيرهم. وليس في ظاهر هذه الآية أنّ الخلع فسخ؛ لأن قوله تعالى: {(وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا)} حكم مبتدأ؛ إذ (الواو) للاستئناف؛ إلا أن يقوم دليل الجمع، فكأنّ الله تعالى ذكر في أول هذه الآية حكم الطلاق بغير بدل وخيّر الزوج بين أن يراجعها في العدة أو يتركها حتى تنقضي عدتها، ثم استأنف بيان حكم الطلاقين إذا كان على وجه الخلع، وأبان عن موضع الحظر والإباحة فيها، ثم ذكر حكم الطلقة الثالثة بالآية التي بعد هذه الآية. وهذا مما يستدلّ به على أن المختلعة يلحقها الطلاق؛ لأن عامة الفقهاء اتفقوا على أن تقدير الآية وترتيب أحكامها على ما وصفناه؛ فحصلت التطليقة الثالثة بعد الخلع. شرط في إباحتها للأول؛ إلا ما روي عن سعيد بن المسيب رواية شاذة: أنّه لم يجعله شرطا؛
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3841) بإسنادين ولفظين، و (3842).
(2)
النساء 20/.
(3)
«رواية عن» ليس في الأصل المخطوط، وأضفناه لضرورة السياق.
ولم يتابعه أحد على ذلك
(1)
.
(1)
في المسألة مذهبان: مذهب الجمهور، ومذهب سعيد بن المسيب ومن تابعه عليه. أما مذهب الجمهور: وهو أن المطلقة ثلاثا لا تحل للأول إلا بشروط؛ وهي: أن تعتدّ منه، وتتزوج بغيره، ويطأها، ثم يطلقها، وتعتد من الآخر.
أما مذهب سعيد، فذكره ابن حزم في المحلى: ج 10 ص 178؛وقال: «روينا من طريق سعيد ابن منصور نا هشيم نا داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب في المطلقة ثلاثا ثم تتزوج، قال سعيد: أما الناس فيقولون: حتى يجامعها، وأما أنا فإني أقول: إذا تزوجها بتزويج صحيح لا يريد بذلك إحلالا؛ فلا بأس أن يتزوجها الأول» .
وهذه المسألة ليس رأي الإمام سعيد بن المسيب فيها شاذا، إنما الرواية صحيحة، ولكن الفهم الآخر غريب، وليس كما قيل من أنه لم يتابعه أحد عليه؛ بل تابعه عليه الإمام سعيد بن جبير، نقله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 3 ص 148؛قال: «من قال بقول سعيد بن المسيب: سعيد بن جبير، ذكره النحاس في كتاب (معاني القرآن) قال: وأهل العلم على أن النكاح هاهنا الجماع؛ لأنه قال زَوْجاً غَيْرَهُ فقد تقدمت الزوجية، فصار النكاح الجماع؛ إلا سعيد بن جبير فإنه قال: النكاح هاهنا التزويج الصحيح ما لم يرد إحلالها» .
أما أنه ليس رأيا شاذا؛ فلأنه لم يطلق القول بتحليلها بمجرد العقد كما نقل البعض عنه بحسب فهمهم لرأيه، وإنما نظر في المسألة من جهة معتبرة أصوليا حسب القواعد والثوابت؛ في أحكام القرآن: ج 1 ص 198؛قال القاضي ابن عربي: «ما مرّ بي من الفقه مسألة أعسر منها؛ وذلك أن من أصول الفقه: أن الحكم هل يتعلق بأوائل الأسماء أم بأواخرها؟
…
فإن قلنا: إن الحكم يتعلق بأوائل الأسماء لزمنا مذهب سعيد بن المسيب، وإن قلنا إن الحكم يتعلق بأواخر الأسماء لزمنا أن نشترط الإنزال مع تغييب الحشفة في الإحلال؛ لأنه آخر ذوق العسيلة».
أما قول ابن المنذر الذي نقله الإمام القرطبي في الجامع: ج 3 ص 148؛قال: «قال: ومعنى ذوق العسيلة هو الوطء؛ وعلى هذا جماعة العلماء إلا سعيد بن المسيب، فقال: (أما الناس فيقولون: لا تحل للأول حتى يجامعها الثاني، وأنا أقول: إذا تزوجها تزوّجا صحيحا لا يريد بذلك إحلالها، فلا بأس أن يتزوجها الأول).وهذا قول لا نعلم أحدا وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج؛ والسنة مستغنى بها عما سواها» .فإنه قول لا يضر، والطائفة من الخوارج أراد سعيد ابن جبير حيث قتله الحجاج بن يوسف الثقفي. أما أنه لا يضر فلأن الأصل في البحث الفقهي النظر في الدليل وليس كثرة من قال، ثم أن يكون النظر بعمق فكر وانتباه إلى دلالات النص الشرعي من الدليل.-
وإنّما جعل دخول الزوج الثاني بها شرطا لمفهوم الآية وورود السّنة أما مفهوم
(1)
-أما قول القرطبي: «وأظنهما-أي السعيدين-لم يبلغهما حديث العسيلة، أو لم يصح عندهما؛ فأخذا بظاهر القرآن، وهو قوله: حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ والله أعلم» .فأجاب عليه ابن كثير وذكر ما رواه النسائي بسنده عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:«وهذا من رواية سعيد بن المسيب عن ابن عمر مرفوعا؛ على خلاف ما يحكى عنه، فبعيد أن يخالف ما رواه من غير مستند» .تفسير القرآن العظيم: ج 1 ص 277.
وما قاله ابن كثير منصف؛ كما أنصفه القاضي ابن العربي، فله مستند في ذلك؛ ووجه استدلال في المسألة؛ أن النكاح حقيقة في العقد على الصحيح. في المفردات قال الراغب:«أصل النكاح العقد؛ ثم استعير للجماع، ومحال أن يكون في الأصل للجماع ثم استعير للعقد؛ لأن أسماء الجماع كلها كنايات لاستقباحهم ذكره: كاستقباحهم تعاطيه» .وعلى هذا فالآية تقتضي من عقد عليها عقدا صحيحا، ثم طلقت قبل الدخول أو مات عنها زوجها، حلت بذلك للأول، وهذا ما ذهب إليه الإمامان السعيدان.
وأما وجه الاعتراض على مذهب السعيدين، فإنه قد يأتي من جهة أن العرب فرّقت بين العقد والوطء بفرق لطيف، فإذا قالوا:(نكح فلان فلانة أو ابنة فلان) أرادوا عقد عليها. وإذا قالوا: (نكح امرأته أو زوجته) فلا يريدون غير المجامعة. وعلى هذا فالآية يفهم منها إرادة الوطء لا العقد فحسب. وهو وجه يعضده الحديث عن عائشة رضي الله عنها في حديث رفاعة القرظي، إن لم يكن معنى آخر يصرف دلالة النص عن أصله بأن المراد بالنكاح الوطء لا العقد.
وعلى ما يبدو في استدلال سعيد بن المسيب، أن الحديث لا يخرج دلالة النص القرآني عن حقيقة العقد، إلا في حال تبييت النية والمغالطة؛ فالحديث كما أخرجه البخاري في الصحيح، وفيه قالت: «والله ما لي إليه من ذنب، إلاّ أنّ ما معه ليس بأغنى عنّي من هذه-وأخذت هدبة من ثوبها. فقال-أي عبد الرحمن الزوج الثاني-:كذبت والله يا رسول الله، إنّي لأنفضها نفض الأديم، ولكنّها ناشز تريد رفاعة-أي الزوج الأول-فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[فإن كان ذلك، لم تحلّي له-أو لم تصلحي له-حتّى يذوق عسيلتك] قال: وأبصر معه ابنين له، فقال:[بنوك هؤلاء؟] قال: نعم. قال: [هذا الّذي تزعمين ما تزعمين؟ فو الله لهم أشبه به من الغراب بالغراب].
ومن قراءة النص، يفهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أشار إليها بذوق العسيلة مع وجود فساد نيتها وليس قبل، مما يشير إلى سلامة قول سعيد بن المسيب. أما إذا لم تكن نيّة فاسدة، فالأمر إلى ما قال سعيد ابن المسيب وسعيد بن جبير لا محالة، فالأصل في صحة النكاح الثاني سلامة القصد لا التحليل- لنكاح الزوج الأول.-
الآية؛ فلأنّ الله تعالى قال: {(حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ)} والنكاح هو الوطء في الحقيقة، وذكر الزوج يفيد العقد لاستحالة أن يكون زوجا من غير عقد، فكأنّ قوله {(حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً)} كناية مفهمة مغنية عن التصريح.
وأمّا السّنّة: فما روي أنّ رفاعة القرظيّ طلّق امرأته ثلاثا، فتزوّجها عبد الرّحمن ابن الزّبير، فجاءت إلى رسول الله تريد أن ترجع إلى زوجها الأوّل، فقال صلى الله عليه وسلم:
[هل جامعك عبد الرّحمن؟] فقالت: ما الّذي معه إلاّ كهدبة ثوبي هذا. فقال صلى الله عليه وسلم:
[أفتريدين أن ترجعي إلى زوجك الأوّل؟] قالت: نعم، قال صلى الله عليه وسلم:[لا؛ حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك] فندمت على مقالتها، فقالت: يا رسول الله، قد طاف بي، فقال:[لا أصدّقك الآن]
(1)
.
قوله عز وجل: {فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا} حكم الطلاقين إذا كان على وجه الخلع، وأبان عن موضع الحظر والإباحة فيها، ثم ذكر حكم الطلقة الثالثة بالآية التي بعد هذه الآية. وهذا مما يستدلّ به على أن المختلعة يلحقها الطلاق؛ لأن عامة الفقهاء اتفقوا على أن تقدير الآية وترتيب أحكامها على
(1)
-وقد يقال: إن أمر النية موكول إلى القلوب، وهذا لا يسلم معه العمل؛ لا محالة؟ فالجواب: إن الأصل في العقود العمل، والأصل في عقد النكاح استمتاع كلّ من الزوجين بالآخر، ومباشرة ذلك، فالنية معقودة على الاستمتاع، وانشغال القلب بنية أخرى صرف للنية الأولى، وهذا إذا كان القلب مشغولا بنية التحايل على الحكم الشرعي، فهذه نية مفسدة للعمل على سبيل التعبّد، مما يخرج إلى دائرة الهوى والوقوع بالإثم، ثم مبطلة للعقد حين تعرف وتبان كما ظهر من أمر زوجة رفاعة القرظي.
أما إذا لم يكن الأمر على سبيل من أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذوق العسيلة، كأن كانت النية الصدق والعقد الصحيح، ومات عنها زوجها الثاني قبل الدخول، أو طلّقها؛ فالأمر على ما قال القاضي ابن العربي:«ما مرّ بي في الفقه أعسر منها» .والراجح صحة العقد، وإذا كان الأمر كذلك صحّت النية، وتعسّر الأمر أو تعذّر ذوق العسيلة، فالتكليف بزوج ثالث فيه شيء من التكلّف، فالقول ما قال سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير بشرطين: الأول: أن يكون النكاح صحيحا. والثاني: أن لا يقصد الزوج الثاني بالنكاح تحليل المرأة للأول، بل لا يقصدان المرأة والزوج الثاني ذلك، والله أعلم.
(1)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب اللباس: الحديث (5825).
ما وصفناه؛ فحصلت التطليقة الثالثة بعد الخلع.؛أي فإن طلّقها الزوج الثاني بعد ما دخل بها، فلا حرج على المرأة والزوج الأول أن يتراجعا؛ بأن يتزوجها مرة أخرى بعد انقضاء العدّة.
قوله تعالى: {إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ} أي إن علما بغالب ظنّهما أنّهما يقيمان حدود الله فيما بينهما؛ لأنّهما قد افترقا؛ ورأى الزوج وحدته ورأت المرأة غربتها ووحشتها.
والحكمة في شرط دخول الزوج الثاني بها: أن الطلاق لمّا كان من أبغض المباحات إلى الله تعالى على ما ورد به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنّ من أبغض المباحات إلى الله تعالى الطّلاق]
(1)
شرط الله في حرمة الطلقة الثالثة ما يكبر على الأزواج من غشيان غير تلك المرأة؛ حتى لا يعجلوا بالطلاق عند الغضب ولا يطلّقوا إلا على وجه السّنة.
قوله عز وجل: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (230)؛أي هذه الآية التي ذكرت أحكام الله وفرائضه يبيّنها في القرآن لقوم يعلمون أوامر الله تعالى؛ وإن ما يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق. وتخصيص العلماء في هذه الآية؛ لأنّهم هم الذين يحفظون أوامر الله وأحكامه وينتفعون بالآيات. وقيل: خصّهم الله بالذكر على جهة النباهة لهم كما خصّ جبريل وميكائيل من بين الملائكة على جهة النباهة لهما.
قوله عز وجل: {وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا؛} نزلت في ثابت بن يسار الأنصاري؛
(1)
عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [أبغض الحلال إلى الله الطّلاق]. أخرجه أبو داود في السنن: كتاب الطلاق: باب في كراهية الطلاق: الحديث (2178).وابن ماجة في السنن: كتاب الطلاق: باب (1):الحديث (2018).والحاكم في المستدرك: كتاب الطلاق: باب ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق: الحديث (2848)؛وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» .وصححه الذهبي وقال: «على شرط مسلم» .وفي مصابيح السنة: كتاب النكاح: الحديث (2449) جعله البغوي من الحسان.
طلّق امرأته حتى إذا انقضت عدّتها إلاّ يومين أو ثلاثة؛ وكادت تبين منه راجعها، ثم طلّقها ففعل بها مثل ذلك، حتى مضت لها سبعة أشهر مضارا لها بذلك. وكان الرجل إذا أراد أن يضارّ امرأته طلّقها ثم تركها حتى تحيض الثالثة، ثم راجعها، ثم طلّقها فتطول عليها العدة، فهذا هو الضّرار؛ فأنزل الله هذه الآية
(1)
.
ومعنى الآية: {(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ)} تطليقة أو تطليقتين {(فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ)} أي قاربن وقت انقضاء العدّة {(فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)} أي احبسوهنّ بالرجعة على أحسن الصّحبة، لا على تطويل العدّة، {(أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)} أي اتركوهن بمعروف حتى ينقضي تمام أجلهن، {(وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً)} أي لا تحبسوهنّ في العدة إضرارا {لِتَعْتَدُوا؛} عليهن؛ أي تظلموهن.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ؛} أي من يفعل ذلك الاعتداء فقد عرّض نفسه لعذاب الله بإتيان ما نهى الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
[ملعون من ضارّ مسلما أو ماكره]
(2)
.
قوله عز وجل: {وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً؛} أي لا تتركوا ما حدّ الله لكم من أمر الطلاق وغيره فتكونوا مقصّرين لاعبين. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كان الرّجل يطلّق امرأته أو يعتق عبده ثمّ يقول: إنّما كنت لاعبا، فيرجع في العتق والنّكاح؛ فأنزل الله هذه الآية، فقال صلى الله عليه وسلم:[من طلّق لاعبا أو أعتق لاعبا فقد جاز عليه]
(3)
أي نفذ عليه.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (3884).
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط: ج 10 ص 146:الحديث (9308) وفيه: [أو غرّه].والترمذي في الجامع: أبواب البر والصلة: باب ما جاء في الخيانة والغش: الحديث (1941)،وقال: حديث غريب.
(3)
في الدر المنثور: ج 1 ص 683؛ قال: «وأخرج ابن أبي عمر في مسنده وابن مردويه عن أبي الدرداء:
…
وذكره».
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ثلاث جدّهنّ جدّ وهزلهنّ جدّ: الطّلاق، والعتاق، والنّكاح].وفي بعض الروايات: [الطّلاق، والنّكاح، والرّجعة]
(1)
.وروي في الخبر: [خمس جدّهنّ جدّ وهزلهنّ جدّ: الطّلاق، والعتاق، والرّجعة، والنّكاح، والنّذر].
وعن أبي موسى الأشعريّ قال: غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأشعريّين، فأتيته فقلت: يا رسول الله، غضبت على الأشعريّين؟ قال:[يقول أحدكم لامرأته: قد طلّقتك، ثمّ يقول: قد راجعتك، ليس هذا طلاق المسلمين، طلّقوا المرأة في قبل طهرها]
(2)
.وقال الكلبيّ: (معنى {(وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً)} أي أمسكوا بمعروف أو سرّحوا بإحسان).
قوله عز وجل: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ؛} أي احفظوا منّة الله عليكم في أمر الدين. وقيل: ({وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ)} بالإيمان، {(وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ)} يعني القرآن، {(وَالْحِكْمَةِ)} يعني مواعظ القرآن والحدود والأحكام. وقيل: الحكمة هي فقه الحلال والحرام.
وقوله: {(يَعِظُكُمْ بِهِ)} أي ينهاكم عن الإضرار وسائر المعاصي.
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (231)؛أي اخشوه فيما أمركم به ونهاكم عنه، {(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ)} من أعمالكم من العدل والجور، {(عَلِيمٌ)} أي عالم يجزيكم على الخير والشر.
(1)
أخرجه أبو داود في السنن: كتاب الطلاق: باب في الطلاق على الهزل: الحديث (2194). والترمذي في الجامع: أبواب الطلاق واللعان: الحديث (1184)،وقال: حديث حسن غريب. وابن ماجة في السنن: كتاب الطلاق: باب من طلق أو نكح لاعبا: الحديث (2019)،وفيه عبد الرحمن بن حبيب بن أردك، قال النسائي:«منكر الحديث» .ولعل أبو داود والترمذي وابن ماجة حسّنوا الحديث من جهة أن عمل الفقهاء عليه، حيث قال الترمذي:«والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم» وما كان كذلك فهو حسن إذا احتج به عموم أهل العلم وإن كان في إسناده من هو ضعيف، أو لكثرة شواهده، والله أعلم.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (3889).وابن ماجة في السنن: كتاب الطلاق: الحديث (2017) مختصرا.
ومن الناس من يحتجّ بقوله: {(فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ)} في إيجاب الفرقة بين المعسر العاجز عن النفقة وبين امرأته؛ لأنّ الله خيّرهم بين أحد شيئين؛ فإذا عجز عن أحدهما تعيّن عليه الثاني. قلت: هذا الاحتجاج بعيد من الآية؛ لأن العاجز عن نفقة المرأة ممسك بالمعروف إذ لم يكلّف الإنفاق في هذه الحالة، قال الله تعالى:{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها}
(1)
وغير جائز أن يقال للمعسر: غير ممسك بالمعروف؛ إذ ترك الإمساك بالمعروف ذمّ؛ والعاجز غير مذموم.
قوله عز وجل: {وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ؛} قال الحسن وقتادة: (نزلت هذه الآية في معقل بن يسار، كانت أخته جميل
(2)
تحت أبي البدّاح طلّقها تطليقة واحدة ثمّ تركها حتّى انقضت عدّتها، ثمّ ندم على طلاقه إيّاها؛ فخطبها فرضيت المرأة بذلك وأحبّت أن تراجعه، وأبى أخوها معقل وقال لها: إنّي اخترته على أشراف قومي فطلّقك، ثمّ تريدين أن تراجعيه؟! وجهي من وجهك حرام أبدا لأن تزوّجتيه. فأنزل الله هذه الآية ينهى معقلا عمّا صنع)
(3)
.
وروي أنّ أبا البدّاح لمّا طلّقها وتركها حتّى انقضت عدّتها جاء يخطبها وأراد مراجعتها، وكانت المرأة تحبّ مراجعته، قال له أخوها: أفرشتك كريمتي وآثرتك على قومي فطلقتها ولم تراجعها حتّى انقضت عدّتها، وجئت تخطبها؟! والله لا أنكحها أبدا. فأنزل الله هذه الآية
(4)
.
ومعناها: {(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ)} واحدة أو اثنتين، {(فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ)} يعني انقضت عدّتهن، وأراد ببلوغ الأجل في هذه الآية حقيقة البلوغ بانقضاء العدّة، {(فَلا}
(1)
الطلاق 7/.
(2)
في الاستيعاب في معرفة الأصحاب: ج 4 ص 364:الترجمة (3310)؛قال ابن عبد البر: «جميل بنت يسار أخت معقل، سمّاها الكلبيّ في تفسيره» .
(3)
أخرجه الطبري بأسانيد في جامع البيان: الحديث (3895 و 3890 - 3894).
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (3893).
{تَعْضُلُوهُنَّ)} أي لا تمنعوهنّ {(أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ)} يعني الذين كانوا أزواجا لهنّ من قبل.
وقوله تعالى: {(إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ)} أي إذا تراضوا بنكاح جديد ومهر وشهود؛ وما لا يكون مستنكرا في عقل ولا عادة ولا خلق.
قوله عز وجل: {ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛} أي ذلك الذي ذكر من النّهي عن العضل {(يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ)} ويؤمن بالبعث. قوله تعالى: {ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ؛} أي أن لا تمنعوها خير لكم وأفضل وأدخل في التزكية من المنع لهنّ، وأطهر من الذنب وأبعد من الريبة؛ لأنه إذا كان في نفس كلّ واحد منهما علاقة حبّ لم يؤمن أن يتجاوزا ذلك إلى غير ما أحلّ الله لهما.
وقوله تعالى: {وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (232)؛أي {(وَاللهُ يَعْلَمُ)} حبّ كلّ منهما لصاحبه، {(وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)} ذلك. {(وَاللهُ يَعْلَمُ)} ما لكم فيه الصلاح في العاجل والآجل، ويعلم ما يزكّيكم ممّا يرديكم {(وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)} ذلك.
فلما نزلت هذه الآية دعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم معقلا فقرأ عليه الآية وقال: [إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر، فلا تمنع أختك من أبي البدّاح] فقال: إنّي أؤمن بالله واليوم الآخر وأشهدك أنّي قد أنكحته. وكفّر عن يمينه
(1)
.
والعضل في اللغة له معنيان؛ أحدهما: المنع؛ يقال: عضل الرجل المرأة يعضلها ويعضلها إذا منعها من الأزواج ظلما. وأعضل الداء الأطباء إذا أعياهم عن معالجته، ويقال: داء عضال؛ ومسألة معضلة. والآخر: التضييق؛ يقال: عضل القضاء بالجيش إذا ضاق بهم، وعضلت المرأة بولدها إذا عسر خروجه.
(1)
أخرجه البخاري مختصرا في صحيحه: كتاب النكاح: باب لا نكاح إلا بوليّ: الحديث (5130)، وكتاب الطلاق: الحديث (5331).وابن جرير الطبري في جامع البيان: الحديث (3892 و 3893).
وفي الآية دليل على جواز نكاح المرأة على نفسها إذا عقدت بغير وليّ؛ لأنّ الله تعالى أضاف العقد إليها ونهى الوليّ عن عضلها إذا تراضى الزوجان بالمعروف.
ويدلّ على ذلك قوله: {فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا} . وقوله: {فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} .
قوله عز وجل: {*وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ؛} أي والمطلّقات اللاّتي لهن أولاد من أزواجهن المطلّقين ولدنهم قبل الطلاق أو بعده؛ وقوله: {(يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ)} لفظه لفظ الخبر ومعناه: الأمر، كأنه قال:
لترضع الوالدات أولادهنّ، كما قال تعالى:{وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} يدلّ على ذلك أنه لو كان قوله: {(يُرْضِعْنَ)} خبرا لما وجد مخبره على خلاف ما أخبر الله به؛ فلما كان من الوالدات من لا ترضع؛ علم أنه لم يرد به الخبر؛ فكان هذا محمولا في حال قيام النكاح على الأوامر الواجبة من طريق الدين لا من جهة الحكم؛ فإنّها إذا امتنعت من الإرضاع لم يكن للزوج أن يجبرها على ذلك من حيث الحكم، وإن أرضعت لم تستحقّ نفقة الرضاع مع بقاء الزوجية، ولا يجتمع لها نفقتان.
وفي الآية إثبات حقّ الرضاع للأم، وبيان مدة الرضاع للمستحق على الوالد، فإنّ الولد لو امتنع من الإرضاع في الحولين أجبر عليه كما قال تعالى في آية المطلقات:
{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}
(1)
وقال: {وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى} .
فإن قيل: كيف قال الله تعالى: {(حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ)} والحولان لا يكونان إلا كاملين؟ قيل: لإزالة الإبهام؛ فإنّ الإنسان قد يقول: أقمت عند فلان سنتين؛ إذا كان قريبا من سنتين، وسرت شهرا؛ إذا كان قريبا من شهر، فبيّن الله تعالى أنّهما حولان كاملان: أربعة وعشرون شهرا من يوم يولد إلى أن يفطم.
وقوله تعالى: {(لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ)} أي لمن أراد من الآباء أن يتمّ الرضاعة المفروضة عليه؛ أي هذا منتهى الرضاعة وليس فيما دون ذلك وقت محدود، وإنما هو على مقدار إصلاح الصبيّ وما يعيش به.
(1)
الطلاق 6/.
قرأ أبو رجاء: «(الرّضاعة)» بكسر الراء؛ قال الخليل: (وهما لغتان مثل الوكالة والوكالة؛ والدّلالة والدّلالة).وقرأ مجاهد: «(لمن أراد أن يتمّ الرّضعة)» وهي فعلة كالمرّة الواحدة، وقرأ عكرمة:«(لمن أراد أن يتمّ الرّضاعة)» على الفاعل. وقرأ ابن عباس: «(لمن أراد أن يكمل الرّضاعة)» .
قوله عز وجل: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَها؛} معناه: وعلى الأب نفقتهن وكسوتهن كما يعرف أنه العدل، يكون ذلك أجرة لهن على الرضاع إذا كان إرضاع الولد بعد الفراق.
وقوله تعالى: {(لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَها)} أي لا يجبر الأب على النفقة والكسوة إلا مقدار طاقته، والتكليف هو الإلزام، قال الضحّاك:(هذا في المطلّقات دون المزوّجات؛ لأنّ الله تعالى قابل هذه النّفقة بالإرضاع، ونفقة الزّوجة لا تجب بالإرضاع وإنّما تجب بسبب الزّوجيّة).
قوله عز وجل: {لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ؛} قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وسلام برفع الراء مشدّدة على الخبر منسوقا على قوله:
{(لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ)} وأصله: (لا تضارر) فأدغمت الراء في الراء. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائيّ: «(لا تضارّ)» مشدّدة منصوبة على النّهي. وأصله (لا تضارر) فأدغمت الراء في الراء وحرّكت إلى أخفّ الحركات وهو النصب؛ ويدلّ عليه قراءة عمر: «(لا تضارر)» على إظهار التضعيف.
ومعنى الآية: {(لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها)} فينزع منها إلى غيرها بعد أن رضيت بإرضاعه؛ وألفها الطفل؛ {(وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ)} أي لا تلقيه هي إلى أبيه بعد أن عرفها الولد لتضارر الأب بذلك. وقيل: معناه: {(لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها)} فتكره على إرضاعه إذا قبل من غيرها وكرهت هي رضاعه؛ لأن ذلك ليس بواجب عليها. {(وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ)} فيحمل على أن يعطي الأمّ إذا لم يرضع إلا منها أكثر مما يجب لها عليه. وهذان القولان على مذهب الفعل المجهول على معنى أنه يفعل ذلك بهما، والوالدة والمولود له مفعولان.
وأصل الكلمة (تضارر) بفتح الراء الأولى؛ ويحتمل أن يكون الفعل لهما ويكون على مذهب من قد سمي فاعله، والمعنى: لا تضارر والدة بولدها فتأبى أن ترضع ولدها لشفق على أبيه. {(وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ)} أي ولا يضارّ الأب أمّ الصبيّ فيمنعها من إرضاعه وينزعه منها؛ وهذا المذهب أصله (لا يضارر) بكسر الراء الأولى.
وجعل الزجّاج قوله: {(لا تُضَارَّ)} بالنصب نهيا للوالدة عن الإضرار بالولد.
وقوله: {(وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ)} نهيا للوالد عن الإضرار بولده. ومعنى ذلك: لا تترك الوالدة إرضاع ولدها غيضا على أبيه فتضرّ بالولد؛ لأن الوالدة أشفق بولدها من الأجنبية، ولا يأخذ الأب الولد من أمّه قصدا إلى الإضرار بها فيضرّ بولده، ولا يمنعها الأجرة فيضرّ بولده.
قوله عز وجل: {وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ؛} يعني على وارث الولد إذا لم يكن له أب مثل ما على الأب من النفقة والكسوة وترك الإضرار. قال عمر والحسن:
(إنّه على العصبات دون أصحاب الفرائض)
(1)
.وقال قتادة: (إنّه على الوارث من العصبات وأصحاب الفرائض جميعا؛ على كلّ واحد منهم بمقدار نصيبه من الميراث)
(2)
إلاّ أنّه لم يشرط أن يكون الوارث ذا رحم محرم من الولد، وقد شرط أصحابنا ذلك.
قوله عز وجل: {فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما؛} أي إن أراد الأبوان فطام الولد من اللبن دون الحولين بتراضيهما وبتشاورهما؛ فلا إثم عليهما في ذلك. وعن ابن عباس: (فطام الولد من اللّبن دون حولين بتراضيهما وبمشاورتهما فلا إثم عليهما في ذلك)
(3)
.وعن ابن عباس: (معناه:
إن أرادا فصالا قبل الحولين أو بعدهما بتراضيهما فلا جناح عليهما؛ فإن تشاقّا رجعا إلى الحولين)
(4)
.
(1)
أخرجهما الطبري في جامع البيان: النص (3941 - 3943).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3949).
(3)
بمعناه أخرجه ابن جرير الطبري في جامع البيان: النص (3978) عن السدي، وفي (3979) عن قتادة، وفي (3980) عن مجاهد.
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (3976 و 3984).
وإنّما سمي الفطام فصالا؛ لانفصال المولود من الاغتذاء بثدي أمّه إلى غير ذلك من الأقوات. وأصل الفصل: القطع والتفريق.
قوله عز وجل: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ؛} أي {(وَإِنْ أَرَدْتُمْ)} يعني الآباء والأمهات {(أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ)} غير الوالدة، فلا إثم عليكم، {(إِذا سَلَّمْتُمْ)} من الأجرة ما تراضيتم به. ولهذا قالوا: إن الأمّ إذا لم تختر أن ترضع الولد بعد الطلاق، واختارت أن يكون الولد عندها، أمر الزوج أن يستأجر ظئرا لترضعه في بيت أم الرضيع.
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ؛} (233)؛أي {(اتَّقُوا اللهَ)} في الضّرار ومخالفة أمر الله، {(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ)} من العدل والجور في أولادكم ونسائكم {(بَصِيرٌ)} عالم يجزيكم به.
وأما تأويل ذكر الحولين في مدة الرضاع، فأما أكثر مدّته على قول أبي حنيفة؛ فعلى بيان مقدار استحقاق نفقة الرضاع وثبوت حكم الحرمة: فثلاثون شهرا على مذهبه. وعن ابن عباس أنه كان يقول في قوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً}
(1)
:
(بيان أقلّ مدّة الحمل وأكثر مدّة الرّضاع؛ لأنّ الله تعالى قال في آية أخرى: {وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ}
(2)
).وكان يقول: (إذا كان الحمل لستّة أشهر كان مدّة الرّضاع سنتين؛ وإذا كان الحمل تسعة أشهر كان الرّضاع سنة وتسعة أشهر).وعلى هذا مهما زاد في الحمل شهرا نقص بإزائه من الرضاع؛ وهذا يقتضي أن الحمل إذا بلغ سنتين؛ أنّ المرأة لا ترضع ولدها إلا ستة أشهر. فكان أبو حنيفة يحمل قوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} على ذكر الحمل على الأيدي مع بيان مدة أكثر الرضاع.
قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً؛} معناه: إنّ الذين يموتون منكم ويتركون نساءهم من بعدهم؛ ينتظرون في عدتهن؛ معنى {(أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً)} لا يتزوجن ولا يتزيّنّ في هذه المدة. وقوله تعالى: {فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ؛} أي إذا انقضت عدتهن؛ {فَلا}
(1)
الأحقاف 15/.
(2)
لقمان 14/.
{جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ؛} أي لا حرج عليكم في تركهنّ بعد انقضاء المدة ليتزيّن زينة لا ينكر مثلها، ويتزوجن من الأكفاء ويفعلن كلّ معروف. قوله تعالى:{وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (234)؛أي بما تعملون من الخير والشر عالم يجزيكم به.
