المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

إذن: فهم خسروا أنفسهم؛ لأنهم بظلم النفس وإعطائها شهوة عاجلة - تفسير الشعراوي - جـ ١٠

[الشعراوي]

الفصل: إذن: فهم خسروا أنفسهم؛ لأنهم بظلم النفس وإعطائها شهوة عاجلة

إذن: فهم خسروا أنفسهم؛ لأنهم بظلم النفس وإعطائها شهوة عاجلة زمنها قليل، أخذوا عذاباً آجلاً زمنه خالد.

وفي هذا ظلم للنفس، وهذه قمة الخيبة، وهذا يدل على اختلال الموازين،

وأنت قد تظلم غيرك فتأخذ من عنده بعضاً من الخير لتستفيد به، وبذلك تظلم الغير لصالح نفسك.

وظلم النفس يعني أنك تعطيها متعة عاجلة وتغفل عنها عذاباً آجلاً، والمتعة العاجلة لها مدة محدودة، أما العذاب فلا مدة تحدده.

ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:

{وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [هود:‌

‌ 21]

.

أي: لم يهتد إليهم ما كانوا يعبدونهم من دون الله، ولو كان لهؤلاء الذين عبدوهم قوة يوم القيامة؛ لهرعوا إليهم ليستنقذوهم من العذاب، ولكنهم بلا حول ولا قوة؛ لأن الحق سبحانه قد حكم على هؤلاء الكافرين، وقال:

{وَمَا لَهُمْ فِي الأرض مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [التوبة: 74] .

وكذلك هؤلاء الآلهة المعبودة من دون الله تعالى، أو شركاء مع الله، لا يهتدون إليهم، حتى بفرض قدرتهم على النصرة، فتلك الآلهة أو الشركاء لا يهتدون إليهم، ولا يعرفون لهم مكاناً.

وقول الحق سبحانه: {وَضَلَّ عَنْهُمْ} [هود: 21] .

أي: غاب وتاه عنهم.

ص: 6413

وقوله سبحانه: {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [هود: 21] .

أي: ما كانوا يدَّعونه كذباً.

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة}

ص: 6414

واختلف العلماء في معنى كلمة {لَا جَرَمَ} ، والمعنى العام حين تسمع كلمة {لَا جَرَمَ} أي: حق وثابت، أو لا بد من حصول شيء محدد.

وحين يقول الحق سبحانه:

{لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} [النحل: 62] .

أي: حَقَّ وثبت أن لهم النار؛ نتيجة ما فعلوا من أعمال، وتلك الأعمال مقدمة بين يدي عذابهم، فحين نسمع {لَا جَرَمَ} ومعها العمل الذي ارتكبوه، تثق في أنه يحق على الله سبحانه أن يعذبهم.

وقال بعض العلماء: إن معنى: {لَا جَرَمَ} حق وثبت.

وقال آخرون: إن معنى {لَا جَرَمَ} هو لا بد ولا مفر.

ص: 6414

والمعنيان ملتقيان لأن انتفاء البُدِّية يدل على أنها ثابتة.

وكان يجب على العلماء أن يبحثوا في مادة الكلمة، ومادة الكلمة هي «الجرم» ، والجرم: هو القطع، ويقال: جرم يده، أي: قطع يده.

وقول الحق سبحانه هنا:

{لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون} [هود: 22] .

أي: لا قَطْع لقول الله فيهم بأن لهم النار، ولا شيء يحول دون ذلك أبداً، ولا بد أن ينالوا هذا الوعيد؛ وهكذا التقى المعنى ب «لا بد» .

إذن: فساعة تسمع كلمة «لا جرم» ، أي: ثبت، أو لا بد من حدوث الوعيد.

وأيضاً تجد كلمة «الجريمة» مأخوذة من «الجرم» ، وهي قطع ناموس مستقيم، فحين نقرر ألا يسرق أحد من أحد شيئاً، فهذا ناموس مستقيم، فإن سرق واحد من آخر، فهو قد قطع الأمن والسلام للناس، وأيُّ جريمة هي قَطْع للمألوف الذي يحيا عليه الناس.

وأيضاً يقال: جرم الشيء أي: اكتسب شرَّه، ومنه الجريمة، ولذلك يقال: من الناس من هو «جارم» وهي اسم فاعل من الفعل: «جرم» ، مثل كلمة «كاتب» من الفعل «كتب» و «مجروم عليه» وهي اسم مفعول، مثلها مثل «مكتوب» .

فإن أخذت الجريمة من قطع الأمر السائد في النظام، فهؤلاء الذين افتروا على الله وظلموا وصدوا عن سبيل الله، فلا جريمة في أن يعذبهم الله بالنار.

ص: 6415

ومثل هذه العقوبة ليست جريمة؛ لأن العقوبة على الجريمة ليست جريمة، بل هي مَنْع للجريمة.

وهكذا تلتقي المعاني كلها، فحين نقول:{لَا جَرَمَ} فذلك يعني أنه لا جريمة في الجزاء؛ لأن الجريمة هي الآثام العظيمة التي ارتكبوها.

ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:

{وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] .

وقد سمَّاها الحق سيئة؛ لأنها تسيء إلى المجتمع أو تسيء إلى الفرد نفسه.

ولهذا يقول الحق سبحانه:

{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] .

وهكذا نجد أن هناك معاني متعددة لتأويل قول الحق سبحانه: {لَا جَرَمَ} ، فهي تعني: لا قطع لقول الله في أن المشركين سيدخلون النار، أو لا بد أن يدخلوا النار، أو حق وثبت أن يدخلوا النار، أو لا جريمة من الحق سبحانه عليهم أن يفعل بهم هكذا؛ لأنهم هم الذين فعلوا ما يستحق عقابهم.

ويقول الحق سبحانه:

{لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون} [هود: 22] .

وكلمة (الأخسرون) جمع «أخسر» وهي أفعل تفضيل لخاسر، وخاسر اسم فاعل مأخوذ من الخسارة.

ص: 6416

والخسارة في أمور الدنيا أن تكون المبادلة إجحافاً لواحد، كأن يشتري شيئاً بخمسة قروش وكان يجب أن يبيعها بأكثر من خمسة قروش، لكنه باعها بثلاثة قروش فقط، فبعد أن كان يرغب في الزيادة، باع الشيء بمنا ينقص عن قيمته الأصلية.

ومن يفعل ذلك يسمى «خاسر» ، والخسارة في الدنيا موقوتة بالدنيا، ومن يخسر في صفقة قد يربح في صفقة أخرى.

ولنفترض أنه قد خسر في كل صفقات الدنيا، فما أقصر وقت الدنيا! لأن كل ما ينتهي فهو قصير، لكن خسارة الآخرة لا نهاية لها.

ويقول الحق سبحانه وتعالى:

{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103104] .

وهكذا وصفهم الحق سبحانه مرة بأنهم الأخسرون، ومرة يقول سبحانه واصفاً الحكم عليهم:

{أَلَا ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين} [الزمر: 15] .

ص: 6417

وهو خسران محيط يستوعب كل الأمكنة.

وشاء الحق سبحانه بعد ذلك أن يأتي بالمقابل لهؤلاء، وفي ذلك فيض من الإيناسات المعنوية؛ لأن النفس حين ترى حكماً على شيء تأنس أن تأخذ الحكم المقابل على الشيء المقابل.

فحين يسمع الإنسان قول الحق سبحانه:

{إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13] .

فلا بد أن يأتي إلى الذهن تساؤل عن مصير الفُجَّار، فيقول الحق سبحانه:

{وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14] .

وهذا التقابل يعطي بسطة النفس الأولى وقبضة النفس الثانية، وبين البسطة والقبضة توجد الموعظة، ويوجد الاعتبار.

ويأتي الحق سبحانه هنا بالمقابل للمشركين الذين صدوا عن سبيل الله، فصاروا إلى النار، والمقابل هم المؤمنون أصحاب العمل الصالح.

فيقول الحق سبحانه: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات}

ص: 6418

الإيمان كما نعلم أمر عقدي، يعلن فيه الإنسان إيمانه بإله واحد موجود، ويلتزم بالمنهج الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على الرسول صلى الله عليه وسلم َ، ومن آمن بالله تعالى ولم يعمل العمل الصالح يتلقَّ العقاب؛ لأن فائدة الإيمان إنما تتحقق بالعمل الصالح.

لذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول لنا:

{قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] .

أي: اتبعتم ظاهر الإسلام.

وهكذا نعرف أنه يوجد مُتيقِّن بصحة واعتقاد بأن الإله الواحد الأحد موجود، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم َ مُبلِّغ عن الله عز وجل؛ لكن العمل الذي يقوم به الإنسان هو الفيصل بين مرتبة المؤمن، ومرتبة المعلم.

فالذي يُحسن العمل هو مؤمن، أما من يؤدي العمل بتكاسل واتِّباع لظواهر الدين، فهو المسلم، وكلاهما يختلف عن المنافق الذي يدَّعي الحماس إلى أداء العبادات، لكنه يمكر ويبِّيت العداء للإسلام الذي لا يؤمن به.

وكان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أسبق الناس إلى صفوف الصلاة، وكانوا مع هذا يكتمون الكيد ويدبرون المؤامرات ضد النبي صلى الله عليه وسلم َ.

ص: 6419

وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى:

{إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وأخبتوا إلى رَبِّهِمْ} [هود: 23] .

هذا القول يبيِّن لنا أن معيار الإيمان إنما يعتمد على التوحيد، وإتقان أداء ما يتطلبه منهج الله سبحانه، وأن يكون كل ذلك بإخبات وخضوع، ولذلك يقال: رُبَّ معصية أورثت ذلاً وانكساراً، خير من عبادة أورثت عزّاً واستكباراً.

أي: أن المؤمن عليه ألا يأخذ العبادة وسيلة للاستكبار.

