الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونفس نص الآية الكريمة يكذِّبهم فيما يدَّعونه.
ومثال ذلك: أنك حين تقول: «اتخذ فلان بيتاً» أي: أن فلاناً له ذاتية سابقة على اتخاذه للبيت، وبها اتخذ البيت، فإذا قيل:{اتخذ الله وَلَداً} [يونس:
68]
.
فهذا اعتراف منهم بكمال الله تعالى وذاتيته قبل أن يتخذ الولد.
وهم قد اختلفوا في أمر هذا الولد، فمنهم من قال: إن الملائكة هن بنات الله وكذَّبهم الحق سبحانه في ذلك، ومنهم من قال: عزير ابن الله وهم اليهود وقد كذَّبهم الله سبحانه في ذلك، وطائفة من المسيحيين قالوا: إن المسيح ابن الله، وكذَّبهم الحق سبحانه في ذلك.
ثم ما الداعي أن يتخذ الله الولد؟
هل استنفد قوته حتى يساعده الولد؟ {
وهل يمكن أن يضعف سبحانه معاذ الله فيمتد بقوة الولد أو يعتمد عليه؟}
مثلما يقال حين يواجه شيخٌ شابّاً، ويعتدي الشاب على الشيخ، فيقال للشاب: احذر؛ إن لهذا الشيخ ولداً أقوى منك؛ فيرتدع الشاب، أو أن يقول الشيخ للشاب: إن أبنائي يفوقونك في القوة، وفي هذا اعتداد بالأولاد.
ويريد الحق سبحانه أن يغفل كل هذه الدعاوي ولتكون حركة الحياة متماسكة متلازمة، لا متعارضة ولا متناقضة؛ لذلك ينبغي أن يكون
المحرِّك إلهاً واحداً تصدر منه كل الأوامر، فلا تعارض في تلك الأوامر؛ لأن الأوامر إن صدرت عن متعدد فحركة الحياة تتصادم بما يبدد الطاقة ويفسد الصالح.
ولذلك لا بد أن يكون الأمر صادراً من آمر واحد يُسْلَّم له كل أمر، وهذا الإله منزَّه عن كل ما تعرفه من الأغيار، فله تنزيه في ذاته؛ فلا ذات تشبه ذاته، ومنزَّه في صفاته؛ فلا صفة تشبه صفته، ومنزَّه في أفعاله؛ فلا فعل يشبه فعله.
وحتى نضمن هذه المسألة لا بد أن يكون الإله واحداً، ولكن بعضاً من القوم جعلوا لله شركاء، ومن لم يجعل له شريكاً، توهَّم أن له ابناً وولداً.
ونقول لهم:
إن كلمتكم: {اتخذ الله وَلَداً} [يونس: 68] ترد عليكم؛ لأن معنى اتخاذ الولد أن الألوهية وُجِدَت أولاً مستقلة، وبهذا الألوهية اتخذ الولد.
ومن المشركين من قال: إن الملائكة بنات الله.
فردَّ عليهم الحق سبحانه:
{أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} [النجم: 2122] .
والكمال كله لله سبحانه فهو كمال ذاتي؛ ولذلك يأتي في وسط الآية ويقول تعالى:
{سُبْحَانَهُ هُوَ الغني} [يونس: 68] .
وسبحانه تعني: التنزيه، وهو الغني أي: المستغني عن مُعِين كما تستعينون أنتم بأبنائكم، وهو دائم الوجود؛ فلا يحتاج إلى ابن مثل البشر، وهم أحداث تبدأ وتنتهي؛ لذلك يحبون أن يكون لهم أبناء كما يقول الشاعر:
ابني يا أنا بعد ما أقَضي
…
ويقال: «من لا ولد له لا ذِكْر له» ، كأن الإنسان لما علم أنه يموت لا محالة أراد أن يستمر في الحياة في ولده.
ولذلك حين يأتي الولد للإنسان يشعر الإنسان بالسرور والسعادة، والجاهل هو من يحزن حين تلد له زوجته بنتاً؛ لأن البنت لن تحمل الاسم لمن بعدها، أما الولد والحفيد فيحملان اسم الجد، فيشعر الجد أنه ضمن الذِّكْر في جيلين.
إذن: فاتخاذ الولد إما استعانة وإما اعتداد، والحق سبحانه غنيٌّ عن الاستعانة، وغني عن الاعتداد؛ لأنك تعتد بمن هو أقوى منك، وليس هناك أقوى من الله تعالى، وهو سبحانه لا يحتاج لامتداد؛ لأنه هو الأول وهو الآخر، وعلى ذلك ففكرة اتخاذ الولد بالنسبة لله تعالى لا تصح على أي لون من ألوانها.
ولذلك يقول الحق سبحانه مرادفاً لتلك الفكرة: {سُبْحَانَهُ} لأنها تقطع كل احتمالات ما سبقها، ويُتْبعِ ذلك بقوله:{هُوَ الغني} لأنه
غني عن اتخذا الولد، وغني عن كل شيء، وقوله:{سُبْحَانَهُ} تنزيه له، والتنزيه: ارتفاع بالمُنَزَّه عن مشاركة شيءٍ له في الذات أو الأفعال.
وإذا ورد شيء هو لله وصفٌ ولخَلْقه وصفٌ، فإياك أن تأخذ هذه الصفة مثل تلك الصفة.
فإن قابلت غنياً من البشر، فالغني في البشر عَرَضٌ، أما غنى الله تعالى ففي ذاته سبحانه.
وأنت حي والله سبحانه حي، ولكن أحياتك كحياته؟ لا؛ لأن حياته سبحانه لم يسبقها عدم، وحياتك سبقها عدم، وحياته سبحانه لا يلحقها عدم، وأنت يلحق حياتك العدم.
والله موجود وأنت موجود، لكن وجوده سبحانه وجود ذاتيٌّ، ووجودك وجود عَرَضِيٌّ.
وإذا قال الحق سبحانه:
إن له سبحانه وتعالى يداً {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] .
فلا يمكن أن تكون يد الله سبحانه مثل يدك؛ لأن ذاته سبحانه ليست كذاتك، وصفاته سبحانه ليست كصفاتك، وهو سبحانه القادر الأعلى، ولا يمكن أن يكون مقدوراً لأحد.
ولذلك حين يتجلَّى الله سبحانه لخلقه، فسوف يتجلى بالصورة التي
تختلف عن كل خيال العبد، وهذه الصورة تختلف من عبد إلى آخر، ولو كانت الصورة التي يتجلى بها الله سبحانه مقدوراً عليها لكان معنى ذلك أن هناك ذهناً بشرياً قد قدر على الإحاطة بها. وما خطر ببالك فالله سبحانه بخلاف ذلك؛ لأن ما خطر بالبال مقدور عليه لأنه خاطر، والله سبحانه لا ينقلب أبداً إلى مقدور عليه.
وأنت حين تأتي بمسألة في الحساب أو الهندسة مثلاً، وتعطيها لتلميذ ويقوم بحلها، فمعنى ذلك أن عقله قد قدر عليها، أما إن جئت لتلميذ في المرحلة الإعدادية مثلاً بمسألة هندسية مقررة على طلبة كلية الهندسة؛ فعقله لن يقدر عليها.
إذن: لو أن الإنسان قد أدرك شيئاًً عن الله غير ما قاله الله لا نقلب الإله إلى مقدور عليه، والحق سبحانه مُنَزَّه عن ذلك؛ لأنه القادر الأعلى الذي لا ينقلب أبداً إلى مقدور.
لذلك يعلِّمنا الحق سبحانه أن نقول تنزيهاً لله تعالى كلمة {سُبْحَانَهُ} ، وهو التنزيه الواجب عن كل شيء يخطر ببال الإنسان عن الله تعالى، وهذه السبحانية أو هذا التنزيه هو صفة ذاتية في الله تعالى، قبل أن يوجد شيء، وبعد أن خَلَق الخَلْق، فعلى كل المخلوقات تنزيهه، وبدأ الخلق في التسبيح.
والتسبيح فعل مستمر لا ينقطع ولا ينقضي؛ لذلك تجد استدلالات القرآن في السور التنزيهية تؤكد ذلك، فيقول الحق سبحانه:
{سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] .
وإياك أن تظن أن محمداً صلى الله عليه وسلم َ قد سرى بقرار من نفسه، بل الذي أسرى به هو الحق سبحانه، فلا تظن أن المسافة يمكن أن تمنع مشيئة الحق المطلقة، ولا المكان، ولا الزمن؛ لأن الفعل منسوب لله تعالى، ولا يمكن أن نقيس فعلاً منسوباً لله تعالى بقياس الزمان أو المكان، أو حسب قانون الحركة النسبية، لأن الحق سبحانه له طلاقة القدرة، وأنت بشر مجرد حادث محدود الزمان والمكان.
وأنت إذا سِرْت من هنا إلى الإسكندرية مثلاً على قدميك فستقطع المسافة في أسابيع، وإن امتطيت دابة فقد تأخذ في الوصول إلى الإسكندرية أياماً، وإن ركبت سيارة فسوف تقطع المسافة في ساعتين، وإن ركبت صاروخاً، فستصل خلال دقائق.
أي: أنك كلما زادت قوة أداة الوصول قَلَّ زمن الوصول، وهذا موجز نظرية الحركة، وإذا كان الذي أسرى هو الله سبحانه، وهو قوة القوى، لذلك لا يمكن أن يقاس بالنسبة لمشيئة قوة أخرى، أو أن يقاس الأمر ببُعد أو قُرْب المكان أو كيفية الزمان الذي تعرفه.
وإياك أن تفهم أن إسراء الله تعالى مثل إسرائك؛ لأن الفعل إنما يأخذ قوته من الفاعل، وما دام الفاعل هو الله سبحانه فلا أحد بقادر أن يَحُدَّ أفعاله بزمن.
وقد استهل الحق سبحانه سورة الإسراء بالسبحانية وآياتها الأولى تتكلم في أدق شيء تكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم َ عن ذاته بأنه قد أسْرِيَ به، وبذلك
أثبت بحادث الإسراء حقيقة المعراج، وأن الناموس قد خُرِق له، وحدَّثنا عما نعلم لنصدِّق حديثه عما لا نعلم، وحتى نقيس ما لا نعلم على ما نعلم، فيتأكد لنا صدقه صلى الله عليه وسلم َ في حديثه عما لا نعلم.