فإن قيل: {(الَّذِينَ)} اسم موصول و {(يُتَوَفَّوْنَ)} {(وَيَذَرُونَ)} من صلته، وجملته مبتدأ؛ و {(يَتَرَبَّصْنَ)} فعل الأزواج لا فعل {(الَّذِينَ)} ولا فيه ضمير عائد إلى {(الَّذِينَ)} ؛فيبقى المبتدأ بلا خبر، والمبتدأ لا يخلو من خبر اسما كان أو فعلا؛ وليس من ذلك هاهنا شيء؟ قيل: قال أبو العباس السرّاج: (في الآية ضمير تقديره: أزواجهم يتربّصن) لأن الفعل يدلّ على الفاعل. وقال الأخفش: (تقديره: يتربّصن من بعدهم أربعة أشهر)
(1)
حتى يكون الضمير عائدا إلى {(الَّذِينَ)} .وذكر الزجّاج: أنّ النّون في قوله {(يَتَرَبَّصْنَ)} قائم مقام الأزواج كناية عنها لا محالة فصار كالتّصريح، وهذا كما يقال: الذي يموت ويخلف ابنتين ترثان الثلثين؛ معناه يرث ابنتاه الثلثين
(2)
.
قوله تعالى: {(وَعَشْراً)} ظاهر لفظ العشر يتناول الليالي؛ ألا ترى أنه يقال للأيام: عشرة أيام؛ وإنّما غلب لفظ التأنيث في الآية فقيل: (عشرا)؛لأنّ العرب تقدّم الليل على النهار ويعدّون أول كلّ شهر من الليلة؛ ألا تراهم يصلّون التراويح إذا رأوا الهلال ويدعونها إذا رأوا هلال شوّال. ومن عادتهم أنّهم إذا ذكروا أحد العددين على سبيل الجمع أرادوا مثله العدد الآخر؛ كما قال تعالى في قصّة زكريّا عليه السلام: {قالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أَيّامٍ إِلاّ رَمْزاً}
(3)
وقال في موضع آخر: {ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا}
(4)
والقصة واحدة، فعبّر تارة بالأيام عن الليالي، وتارة بالليالي عن الأيام.
(1)
في معاني القرآن للأخفش: ج 1 ص 176؛ قال: «فخبر (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ): (يتربّصن بعد موتهم) ولم يذكر (بعد موتهم) كما يحذف بعض الكلام، يقول: ينبغي لهنّ أن (يتربّصن)،فلما حذفت (ينبغي) وقع (يتربّصن) موقعها» .
(2)
قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: ج 1 ص 270.ونقله المصنف رحمه الله بتصرف.
(3)
آل عمران 41/.
(4)
مريم 10/.
ويقال: الحكمة في تقدير عدّة الوفاة بأربعة أشهر وعشر ما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: [يجمع خلق أحدكم في بطن أمّه أربعين يوما نطفة، وأربعين يوما علقة، ثمّ أربعين يوما مضغة، ثمّ ينفخ فيه الرّوح في عشرة أيّام، فيكتب أجله ورزقه وأنّه شقيّ أو سعيد]
(1)
.فيجوز أنّ الله قدّر هذه في عدّة الوفاة؛ ليظهر أنّها حامل أو حائل.
واختلفوا في عدّة الحامل؛ فقال عمر وابن مسعود وعبد الله بن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم: (أنّ الحامل تخرج من هذه العدّة إذا وضعت. وإن كان زوجها على السّرير)
(2)
حتى قال ابن مسعود: (من شاء باهلته، إنّ قوله تعالى:{وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}
(3)
نزل بعد قوله: {(أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً)} .
(4)
.
وقال عليّ رضي الله عنه: (عدّة الحامل المتوفّى عنها زوجها تنقضي بأبعد الأجلين)
(5)
.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: قلت يا رسول الله {وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} في المطلّقة أو المتوفّى عنها زوجها؟ قال صلى الله عليه وسلم:
[فيهما جميعا]
(6)
.
(1)
أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط: الحديث (4556 و 1738)،وفي الصغير: الحديث (200)،وليس فيها [نطفة].وأخرجه البخاري في الصحيح بلفظ قريب منه مؤخر فيه [ثمّ ينفخ فيه الرّوح] في الصحيح: كتاب بدء الخلق: الحديث (3208)،وفي كتاب أحاديث الأنبياء: الحديث (3332)،وفي كتاب القدر: الحديث (6594)،وفي كتاب التوحيد: الحديث (7457). وفي شرح الحديث (6594) من صحيح البخاري قال ابن حجر: «ووقع عند أبي عوانة عن رواية بن جرير عن شعبة مثل رواية آدم لكن زاد [نطفة] بين قوله [أحدكم] وبين قوله [أربعين] فبيّن أن الذي يجمع هو النطفة» والحديث مشهور.
(2)
أخرج الطبري في جامع البيان: النص (26592)؛عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أجل كلّ حامل أن تضع ما في بطنها].
(3)
الطلاق 4/.
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (26587 و 26589).
(5)
في جامع البيان: تفسير الآية: النص (26594)؛قال الطبري: «وذلك قول مروي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما،وأخرجه عن علي رضي الله عنه في النص (26591).
(6)
هو قريب من حديث أبي بن كعب في الهامش (2).وأدرج الناسخ في المتن: (كذا في تفسير عبد الصمد) وهو ليس أسلوب المصنف رحمه الله، وعبد الصمد هو ابن الشيخ القاضي محمود ابن يونس الحنفي الغزنوي.
وروي أن سبيعة بنت الحارث وضعت حملها بعد زوجها بأيّام؛ فأرادت أن تتزوّج، فمرّ بها أبو السّنابل فقال: أتريدين أن تتزوّجي؟ قالت: نعم، قال: كلاّ، إنّه آخر الأجلين، فأتت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت له، فقال صلى الله عليه وسلم:[كذب أبو السّنابل، إذا أتاك من يريد ذلك فأعلميني]
(1)
.وجميع أهل التفسير على أن هذه الآية ناسخة لقوله:
(2)
وإن كانت هذه الآية متقدمة على تلك الآية في التلاوة.
وأجمع الفقهاء إلا أبا بكر الأصم أن {(أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً)} عدّة الحرّة دون الأمة؛ وأن عدّة الأمة تنقضي بشهرين وخمسة أيّام. وكان أبو بكر الأصمّ يقول: (إنّ عدّتهما جميعا تنقضي بأربعة أشهر وعشرا؛ فإنّ ولد الأمة إنّما ينفخ فيه الرّوح في الوقت الّذي ينفخ فيه الرّوح في ولد الحرّة).والجواب عن هذا أن يقال: إن خبر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من أخبار الآحاد لا يوجب حقيقة العلم. ولما أجمعوا على أن الرّقّ ينصّف عدد الأقراء وعدّة الشهور في الآيسة والصغيرة؛ كذلك وجب أن ينصّف عدّة الوفاة
(3)
.
قوله عز وجل: {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ؛} الآية، قال ابن عباس: (التّعريض: هو أن يقول الرّجل للمعتدّة: إنّي أريد النّكاح وأحبّ المرأة من صفتها كذا وكذا؛ فيصفها بالصّفة الّتي
(1)
مخرج في الصحيحين؛ أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب التفسير: الحديث (499)،وفي كتاب الطلاق: الحديث (5318).ومسلم في الصحيح: كتاب الطلاق: باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها: الحديث (1484/ 56).
(2)
البقرة 240/.
(3)
خبر الآحاد حجة في البيان لمعرفة دلالة النص الشرعي على الأفكار والأحكام؛ وحجة أبي بكر الأصم على فهمه ظاهر الآية، ثم ظاهر حديث أبي مسعود رضي الله عنه. فإذا جاء نص في الفصل حكم به، وفي جامع الأحكام: ج 3 ص 183؛قال القرطبي: «قول الأصم صحيح من حيث النظر؛ فإن الآيات الواردة في عدة الوفاة والطلاق بالأشهر والأقراء عامة في حق الأمة والحرّة. فعدة الحرّة والأمة سواء على هذا النظر، فإن العمومات لا فصل فيها بين الحرة والأمة، كما استوت الأمة والحرّة في النكاح، فكذلك تستوي معها في العدة. والله أعلم» .
هي عليها حتّى تعلم رغبته فيها)
(1)
.وقيل: هو أن يقول لها: إنك لتعجبينني وأرجو أن يجمع الله بيني وبينك، أو يقول: يا ليت لي مثلك وإن قضى الله أمرا كان.
ومعنى الآية: {(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ)} اللواتي هنّ في عدّة موت أو طلاق بائن أو ثلاث، قوله عز وجل:{(أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ)} معناه:
أو أضمرتم في قلوبكم العزم على النكاح.
قوله تعالى: {عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا؛} أي {(عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ)} في العدّة لرغبتكم فيهنّ وخوفكم لسبق غيركم إليهنّ، {(وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا)} أي لا يواعدها الخاطب في السرّ ولا يواثقها؛ أي أن لا يتزوج غيرها. وقيل: لا يواعدها في السرّ تصريحا. وقيل: المراد بالسرّ الجماع؛ لأنه لا يكون إلا في السرّ، كأنه يقول: لا يتعب الخاطب نفسه لها لرغبتها في نفسه.
قوله عز وجل: {إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً؛} أي إلا أن يعرّضوا بالخطبة كناية من غير إفصاح. قوله عز وجل: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ؛} أي لا تعزموا على عقد النكاح، حذف (على) للتخفيف كما يقال: ضربت فلانا ظهره وبطنه؛ أي على ظهره وعلى بطنه. ومعنى: {(حَتّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ)} أي حتى يبلغ فرض المطلقات أجله؛ أي حتى تنقضي العدة؛ فإن العدّة فرض القرآن.
قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ؛} أي يعلم ما في قلوبكم من الوفاء وغير ذلك فاحذروا أن تخالفوه فيما أمركم ونهاكم.
قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (235)؛أي {(غَفُورٌ)} لمخالفتكم إن تبتم، {(حَلِيمٌ)} حين لم يعجّل عليكم بالعقوبة.
والتّعريض في اللغة: هو الإيماء والتّلويح والدّلالة على الشيء من غير كشف ولا تبيين، نحو أن يقول الرجل لغيره: ما أقبح البخل! يعرّضه لذلك. والخطبة بكسر
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4020) والنصوص (4022).
الخاء: هي الكلام الذي يستدعي به إلى النكاح. والخطبة بالضم: هو الكلام المؤلّف إما بموعظة أو دعاء إلى شيء.
والكناية: هي الدلالة على الشيء مع العدول عن الاسم الأخصّ إلى لفظ آخر يدلّ عليه، نحو أن يكنّي عن زيد فيقول لغيره: ما أبخل صديقك، وما أبخل الذي كنا عنده. والإكنان: هو السّتر، يقال في كل شيء سترته أكننته؛ وفيما يصونه كنية. قال الله تعالى:{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ}
(1)
أي مصون.
قوله عز وجل: {لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ؛} أي لا حرج عليكم إن طلقتم النساء ما لم تجامعوهن أو تسمّوا لهنّ مهرا؛ {(وَمَتِّعُوهُنَّ)} أي متّعوا اللاّتي طلقتموهن قبل المسيس. والفرض على الغنيّ بمقدار غناه، وعلى الفقير بمقدار طاقته.
قوله تعالى: {مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} (236)؛أي ما تعرفون أنه القصد وقدر الإمكان {(حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ)} أي واجبا على المؤمنين.
انتصب {(مَتاعاً)} على المصدر من قوله تعالى: {(وَمَتِّعُوهُنَّ)} .ونصب {(حَقًّا)} على الحال من قوله {(بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا)} تقديره: عرف حقّا. ويجوز أن يكون: نصبا على معنى:
حقّ ذلك عليهم حقّا.
وفي الآية دلالة جواز النكاح بغير تسمية المهر؛ لأن الله تعالى حكم بصحة الطلاق مع عدم التسمية، والطلاق لا يصحّ إلا في نكاح صحيح. ومعنى {(أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً)} أي ما لم تمسّوهنّ ولم تفرضوا لهنّ فريضة. وقد تكون (أو) بمعنى الواو كقوله:{وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً}
(2)
وكذلك قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ}
(3)
؛المعنى: وجاء أحد منكم من الغائط.
(1)
الصافات 49/.
(2)
الإنسان 24/.
(3)
النساء 43/.
وأعلى المتعة: خادم وثياب وورق، وأدناها: خمار ودرع وملحفة. ولا يجاوز بالمتعة نصف المثل بغير رضا الزوج. وقد اختلف السلف في أن هذه المتعة هل يجبر الزوج عليها أم لا؟ قال شريح: (إنّ القاضي يأمر الزّوج بها من غير أن يجبره عليها)
(1)
.وكان شريح يقول للزوج: (إن كنت من المتّقين أو من المحسنين فمتّعها)
(2)
.
وأما عندنا فإنّ القاضي يجبر الزوج على المتعة للمرأة التي طلّقها قبل المسيس والفرض؛ لأنّ الله تعالى قال: {(حَقًّا)} وليس في ألفاظ الإيجاب آكد من قولهم: (حقّا عليه).وفي قوله: {(عَلَى الْمُحْسِنِينَ)} بيان أنّها من شروط الإسلام؛ وعلى كلّ أحد أن يكون محسنا كما قال تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}
(3)
وهو هدى للناس كلهم. وقيل: إنّما خصّ المحسنين بالذكر تشريفا لهم؛ لأنه لا يجب على غيرهم، فوصف المؤمنين بالإحسان؛ لأن الإحسان أكثر أخلاقهم.
قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ؛} معناه: {(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ)} أن تجامعوهنّ وقد سمّيتم لهن مهرا، فعليكم نصف ما سميتم من المهر، إلا أن يتركن ما وجب لهن من الصّداق، بأن تقول إحداهن: ما مسّني ولا قربني فأدع له المهر.
قوله: {أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ؛} ذهب أكثر المفسرين إلى أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج؛ وعفوه أن يترك لها جميع الصّداق ولا يرجع عليها بشيء منه إذا كان قد أعطاها مهرها؛ وإن لم يكن أعطاها فعفوه أن يتفضّل عليها بأن يتمّ لها جميع مهرها. وقد يكون الصّداق عبدا بعينه أو عرضا بعينه لا يمكن تمليكه بالإسقاط والإبراء من واحد من الجانبين، فيكون معنى العفو في ذلك الفضل؛ وفي الآية ما يدلّ على ذلك وهو قوله:{(وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)} .وإنّما ندب الزوج
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4112).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4113).
(3)
البقرة 2/.
إلى تتميم الصداق؛ لأنه إذا تزوّجها ثم طلّقها فقد فعل ما يشينها، فكان الأفضل أن يعطيها مهرها.
وذهب بعضهم إلى أن {(الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ)} هو وليّ المرأة حتى قال مالك لأبي البكر: أن يسقط نصف الصّداق عن الزوج بعد الطلاق قبل الدخول.
والصحيح: هو الأول؛ لأن قوله {(الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ)} يقتضي عقدة موجودة، والزوج هو الذي يملك استدامة النكاح وحلّه، وهو الذي يملك العقد على نفسه من غير وليّ يحتاج إليه. وتكون عقدة النكاح على الحقيقة بيد الزوج. وأما وليّ المرأة فلا يملك العقد عليها إلا برضاها، ولا يملك إسقاط سائر حقوقها
(1)
.
قوله عز وجل: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى؛} ندب الله كلّ فريق من الزوج والمرأة إلى العفو، كأنه قال: أيّهما عفا عن صاحبه فقد أخذ بالفضل. وقوله تعالى: {(أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)} أي أقرب إلى أن يتّقي أحدهما ظلم صاحبه، فإنّ من ترك حقّه كان أقرب إلى أن لا يظلم غيره بطلب ما ليس له، ومن بذل النفل كان أقرب إلى بذل الفرض.
قوله تعالى: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ؛} أي لا تتركوا الإحسان والإنسانية فيما بينكم، {إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (237)؛أي بما تعملون من الفضل والإحسان بصير عالم يجزيكم به. ونسيان الفضل هو الاستقصاء في استيفاء الحقّ على الكمال حتى لا يترك شيئا من حقّه على صاحبه. فظاهر هذه الآية يقتضي أن الزوج إذا كان سمّى لها مهرا بعد عقد النكاح ثم طلّقها ينتصف؛ وإليه
(1)
ذهب مالك والشافعي؛ وهو قول أبي يوسف الأول ثم رجع إلى قول أبي حنيفة ومحمد. فكأن المراد بهذه الآية على قولهم: أن يكون الفرض في نفس العقد؛ لأن التسمية بعد تمام عقد النكاح تقدير لمهر المثل أو بدل عنه، فيسقط بالطلاق قبل الدخول؛ فتجب المتعة.
وقد ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنّ المراد بقوله تعالى: {(مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ)} نفس المسيس أو ما يقوم مقامه، فإنه إذا خلا بها خلوة صحيحة نحو أن لا يكون أحدهما محرما ولا مريضا ولا صائما صوم فرض، ولا تكون المرأة حائضا ولا رتقاء، ثم طلّقها؛ وجب لها المهر كله وإن لم يدخل بها كما روي عن زرارة بن أوفى
(1)
أنه قال: (أجمع الخلفاء الرّاشدون المهديّون أنّ من أغلق على امرأته بابا وأرخى سترا ثمّ طلّقها؛ وجب لها الصّداق كاملا، وعليها العدّة)
(2)
.وفرّق عمر رضي الله عنه بين العنين وامرأته وأوجب عليه المهر، وقال:(ما ذنبهنّ إذا جاء العجز من قبلكم)
(3)
.
قوله عز وجل: {حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى؛} أي واظبوا وداوموا على الصلوات المفروضة في مواقيتها وشروطها.
قوله تعالى: {(وَالصَّلاةِ الْوُسْطى)} اختلفوا فيها؛ فعن عليّ وابن عباس وأبي هريرة وعبد الله والحسن والنخعيّ وقتادة وأبي أيوب والضحاك والكلبيّ ومقاتل: (إنّها صلاة العصر)
(4)
يدلّ عليه ما روى سمرة بن جندب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(1)
زرارة بن أوفى العامريّ الحرشيّ، تابعي ثقة، مات سنة (93) من الهجرة، ونقل ابن حجر ترجمته قال:«قال أبو حبان القصاب: صلى بنا زرارة الفجر، ولما بلغ فَإِذا نُقِرَ فِي النّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ شهق شهقة فمات. سمع من ابن عباس وأبي هريرة وعائشة وغيرهم» ترجم له ابن حجر في تهذيب التهذيب: الرقم (2073).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف: ج 6 ص 288:النص (10875).
(3)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف: ج 6 ص 288:النص (10883).
(4)
أخرج الطبري هذه الأقوال في تفسير الآية من جامع البيان.
[الصّلاة الوسطى هي العصر]
(1)
.وفي بعض الأخبار: هي التي فرّط فيها سليمان.
وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: كان في مصحف عائشة رضي الله عنها: (حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى صلاة العصر)
(2)
{وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ} (238)؛وهكذا كان يقرؤها أبيّ بن كعب. وعن أبي يونس رضي الله عنه مولى عائشة رضي الله عنها؛ قال: أمرتني عائشة رضي الله عنها أن أكتب لها مصحفا، فقالت: إذا بلغت {(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ)} فآذنّي، فلمّا بلغت أعلمتها فأملت عليّ:
(حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى صلاة العصر)
(3)
.
وروى نافع عن حفصة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّها قالت لكاتب مصحفها: إذا بلغت {(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى)} فأخبرني، حتّى أخبرك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلمّا بلغ إلى ذلك وأخبرها، فقالت له: اكتب، فإنّي سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى صلاة العصر)
(4)
.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال يوم الخندق: [شغلونا عن الصّلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قلوبهم وبطونهم نارا]
(5)
.وقال عليّ رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1)
رواه الترمذي في الجامع: أبواب الصلاة: باب ما جاء في الصلاة الوسطى أنّها العصر: الحديث (182) ونقل عن البخاري قال: «قال علي بن عبد الله: حديث الحسن عن سمرة حديث صحيح، وقد سمع منه. وأخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 5 ص 7 و 12 و 13.والطبري في جامع البيان: النص (4233).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4220).
(3)
أخرجه الإمام مالك في الموطأ: كتاب صلاة الجماعة: باب الصلاة الوسطى: الحديث (25). ومسلم في الصحيح: كتاب المساجد ومواضع الصلاة: باب الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر: الحديث (629/ 207).
(4)
أخرجه الإمام مالك في الموطأ موقوفا: كتاب صلاة الجماعة: الحديث (26).والطبري في جامع البيان موصولا: الحديث (4237).
(5)
رواه البخاري في الصحيح: كتاب الجهاد: باب غزوة الخندق: الحديث (4111) وهو نفسه الذي بعده عن علي رضي الله عنه. ومسلم في الصحيح: كتاب المساجد ومواضع الصلاة: الحديث (627/ 202).
[شغلونا عن الصّلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا] ثمّ صلاّها بين العشاءين
(1)
.
وروي أن رجلا قال في مجلس عمر بن عبد العزيز بن مروان: أرسلني أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وأنا غلام صغير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله عن الصّلاة الوسطى، فأخذ بإصبعي الصّغيرة وقال:[هذه الفجر] وقبض الّتي تليها وقال:
[هذه الظّهر]،ثمّ قبض الإبهام وقال:[هذه المغرب] ثمّ قبض الّتي تليها وقال:
[هذه العشاء] ثمّ قال: [أيّ أصابعك بقي؟] قلت: الوسطى، وقال:[وأيّ صلاة بقيت؟] قلت: العصر، قال:[هي العصر]
(2)
.
قالوا: وإنّما كانت العصر هي الوسطى؛ لأنّها بين صلاتي ليل وصلاتي نهار؛ وإنّما خصّها بالذكر لأنّها تقع في وقت اشتغال الناس بأمور البيت، فخصّها بالذّكر للحثّ عليها. روى بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بكّروا بالعصر يوم الغيم، فإنّه من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله]
(3)
.وروى نافع عن ابن عمر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [من فاتته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله وماله]
(4)
.
وقال قبيصة بن دويب: (هي صلاة المغرب؛ لأنّها أوسط صلاة وجبت على النّاس)
(5)
.وقيل: لأنّها وسط في عدد الركعات؛ لأنّها بين الثنتين والأربع ولا تقصر في السفر، وهي وتر النهار. وإنّما خصّها بالذّكر لأنّها أول صلاة الليل الذي يرغب الناس عن الصلاة فيه.
(1)
هو ما قبله، وأخرجه الطبري بألفاظ كثيرة في جامع البيان: النصوص في الرقم (4237).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4245).وفي الدر المنثور: مج 2 ص 726 ذكره السيوطي ولم ينسبه إلى غير الطبري.
(3)
أخرجه ابن حبان في الإحسان: كتاب الصلاة: باب الوعيد على من ترك الصلاة: الحديث (1470).وأخرجه البخاري في الصحيح: كتاب مواقيت الصلاة: الحديث (553):عن أبي المليح قال: كنّا مع بريدة في غزو في يوم ذي غيم، فقال: بكّروا بصلاة العصر، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:[من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله].
(4)
رواه البخاري في الصحيح: كتاب المواقيت: باب من فاتته العصر: الحديث (552).ومسلم في الصحيح: كتاب المساجد: الحديث (200 و 627/ 201).
(5)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4263).
روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنّ أفضل الصّلوات عند الله صلاة المغرب لم يحطّها عن مسافر ولا مقيم، فتح الله بها صلاة اللّيل وختم بها صلوات النّهار، فمن صلاّها وصلّى بعدها ركعتين بنى الله له قصرا في الجنّة، ومن صلّى أربع ركعات غفر الله له ذنب عشرين سنة] أو قال [أربعين سنة]
(1)
.
وحكى الشيخ الإمام أبو الطيّب السهل بن محمد بن سليمان: (أنّها صلاة العشاء؛ لأنّها بين صلاتين لا تقصران).روى أبو عمر عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من صلّى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة، ومن صلّى الفجر مع جماعة كان كقيام ليلة]
(2)
.
وقال جابر بن عبد الله: (هي صلاة الفجر؛ لأنّها تقع بين الظّلام والضّياء)
(3)
.
وقال زيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري وأسامة وعائشة رضي الله عنهم: (إنّها صلاة الظّهر)
(4)
لأنّها تقع في وسط النّهار. وإنّما خصّها بالذّكر؛ لأنّها أوّل صلاة فرضت على النّاس.
(1)
رواه الطبراني مختصرا في المعجم الأوسط: ج 7 ص 230:الحديث (6445).وفي تخريج أحاديث إحياء علوم الدين: الرقم (1156)؛قال المحقق: «أورده صاحب القوت وضعفه» ونقل عن العراقي قال: «رواه أبو الوليد يونس بن عبد الله الصفار في كتاب الصلاة، ورواه الطبراني في الأوسط مختصرا، وإسناده ضعيف» .
(2)
رواه الإمام أحمد في المسند: ج 1 ص 58 و 68.وأبو داود في السنن: كتاب الصلاة: باب فضل صلاة الجماعة: الحديث (555).
(3)
في الدر المنثور: ج 2 ص 718؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن جرير» .
(4)
حديث زيد رواه ابن جرير الطبري في جامع البيان: النص (4248).والبيهقي في السنن الكبرى: كتاب الصلاة: جماع أبواب الأذان والإقامة: الأثر (2194).
وأما أثر أبي سعيد الخدري؛ فرواه البيهقي في السنن الكبرى: الرقم (2196).وأثر أسامة في الرقم (2195).
وأثر عائشة أخرجه عبد الرزاق في المصنف: ج 1 ص 576:باب الصلاة الوسطى: الأثر (2200).
روى زيد بن ثابت قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي الظّهر، وكانت أثقل الصّلوات على أصحابه، فلا يكون وراءه إلاّ الصّفّ والصّفّان من النّاس، يكونون في قائلتهم وتجارتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[لقد هممت أن أحرّق على قوم لا يشهدون الصّلاة بيوتهم] فنزل قوله تعالى: {(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى)}
(1)
.
وقال عليّ رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا زالت الشّمس سبّح كلّ شيء لربنا، فأمر الله بالصّلاة في تلك السّاعة] وهي الساعة التي تفتح فيها أبواب السماء، فلا تغلق حتى تصلى الظهر، ويستجاب فيها الدعاء؛ ولأنّها أول صلاة توجّه النبيّ صلى الله عليه وسلم فيها وأصحابه إلى الكعبة، وهي التي ترفع جميع الصلوات والجماعات لأجلها يوم الجمعة.
وقال بعضهم: هي إحدى الصلوات الخمس ولا نعرفها بعينها. وسئل الربيع ابن خيثم عن الصلاة الوسطى، فقال للسائل:(إذا أنت علمتها أكنت محافظا عليها ومضيّعا سائرهنّ؟) قال: لا، قال:(فإنّك إذا حافظت عليهنّ فقد حافظت عليها).وبه يقول أبو بكر الورّاق؛ قال: (لو شاء الله تعالى لعيّنها، ولكنّه سبحانه أراد تنبيه الخلق على أداء جميع الصّلوات، فأخفاها الله تعالى في جملة الصّلوات ليحافظوا على جميعها رجاء الوسطى كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان، وأخفى اسمه الأعظم في جميع الأسماء، وأخفى ساعة الإجابة في ساعات الجمعة؛ حكمة منه في فعله، ورحمة لخلقه).
قوله تعالى: {(وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ)} أي طائعين؛ وبه قال الشعبيّ وعطاء والحسن وابن جبير وقتادة وطاوس وعطية؛ وهو رواية عكرمة عن ابن عباس. قال الضحّاك ومقاتل والكلبيّ: (لكلّ أهل دين صلاة يقومون فيها عاصين؛ وقوموا أنتم في صلاتكم مطيعين)
(2)
.ودليل هذا التأويل ما روى أبو سعيد الخدريّ: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم
(1)
في الدر المنثور: ج 2 ص 720؛ قال السيوطي: «أخرجه أحمد والبخاري في تاريخه وأبو داود وابن جرير والطحاوي والروياني وأبو يعلى والطبراني والبيهقي» .
(2)
أخرج هذه الأقوال بأسانيدها الإمام الطبري: جامع البيان: النصوص (4285 - 4293).
قال: [كلّ قنوت في القرآن فهو الطّاعة]
(1)
.
وقال عبد الله بن مسعود: (معناه: وقوموا لله ساكتين)
(2)
.كما روي عن زيد بن أرقم قال: [كنّا نتكلّم في الصّلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكلّم أحدنا من هو إلى جانبه؛ ويدخل الرّجل فيسلّم ويردّون عليه السلام؛ ويسألهم كم صلّيتم؟ فيردّون عليه كم صلّوا؛ ويجيء خادم الرّجل وهو في الصّلاة فيكلّمه بحاجته كفعل أهل الكتاب. وكنّا كذلك إلى أن نزل قوله تعالى: {(وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ)} فأمرنا بالسّكوت ونهينا عن الكلام]
(3)
.قال مجاهد: (معناه: {(وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ)} خاشعين، فنهوا عن العبث والالتفات في الصّلاة).
وقيل: معناه مطيلين القيام كما في قوله تعالى: {يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ}
(4)
.ويدلّ عليه أيضا حديث جابر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل: أيّ الصّلوات أفضل؟ قال: [طول القنوت]
(5)
.وقيل: معناه: وقوموا لله مصلّين. دليله قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ}
(6)
أي مصلّ. وقال صلى الله عليه وسلم: [مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت الصّائم]
(7)
أي المصلّي الصائم. وقال ابن عباس: (وقوموا لله داعين).والقنوت: هو الدعاء في الصلاة.
(1)
رواه الطبراني في المعجم الأوسط بلفظ [كلّ حرف ذكر من القنوت في القرآن فهو طاعة]: الحديث (5177)؛وقال: «لا يروى هذا الحديث عن أبي سعيد إلا بهذا الإسناد» .والإمام أحمد في المسند: ج 3 ص 75.والطبري في جامع البيان: النص (4296).وابن حبان في الإحسان: كتاب البر والإحسان: الحديث (309) وإسناده ضعيف، قاله الهيثمي في مجمع الزوائد: ج 6 ص 320.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النصوص (4300).
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4301).ورواه البخاري في الصحيح: كتاب الصلاة: باب القراءة خلف الإمام: الحديث (241 و 242).ومسلم في الصحيح: كتاب المساجد: باب تحريم الكلام في الصلاة: الحديث (539).
(4)
آل عمران 43/.
(5)
رواه الإمام أحمد في المسند: ج 3 ص 302 و 314 و 391.ومسلم في الصحيح: كتاب المسافرين: باب أفضل الصلاة: الحديث (165/ 756) وإسناده صحيح.
(6)
الزمر 9/.
(7)
أخرجه الإمام مالك في الموطأ: ج 2 ص 443 في أول الجهاد. والطبراني في المعجم الأوسط: الحديث (8782) وإسناده صحيح، وأصله في الصحيحين. وبهذا اللفظ أخرجه ابن حبان في الإحسان: كتاب السّير: الحديث (4622).
قوله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً؛} أي إذا خفتم من العدوّ ولم يمكنكم أن تقوموا قانتين موفّين حقّ الصلاة؛ فصلّوا قياما على أرجلكم؛ وحيثما توجّهتم بالإيماء إذا لم يمكنكم استقبال القبلة وإقامة الركوع والسجود. {(أَوْ رُكْباناً)} على دوابكم إذا لم يمكنكم استقبال القبلة وإقامة الركوع والسجود؛ ولم تستطيعوا النّزول فصلوا ركبانا حيثما توجّهت بكم لا عذر لكم في ترك الصلاة حالة الخوف.
وانتصب (رجالا) على الحال. وكان الحسن يقول: {(فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً)} أي قائمين ماشين.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنّهم لا يصلّون وهم يقاتلون أو يمشون؛ لما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: [أنّه فاته يوم الخندق ثلاث صلوات، فقضاهنّ على التّرتيب]
(1)
.فلولا أنّ الاشتغال بالقتال يفسدها لما ترك الإيماء بها حال القيام.