وكلمة {وأخبتوا} أي: خضعوا خشية لله تعالى، فهم لا يؤدون فروض الإيمان لمجرد رغبتهم في ألَاّ يعاقبهم الله، لا بل يؤدون فروض الإيمان والعمل الصالح خشية لله.

وأصل الكلمة من «الخبت» وهي الأرض السهلة المطمئنة المتواضعة، وكذلك الخبت في الإيمان.

ويصف الحق سبحانه أهل الإيمان المخبتين بأنهم:

{أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [هود: 23] .

أي: الملازمون لها، وخلودهم في الجنة يعني أنهم يقيمون في النعيم أبداً، ونعيم الجنة مقيم ودائم، على عكس نعيم الدنيا الذي قد يفوته الإنسان بالموت، أو يفوت النعيم الإنسان بالسلب؛ لأن الإنسان في الدنيا عرضة للأغيار، أما في الآخرة، فأهل الإيمان أصحاب العمل الصالح المخبتون لربهم، فهم أهل النعيم المقيم أبداً.

ص: 6420

وهكذا عرض الحق سبحانه حال الفريقين: الفريق الذي ظلم نفسه بافتراء الكذب وعلى الله، وصدوا عن سبيل الله، وابتغوا الأمر عوجاً، هؤلاء لن يُعجزوا الله، وليس لهم أولياء يحمونهم من العذاب المضاعف.

وهم الذين خسروا أنفسهم، ولن يجدوا عوناً من الآلهة التي عبدوها من دون الله، ولا شيء بقادر على أن يفصل بينهم وبين العذاب، وهم الأخسرون.

أما الفريق الثاني فهم الذين آمنوا وعملوا الصالحة بخشوع وخشية ومحبة لله سبحانه وتعالى، وهم أصحاب الجنة الخالدون فيها.

إذن: فلكل فريق مسلكه وغايته.

لذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك: {مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم}

ص: 6421

والفريقان هما من تحدثنا عنهما من قبل.

وكلمة «الفريق» تعني: جماعة يلتقون عند غاية وهدف واحد، مثلما نقول: فريق كرة القدم أو غيره من الفرق، فهي جماعات، كل جماعة منها لها هدف يجمعها.

ونحن نجد الحق سبحانه وتعالى يقول:

{فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير} [الشورى: 7] .

ص: 6421

وكلمة {الفريقين} جاءت في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؛ لأن كل فرقة تضم جماعة مختلفة عن الجماعة الأخرى، ولهؤلاء متعصبون، وللآخرين متعصبون.

ويضرب الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية المثل بسَيِّدَي الحواس الإداركية في الإنسان، وهما السمع والبصر، فهما المصدران الأساسيان عند الإنسان لأخذ المعلومات، إما مسموعة، أو مرئية، ثم تتكون لدى الإنسان قدرة الاستنباط والتوليد مما سمعه بالأذن ورآه بالعين.

ولذلك قال لنا الحق سبحانه:

{والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] .

إذن فما دام الحق سبحانه قد جعل السمع والأبصار والأفئدة مصادر تأتي منها ثمرة، هي المعلومات وتمحيصها، فالحق سبحانه يستحق الشكر عليها.

ونحن نعلم أن الطفرات الحضارية وارتقاءات العلم، إنما تأتي بمن سمع ومن رأى، ثم جاءت من الاستنباط أفكار تطبيقية تفيد البشرية.

ص: 6422

ومثال ذلك: هو من رأى إناء طعام وله غطاء، وكان بالإناء ماء يغلي، فارتفع الغطاء عن الإناء.

هذا الإنسان اكتشف طاقة البخار، واستنبط أن البخار يحتاج حيِّزاً أكبر من حيز السائل الموجود في الإناء؛ لذلك ارتفع الغطاء عن الإناء، وارتقى هذا الاكتشاف ليطور كثيراً من أوجه الحياة.

ولو أن كل إنسان وقف عند ما يسمعه أو يراه ولم يستنبط منه شيئاً لما تطورت الحياة بكل تلك الارتقاءات الحضارية.

وهنا يقول الحق سبحانه:

{مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} [هود: 24] .

ولن يشك كل من الأعمى أو الأصم أن من يرى أو من يسمع هو خير منه، ولا يمكن أن يستوي الأعمى بالبصير، أو الأصم بمن يسمع.

وهكذا جاء الحق سبحانه وتعالى بالأشياء المتناقضة، ليحكم الإنسان السامع أو القارىء لهذه الآية، وليفصل بحكم يُذكِّره بالفارق بين الذي يرى ومن هو أعمى، وكذلك بين من يسمع ومن هو أصم، ومن الطبيعي ألا يستويان.

لذلك يُنهي الحق سبحانه الآية بقوله تعالى:

{أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} أي: ألا تعتبرون بوجود هذه الأشياء.

ونحن نعلم أن الله سبحانه وتعالى قد قال لنا:

{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] .

ص: 6423