كلمة «سبحانه» إذن هي للتنزيه، وهي لله تعالى أزلاً قبل أن يَخلق الخَلق، فقد شهد سبحانه لذاته أنه إله واحد، ثم شهدت الملائكة، ويتكرر التسبيح من كل المخلوقات التي أوجدها الله سبحانه.
وأنت تجد سور القرآن الكريم التي جاء فيها التسبيح مؤكدة أنه سبحانه مُنزَّه، وله التسبيح من قبل أن يخلق الخلق، ثم خلق الخلق؛ ليسبِّحوا، ففي سورة الحديد يقول سبحانه:
{سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} [الحديد: 1] .
ويقول سبحانه في سورة الحشر:
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [الحشر: 1] .
فهل سبَّح كل من في السموات ومن في الأرض مرة واحدة وانتهى الأمر؟ لا؛ لأن الله سبحانه يقول:
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض الملك القدوس} [الجمعة: 1] .
ويقول سبحانه في سورة التغابن:
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض لَهُ الملك وَلَهُ الحمد وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: 1] .
إذن: فالسبحانية لله أزلاً، وسبَّح ويسبِّح الخَلْق وكل الوجود بعد أن خلقه الله سبحانه، سموات وأرض وما فيهما ومن فيهما، وما بقى إلا أنت أيها الإنسان فسبِّحْ باسم ربك الأعلى.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه:
{قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سُبْحَانَهُ} [يونس: 68] .
وعلة التسبيح والتنزيه عن أن يكون له ولد تأتي في قوله تعالى: {هُوَ الغني} ؛ لأن اتخاذ الولد إنما يكون عن حاجة، إما استعانة، وإما اعتماداً، وإما اعتداداً، وإما امتداداً، وكل هذه أمور باطلة بالنسبة له سبحانه، وهو الحق الأعلى، وهو سبحانه القائل في آية أخرى:
{وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116] .
والقنوت معناه: الإقرار بالعبودية لله تعالى والخضوع له وإطاعته.
ويقول سبحانه في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
{إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بهاذآ أَتقُولُونَ عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يونس: 68] .
و «إنْ» قد تأتي للنفي في مثل قول الحق سبحانه:
{إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَاّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: 2] .
وفي قول الحق سبحانه هنا:
{إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بهاذآ} [يونس: 68] .
أي: ليس عندكم حُجَّة تدل على أن الله تعالى اتخذ ولداً.
ولذلك يُنهي الحق سبحانه الآية بقوله:
{أَتقُولُونَ عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يونس: 68]
أي: أنكم لا تملكون إعلاماً من الله تعالى بذلك، فلا إعلام عن الله إلا من الله، وليس لأحد أن يُعْلِم عن ربه، فهو سبحانه من يُعْلِم عن نفسه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لَا يُفْلِحُونَ}
والحق سبحانه وتعالى حينما يتكلم عن الإيمان وثمرته ونهايته ياتي بالفَلَاح كنتيجة لذلك الإيمان، فهو سبحانه القائل:
{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشمس: 9] .
وهو سبحانه القائل:
{قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} [المؤمنون: 1] .
ويقول أيضاً:
{أولئك هُمُ المفلحون} [الأعراف: 157] .
وكلها من مادة «الفلاح» وهي مأخوذة من الأمر الحسي المتصل بحياة الكائن الحي، فمقومات وجود الكائن الحي: نَفَس، وماء، وطعام،
والتنفس يأتي من الهواء الذي يحيط بالأرض، والماء ينزل من السماء أو يُستنبط مما تسرب في باطن الأرض. والطعام يأتي من الأرض، وكل ما أصله من الأرض يُستخرج بالفلاحة.
لذلك نقول: إن الفلَاحة هي السبب الاستبقائي للحياة، فكما يُفْلِح الإنسان الأرض، ويشقها ويبذر فيها البذور، ثم يرويها، ثم تنضج وتخرج الثمرة، ويقال: أفلح، أي: أنتجت زراعته نتاجاً طيباً.
وشاء الحق سبحانه أن يمسِّي الحصيلة الإيمانية الطيبة بالفلاح.
وبيَّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أن الدنيا مزرعة الآخرة، فإن كنت تريد ثمرة فابذل الجهد.
وإياك والظن أن الدين حينما يأخذ منك شيئاً في الدنيا أنه يُنْقِص ما عندك، لا، بل هو يُنمِّي لك ما عندك.
والمثل الذي أضربه دائماً ولله المثل الأعلى نجد الفَلَاّح حين يزرع فداناً بالقمح، فهو يأخذ من مخزنه إردباً؛ ليستخدمه كبذور في الأرض، ولو كانت امرأته حمقاء لا تعرف أصول الزراعة ستقول له:«أنت أخذت من القمح، وكيف تترك عيالك وأنت تنقصهم من قوتهم؟»
هذه المرأة لا تعلم أنه أخذ إردبَّ القمح المُخَزَّن؛ ليعود به بعد الحصاد عشرة أو خمسة عشر إردّباً من القمح.
كذلك مطلوب الله سبحانه في الدنيا قد يبدو وكأنه ينقصك أشياء، لكنه يعطيك ثمار الآخرة ويزيدها.
إذن: فالفلاح مادة مأخوذة من فلح الأرض وشقها وزرعها لتأخذ الثمرة.
وكما أنك تأخذ حظك من الثمار على قدر حظك من التعب ومن العمل، فذلك أمر الآخرة وأمر الدنيا.
ومثال ذلك: الفلاح الذي يحرث الأرض، ويحمل للأرض السماد على المطية، ثم يستيقظ مبكراً في مواعد الري، تجد هذا الفلاح في حالة من الانشراح والفرح في يوم الحصاد، وأمره يختلف عمن يهمل الأرض ويقضي الوقت على المقهى، ويسهر الليل أمام التلفزيون، ويأتي يوم الحصاد ليحزن على محصوله الذي لم يحسن زراعته.
وقول الحق سبحانه:
{إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لَا يُفْلِحُونَ} [يونس: 69] .
أي: هؤلاء الذي يقولون عن الله تعالى أو في الله تعالى بغير علم من الله، هم الذين لا يفلحون.
وأوضحت من قبل أن كل ما يتعلق بالله تعالى لا يُعْلَم عنه إلا عن طريق الله. لكن ما الذي يحملهم على الافتراء؟
نعم، إن كل حركة في الحياة لا بد أن يكون الدافع إليها نفعاً، وتختلف النظرة إلى النفع وما يترتب عليه، فالطالب الكسول المتسكع في الشوارع، الرافض للتعلم، نجده راسباً غير موفق في مستقبله، أما التلميذ الحريص على علومه، فهو من يحصل على المكانة اللائقة به في المجتمع، والتلميذ الأول كان محدود الأفق ولم ير امتداد النفع وضخامته، بل قصر النفع على لذة عاجلة مُضحِّياً بخيرٍ آجِلٍ.
والذي جعل هؤلاء يفترون على الله الكذب هو انهيار الذات، فكل ذات لها وجود ولها مكانة، فإذا انهارت المكانة، أحس الإنسان أنه بلا قيمة في مجتمعه.
والمثل الذي ضربته من قبل بحَلَاّق الصحة في القرية، وكان يعالج الجميع، ثم تَخرَّجَ أحد شباب القرية في كلية الطب وافتتح بها عيادة، فإن كان حلاق الصحة عاقلاً، فهو يذهب إلى الطبيب ليعمل في عيادته ممرضاً، أو (تمرجياً) ، أما إن أخذته العزة بالإثم، فهو يعاند ويكابر، ولكنه لن يقدر على دفع علْم الطبيب.
وكذلك عصابة الكفر ورؤساء الضلال حينما يُفاجَآون بمَقْدِم رسول من الله، فهم يظنون أنه سوف يأخذ السيادة لنفسه، رغم أن أي رسول من رسل الله تعالى عليه السلام إنما يعطي السيادة لصاحبها، ألا وهو الحق الأعلى سبحانه.
وحين يأخذ منهم السيادة التي كانت تضمن لهم المكانة الوجاهة والشأن والعظمة، فهم يصابون بالانهيار العصبي، ويحاولون مقاومة الرسول دفاعاً عن السلطة الزمنية.
ومثال ذلك: هو مَقْدِمُ النبي صلى الله عليه وسلم َ إلى المدينة، وكان البعض يعمل على تنصيب عبد الله بن أبيّ ليكون مَلكاً؛ ولذلك قاوم الرجل الإسلام،
وحين لم يستطع آمن نفاقاً، وظل على عدائه للإسلام، رغم أنه لو أحسن الإسلام واقترب من رسول الله صلى الله عليه وسلم َ لنال أضعاف ما كان يسأخذه لو صار ملكاً.
وهكذا قادة الضلال وأئمة الكفر، هم مشفقون على أنفسهم وخائفون على السلطة الزمنية؛ لأن الرسول حينما يجيء إنما يُسوِّي بين الناس؛ لذلك يقفون ضد الدعوة حفاظاً على السلطة الزمنية.
ولذلك يقول الحق سبحانه عن سبب افترائهم الكذب: {مَتَاعٌ فِي الدنيا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ}
ويعزُّ إذن على قادة الكفر وأئمة الضلال أن يسلبهم الرياسة والسيادة داعٍ جديد إلى الله سبحانه وتعالى، ويخافون أن يأخذ الداعي الجديد لله الأمر منهم جميعاً، لا إلى ذاته، ولكن إلى مراد ربه.
ولو كان الداعي إلى الله تعالى يأخذ السلطة الزمنية لذاته؛ لقلنا: ذاتٌ أمام ذاتٍ، ولكنه صلى الله عليه وسلم َ أوضح أنه يعود حتى فيما يخصه إلى الله سبحانه وتعالى.