قوله عز وجل: {فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (239)؛أي إذا أمنتم من الخوف فصلّوا لله تعالى كما أمركم قانتين مؤدّين حقوق الصلاة وشرائطها. قوله: {(كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)} معناه: ما لم تكونوا تعلمونه قبل التعليم.
قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ؛} قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية قبل نزول آية المواريث وقبل استقرار العدّة).وكانت المرأة في ابتداء الإسلام إذا احتضر زوجها أوصى لها في ماله بنفقة سنة من طعامها وشرابها وكسوتها وسكناها، وكان ذلك حظّها من الميراث من مال زوجها، وإن كانت من أهل المدر سكنت بيت
(1)
الحديث رواه ابن حبان في الإحسان: كتاب الصلاة: باب صلاة الخوف: الحديث (2890) عن أبي سعيد الخدري بإسناد صحيح على شرط مسلم. وأخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 3 ص 25.والنسائي في السنن: كتاب الأذان: باب الأذان للفائت من الصلوات: ج 2 ص 17. وأخرجه الطبراني في الأوسط: ج 2 ص 120:الحديث (1230) عن ابن مسعود رضي الله عنه، وفيه محمد ابن كثير الكوفي، اختلف فيه.
زوجها حتى تبني بيتا، وإن كانت من أهل الوبر سكنت بيت زوجها حتى تغزل بيتا فتتحوّل إليه. فإن خرجت من بيت زوجها أو تزوجت فلا نفقة لها ولا سكنى
(1)
.
ثم نسخت الوصية بآية المواريث وبقوله صلى الله عليه وسلم: [لا وصيّة لوارث]
(2)
.ونسخ حكم الحول باعتبار أربعة أشهر وعشرا عدّة الوفاة بقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}
(3)
.
ومعنى الآية: {(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ)} نساء؛ أي ويتركون نساء من بعدهم؛ فعليهم {(وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ)} . ويقال: كتب عليهم وصية؛ وكانت هذه الوصية واجبة من الله تعالى لنسائهم أوصى الميت أو لم يوص كما قال تعالى في آية المواريث:
(4)
.
قرأ الحسن وأبو عمرو وابن عامر والأصمّ والأعمش وحمزة وحفص: «(وصيّة)» بالنصب على معنى: فلتوصوا وصية. وقرأ الباقون بالرفع على معنى: لأزواجهنّ وصية، أو كتب عليهم وصية.
وقوله: {(مَتاعاً)} نصب على المصدر؛ أي متعوهن متاعا، وقيل: جعل الله ذلك لهم متاعا، وقيل: نصب على الحال. وقوله: {(إِلَى الْحَوْلِ)} أي متعوهن بالنفقة والسّكنى والكسوة وما يحتاج إليه حولا كاملا. قوله تعالى: {(غَيْرَ إِخْراجٍ)} أي لا تخرجوهن من بيوت أزواجهن.
وإنّما انتصب (غير) لأنه صفة للمتاع، وقيل: على الحال، وقيل: بنزع الخافض؛ أي من غير إخراج، وقيل: على معنى: لا إخراجا، كما يقال: أتيتك غير رغبة إليك.
قوله عز وجل: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ؛} أي فإن خرجن من قبل أنفسهن قبل مضيّ الحول من غير إخراج الورثة {(فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ)} يا أولياء الميت {(فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ)} من
(1)
ذكر الطبري معناه بإسناده في جامع البيان: النص (4343).
(2)
تقدم.
(3)
البقرة 234/.
(4)
النساء 12/.
النّشوز والتزيّن والتزوّج بالمعروف إذا لم تكن المرأة حبلى من الميت. وقيل: معناه:
{(فَإِنْ خَرَجْنَ)} بعد انقضاء عدتهن، {(فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ)} .
وفي معنى رفع الجناح عن الرجال بفعل النساء وجهان؛ أحدهما: لا جناح عليكم في قطع النفقة إذا خرجن قبل تمام الحول. والثاني: لا جناح عليكم في ترك منعهنّ من الخروج؛ لأن مقامها حولا في بيت زوجها غير واجب عليها؛ خيّرها الله تعالى في ذلك إلى أن نسخت بأربعة أشهر وعشر؛ لأن ذلك لو كان واجبا عليها لكان واجبا على أولياء الزوج منعها من ذلك.
وقوله تعالى: {(غَيْرَ إِخْراجٍ)} يتضمّن معنيين؛ أحدهما: وجوب السكنى في مال الزوج؛ وقد نسخ ذلك. والثاني: حظر الخروج والإخراج؛ وهو لزوم اللّبث في البيت إلى انقضاء عدتها أربعة أشهر وعشرا؛ وذلك باق لم ينسخ، ولا يجوز لها أن تبيت بالليالي في غير منزلها، ولا يجوز لها أن تتزين؛ لأن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقالت: إنّ ابنتي توفّي عنها زوجها وقد اشتكت عينها؛ أفتكحّلها؟ فرخّص لها ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: [كانت إحداكنّ تجلس في أحلاس بيتها حولا لا تخرج حتّى إذا مرّ بها كلب خرجت ورمته ببعرة، إلاّ على زوج أربعة أشهر وعشرا]
(1)
.
عن زينب بنت أبي سلمة قالت: دخلت على زينب بنت جحش حين توفّي أخوها، فدعت بطيب فمسّته ثمّ قالت: والله ما لي بالطّيب من حاجة غير أنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث ليال، إلاّ على زوجها أربعة أشهر وعشرا]
(2)
.وعن ابن مسعود رضي الله عنه: [أنّ نسوة قتلى أحد شكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحشة؛ فأمرهم أن يتزاورن بالنّهار ولا يبتن باللّيل إلاّ في منازلهنّ]
(3)
.
(1)
الحديث عن زينب بنت أمّ سلمة عن أم حبيبة رضي الله عنهما. والطبراني في المعجم الكبير: مج 23 ص 189:الحديث (425).والإمام أحمد في المسند: ج 6 ص 291.
(2)
رواه الطبراني في المعجم الكبير: الحديث (421 - 424) وإسناده صحيح. وأخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الطلاق: باب تحد المتوفى عنها أربعة أشهر وعشرا: الحديث (5334 - 5336). ومسلم في الصحيح: كتاب الطلاق: باب وجوب الإحداد: الحديث (1486 - 1489).
(3)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الع دد: باب كيفية سكنى المطلقة: الحديث-
قوله تعالى: {وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (240)؛أي قادر على النقمة ممن خالف أمره وحكمه فيما حكم على الأزواج.
قوله عز وجل: {وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (241) قال سعيد بن جبير وأبو العالية والزهريّ: (المراد بالمتاع في هذه الآية: المتعة؛ وهي واجبة لكلّ مطلّقة)
(1)
.وذهب أصحاب أبي حنيفة إلى أنّ المتعة تجب للمطلقات كلّهن من طريق الديانة بحكم هذه الآية؛ ولكن لا يجبر الزوج على المتعة إلا لمطلقة لم يدخل بها ولم يفرض لها مهرا للآية المتقدمة. وقال بعضهم: أراد بالمتاع في هذه الآية نفقة عدّة الطلاق؛ لأن الله تعالى عطفه على قوله {(مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ)} والمراد هناك النفقة والسكنى.
قوله عز وجل: {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (242)؛أي مثل هذا البيان {(يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ)} دلائله في المستقبل كما بيّن في الماضي من أمور دينكم ودنياكم؛ لكي تفهموا ما أمرتم به. ويقال: لكي تكمل عقولكم؛ فإن العقل الغريزيّ إنّما يكمل بالعقل المكتسب، وحقيقة العاقل أن يعمل ما افترض عليه، وحقيقة العمل استعمال الأشياء المستقيمة.
قوله عز وجل: {*أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ؛} قال ابن عباس: (وذلك أنّ ملكا من ملوك بني إسرائيل أمر بالخروج إلى قتال عدوّهم؛ فخرجوا للقتال ثمّ جبنوا وكرهوا القتال، فقالوا لملكهم: إنّ الأرض الّتي تريدها فيها الوباء فلا تأتها حتّى ينقطع عنها الوباء، فقال لهم الله: موتوا).
واختلفوا في عددهم؛ فقال مقاتل والكلبي: (كانوا ثمانية آلاف).وقال أبو روق: (عشرة آلاف).وقال أبو مالك: (ثلاثون ألفا).وقال السديّ: (بضعة وثلاثون
(3)
- (15925).وفي إعلاء السنن: مج 6 ص 290:النص (3374)؛قال التهانوني: «هو مرسل؛ وكلهم رجال الصحيح، فالسند صحيح مرسل» .
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4358) عن سعيد بن جبير، والنص (4359) عن الزهري.
ألفا).وقال ابن جريج: (أربعون ألفا) وقال عطاء بن أبي رباح: (تسعون ألفا).وقال الضحّاك: (كانوا عددا كثيرا).فقوله تعالى: (ألوف) دليل على كثرتهم؛ إذ لو كانوا كما قال مقاتل والكلبيّ لقال: وهم آلاف؛ لأن من عشرة آلاف إلى ما دونها يقال فيها: آلاف، ولا يقال فيها: ألوف؛ لأن الألوف جمع الكثير، والآلاف جمع القليل.
فمكثوا موتى ثمانية أيام حتى انتفخوا وبلغ بني إسرائيل موت أصحابهم، فخرجوا إليهم ليدفنوهم، فعجزوا عنهم من كثرتهم، فحظروا عليهم الحظائر
(1)
،ثم أحياهم الله تعالى بعد ثمانية أيّام، فبقي فيهم من ريح النّتن التي كانت فيهم بعد الموت حتى بقي في أولادهم إلى اليوم.
وقال السّدّيّ: (وقع الطّاعون في بني إسرائيل، فخرج قوم منهم هاربين من ديارهم حتّى انتهوا إلى مكان فماتوا وتفرّقت عظامهم وتقطّعت أوصالهم، فأتى عليهم مدّة وقد بليت أجسادهم، فمرّ بهم نبيّ يقال له حزقيل ثالث خلفاء بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام؛ لأنّه كان بعد موسى يوشع بن نون، ثمّ كالب بن يوفنا، ثمّ حزقيل. وكان يقال له: ابن العجوز، وذلك أنّ أمّه كانت عجوزا فسألت الله تعالى الولد وقد كبرت وعقمت، فوهبه الله تعالى لها؛ فلذلك سمّي ابن العجوز)
(2)
.
وقال الحسن ومقاتل: (هو ذو الكفل، وإنّما سمّي حزقيل ذا الكفل؛ لأنّه تكفّل بسبعين نبيّا وأنجاهم من القتل، فقال لهم: اذهبوا فإنّي إن قتلت كان خيرا من أن تقتلوا جميعا، فلمّا جاء اليهود وسألوا حزقيل عن الأنبياء السّبعين، فقال لهم: ذهبوا ولم أدر أين هم. وحفظ الله ذا الكفل من اليهود. فلمّا مرّ حزقيل على أولئك الموتى وقف عليهم وجعل يفكّر فيهم متعجّبا، فقال: الحمد لله القادر على أن يحيي هذه الأجساد، فأوحى الله إليه: يا حزقيل، أتريد أن أريك كيف أحيي الموتى؟ قال: نعم، فقال له: نادهم، فنادى: أيّها العظام، ثمّ قال: ألا أيّتها الأجساد البالية، إنّ الله يأمركنّ أن تكتسين لحما، فجعل اللّحم يجري عليهنّ حتّى صرن أجسادا من اللّحوم، ثمّ
(1)
الحظائر: جمع حظيرة؛ وهو ما يحيط بالشيء من حجر أو قصب أو غيره.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4366)،ومن طريق وهب بن منبه: النص (4370).
قال: ألا أيّتها الأجساد البالية الخاوية، إنّ الله يأمركنّ أن تقمن بإذن الله، فقاموا.
فرجعوا إلى بلادهم وأقاموا وتوالدوا، وكان أحدهم إذا اكتسى ثوبا صار عليه كفنا يكون فيه ريح الموت).
وقال وهب: (أصابهم بلاء وشدّة من الزّمان، فشكوا ما أصابهم فقالوا: يا ليتنا قد متنا فاسترحنا ممّا نحن فيه. فأوحى الله تعالى إلى حزقيل: إنّ قومك قد صاحوا من البلاء، وزعموا أنّهم لو ماتوا استراحوا، وأيّ راحة في الموت؛ أيظنّون أنّي لا أقدر أن أبعثهم بعد الموت! فانطلق إلى موضع كذا، فإنّ فيه أمواتا، فقال الله تعالى:
يا حزقيل، نادهم. وكانت أجسادهم وعظامهم قد تفرّقت؛ فرّقتها الطّير والسّباع) فنادى حزقيل بالنداء الذي ذكرناه.
ومعنى الآية: ألم يعلم الذين، وقيل معناه: ألم ينته علمك إلى خبر هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم، والمراد بالرؤية رؤية القلب لا رؤية العين. وقوله تعالى:{(حَذَرَ الْمَوْتِ)} أي خرجوا هاربين حذر الموت، وانتصب على أنه مفعول له. وظاهر هذا يقتضي أنّ خروجهم كان على جهة الفرار من الوباء على ما فسّره السديّ.
وقيل في معنى: {(أُلُوفٌ)} أي مؤتلفو القلوب لم يخرجوا من تباغض، ومعنى:
{(فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا)} أي أماتهم، وقيل: أماتهم الله بشيء يسمعوه، وسمعت الملائكة.
قوله عز وجل: {إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ؛} أي متفضّل على جميع الناس كما تفضّل على هؤلاء بأن أحياهم بعد الموت وأراهم البصيرة لا غاية بعدها، {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَشْكُرُونَ} (243)؛ربّ النّعم. وفي الآية دلالة على أن الموت لا ينفع الهرب منه كما قال تعالى:{أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}
(1)
وقال تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ}
(2)
.وإذا كان الآجال مؤقتة محصورة لا يقع فيها تقديم وتأخير كما قدّر الله تعالى؛ لم ينفع الفرار من الطاعون وغير ذلك.
(1)
النساء 78/.
(2)
الأحزاب 16/.
وقد روي: أنّ عمر رضي الله عنه أراد أن يدخل الشّام وبها طاعون، فاستشار أصحابه بذلك، فأشار إليه بعض المهاجرين بالرّجوع، فعزم على الرّجوع، فقال له أبو عبيدة:
(يا أمير المؤمنين، أتفرّ من قدر الله تعالى؟!) فقال عمر رضي الله عنه: (لو كان غيرك يقولها يا أبا عبيدة! نفرّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت بها واديا له عدوتان؛ إحداهما خصبة والأخرى جدبة، ألست إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله).فجاء عبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنه فقال: (عندي في هذا علم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:[إذا وقع هذا الرّجز في أرض فلا تدخلوها عليه، وإذا وقع وأنتم بها فلا تخرجوا عنها].فحمد الله تعالى عمر رضي الله عنه ورجع
(1)
.
فإن قيل: إذا كانت الآجال مقدرة لا تتقدم ولا تتأخر، فما وجه النهي منه صلى الله عليه وسلم عن دخول أرض بها طاعون؟ وأيّ فرق بين دخولها وبين إبقائه فيها؟ قيل: وجه النهي عن الدخول أنه إذا دخلها وبها طاعون فجائز أن يدركه أجل بها فيقول قائل:
لو لم يدخلها ما مات، كما قال {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ}
(2)
فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل أرضا فيها طاعون لما يخشى أن يموت فيها أحد بأجله، فيقول الجهّال: لو لم يدخلها لم يمت.
قوله عز وجل: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (244) قال أكثر المفسرين: هذا خطاب لهذه الأمة، معناه: قاتلوا في طاعة الله تعالى ولا تهربوا من الموت كما هرب هؤلاء الذين سمعتم خبرهم، فلا ينفعكم الهرب واعلموا أنّ الله سميع لما يقوله المنافق بعلمه: الهرب من القتال، عليم بما يضرّه. وقال
(1)
رواه البخاري في الصحيح: كتاب الطب: باب ما يذكر في الطاعون: الحديث (5729) و (5730) وينظر كتاب الحيل: باب ما يكره من الاحتيال في الفرار من الطاعون: الحديث (6973).ومسلم في الصحيح: كتاب السّلام: باب الطاعون والطيرة والكهانة: الحديث (2219/ 97) وفيه تفصيل القصة.
(2)
آل عمران 156/.
بعضهم: هذه الآية خطاب للذين جبنوا، وهي متصلة بقوله تعالى:{(فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ)} وقال لهم: {(قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ)} .
قوله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً؛} قال: (سبعين)
(1)
: (لمّا أنزل الله قوله عز وجل: {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها}
(2)
قال صلى الله عليه وسلم: [رب زد أمّتي] فنزل {(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً)} فقال: [رب زد أمّتي] فنزل {إِنَّما يُوَفَّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ}
(3)
)
(4)
.
وفي الآية استدعاء إلى الانفاق والبرّ في سبيل الله بألطف الكلام وأبلغه، وسمّاه الله قرضا تأكيدا لاستحقاق الجزاء؛ لأنه لا يكون قرضا إلا والعوض مستحقّ فيه.
ومعنى الآية: من ذا الذي يتصدق بصدقة طيبة من نفس طيبة لا يمنّ بها على السائل ولا يؤذيه، قال الحسن:(هو النّفقة في أبواب البرّ من النّفل).وقال ابن زيد: (هو الإنفاق في الجهاد في سبيل الله).وقال الواقديّ: (قرضا حسنا) يكون المال من الحلال).وقال سهل بن عبد الله: (هو أن لا يعتقد بقرضه عوضا).
وقوله تعالى: {(فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً)} قرأ عاصم وأبو حاتم «(فيضاعفه)» بالنصب، وقرأ ابن عامر ويعقوب بالتشديد والنصب بغير ألف، وقرأ ابن كثير وشيبة بالتشديد والرفع، وقرأ الآخرون بالألف والتخفيف ورفع الفاء. فمن رفعه عطفه على
(1)
أخرج الطبري بسنده؛ قال: «قال ابن زيد في قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً قال: هذا في سبيل الله فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً قال: بالواحد سبعمائة ضعف» جامع البيان: النص (4378).
(2)
الأنعام 160/.
(3)
الزمر 10/.
(4)
أخرجه ابن حبان في الإحسان: كتاب السير: باب فضل النفقة في سبيل الله: الحديث (4648)؛ عن ابن عمر؛ وإسناده حسن إن شاء الله. وفي الدر المنثور: تفسير الآية: ج 1 ص 747؛قال السيوطي: «أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان، عن ابن عمر: .... الحديث» .
{(يُقْرِضُ)} ،ومن نصب جعله جواب الاستفهام بالفاء. والتشديد والتخفيف لغتان، ودليل التشديد قوله تعالى:{(أَضْعافاً كَثِيرَةً)} لأن التشديد للتكثير.
قال الحسن والسديّ: (هذا التّضعيف لا يعلمه إلاّ الله).قال أبو زيد: (معنى قوله تعالى: {(فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً)} أي يعطيه سبعمائة أمثاله).كما قال تعالى في آية أخرى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ}
(1)
.وعن أبي عثمان النهديّ قال: أدخل أبو هريرة إصبعيه في أذنيه وقال: صمّتا إن لم أكن سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [يضاعف الله للمؤمن حسنة إلى ألفي ألف حسنة]
(2)
.
قوله عز وجل: {وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ؛} أي يقتّر ويوسّع على من يشاء من خلقه، ومنه قوله تعالى:{وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ}
(3)
أي يمسكوها عن النفقة في سبيل الله، وقوله:{وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ}
(4)
.وقيل: معناه: يقبض الصدقات ويبسط، والله يسلب النعمة من قوم ويبسطها على قوم. وقيل: معناه:
يقبض الصدقات ويبسط عليها الجزاء عاجلا وآجلا. وقيل: القبض والبسط الإحياء والإماتة، فمن أماته الله فقد قبضه، ومن مدّ له في عمره فقد بسط له.
قوله عز وجل: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (245)؛أي ترجعون في الآخرة فيجزيكم بما قدّمتم، وقد جهلت اليهود معنى هذه الآية أو تجاهلت حتى قالت: إن الله يستقرض منا فهو فقير ونحن أغنياء كما قال تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ}
(5)
وعرف المسلمون معنى الآية ووثقوا بثواب الله ووعده.
(1)
البقرة 261/.
(2)
أخرج الإمام أحمد: ج 2 ص 521 بإسناده عن أبي عثمان النهدي تصحيح أبي هريرة رضي الله عنه له فقال: «ليس هذا قلت: ولم يحفظ الّذي حدّثك، وإنّما قلت: إنّ الله ليعطي العبد المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة» . نقله السيوطي في الدر المنثور: مج 1 ص 745.
(3)
التوبة 67/.
(4)
الشورى 27/.
(5)
آل عمران 181/.
قال ابن عباس: لمّا نزلت هذه الآية جاء أبو الدّحداحة رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، أرى ربّنا يستقرض ممّا أعطانا لأنفسنا، وإنّ لي حديقتين فإن تصدّقت بإحداهما فلي مثلاها في الجنّة، قال:[نعم].وأمّ الدّحداحة معي؟ قال: [نعم] قال: والصّبية معي؟ قال: [نعم] فتصدّق بأفضل حديقتيه وهي تسمّى الحبيبة، فلمّا رجع إلى أهله وجد أمّ الدّحداحة والصّبية في الحديقة الّتي تصدّق بها، فقام على بابها وتحرّج أن يدخلها، ثمّ نادى: يا أمّ الدّحداحة؛ يا أمّ الدّحداحة، قالت: لبّيك، قال: قد جعلت حديقتي هذه صدقة واشترطت مثليها في الجنّة وأمّ الدحداحة معي والصّبية معي، قالت: بارك الله لك فيما اشتريت. ثمّ خرجوا منها ودفعوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[إنّ الله تعالى قد قبل منك، فأعطه اليتيمين اللّذين في حجرك].وقال صلى الله عليه وسلم: [كم من نخل مدل عروقها في الجنّة لأبي الدّحداحة]
(1)
.
وعن أبي زيد بن أسلم قال: لمّا نزل قوله تعالى: {(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً)} الآية، قال أبو الدّحداح: فداك أبي وأمّي يا رسول الله، إنّ الله يستقرضنا وهو غنيّ عن القرض؟! قال: [نعم، يريد أن يدخلكم «الجنّة»
(2)
]،قال:
فإنّي إن أقرضت ربي يضمن لي الجنّة، قال:[نعم، من تصدّق بصدقة فله مثلها في الجنّة]،قال: وزوجتي أمّ الدّحداح معي؟ قال: [نعم] قال: وبنتي الدّحداحة؟ قال:
[نعم].قال: والصّبية معي؟ قال: [نعم] قال: ناولني يدك، فناوله النّبيّ صلى الله عليه وسلم يده المباركة، فقال: يا رسول الله، إنّ لي حديقتين إحداهما بالسّافلة والأخرى بالعالية، والله ما أملك غيرهما قد جعلتهما قرضا لله عز وجل، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: [اجعل
(1)
رواه الطبراني في المعجم الأوسط: ج 2 ص 516:الحديث (1887)؛وقال: «تفرد به أحمد عن عمر بن الخطاب» .وفي مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: ج 1 ص 187؛قال الهيثمي: «وفيه إسماعيل بن قيس الأنصاري، متروك» .وعن عبد الله بن مسعود؛ في مجمع الزوائد: ج 6 ص 321؛قال الهيثمي: «رواه البزار ورجاله ثقات» .وفي ج 9 ص 324؛قال الهيثمي: «رواه أبو يعلى والطبراني ورجالهما ثقات، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح» .
(2)
«الجنّة» للضرورة، وإلا فهي ليست في المخطوط.
إحداهما قرضا لله عز وجل، والأخرى لك ولعيالك] قال: اشهد يا رسول الله أنّي قد جعلت أحسنهما لله عز وجل، وهو حائط فيه ستّمائة نخلة، قال:[إذن يجزيك به الله في الجنّة].قال: فانطلق أبو الدّحداح حتّى أتى أمّ الدّحداح وهي مع أولادها في الحديقة تدور تحت النّخلة، فأنشأ يقول:
هداك ربي سبل الرّشاد
…
إلى سبيل الخير والسّداد
بيني من الحائط بالوداد
…
فقد مضى قرضا إلى التّناد
أقرضته الله على اعتمادي
…
بالطّوع لا منّ ولا نكاد
(1)
إلاّ رجاء الضّعف في المعاد
…
فارتحلي بالنّفس والأولاد
والبرّ لا شكّ فخير زاد
…
قدّمه المرء إلى المعاد
قالت أمّ الدّحداح: ربح بيعك، بارك الله لك فيما اشتريت. فأجابته أمّ الدّحداح وأنشأت تقول:
بشّرك الله بخير وفرح
…
مثلك أدّى ما لديه ونصح
إنّ لك الحظّ إذ الحظّ وضح
…
قد متّع الله عيالي ومنح
بالعجوة السّوداء والزّهو البلح
…
والعبد يسعى وله ما قد كدح
طول اللّيالي وعليه ما اجترح
ثمّ أقبلت أمّ الدّحداح على أولادها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم وتطرح ما في ثيابهم حتّى افضت إلى الحائط الآخر، فقال صلى الله عليه وسلم: [كم من عذق ردّاح ودار فيّاح
(2)
في الجنّة لأبي الدّحداح]
(3)
.
قال أهل المعاني: في الآية اختصار وإضمار؛ تقديره: من ذا الذي يقرض عباد الله قرضا حسنا، وجاء في الحديث: [إنّ الله تعالى يقول لعبده يوم القيامة:
(1)
في الجامع لأحكام القرآن: (ولا ارتداد)،وفي هامش المخطوط:(ولا ازدياد).
(2)
العذق-بفتح فسكون-:النخلة، وبكسر وسكون: العرجون بما فيه من الشّماريخ. وردّاح: ثقيلة. والفيّاح: الواسع.
(3)
رواه الطبري في جامع البيان: النص (4379)؛وهو مرسل ولم يذكر الشعر.
استطعمتك فلم تطعمني، واستسقيتك فلم تسقني، واستكسيتك فلم تكسني. فيقول العبد: وكيف ذلك يا سيّدي!؟ فيقول ربّك: عبدي فلان الجائع وفلان العاري فلم يعد عليهم من فضلك، فلأمنعك اليوم فضلي كما منعتهم من فضلك].
وقال يحيى بن معاذ: (عجبت لمن يبقي له مالا وربّ العرش يستقرضه)
(1)
.
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [رأيت على باب الجنّة مكتوبا: القرض بثمانية عشر، والصّدقة عشرة. فقلت: يا جبريل، ما بال القرض أكثر جزاء. قال: لأنّ صاحب القرض لا يأتيك إلاّ محتاجا وربّما وقعت الصّدقة في غير أهلها]
(2)
.وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من أقرض أخاه المسلم، فله بكلّ درهم وزن ثبير وطور سيناء حسنات] وهما جبلان.
وقوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ؛} أي ألم تعلم يا محمد بالملإ من بني إسرائيل. والملأ من القوم: أشرافهم ووجوههم يجتمعون للمشاورة.
وجمعه الأملاء؛ واشتقاقه من ملأت الشيء؛ لا واحد له من لفظه كالإبل والخيل والجيش والقوم والرهط.
قوله تعالى: {(مِنْ بَعْدِ مُوسى)} أي من بعد وفاة موسى، وقوله:{(إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا)} اختلفوا فيه من هو؟ قال قتادة: (هو يوشع بن نون بن أفراتيم
(3)
بن يوسف بن يعقوب عليهم السلام.وقال السديّ: (هو شمعون).وقد كان بعد يوشع، وإنما سمي سمعون لأن أمّة دعت الله عز وجل أن يرزقها غلاما فاستجاب الله دعاءها، فولدت غلاما فسمّته سمعون، وقالت: قد سمع الله دعائي، فلأجل ذلك سمته سمعون. والسين في لغة العبرانية شين، فهو بالعبرانية شمعون وبالعربية
(1)
في كنز العمال: الرقم (15382)،ونسبه إلى الطبراني والحكيم في نوادره.
(2)
في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: ج 1 ص 51:الترجمة (يحيى بن معاذ).
(3)
عند الطبري: (أفراثيم).
سمعون. وقال الكلبيّ ومقاتل وسائر المفسرين: (هو إشمويل بن هلقانا
(1)
،وبالعربيّة يقال له: إسماعيل بن بالي
(2)
وهو من نسل هارون عليه السلام.
وقال الكلبيّ: (وسبب مسألتهم إيّاه: أنّه لمّا مات موسى عليه السلام خلف بعده في بني إسرائيل يوشع بن نون يقيم فيهم التّوراة وأمر الله حتّى قبضه الله، ثمّ خلف فيهم حزقيل كذلك حتّى قبضه الله، وعظمت في بني إسرائيل الأحداث فنسوا عهد الله تعالى حتّى عبدوا الأوثان، فبعث الله إليهم إلياس عليه السلام نبيّا فجعل يدعوهم إلى الله، ثمّ خلف بعد إلياس عليهم اليسع وكان فيهم ما شاء الله ثمّ قبضه الله؛ فعظمت فيهم الأحداث وكثرت فيهم الخطايا وظهر لهم عدوّ يقال له: البلساياء وهم قوم جالوت، وكانوا يسكنون ساحل الرّوم بين مصر وفلسطين؛ وهم العمالقة. فظهروا على بني إسرائيل وغلبوهم على كثير من أراضيهم وسبوا كثيرا من ذراريهم، فضربوا عليهم الجزية ولقوا منهم بلاء شديدا. ولم يكن لهم نبيّ يدبر أمرهم، فكانوا يسألون الله تعالى أن يبعث لهم نبيّا يقاتلون معه، وكان سبط النّبوّة قد هلكوا ولم يبق منهم إلاّ امرأة حبلى، فأخذوها وحبسوها في بيت خشية أن تلد أنثى فتبدلها بغلام، لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها، فجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاما، فولدت غلاما فسمّته اشمويل أي إسماعيل. وكبر الغلام فتعلّم التّوراة في بيت المقدس وكفله شيخ منهم. فلمّا بلغ أن يبعثه الله نبيّا أتى جبريل والغلام نائم إلى جنب الشّيخ، فدعاه: يا اشمويل، اذهب إلى قومك فبلّغهم رسالة ربك، فإنّ الله قد بعثك فيهم. فلمّا أتاهم كذّبوه وقالوا: إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله).
وإنّما سألوا الملك لأنّهم علموا أنّ كلمتهم لا تتفق وأمورهم لا تنتظم، ولا يحصل منهم الاجتماع على القتال إلا بملك يحملهم على ذلك ويجمع شملهم، فكان الملك هو الذي يجمع أمرهم والنبيّ يشير عليه ويرشده ويأتيه من ربه بالخبر. فلما قالوا
(1)
في قصص الأنبياء للثعلبي: عن وهب بن منبه: هو شمويل بن هلفاقا، ولم ينسبه أكثر من ذلك، والصحيح كما عند الطبراني، لأنه القانة في التوراة.
(2)
في المخطوط: (نالي)،وفي الجامع لأحكام القرآن: شمويل بن بال، وأشار المحقق إلى أنه في نسخة (أ):بان. والذي في الطبري وابن عطية: بالي.
لاشمويل: ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، قال لهم: لعلّكم إذا بعث الله لكم ملكا وفرض عليكم القتال تجبنوا عن القتال فلا تقاتلوا!!
وإنّما قال ذلك متعرّفا ما عندهم من الحدّ وذلك قوله تعالى: {قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا؛} ومعناه: قال لهم نبيّهم عسى ربّكم إن فرض عليكم القتال مع ذلك الملك أن لا تفوا بما تقولون ولا تقاتلون معه، و {(قالُوا وَما لَنا أَلاّ نُقاتِلَ)}؛ «قالوا: وأيّ شيء لنا» في ترك القتال في سبيل الله، وقيل معناه: وليس لنا أن نمتنع عن قتال عدوّنا في طلب مرضاة الله، {(وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا)} أي وقد أخلونا من منازلنا وسبوا ذرارينا.
ومعنى الإخراج من الأبناء: أنه لمّا كان الإخراج من الديار يؤدّي إلى مفارقة الأبناء قالوا: أخرجنا من ديارنا وأبنائنا. ويجوز أن يكون على وجه الاتباع كما يقال:
متقلّد سيفا ورمحا.
