المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فَلَا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن - تفسير الشعراوي - جـ ١٠

[الشعراوي]

الفصل: فَلَا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن

فَلَا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} [هود: 4546] .

أي: كُنْ مؤدَّباً مع ربك حين تدعو وتنفِّس عن نفسك، ودَعْ لحكمة الحكيم الإجابة أو عدمها، وقد تكون الإجابة فورية أو مؤجَّلة إلى حين أوانها، وكلاهما خير.

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ البحر فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُه}

ص: 6178

قال الحق سبحانه:

{وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ البحر} [يونس:‌

‌ 90]

لأن الاجتياز لم يكن بأسباب بشرية، بل بفعل يخرج من أسباب البشر، فلو أن موسى عليه السلام قد حفر نفقاً تحت الماء، أو لو كان قد ركب سفناً هو وقومه لكان لهم مشاركة

ص: 6178

في اجتياز البحر، لكن المجاوزة كانت بأسباب غير ملوحظة بالنسبة للبشر، فالحق سبحانه هو الذي أوحى لموسى:

{أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر} [الشعراء: 63] .

ومياه البحر كأية مياه أخرى تخضع لقانون السيولة، والاستطراق هو وسيلة السيولة، وهي عكس التجمد الذي يتسم بالتحيز.

والاستطراق هو الذي قامت عليه أساليب نقل المياه من صهاريج المياه التي تكون في الأغلب أعلى من طول أي منزل، ويتم ضخ المياه إليها؛ لتتوزع من بعد ذلك حسب نظرية الأواني المستطرقة على المنازل، أما إذا كانت هناك بناية أعلى طولاً من الصهريج، هنا يقوم سكان المبنى بتركيب مضخة لرفع المياه إلى الأدوار العالية.

وإذا كان قانون البحر هو السيولة والاستطراق، فكيف يتم قطع هذا الاستطراق؟

يقول الحق سبحانه:

{فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} [الشعراء: 63] .

فكيف تحول الماء إلى جبال يفصل بينها سراديب وطرق يسير فيها موسى عليه السلام وقومه؟

كيف يسير موسى وقومه مطمئنين؟

لا بد أنها معية الله سبحانه التي تحميه، وهي تفسير لقول الحق سبحانه:

{إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] .

ص: 6179

ورغم ذلك يتبعهم فرعون وجنوده لعله يدركهم، وأراد سيدنا موسى عليه السلام بمجرد نجاحه في العبور هو وقومه أن يضرب البحر بعصاه؛ ليعود إلى قانون السيولة، ولو فعل ذلك لما سمح لفرعون وجنوده أن يسيروا في الممرات التي بين المياه التي تحولت إلى جبال، ولكن الله سبحانه وتعالى يريد غير ذلك، فقد أراد الحق سبحانه أن ينجي ويهلك بالشيء الواحد، فأوحى لموسى عليه لسلام:

{واترك البحر رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} [الدخان: 24] .

أي: اترك البحر على حاله؛ فينخدع فرعون وجنوده، وما إن ينزل آخر جندي منهم إلى الممر بين جبال الماء؛ سيعود البحر إلى حالة السيولة فيغرق فرعون وجنوده، وينجو موسى وقومه.

ويقول الحق سبحانه:

{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ} [يونس: 90] .

فهل كان هذا الإتباع دليل إرادة الشر؟

أكان من الممكن أن تكون نية الفرعون أن يدعو موسى وقومه إلى العودة إلى مصر ليستقروا فيها؟

لا، لم تكن هذه نية الفرعون؛ لذلك قال الحق سبحانه عن هذا الإتباع:{بَغْياً وَعَدْواً} [يونس: 90] .

أي: أنه اتباع رغبة في الانتقام والإذلال والعدوان.

ويصور القرآن الكريم لحظة غرق فرعون بقوله:

ص: 6180

{حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ آمَنتُ} [يونس: 90] .

والإدراك: قصد للمدرك أن يلحق بالشيء، والغرق معنى، فكيف يتحول المعنى إلى شيء يلاحق الفرعون؟

نعم، فكأن الغرق جندي من الجنود، وله عقل ينفعل؛ فيجري إلى الأحداث:

{حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلَاّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} [يونس: 90] .

والإيمان إذا أطلق فهو الإيمان بالقوة العليا، بدليل أن الحق سبحانه وتعالى قد قال:

{قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] .

لأن الإيمان يتطلب انقياد القلب، والإسلام يقتضي اتباع أركان الإسلام، فالإيمان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:«قل آمنت بالله ثم استقم» . وفي هذا القول ذكر محدد بأن الإيمان إنما يكون لله الأعلى.

لكن لو قلت مثلاً: «آمنت أنك رجل طيب» فهذا إيمان له متعلق، أما إذا ذُكِر الإيمان بإطلاق فهو ينصرف إلى الإيمان بالله تعالى؛ ولذلك قال الله سبحانه للأعراب:

{ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] .

ص: 6181

وهنا يأتي القول على لسان فرعون:

{آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلَاّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} [يونس: 90] .

والخلاف هنا كان بين الفرعون كجهة كفر، وبين موسى وهارون وقومهما كجهة إيمان، وأعلن فرعون إيمانه، وقال أيضاً:

{وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} [يونس: 90] .

ولم يقبل الله ذلك منه بدليل قوله الحق سبحانه: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ}

ص: 6182

وهذا يعني: أتقول إنك آمنت الآن وإنك من المسلمين. إن قولك هذا مردود؛ لأنه جاء في غير وقته، فهناك فرق بين إيمان الإجْبار وإيمان الاختيار، أتقول الآن آمنت وأنت قد عصيت من قبل، وكنت تفسد في الأرض.

وكان من الممكن أن يقبل الله سبحانه منه إيمانه وهو في نجوة بعيدة عن الشر الذي حاق به.

ص: 6182

فالحق سبحانه لا يقبل إيمان أحد بلغت روحه الحلقوم، فهذا إيمان إجبار، لا إيمان اختيار.

ولو كان المطلوب إيمان الإجبار لأجبر الحق سبحانه الخلق كلهم على أن يؤمنوا، ولما استطاع أحد أن يكفر بالله تعالى، وأمامنا الكون كله خاضع لإمره الله سبحانه وتعالى ولا يتأبى فيه أحد على الله تعالى.

وقدرة الحق عز وجل المطلقة قادرة على إجبار البشر على الإيمان، لكنها تثبت طلاقة القدرة، ولا تثبت المحبوبية للمعبود.

وهذه المحبوبية للمعبود لا تثبت إلا إذا كان لك خيار في أن تؤمن أو لا تؤمن. والله سبحانه يريد إيمان الاختيار.

إذن: فالمردود من فرعون ليس القول، ولكن زمن القول.

ويقال: إنها رُدَّتْ ولم تُقبل رغم أنه قالها ثلاث مرات لأن قوم موسى في ذلك الوقت كانوا قد دخلوا في مرحلة التجسيم لذات الله وادعوا معاذ الله أن الله تعالى عما يقولون جلس على صخرة وأنزل رِجْليه في حوض ماء، وكان يلعب مع الحوت. . إلى آخر الخرافات التي ابتدعها بنو إسرائيل.

وحين أعلن فرعون أنه آمن بالإله الذي آمنت به بنو إسرائيل، فهذا يعني أنه لم يؤمن بالإله الحق سبحانه.

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك. {فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ}

ص: 6183