ويكشف لنا الحق سبحانه الكسب القليل الذي يدافعون عنه أنه:
{مَتَاعٌ فِي الدنيا} [يونس: 70] ؛ لأن كُلاً منهم يحب أن يقنع نفسه، بِحُمْق تقدير المنفعة، وكلمة «الدنيا» لا بد أن منها حقيقة الشيء المنسوبة إليه.
والاسماء كما نعلم هي سمات مسميات، فحين تقول: إن فلاناً طويل، فأنت تعطيه سمة الطول.
وحين تقول: «دنيا» فهي من الدُّنُوِّ «أو» الدناءة «.
وإن اعتبرت الدنو هو طريق موصل إلى القيمة، فهذا أمر مقبول؛ لأن الدرجة الأولى في الوصول إلى الأعلى هي الدنو، وتلتزم بمنهج الله تعالى فتصعد عُلوّاً وارتفاعاً إلى الآخرة.
إذن: فمن يصف الدنيا بالدناءة على إطلاقها نقول له: لا، بل هي دنيا بشرط أن تأخذها طريقاً إلى الأعلى، ولكن من لا يتخذها كذلك فهو من يجعل مكانته هي الدنيئة، أما من يتخذها طريقاً إلى العلو فهو الذي أفلح باتِّباع منهج الله تعالى.
إذن: فالدنيا ليست من الدناءة؛ لأن الدين ليس موضوعه الآخرة، بل موضوعه هو الدنيا، ومنهج الدين يلزمك ب» افعل «و» لا تفعل «في الدنيا، والآخرة هي دار الجزاء، والجزاء على الشيء ليس عين موضوعة، وأنت تستطيع أن تجعل الدنيا مفيدة لك إنْ جعلتها مزرعة للآخرة.
وإياك أن تعمل على أساس أن الدنيا عمرها ملايين السنين؛ لأنه لا يعنيك كعائش في الدنيا إن طال عمرها أم قَصُرَ، بل يعنيك في الدنيا مقدار مُكْثِك فيها، وعمرك فيها مظنون، بل وزمن الدنيا كله
مظنون، وهناك من يموت وعمره ستة أشهر، وهناك من يموت وعمره مائة سنة، وكلٌّ يتمتع بقدر ما يعيش، ثم يرجع إلى الله سبحانه وتعالى.
وهؤلاء الذين ضَلُّوا وقالوا على الله سبحانه افتراء، هؤلاء لن يفلتوا من الله؛ لأن مرجعهم إليه سبحانه ككل خَلْقه، وهؤلاء المُضِلُّون لم يلتفتوا إلى عاقبة الأمر، ولا إلى من بيده عاقبة الأمر، ولم يرتدعوا.
ولكن من نظر إلى عاقبة الأمر وأحسن في الدنيا فمرجعه إلى حسن الثواب والجنة، ومن لم ينظر إلى عاقبة الأمر وافترى على الله سبحانه وتعالى الكذب فالمآب والمآل إلى العذاب مصداقاً لقوله تعالى:
{ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} [يونس: 70] .
ودرجة العذاب تختلف باختلاف المعذِّب، فإن كان المعذِّب ضعيفاً، فتعذيبه يكون ضعيفاً، وإن كان المعذِّب متوسط القوة؛ فتعذيبه يكون متوسطاً، أما إن كان المعذِّب هو قوة القوى فلا بد أن يكون عذابه شديداً، وهو سبحانه الحق القائل:
{إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] .
وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن مبدأ تنزيه الألوهية عن اتخاذ الولد، فهو سبحانه الغنيُّ الذي له ما في السموات والأرض، وبيَّن لنا سبحانه أننا يجب أن نأخذ المنهج من مصدر واحد وهو الرسل المبلِّغون عن الله تعالى، شاء الحق سبحانه أن يكلمنا عن موكب الرسالات؛ لأن الكلام حين يكون كلاماً نظرياً ليس له واقع يسنده، فقد تنسحب النظرية عليه.
أما إن كان للكلام واقع في الكون يؤيد الكلام النظري، فهذا دليل على صحة الكلام النظري؛ ولذلك فنحن حين نحب أن نضخِّم مسألة من
المسائل في داء اجتماعي، نحاول أن نصنع منه رواية، أي: أمراً لم يحدث حقيقة، ولكننا نتخيل أنه حقيقة؛ لنبيِّن الأمر النظري في واقع متخيَّل.
ويقص علينا الحق سبحانه في القرآن قصصاً من الموكب الرسالي؛ ليبيِّن للكفار: أنكم لن تستطيعوا الوقوف أمام هذه الدعوة، وأمامكم سِجل التاريخ وأحداث الرسل مع أممهم؛ المؤيدين بالمؤمنين؛ والكفار المعاندين والمعارضين، فإن كان قوم من السابقين قد انتصروا على رسولهم، فللكفار الحق في أن يكون لهم أمل في الانتصار على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ.
ولا بد أن يكون هذا الكلام موجهاً إلى أناس لهم علم ببعض أحداث الموكب الرسالي. ولكن قد يكون علم هذا قد بهت؛ لأن الزمان قد طال عليه.
وهنا يقول الحق سبحانه: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ياقوم}
ولقائل أن يقول: ولماذا جاء الله سبحانه هنا بخبر نوح عليه السلام ولم يأت بخبر آدم عليه السلام أو أدريس عليه السلام وهُمَا من الرسل السابقين على نوح عليه السلام؟
ومن هنا جاءت الشبهة في أن آدم لم يكن رسولاً؛ لأن البعض قد ظن أن الرسول يجب أن يحمل رسالته إلى جماعة موجودة من البشر، ولم يفطن هؤلاء البعض إلى أن الرسول إنما يُرْسَل لنفسه أولاً.
وإذا كان آدم عليه السلام، أول الخلق فهو مُرسَل لنفسه، ثم يبلِّغ من سوف يأتي بعده من أبنائه.
وقد أعطى الله سبحانه وتعالى التجربة لآدم عليه السلام في الجنة، فكان هناك أمر، وكان هناك نهي هو {وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هذه الشجرة} [البقرة: 35] .
وحَذَّره من الشيطان، ثم وقع آدم عليه السلام في إغواء الشيطان، وأنزله الله تعالى إلى الأرض واجتباه، وتاب عليه، ومعه تجربته، فإن خالف أمر ربه فسوف يقع عليه العقاب، وحذره من اتباع الشيطان حتى لا يخرج عن طاعة الله تعالى.
إذن: فقد أعطاه الحق سبحانه المنهج، وأمره أن يباشر مهمته في الأرض؛ في نفسه أولاً، ثم يبلغه لمن بعده.
وكما علَّمه الحق سبحانه الأسماء كلها، علَّم آدم الأسماء لأبنائه فتكلموا: وكما نقل إليهم آدم الأسماء نقل لهم المنهج، وقد علمه الحق سبحانه الأسماء؛ ليعمر الدنيا، وعلَّمه المنهج؛ ليحسن العمل في الدنيا؛ ليصل إلى حسن جزاء الآخرة.
واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى:
{وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] .
ويتبعها الحق سبحانه بقوله تعالى:
{ثُمَّ اجتباه} [طه: 122] .
ومعنى الاجتباء: هو الاصطفاء بالرسالة لنفسه أولاً، ثم لمن بعده بعد ذلك، والحق سبحانه هو القائل:
{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} [البقرة: 38] .
والهدى: هو المنهج المنزَّل على آدم عليه السلام، والرسالة ليست إلا بلاغ منهج وهدى من الله سبحانه للخلق.
وإذا كان الحق سبحانه وتعالى هو القائل:
{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] .
فالسابقون لنوح عليه السلام هم من أبلغهم آدم عليه السلام، والدليل هو ما جاء من خبر ابني آدم في قول الحق سبحانه:
{واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنيءَادَمَ بالحق إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً} [المائدة: 27] .
وهما قد قدَّما القربان إلى الله تعالى.
إذن: فخبر الألوهية موجود عند ابني آدم بدليل قول الحق سبحانه:
إذن: فهم قد أقروا بوجود الله تعالى، وأيضا عرفوا النهي،؛ لأنه في إحدى الآيتين قال:
[المائدة: 28] .
إذن: فالذين جاءوا بعد آدم عليه السلام عرفوا الإله الواحد، وعلموا المنهج.
إذن: فالذين يقولون: إن آدم عليه السلام لم يكن رسولاً، نقول لهم: افهموا عن الله جيداً، كان يجب أن تقولوا: هذه مسألة لا نفهم فيها، وكان عليهم أن يسألوا أهل الذِّكْر ليفهموا عنهم أن آدم عليه السلام رسول، وأن من أولاده قابيل وهابيل، وقد تكلما في التقوى.
أما لماذا جاء الحق سبحانه هنا بالحديث عن نوح، عليه السلام، فلنا أن نعلم أن آدم عليه السلام هو الإنسان الأول، وأنه قد نقل لأولاده المنهج
المُبلَّغ له، ودلَّهم على ما ينفعهم، ثم طال الزمن وأنشأت الغفلة، فجاء إدريس عليه السلام، ثم تبعته الغفلة، إلى أن جاء نوح عليه السلام.
وهنا يأتي لنا الحق سبحانه بخبر نوح عليه السلام في قوله:
{واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [يونس: 71] .
والنبأ: هو الخبر الهام الذي يلفت الذهن، وهو الأمر الظاهر الواضح.
والحق سبحانه يقول:
{عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ: 13] .
إذن: فالنبأ هو الخبر الهام المُلْفِت، وقد جاء هنا خبر نوح عليه السلام الذي يُبلِّغ قومه أي: يخاطبهم، وهو قد شهد لنفسه أنه رسول يبلِّغ منهجاً.
وكلمة «قَوْمِ» لا تطلق في اللغة إلا على الرجال، يوضح القرآن ذلك في قوله الحق سبحانه:
{لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ} [الحجرات: 11] .
إذن: فالقوم هم الرجال، والمرأة إنما يُبنى أمرها على السر، والحركة في الدنيا للرجل، وقد شرحنا ذلك في حديث الحق سبحانه لآدم عليه السلام عن إبليس، فقال تعالى:
{إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى} [طه: 117] .
ولأن الخطاب لآدم فقد قال الحق سبحانه: {فتشقى} [طه: 117] .