فإن قيل: ما وجه دخول (أن) في قوله {(أَلاّ نُقاتِلَ)} والعرب ما تقول: ما لك أن لا تفعل كذا، وإنّما يقولون: ما لك لا تفعل؟ قيل: دخول (أن) وجد فيها لغتان فصيحتان. فدليل إثباتها قوله تعالى: {ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ}
(1)
و {ما لَكَ أَلاّ تَكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ}
(2)
.ودليل حذفها قوله تعالى: {وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ}
(3)
.
واختلفوا في قراءة قوله تعالى: {(ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ)} قرأ بعضهم «(نقاتل)» بالرفع على معنى فإنّا نقاتل، وأكثرهم على «(نقاتل)» بالجزم على جواب الأمر. وقرأ أبو عبد الرحمن السلميّ:«(يقاتل)» بالياء والجزم؛ جعل الفعل للملك، كذلك قوله تعالى:
{(وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا)} قرأ عمر «(وَقَدْ أخْرِجْنا)» بفتح الهمزة والجيم؛ يعني العدوّ.
وقوله عز وجل: {فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ؛} فيه حذف؛ معناه: فبعث الله لهم ملكا وكتب عليهم القتال؛ {(فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ)} ؛أي لمّا فرض عليهم أعرضوا عنه وضيّعوا أمر الله عز وجل إلا قليلا منهم،
(1)
الأعراف 12/.
(2)
الحجر 32/.
(3)
الحديد 8/.
وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا؛ هم الذين عبروا النهر، وسنذكرهم إن شاء الله في موضعهم.
قوله تعالى: {وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ} (246)؛أي عالم بالذين ظلموا أنفسهم بالمعصية وبعقوبتهم، وفي هذا تهديد لمن ولّى عن القتال.
واختلفوا في قراءة {(عَسَيْتُمْ)} فقرأ نافع وطلحة والحسن: «(عَسيْتُمْ)» بكسر السين في كلّ القرآن؛ وهي لغة. وقرأ الباقون بالفتح؛ وهي اللغة الفصيحة.
قوله تعالى: {وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ؛} وكان السبب فيه على ما ذكره المفسرون: أن اشمويل عليه السلام سأل الله تعالى أن يبعث لهم ملكا، فأتي بعصا وقرن فيه دهن، وقالوا له: إن صاحبكم الذي يكون ملكا طوله طول هذه العصا، وقيل له: انظر إلى هذا القرن الذي فيه الدهنُ، فإذا دخل عليك رجل فنش
(1)
الدهن في القرن؛ فهو ملك بني إسرائيل فادهن به رأسه وملّكه على بني إسرائيل. فقاسوا أنفسهم بالعصا؛ فلم يكن أحد منهم مثلها.
قال وهب: (وكان طالوت رجلا ديّانا).وقال عكرمة والسديّ: (كان يسقي على حمار له من النّيل، فضلّ حماره؛ فخرج في طلبه).وقال بعضهم: ضلّت حمولات لأبيه، فأرسله أبوه مع غلام له يطلبانها، فمرّا ببيت اشمويل، فقال الغلام لطالوت: لو دخلنا على هذا النبيّ فسألناه عن الحمولات ليرشدنا ويدعو لنا بخير.
فقال طالوت: نفعل ذلك، فدخلا عليه، فبينما هما عنده إذ نشّ الدهن الذي في القرن فقام أشمويل وقاس طالوت بالعصا فكان على طوله، فقال لطالوت: قرّب رأسك، فقرّبه، فدهنه بذلك الدهن، ثم قال له: أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله أن أملّكك عليهم. فقال طالوت: أو ما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل؟ قال:
بلى، قال: فبأيّ آية أكون أهلا لذلك؟ قال: بآية أنك ترجع إلى أبيك، وقد وجد أبوك حمولاته، فرجع فكان كذلك.
(1)
نشّ الشيء: جفّ وذهب ماؤه، ونشّ اللحم: صوّت على المقلى، ونشّت الجرّة الجديدة: صوّتت كصوت الغليان عند صبّ الماء فيها.
ثم قال أشمويل لبني إسرائيل: {(إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ)} .وإنّما قالوا ذلك لأنه كان في بني إسرائيل سبطان؛ سبط نبوّة وسبط مملكة. وكان سبط النبوة لاوي بن يعقوب ومنه موسى وهارون، وسبط المملكة سبط يهودا بن يعقوب ومنه كان داود وسليمان، ولم يكن طالوت من هؤلاء ولا من هؤلاء، وإنّما هو من سبط بنيامين بن يعقوب، فمن أين يكون له الملك علينا ونحن أحقّ بالملك منه. ومع ذلك هو فقير لم يؤت سعة من المال ينفقه علينا كما يفعله الملوك.
{قالَ،} أشمويل: {إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ؛} أي اختاره عليكم للملك، {وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ؛} أي فضّله عليكم بالعلم؛ وذلك أنه كان أعلمهم في وقته، فرفعه الله تعالى بعلمه. وقيل: كان عالما بأمر الحرب، وكان طويلا جسيما وكان يفوق الناس بمنكبيه وعنقه ورأسه. وإنّما سمي طالوت لطوله وقوّته، فأعلمهم الله تعالى أن العلم هو الذي يجب أن يقع به الاختيار، وأن الزيادة في الجسم ممّا يهيب به العدوّ.
وقوله تعالى: {وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ؛} أي يعطي ملكه من يشاء، وهو جلّ وعزّ لا يشاء إلا الحكمة والعدل، فلا تنكروا ملك طالوت مع كونه من غير أهل الملك، وأن الملك ليس بالوراثة وإنّما هو بيد الله يؤتيه من يشاء.
قوله تعالى: {وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} (247)؛أي يوسع على من يشاء ويعلم أين ينبغي أن يكون الملك والسعة، وإنما قال:{(واسِعٌ)} بمعنى موسع، كما يقال:
أليم بمعنى مؤلم. وقيل: معناه واسع الفضل، إلا أنه حذف الفضل كما يقال: فلان كبير؛ أي كبير القدر. وأما طالوت وجالوت وداود، فاجتمع فيهم العجمة والتعريف؛ فلذلك لم ينصرف، فلو سمّيت رجلا باسم جاموس لا ينصرف وإن كان أعجميّا؛ لأنه قد تمكّن في العربية؛ لأنك تدخل عليها الألف واللام فتقول: الجاموس
(1)
.
(1)
طالوت وجالوت اسمان أعجميان معرّبان، ولذلك لم ينصرفا فضلا عما قال المصنف رحمه الله في حال دخول الألف واللام؛ أي لا ينصرفا للعلميّة والعجمة الشخصية.
قوله عز وجل: {وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ؛} قال ابن عباس: (هذا جواب عن قولهم لنبيّهم: والله ما نصدقك أنّ الله بعثه علينا، ولكنك أنت بعثته علينا ملكا مضارّة لنا حين سألناك ملكا، وإلا فآتنا بآية أن الله قد بعثه علينا. فقال لهم: {(إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ)} أي الدلالة على كون طالوت ملكا، أن يأتيكم التابوت الذي أخذه منكم عدوّكم. وكان ذلك التابوت من عود الشمار
(1)
الذي يتخذ منه الأمشاط المرصّعة بالذهب عليه صفائح الذهب، وكانت السكينة في التابوت؛ وهي شبه دابّة رأسها كرأس الهرّة ولها ذنب كذنبها له رأسان، ووجه كوجه الإنسان ولها جناحان من زبرجد وياقوت، وكان فيها روح تكلمهم بالبيان فيما اختلفوا فيه، وكان لعينيها شعاع إذا نظرت إلى إنسان دعر).
قال ابن عباس: (كانت بنو إسرائيل إذا حضر القتال قدّموا التابوت بين أيديهم إلى العدوّ، فإذا أتت السكينة في التابوت وسمع من التابوت أنينها أقرب نحو العدو وهم يمضون معه أينما مضى، فإذا استقرّ ثبتوا خلفه، وكانت السكينة إذا صرخت في التابوت بصراخ هرّة أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح، فلما عصت بنو إسرائيل الأنبياء صلوات الله عليهم، سلّط الله عليهم عدوّهم فقاتلهم وغلبهم على التابوت، ومضوا به إلى قرية من قرى فلسطين، وجعلوه في بيت صنم لهم، وجعلوا التابوت تحت الصنم، فأصبحوا من الغد والصنم تحته، وأصنامهم كلّها أصبحت مكسّرة، فأخرجوا التابوت من بيت الصنم، ووضعوه في ناحية من مدينتهم، فأخذ أهل تلك الناحية وجع في أعناقهم حتى هلك أكثرهم، فقال بعضهم لبعض: أليس قد علمتم أن إله بنو
(1)
في المخطوط: (السمسار)،وفي هامش الجامع لأحكام القرآن: ج 3 ص 248: (شمار) وهو من قول الكلبي. وفي معجم أسماء النبات: ص 34: (شمساد).
وفي الإصحاح الخامس والعشرين من سفر الخروج: الفقرة (10): (تصنع تابوتا من خشب السّنط، طوله ذراعان ونصف).العهد القديم-الإصدار الثاني 1995،الطبعة الرابعة: ص 100:المسكن المقدس وأثاثه: التابوت.
وفي لسان العرب: مادة (سنط):ج 6 ص 391؛قال: «والسّنط: قرظ ينبت في الصّعيد وهو حطبهم، وهو أجود حطب استوقد به الناس» .
إسرائيل لا يقوم له شيء، فأخرجوا التابوت إلى قرية أخرى، فبعث الله على أهل تلك القرية بلاء حتى كان الرجل منهم يبيت سالما ويصبح ميتا قد أكل ما في جوفه، فأخرجوه منها إلى الصحراء ودفنوه في مخراة لهم، فكان كل من تغوّط هنالك منهم أخذه الباسور والقولنج، فتحيّروا! فقالت لهم امرأة من بني إسرائيل كانت عندهم قد سبوها: اعلموا أنكم لا تزالون ترون ما تكرهون ما دام التابوت فيكم فأخرجوه عنكم، فأتوا بعجل بإشارة تلك المرأة فحملوا عليها التابوت، ثم علّقوها على ثورين ثم ضربوا جنوبها فأقبل الثوران يسيران، ووكّل الله أربعة من الملائكة يسوقون الثورين، فلم يمر التابوت بشيء من الأرض إلاّ كان مقدّسا، فأقبلا حتى وقعا على أرض بني إسرائيل فوضعوا التابوت في أرض بني إسرائيل، فلما رأى بنو إسرائيل التابوت كبّروا وحمدوا الله وأطاعوا طالوت وأقروا بملكه، فذلك قوله:(تحمله الملائكة) أي تسوقه)
(1)
.وقال ابن عباس: (جاءت الملائكة بالتّابوت تحمله بين السّماء والأرض وهم ينظرون إليه حتّى وضعته الملائكة عند طالوت)
(2)
.
وقرأ ابن مسعود ومجاهد والأعمش: «(يحمله)» بالياء. وعن علي رضي الله عنه: (أنّ السّكينة كان ريحا هفّافة لها وجه كوجه الإنسان)
(3)
.
وقوله تعالى: {(وَبَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ)} يعني أنه كان في التابوت أيضا رضاض الألواح لموسى وعصاه من آس وعمامة هارون وقفيزة من المنّ وهو التّرنجبين
(4)
الذي كان لبني إسرائيل في طست من ذهب. وقوله تعالى: {(تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ)} أي تسوقه الملائكة. وقال بعضهم: أرسل الله ريحا انتزعت التابوت من أيدي الكفّار، ثم حملته الملائكة فألقته بين يدي طالوت.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4414 و 4415 و 4417) عن وهب بن منبه.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4445).
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4420).
(4)
في لسان العرب: مادة (منن):ج 13 ص 198 نقل من قول الزجاج؛ قال: «وأهل التفسير يقولون: إنّ المنّ شيء كان يسقط على الشجر حلو يشرب، ويقال: إنه الترنجبين
…
كان ينزل عليهم من السماء عفوا بلا علاج. والتّرنجبين؛ والطرنجبين بالطاء، وهو طلّ يقع من السماء، وهو ندي شبيه بالعسل جامد متحبب. (عن مفردات ابن البيطار).
قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ؛} أي إن في رجوع التابوت إليكم لعلامة أن الله ملّك عليكم طالوت، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (248)؛ أي مصدّقين بذلك.
قوله عز وجل: {فَلَمّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ؛} الآية، أي فلما خرج طالوت من البلد {(بِالْجُنُودِ)} يعني خرج بهم من بيت المقدس وهم سبعون ألف مقاتل؛ وقيل: ثمانون ألفا، ولم يتخلّف عنه إلا كبير لهرمه أو مريض لسقمه أو ضرير لضرره أو معذور لعذره. وذلك أنّهم لمّا رأوا التابوت قالوا: قد أتانا التابوت وهو النصر لا شكّ فيه، فسارعوا إلى الجهاد، فخرج معه خلق كثير؛ فقال: لا حاجة لي في كلّ ما أرى، ولا أبتغي إلا كلّ شابّ نشيط فارع، ولا يخرج معي صاحب تجارة ولا رجل عليه دين، ولا رجل تزوج امرأة لم يبن بها؛ لأنّهم يكونون مشغولين. فاجتمع إليه ثمانون ألفا من شرطه. فخرج بهم في حرّ شديد، فأصابهم العطش؛ فسألوا الماء؛ فقال لهم طالوت:{(إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ)} أي مختبركم بنهر جار؛ وهو نهر الأردن وفلسطين؛ ليرى طاعتكم وهو أعلم؛ {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي؛} أي فليس من أهل ديني وطاعتي، وليس معي على عدوّي، {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ؛} أي ومن لم يشربه، {فَإِنَّهُ مِنِّي؛} ومعي على عدوّي، وقد يطلق لفظ الطعم على الشرب، قال الله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا}
(1)
.
قوله تعالى: {إِلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ؛} قرأ ابن عباس وأبو الجوزاء وابن كثير وشيبة ونافع وأبو عمرو وأيوب: «(غرفة)» بفتح الغين، وقرأ الباقون بضمّها؛ وهي قراءة عثمان، وهما لغتان. قال الكسائيّ: (الغرفة بالضّمّ:
الّذي يجعل في الكفّ من الماء إذا غرف. والغرفة بالفتح الاغتراف، فالضّمّ اسم والفتح مصدر).وقال أبو حاتم:(الغرفة بالضّمّ: ملئ الكفّ وملئ المغرفة، وبالفتح الواحدة من القليل والكثير).قال الكلبيّ ومقاتل: (كانت الغرفة ليشرب منها الرّجل وخادمه ودابّته).
(1)
المائدة 93/.
قيل: ابتلاهم الله بذلك النهر ليميّز الصادق من الكاذب، وكان أشمويل هو الذي أخبر طالوت بذلك؛ لأنّ الله تعالى {فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ}
(1)
فلا يجوز هذا القول إلا من نبيّ. قوله تعالى: {(فَشَرِبُوا مِنْهُ)} {إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ؛} نصب {(قَلِيلاً)} على الاستثناء. قرأ ابن مسعود: «(إلاّ قليل)» بالرفع، كقول الشاعر
(2)
:
وكلّ أخ مفارقه أخوه
…
لعمرو أبيك إلاّ الفرقدان
ومعنى الآية: أنه لمّا عرض لهم النهر وقد اشتد بهم العطش؛ وقعوا فيه فشربوا كلّهم أكثر من غرفة إلا قليلا منهم؛ وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا كعدّة أهل بدر، قال صلى الله عليه وسلم يوم بدر لأصحابه:[أنتم على عدد أصحاب طالوت]
(3)
.
قالوا: فمن اغترف غرفة قوي وصحّ إيمانه وعبر النهر سالما لكفته تلك الغرفة الواحدة لشربه وخادمه ودوابه. وأما الذين أخذوا أكثر من ذلك وخالفوا اسودّت شفاههم واشتدّت عطشتهم فلم يرووا وبقوا على شطّ النهر وجبنوا عن لقاء العدوّ ولم يشهدوا الفتح.
قوله تعالى: {فَلَمّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ؛} يعني لمّا جاوز طالوت النهر هو والذين صدّقوه وهم القليل الذين لم يشربوا إلا مقدار الغرفة، {قالُوا؛} أي قال الذين شربوا وخالفوا أمر الله وكانوا أهل شرك ونفاق:
{لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ؛} وانصرفوا عن طالوت ولم يشهدوا قتال جالوت. قال بعض المفسرين: إن القوم كلّهم جاوزوا النهر، ثم إن الذين خالفوا في الشرب من النهر اعتزلوا من المطيعين و {(قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ)} .
(1)
الجن 26/-27.
(2)
البيت لعمرو بن معد يكرب الزبيدي (100 ق. هـ-21 هـ).في الديوان: ص 178،وهو من الشواهد.
(3)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب المغازي: باب عدة أصحاب بدر: الحديث (3959) عن البراء رضي الله عنه.
قوله تعالى: {قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ؛} معناه: قال الذين يوقنون ويعلمون أنّهم ملاقو الله؛ وهم القليل الذين ثبتوا مع طالوت، {(كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ)} أي كم من فرقة قليلة قهرت فرقة عدتها كثيرة بأمر الله ونصرته، وكانت فئة جالوت مائة ألف.
والفئة جمع لا واحد له من لفظه.
قوله تعالى: {وَاللهُ مَعَ الصّابِرِينَ} (249)؛أي معهم بالنصر والمعونة.
قوله تعالى: {وَلَمّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً؛} معناها: لمّا خرجوا واصطفّوا لمحاربة جالوت وجنوده، قالوا: ربّنا أصبب علينا الصّبر صبّا، {وَثَبِّتْ أَقْدامَنا؛} في أماكنها في الحرب بتقوية قلوبنا، {وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ} (250)؛أي أعنّا على قوم جالوت بإلقاء الرّعب في قلوبهم،
{فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ؛} في هذا الحال؛ لأنّ ذكر الهزيمة بعد سؤال النصر يدلّ على إجابة الدعاء، كأنّ الله تعالى قال:
فاستجاب الله دعاءهم فهزموهم.
قوله تعالى: {وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ؛} قال المفسرون: لمّا عبر طالوت ومن معه النهر، كان من جملة من عبر معهم أبو داود عليه السلام واسمه إيشا في ثلاثة عشر ابنا له وكان داود أصغرهم، ثم إنّ جالوت أرسل إلى طالوت: أن أرسل إليّ من يقابلني، فإن قتلني فلكم ملكي، وإن قتلته فلي ملككم. فشقّ ذلك على طالوت ونادى في عسكره: من قتل منكم جالوت زوّجته ابنتي وأعطيته نصف مملكتي، فلم يجب أحد منهم وهاب الناس جالوت، فسأل طالوت نبيّهم أن يدعو الله، فدعا الله تعالى، فأتى بقرن فيه دهن فقيل له: إنّ صاحبكم الذي يقتل جالوت هو الذي يضع هذا القرن على رأسه فيغلي الدهن، فدعا طالوت بني إسرائيل فجرّبهم، فلم يوافق ذلك منهم أحد، فأوحى الله إلى نبيّهم أنّ في أولاد إيشا من يقتل جالوت، فدعا طالوت إيشا وقال له: اعرض عليّ أولادك، فأخرج له اثنا عشر رجلا أمثال الاسطوانات، وفيهم رجل فارع عليهم، فجعل يعرضهم على القرن، فلم ير شيئا، فلم يزل يردّد القرن على ذلك الجسيم حتى أوحي إليه أنّا لا نأخذ الرجال على قدر
صورهم، بل على إصلاح قلوبهم، فقل لإيشا: هل لك ولد غيرهم؟ فقال: لا، فقال:
رب إنه زعم أنه لا ولد له غيرهم، فقال: كذب. فقال له: إنّ ربك كذّبك، فقال:
صدق الله، إن لي ابنا صغيرا يقال له داود استحيت أن يراه الناس لقصر قامته وحقارته، فجعلته في الغنم يرعى وهو في شعب كذا، وكان داود عليه السلام قصيرا مشقا أزرقا، فخرج طالوت في طلبه، فوجد الوادي قد سال بينه وبين الزريبة التي كان يريح إليها الغنم، فوجده يحمل شاتين يجوز بهما السيل ولا يخوض بهما الماء، فلما رآه قال:
هذا هو لا شكّ فيه، هذا يرحم البهائم فهو بالناس أرحم. فدعاه فوضع القرن على رأسه؛ ففاض، قال: هل لك أن تقتل جالوت وأزوّجك بابنتي وأعطيك نصف مملكتي، قال: نعم، قال له: فهل جرّبت نفسك في شيء، قال: نعم؛ وقع الذئب في غنمي فضربته ثم أخذت برأسه وجسده وقطعت رأسه من جسده، فقال له طالوت: إن الذئب ضعيف، فهل جربت نفسك في غيره، قال: نعم؛ دخل الأسد في غنمي؛ فضربته وأخذت بلحييه فشققتهما.
فمضى به طالوت إلى عسكره، فمرّ داود بثلاثة أحجار فقلن له: خذنا معك ففينا ميتة جالوت، فأخذهنّ ثم مضى. فلما تصافّوا للقتال وبرز جالوت وسأل المبارزة، انتدب إليه داود، فأعطاه طالوت فرسا ودرعا وسلاحا، فقال داود: إنّي لم أتعود القتال بهذا، ولكني أقاتله بالمقلاعة كما أريد، فأخذ داود المقلاعة ومضى نحو جالوت.
وكان جالوت من أشدّ الناس وأقواهم، وكان له بيضة هي ثلاثمائة رطل من حديد، فلما نظر إلى داود ألقي في قلبه الرعب، وكان جالوت على فرس أبلق عليه السلاح التامّ، قال: برزت إليّ بالمقلاعة والحجر لتقتلني كما تقتل الكلب، قال: نعم؛ لأنك شرّ من الكلب. قال جالوت: لا جرم لأقسمنّ لحمك بين سباع الأرض وطيور السماء. فقال داود: بل يقسّم الله لحمك، ثم قال داود: باسم إله إبراهيم، وأخرج حجرا ووضعه في مقلاعته، ثم أخرج الحجر الثاني وقال: باسم إله إسحاق؛ ووضعه في مقلاعته، ثم أخرج الحجر الثالث، وقال: باسم إله يعقوب؛ ووضعه في مقلاعته، فصارت كلّها حجرا واحدا ودوّر المقلاع ورمى به، فأصاب الحجر أنف
البيضة وخلط دماغه وخرج من قفاه، وقتل من ورائه ثلاثين رجلا، وهزم الله الجيش وخرّ جالوت قتيلا.
فأخذه داود وجرّه حتى ألقاه بين يدي طالوت ثم قال له: أنجزني ما وعدتني وأعطني امرأتي، فقال له طالوت: أتريد ابنة الملك بغير صداق، قال: ما شرطت عليّ صداقا، وليس لي شيء. فزوّجه ابنته، واراد أن يدفع إليه نصف ملكه فقال له وزير:
إن دفعت إليه ذلك نازعك في الملك وأفسد عليك ملكك، فامتنع طالوت من ذلك وقصد قتله، فهرب داود عليه السلام فندم طالوت فخرج في طلبه حتى أتى على امرأة من قدماء بني إسرائيل وهو يبكي على داود، فضرب بابها؛ فقالت: من هذا؟ قال: أنا طالوت، قالت: أنت أشقى الناس؛ طردت داود وقد قتل جالوت وهزم جنوده، قال:
إنّما أتيتك لأسألك ما توبتي؟ قالت: توبتك أن تأتي مدينة كذا وتقاتل أهلها، فإن فتحتها فهي توبتك، وإن قتلت فهي عقوبتك
(1)
.
فانطلق طالوت إلى تلك المدينة فقاتل أهلها حتى قتل. فاجمع بنو إسرائيل فملّكوا داود عليه السلام من بعده. فذلك قوله تعالى: {وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ؛} أي جمع له بين الملك والنبوّة. والحكمة هي النبوّة، ولم يجتمع كلاهما لأحد إلا لداود وسليمان عليهم السلام. قوله عز وجل:{وَعَلَّمَهُ مِمّا يَشاءُ؛} أي علّمه الدروع ومنطق الطير وغير ذلك من العلوم، {وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ؛} أي ولولا دفع الله بأس المشركين بالغزاة والمجاهدين كما دفع بداود شرّ جالوت لفسدت الأرض بأهلها لغلبة الكفار. وقيل: معناه: لولا الأنبياء صلوات الله عليهم الدّاعون إلى سبيله الناهون عن الفساد؛ لفسدت أحوال الناس.
(1)
أخرج هذه القصة الطبري في جامع البيان: النص (4477 - 4484) من رواية وهب بن منبه، وعلى ما يبدو أنّها من الإسرائيليات.
روي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [يقول الله تعالى: لولا رجال ركّع؛ وصبيان رضّع وبهائم رتّع؛ لصبّ عليكم العذاب صبّا]
(1)
.وقال الحسن: (يزع الله بالسّلطان أكثر ممّا يزع بالقرآن، ولولا السّلاطين والأمراء المسلّطون على العيّارين والدّعارة لخرجوا على أهل الصّلاح فاستولوا عليهم).
قوله تعالى: {(وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ)} من قرأ «(دفاع)» فهو من قولهم: دافع مدافعة ودفاعا؛ والدّفع: الصّرف. {وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ} (251)؛ذو منّ عليهم يدفع المفسدين عن المصلحين.
قوله عز وجل: {تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ؛} أي القرآن بما فيه من الأخبار الماضية آيات الله بتنزيل جبريل عليه السلام بها عليك لبيان الحقّ من الباطل، {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (252)؛لأنك أخبرت بهذه الآيات مع أنك لم تشاهدها ولم تخالط أهلها. وقيل في معنى هذه الآيات: إماتة الله الألوف دفعة واحدة وإحياؤهم دفعة واحدة وإعطاؤه الملك طالوت وهو من أهل الحمول الذي لا ينقاد له الناس، ونصر أصحاب طالوت مع قلّة عددهم وضعفهم على جالوت وأصحابه مع شوكتهم وكثرتهم دلالة على قدرته وعلى نبوّة أنبيائه صلوات الله عليهم. وقوله تعالى:{(وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)} لأنك قد أعطيت من الآيات مثل ما أعطي الأنبياء صلوات الله عليهم وزيادة.
قوله عز وجل: {*تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ؛} معناه: إنّ الذي نزّلنا عليك خبرهم في القرآن هم الرسل لم يكونوا في الفضل متساوين، ولكن {(فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ)} في الدنيا والعقبى. ثم فسّر فضيلة كلّ واحد منهم فقال:{(مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ)} وهو موسى عليه السلام
(1)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 2 ص 116 - 117؛ قال القرطبي: «خرجه أبو بكر الخطيب في كتاب (السابق واللاحق) عن عبد الله بن مسعود» .وفي تلخيص الحبير: ج 2 ص 104:كتاب صلاة الاستسقاء: الحديث (9)؛قال: «خرجه أبو يعلى والبزار والبيهقي من حديث أبي هريرة، وفي إسناده إبراهيم بن خيثم بن عراك، وقد ضعفوه. وأخرجه أبو نعيم في المعرفة في ترجمة مسافع، والبيهقي وابن عدي» وضعفوه.
كلّمه الله من غير سفير، {(وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ)} فوق بعض {(دَرَجاتٍ)} ؛أي اتّخذ الله إبراهيم خليلا، وسخّر لسليمان الريح والجنّ والشياطين وعلّمه منطق الطير. وقال مجاهد:
(وأراد بهذه الآية فضيلة محمّد صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء صلوات الله عليهم كما قال تعالى: {وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ}
(1)
)
(2)
.وقيل: هو إدريس كما قال تعالى: {وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا}
(3)
.
قوله تعالى: {وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ؛} أي أعطيناه الدلالات على إثبات نبوّته من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى والإنباء بما غاب عنه، {(وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)} أي قوّيناه وأعنّاه بجبريل الطاهر حين أرادوا قتله حتى رفعه الله إلى السماء
(4)
.وقال الحسن: (الرّوح جبريل، والقدس هو الله تعالى؛ فيصير تقدير الآية: وقوّيناه بروح الله تعالى).وعن ابن عباس أنه قال: (القدس اسم الله الأعظم الّذي كان به عيسى عليه السلام يحيي الموتى)
(5)
.
قوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ؛} أي لو شاء الله لم يقتتل الذين من بعد الرسل من بعد ما وضحت لهم الحجج والدلائل كما قال تعالى: {وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى}
(6)
.وقيل: معناه: ولو شاء الله لأنزل آية تضطرّهم إلى الإيمان وتمنعهم عن الكفر كما قال تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ}
(7)
.
وقوله تعالى: {(وَلكِنِ اخْتَلَفُوا)} أي شاء اختلافهم فاختلفوا. ويقال: لم يلجئهم إلى الإيمان؛ لأنّ التكليف لا يحسن مع الضرورة، والجزاء لا يحسن إلا مع التّلجئة.
قوله تعالى: {(وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ)} أي بالكتب والرسل.
(1)
الانشراح 4/.
(2)
ذكر الطبري معناه في جامع البيان: النص (4491).
(3)
مريم 57/.
(4)
ذكره الطبري في جامع البيان: تفسير الآية.
(5)
رواه الطبري في جامع البيان: النص (1232): تفسير الآية 87 من سورة البقرة.
(6)
الأنعام 35/.
(7)
الشعراء 4/.
قوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ} (253)؛ أي ولو شاء الله لم يقتتلوا مع اختلافهم بأن يأمر المؤمنين بالكفّ عن القتال، وبأن يلجئهم جميعا إلى ترك القتال، {(وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ)} من تقدير الاتّفاق والاختلاف وغير ذلك من ما توجبه الحكمة.
قوله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ؛} حثّ على الانفاق في الجهاد في سبيل الله.
وقيل: هو الأمر بالزكاة المفروضة. وقوله تعالى: {(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ)} يعني يوم القيامة {(لا بَيْعٌ فِيهِ)} أي ليس فيه فداء {(وَلا خُلَّةٌ)} أي ليس فيه خلّة لغير المؤمنين. وأما المؤمنون فتكون لهم خلّة كما قال تعالى: {الْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ}
(1)
.قوله تعالى: {(وَلا شَفاعَةٌ)} أي لغير المؤمنين، وأما المؤمنون فيشفع بعضهم لبعض ويشفع لهم الأنبياء والرسل عليهم السلام.
قوله تعالى: {وَالْكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ؛} (254)؛أي هم الذين ظلموا أنفسهم حتى لا خلّة لهم ولا شفاعة. وكان عطاء يقول: (الحمد لله الّذي لم يقل:
والظّالمون هم الكافرون؛ لأنّ كلّ كافر ظالم وليس كلّ ظالم كافرا).
قوله عز وجل: {اللهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ؛} ذكر وحدانية الله تعالى وصفته؛ ليعلم أنّ من كان بهذه الصفة لا يخفى عليه كفر من كفر ومعصية من عصى؛ فيجازي كلّ عابد على ما عمل. فأول هذه الآية نفي معبود الكفّار وإثبات معبود المؤمنين؛ وإثبات الشيء مع نفي غيره أبلغ في الإثبات، كأنه قال:(الله لا إله إلا هو) دون غيره، وهو المعبود لا معبود للخلق سواه.
ومعنى {(الْحَيُّ الْقَيُّومُ)} الدائم الذي لا يموت موصوف بالبقاء على الأبد، وبه حيّى كلّ حيّ. وأما القيوم فهو القائم بتدبير الخلق في شأنهم وأرزاقهم وأعمالهم وآجالهم ومجازاتهم على عملهم، وقيل: معنى القيوم العالم بالأمور من قولهم: فلان
(1)
الزخرف 67/.
يقوم بهذا الكتاب؛ أي يحسنه ويعلم ما فيه. وقيل: معنى {(الْحَيُّ الْقَيُّومُ)} الدائم الذي لا يزول.
قوله عز وجل: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ؛} أي لا يأخذه نعاس ولا نوم. والنّعاس: اسم لأوّل ما يدخل في الرأس من النوم قبل وصوله إلى القلب.
والنوم هو الذي يصل إلى القلب فيستثقل. ومعنى الآية: لا يغفل عن تدبير الخلق، فإن قيل: ما معنى نفي النوم بعد نفي النعاس؟ قلنا: مثل هذا اللفظ إنّما يكون لنفي قليل النوم وكثيره، ونظيره قول العرب: فلان لا يملك قليلا ولا كثيرا.
قوله تعالى: {لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ؛} أي هو مالك السموات والأرض وما فيهما، كلهم عبيده وإماؤه وتحت قبضته وقدرته.
قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ؛} هذا جواب عن قول المشركين في أصنامهم: {هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ}
(1)
و {ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى}
(2)
؛أي لا يشفع أحد لأحد عند الله إلا بأمره ورضائه، كما يشفع المؤمنون بعضهم لبعض بالدعاء، وكما يشفع الأنبياء للمؤمنين.
قوله تعالى: {يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ؛} أي {(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ)} من أمر الآخرة، {(وَما خَلْفَهُمْ)} من أمر الدنيا. قال مجاهد: على العكس من هذا
(3)
.وقيل: يعلم الغيب الذي تقدّمهم والذي يكون بعدهم.
قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ؛} أي لا يعلمون الغيب لا ممّا تقدّمهم ولا ممّا يكون بعدهم إلا بما شاء الله أن يعلموه، وهو ما أنبأ به الأنبياء صلوات الله عليهم.
قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؛} قال ابن عباس:
(كرسيّه: علمه)
(4)
،فلا يخفى عليه شيء ممّا في السّماوات والأرض. وقيل: وسعت
(1)
يونس 18/.
(2)
الزمر 3/.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4511).
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4515).
قدرته التي يمسك بها السموات والأرض. وقال الحسن: (الكرسيّ: هو العرش)، ويقال: هو سرير دون العرش، ويقال: هو مكان خلق الله فيه السموات والأرض.
وقال عطاء والكلبي ومقاتل: (السّماوات السّبع والأرضون السّبع تحت الكرسيّ في الصّغر كحلقة في فلاة).
وقال الكلبيّ: (يحمل العرش أربعة أملاك، لكلّ ملك أربعة أوجه؛ وجه إنسان، ووجه ثور، ووجه أسد، ووجه نسر. أقدامهم في الصخرة التي تحت الأرضين بمسيرة خمسمائة عام، وبين السماء السابعة وبين الكرسيّ مسيرة خمسمائة عام، والعرش فوق الماء).
قوله عز وجل: {وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما؛} أي لا يثقله ولا يشقّ عليه حفظ السموات والأرض، وقوله تعالى:{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (255)؛أي العليّ عن الأشباه والأمثال وصفات المحدثين، عظيم الشأن والسلطان والبرهان.
روى محمد بن الحنفية قال: (لمّا نزلت آية الكرسيّ خرّ كلّ صنم في دار الدّنيا؛ وخرّ كلّ ملك في الدّنيا على وجهه؛ وسقطت التّيجان عن رءوسهم، وهربت الشّياطين وضرب بعضهم على بعض حتّى اجتمعوا إلى إبليس فأخبروه بذلك، فأمرهم أن يبحثوا؛ فجاءوا إلى المدينة فبلغهم أنّ آية الكرسيّ نزلت).
وعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من قرأ آية الكرسيّ في دبر كلّ صلاة مكتوبة؛ أعطاه الله قلوب الشّاكرين وأعمال الصّدّيقين وثواب النّبيّين، وبسط على يمينه بالرّحمة، ولم يمنعه من دخول الجنّة إلاّ أن يموت فيدخلها، ومن قرأها حين يأخذ مضجعه أمّنه الله وجاره وجار جاره والدويرات حوله]
(1)
.
قوله عز وجل: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ؛} الآية، اختلف المفسرون في هذه الآية على ثلاثة أقوال؛ قال السديّ والضحّاك: (إنّ هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال
(1)
أخرجه الطبراني في الأوسط: ج 9 ص 31:الحديث (8064) عن أبي أمامة. والبيهقي في شعب الإيمان: الحديث (2395) عن علي رضي الله عنه وإسناده ضعيف. وعن أنس في الحديث (2396) وإسناده ضعيف.
المشركين، كما قال تعالى:{اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
(1)
،وكان القتال غير مباح في أوّل الإسلام إلى أن قامت عليهم الحجّة الصّحيحة بصحّة نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا عاندوا بعد البيان أمر الله المسلمين بقتالهم لقوله تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}
(2)
وغير ذلك من آيات القتال).
وقال الحسن وقتادة: (إنّ هذه الآية خاصّة في أهل الكتاب أن لا يكرهوا على الإسلام بعد أن يؤدّوا الجزية، وأمّا مشركو العرب فلا يقرّون بالجزية ولا يقبل منهم إلاّ الإسلام أو السّيف).
والقول الثالث: أن معناه: من دخل في الإسلام بمحاربة المسلمين ثم رضي بعد الحرب فليس بمكره؛ أي لا يقولوا لهم: إنّما أسلمتم كرها؛ فلا إسلام لكم.
ومعنى الآية: {(لا إِكْراهَ)} في الإسلام؛ أي لا تكرهوا على الإسلام، {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ؛} أي قد وضح الطريق المستقيم من الطريق الذي ليس بمستقيم بما أعطاه الله أنبياءه من المعجزات، فلا تكرهوا على (الدّين).ودخول الألف واللام في (الدّين) لتعريف المعهود.
قوله تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها؛} أي فمن يكفر بما أمر الله أن يكفر به، ويصدّق بالله وبما أمر به، فقد عقد لنفسه من الدين عقدا وثيقا لا تحلّه حجّة من الحجج لا انقطاع لها بالشبهة والشكوك. قوله تعالى:{وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (256)؛أي سميع لما يعقده الإنسان في أمر الدين، عالم بنيّته في ذلك.
والغيّ: نقيض الرّشد. والطاغوت: مأخوذ من الطّغيان، والطاغوت اسم للأصنام والشياطين وكلّ ما يعبد من دون الله تعالى.
قوله عز وجل: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ؛} معناه: الله وليّ المؤمنين في نصرهم وإظهارهم وهدايتهم في إقامة الحجة
(1)
فصلت 34/.
(2)
التوبة 5/.
في دينهم، ومتولّي خزانتهم على حسن عملهم، يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الهدى.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} (257)؛ معناه: والذين جحدوا توحيد الله أولياؤهم الذين يتولونهم الطاغوت.
ومعنى: {(يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ)،} ولم يكن لهم نور؛ قيل: أراد به اليهود والنصارى الذين كانوا على دين عيسى عليه السلام؛ خرجوا من التوحيد الذي كانوا فيه إلى الكفر بمحمّد صلى الله عليه وسلم.
وقوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ؛} أي ألم تعلم يا محمد بالذي جادل إبراهيم في ربه؛ أي هل رأيت كالذي {(حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ)} أي بأن أعطاه الله الملك وأعجب بملكه وسلطانه وهو نمرود بن كنعان أوّل من تجبّر في الأرض بادعاء الرّبوبيّة فخاصم إبراهيم في توحيده. وقيل: إنّ الهاء في قوله {(آتاهُ)} راجعة إلى إبراهيم عليه السلام، و {الْمُلْكَ)} هو النبوّة ووجوب طاعته على الناس
(1)
.
(1)
الضمير في (آتاهُ) فيه وجهان: أظهرهما: أن يعود على (الَّذِي) وهو قول جمهور المفسرين. وأجاز المهدوي أن يعود على (إِبْراهِيمَ)؛أي ملك النبوة.
قال ابن عطية: «هذا تحامل من التأويل» .وقال أبو حيان: «هذا قول المعتزلة، قالوا: لأن الله تعالى قال: لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ والملك عهد، ولقوله تبارك وتعالى: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النساء 54/].وعود الضمير إلى أقرب مذكور واجب، وأقرب مذكور إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وأجيب عن الأول: بأن الملك حصل لآل إبراهيم وليس فيها دلالة على حصوله لإبراهيم عليه الصلاة والسلام. وعن الثاني: بأن الذي حاجّ إبراهيم كان هو الملك، فعود الضمير إليه أولى».
ينظر: اللباب في علوم الكتاب: ج 4 ص 338،ابن عادل الدمشقي الحنبلي، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، ط 1 (1998).
قوله تعالى: {إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ؛} وذلك أن نمرود قال لإبراهيم: من ربّك؟ قال {(إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)} عند انقضاء الأجل. ف {قالَ؛} نمرود: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} قال إبراهيم: ائتني ببيان ذلك؟ فأتى برجلين من سجنه وجب عليهما القتل؛ فقتل أحدهما وترك الآخر.
فقال: هذا قد أحييته، وهذا قد أمتّه
(1)
. {قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ؛} أي تحيّر وانقطع بما ظهر عليه من الحجّة، {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ} (258)؛أي لا يرشد المشركين إلى دينه وحجّته.
فإن قيل: لم لم يثبت إبراهيم على الحجّة الأولى؛ والانتقال من الحجة إلى حجّة أخرى في المناظرة غير محمود؟ قيل: عنه أجوبة:
أحدها: أن إبراهيم كان داعيا ولم يكن مناظرا، فمى كان يراه أقرب إلى الهداية أخذ به.
والثاني: أنه روي أنه قال لنمرود: إنك أمتّ الحيّ ولم تحيي الميّت، والانتقال بعد الإلزام محمود.
والثالث: أن نمرود كان عالما أن ما ذكره ليس بمعارضة وكان من حوله من أصحابه يوقنون بكذبه في قوله: {(أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)} لكن أراد التمويه على أغمار
(2)
قومه كما قال فرعون للسحرة حين آمنوا: أن هذا المكر مكرتموه في المدينة، كذلك فعل نمرود بقوله:{(أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)} .فترك إبراهيم إطالة الكلام، وعدل إلى حجّة مسكتة لا يمكنه التمويه فيها.
فإن قيل: فهلاّ قال نمرود لإبراهيم: إن مجيء الشمس هو العادة؟ فقل لربك حتى يأتي بها من المغرب! قيل: علم لما رأى من المعجزات التي ظهرت أنه لو سأله
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4582) عن قتادة، والنص (4583) عن مجاهد، والنص (4584) عن زيد بن أسلم.
(2)
في لسان العرب: (غمر)؛قال: «المغمّر من الرجال: إذا استجهله الناس» .
ذلك لأتى به، فكان يزداد فضيحة عند الناس. وقيل: خذله عن هذا القول، فلم يوفّق للسؤال.
قوله تعالى: {(فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)} البهت في اللغة: هي مواجهة الرجل بالكذب عليه؛ يقال: بهت يبهت بهتانا، وباهت يباهت مباهتة. وفي الحديث:[إنّ اليهود قوم بهت]
(1)
أي كذبة. والبهت الحيرة عند انقطاع الحجة أيضا. وفيه لغات: بهت وبهت وبهت، وأجودها بهت بضمّ الباء.
قوله عز وجل: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها؛} عطف هذه الآية على معنى الكلام الأول لا على اللفظ، كأنه قال: أرأيت كالذي {(حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ)} {(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ)} .
قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في عزير بن شريحيّا، وكان من علماء بني إسرائيل، سباه بخت نصّر من بيت المقدس إلى أرض بابل حين سلّطه الله عليه فخرّب بيت المقدس، فخرج عزير في أرض بابل ذات يوم على حمار، فمرّ بدير هرقل على شاطئ دجلة، فطاف بالقرية فلم ير بها ساكنا وعامّة شجرها حامل، فجعل يتعجّب من خراب القرية وموت أهلها وكثرة حملها وهي ساقطة على سقوفها. وذلك أنّ السّقف يقع قبل الحيطان، ثمّ تقع الحيطان عليه. فأخذ شيئا من التّين والعنب، وعصر العنب فشرب منه، ثمّ جعل فضل التّين في سلّة وفضل العنب في الأخرى وفضل العصير في الزّقّ، ثمّ نظر إلى القرية ف {قالَ أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها؛} أي كيف يحيي الله هذه القرية بعد خرابها وموت أهلها!؟
لم يكن هذا القول منه إنكارا للبعث، لكن أحبّ أن يرى كيف يحيي الله الموتى فيزداد بصيرة في إيمانه، فنام في ذلك الدّير؛ {فَأَماتَهُ اللهُ} في منامه؛ {مِائَةَ عامٍ؛} وأعمى عنه السّباع والطّير، ثمّ أحياه فنودي: يا عزير: (كم لبثت)؟ وكان أميت في صدر النّهار، {ثُمَّ بَعَثَهُ؛} بعد مائة سنة في آخر النّهار،
(1)
شطر من حديث طويل؛ أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب أحاديث الأنبياء: الحديث (3329) عن أنس رضي الله عنه.
فظنّ أنّ مقدار لبثه يوم، {قالَ كَمْ لَبِثْتَ؟} ف {قالَ لَبِثْتُ يَوْماً،} فلمّا نظر إلى الشّمس قد بقي منها شيء، فقال:{أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ؛} فنودي؟.
{قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ؛} ميتا، {فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ،} من التّين والعنب، {وَشَرابِكَ،} العصير، {لَمْ يَتَسَنَّهْ؛} أي لم يتغيّر طعمها بعد مائة عام ولم تغيّرها السّنون؛ فنظر فإذا بالعنب والتّين كما شاهده وبالعصير طريّا.
ثمّ قيل له: {وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ؛} فنظر فإذا هو عظام بيض تلوح قد تفرّقت أوصاله، فسمع صوتا:(أيّتها العظام البالية إنّي جاعل فيكنّ روحا فاجتمعن) فارتهشت العظام وسعى بعضها إلى بعض، قال: فرأيت الصّلب يسعى كلّ فقرة منها إلى صاحبتها، ثمّ رأيت الوركين يسعيان إلى مكانهما؛ والسّاقين إلى مكانهما؛ والعطفين
(1)
إلى مكانهما، ثمّ رأيت كلّ الأضلاع يسعى كلّ واحد منهم إلى فقرته، ثمّ رأيت الكعبين سعيا إلى مكانهما؛ والذّراعين إلى مكانهما، ثمّ رأيت العنق يسعى كلّ فقرة منه إلى صاحبتها، ثمّ جاء الرّأس إلى مكانه، ثمّ رأيت العصب والعروق واللّحم ألقي عليه، ثمّ بسط عليه الجلد، ثمّ دري عليه الشّعر، ثمّ نفخ فيه الرّوح، فإذا هو قائم ينهق. فخرّ عزير ساجدا لله تعالى؛ وقال عند ذلك:{(أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .قال ذلك حين تبيّن له من كمال القدرة البلاء في حماره؛ والموت في نفسه؛ والبقاء في العنب والعصير اللّذين هما من أسرع الأشياء فسادا أو تغيّرا، ثمّ مشاهدة البعث بعد الموت
(2)
.
قال ابن عباس: (وبعث وهو شابّ ابن أربعين سنة على السّنّ الّذي أميت عليها، وكان ابنه في ذلك الوقت ابن عشرين سنة، فصار لابنه مائة وعشرون سنة، ولعزير أربعين سنة على السّنّ الّتي أميت عليها، فذلك قوله تعالى:{وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ؛} ثمّ إنّه رجع إلى بني إسرائيل وهو يقرأ التّوراة كلّها عن ظهر قلبه، فأملاها عليهم لم يخرم منها حرفا واحدا، وكانت التّوراة قد ذهبت عنهم،
(1)
العطف: المنكب، وعطفا الدابّة والرّجل: جانباه من لدن رأسه إلى وركه.
(2)
أخرج معناه الطبري في تفسير الآية بأسانيد عن ابن عباس ووهب بن منبه.
فجاءهم رجل من بني إسرائيل فانتسب لهم فعرفوه، قال: أخبرني جدّي أنّه قال:
دفنت التّوراة يوم سبينا في خابئة كرمي، فأروه كرم جدّه فأخرج التّوراة فعارضوها بما أملاها عزير فما اختلافا في حرف واحد، فتعجّبوا من كثرة علمه وحداثة سنّه، فقال بعضهم: عزير ابن الله).
وقال الحسن وقتادة والربيع: (إنّ القرية المذكورة في هذه الآية هي بيت المقدس بعد ما خرّبه بخت نصّر)
(1)
.وكان وهب بن منبه يقول: (كان المارّ بهذه القرية أرميا النّبيّ عليه السلام
(2)
.
وقيل: معنى {(خاوِيَةٌ)} أي خالية لا أنيس فيها، يقال: خوت الدار إذا خلت، وخوي البطن إذا جاع. وسمي السقف عرشا لارتفاعه عن أرضه، ويسمى السرير عرشا لارتفاعه عن الأرض.
قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً،} {(نُنْشِزُها)} من قرأ بالراء المهملة فمعناه يحيها من النّشر؛ يقال: أنشره الله إذا أحياه، ومنه قوله تعالى:{ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ}
(3)
.ومن قرأ {(نُنْشِزُها)} بالزاء المعجمة فمعناه يرفعها ويعلي بعضها على بعض من النّشز وهو المكان المرتفع، ومنه نشوز المرأة على زوجها: ترفّعها عن طاعته.
قوله تعالى: {فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ؛} من قرأ {(أَعْلَمُ)} بقطع الألف؛ أي قال عزير: علمت مشاهدة ما كنت أعلمه غيبا. ومن قرأ {(أَعْلَمُ)} بالوصل فمعناه قال لنفسه: {(أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ)} {عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (259).
قوله عز وجل: {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي؛} تقدير الآية: ألم تر إذ قال إبراهيم؛ ويقال:
واذكر إذ قال إبراهيم. قال ابن عباس: «سبب هذه القصّة: أنّ إبراهيم عليه السلام مرّ بجيفة
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4610) عن الربيع، وعن عكرمة في النص (4609).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4609 و 4606).
(3)
عبس 22/.
على ساحل البحر، تنقضّ عليها طيور السّماء فتأخذ منها بأفواهها فتأكله، ويسقط من أفواهها في البحر فيأكل منه الحيتان، وتجيء السّباع فتأخذ منه عضوا. فوقف متعجّبا!! وقال:{(رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى. قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ)} أي أولم تصدّق بأنّي أحيي الموتى؟ (قال بلى) عرفت، ولكن أحببت أن أعلم كيف تحيي هذه النّفس الّتي أرى بعضها في بطون السّباع؛ وبعضها في بطون الحيتان؛ وبعضها في حواصل الطّير. فذلك قوله تعالى:{(وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي».وقيل: معنى {(وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)} أي ليسكن قلبي أنك الذي أعطيتني ما سألتك. وقيل: إنك اتّخذتني خليلا.
{قالَ؛} الله تعالى: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً؛} وذلك أنّ إبراهيم عليه السلام لما مرّ بالجيفة وقد توزّعتها الطيور والسباع والحيتان، تعجّب وقال: يا رب قد علمت بأنك تجمعها من بطون السباع وحواصل الطير وبطون الحيتان، فأرني كيف تحييها لأعاين ذلك فأزداد يقينا؟ قال الله تعالى له:{(أَوَلَمْ تُؤْمِنْ. قالَ بَلى)} يا رب آمنت وليس الخبر كالمعاينة والمشاهدة.
وقال ابن زيد: (مرّ إبراهيم عليه السلام بحوت ميت نصفه في البحر ونصفه في البرّ، فما كان في البحر فدوابّ البحر تأكله، وما كان في البرّ فدوابّ البرّ تأكله، فقال إبليس لعنة الله عليه: يا إبراهيم، متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟! فقال: {(رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى. قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ. قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)} بذهاب وسوسة الشّيطان ويصير الشّيطان خاسئا صاغرا).
وروي أنّ نمرود قال لإبراهيم: أنت تزعم أن ربك يحيي الموتى وتدعوني إلى عبادته، فقل له يحيي الموتى إن كان قادرا، وإلاّ أقتلك. فقال إبراهيم:{(رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى. قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ)} بأني أحييهم، ف {(قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)} بقوة حجّتي ونجاتي من القتل، فإنّ عدوّ الله توعّدني بالقتل إن لم تحيي له ميتا.
وقال ابن عباس وابن جبير والسديّ: (لمّا اتّخذ الله إبراهيم خليلا، سأل ملك الموت ربّه أن يأذن له فيبشّر إبراهيم بذلك، فأذن له، فأتى إلى إبراهيم وقال: يا إبراهيم، جئت أبشّرك بأنّ الله اتّخذك خليلا، فحمد الله تعالى؛ وقال: ما علامة
ذلك؟ قال: أن يجيب الله دعاءك ويحيي الموتى بسؤالك. ثمّ انطلق ملك الموت، فقال إبراهيم:{(رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى. قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ. قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)} أي ليعلم أنّك تجيبني إذا دعوتك، وتعطيني إذا سألتك وإنّك اتّخذتني خليلا).
روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يرحم الله إبراهيم عليه السلام نحن أحقّ بالشّكّ منه]
(1)
يعني إنّما شكّ إبراهيم أيجيبه ربه إلى ما سأل أم لا؟
قوله تعالى: {(فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ)} مختلفة أجناسها وطباعها ليكون أبلغ في القدرة، وخصّ الطير من سائر الحيوان لخاصيّة الطيران. واختلفوا في تلك الأربعة من الطيور؛ فقال ابن عباس:(أخذ طاووسا ونسرا وغرابا وديكا).وقال مجاهد وابن جريج: (أخذ غرابا وديكا وطاووسا وحمامة).وعن أبي هريرة: (أنّه أخذ الطّاوس والدّيك والغرنوق والحمامة).وقال عطاء: (أخذ قطاة خضرا وغرابا أسودا وحمامة بيضاء وديكا أحمر).
قوله تعالى: {(فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ)} قرأ عليّ رضي الله عنه وأبو الأسود والحسن وعكرمة والأعرج وشيبة ونافع وابن كثير وابن عامر وعاصم والكسائيّ وأبو عمرو ويعقوب وأيوب: {(فَصُرْهُنَّ)} بضمّ الصاد، معناه: أملهنّ إليك. يقال: صرت الشيء أصوره؛ أي أملته. ويقال: رجل أصور إذا كان مائل العنق. ويقال: إني إليكم لأصور؛ أي لمائل مشتاق، وامرأة صوراء أي مشتاقة مائلة. قال الشاعر
(2)
:
الله يعلم أنّا في تلفّتنا
…
يوم الفراق إلى جيراننا صور
وقال عطاء والمورج وعطية: (معنى {(فَصُرْهُنَّ)} أي اجمعهنّ واضممهنّ إليك).يقال: صار يصور صورا إذا جمع. قال أبو عبيد وابن الأنباري: (معنى {(فَصُرْهُنَّ)} أي قطّعهنّ ومزّقهنّ، يقال: صار يصير صيرا إذا قطّع؛ وانصار الشّيء
(1)
رواه البخاري في الصحيح: كتاب الأنبياء: باب قول الله عز وجل: وَنَبِّئْهُمْ: الحديث (3372)،وكتاب التفسير: الحديث (5437).
(2)
البيت في لسان العرب: (صور):ج 7 ص 439،وهو من شواهد النحويين، قائله أبو إسحاق، إبراهيم بن هرمة، عاش الفترتين الأموية والعباسية، (80 - 176) من الهجرة. وهو عند الطبري والقرطبي:(تلفتنا) بدل (تقلبنا)،وعند الطبري وفي اللسان:(إلى أحبابنا) بدل (إلى جيراننا).
ينصار انصيارا إذا انقطع).وأنشد بعضهم بيتا في اللّغز:
وغلام رأيته صار كلبا
…
ثمّ في ساعتين صار غزالا
أي قطع.
وقرأ علقمة وسعيد بن جبير وقتادة ويحيى بن وثّاب والأعمش وخلف:
«(فَصرْهُنَّ)» بكسر الصّاد، معناه قطّعهنّ. قال أبو العباس السرّاج:(هما لغتان للعرب).وعن ابن عباس روايتان؛ إحداهما: «(فَصرْهُنَّ)» مفتوحة الصاد مشدّدة الراء مكسورة من التّصرية وهي الجمع ومنه المصرّاة. والأخرى: {(فَصُرْهُنَّ)} بضم الصاد وفتح الراء والتشديد من الصّرّ وهي في معنى الجمع.
فمن تأوّله على القطع والتمزيق ففيه تقديم وتأخير، تقديره: فخذ أربعة من الطير إليك، فصرّهنّ. ومن تأوّله على الضمّ والإمالة؛ ففيه إضمار معناه: فصرّهنّ إليك ثم قطّعهن، فحذفه واكتفى بقوله:{(ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً)} لأنه يدلّ عليه، وهذا كما قال: خذ هذا الثوب واجعل منه على كلّ رمح علما.
قوله تعالى: {(ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً)} لفظه عامّ ومعناه خاصّ؛ لأنّ {(أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ)} لا تبلغ الجبال كلّها، ولا كان إبراهيم يصل إلى ذلك، وهذا كقوله تعالى:{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}
(1)
وقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ}
(2)
.وقوله: {(جُزْءاً)} قرئ برفع الزاء مثقل بالهمزة مخفّفا وهي لغات.
وقال المفسرون: أمر الله إبراهيم أن يذبح تلك الطيور وينتف ريشها ويقطّعها ويفرّق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها بعضها ببعض، ففعل إبراهيم ذلك، ثم أمر أن يجعل أجزاءها على الجبال. واختلفوا في عدد الأجزاء والجبال، فقال ابن عباس وقتادة والربيع:(أمر أن يجعل كلّ طائر أربعة أجزاء ثمّ يعمد إلى أربعة أجبل، فيجعل على كلّ جبل ربعا من كلّ طائر، ثمّ يدعوهنّ: تعالين بإذن الله).وهذا مثل ضربه الله لإبراهيم وأراه إيّاه، يقول: كما بعثت الطيور من هذه الجبال الأربعة يبعث الناس يوم القيامة من بقاع الأرض ونواحيها.
(1)
النمل 23/.
(2)
الأحقاف 25/.
وقال ابن جريج والسديّ: (جزّأها سبعة أجزاء ووضعها على سبعة أجبال، وأمسك رءوسهنّ عنده ثمّ دعاهنّ: تعالين بإذن الله، فجعل الرّيش كلّ ريشة تطير إلى الأخرى، وكلّ قطرة من الدّم تطير إلى الأخرى، وكلّ عظم يطير إلى الآخر، وكلّ قطعة تطير إلى الأخرى، وإبراهيم ينظر حتّى التقت كلّ جثّة بعضها إلى بعض حتّى سوّاهنّ الله تعالى. ثمّ جئن يسعين على أرجلهنّ بغير رءوس، فعلّق عليهنّ إبراهيم رءوسهنّ).
واختلفوا في معنى السّعي؛ قال بعضهم: هو الإسراع في المشي. وقال بعضهم:
مشيا على أرجلهن. والحكمة في المشي دون الطيران كونه أبلغ في الحجّة وأبعد من الشبهة؛ لأنّها لو طارت لتوهّم متوهّم أنّها غير تلك الطيور، أو أنّ أرجلها غير سليمة.
قال أبو الحسن الأقطع: (صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: [لكلّ آية ظهر وبطن]
(1)
فظاهر هذه الآية ما ذكره المفسّرون، وباطنها أنّ إبراهيم أمر بذبح أربعة أشياء في نفسه بسكّين اليأس كما ذبح في الظّاهر الأربعة الطّيور بسكّين الحديد، فالنّسر مثّل لطول العمر والأمل؛ والطّاوس زينة الدّنيا وبهجتها، والغراب الحرص؛ والدّيك الشّهوة).
قوله تعالى: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (260)؛أي غالب على كلّ شيء لا يمتنع عليه ما يريد؛ {(حَكِيمٌ} فيما يريد لا يفعل إلا ما فيه حكمة، قال بعضهم: كانت هذه القصة قبل أن يولد لإبراهيم ولد؛ وقبل أن تنزل عليه الصّحف، وكان يومئذ ابن خمس وتسعين سنة.
(1)
الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكلّ آية منها ظهر وبطن].أخرجه الطبري في جامع البيان: المقدمة: الحديث (9)،وفيه انقطاع، ومن طريق موصول. وابن حبان في الصحيح (الإحسان):كتاب العلم: الحديث (75).وحسّنه الشيخ شعيب حفظه الله، ثم علق التحسين بشرطه.
وقطعا لا يذهب النابه إلى مقولة البعض الذين يقولون بالظاهر الذي يعلمه علماء المسلمين والباطن الذي يعرفه أهل الحقيقة. فإن هذا من التلاعب وضرب من التقوّل أو العبث بدلالات الألفاظ لا على أصول معتبرة أو قواعد العلم الشرعي ولسان العرب.
قوله عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ؛} وجه اتصال هذه الآية بما قبلها آية أخرى فيما تقدّم ذكر النفقة في الجهاد بقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً}
(1)
،ثم ذكر ما كان من مسألة قوم أشمويل من الله أن يبعث له ملكا يقاتلون معه أعداءهم، وكانت الغلبة لهم مع قلّة عددهم، ثم عقّبه الله تعالى بذكر أمور تدلّ على وحدانيّته، فبيّن أنّ الكفر بعد هذه الآيات أعظم وأشنع، فمن كفر بعد هذا فقاتلوه وأنفقوا في القتال، فإنّ النفقة في القتال تكون بسبعمائة.
وعن ابن عبّاس: (نزلت هذه الآية والّتي بعدها في شأن عثمان بن عفّان وعبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنهما. أمّا عثمان فجاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقال: عليّ جهاز من لا جهاز له، وأشتري بئر رومة وأجعلها سبيلا للمسلمين. وأمّا عبد الرّحمن فكان له ثمانية آلاف، فجاء بأربعة آلاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ لي ثمانية آلاف؛ أمسكت نصفها لنفسي ولعيالي؛ وأقرضت نصفها لربي وهي هذه. فقال صلى الله عليه وسلم: [بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت] وأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبضت منه)
(2)
.
ومعنى الآية: صفة {(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي)} طاعة الله كصفة (حبّة) ألقيت في الأرض وأخرجت {(سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ)} أي كما تكون الحبّة واحدة والمكتسب منها سبعمائة، فكذلك النفقة تكون واحدة والمكتسب بها سبعمائة ضعف.
قوله تعالى: {وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ؛} أي كما يضاعف الله في زرع الزّرّاع الحادث من البذر الجيّد في الأرض العامرة، كذلك يضاعف للمرء الصالح
(1)
البقرة 245/.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: تفسير الآية 79 من سورة التوبة: الحديث (13220 - 13233).في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: ج 7 ص 32؛قال الهيثمي: «رواه البزار من طريقين؛ أحدهما متصلة عن أبي هريرة، والأخرى مرسلة» .وفي فتح الباري شرح صحيح البخاري: شرح الحديث (4668)؛ قال ابن حجر: «وأصح الطرق فيه ثمانية ألف درهم» .
ثواب صدقته بالمال الطيّب إذا وضعه في موضعه. يضاعف لمن يشاء من السّبع إلى السّبعين إلى سبعمائة إلى مائة ألف إلى ما شاء الله من الأضعاف ممّا لا يعلمه إلا هو.
قوله تعالى: {وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} (261)؛أي غنيّ بتلك الأضعاف (عليم) بمن ينفق. وقيل: معناه: {(وَاللهُ واسِعٌ)} الفضل، جواد لا ينقصه ما يتفضّل به من السّعة والمضاعفة؛ {(عَلِيمٌ)} بمن يستحقّ الزيادة.
والفائدة في تخصيص السبع في الآية ما قالوا: إنّ السّبع أشرف الأعداد كما روي عن ابن عبّاس أنه قال: (كادت الأشياء تكون كلّها سبعا؛ فإنّ السّماوات سبع؛ والأرضون سبع؛ والكواكب السّيّارة سبع؛ والبحار سبعة؛ وأيّام الأسبوع سبعة؛ وسجود العبد على سبعة أعضاء).
وأجمع أهل التفسير إلا السديّ: أنّ العدّة المضاعفة بسبعمائة مختصّة بالإنفاق في الجهاد؛ وأما غير ذلك من الطاعات؛ فالحسنة بعشر أمثالها كما قال الله تعالى: {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها}
(1)
.
قوله عز وجل: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً؛} نزلت في شأن النفقة التي يستحقّ بها الثواب المضاعف؛ معناه: {(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي)} طاعة الله {(ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا)} على السائل نحو أن يقول للسائل إذا وقع بينه وبينه خصومة: أعطيتك كذا، وأحسنت إليك، وما أشبهه مما يبغض على السائل. وأصله من القطع؛ يقال: مننت الشيء إذا قطعته؛ ومنه قوله تعالى: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}
(2)
أي غير مقطوع، ويقال: جبل منين؛ أي مقطوع. وقيل: أصل المنّة النعمة، يقال: منّ (يمنّ) إذا أعطى وأنعم، قال الله تعالى:
{هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ}
(3)
أي أعط أو أمسك.