ولم يقل: فتشقيا؛ مما يدل على أن المرأة لا شأن لها بالأعمال التي خارج البيت والتي تتطلب مشقة، فالمرأة تقرُّ في البيت؛ لتحتضن الأبناء، وتُهيِّىء السكن للرجل بما فيها من حنان وعاطفة وقرار واستقرار. أما القيام والحركة فللرجل.
فالحق سبحانه يقول:
{فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى} [طه: 117] .
إذن: فالكدح للرجل ومتطلبه القيام لا القعود.
ثم يقول الحق سبحانه على لسان نوح عليه السلام.
{ياقوم إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي} [يونس: 71] .
وهنا يُحنِّن نوح قومه بإضافات التحنن، أي: جاء بالإضافة التي تُشْعِر المخاطبين بأنه منهم وهم منه، وأنه لا يمكن أن يغشهم فهم أهله، مثل قول النائب الذي يخطب في أهل دائرته الانتخابية:«أهلي وعشيرتي وناخبيّ» وكلها اسمها إضافة تحنن.
وكذلك مثل قول لقمان لابنه:
{يابني لَا تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] .
وقوله:
وقوله: {يابني أَقِمِ الصلاة} [لقمان: 17] .
وهذا إضافات التحنن وفيها إيناس للسامع أن يقرب ويستجيب للحق.
{ياقوم إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي} [يونس: 71] .
و «الكاف والياء والراء» تأتي لمعنيين:
الأول: كبر السن، وهي: كبر يكبر.
والثاني: العظمة والتعظيم، إلا أن التعظيم يأتي ليبيِّن أنه أمر صعب على النفس، مثل قول الحق سبحانه:
{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَاّ كَذِباً} [الكهف: 5] .
أي: أن هذه الكلمة التي خرجت من أقوالهم أمر صعب وشاق، وهي قولهم:
{قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} [الكهف: 4] .
وهذه الكلمة إنما تعظم على المؤمن، وهي مسألة صعبة لا يمكن قبولها فلا يوجد مؤمن قادر على أن يقبل ادعاء خلق من خلق الله تعالى أن له سبحانه ولداً.
ومرة تكون العظمة من جهة أخرى، مثل قول الحق سبحانه:
{كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13] .
أي: عَظُم على المشركين، وصَعب على أنفسهم، وشَقَّ عليهم ما تدعوهم إليه من أن الإله هو واحد أحد، ولا سلطان إلا له سبحانه.
وهكذا، إن كانت الكلمة مناقضة للإيمان فهي تكبر عند المؤمنين، وإن كانت الكلمة تدعو الكافرين إلى الإيمان فهي تشق عليهم.
وهنا يأتي على لسان سيدنا نوح عليه السلام:
{إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي} [يونس: 71] .
ونحن نعلم أن سيدنا نوحاً عليه السلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً.
أي: أن حياته طالت كثيراً بين قومه، كما أن تقريعه للكافرين جعله ثقيلاً عليهم.
أو أن: {كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي} [يونس: 71] .
تعني: أنه حمَّلهم ما لا يطيقون؛ لأن نوحاً عليه السلام أراد أن يُخرجهم عما ألفوا من عبادة الأصنام، فشقَّ عليهم ذلك.
إذن: فمبدأ عبادة الإله الواحد يصعب عليهم.
أو أن الأصل في الواعظ أو المبلِّغ أن يكون على مستوى القيام وهم قعود، وكان سيدنا عيسى عليه السلام يتكلم مع الحواريين وهو واقف، والوقوف إشعار بأن مجهود الهدي يقع على سيدنا عيسى عليه السلام بينما يقعد الحواريون ليستمعوا له في راحة.
إذن: فقول الحق سبحانه:
{إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي} [يونس: 71] .
أي: إن صعب عليكم ما أدعوكم اليه.
ويصح أن نأخذها من ناحية طول الوعظ والتكرار في ألف سنة إلا خمسين عاماً، أو أن مقامي كبر عليكم، بمعنى: أننا انقسمنا إلى قسمين؛ لأن المنهج الذي أدعو إليه لا يعجبكم، وكنت أحب أن نكون قسماً واحداً.
وها هو ذا سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأرضاه حين أحس أن الخلافة تقتضي أن يسمِّي من يَخْلُفُهُ من بعده، قال له بعض الناس: لماذا لا تولي علينا عبد الله بن عمر، فقالَ ابن الخطاب: بحسب
آل خطاب أن يُسأل منهم عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم َ رجل واحد. ثم أضاف: أعلم أنكم مَلَلْتُم حُكْمي؛ لأني شديد عليكم.
إذن: فقد أحس نوح عليه السلام أنه انقسم هو وقومه إلى قسمين: هو قد أخذ جانب الله سبحانه الذي يدعو إلى عبادته، وهم أخذوا جانب الأصنام التي ألفوا عبادتها.
لذلك يقول الحق سبحانه على لسان نوح عليه السلام:
{فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ} [يونس: 71] .
أي: أنني لن أتنازل عن دعوتي، ونلحظ أنك إن قلت:«توكَّلتُ على الله» فقد يعني هذا أنك قد تقول: وعلى فلان، وفلان، وفلان لكنك إن قلت:{فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ} [يونس: 71] .
فأنت قد قصرت توكُّلك على الله فقط.
وهكذا واجه نوح عليه السلام قومه، ورصيده في ذلك هو الاعتماد والتوكل على من أرسله سبحانه، ويحاول أن يهديهم، لكنهم لم يستجيبوا، وقال لهم:
{فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} [يونس: 71] .
ومعنى جمع الأمر: (أي: جمع شتات الآراء كلها في رأي واحد)، أي: اتفقوا يا قوم على رأي واحد، وأنتم لن تضروني. وجمع أمر الأجيال التي ظل سيدنا نوح عليه السلام يحاول هدايتها تحتاج إلى جهد؛ لأن الجيل العقلي ينقسم إلى عشرين سنة.
وقد ظل سيدنا نوح عليه السلام يدعو القوم بعدد ما عاش فيهم، أي: ألف سنة إلى خمسين، فكم جيل إذن ظل نوح يعالجه؟
إنها أجيال متعددة، ومع ذلك لم يظفر إلا بقدر قليل من المؤمنين بحِمْل سفينة واحدة، ومعهم الحيوانات أيضاً، فضلاً عن أن ابنه خرج أيضاً مع القوم الكافرين، وناداه نوح عليه السلام ليركب معه وأن يؤمن، فرفض، وآثر أن يظل في جانب الكفر، بما فيه من فناء للقوم الكافرين، وظن أنه قادر على أن يأوي إلى جبل يعصمه من الطوفان، ولم ينظر ابن نوح إلى جندي آخر من جنود الله سبحانه يقف عقبة في سبيل الوصول إلى الجبل، وهو الموج.
إذن: فقول نوح عليه السلام:
{فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ} [يونس: 71] .
له رصيد إيماني ضمني، فلا يوجد مجير على الله من خلق الله؛ لأن الخلق كله جماده ونباته وحيوانه إنما ينصاع لأمر الله تعالى في نصرة نوح عليه السلام ولن يتخلف شيء.
هكذا كان توكُّل نوح عليه السلام على الله تعالى بما في هذا التوكل من الرصيد الإيماني المتمثل في:
{للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} [المائدة: 120] .
و {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [البقرة: 284] .
ولن يخرج شيء عن ملكه سبحانه.
ومن العجيب أنه لم يخرج عن مراد الله في «كن» إلا الإنسان المختار، لم يخرج بطبيعة تكوينه، ولكن الحق سبحانه وهبه من عنده أن يكون مختاراً، ولو لم يهبه الله تعالى أن يكون مختاراً لما استطاع أن يقف، ولكان كل البشر من جنود الحق.
وقد قال نوح عليه السلام:
{فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ} [يونس: 71] .
والإنسان حين يهمه أمر من الأمور يظل متردداً بين خواطر شتى، ويحاول أن يرى ميزات كل خاطر، ويختار أفضلها، وإذا ما جمع الإنسان خواطره كلها من خاطر واحد، فهذا يعني استقراره على رأي واحد، وجمع أمره عليه.
أما إذا كان الأمر متعدد الناس، فكل واحد منهم له رأي، فإن اجتمعوا وقرروا الاتفاق على رأي واحد، فهذا جمعٌ للأمر.
والاتفاق على رأي واحد إنما يختلف باختلاف هويّة المجتمعين، فإن كانوا أهل خير فهم ينزلون بالشر، وإن كانوا أهل شر فهم يصعدون بالشر.
ومثال ذلك: أبناء يعقوب عليه السلام حينما حدث بينهم وبين أخيهم من الحسد لمكانة يوسف عليه السلام فقالوا:
{اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف: 9] .
أي: أن الاقتراح بقتل يوسف هدفه ألا يلتفت وجه يعقوب وقلبه إلى أحد سواهم، وأتبعوا اقتراحهم بقتل يوسف باقتراح التوبة، فقالوا لبعضهم البعض:
{وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} [يوسف: 9] .
وهم قد ظنوا أن التوبة إن نفَّذوا القتل ستصبح مقبولة.
وهذا الشر البادي في حديثهم لم يقبله بعضهم في بادىء الأمر؛ لأنهم أبناء نبوّة، وما يزالون هم الأسباط، لا يصعد فيهم الشر، بل ينزل، فقال واحدٌ منهم: لا تقتلوه بل {اطرحوه أَرْضاً} [يوسف: 9] .
أي: أنه خفَّف المسألة من القتل إلى الطرح أرضاً، وهذه أول درجة في نزول الأخيار عن الشر الأول، وأيضاً تنازلوا عن الشر الثاني، وهو طرحه أرضاً؛ حتى لا يأكله حيوان مفترس، وجاء اقتراح:{وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف: 10] .
ثم أجمعوا أمرهم أخيراً حتى نزل الشر مرة أخرى لاحتمال ورود النجاة.
إذن: فالأخيار حين يجتمعون على شر لا بد أن ينزل.
ومثال ذلك: رجل طيب رأى ابنه وهو يُضرَب من آخر، فيفكر للحظة في أن يضرب غريم ابنه بطلقة من (مسدس) ، ثم يستبدل هذه الفكرة بفكرة الاكتفاء بضربه ضرباً مبرحاً بالعصا، ثم يتنازل عن ذلك بأن يفكر في صفعه صفعتين، ثم يتنازل عن فكرة الصفع ويفكر في توبيخه، ثم يتنازل عن فكرة التوبيخ ويكتفي بالشكوى لوالده، وهذا ينزل الشر عند أهل الخير.
أما إن كان الرجل من أهل الشر، فهو يبدأ بفكرة الشكوى لوالد من ضرب ابنه، ثم يرفضها ليصعد شره إلى فكرة أن يصفعه هو، ثم لا ترضيه فكرة الصفع، فيفكر في أن يضربه ضرباً شديداً، ولا ترضيه هذه الفكرة، يقول لنفسه:«سأطلق عليه الرصاص» .
وهكذا يتصاعد الشر من أهل الشر.
وهنا يقول الحق سبحانه على لسان سيدنا نوح عليه السلام:
{فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ} [يونس: 71] .
أي: اجتمعوا والزموا رأياً واحداً تحرصون على تنفيذه أنتم وشركاؤكم، وهو ينصحهم رغم أنهم أعداؤه، وكان عليه أن يحرص على اختلافهم، ولكن لأنه واثق من توكله على ربه؛ فهو يعلم أنهم مهما فعلوا فلن يقدروا عليه، ولن ينتصروا على دعوته إلا بالإقدام على إهلاك أنفسهم.
أو أنه مثلما يقول العامة: «أعلى ما في خيولكم اركبوه» أي: أنه يهددهم، ولا يفعل ذلك إلا إذا كان له رصيد من قوة التوكل على الله تعالى.
ولا يكتفى بذلك بل يضيف:
{ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} [يونس: 71] .
والغمة: منها الغمام، ومنها الإغماء، أي: فقد الوعي وسَتْر العقل، أي: أنه قال لهم: لا تتبعوا أنفسكم بتبادل الهمسات فيما بينكم بل افعلوا ما يحلو لكم، ولا تحاولوا ستر ما سوف تفعلون.
إن عليكم أن تجتمعوا على راي واحد أنتم وشركاؤكم الذين تعتمدون عليهم، وتعبدونهم، أو شركاؤكم في الكفر، ولم يأبَهْ نوح عليه السلام بتقوية العصبية المضادة له؛ لأنه متوحل على الله فقط.
لذلك يقول: {ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونَ} [يونس: 71] .
أي: أنه يُحفِّزهم على الاجتماع على أمر واحد ومعهم شركاؤهم سواء من الأصنام التي عبدوها أو من أقرانهم في الكفر وأن يصمموا على المضيّ في تنفيذ ما اتفقوا عليه.
و «قضى» أي: حكم حكماً، ولكن الحكم على شيء لا يعني الاستمرار بحيث ينفذ، فقد يُقضيَ على إنسان بحكم؛ ويوقف التنفيذ.
لكن قوله: {اقضوا إِلَيَّ} يعني: أصدروا حكمكم وسيروا إلى تنفيذ ما قضيتم به.
ثم يقول: {وَلَا تُنظِرُونَ} أي: لا تمهلوني في تنفيذ ما حكمتم به عليَّ.
والمتأمل للآية الكريمة يجد فيها تحدياً كبيراً، فهو أولاً يطلب أن يجتمعوا على أمر وا حد، هم وشركاؤهم، ثم لا يكون على هذا الأمر
غُمَّة، ثم اقضوا إليَّ ما اتفقتم عليه من حكم ونفِّذوه ولا تؤجلوه، فهل هناك تحدًّ للخصم أكثر من ذلك؟
لقد كانوا خصوماً معاندين، ظل نوح عليه السلام يترفق إليهم ويتحنن لهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، وصبر عليهم كل هذا الوقت، ولا بد إذن من حدوث فاصل قوي، ولهذا كان الترقِّي في التحدي، فدعاهم إلى جمع الأمر ومعهم الشركاء، ثم بإصدار حكمهم عليه وعدم الإبطاء في تنفيذه، كان هذا هو التحدي الذي أخذ يترقى إلى أن وصل إلى قبول تنفيذ الحكم.
والنفسية العربية على سبيل المثال حين سامحت، وصبرت، وصفحت في أمر لا علاقة له بمنهج الله، بل بأمر يخص خلافاً على الأرض، تجد الشاعر العربي يقول عن «بني ذُهْل» الذين اتعبوا قوم الشاعر كثيراً، ولكن قومه صفحوا عنهم؛ يقول الشاعر:
صَفَحْنا عن بني ذُهْلٍ
…
وقلنا: القومُ إخوانُ
عسى الأيامُ أنْ يرجع
…
نَ قوماً كالذي كانوا
فلما صَرَّحَ الشرُّ
…
فأمْسَى وهو عريانُ
ولم يبقَ سوى العدوا
…
ن دِنَّاهم كما دانوا
مَشَيْنا مِشْيةَ الليثِ
…
غَدَا والليثُ غضبانُ
بِضرب فيه توهينٌ
…
وتخضيعٌ وإقرانُ
وطعْن كَفَمِ الزقِّ
…
غَدَا والزِّقُّ مَلآنُ
وفي الشرِّ نجاةٌ حي
…
ن لا يُنجيكَ إحسانُ
وبعضُ الحِلْمِ عند الجهْ
…
لِ للذِّلَّةِ إذعانُ
إذن: فالمناجرة بين نوح عليه السلام وقومه اقتضت التشديد، لعل بشريتهم تلين، ولعل جبروتهم يلين، ولعلهم يعلنون الإيمان بالله تعالى، ولكنهم لم يرتدعوا.
لذلك يقول الحق سبحانه على لسان نوح بعد ذلك: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ}
أي: إن توليتم عن دعوتي لعبادة الإله الحق، فأنا أدعوكم إلى مثيل لكم هو أنا، بل أدعوكم إلى من هو فوقي وفوقكم، فأنا لا أريد أن أستولي على السلطة الزمنية منكم، ولا أبحث عن جاهٍ، فالجاه كله لله تعالى.
والله لا يحتاج إلى جاهٍ منكم لأن جاهه سبحانه ذاتي فيه، ولكن لنمنع جبروتكم وتجبُّركم؛ لتعيشوا على ضوء المنهج الحق؛ لتكون حياتكم صالحة، وكل ذلك لمصلحتكم.
{فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ} [يونس: 72] فهل يُمَالىء نوح عليه السلام أعداءه.
إن الإنسان يُمَالىء العدو؛ لأن يخاف أن يوقع به شرّاً، ونوح عليه السلام لا يخافهم؛ لأنه يعتمد على الله تعالى وحده، بل هو يدلُّهم على مواطن القوة فيهم، وهو يعلم أن قوتهم محدودة، وأن شرهم مهما بلغ فهو غير نافذ، وقد لا يكون منهم شر على الإطلاق، فهل هناك نفعٌ سيعود على نوح عليه السلام ويُمنَع عنه؟
لا؛ لأنه يعلن أنه لا يأخذ أجراً على دعوته.
هم إذن لا يقدرون على ضُرِّه، ولا يقدرون على نفعه، وهو لا يريد منهم نفعاً؛ لأن مركزه بإيمانه بالله الذي أرسله مركزٌ قويٌّ.
وهو لا يسألهم أجراً، وكلمة «أجر» تعني: ثمن المنفعة، والأثمان تكون عادة في المعاوضات، إما أن تكون ثمناً للأعيان والذوات، وإما أن تكون ثمناً للمنفعة.
ومثال ذلك: أن إنساناً يرغب في شراء «شقة» في بيت فيذهب إلى رجل يملك بيتاً، ويطلب منه أن يبيع له عدداً من الأسهم بقيمة الشقة.
وهناك آخر يريد أن يستأجر شقة فيذهب إلى صاحب البيت؛ ليدفع له قيمة إيجار شقة في البيت، اي: يدفع له قيمة الانتفاع بالشقة، والأجر لا يُدفع إلا لطلب منفعة مُلِحَّة.
وكان على نوح عليه السلام أن يطلب منهم أجراً؛ لأنه يهديهم إلى الحق، هذا في أصول التقييم للأشياء؛ لأنه يقدِّم لهم نفعاً أساسياً، لكنه يعلن أنه لا يطلب أجراً وكأنه يقول: إن عملي كان يجب أن يكون له أجر؛ لأن منفعته تعود عليكم، وكان من الواجب أن آخذ أجراً عليه.
ولكن نوحاً عليه السلام تنازل عن الأجر منهم؛ لأنه أراد الأجر الأعلى، فلو أخذ منهم؛ فلسوف يأخذ على قدر إمكاناتهم، ولكن الأجر من الله تعالى هو على قدر إمكانيات الله سبحانه وتعالى، وفارق بين إمكانات المحدود العطاء وهو البشر، ومن له قدرة عطاء لا نهاية لها وهو الله سبحانه وتعالى.
وهنا يقول: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} [يونس: 72] .
فهذا التولِّي والإِعراض لا يضرُّني ولا ينفعني؛ لأنكم لا تملكون لي ضُرّاً ولا تملكون لي نفعاً؛ لأني لن آخذ منكم أجراً.
ومن العجيب أن كل مواكب الرسل عليهم السلام حين يخاطبون أقوامهم يخاطبونهم بهذه العبارة:
{مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [ص: 86] .
إلا في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام وقصة موسى عليه السلام، فعن قصة سيدنا إبراهيم يأتي قول الحق سبحانه:
ولم يأت الحق سبحانه فيها بشيء عن عدم السؤال عن الأجر.
وأيضاً في قصة سيدنا موسى عليه السلام، قال الحق سبحانه:
وهنا أيضاً لا نجد قولاً لموسى عليه السلام في عدم السؤال عن الأجر.
أما هنا في قصة نوح عليه السلام فنجد قول الحق سبحانه:
وكذلك جاء نفس المعنى في قصة هود عليه السلام، حيث يقول الحق سبحانه:
وجاء نفس المعنى أيضاً في قوم ثمود، إذ قال الحق سبحانه:
وكذلك جاء نفس القول على لسان لوط عليه السلام، فيقول الحق سبحانه:
ونفس القول جاء على لسان شعيب عليه السلام في قول الحق سبحانه:
إذن: فغالبية الموكب الرسالي يأتي على ألسنتهم الكلام عن الأجر:
{وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعراء: 164] .