وقال الكلبيّ: (نزلت هذه الآية في عثمان وعبد الرّحمن بن عوف، أمّا عثمان رضي الله عنه فجهّز المسلمين في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وأحمالها).وروي أن عثمان جاء بألف مثقال في جيش العسرة فصبّها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان صلى الله عليه وسلم يدخل
(1)
الأنعام 160/.
(2)
التين 6/.
(3)
ص 39/.
يده فيها ويقلّبها ويقول: [ما يضرّ عثمان ماذا عمل بعد اليوم]
(1)
.وقال أبو سعيد الخدري: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعا يديه يدعو لعثمان ويقول: [يا رب، عثمان رضيت عنه فارض عنه] فما زال يدعو رافعا يديه حتّى طلع الفجر، فأنزل الله هذه الآية)
(2)
.وأما عبد الرحمن بن عوف فقد ذكرنا صدقته.
قوله تعالى: {(وَلا أَذىً)} أي لا يؤذي السائل؛ لا يعيّره ولا يزجره؛ نحو أن يقول: أنت أبدا في فقر وما أبلانا بك، وأراحنا الله منك، وأعطيناك فما شكرت، وما أشبه ذلك. قال صلى الله عليه وسلم:[المانّ بما يعطي لا يكلّمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه ولا يزكّيه وله عذاب أليم]
(3)
فحظر الله المنّ بالصّنيعة على عباده واختصّ به صفة لنفسه؛ لأنه من العبد تعيير وتكدير؛ ومن الله تعالى إفضال وتذكير. قال بعضهم:
أفسدت بالمنّ ما قدّمت من حسن
…
ليس الكريم إذا أعطى بمنّان
قوله تعالى: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (262)؛أي {(لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)} فيما يستقبلهم من أهوال يوم القيامة، {(وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)} على ما خلّفوا في الدّنيا.
قوله تعالى: {*قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً؛} أي كلام حسن وردّ جميل على السائل ولطف به ودعاء له بالسعة؛ وتجاوز عن مظلمة؛ وعدة حسنة {(خَيْرٌ)} عند الله {(مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً)} لأن الصدقة إذا أتبعها الأذى ذهب المال والثواب جميعا. وقال الضحّاك: (معنى الآية: قول في إصلاح ذات البين).
(1)
رواه الترمذي في الجامع: أبواب المناقب: الحديث (3700 و 3701).وأخرجه الطبراني في الأوسط: الحديث (5911 و 9222).
(2)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 3 ص 306.
(3)
أخرجه بمعناه مسلم في الصحيح: كتاب الإيمان: باب غلظ تحريم إسبال الإزار: الحديث (106/ 171).وأبو داود في السنن: كتاب اللباس: باب ما جاء في إسبال الإزار: الحديث (4087).
قوله: {(وَمَغْفِرَةٌ)} ؛قال ابن جرير: (ومعنى {(مَغْفِرَةٌ)} أي ستر منه عليه لما علم من خلّته وفاقته)
(1)
.وقيل: يتجاوز عن السائل إذا استطال عليه عند ردّه؛ علم الله أنّ الفقير إذا ردّ بغير شيء شقّ عليه ذلك، فربّما دعاه ذلك إلى بذاءة اللسان وإظهار الشكوى، وعلم ما يلحق المانع منه فحثّه على العفو والصّفح.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إذا سأل السّائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتّى يفرغ منها، ثمّ ردّوها عليه بوقار ولين وببذل يسير أو ردّ جميل، فإنّه قد يأتيكم من ليس بإنس ولا جانّ ينظر كيف صنعكم فيما خوّلكم الله من النّعم]
(2)
.
قوله عز وجل: {وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} (262)؛أي {(غَنِيٌّ)} عن صدقات العباد، {(حَلِيمٌ)} إذا لم يعجّل بالعقوبة على الذي «منّ»
(3)
بصدقته. روى بشر بن الحارث؛ قال: رأيت عليّا رضي الله عنه في المنام، فقلت له: يا أمير المؤمنين، تقول شيئا لعلّ الله ينفع به؟ فقال لي: ما أحسن عطف الأغنياء على الفقراء رغبة في ثواب الله عز وجل، وأحسن منه صبر الفقراء عن الأغنياء ثقة بالله عز وجل.
قوله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛} أي تبطلوا صدقاتكم بذلك كإبطال من ينفق ماله مراءاة وسمعة ليروا نفقته ويقال: إنه سخيّ كريم صالح، يعني بذلك المنافق الذي ينفق ماله لا رغبة في الثواب ولا رهبة من العقاب، بل خوفا من الناس ورياء لهم أنه مؤمن. {فَمَثَلُهُ؛} أي مثل نفقة هذا المنافق المرائي؛ {كَمَثَلِ صَفْوانٍ؛} أي كحجر أملس؛ {عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ؛} أي مطر كثير شديد الوقع فذهب بالتراب الذي كان «على» الحجر، وبقي الحجر يابسا لا شيء عليه.
قوله تعالى: {فَتَرَكَهُ صَلْداً؛} أي حجرا صلبا أملسا لا يبقى عليه شيء، وهو من الأرض ما لا ينبت، ومن الرءوس ما لا شعر عليه. قال رؤبة:
(1)
جامع البيان: مج 3 ص 89: تفسير الآية. وفيه: «من خلقته وسوء حالته» .
(2)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 3 ص 310؛ قال القرطبي: «روي عن عمر رضي الله عنه» .
(3)
سقطت من أصل المخطوط، وتقتضيها ضرورة السياق.
…
برّاق أصلاد الجبين الأجله
(1)
وهذا مثل ضربه الله لنفقة المنافق والمرائي والمؤمن الذي يمنّ بصدقته ويؤذي؛ يعني أنّ الناس يرون أن لهؤلاء أعمالا كما ترى التراب على هذا الصّفوان، وإذا كان يوم القيامة اضمحلّ وبطل؛ لأنه لم يكن لله كما أذهب الوابل ما كان على الصّفوان من التراب، {(فَتَرَكَهُ صَلْداً)} لا شيء عليه.
قوله تعالى: {لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمّا كَسَبُوا؛} أي لا يقدر المانّ بنفقته والمؤذي والمنافق على ثواب شيء مما أنفقوا، كما لا يقدر أحد من الخلق على التراب الذي كان على الحجر الأملس بعد ما أذهبه المطر الشديد.
قوله تعالى: {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ} (264)؛أي لا يهديهم حتى يخلصوا أعمالهم. وقيل: لا يهديهم بالمثوبة لهم كما يهدي المؤمنين.
وأصل الوابل من الوبيل وهو الشديد كما قال تعالى: {أَخْذاً وَبِيلاً}
(2)
.ويقال:
وبلت السّماء تبل؛ إذا اشتدّ مطرها. والصّلد: الحجر الأملس الصلب، ويسمى البخيل صلدا تشبيها له بالحجر في أنه لا يخرج منه شيء. ويقال للأرض التي لا تنبت شيئا:
صلدا، وصلد الزّند صلودا إذ لم يور نارا.
وفي الآية دلالة على أنّ الصدقة وسائر القرب إذا لم تكن خالصة لله تعالى لا يتعلّق بها الثواب، ويكون فاعلها كمن لا يفعل؛ ولهذا قال أصحابنا: لا يجوز الاستئجار على الحجّ وسائر الأفعال التي من شرطها أن تفعل على وجه القربة؛ لأن أخذ الأجرة عليها يخرجها من أن تكون قربة.
ثم ضرب جلّ ذكره لنفقة المخلصين المثيبين مثلا آخر أعلى من المثل الأول فقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ؛} أي
(1)
بيت من الرجز في ديوان رؤبة بن العجاج، طبعة ليبسك، ص 165. (ولأجله) من (الجله) أشد من الحلج، وهو ذهاب الشّعر من مقدم الجبين.
(2)
المزمل 16/.
صفة الذين ينفقون أموالهم لطلب رضا الله تصديقا وحقيقة. قال الشعبيّ والكلبي والضحّاك: (يعني تصديقا من أنفسهم، يخرجون الزّكاة طيّبة بها نفوسهم).وقال السديّ وأبو صالح وأبو روق: (معناه ويقينا من أنفسهم؛ أي على يقين بإخلاف الله عليهم).وقال قتادة: (معناه: واحتسابا، وقيل: ثقة بالله).وقال مجاهد: (معناه:
يتثبّتون).قال الحسن: (كان الرّجل إذا همّ بصدقة ثبت؛ فإن كان لله أمضاه، وإن خالطه شكّ أمسك).وقال ابن كيسان: (معناه: إخلاصا وتوطّنا لأنفسهم على طاعة الله).وقال سعيد بن جبير: (وتحقيقا في دينهم).
قوله: {(كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ)} أي كصفة بستان بمكان مرتفع أصابها مطر كثير شديد، فآتت ثمرتها ضعفين في الحمل. قال عطاء:
(حملت في سنة ما يحمل غيرها في سنتين).وقال عكرمة: (حملت في السّنة مرّتين).قال الفرّاء: (إذا كان في البستان نخل فهو جنّة، وإذا كان فيه كرم فهو فردوس).
وقرأ مجاهد: {(كَمَثَلِ حَبَّةٍ)} بالحاء والباء. وقرأ السلمي والعطارديّ والحسن وعاصم وابن عامر: {(بِرَبْوَةٍ)} بفتح الراء هنا وفي سورة المؤمنين وهي لغة بني تميم.
وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وابن كثير والأعمش وحمزة والكسائيّ وأبو عمرو ويعقوب وأيوب: «(بِربْوَةٍ)» بضمّ الراء فيهما، واختاره أبو عبيدة لأنها أكثر اللّغات وأشهرها. وقرأ ابن عباس وأبو إسحاق:«(بِربْوَةٍ)» بكسر الراء. وقرأ أشهب العقيليّ:
«(برباوة)» بالألف وكسر الراء. وهنّ جميعا للمكان المرتفع المستوي، والمطر على الرّوابي أشدّ ونبتها أحسن، وإنما سميت ربوة لأنّها ربت وعلت فغلظت، من قوله ربى الشيء يربو إذا عظم.
قوله تعالى: {(أُكُلَها)} .قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف، وقرأ الباقون بضمّ الكاف. والأكل هو الثمر وهو اسم لما يؤكل.
قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ؛} أي فطلّ، والطلّ أضعف المطر مثل الرّذاذ وهو المطر الدائم الصّغار القطر لا يكاد يسيل منه الميازيب، كذلك
المنفق لوجه الله إن كانت نفقته كثيرة فثوابها كثير، وإن كانت قليلة شيئا بعد شيء فبعددها.
وقال السديّ: (الطّلّ هو النّدى).وروي عن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {(فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ)} قال: (هي أرض مصر إن لم يصبها مطر زكت أي أنبتت، وإن أصابها مطر أضعفت أي آتت ضعف ذلك).وهذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن المخلص، يقول: كما أنّ هذه الجنة تصلح في كلّ حال ولا تخلف ولا تخيّب صاحبها، سواء أقلّ المطر أم كثر، كذلك يضاعف الله ثواب صدقة المؤمن المخلص الذي لا يمنّ ولا يؤذي؛ سواء أقلّت صدقته أو كثرت ولا يخيب بحاله، {وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (265)؛أي بصير بما يعملونه من الرياء والإخلاص؛ يجزيكم على قدر نيّاتكم.
قوله عز وجل: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ؛} الآية، هذا استفهام في الظاهر يقتضي في الحقيقة تقديرا: أي لا يودّ أحدكم كقوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً}
(1)
.ومعنى الآية: يتمنّى أحدكم أن يكون له بستان من نخيل وكرم؛ تجري من تحت شجرها ومساكنها وغرفها الأنهار، له في الجنة من ألوان الثمار كلّها، وأصابه الهرم والضعف وله أولاد ضعاف عجزة عن الحيلة، {فَأَصابَها إِعْصارٌ،} يعني تلك الجنة. والإعصار: ريح عاصف تهبّ به من الأرض بالشدة كالعمود إلى نحو السماء، وتسميها العرب الزّوبعة، وسميت إعصارا لأنّها تعلو كثوب عصر.
قوله تعالى: {فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ؛} أي الجنة. وهذا مثل ضربه الله لنفقة المنافق والمرائي، تقول عمل هذا المرائي في حسنه كحسن الجنة ينتفع بها كما ينتفع صاحب الجنة، فإذا كبر وضعف فصار له أولاد صغار ضعاف، أصاب جنته إعصار فيه نار، فاحترقت عند ما هو أحوج إليها وضعف عن إصلاحها لكبره وضعف أولاده
(1)
الحجرات 12/.
عن إصلاحها لصغرهم؛ وعجزه وعجزهم من أن يغرسوا مثلها، لا يردّ عليه شبابه وقوته ليغرس، فيحزن ويغتمّ ويهلك أسفا وتحسّرا على ذلك، فلا هو يجد شيئا يعيشه ولا مع أولاده شيء يعودون به عليه، فبقي هو وأولاده فقراء عجزة متحيرين لا يقدرون على حيلة، فكذلك يبطل الله صدقة هذا المرائي والمنافق والمانّ بصدقته؛ حيث لا يسمع مستغيث لهما ولا توبة ولا إقالة، يحرم أجرها عند أفقر ما يكون إليها، ويرى في القيامة أعماله هباء منثورا، ولا يؤذن له في الرجوع إلى الدنيا ليتصدّق وليكون من الصالحين.
قوله تعالى: {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (266) أي كهذا البيان الذي بيّن الله لكم فيما تقدّم؛ ويبيّن لكم الدلالات والعلامات لكي تتفكّروا فتعتبروا.
فإن قيل: قوله تعالى: {(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ)} فعل مستقبل، وقوله:{(وَأَصابَهُ الْكِبَرُ)} فعل ماض، فكيف عطف الماضي على المستقبل؟ والجواب من وجهين:
أحدهما: أن (قد) هاهنا مقدّرة؛ المعنى وقد أصابه الكبر، فيكون للحال كما قال في آية أخرى:{وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ}
(1)
أي قد قدّ.
والثّاني: أنّ {(يَوَدُّ)} يقتضي أن يكون في خبره (لو) كما في قوله: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ}
(2)
وقوله: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ}
(3)
ويقتضي أن يكون في أخبره {(أَنْ)} كما في هذه الآية و (لو) للماضي، و (أن) للمستقبل. ثم قد تستعمل (لو) مكان (إن)؛و (ان) مكان (لو) يقام أحدهما مقام الآخر، ويقول الإنسان: أنا أتمنّى لو كان لي ولد، ويقول: أتمنّى إن كان لي ولد. وإذا كان معنى التمنّي قد يقع على الماضي صحّ عطف الماضي عليه.
قوله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ؛} أي أنفقوا من خيار ما كسبتم، وخياره نظيره قوله
(1)
يوسف 27/.
(2)
البقرة 96/.
(3)
النساء 89/.
تعالى: {لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ}
(1)
.وقال ابن مسعود ومجاهد: (من حلال ما كسبتم من الأموال) دليله: {يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ}
(2)
وقال عليه السلام: [إنّ الله طيّب لا يحبّ إلاّ الطّيّب، لا يكسب عبد مالا من حرام فيتصدّق به فيقبل منه؛ ولا ينفق فيبارك له فيه، ولا يتركه خلفه إلاّ كان زاده إلى النّار، وإنّ الله لا يمحو السّيّئ بالسّيّئ، ولكن يمحو السّيّئ بالحسن، وإنّ الخبيث لا يمحو الخبيث]
(3)
.
وقوله تعالى: {(وَمِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ)} أي من أعشار الحبوب والثمار.
قوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ؛} أي لا تعمدوا إلى الرّديء من أموالكم منه تتصدقون، ولستم بقابضيه وقابليه {(إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ)،} يقول: لو كان لبعضكم على بعض حقّ فجاء بدون حقّه، لم يأخذ منه إلا أن يتغامض له عن بعض حقّه ويتسامح عن عيب فيه، فكيف تعطونه في الصدقة.
وقد روي في سبب نزول هذه الآية أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حثّ النّاس على الصّدقة وقال:
[إنّ الله في أموالكم حقّا]
(4)
.فكان يأتي أهل الصّدقة بصدقاتهم فيضعونها في المسجد، فيقسّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فجاء رجل ذات يوم بعد ما تفرّق عامّة أهل المسجد بعذق من حشف فوضعه في الصّدقة، فلمّا أبصره رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[بئس ما صنع صاحب الحشف] فأمر به فعلّق، فجعل كلّ من يراه يقول: بئس ما صنع صاحب الحشف،
(1)
آل عمران 92/.
(2)
المؤمنون 51/.
(3)
الشطر الأول من الحديث؛ أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الزكاة: باب قبول الصدقة من الكسب الطيب: الحديث (65).وأصل الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 1 ص 387: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنّ الله قسّم بينكم أرزاقكم، وإنّ الله عز وجل يعطي الدّنيا من يحبّ ومن لا يحبّ، ولا يعطي الدّين
…
].
(4)
من حديث ابن عباس؛ أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4818): «قال ابن عباس: يقول: وحقّي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسها» .
فأنزل الله هذه الآية
(1)
.
وقال بعضهم: معنى: {(وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ)} أي لا تتصدّقوا بالحرام. فيكون معنى {(إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ)} على هذا التأويل: إلاّ أن تترخّصوا في تناوله إن كان حراما. والإغماض: ترك النظر، يقال في المثل: أغمض في هذا وغمّض؛ أي لا تستقص وكن كأنّك لم تبصر.
قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (267)؛أي {(غَنِيٌّ)} عن صدقاتكم محمود في أفعاله، ولم يأمركم بالصدقة عن عوض ولكن بلاكم بما أمركم، فهو مستحقّ للحمد على ذلك وعلى جميع أمره.
وفي الآية إباحة الكسب وإخبار أن فيه ما هو طيّب، قال صلى الله عليه وسلم:[والخير عشرة أجزاء أفضلها التّجارة إذا أخذ الحقّ وأعطى الحقّ].وقال صلى الله عليه وسلم: [تسعة أعشار الرّزق في التّجارة، ولا يفتقر من التجّار إلاّ تاجر حلاّف]
(2)
.سئل النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أيّ كسب الرّزق أفضل؟ قال: [عمل الرّجل بيديه، وكلّ بيع مبرور]
(3)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [يا معشر التّجّار، إنّ هذا البيع يحضره اللّغو والكذب، فشوّبوه بالصّدقة]
(4)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4814): «عن عطاء يقول: علّق إنسان
…
».وله شاهد من حديث أبي داود في السنن: كتاب الزكاة: باب ما لا يجوز من الثمرة في الصدقة: الحديث (1607).والحشف: هو من التمر ما لم ينو، فإذا يبس صلب وفسد.
(2)
في الدر المنثور: ج 2 ص 495؛ قال السيوطي: «أخرجه سعيد بن منصور عن نعيم بن عبد الرحمن الأزدي» .وفي المطالب العالية لابن حجر: الحديث (1368).وفي الهامش قال البوصيري: رواه مسدد مرسلا بسند صحيح. ونعيم بن عبد الرحمن بصري، ذكره ابن حبان في الثقات (باختصار).
(3)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 4 ص 141.والطبراني في الكبير: ج 22 ص 163:الحديث (519).والحاكم في المستدرك: كتاب البيوع: باب ليس منا من غشّنا: الحديث (2205) عن رافع بن خديج. وفي مجمع الزوائد: ج 4 ص 60:كتاب البيوع؛ قال الهيثمي: «رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط، وفيه المسعودي وهو ثقة» .
(4)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 18 ص 297:الحديث (903 و 921)،وفي المعجم الأوسط: الحديث (1254) وإسناده صحيح.
قوله عز وجل: {الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ؛} أي الشيطان يعدكم بالفقر فحذف الباء كقول الشاعر
(1)
:
أمرتك الخير لكن ما ائتمرت به
…
فقد تركت ذا مال وذا نشب
(2)
ويقال: وعدته خيرا؛ ووعدته شرّا، وقال الله تعالى في الخير:{وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً}
(3)
وقال في الشّرّ: {النّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا}
(4)
وإذا لم تذكر الخير والشرّ؛ قلت في الخير: وعدته؛ وفي الشرّ: أوعدته. قال الشاعر:
وإنّي إذا أوعدته أو وعدته
…
لمخلف ميعادي ومنجز موعدي
ومعنى: {(يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ)} أي يخوّفكم الفقر بالنفقة في وجوه البرّ وإنفاق الجيّد من المال، وقوله تعالى:{(وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ)} أي بالبخل ومنع الزكاة، وزعم الكلبيّ أن كلّ فحشاء في القرآن فهو زنا إلا في هذه الآية، وإنما سمي منع الزكاة فحشاء؛ لأن العرب تسمي البخيل فاحشا؛ والبخل فحشاء. والفقر: سوء الحال وقلة ذات اليد، وفيه لغتان: الفقر والفقر، كالضّعف والضّعف.
قوله تعالى: {وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً؛} أي {(مَغْفِرَةً)} لذنوبكم بالإنفاق من خيار الأموال، {(وَفَضْلاً)} أي خلفا في الدّنيا والآخرة، {وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} (268)؛يوسع الرزق والخلف والمثوبة، ويعلم حيث ينبغي أن تكون السّعة، قال ابن عباس وابن مسعود: (ثنتان من الله وثنتان من الشّيطان؛ فمن الله
(1)
قال القرطبي: وأنشد سيبويه:
أمرتك بالخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب والبيت لعمرو بن معدي كرب: في الديوان: ص 63.ونسب لخفاف بن ندبة: الديوان: ص 126.وكتاب سيبويه: ج 1 ص 37.
(2)
في لسان العرب: مادة (نشب)؛قال ابن منظور: «قال أبو عبيد: من أسماء المال عندهم النّشب والنّشبة. يقال: فلان ذو نشب، وفلان ما له نشب. والنّشب: المال والعقار» .
(3)
الفتح 20/.
(4)
الحج 72/.
المغفرة والفضل، ومن الشّيطان الفقر والفحشاء)
(1)
.ووعد الشيطان وساوس وتخيّل؛ أي يخيّل إليك أنّك إن أمسكت مالك استغنيت، وإن تصدقت به افتقرت.
قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ؛} اختلفوا في تفسير الحكمة؛ قال ابن مسعود: (هي القرآن).وقال ابن عباس وقتادة: (علم ناسخ القرآن ومنسوخه؛ ومحكمه ومتشابهه؛ ومقدّمه ومؤخّره؛ وحلاله وحرامه؛ وأمثاله؛ وغيره)
(2)
.وقال السديّ: (هي النّبوّة)
(3)
.وقال أبو العالية: (هي الفقه)
(4)
.وقال مجاهد وإبراهيم: (هي الإصابة والفهم)
(5)
.وقال الربيع
(6)
: (هي خشية الله تعالى)
(7)
.وقال سهل بن عبد الله:
(هي السّنّة).وقيل: هي سرعة الجواب مع إصابة الصواب، والله أعلم.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً؛} أي من يعط العلم فقد أعطي خيرا كثيرا يصل به إلى رحمة الله تعالى. قال بعض الحكماء:
سمّى الله العلم خيرا كثيرا، والدنيا متاعا قليلا، فينبغي لمن أوتي العلم أن يعرف قدر نفسه ولا يتواضع لأصحاب الدنيا لدنياهم. وقال الحسن:(ومن يؤت الحكمة؛ يعني الورع في دين الله).
قرأ الربيع: «(تؤتي الحكمة ومن يؤت الحكمة)» بالتاء، وقرأ يعقوب:«(ومن يؤت الحكمة)» بكسر التاء، أراد ومن يؤته الله؛ فحذف الهاء.
قوله تعالى: {وَما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ} (269)؛وما يتّعظ إلا ذوو العقول؛ واللّبّ من العقل ما صفي عن دواعي الهوى، وسمّي العقل لبّا لأنه أنفس ما في الإنسان كما أن لبّ الثمرة أنفس ما فيها.
(1)
رواه الطبري في جامع البيان: النص (4830).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4834): عن ابن عباس رضي الله عنهما: «يعني المعرفة بالقرآن
…
وذكره»،وفي النص (4838)؛قال:«الفقه في القرآن» .
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4845).
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4836)؛ قال: «الكتاب والفهم فيه» .
(5)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النصوص (4839).
(6)
الربيع بن خيثم.
(7)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4844).
قوله عز وجل: {وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ؛} أي ما تصدّقتم به من صدقة أو أوجبتموه على أنفسكم من فعل برّ مثل صلاة أو صدقة أو صوم، فإنّ الله لا يخفى عليه ذلك ويقبله ويجازي عليه.
ويقال: معنى {(فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ)} أي يحفظه، وإنّما قال:{(يَعْلَمُهُ)} ولم يقل يعلمها؛ لأنه ردّه إلى الآخر منهما كقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً}
(1)
.وإن شئت حملته على (ما) التي قبله كقوله تعالى: {وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ}
(2)
ولم يقل: بهما.
قوله تعالى: {وَما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ} (270)؛أي وما للواضعين النفقة والنّذر في غير موضعهما بالرّياء والمعصية ونحوهما (من) اعوان يدفعون عنهم العذاب. والأنصار: جمع نصير مثل جنيب وأجناب وشريف وأشراف.
قوله عز وجل: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ؛} وذلك أنّهم قالوا: يا رسول الله، من أفضل؛ صدقة السّرّ أو صدقة العلانية؟ فأنزل الله هذه الآية
(3)
.
ومعناها: إن تظهروا الصدقات وتعلنوها؛ فنعمّا الشيء صدقة العلانية.
وأصل {(فَنِعِمّا هِيَ)} :فنعما ما هي؛ فوصلت وأدغمت. وكان الحسن يقرأ:
«(فنعما ما هي)» مفصولة عن الأصل؛ أي نعمت الخصلة. و (ما) في موضع الرفع و (هي) في محلّ النصب كما يقول: نعمّا الرجل رجلا، فإذا عرّفت رفعت وقلت: نعم الرّجل زيد.
(1)
النساء 112/.
(2)
البقرة 231/.
(3)
في الدر المنثور: ج 2 ص 78؛ قال السيوطي: «أخرج أحمد والطبراني في الترغيب عن أبي أمامة: أنّ أبا ذرّ قال: يا رسول الله ما الصّدقة؟ قال: [أضعاف مضاعفة وعند الله أزيد] ثمّ قرأ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً. قيل: يا رسول الله أيّ الصّدقة أفضل؟ قال: [سرّ إلى فقير، أو جهد من مقلّ] ثمّ قرأ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ.
وقرأ أبو جعفر ونافع وشيبة وعاصم وأبو عمرو بكسر النون وجزم العين، ومثله في سورة النساء، واختاره أبو عبيدة وذلك أنّها لغة النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قال لعمرو بن العاص:[نعم المال الصّالح للرّجل الصّالح]
(1)
.
وقرأ ابن عامر ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وخلف بفتح النون وكسر العين. وقرأ طلحة وابن كثير وورش وحفص ويعقوب وأيوب بكسر النون والعين. وهي لغات صحيحة.
قوله عز وجل: {وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ؛} أي وإن تسرّوها وتعطوها الفقراء سرّا فهو خير لكم وأفضل من العلانية، وكلاهما مقبول منكم إذا كانت النية صادقة، ولكن صدقة السرّ أفضل، قال صلى الله عليه وسلم:[صدقة السّرّ تطفئ غضب الرّب، وتطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النّار، وتدفع سبعين بابا من البلاء]
(2)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: [سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه: الإمام العادل، وشابّ نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه معلّق بالمسجد، ورجلان تحابّا في الله؛ فاجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال؛ فقال: إنّي أخاف الله، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتّى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه]
(3)
.
قال أهل المعاني: هذه الآية في صدقة التطوع، ولإجماع العلماء أنّ الزكاة المفروضة إعلانها أفضل كالصلاة المفروضة في الجماعة أفضل من إفرادها، وكذلك
(1)
رواه الإمام أحمد في المسند: ج 4 ص 197.والطبراني في الأوسط: الحديث (3213)،وإسناده صحيح.
(2)
رواه الطبري من كلام قتادة: النص (4847)،وكلام الربيع في النص (4849).وأخرج الطبراني شطره الأول عن ابن مسعود في المعجم الكبير: ج 19 ص 359:الحديث (1018)، وفي الأوسط: الحديث (9481).في مجمع الزوائد: ج 3 ص 115؛قال الهيثمي: «رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن» وأراد رواية أبي أمامة.
(3)
رواه البخاري في الصحيح: كتاب الأذان: باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة: الحديث (660).
سائر الفرائض؛ لمعنيين؛ أحدهما: ليقتدي به الناس، والثاني: لزوال التهمة؛ لئلاّ يسيء به الناس الظنّ، ولا رياء في الفرض.
وأما النوافل والفضائل فإخفاؤها أفضل لبعدها عن الرياء، يدلّ على صحّة هذا التأويل ما روي عن أبي جعفر في قوله تعالى:{(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ)} قال: (يعني الزّكاة المفروضة وقوله تعالى: {(وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ)} يعني التّطوّع)
(1)
.وعن ابن عباس أنه قال: (جعل الله صدقة التّطوّع في السّرّ تفضل علانيتها بسبعين ضعفا، وصدقة الفريضة تفضل علانيتها سرّها بخمس وعشرين ضعفا)
(2)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [المسرّ بالقرآن كالمسرّ بالصّدقة، والجاهر بالقرآن كالجاهر بالصّدقة]
(3)
.وذهب الحسن وقتادة إلى أن الإخفاء في كلّ صدقة أفضل؛ مفروضة كانت أم تطوّعا.
قوله عز وجل: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ؛} قرأ ابن عباس وعكرمة: «(وتكفّر)» بالتاء؛ يعني الصدقات. وقرأ الحسن وابن عامر وحفص: «(ويكفر)» بالياء والرفع على معنى ويكفّر الله. وقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو بالنون ورفع الراء على الاستئناف؛ أي ونحن نكفّر. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع والأعمش وحمزة والكسائيّ بالنون والجزم عطفا على موضع الفاء التي في قوله: {(فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)} لأنّ موضعها جزم بالجزاء.
وقوله تعالى: {(مِنْ سَيِّئاتِكُمْ)} أدخل (من) للتبعيض؛ ليكون العباد فيها على وجل فلا يتّكلوا. وقال نحاة البصرة: معناه الإسقاط؛ أي ويكفّر عنكم سيّئاتكم.
قوله عز وجل: {وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (271)؛أي بما تعملون من الصدقة عالم يجزيكم به.
(1)
جامع البيان: مج 3 ج 3 ص 127.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4849).
(3)
رواه الطبراني في المعجم الكبير: ج 17 ص 258:الحديث (923) عن عتبة بن عامر، وفي الأوسط: الحديث (3259).والإمام أحمد في المسند: ج 4 ص 151 و 158،وإسناده حسن.
قوله عز وجل: {*لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ؛} قال ابن عباس والكلبيّ: (اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة القضاء، وكانت معه في تلك العمرة أسماء بنت أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه، فجاءتها أمّها قتيلة وجدّها أبو قحافة يسألونها الصّلة والعطيّة، فقالت: لا أعطيكم شيئا حتّى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنّكم لستم على دين؛ فاستأذنته في ذلك، فنزلت هذه الآية، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتّصدّق عليهما)
(1)
.وقال محمد بن الحنفيّة: (كان يكبر على المسلمين التّصدّق على اليهود والنّصارى، فأمروا بذلك في غير فريضة).
ومعنى الآية: ليس عليك يا محمد تحصيل الهدى لهم بأن تمنعهم من الصدقة لتحملهم على الإيمان، ولكنّ الله يثبت ويرشد ويوفّق للخير من يشاء. وروي أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه رأى رجلا من أهل الذّمّة يسأل على أبواب المسلمين، فقال:
(ما أنصفناك؛ أخذنا منك الجزية وأنت شابّ؛ ثمّ ضيّعناك اليوم) فأمر أن يجري عليه قوته من بيت المال
(2)
.
قوله تعالى: {وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ؛} أي ما تنفقوا من مال على برّ أو فاجر فلأنفسكم ثوابه ونفعه عائد إليكم، {وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ؛} أي علم الله أنكم لا تريدون بنفقتكم إلا طلب مرضاة الله وإن كان المتصدّق عليه كافرا.
قوله تعالى: {وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} (272) أي ما تتصدّقوا به من مال يوفّ إليكم ثوابه في الآخرة، {(وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ)} أي لا تنقصون شيئا من ثواب أعمالكم وصدقاتكم.
(1)
ينظر: اللباب في علوم الكتاب: ج 4 ص 428 - 429.وأصله في صحيح البخاري: كتاب الأدب: باب صلة الوالد المشرك. ومسلم في الصحيح: كتاب الزكاة: باب فضل الصدقة والنفقة على الأقربين والزوج والأولاد.
(2)
أخرجه أبو يوسف في كتاب الخراج: فصل فيمن تجب عليه الجزية: ص 136.قال في إعلاء السنن: الرقم (4175): «الأثر حسن الإسناد».
وظاهر الآية يقتضي جواز دفع الصدقات إلى الكفّار إلاّ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خصّ منها الزّكاة؛ فقال: [أمرت أن آخذ الصّدقة من أغنيائكم وأردّها على فقرائكم]
(1)
.
قوله عز وجل: {لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ؛} قيل: معناه: ما أنفقتم من نفقة للفقراء، وقيل: معناه: عليكم بالنفقة للفقراء الذين حبسوا في طاعة الله؛ أي أحصرهم فرض الجهاد فمنعهم من التصرّف والسير لطلب المعاش، وهؤلاء أصحاب الصّفّة حبسوا أنفسهم لطلب العلم؛ وفضل الجمعة؛ وخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا نحوا من أربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن ولا عشائر؛ كانوا معتكفين في المسجد في صفّته؛ قالوا: نخرج في كلّ سريّة يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله، فحثّ الله على الصدقة عليهم، فكان الرجل إذا بقي عنده فضل أتاهم به
(2)
.
وقوله تعالى: {(لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ)} الضرب في اللغة: السّير، يعني لا يستطيعون سيرا في الأرض للتجارة وطلب المعيشة، ونظيره قوله تعالى:{وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ}
(3)
وقوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ}
(4)
.وقال الشاعر:
لحفظ المال أيسر من فنائه
…
وضرب في البلاد بغير زاد
وقال ابن زيد: (من كثرة ما جاهدوا لا يستطيعون ضربا في الأرض، فصارت الأرض كلّها حربا عليهم؛ لا يتوجّهون فيها جهة إلاّ ولهم فيها عدوّ)
(5)
.وكان السديّ يقول: (معنى {(أُحْصِرُوا)} أي منعهم الكفّار بالخوف منهم؛ فلا يستطيعون
(1)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 3 ص 337 وج 8 ص 168 و 172.وأصله من حديث معاذ حين أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وهو في الصحيحين.
(2)
في كنز العمال: الرقم (16577)،وعزاه للخطيب في تاريخه.
(3)
النساء 101/.
(4)
المزمل 20/.
(5)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4866).
تفرّقا في الأرض لمنع الكفّار إيّاهم عن ذلك)
(1)
.وقيل: هذا لا يصحّ؛ لأنه لو كان كذلك لقال: حصروا، بغير ألف.
وقال سعيد بن جبير: (هؤلاء قوم أصابتهم جراحات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فصاروا زمنا وأحصرهم المرض والزّمانة عن الضّرب في الأرض)
(2)
.فاختار الكسائيّ هذا القول لأنه يقال: أحصروا من المرض والزّمانة عن الضرب في الأرض، ولو أراد الحبس قال: حصروا، وإنّما الإحصار من الخوف أو المرض، والحصر:
الحبس في غيرهما.
قوله تعالى: {(يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ)} قرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة وابن عامر والأعمش وعاصم وحمزة: «(يَحْسَبُهُمُ)» بفتح السين في جميع القرآن، والباقون بالكسر.
ومعنى الآية: يظنّهم الجاهل بأمرهم وشأنهم أغنياء من التعفّف عن السؤال؛ لتجمّلهم باللباس وكفّهم عن المسألة. والتعفّف يذكر ويراد به ترك المسألة كما قال صلى الله عليه وسلم: [من استغنى أغناه الله تعالى، ومن استعفّ أعفّه الله]
(3)
.
قوله تعالى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ؛} أي تعرفهم أنت يا محمد بعلامة فقرهم ورثاثة حالهم. وقيل: بتخشّعهم وتواضعهم. وقيل: بصفرة ألوانهم من الجوع وقيام الليل وصيام النهار. وقيل: بفرحهم واستقامة حالهم عند توارد البلاء عليهم.
قوله تعالى: {لا يَسْئَلُونَ النّاسَ إِلْحافاً؛} قال عطاء: (إذا كان عنده غداء لا يسأل عشاء، وإن كان عنده عشاء لا يسأل غداء).وقال أهل المعاني:
{(لا يَسْئَلُونَ النّاسَ إِلْحافاً)} ولا غير إلحاف؛ أي ليس لهم سؤال فيكون إلحافا، والإلحاف: الإلحاح، دليل هذا القول قوله تعالى:{(يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ}
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4867).
(2)
في الدر المنثور: ج 2 ص 89؛ قال السيوطي: «أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم» .
(3)
أخرجه الطبراني في الأوسط: الحديث (2896).والطبري في جامع البيان: الحديث (4876).
{التَّعَفُّفِ)} أي من القناعة، ولو كانوا يسألون لكان يعرفهم بالسؤال لا بالسيماء. وإنّما يسمى الملحّ في السؤال ملحفا؛ لأنه يلصق بالمسئول ويشتمل على وجود الطلب في المسألة كاشتمال اللّحاف.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنّ الله يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده، ويكره البؤس والتّباؤس، ويحبّ الحليم المتعفّف، ويبغض الفاحش البذيء السّائل الملحف]
(1)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [من سأل وله ما يغنيه، جاءت مسألته يوم القيامة كدوحا أو خموشا أو خدوشا في وجهه] قيل: وما غناؤه؟ قال: [خمسون درهما]
(2)
.
قوله تعالى: {وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} (273)؛ أي ما يتصدّقوا به من مال، {(فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)} يجزيكم به.
قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (274)؛ قال ابن عباس ومقاتل: (نزلت هذه الآية في عليّ رضي الله عنه؛ كانت له أربعة دراهم لم يملك غيرها؛ فتصدّق بدرهم ليلا؛ وبدرهم نهارا؛ وبدرهم سرّا؛ وبدرهم علانية، فنزلت هذه الآية)
(3)
.
وعن ابن عباس قال: (لمّا نزل قوله تعالى: {لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} بعث عبد الرّحمن بن عوف بدنانير كثيرة إلى أصحاب الصّفّة حتّى أغناهم؛ وبعث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في جوف اللّيل بوسق من التّمر-والوسق ستّون صاعا فكان أحبّ الصّدقتين إلى الله تعالى صدقة عليّ رضي الله عنه ونزل فيها قوله تعالى:
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 2 ص 181 و 182.والترمذي في الجامع: الحديث (2819، وقال: حديث حسن.
(2)
أخرج الطبراني شطره عن جابر في الأوسط: الحديث (5463)،وشطره الأخير عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: الحديث (2422).
(3)
في الدر المنثور: ج 2 ص 100؛ قال السيوطي: (أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن عساكر).وفي مجمع الزوائد: ج 6 ص 324؛قال الهيثمي: «رواه الطبراني، وفيه عبد الواحد بن مجالد، وهو ضعيف» .
{(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً)} أراد باللّيل سرّا صدقة عليّ رضي الله عنه، وبالنّهار علانية صدقة عبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنه.
وروي أيضا عن ابن عباس في هذه الآية {(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ)} :يعني في علف الخيل المرتبطة في سبيل الله. وكان أبو هريرة إذا مرّ بفرس سمين تلا هذه الآية؛ فإذا مرّ بفرس أعجف سكت.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: [من ارتبط فرسا في سبيل الله وأنفق عليه احتسابا؛ كان شبعه وجوعه وريّه وظمؤه وبوله وروثه في ميزانه يوم القيامة]
(1)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [المنفق في سبيل الله على فرسه كالباسط كفّيه بالصّرّة]
(2)
.
قوله تعالى: {(فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ)} قال الأخفش وقطرب: (جعل الخبر بالفاء؛ لأنّه في معنى (من)،وجواب (من) بالفاء؛ كأنّه قال: من أنفق كذا فله أجره عند ربه).وقوله تعالى: {(وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)} قد تقدّم تفسيره.
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ؛} معناه: {(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا)} في الدنيا {(لا يَقُومُونَ)} في الآخرة من قبورهم لعظم بطونهم، {(إِلاّ كَما يَقُومُ)} في الدنيا الذي يضربه ويصيبه {(الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ)} أي من الجنون. روي أنّهم يبعثون يوم القيامة وقد انتفخت بطونهم كلّما قاموا سقطوا والناس يمشون عليهم وهم كالمجانين. قال الحسن:(هذه علامة أكل الرّبا؛ يعرفون بها يوم القيامة).
قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا؛} ومعناه:
كان الرجل إذا حلّ ماله بعد الأجل طلبه؛ فيقول المطلوب: زدني في الأجل وأزيدك
(1)
عن أسماء بنت يزيد؛ أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 6 ص 458،وفي إسناده شهر. وأخرجه الطبراني في الأوسط: الحديث (411 و 1194) عن علي رضي الله عنه، وفيه الحارث. ولهما أصل من حديث أبي هريرة؛ أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الجهاد: الحديث (3853).
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط: الحديث (3112) عن أبي هريرة وفيه [كالباسط كفّه بالنّفقة لا يقبضها]،وقال:«تفرد به عبد الرزاق» .وأبو داود في السنن: كتاب اللباس: باب ما جاء في إسبال الإزار: شطر حديث طويل لأبي الدرداء: الرقم (4089).
في مالك. فيفعلان ذلك؛ فإذا قيل لهم: إن هذا ربا؛ قالوا: هما سواء؛ والزيادة في آخر البيع بعد الأجل كالزيادة في أوّل البيع إذا بعت بالنسيئة سواء. وليس الأمر كما توهّموا؛ لأن الزيادة في الثمن في آخر البيع لأجل الإبعاد في الأجل بعد ما صار الثمن دينا في الذمة يكون عوضا عن الأجل؛ والاعتياض عن الأجل باطل، وأما الزيادة في الثمن في أصل العقد فتكون مقابلة للبيع، ويجوز بيع المبيع بثمن قليل وثمن كثير.
قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا؛} أي أحلّ الزيادة في أول البيع وحرّم الزيادة في آخره؛ قوله تعالى: {فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ؛} أي فمن جاءه زجر من ربه ونهي عن الرّبا فانتهى فله ما مضى من أكله الرّبا قبل النهي؛ أي لا إثم عليه في ذلك، وأمره فيما بقي من عمره إلى الله؛ إن شاء عصمه وإن شاء لم يعصمه. وقيل: معناه: {(فَلَهُ ما سَلَفَ)} أي له ما أخذ من الربا قبل التحريم، {(وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ)} في المستأنف في العفو والتجاوز.
وإنّما لم يقل: فمن جاءته موعظة من ربه؛ لأن تأنيث الموعظة ليس بحقيقيّ، فيجوز تذكيره ويجوز أن ينصرف إلى المعنى، كأنه قال: فمن جاءه وعظ ونهي من ربه عن الرّبا.
قوله تعالى: {وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} (275) أي من عاد إلى أكل الربا {(فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها)} دائمون إلى ما شاء الله.
وقيل: معناه: من عاد بعد النهي إلى قوله إنّما البيع مثل الربا؛ فأولئك أهل النار هم فيها مقيمون؛ لأن مستحلّ الربا كافر لإنكاره آية من كتاب الله تعالى.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [سيأتي على النّاس زمان لا يبقى أحد إلاّ أكل الرّبا، وإن لم يأكله أصابه من غباره]
(1)
.وعن عبد الله بن مسعود قال: (آكل الرّبا ومؤكله وكاتبه وشاهده إذا علموا به؛ ملعونون على لسان محمّد صلى الله عليه وسلم
(1)
رواه أبو داود في السنن: كتاب البيوع والإجارات: باب في اجتناب الشبهات: الحديث (3331).وابن ماجة في السنن: كتاب التجارات: الحديث (2278).
إلى يوم القيامة)
(1)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [الرّبا بضع وسبعون بابا؛ أدناها كإتيان الرّجل أمّه]
(2)
.
والخبط في اللغة هو الضرب على غير استواء؛ يقال: خبط البعير إذا ضرب بيده. والمسّ: الجنون، يقال: رجل ممسوس؛ أي مجنون.
قوله عز وجل: {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ؛} معناه: يهلك الله الربا ويذهب ببركته. والمحق: نقصان الشيء حالا بعد حال، ويقال: إنّ الربا ينقص حالا بعد حال إلى أن يتلف كلّه. قوله: {(وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ)} أي يقبلها ويعطي خلفها في الدنيا، ويضاعف ثوابه في الآخرة واحدة إلى عشر إلى سبعين إلى سبعمائة إلى ما شاء الله من الأضعاف. كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:[إنّ الله يقبل الصّدقات ولا يقبل منها إلاّ الطّيّبة، ويربيها لصاحبها كما يربي أحدكم مهره وفصيله حتّى أنّ اللّقمة تصير مثل أحد]
(3)
.
قوله تعالى: {وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفّارٍ أَثِيمٍ} (276)؛أي يبغض كلّ جاحد تحريم الربا؛ فاجر عاص بأكله واستحلاله. وإنّما قال: {(كَفّارٍ)} ولم يقل: كافر؛ ليبيّن أن مستحلّ الربا مع كونه كافرا كفّار للنعمة. والأثيم: المادي في الإثم، والآثم:
الفاعل للإثم.
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (277)؛
(1)
رواه أبو داود في السنن: كتاب البيوع: باب في آكل الربا: الحديث (3333).والترمذي في الجامع: أبواب البيوع: الحديث (1206)،وقال: حسن صحيح.
(2)
عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أخرجه ابن ماجة في السنن: كتاب التجارات: الحديث (2274).وأخرجه الطبري في الأوسط: الحديث (7147) عن البراء بن عازب، وفي إسناده عمر بن راشد، وهو ضعيف.
(3)
أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة: الحديث (3402)،وعن عائشة رضي الله عنها: الحديث (4240).وفي مجمع الزوائد: ج 3 ص 111؛قال الهيثمي: «حديث عائشة رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح» .
معناه: {(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا)} بالله وكتبه ورسله وتحريم الربا {(وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ)} فيما بينهم وبين ربهم، وأتمّوا الصلوات الخمس، وأعطوا الزكاة المفروضة من أموالهم، فلهم جزاؤهم وثوابهم في الآخرة {(عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)} إذا ذبح الموت {(وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)} إذا أطبقت النار على أهلها.
قوله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (278)؛قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في نفر من ثقيف ابن مسعود وحبيب وربيعة وعبد ياليل بني عمرو بن عمير الثّقفيّ، كانت لهم ديون على بني المغيرة؛ وكان بنو المغيرة يربوهم، فلمّا ظهر النّبيّ صلى الله عليه وسلم على أهل مكّة وضع الرّبا كلّه، وكان أهل الطّائف قد صالحوا على أنّ لهم رباهم من النّاس يأخذونه، وما كان عليهم من ربا النّاس فهو موضوع عنهم لا يؤخذ منهم، فقال صلى الله عليه وسلم: [أكتب في آخر كتابهم: أنّ لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم].فلمّا حلّ الأجل طلبت ثقيف من بني المغيرة رباهم؛ فقالت بنو المغيرة: ما بالنا نكون أشقى النّاس؛ وضع الرّبا عن النّاس كلّهم ويؤخذ منّا خاصّة! فقالت لهم ثقيف: إنّا صالحنا على ذلك، فاختصموا إلى أمين مكّة وهو عتّاب بن أسيد، فلم يدر ماذا يقضي بينهم، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فأنزل الله هذه الآية خطابا لثقيف)
(1)
.
ومعناها: {(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)} اخشوا الله واتركوا {(ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا)} فإنه لم يبق غير رباكم {(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)} أي مصدّقين بتحريم الرّبا فهذا حكمه.
قوله عز وجل: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ؛} أي إن لم تقبلوا أمر الله ولم تقرّوا بتحريم الربا ولم تتركوه، فاعلموا أنكم كفّار يحاربكم الله ورسوله؛ أي يعذّبكم الله في الآخرة بالنار؛ ويعذّبكم رسوله في الدنيا بالسّيف.
والإذن: الإعلام، ومن قرأ {(فَأْذَنُوا)} أي فأعلموا أصحابكم المتمسكين بمثل ما أنتم عليه: أنّ من عامل بالربا مستحلا له حاربهم الله ورسوله.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (4901).
وقيل: معنى الآية: فإن لم تتركوا ما بقي من الربا بعد نزول الأمر بتركه {(فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ)} .
ومثل هذا اللفظ لا يوجب الإكفار؛ لأن لفظ محاربة الله ورسوله يطلق على ما دون الكفر كما في آية قطّاع الطريق. وهذا الحكم في آية الربا إنّما هو مستقيم إذا اجتمع أهل بلدة لهم منعة وقوّة على المعاملة بالربا وكانوا محرّمين له، فإن الإمام يستتيبهم؛ فإن تابوا وإلا قاتلهم. وأما إذا عامل واحد أو جماعة قليل عددهم معاملة الربا، فإن الإمام يستتيبهم؛ فإن تابوا وإلا زجرهم وحبسهم إلى أن يظهروا توبتهم.
وقد روي عن ابن عباس وقتادة والربيع فيمن أربا: (أنّ الإمام يستتيبه، فإن تاب وإلاّ قتله)
(1)
.فهذا محمول على أن يفعله مستحلا له؛ لأنه لا خلاف بين العلماء أنه ليس بكافر إذا اعتقد تحريمه.
قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} (279)؛أي فإن رجعتم عن استحلال الربا وأقررتم بتحريمه.
ويقال: إن تبتم عن معاملة الربا {(فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ)} التي أسلفتموها بني المغيرة، {(لا تَظْلِمُونَ)} بطلب الزيادة على رأس المال، {(وَلا تُظْلَمُونَ)} بحبس رأس المال عنكم.
قال ابن عباس: (فلمّا نزلت هاتان الآيتان، كتب بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتّاب، فقرأهما على ثقيف فقالوا: بلى، نتوب إلى الله فإنّه لإيذان لنا بحرب الله ورسوله، ثمّ طلبوا رءوس أموالهم من بني المغيرة، فقالت بنو المغيرة: نحن اليوم أهل عسر وأخّرونا إلى أن تدرك الثّمار، فأبوا أن يؤخّروهم،
فنزل قوله عز وجل:
{وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ؛} أي إن كان المطلوب ذا ضيق وشدّة؛ فتأخيره إلى سعة ويسار
(2)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4903) عن ابن عباس، وفي النص (4905) عن قتادة، وفي النص (4906) عن الربيع.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4901 و 4907).
وروي عن ابن عباس وشريح وإبراهيم: (أنّ الإنظار إنّما يجب في الدّين، يعني دين الرّبا خاصّة)
(1)
.وكان شريح يحبس المعسر في غيره من الديون
(2)
.وعن أبي هريرة والحسن والضحّاك: (أنّ ذلك واجب في كلّ دين) وهذا هو الأصحّ
(3)
؛لأنّ نزول الآية في رأس مال الربا لا يمنع اعتبار سائر الديون بها بالاستدلال والقياس.
وذهب بعض النحويّين: إلى أن الرفع في قوله {(ذُو عُسْرَةٍ)} دليل على أنه ابتداء على معنى: وإن وقع ذو عسرة، أو وجد ذو عسرة، ولو كان مختصّا هذا بالربا لقال:
وإن كان ذا عسرة، بالنصب. ويحتمل أن يكون تقدير الرفع {(وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ)} غريما لكم.
ومن قرأ «(ميسرة)» بضمّ السين، فهي لغة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من أنظر معسرا أو وضع له أظلّه الله في ظلّ عرشه يوم القيامة يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه]
(4)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [من أحبّ أن تستجاب دعوته وتنكشف كربته؛ فلييسّر على المعسر]
(5)
.وعن أبي بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من أنظر معسرا كان له بكلّ يوم صدقة]
(6)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من أدان دينا وهو ينوي أن لا يؤدّيه فهو سارق]
(7)
.وعن أبي قتادة: أنّ رجلا أتي به إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليصلّي عليه؛
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4915) عن ابن عباس، وفي النص (4916) عن شريح، وفي النص (4917) عن إبراهيم.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4916) والنصوص (4918).
(3)
عن الضحاك أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4922)،وعن الحسن: النص الأول من النصوص الرقم (4918).
(4)
أخرجه الطبراني في الأوسط: الحديث (5018) عن عون بن عبد الله بن عتبة. وفي النص (883) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
في الدر المنثور: مج 2 ص 113؛ قال السيوطي: «أخرجه أحمد وابن أبي الدنيا في كتاب اصطناع المعروف عن ابن عمر» .
(6)
في الدر المنثور: مج 3 ص 415؛ قال السيوطي: «أخرجه أحمد وابن ماجة والحاكم وصححه، والبيهقي في شعب الإيمان عن بريدة» .
(7)
رواه الطبراني في الأوسط: الحديث (833) عن ميمونة.
فقال: [هل عليه دين؟] قالوا: نعم، فتأخّر وقال:[صلّوا على صاحبكم].قال أبو قتادة: أنا أكفل به، فقال صلى الله عليه وسلم:[بالوفاء؟] قال: بالوفاء، فصلّى عليه وكان عليه ثمانية عشر درهما أو تسعة عشر درهما
(1)
.
وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما من خطيئة أعظم عند الله عز وجل بعد الكبائر من أن يموت الرّجل وعليه أموال النّاس دينا في عنقه، لا يوجد لها قضاء]
(2)
.
قوله عز وجل: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (280)؛ أي وإن تصدّقوا من رأس المال فهو أفضل {(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)} ثواب من أنظر معسرا أو وضع عنه.
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ؛} هذا تحذير من الله عز وجل أن يوافي العباد ذلك اليوم على غرّة وغفلة وتقصير في أوامر الله ومخالفته فيما أحلّ الله وحرّم، يقول: اخشوا عذاب يوم ترجعون فيه إلى جزاء الله.
قوله تعالى: {ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (281)؛ أي توفّى كلّ نفس جزاء ما عملت من خير أو شرّ، {(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)} أي لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد في سيئاتهم.
قرأ أبو عمرو ويعقوب: «(ترْجَعُونَ)» بفتح التاء، واعتبره بقراءة أبيّ «(واتّقوا يوما تصيرون فيه إلى الله)» .وقرأ الباقون {(تُرْجَعُونَ)} بضمّ التاء، اعتبارا بقراءة عبد الله:
(1)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 7 ص 22:الحديث (6258)،وص 31:الحديث (6290) عن سلمة بن الأكوع، وفيه: أن أبا قتادة تكفّل بالدين. وأخرجه البخاري في الصحيح عن أبي سلمة؛ في الصحيح: كتاب الحوالة: باب إن أحال دين الميت على رجل جاز: الحديث (2289).
(2)
في الفردوس بمأثور الخطاب: ج 4 ص 43:النص (6135) علقه الديلمي.
قال ابن عباس: (هذه آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنّه لمّا حجّ البيت نزل عليه جبريل عليه السلام وهو واقف بعرفة بقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية
(1)
،ثمّ نزل بعد ذلك هذه الآية {(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ)} .
قال
(2)
:يا رسول الله، ضعها على رأس ثمانين ومائتي آية من سورة البقرة
(3)
،فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية بتسعة أيّام)
(4)
.
قال المفسرون: لمّا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}
(5)
قال:
[يا ليتني أعلم متى ذلك] فأنزل الله هذه الآية {إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ}
(6)
،قال:
[أما إنّ نفسي نعيت إليّ] ثم بكى بكاء شديدا، فقيل له: يا رسول الله، أتبكي من الموت وقد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟! فقال:[وأين خوف المطلع، وأين ضيق القبر وظلمة اللّحد، وأين القيامة والأهوال] فعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية عاما؛ ثم نزل قوله: {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}
(7)
فعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية عامها بستة أشهر.
ثم لمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجّة الوداع نزل عليه في الطريق {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} إلى آخرها
(8)
،ثم نزل بعدها وهو واقف بعرفة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية، فعاش بعدها إحدى وثمانين ليلة، ثم نزل بعدها آيات
(1)
المائدة 3/.
(2)
في أصل المخطوط: (قالوا)،والصحيح كما أثبتناه:(قال) لأن القائل هو جبريل عليه السلام، ثم إن ترتيب آيات السورة توقيف.
(3)
في الدر المنثور: ج 2 ص 116؛ قال السيوطي: «أخرجه أبو عبيد وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل، من طرق عن ابن عباس» .وفي مجمع الزوائد: ج 6 ص 324؛قال الهيثمي: «رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما ثقاة» .
(4)
اختلف أهل التفسير والأثر في مدة بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم بعدها، فمنهم من قال: عاش واحدا وثمانين يوما، وقيل: واحدا وعشرين يوما. وسيأتي تفصيل بيانه في الفقرة بعدها.
(5)
الزمر 30/.
(6)
النصر 1/.
(7)
التوبة 128/.
(8)
النساء 176/.
الرّبا. ثم نزل بعد ذلك {(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ)} وهي آخر آية نزلت، فعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها إحدى وعشرين ليلة، قال ابن جريج:(تسع ليال).وقال ابن جبير ومقاتل: (سبع ليال).ثم مات يوم الاثنين لليلتين مضت من شهر ربيع الأول حين زاغت الشمس سنة إحدى عشرة من الهجرة
(1)
.
قوله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ؛} قال ابن عباس: (لمّا حرّم الرّبا أباح السّلم) وظاهر الآية على كلّ دين من سلم وغيره. ومعنى الآية: {(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا)} تبايعتم بالنّسيئة إلى وقت معلوم فاكتبوا الدّين بأجله وأشهدوا عليه كيلا تحدّث نفس أحدكم بالطمع في حقّ صاحبه، ولا يقع شكّ في مقداره ولا جحود ولا نسيان. والدّين: ما كان مؤجّلا، والعين: ما كان حاضرا.
واختلفوا في هذه الكتابة أنّها فرض أو ندب؟ فذهب أبو سعيد الخدري والحسن والشعبيّ: (أنّ الكتابة والإشهاد على الدّيون الآجلة كانا واجبين بهذه الآية، ثمّ نسخا بقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً})
(2)
.وقال ابن عباس: (لا والله، إنّ آية الدّين محكمة ما فيها نسخ).وهو قول الربيع وكعب، وهذا هو الأصحّ؛ لأن الأمر بالكتابة والإشهاد إنّما ورد مقرونا بقوله:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً،} ويستحيل ورود الناسخ والمنسوخ معا في شيء واحد، فكأنّ المراد بالأمر الندب.
والفائدة في قوله: {(إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى)} بيان إعلام وجوب الأجل؛ فإن جهالة الأجل في المباعات تفسدها. وقال بعضهم: إن الكتابة فرض واجب.
(1)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 3 ص 375؛ قال القرطبي: «ذكره أبو بكر الأنباري في كتاب (الردّ).» .وفي الدر المنثور: ج 2 ص 116؛ قال السيوطي: «أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير،
…
وذكره».
(2)
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4963)،وعن الشعبي في النص (4962 و 4957)،وفي معناه عن الحسن في النص (4960).
وقال ابن جريج: (من أدان دينا فليكتب، ومن باع فليشهد)
(1)
.يدلّ عليه ما روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: [ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم: رجل كان له دين فلم يشهد، ورجل أعطى سفيها مالا وقد قال تعالى:{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ}
(2)
، ورجل كانت عنده امرأة سيّئة الخلق فلم يطلّقها]
(3)
.
وقال قوم: هو مستحبّ؛ وإن كتب فحسن وإن ترك فلا بأس، كقوله تعالى:
{وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا}
(4)
وقوله تعالى: {فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا}
(5)
.
قوله تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ؛} قرأ الحسن: «(وليكتب)» بكسر اللام وهذه لام الأمر، وهي إذا كانت مفردة «سكّنت» طلبا للخفّة، ومنهم من يكسرها فليس فيها إلا الحركة، وإذا كان قبلها (واو) أو (فاء) أو (ثمّ) فأكثر العرب على تسكينها طلبا للخفّة. ومنهم من يكسرها على الأصل.
ومعنى هذه الآية: وليكتب كاتب بين البائع والمشتري؛ والطالب والمطلوب بالحقّ والإنصاف، فلا يزاد فيه ولا ينقص منه، ولا يقدّم الأجل ولا يؤخّره.
قوله تعالى: {وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ؛} أي لا يمتنع أن يكتب كما ألهمه الله شكرا لما أنعم عليه حيث علّمه الكتابة وأحوج غيره إليه؛ {فَلْيَكْتُبْ} .
واختلفوا في وجوب الكتابة على الكاتب؛ والشهادة على الشاهد؛ فقال مجاهد والربيع: (واجب على الكاتب أن يكتب)
(6)
.وقال الحسن: (ذلك في الموضع الّذي لا يقدر فيه على كاتب غيره، فيضرّ بصاحب الدّين إن امتنع، فإنّ الكتابة حينئذ عليه
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (4950).
(2)
النساء 5/.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: كتاب النكاح: باب المرأة الصالحة والسيئة الخلق: الأثر (17138) عن أبي موسى الأشعري. والحاكم في المستدرك: تفسير سورة النساء: الحديث (3235)،وقال:«حديث صحيح على شرط الشيخين» .
(4)
المائدة 2/.
(5)
الجمعة 10/.
(6)
عن مجاهد أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5033).
فريضة. وإن قدر على كاتب غيره فهو في سعة إذا قام به غيره)
(1)
.وقال الضحّاك:
(هذا «كان»
(2)
واجبا، فنسخه قوله تعالى:{وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} ).وقال السديّ: (هو واجب عليه في حال فراغه).وقال الشعبيّ: (هو واجب على الكفاية كالجهاد).والصحيح: أن الكتابة غير واجبة في الأصل على المتداينين، فإذا لم تكن واجبة عليهم؛ فكيف تكون واجبة على الأجنبي الذي لا حكم له في هذا العقد ولا سبب؟!
قوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً؛} يعني المديون المطلوب يقرّ على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه ويملي على الكاتب. والإملال والإملاء: بمعنى واحد؛ وهما لغتان فصيحتان جاء بهما القرآن. ثم خوّفه الله تعالى فقال: {(وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ)} أي وليخش الله ولا ينقص من الحقّ الذي عليه شيئا.
قوله عز وجل: {فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ؛} أي فإن كان المطلوب الذي عليه المال سفيها أو ضعيفا؛ أي خفيف العقل جاهلا بالإملاء؛ لا يميّز تمييزا صحيحا، قاله مجاهد. وقال السديّ:(يعني عاجزا لا يستطيع أن يملّ لعجمة أو زمانة).وقوله تعالى: {(ضَعِيفاً)} أي ضعيفا في العقل مثل الصبيّ والمرأة أو شيخا كبير السنّ. وقوله تعالى: {(أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ)} يعني لمرض أو خرس أو حبس لا يمكّنه حضور الكتاب أو يجهل ما له وعليه. قوله: {(فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ)} أي وليّه الذي يقوم بأمره.
وقوله تعالى: {(بِالْعَدْلِ)} أي بالحقّ. وقال ابن عباس والربيع ومقاتل: (فليملل وليّ الحقّ) وهو صاحب الدّين؛ لأنه أعلم بدينه يملّ بالعدل والصدق والحق والإنصاف.
(1)
بمعناه أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5026).
(2)
«كان» ليست في أصل المخطوط.
قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ؛} يعني أشهدوا على الحقّ شهيدين من الأحرار البالغين دون الكفار والعبيد والصبيان، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعيّ وسفيان وأكثر الفقهاء. وأجاز شريح وابن سيرين شهادة العبيد، وأجاز بعضهم شهادتهم في الشيء التافه.
قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ؛} الآية، أي فإن لم يكن الشاهدان رجلين فليكن رجل وامرأتان. قوله:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ؛} أي ممّن ترضون عدالته وأمانته. والمرضيّ: من يجتمع فيه ثلاثة أشياء:
أحدها: العدالة، وأصلها الإيمان واجتناب الكبائر ومراعاة حقوق الله من الواجبات والمسنونات وصدق «الحديث»
(1)
وأداء الأمانة.