فكأن الرسل عليهم السلام يقولون للبشر الذين ارسلوا إليهم: لو أنكم فطنتم إلى حقيقة الأمر لكان من الواجب أن يكون لنا أجر على ما نقدمه لكم من منفعة، لكنَّا لا نريد منكم أنتم أجراً، إنما سنأخذ أجرنا من ربِّ العالمين؛ لأن المنفعة التي نقدمها لكم لا يستطيع بشر أن يقوِّمها، وإنما القادر على تقييمها هو واضع المنهج سبحانه ومُنزِله على رسله.
وها هو القرآن الكريم يأتي على لسان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم َ، ويقول:
{قُل لَاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَاّ المودة فِي القربى} [الشورى: 23] .
أما لماذا لم تأت مسألة الأجر على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام فنحن نعلم أن إبراهيم عليه السلام أول ما دعا؛ دعا عمه، وكان للعم حظ تربية إبراهيم، وله على سيدنا إبراهيم حق الأبوة.
وكذلك سيدنا موسى عليه السلام، فقد دعا فرعون، وفرعون هو الذي قام بتربية موسى، وكانت زوجة فرعون تريده قرة عين لها ولزوجها، حتى إن فرعون فيما بعد قد ذكَّره بذلك، وقال:
{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء: 18] .
أما هنا في دعوة سيدنا نوح عليه السلام فيأتي قول القرآن على لسان نوح بما يوضِّح الأمر لقوم نوح:
فإن توليتم فلا حزن لي، ولا جزع؛ لأنكم لن تصيبوني بضُرٍّ، ولن تمنعوا عني منفعة؛ لأنكم لم تسألوني أن آتي لكم بالهدى لآخذ أجري منكم، ولكن الحق سبحانه هو الذي بعثني، وهو الذي سيعطيني أجري،
وقد أمرني سبحانه أن أكون من المسلمين له حَقّاً وصدقاً.
وفي حياتنا نجد أن صديقاً يرسل إلى صديقه عاملاً من عنده ليصلح شيئاً، فهو يأخذ الأجر من المرسل، لا من المرسل إليه، وهذا أمر منطقي وطبيعي.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك}
وكأن الأمر الذي وقع من الحق سبحانه نتيجة عدائهم للإيمان كان من الممكن أن يشمله؛ لأنه لا يقال: نجَّيتُك من كذا إلا إذا كان الأمر الذي نجيتك منه، توشك أن تقع فيه، وكان هذا بالفعل هو الحال مع الطوفان، فالحق سبحانه يقول:
{فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} [القمر: 1112] .
ومن المتوقع أن تشرب الأرض ماء المطر، لكن الذي حدث أن المطر انهمر من السماء والأرض أيضاً تفجَّرتْ بالماء؛ ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول:
{فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 12] .
أي: أن ذلك الأمر كان مقدَّراً؛ حتى لا يقولن أحد: إن هذه المسألة ظاهرة طبيعية.
لا إنه أمر مُقدَّر، وقد كانت السفينة موجودة بصناعة من نوح عليه السلام؛ لأن الحق سبحانه قد أمره بذلك في قوله تعالى في سورة هود:{واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37] .
ويقول الحق سبحانه في الآية التي بعدها:
ويركب نوح عليه السلام السفينة، ويركب معه من آمن بالله تعالى، وما حملوا معهم من الطير والحيوان من كُلِّ نوع اثنين ذكراً وأنثى.
وقول الحق سبحانه:
{فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ} [يونس: 73] .
يوحي أن الذي صعد إلى السفينة هم العقلاء من البشر، فكيف نفهم مسألة صعود الحيوانات والطيور إلى السفينة؟
نقول: إن الأصل في وجود هذه الحيوانات وتلك الطيور أنها مُسخَّرة لخدمة الإنسان، وكان لا بد أن توجد في السفينة؛ لأنها ككائنات مسخّرة تسبِّح الله، وتعبد الحق سبحانه، فكيف يكون علمها فوق علم العقلاء الذين كفرو بعضهم، ثم أليس من الكائنات المسخَّرة ذلك الغراب الذي علَّم «قابيل» كيف يواري سوأة أخيه؟ {إنه طائر، لكنه علم ما لم يعلمه الإنسان}
والحق سبحانه هو القائل:
{فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31] .
ثم يقول الحق سبحانه في الآية التي نحن بصددها الآن:
وكلمة «الفُلْك» من الألفاظ التي تطلق على المفرد، وتطلق على الجماعة.
وقول الحق سبحانه: {فَنَجَّيْنَاهُ} نعلم منه أن الفعل من الله تعالى، وهو سبحانه حين يتحدث عن أي فعل له، فالكلام عن الفعل يأتي مثل قوله سبحانه:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .
ولكنه حين يتحدث عن ذاته، فهو يأتي بكلمة تؤكد الوحدانية وتكون بضمير الإفراد مثل:{إنني أَنَا الله} [طه: 14] .
وهنا يقول الحق سبحانه:
{فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك} [يونس: 73] .
كلمة «أنجى» للتعددية، وكلمة «نَجَّى» تدل على أن هناك معالجة شديدة للإنجاء، وعلى أن الفعل يتكرر.
وقول الحق سبحانه:
{وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ} [يونس: 73] .
تعني: أن الخليفة هو من يجيء بعد سابق، وكلمة «الخليفة» تأتي مرة للأعلى، مثل الحال هنا حيث جعل الصالح خليفة للصالح، فبعد أن أنجى الله سبحانه العناصر المؤمنة في السفينة، أغرق الباقين.
إذن: فالصالحون على ظهر السفينة أنجبوا الصالحين من بعدهم.
ومرة تأتي كلمة «الخليفة» للأقل، مثل قول الحق سبحانه:
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات} [مريم: 59] .
فهنا تكون كلمة الخليفة موحية بالمكانة الأقل، وهناك معيار وضعه الحق سبحانه لتقييم الخليفة، هو قول الحق سبحانه:
{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الأرض مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14] .
ولأن الإنسان مخيَّر بين الإيمان والكفر، فسوف يَلْقَى مكانته على ضوء ما يختار.
ويقول الحق سبحانه:
إذن: فالخليفة إما أن يكون خليفة لصالحٍ، وإما أن يكون صالحاً يَخْلُفُ فاسداً.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} [يونس: 73] .
والآيات كما قلنا من قبل إما آيات الاعتبار التي تهدي إلى الإيمان بالقوة الخالقة، وهي آيات الكون كلها، فكل شيء في الكون يدلُّكَ على أن هذا الكون مخلوق على هيئة ولغاية. بدليل أن الأشياء في هذا الكون تنتظم انتظاماً حكيماً.
وإذا أردت أن تعرف دقة هذا الخلق، فانظر إلى ما ليدك فيه دَخْلٌ، وما ليس ليدك فيه دخل؛ ستجد كل ما ليس ليدك فيه دخل على درجة هائلة من الاستقامة، والحق سبحانه يقول:
أما ما ليدك فيه دخل، فاختيارنا حين يتدخل فهو قد يفسد الأشياء.
وهكذا رأينا أن الآيات الكونية تلفت إلى وجود الخالق سبحانه وهي مناط الاستدلال العقلي على وجود الإله، أو أن الآيات هي الأمور العجيبة التي جاءت علىأيدي الرسل عليهم السلام لتقنع الناس بأنهم صادقون في البلاغ عن الله سبحانه وتعالى.
ثم هناك آيات القرآن الكريم التي يقول فيها الحق سبحانه:
{هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب} [آل عمران: 7] .
وهي الآيات التي تحمل المنهج.
وحين يقول الحق سبحانه:
{وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} [يونس: 73] .
فهو يعلِّمنا أنه أغرق من كذَّبوا بالآيات الكونية ولم يلتفتوا إلى بديع صنعه سبحانه، وحكمة تكوين هذه الآيات، وترتيبها ورتابتها، وهم أيضاً كذَّبوا الآيات المعجزات، وكذلك كذَّبوا بآيات الأحكام التي جاءت بها رسلهم.
وينهي الحق سبحانه وتعالى هذه الآية بقوله:
{فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين} [يونس: 73] .
والخطاب هنا لكل من يتأتَّى منه النظر، وأوَّلُهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم َ،
وهو أول مُخاطَب بالقرآن.
وأنت حين تقول: «انظر» ؛ فأنت تُلْفِت إلى أمر حسِّي، إن وجَّهت نظرك نحوه جاء الإشعاع من المنظور إليه، ليرسم أبعاد الشيء؛ فتراه.
والكلام هنا عن أمور غائبة، فهي أحداث حسية وقعت مرة واحدة ثم صارت خبراً، فإن أخبرك بها مخبر فيكون تصديقك بها على مقدار الثقة فيه.
فمن رأى عصا موسى عليه السلام وهي تلقف الحبال التي ألقاها السحرة؛ آمن بها، مثلما آمن من شاهد النار عاجزة عن إحراق إبراهيم عليه السلام، ومن رأى عيسى عليه السلام وهو يُشفي الأكْمَهَ والأبْرص ويُحيي الموتى بإذن الله تعالى، فقد آمن بما رأى، أما من لم ير تلك المعجزات فإيمانه يتوقف على قدر توثيقه لمن أخبر، فإن كان المخبر بذلك هو الله سبحانه وفي القرآن الكريم فإيماننا بتلك المعجزات هو أمر حتمي؛ لأننا آمنا بصدق المبلِّغ عن الله تعالى.
ونحن نفهم أن الرسالات السابقة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم َ، كانت رسالات موقوتة زماناً ومكاناً، لكن الإسلام جاء لينتظم الناس الموجَّه إليهم منذ أن أرسل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم َ إلى أن تقوم الساعة.
لذلك جاء القرآن آيات باقيات إلى أن تقوم الساعة، وهذا هو السبب في أن القرآن قد جاء معجزة عقلية دائمة يستطيع كل من يدعو إلى منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أن يقول: محمد رسول من عند الله تعالى، وتلك هي معجزته.