والثاني: نفي التهمة؛ نحو أن لا يكون المشهود له ولدا ولا والدا ولا زوجة ولا زوجا، فإن شهادة هؤلاء غير مقبولة لما ذكرنا، وإن كانوا عدولا مرضيّين.
الثالث: التيقّظ وقلة الغفلة وأن لا يكون كثير الغلط.
قال النخعيّ: (الرّجل العدل: هو من لم يظهر فيه ريبة).وقال الشعبيّ: (هو من لا يطعن عليه في بطن ولا فرج).وقال الحسن: (هو من لم يعلم له خيانة).
وقال صلى الله عليه وسلم: [لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة؛ ولا مجلود؛ ولا ذي حقد على أخيه؛ ولا من جرت عليه شهادة زور؛ ولا الخادم مع أهل البيت]
(2)
.وعن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشّهادة؟ فقال: [أترى هذه الشّمس؟] فقال:
نعم، قال:[على مثلها فاشهد أو دع]
(3)
.
(1)
فراغ في الأصل.
(2)
في كنز العمال: (17754 - 17759)،والحديث عن ابن عمر وعائشة وابن عمرو وسليمان بن موسى، أخرجه أبو داود في السنن: كتاب الأقضية: باب من ترد شهادته: الحديث (3600 - 3602).والترمذي في الجامع: أبواب الشهادات: الحديث (2298) وضعفه. وابن ماجة في السنن: كتاب الأحكام: باب من لا تجوز شهادته: الحديث (2366).والدارقطني في السنن: ج 4 ص 244.برواياته: كتاب الأقضية والأحكام: الحديث (143 - 147).
(3)
أخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب الأحكام: باب الصدق طمأنينة والكذب ريبة: الحديث-
قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى؛} معناه: أن تذكّر الذاكرة الناسية إن نسيت، ومعنى تضلّ: تنسى، كقوله تعالى:{قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضّالِّينَ}
(1)
.وقوله تعالى: {(فَتُذَكِّرَ)} معطوف على {(تَضِلَّ)} .وقرأ الأعمش:
«(إن تضلّ)» بكسر الهمزة «(فتذكّر)» بالرفع، ومعناه: الخبر أو الابتداء. وموضع {(تَضِلَّ)} جزم بالجزاء، إلا أنّه لا تبين فيه للتضعيف، {(فَتُذَكِّرَ)} رفعا؛ لأن ما بعد (فاء) الخبر مبتدأ. وقيل في تفسير الآية: إن امتنعت إحدى المرأتين عن أداء الشهادة تعظها الأخرى حتى تشهد.
ومن قرأ «(فتذكر)» بالتخفيف) فالإذكار والتذكير بمعنى واحد. وقيل في معنى التحقيق: تجعلها ذكرا؛ أي يقومان مقام رجل. قرأ زيد بن أسلم: «(فتذاكر إحداهما الأخرى)» من المذاكرة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: «(فتذكر)» بالتخفيف. وقرأ الباقون «(فتذكّر)» بالتشديد.
قوله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا؛} أي لا يمتنعوا إذا دعوا إلى إقامة الشهادة عند الحكّام، وهذا قول مجاهد وعطاء وعكرمة وابن جبير والضحاك والسديّ. وقال بعضهم: هذا في تحمّل الشهادة؛ وهو أمر إيجاب أيضا.
قال قتادة: (كان الرّجل يطوف في الحيّ العظيم فيه القوم؛ فيدعوهم إلى الشّهادة؛ فلا يتبعه أحد منهم؛ فأنزل الله هذه الآية)
(2)
.
وقال الشعبيّ: (هو مخيّر في تحمّل الشّهادة إذا وجد غيره، فإذا لم يوجد غيره وجب عليه التّحمّل)
(3)
.وقال بعضهم: هذا أمر ندب؛ وهو مخيّر في جميع الأحوال، وهو قول عطاء. وقال المغيرة: (قلت لإبراهيم: إنّي أدعى إلى الشّهادة؛ وإنّي أخاف
(3)
- (7127)؛وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» ،وتعقبه الذهبي في مختصره؛ فقال:«بل واه» .معلول ب (محمد بن سليمان) و (عمرو بن مالك البصري).
أن أنسى، قال: فلا تحمل إن شئت)
(1)
.وقال الحسن: (هذه الآية في التّحمّل والإقامة إذا كان فارغا)
(2)
.
قوله تعالى: {وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ؛} أي لا تملّوا أن تكتبوا الحقّ قليلا كان أو كثيرا إلى محله، يقال: سأمت أسأم سآمة؛ إذا مللت، قال زهير
(3)
:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
…
ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
وقال لبيد
(4)
:
ولقد سئمت من الحياة وطولها
…
وسؤال هذا النّاس كيف لبيد؟
و (أن) في موضع نصب من وجهين؛ إن شئت جعلته مع الفعل مصدرا؛ وأوقعت السّئامة عليه؛ تقديره: ولا تسأموا كتابته. وإن شئت نصبه بنزع الخافض، و (الهاء) راجعة إلى الحقّ؛ أي ولا تسأموا من أن تكتبوه.
وقرأ السلمي: «(ولا يسأموا)» بالياء، وقوله تعالى:(صغيرا أو كبيرا) انتصب من وجهين؛ أحدهما: على الحال من الهاء. والثاني: أن يجعله خبرا ل (كان) المحذوفة؛ تقديره: صغيرا كان الحقّ أو كبيرا.
قوله عز وجل: {ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاّ تَرْتابُوا} أي الكتاب أعدل عند الله وأحصى للأجل وأحفظ للشهادة وأقرب أن لا يشكّوا في مقدار الحق ومقدار الأجل. وفي هذا دليل أنه لا يجوز إقامة الشهادة إلا مع زوال الريب، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[إذا رأيت مثل الشّمس فاشهد وإلاّ فدع]
(5)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5005).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5010).
(3)
البيت من معلقة زهير؛ ينظر: الديوان: ص 29.شرح الشنقيطي (86).
(4)
البيت للبيد؛ ينظر: ديوان لبيد (35). المحتسب: ج 1 ص 189.
(5)
تقدم.
قوله تعالى: {إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ؛} قرأ عاصم «(تجارة)» بالنصب على خبر كان، وأضمر اسمها؛ تقديره: إلا أن تكون المداينة تجارة أو المبايعة تجارة. وقرأ الباقون بالرفع لوجهين؛ أحدهما: أن يكون الكون بمعنى الوقوع؛ تقديره: إلا أن تكون تجارة؛ فحينئذ لا خبر له، والثاني: أن تجعل تجارة اسم يكون، والخبر {(تُدِيرُونَها)}؛تقديره: إلا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم.
ومعنى الآية: إلاّ أن تقع تجارة حالّة يدا بيد، {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاّ تَكْتُبُوها؛} في ترك الكتابة في تلك التجارة؛ لأنه ليس فيه أجل ولا نسيئة، وهذا توسعة من الله للعباد كيلا يضيّق عليهم أمر بيعاتهم في المأكول والمشروب والأشياء التي تمسّ حاجتهم إليها في أكثر الأوقات. ويشقّ عليهم كتابة جميعها.
قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ؛} أي أشهدوا على حقوقكم إذا بعتم واشتريتم، وهذا محمول على البياعات النفيسة، فأما القدر اليسير الذي ليس في العادة التوثيق بالإشهاد فيه نحو شراء الخبز والبقل وما جرى مجراه؛ فغير داخل في هذا الخطاب.
قال الضحّاك: (قوله: {(وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ)} هذا الإشهاد واجب في صغير الحقّ وكبيره؛ ونقده ونسيئته ولو كان على تافه).وقال آخرون: هو أمر ندب؛ إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد.
قوله تعالى: {وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ؛} يحتمل وجهين؛ أحدهما:
لا يضارّ الكاتب ولا الشاهد الطالب والمطلوب؛ يعني لا يكتب الكاتب إلا بالحقّ، ولا يشهد الشاهد إلا بالحقّ. تقديره: لا يضارر على النهي. والثاني: على اسم ما لم يسمّ فاعله؛ أي لا يدعى الكاتب وهو مشغول لا يمكنه ترك شغله إلا بضرر يدخل عليه، وكذلك لا يدعى الشاهد ومجيئه يضرّ به.
قوله تعالى: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ؛} أي لا تقصدوا المضارّة بعد نهي الله تعالى عنها، فإنه إثم وخروج من أمر الله. وقوله تعالى:
{وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ؛} أي {(وَاتَّقُوا اللهَ)} في الضّرار ولا تعصوه
فيما أمركم به، {(وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ)} ما به قوام دينكم ودنياكم، {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ؛} من أعمالكم، {عَلِيمٌ} (282)؛يعلم ما تعملون في الكتابة والشهادة.
قوله تعالى: {*وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ} الآية، معناه: إذا كنتم مسافرين {(وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً)} يكتب الوثيقة بالحقّ، (ف) الوثيقة (رهان) يقبضها الذي له الحقّ.
قرأ ابن عباس وأبو العالية ومجاهد: «(كتابا)» يعني الصحيفة والدّواة؛ قالوا: لأنه ربّما يجد الكاتب ولا يجد المراد والصحيفة والدواة. وقرأ الضحّاك: «(كتّابا)» على جمع الكاتب. وقرأ الباقون: «(كاتبا)» وهو المختار لموافقة المصحف.
وقوله تعالى: {(فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ)} قرأ ابن عباس ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو:
«(فرهن)» .وقرأ عكرمة وعبد الوارث: «(فرهن)» بإسكان الهاء. وقرأ الباقون: «(فرهان)» وهو جمع رهن مثل نعل ونعال؛ وجبل وجبال. والرّهن: جمع رهان وهو جمع الجمع، قاله الفرّاء والكسائي. وقال أبو عبيد:(هو جمع رهن، مثل سقف وسقف).
قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ؛} أي إن كان الذي عليه الحقّ أمينا عند صاحب الحق فلم يرتهن منه شيئا لثقته وحسن ظنّه؛ {(فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ)} أي فليؤدّ المطلوب أمانته بأن لا يبخس ولا يجحد.
قوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ؛} أي لا تكتموها عند الحكّام ولا تمتنعوا عن أدائها، {وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ؛} أي فاجر سريرته، وأضاف الإثم إلى القلب وإن كان الآثم هو الكاتم؛ لأن اكتساب الإثم بكتمان الشهادة يقع بالقلب؛ وهذا أبلغ في الوعيد وأحسن في البيان؛ لأن كاتم الشهادة يلحقه الإثم من وجهين؛ أحدهما: العزم على أن لا يؤدّي. والثاني: ترك أدائها باللسان.
قوله تعالى: {وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (283)؛أي عليم بما تعملون به من كتمان الشهادة وإقامتها؛ وأداء الأمانة والخيانة فيها؛ عالم لا يخفى عليه شيء ممّا تفعلون.
ولا خلاف بين العلماء في جواز الرهن في الحضر؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم [اشترى من يهوديّ طعاما إلى أجل ورهنه درعه]
(1)
.والفائدة في ذكر السفر في الآية: أن الأغلب من حال السفر عدم الشهود والكتّاب؛ فخصّ الرهن بحال السفر. وعن مجاهد: (أنّه كان يكره الرّهن في الحضر).
قوله عز وجل: {لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ؛} اختلف المفسرون في هذه الآية؛ فقال قوم: هي خاصّة؛ واختلفوا في خصوصها، فقال بعضهم: نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها. يعني: {(وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ)} أيّها الشهود من كتمان الشهادة أو تخفوا الكتمان {(يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)} . وهذا قول الشعبيّ وعكرمة، ورواية مجاهد عن ابن عباس، يدلّ عليه قوله تعالى فيما قبلها:{وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ} الآية.
وذهب بعضهم إلى أنّها عامّة في الشهادة وفي غيرها، ثم اختلفوا في وجه عمومها؛ فقال بعضهم: هي منسوخة.
وروي أنّه لمّا نزلت هذه الآية جاء أبو بكر وعمر وعبد الرّحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وناس من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فجثوا على الرّكب وقالوا: يا رسول الله، ما نزل علينا آية أشدّ من هذه؛ إنّ أحدنا ليحدّث نفسه بما لا يحبّ أن يثبت في قلبه-يعني يحدث نفسه بأمر من المعصية ثم لا يعمل بها-وإنّا لمؤاخذون بما نحدّث به نفوسنا إذا هلكنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم:[هكذا نزلت]،فقالوا: كلّفنا من العمل ما لا نطيق، فقال صلى الله عليه وسلم:[أفتقولون كما قالت اليهود: سمعنا وعصينا؟!] فقالوا: بل سمعنا وأطعنا يا رسول الله. واشتدّ عليهم ذلك؛ فمكثوا حولا، فأنزل الله عز وجل:
{لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها}
(2)
فنسخت ما قبلها. فقال صلى الله عليه وسلم: [إنّ الله تجاوز
(1)
أخرجه البخاري عن علي رضي الله عنه في الصحيح: كتاب البيوع: باب شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة: الحديث (2068)،وفي كتاب السلم: باب الرهن في السلم: الحديث (2252).
(2)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 1 ص 233.ومسلم في الصحيح: كتاب الإيمان: باب أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا بما يطاق: الحديث (125/ 199)،وإسناده صحيح.
لأمّتي ما حدّثت به أنفسها ما لم يعملوا أو يتكلّموا به]
(1)
.وهذا قول ابن مسعود وأبي هريرة وعائشة برواية ابن جبير وعطاء وابن سيرين وقتادة والكلبيّ وشيبان.
وقال بعضهم: لا يجوز أن تكون هذه الآية منسوخة؛ لأنّها خبر من عند الله؛ والخبر لا يحتمل النسخ؛ لأنه خلف؛ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، لكنّ المراد بالآية إظهار العمل وإخفاؤه. وقال الربيع:(هذه الآية محكمة لم ينسخها شيء، فإنّ الله تعالى يعرّف عبده يوم القيامة، يقول: إنّك أخفيت في صدرك كذا وكذا، يحاسبه على ما أسرّ وأعلن من حركة في جوارحه وهمّه في قلبه، فهكذا يصنع بكلّ عباده، ثم يغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء)
(2)
.
وقيل: لا يؤاخذ المؤمن بما حاسبه من ذلك، فمعناه: وإن تظهروا ما في أنفسكم من المعاصي أو تضمروا إرادتها في أنفسكم فتخفوها {(يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)} أي يخبركم بها ويحاسبكم عليها، ثم يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وهذا قول الحسن والربيع ورواية الضحاك عن ابن عباس، يدلّ عليه قوله تعالى:{وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً}
(3)
.
وقال آخرون: معنى الآية: أنّ الله يحاسب خلقه بجميع ما أبدوا من أعمالهم وأخفوا ويعاقبهم عليه؛ غير أنّ معاقبته إياهم على ما أخفوا مما لم يعملوا بها بما يحدث في الدنيا من النوائب والمصائب والأمور التي يحزنون عليها ويألمون بها؛ مثل الحمّى وغير ذلك حتى الشوكة يشاكها والشيء يضيع فيفقده ويراع عليه، ثم يجده
(4)
.وهذا قول عائشة رضي الله عنها
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب العتق: باب الخطأ والنسيان: الحديث (2528).ومسلم في الصحيح: كتاب الإيمان: باب تجاوز الله عن حديث النفس: الحديث (123/ 201).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5088).
(3)
الإسراء 36/.
(4)
في أصل المخطوط: (يحدثه) بدل (يجده).
(5)
روى الضحاك عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله ما حدّث العبد به نفسه من شرّ كانت محاسبة الله تعالى عليه؟ فقال: [يا عائشة هذه معاتبة الله عز وجل العبد بما يصيبه من-
وقال بعضهم: معناه: {(وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ)} من الأعمال الظاهرة، {(أَوْ تُخْفُوهُ)} من الأحوال الباطنة، {(يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)} العائد على أفعال العارف على أحواله
(1)
.
وقال بعضهم: إن الله تعالى يقول يوم القيامة: هذا يوم تبلى السّرائر وتحرج الضمائر، وإن كتّابي لم يكتبوا إلا ما ظهر من أعمالكم، وأنا المطّلع على سرائركم مما لم يعلموه ولا يكتبوه، فأنا أخبركم بذلك وأحاسبكم؛ لتعلموا أنه لا يعزب عنه مثقال ذرّة من أعمالكم، ثم أغفر لمن شئت وأعذب من شئت. فأما المؤمنون فيخبرهم بذلك كله ويغفر لهم، ولا يؤاخذهم بذلك إظهار لفضله. وأما الكافرون فيخبرهم ويعاقبهم عليها إظهارا لعدله
(2)
.فمعنى الآية: {(وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ)} فتعملوا به، {(أَوْ تُخْفُوهُ)} مما أضمرتم وأسررتم ونويتم، {(يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)} ويعرّفكم إياه ويغفر للمؤمنين، ويعذب الكافرين، يدلّ عليه قوله تعالى:{(يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)} ولم يقل:
يؤاخذكم به الله. والمحاسبة غير المعاقبة فالحساب ثابت، والعقاب ساقط. وقال الحسن ابن مسلم:(يحاسب الله المؤمن بالمنّة والفضل؛ والكافر بالحجّة والعدل).
وقيل في تأويل الآية: أنّها وردت فيما يؤاخذ به العبد فيما بينه وبين الله تعالى، وتأويل قوله صلى الله عليه وسلم:[إنّ الله تجاوز لأمّتي ما حدّثت به أنفسها ما لم يعملوا أو يتكلّموا به]
(3)
:إنّما ورد فيما يلزم العبد من أحكام الدنيا، فلا يقع عتقه ولا طلاقه ولا بيعه ولا هبته بالنيّة ما لم يتكلّم.
(5)
-الحمّى والنّكبة، وحتّى الشّوكة والبضاعة يضعها في كمّه فيفقدها، فيروع لها فيجدها في ضبنه، حتّى أنّ المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التّبر الأحمر من الكير].أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 1 ص 218.
(1)
وذلك أن أفعال الجوارح إذا خلت عن أفعال القلوب، لا يترتب عليها عقاب، كأفعال النائم والساهي، ويدل عليه حديث علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنّ الله تجاوز لأمّتي عن الخطأ والنّسيان، وما استكرهوا عليه].
(2)
جامع البيان: تفسير الآية: النصوص (5082 - 5087) عن الضحاك عن ابن عباس.
(3)
تقدم.
ومن نظائر هذه الآية: {وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}
(1)
وقوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}
(2)
.ويدلّ على ذلك أن من أحبّ ما يبغضه الله، أو أبغض ما يحبّه الله كان معاقبا على ذلك وإن لم يعمل إلا بقلبه.
وقال بعضهم: إن الإخفاء في هذه الآية أن يضمر على السّوء ويهمّ به، ثم لا يصل إليه ولا يتمكّن منه. وهذا القول حسن جدا اختاره جماعة من المفسرين.
قوله تعالى: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ؛} رفعهما أبو جعفر وابن عامر والحسن وعاصم ويعقوب على الابتداء؛ أي فهو يغفر. ونصبهما ابن عباس على الصرف. وجزمهما الباقون عطفا على {(يُحاسِبْكُمْ)} .قوله تعالى:
{وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (284)؛يعني من المغفرة والعقوبة.
قوله عز وجل: {آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ؛} الآية، لمّا سبق في السورة ذكر أحكام كثيرة أثنى الله على من آمن بها وقبلها، وقال عزّ من قائل:{(آمَنَ الرَّسُولُ)} بجميع الأحكام التي أنزلها الله تعالى، وكذلك المؤمنون كلّهم آمنوا بالله، وقوله تعالى:{وَمَلائِكَتِهِ؛} إنّما أتى بالملائكة لأن حيّا من خزاعة كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، فقال صلى الله عليه وسلم: [والمؤمنون يقولون:
إنّ الملائكة عباد الله].
قوله: {وَكُتُبِهِ؛} قرأ ابن عباس وعكرمة والأعمش وحمزة والكسائيّ وخلف: «(وكتابه)» بالألف. وقرأ الباقون «(وكتبه)» بالجمع، وهو ظاهر كقوله {(وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ)}. وللتوحيد وجهان؛ أحدهما: أنّهم أرادوا القرآن خاصّة، والثاني: أنّهم أرادوا جميع الكتب؛ كقول العرب: كثر الدرهم والدينار في أيدي الناس، يريدون الدراهم والدنانير. يدلّ عليه قوله تعالى:{فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ}
(3)
.
(1)
البقرة 225/.
(2)
النور 19/.
(3)
البقرة 213/.
وقوله تعالى: {وَرُسُلِهِ؛} قرأ الحسن: «(ورسله)» بسكون السين لكثرة الحركات؛ {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ؛} أي لا نفعل كما فعل أهل الكتاب آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض. وفي مصحف عبد الله: «(لا يفرّقون بين أحد من رسله)» .وقرأ جرير بن عبد الله وسعيد بن جبير ويحيى بن يعمر ويعقوب: «(لا يفرّق)» بالياء، بمعنى لا يفرّق الكلّ، ويجوز أن يكون خبرا عن الرسول. وقرأ الباقون بالنون على إضمار القول؛ تقديره: قالوا لا نفرّق، كقوله تعالى:{وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ}
(1)
؛أي يقولون: سلام عليكم.
قوله عز وجل: {وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا؛} أي سمعنا قولك وأطعنا أمرك. وقيل: معنى {(وَأَطَعْنا)} قبلنا ما سمعنا؛ بخلاف ما قالت اليهود. وقوله تعالى:
{غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (285)؛أي اغفر غفرانك يا ربّنا. وقيل:
معناه: نسألك غفرانك. والأول مصدر، والثاني مفعول. وقوله تعالى:{(وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)} أي نحن مقرّون بالبعث. ومعنى قوله: {(وَإِلَيْكَ)} أي إلى جزائك؛ وهذا كما قال عز وجل حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ}
(2)
أي إلى حيث أمر ربي.
قوله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ؛} قرأ إبراهيم بن أبي عبلة: «(إلاّ وسعها)» بفتح الواو وكسر السين على الفعل؛ يريد إلا وسعها أمره.
ومعنى الآية: {(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً)} فرضا من فروضها من صوم أو صلاة أو صدقة أو غير ذلك من حديث النفس؛ إلا مقدار طاقتها كما قال صلى الله عليه وسلم لعمران بن الحصين: [صلّ قائما؛ فإن لم تستطع فقاعدا؛ فإن لم تستطع فعلى جنبك تومئ
(1)
الرعد 23/-24.
(2)
الصافات 99/.
إيماء]
(1)
.قال قوم: لو كلّف الله العباد فوق وسعهم لكان ذلك له؛ لأن الخلق خلقه والأمر أمره، ولكنه أخبر أنه لا يفعله.
قوله تعالى: {(لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ)} يعني النفس لها جزاء ما عملت من الخير والعمل الصالح؛ أي لها أجره وثوابه؛ وعليها وزر ما اكتسبت من المعصية والعمل السيّئ لا يؤاخذ أحد بذنب أحد؛ ولا تزر وازرة وزر أخرى.
والفرق بين الكسب والاكتساب: أن الكسب فعل الإنسان لنفسه ولغيره، والاكتساب ما يفعله لنفسه خاصة. وقيل: لا فرق بينهما في اللغة. فعلى القول الأول وصف المسيء بالاكتساب؛ لأن وزره لا يعدوه؛ ومعصيته لا تضرّ غيره، ووصف المحسن بالكسب؛ لأن غيره يشاركه في ثوابه بالهداية والشفاعة.
قوله تعالى: {رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا؛} أي لا تعاقبنا إن نسينا طاعتك أو أخطأنا في أمرك. وقال الكلبيّ: (إن جهلنا أو تعمّدنا)،فذهب إلى الخطأ الذي هو ضدّ الصواب لا ضدّ القصد. يقال: خطأ إذا تعمّد؛ وأخطأ إذا سهى، وقد يقال: أخطأ إذا تعمّد. وقيل: معنى الآية: إن تركنا أمرا أو اكتسبنا خطيئة.
والنسيان بمعنى الترك معروف في الكلام كما في قوله تعالى: {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ}
(2)
أي تركوا ذكر الله وأمره فتركهم في العذاب. والمراد بالمؤاخذة والنسيان سقوط الإثم في الآخرة. فأما في حكم الدنيا فلا يرتفع التكليف منه إذا ذكره بعد النسيان كما قال صلى الله عليه وسلم: [من نام عن صلاة أو نسيها فليصلّها إذا ذكرها]
(3)
.وكذلك الخطأ مرفوع الإثم في الآخرة وهو تأويل الخبر المرويّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ورفع
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 4 ص 426.والبخاري في الصحيح: كتاب تقصير الصلاة: باب إذا لم يطق قاعدا: الحديث (1117).وأبو داود في السنن: كتاب الصلاة: الحديث (952). والترمذي في الجامع: أبواب الصلاة: باب ما جاء أن صلاة القاعد على النصف: الحديث (372).
(2)
التوبة 67/.
(3)
أخرجه الطبراني في الأوسط: الحديث (6125)،وإسناده صحيح.
عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه]
(1)
.فأمّا في أحكام الدنيا فيتعلق به الحكم؛ لأن الله نصّ على لزوم قتل الخطأ في إيجاب الدية والكفارة.
قال الكلبيّ: (كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئا ممّا أمروا به أو أخطئوا عجّلت لهم العقوبة، فيحرّم عليهم شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الدّية، فأمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم).وقال ابن زيد: (قوله تعالى: {(إِنْ نَسِينا)} شيئا ممّا افترضته علينا، {(أَوْ أَخْطَأْنا)} شيئا ممّا حرّمته علينا).
قوله عز وجل: {رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا؛} أي لا تحمل علينا ثقلا؛ ويقال: عهدا؛ كما حملته على بني إسرائيل بجرم منهم أمرتهم بقتل بعضهم بعضا؛ وحرّمت عليهم الطيبات بظلمهم، وكما كانوا مأمورين بأداء ربع أموالهم في الزكاة ونحو ذلك من الأمور التي كانت تثقل عليهم.
ومنه قوله تعالى: {وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي}
(2)
أي عهدي.
قوله تعالى: {رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ؛} أي لا تحمّلنا ما يشقّ علينا من الأعمال، وهذا كما يقال: لا أطيق كلام فلان، ولا أطيق هذا الأمر؛ أي لا أحمله إلا بمشقّة. هذا هو معنى الآية؛ لأن الله تعالى لا يكلّف أحدا شيئا لا يكون ذلك في قدرته. وقيل: معناه: {(ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ)} من العذاب، وقيل: هو حديث النفس والوسوسة. وعن مكحول أنّه (الغلمة)
(3)
.وعن بعضهم أنه كان يقول: اللهمّ أعذني وإخوتي من شرّ الغلمة، فإنّها ربّما جرّت إلى جهنم. وقال ابن عبد الوهاب:(يعني العشق).وعن إبراهيم في قوله تعالى: {(رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ)} :قال يعقوب: (يعني الحبّ).
وقال بعضهم: حضرت ذا النون المصريّ في مجلس له، فتكلم ذلك اليوم في محبّة الله عز وجل، فمات أحد عشر نفسا في المجلس؛ فصاح رجل من المريدين فقال:
(1)
تقدم.
(2)
آل عمران 71/.
(3)
عن الدر المنثور: ج 2 ص 136؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن أبي حاتم عن مكحول؛ قال: الغربة والغلمة والإنعاظ» .ومعنى الغلمة: هيجان شهوة النكاح؛ أي شدّة شهوة المواقعة بين الرجل والمرأة.
ذكرت محبة الله، فاذكر محبة المخلوقين. فتأوّه ذو النون تأوّها شديدا وشقّ قميصه نصفين، وقال: آه .. علقت رهونهم؛ واستعبرت عيونهم؛ وخالفوا السّهاد؛ وفارقوا الرقاد؛ فليلهم طويل؛ ونومهم قليل؛ أحزانهم لا تتغير؛ وهمومهم لا تفقد؛ باكية عيونهم؛ قريحة جفونهم.
وقال يحيى بن معاذ: (لو كانت العقوبة بيدي يوم القيامة لما عذّبت العشّاق؛ لأنّ ذنوبهم اضطرار لا اختيار).وقال بعضهم: {(رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ)} يعني شماتة الأعداء؛ قال الشاعر:
كلّ المصائب قد تمرّ على الفتى
…
فتهون غير شماتة الحسّاد
إنّ المصائب تنقضي أيّامها
…
وشماتة الحسّاد بالمرصاد
وقيل: هو الفرقة والقطيعة، نعوذ بالله العظيم منهما، يقال: قطع الأوصال أيسر من قطع الوصال.
قوله عز وجل: {وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا؛} أي تجاوز عن تقصيرنا وذنوبنا ولا تفضحنا {(وَارْحَمْنا)} ؛فإنّنا لا ننال العمل بطاعتك إلا بمعونتك، ولا نترك المعصية إلا برحمتك. وقيل: معنى: {(وَاعْفُ عَنّا)} أي اترك عنّا العقوبة، ومعنى العفو: الترك. وقوله تعالى: {(وَاغْفِرْ لَنا)} أي استر لنا ذنوبنا وعيوبنا، {(وَارْحَمْنا)} أي أنعم علينا بالجنة والثواب، وقيل: معنى الآية: {(وَاعْفُ عَنّا)} من المسخ {(وَاغْفِرْ لَنا)} من الخسف {(وَارْحَمْنا)} من الغرق؛ أي لا تفعل بنا ما فعلت ببعض من تقدّمنا من الأمم. وقيل: معناه: {(وَاعْفُ عَنّا)} الصغائر {(وَاغْفِرْ لَنا)} الكبائر {(وَارْحَمْنا)} بتثقيل الميزان. وقيل: معناه: {(وَاعْفُ عَنّا)} في سكرات الموت {(وَاغْفِرْ لَنا)} في ظلمة القبور {(وَارْحَمْنا)} في أهوال القيامة.
قوله تعالى: {أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ} (286)؛ أنت وليّنا وناصرنا ومتولّي أمورنا، {(فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)} أي أعنّا عليهم في إقامة الحجة وإظهار الدين كما وعدتنا.
روي عن عبد الله بن عباس: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم [لمّا قرأ {غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} قال: قد غفرت لكم، فلمّا قرأ:{رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا} قال:
لا أؤاخذكم، فلمّا قرأ {رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا،} قال: لا أحمل عليكم، فلمّا قرأ {رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ} قال: لا أحملكم، فلمّا قرأ {وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ} قال: قد عفوت عنكم؛ وغفرت لكم؛ ورحمتكم؛ ونصرتكم على القوم الكافرين]
(1)
.
وكان معاذ بن جبل إذا ختم هذه السورة، قال:(آمين)
(2)
.
وعن الحسن والضحاك ومجاهد وجماعة من المفسرين: أنّ قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ .. } . إلى آخر السورة كان في قصة المعراج؛ قالوا: لمّا انتهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى قال له جبريل: إنّي لم أجاوز هذا المكان، ولم يؤمر أحد بالمجاوزة غيرك، فامض أنت. قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:[فمضيت حتّى انتهيت إلى ما أراد الله تعالى] فأشار جبريل عليه السلام أن سلّم على ربك، فقلت:[التّحيّات لله والصّلوات والطّيّبات] فقال الله عز وجل: السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته. قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:
فأحببت أن يكون لأمّتي حظّ في السّلام، فقلت:[السّلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين] فقال جبريل وأهل السّماوات كلّهم: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله. فقال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} . فأراد النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشرك أمّته في الكرامة والفضيلة؛ فقال صلى الله عليه وسلم: {وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} الآية، قال الله تعالى:{لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها} الآية، فقال جبريل عليه السلام عند ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: سل تعط، فقال صلى الله عليه وسلم:{رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا} إلى آخر السّورة. فلمّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوحى الله إليه بهذه الآيات ليعلم أمّته بذلك أو يعلمهم كيف يدعون الله تعالى].
وقد تقدّم فضل السّورة والله الموفّق.
آخر تفسير سورة (البقرة) والحمد لله رب العالمين
(1)
رواه الطبري في جامع البيان: النص (5127) بمعناه، وبلفظه في النص (5133).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5135).