وساعة يقول الحق سبحانه: {فانظر} فمثلها مثل قول الحق سبحانه
وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم َ:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1] .
وحادثة الفيل قد حدثت في العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، وبطبيعة الحال فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ لم ير حادثة الفيل، ولكن الذين رأوها هم الذين كانوا يعيشون وقتها، وهذا ما يلفتنا إلى فارق الأداء، فعيونك قد ترى أمراً، وأنذك قد تسمع خبراً، ولكن من الجائز أن تخدعك حواسك، أما الخبر القادم من الله تعالى، وإن كان غائباً عنك الآن وغير مسموع لك فخذه على أنه أقوى من رؤية العين.
ولقائل أن يقول: لماذا لم يقل الحق: «ألم تعلم» وجاء بالقول:
{أَلَمْ تَرَ} [الفيل: 1] .
وأقول: ليدلنا الله سبحانه على أن العلم المأخوذ من الله تعالى عن أمر غيبي عليك أن تتلقاه بالقبول أكثر من تلقيك لرأي العين.
إذن: {فانظر} تعني: اعلمْ الأمر وكأنه مُجسَّم أمامك؛ لأنك مؤمن بالله تعالى وكأنك تراه، ومُبلِّغك عن الله سبحانه هو رسول تؤمن برسالته، وكل خبر قادم من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه سولم لا يمكن أن يتسرب إليه الشك، ولكن الشك لا يمكن أن يتسرب إلى المخبر الصادق أبداً.
ولقائل أن يقول: ولماذا لم يقل الحق: «فانظر كيف كان عاقبة الكافرين» بدلاً من قول الحق سبحانه:
{فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين} [يونس: 73] .
وهنا نقول:
إن الحق سبحانه وتعالى قد بيَّن أنه لم يعذِّب قبل أن يُنْذِر، فهو قد أنذر أولاً، ولم يأخذ القوم على جهلهم.
«فانظر» كما نعلم هي خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ، وخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يشمل أمته أيضاً، وجاء هذا الخبر تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ، فإن صادف من قومك يا محمد ما صادف قوم نوح عليه السلام فاعلمْ أن عاقبتهم ستكون كعاقبة قوم نوح.
وفي هذا تحذير وتخويف للمناوئين لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ}
وكلمة «بعث» هنا تستحق التأمل، فالبعث إنما يكون لشيء كان موجوداً ثم انتهى، فيبعثه الله تعالى.
وكلمة {بَعَثْنَا} هذه تلفتنا إلى الحق سبحانه أول ما خلق الخلق أعطى المنهج لآدم عليه السلام، وأبلغه آدم لأبنائه، وكل طمس أو تغيير من البشر للمنهج هو إماتة للمنهج.
وحين يرسل الحق سبحانه رسولاً، فهو لا ينشيء منهجاً، بل يبعث ما كان موجوداً، ليذكِّر الفطرة السليمة.
وهذا هو الفرق بين أثر كلمة «البعث» عن كلمة «الإرسال» ، فكلمة البعث تشعرك بوجود شيء، ثم انتهاء الشيء، ثم بعث ذلك الشيء من جديد، ومثله مثل البعث في يوم القيامة، فالبشر كانوا يعيشون وسيظلون في تناسل وحياة وموت إلى يوم البعث، ثم يموت كل الخلق ليبعثوا للحساب.
ولم يكن من المعقول أن يخلق الله سبحانه البشر، ويجعل لهم الخلافة في الأرض، ثم يتركهم دون منهج؛ وما دامت الغفلة قد طرأت عليهم من بعد آدم عليه السلام جاء البعث للمنهج على ألسنة الرسل المبلِّغين عن الله تعالى.
وبعد نوح عليه السلام بعث الحق سبحانه رسلاً، وهنا يقول الله سبحانه وتعالى:
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ} [يونس: 74] .
أي: من بعد نوح، فمسألة نوح عليه السلام هنا تعني مقدمة الرَّكْب الرسالي؛ لأن نوحاً عليه السلام قد قالوا عنه إنه رسول عامٌّ للناس جميعاً أيضاً، مثله مثل محمد صلى الله عليه وسلم َ، وهو لم يُبعث رسولاً عامّاً للناس جميعاً، بل كان صعوده إلى السفينة هو الذي جعله رسولاً لكل الناس؛ لأن سكان الأرض أيامها كانوا قِلّة.
والحق سبحانه قد أخذ الكافرين بذنبهم وأنجى المؤمنين من الطوفان، وكان الناس قسمين: مؤمنين، وكافرين، وقد صعد المؤمنون إلى السفينة، وأغرق الحق سبحانه الكافرين.
وهكذا صار نوح عليه السلام رسولاً عامّاً بخصوصية من بقوا وهم المرسَل إليهم بخصوصية الزمان والمكان.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ} [يونس: 74] .
فهل قَصَّ الله تعالى كل أخبار الرسل عليه السلام؟ لا؛ لأنه سبحانه وتعالى هو القائل:
{مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] .
وجاء الحق عز وجل بقصص أولي العزم منهم، مثلما قال سبحانه:
{وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] .
فمن أرسله الله تعالى إلى من هم أقل من مائة ألف، فقد لا يأتي ذكره، ونحن نعلم أن الرسول إنما كان يأتي للأمة المنعزلة؛ لأن العالم كان على طريقة الانعزال، فنحن مثلاً منذ ألف عام لم نكن نعلم بوجود قارة أمريكا، بل ولم نعلم كل القارات والبلاد إلا بعد المسح الجوي في العصر الحديث، وقد توجد مناطق في العالم نعرفها كصورة ولا نعرفها كواقع.
ونحن نعلم أن ذرية آدم عليه السلام كانت تعيش على الأرض، ثم انساحت في الأرض؛ لأن الأقوات التي كانت تكفي ذرية آدم على عهده، لم تعد تكفي بعدما اتسعت الذرية، فضاق الرزق في رقعة الأرض التي كانوا عليها، وانساح بعضهم إلى بقية الأرض.
والحق سبحانه هو القائل:
{وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء: 100] .
وهكذا انتقل بعض من ذرية آدم عليه السلام إلى مواقع الغيث، فالهجرة تكون إلى مواقع المياه؛ لأنها أصل الحياة.
ويلاحظ مؤرِّخو الحضارات أن بعض الحضارات نشأت على جوانب الأنهار والوديان، أما البداوة فكانت تتفرق في الصحاري، مثلهم مثل العرب، وكانوا في الأصل يسكنون عند سد مأرب، وبعد أن تهدم السد وأغرق الأرض، خاف الناس من الفيضان؛ لأن العَدُوَّين اللذين لم يقدر عليهما البشر هما النار والماء.
وحين رأى الناس اندفاع الماء ذهبوا إلى الصحاري، وحفروا الآبار التي أخذوا منها الماء على قَدْر حاجتهم؛ لأنهم عرفوا أنهم ليسوا في قوة المواجهة مع الماء.
وهكذا صارت الانعزالات بين القبائل العربية، مثلها كانت في بقية الأرض؛ ولذلك اختلفت الداءات باختلاف الأمم؛ ولذلك بعث الحق سبحانه إلى كل أمة نذيراً، وهو سبحانه القائل:
{وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَاّ خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] .
وقصَّ علينا الله سبحانه قصص بعضهم، ولم يقصص قصص البعض الآخر.
يقول الحق سبحانه:
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُمْ بالبينات} [يونس: 74] .
فهل هؤلاء هم الرسل الذين لم يذكرهم الله؟
لا؛ لأن الحق سبحانه أرسل بعد ذلك هوداً إلى قوم عاد، وصالحاً إلى ثمود، وشعيباً إلى مدين، ولم يأت بذكر هؤلاء هنا، بل جاء بعد نوح عليه السلام بخبر موسى عليه السلام، وكأنه شاء سبحانه هنا أن يأتي لنا بخبر عيون الرسالات.
وما دام الحق سبحانه قد أرسل رسلاً إلى قوم، فكل قوم كان لهم رسول، وكل رسول بعثه الله تعالى إلى قومه.
وكلمة «قوم» في الآية جمع مضاف، والرسل جمع، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحاداً، مثلما نقول: هَيَّا اركبوا سياراتكم، والخطاب لكم جميعاً، ويعني: أن يركب كل واحد منكم سيارته.
وجاء كل رسول إلى قومه بالبينات، أي: بالآيات الواضحات الدالة على صدق بلاغهم عن الله تعالى.
ثم يقول الحق سبحانه في نفس الآية:
{فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ على قُلوبِ المعتدين} [يونس: 74] .
أي: أن الناس جميعهم لو آمنوا لانقطع الموكب الرسالي، فموكب إيمان كل البشر لم يستمر، بل جاءت الغفلة، وطبع الله تعالى على قلوب المعتدين.
والطبع كما نعلم هو الختم.
ومعنى ذلك أن القلب المختوم لا يُخرج ما بداخله، ولا يُدخل إليه ما هو خارجه؛ فما دام البعض قد عشق الكفر فقد طبع الله سبحانه على هذه القلوب ألاّ يدخلها إيمان، ولا يخرج منها الكفر، والطبع هنا منسوب لله تعالى.
وبعض الذين يتلمَّسون ثغرات في منهج الله تعالى يقولون: إن سبب كفرهم هو أن الله هو الذي طبع على قلوبهم.
ونقول: التفتوا إلى أنه سبحانه بيَّن أنه قد طبع الى قلوب المعتدين، فالاعتداء قد وقع منهم أولاً، ومعنى الاعتداء أنهم لم ينظروا في آيات الله تعالى، وكفروا بما نزل إليهم من منهج، فهم أصحاب السبب في الطبع على القلوب بالاعتداء والإعراض.
وجاء الطبع لتصميمهم على ماعشقوه وألفوه، والحق سبحانه وتعالى هو القائل في الحديث القدسي:
ولله المثل الأعلى، فأنت تقول لمن يَسْدِر في غَيِّه: ما دمت تعشق ذلك الأمر فاشبع به.
ومَثَل هؤلاء الذين طبع الله سبحانه وتعالى على قلوبهم، مثل الذين كذَّبوا من قبل وكانوا معتدين.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ موسى وَهَارُونَ}
وكل من موسى وهارون عليهما السلام رسول، وقد أخذ البعث لهما مراحل، والأصل فيها أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام:
{وَأَنَا اخترتك فاستمع لِمَا يوحى} [طه: 13] .
وقال الحق سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام:
{اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} [طه: 43] .
ثم سأل موسى عليه السلام ربه سبحانه وتعالى أن يشدَّ عَضُدَه بأخيه، فقال الحق سبحانه وتعالى:
{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} [طه: 36] .
لأن موسى عليه السلام أراد أن يفقه قوله، وقد رجى موسى ربه سبحانه وتعالى بقوله:
{واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُواْ قَوْلِي} [طه: 2728] .
وبعد ذلك جاء تكليف هارون بالرسالة مع موسى عليه السلام.
وقال الحق سبحانه: {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} [طه: 24] .
فالأصل إذن كانت رسالة موسى عليه السلام ثم ضم الله سبحانه هارون إلى موسى إجابة لسؤال موسى، والدليل على ذلك أن الآيات كلها المبعوثة في تلك الرسالة كانت بيد موسى، وحين يكون موسى هو الرسول، وينضم إليه هارون، لا بد إذن أن يصبح هارون رسولاً.
ولذلك نجد القرآن معبِّراً عن هذا: {إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} [طه: 47] .
أي: أنهما رسولان من الله.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه:
{فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 16] .
فهما الاثنان مبعوثان في مهمة واحدة، وليس لكل منهما رسالة منفصلة، بل رسالتهما واحدة لم تتعدد، وإن تعدد المرسل فكانا موسى وهارون.
ومثال ذلك ولله المثل الأعلى حين يوفد ملك أو رئيس وفداً إلى ملك آخر، فيقولون: نحن رسل الملك فلان.
وفي رسالة موسى وهارون نجد الأمر البارز في إلقاء الآيات كان لموسى. ولكن هارون له أيضاً أصالة رسالية؛ لذلك قال الحق سبحانه:
{إِنَّا رَسُولَا} [طه: 47] .
ذلك أن فرعون كان متعالياً سَمْجاً رَذْل الخُلُق، فإن تكلم هارون ليشد أزر أخيه، فقد يقول الفرعون: وما دخلك أنت؟
ولكن حين يدخل عليه الاثنان، ويعلنان أنهما رسولان، فإن رد فرعون هارون، فكأنه يرد موسى أيضاً.
أقول ذلك حتى نغلق الباب على من يريد أن يتورك القرآن متسائلاً: ما معنى أن يقول القرآن مرة «رسول» ومرة «رسولا» ؟
وفي هذا ردٌّ كافٍ على هؤلاء المتورّكين.
ويقول الحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ موسى وَهَارُونَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فاستكبروا} [يونس: 75] .
والملأ: هم أشراف القوم، ووجوهه وأعيانه والمقرَّبون من صاحب السيادة العليا، ويقال لهم:«ملأ» ؛ لأنهم هم الذين يملأون العيون، أي: لا ترى العيون غيرهم.
وفرعون كما نعلم لم يصبح فرعوناً إلا بالملأ؛ لأنهم هم الذين نصَّبوه عليهم، وكان «هامان» مثلاً يدعم فكرة الفرعون، وكان الكهنة يؤكدون أن الفرعون إله.
ولكل فرعون ملأ يصنعونه، والمثل الشعبي في مصر يقول:«قالوا لفرعون من فَرْعَنك، قال: لم أجدا أحداً يردّني» .
أي: أنه لم يجد أحداً يقول له: تَعقَّلْ. ولو وجد من يقول له ذلك لما تفرعن.
والآيات التي بعث بها الله سبحانه إلى فرعون وملئه مع موسى وهارون من المعجزات الدالة على صدق نبوة موسى وهارون عليهما السلام، وفيها ما يُلْفِت إلى صدق البلاغ عن الله.
أو أن الآيات هي المنهج الذي يثبت وجود الخالق الأعلى، لكن فرعون وملأوه استكبروا. والاستكبار: هو طلب الكبر، مثلها مثل «استخرج» أي: طلب الإخراج، ومثل «استفهم» أي: طلب الفهم. ومن يطلب الكبر إنما يفتعل ذلك؛ لأنه يعلم أن مقوماته لا تعطيه هذا الكبر.
وينهي الحق سبحانه هذه الآية بقوله:
{وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} [يونس: 75] .
وشرُّ الإجرام ما يتعدى إلى النفس، فقد يكون من المقبول أن يتعدى إجرام الإنسان إلى أعدائه، أما أن يتعدى الإجرام إلى النفس فهذا أمر لا مندوحة له، وإجرام فرعون وملئه أودى بهم إلى جهنم خالدين مخلدين فيها ملعونين، وفي عذاب عظيم ومهين.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
وقد جاءهم الحق على لسان الرسل عليهم السلام وعلى كل إنسان أن يفهم أنه حين يستقبل من الرسول رسالة الحق، فليفهم أنها رسالة ليست ذاتية الفكر من الرسول، بل قد أرسله بها الله الخالق الأعلى سبحانه وتعالى.
ولذلك فالمتأبَّى على الرسول، لا يتأبَّى على مساوٍ له؛ لأن الرسول هو مُبلِّغ عن الله تعالى، والله سبحانه هو الذي بعثه، ويجب على الإنسان أن يعرف قدر البلاغ القادم من الله الحق، لأنه سبحانه هو الحق الأعلى، وهو الذي خلق كل شيء بالحق: سماء مخلوقة بالحق، وأرض مخلوقة بالحق، وشمس تجري بالحق، ومطر ينزل بالحق، وكل شيء ثابت ومتحرك بقوانين أرادها الحق سبحانه.
ولو سيطر الإنسان دون منهج على قوانين الكائنات لأفسدها؛ لأن الفساد إنما يتأتى مما للإنسان دخل فيه، ويدخل إليه بدون منهج الله.
والفساد إنما يجيء من ناحية اختيار الإنسان للبدائل التي لا يخضع فيها لمنهج الله تعالى.
ولذلك إن أردتم أن تستقيم حياتكم استقامة الكائنات العليا التي لا دخل لكم فيها، فامتثلوا لمنهج الحق وميزانه؛ لأنه سبحانه هو القائل:
{والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان أَلَاّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} [الرحمن: 7 8] .
أي: إن كنتم تريدون أن تعتدل أموركم، وتنضبط انضباط الكائنات الأخرى فالتكن إرادة الاختيار المخلوقة لكم خاضعة لمنهج الله تعالى، وتسير في إطار هذا المنهج الرباني.
وحين نتأمل قول الحق سبحانه:
{فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا} [يونس: 76] .
نجد في هذا القول توجيهاً إلى أن الحق لم يأت من ذوات الرسل؛ فهذه الذوات لا دخل لها في الموضوع، وإياك أن تهاجم رسالة حق جاءتك من إنسان لا تحبه، بل ناقش الحق في ذاته، ولا تدخل في متاهة البحث عمَّن جاء بهذا الحق، وانظر إلى من كفروا بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، فَهُمْ من قالوا:
{لَوْلَا نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] .
وهم بذلك قد أدخلوا النازل عليه القرآن في الحكم، مع أن العقل كان يقتضي أن ينظروا إلى القرآن في ذاته، وأن يأخذوا الحكمة من أي وعاء خرجت.
وعليك أنت أن تستفيد من هذا الأمر، وخُذ الحكمة من أي قائل لها،
ولا تنظر إلى من جاءت الحكمة منه، فإن كنت تكرهه فأنت ترفض أن تأخذ الحكمة منه، وإن كانت تحبه أخذتها. لا، إن عليك أن تأخذ الحكمة ما دامت قد جاءت بالحق؛ لأنك إن لم تأخذها أضعت نفسك.
والحق هو الشيء الثابت، وإن ظهر في بعض الأحيان أن هناك من طمس الحق، وأن الباطل تغلّب عليه، فهذا يعني ظهور المفاسد؛ فيصرخ الناس طالبين الحق.
وانتشار المفاسد هو الذي يجعل الناس تستدعي الحق، وتتحمس له؛ لأن الباطل حين يَعَضُّ الناس، تجدهم يتجهون إلى الحق ليتمسكوا به.
والحق سبحانه هو القائل:
والحق سبحانه هنا يضرب المثل النازل كسيل من السماء على الجبال، فيأخذ كل وادٍ أسفل الجبال على قدر احتماله، ويرتوى الناس، وترتوي الأرض، لكن السيل في أثناء نزوله على الجبال إنما يحمل بعضاً من الطمي، والقش، ويستقر الطمي في أرض الأودية؛ لتستفيد منه، أما القش والقاذورات فتطفو على سطح الماء، وتسمى تلك الأشياء الطافية زَبَداً، وساعة تضعها في النار، فهي تصدر أصواتاً تسمى (الطشطشة) .
ومثال ذلك: حين نوقد النار؛ لنصهر الحديد، نجد الخبث هو الذي يطفو، ويبقى الحديد النقي في القاع.
هذا الزبد الذي وجد فوق الماء ينزاح على الجوانب، ومثال ذلك: ما نراه على شواطىء البحر حين يقذف الموج بقاذورات على الشاطىء، هذه القاذورات التي ألقتها البواخر، فيلفظها البحر بالموج، وهذا الزبد يذهب جُفاءً، أما ما ينفع الناس فيبقى في الأرض؛ لذلك يقول الحق سبحانه:
{كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل} [الرعد: 17] .
إذن: فالله سبحانه يترك للباطل مجالاً، ولكن لا يسلم له الحق، بل يترك الباطل؛ ليحفز غيرة الناس على الحق، فإن لم يغاروا على الحق غار هو عليه.
وهنا يقول الله سبحانه وتعالى:
{فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قالوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} [يونس: 76] .
ولأنهم كانوا مشهورين بالسحر؛ ظنوا أن الآيات التي جاءت مع موسى عليه السلام هي السحر المبين، أي: السحر الظاهر الواضح.