المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أهل ريادة في الفصاحة فَلْتفتروا عَشْر سُوَرٍ من مثل القرآن، - تفسير الشعراوي - جـ ١٠

[الشعراوي]

الفصل: أهل ريادة في الفصاحة فَلْتفتروا عَشْر سُوَرٍ من مثل القرآن،

أهل ريادة في الفصاحة فَلْتفتروا عَشْر سُوَرٍ من مثل القرآن، أنتم ومَنْ تستطيعون دعوتهم من الشركاء.

لذلك كان الرد الحكيم من الله في قول الحق سبحانه بعد ذلك: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فاعلموا}

ص: 6376

والخطاب هنا موجَّه إلى الذين ادَّعوا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قد افترى القرآن، أو أن الخطاب مُوجَّه لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قال في الآية السابقة:

{قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} [هود: 13‌

‌14]

.

أي: إن لم يردُّوا على التحدي، فليعلموا وليتيقَّنوا أن هذا القرآن هو من عند الله تعالى، بشهادة الخصوم منهم.

ولماذا عدَّل الحق سبحانه هنا الخطاب، وقال:

{فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} [هود: 14] .

ص: 6376

أي: من تدعونهم، ثم قال سبحانه:

{فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ الله} [هود: 14] .

وقد قال الحق سبحانه ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم َ مُطالَبٌ بالبلاغ وما بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم َ للمؤمنين مطلوب منه أن يُبلغوه، وإنْ لم يستجيبوا للرسول صلى الله عليه وسلم َ أو للمؤمنين، ولم يأتِ أحد مع مَنْ يتهم القرآن بأنه مُفترًى مِن محمدٍ.

وقد يكون هؤلاء الموهوبون خائفين من التحدي؛ لأنهم عرفوا أن القرآن حق، وإن جاءوا ليفتروا مثله فلن يستطيعوا، ولذلك فاعلموا يا مَنْ لا تؤمنون بالقرآن أن القرآن:{أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ الله} [هود: 14] .

إذن: فالخطاب يكون مرَّة موجَّهاً للنبي صلى الله عليه وسلم َ ولأمته.

ولذلك عَدَلَ الحق سبحانه عن ضمير الإفراد إلى ضمير الجمع في قوله تعالى:

{فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ الله} [هود: 14] .

أي: ازدادوا علماً أيها المؤمنون بأن القرآن إنما نزل من عند الله.

والعِلْم كما نعلم مراحل ثلاث: علم يقين، وعين يقين، وحق يقين.

أو أن الخطاب مُوجَّه للكافرين الذين طلب القرآن منهم أن يَدْعُوا من يستطيعون دعاءه ليعاونهم في معارضة القرآن: {فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ الله} [هود: 14] .

وأعلى مراتب العِلْم عند الحق سبحانه الذي يعلم كل العلم أزلاً، وهو غير علمنا نحن، الذَي يتغير حسب ما يتيح لنا الله سبحانه أن نعلم، فأنت قد تكون عالماً بشيءٍ وتجهل أشياء، أوعلمتَ شيئاً وغابتْ عنك أشياء.

ص: 6377

ولذلك تجد الأطباء، وأصحاب الصناعات الدقيقة وغيرهم من الباحثين والعلماء يستدرك بعضهم البعض، فحين يذهب مريض لطبيب مثلاً ويصف له دواءً لا يستجيب له، فيذهب المريض إلى طبيب آخر، فيستدرك على الطبيب الأول، فيصف دواء، وقد لا يستجيب له المريض مرة ثانية، وهنا يجتمع الأطباء على هيئة «مجمع طبي» يُقرّر ما يصلح أو لا يصلح للمريض.

ويستدرك كلٌّ منهم على الآخر إلى أن يصلوا إلى قرار، والذي يستدرك هو الأعلم؛ لأن الطبيب الأول كتب الدواء الذي أرهق المريض أو لم يَستجبْ له، وهو قد حكم بما عنده من عِلْم، كذلك بقية الباحثين والعلماء.

وما دام فوق كل ذي علمٍ عليمٌ؛ فالطبيب الثاني يستدرك على الطبيب الأول. . وهكذا.

ولكن أيوجد أحدٌ يستدرك على الله سبحانه وتعالى؟ لا يوجد.

وما دام القرآن الكريم قد جاء بعلم الله تعالى، فلا علم لبشر يمكن أن يأتي بمثل هذا القرآن.

{فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ الله وَأَن لَاّ إله إِلَاّ هُوَ} [هود: 14] .

وجاء الحق سبحانه هنا بأنه لا إله إلا هو؛ حتى لا يدَّعي أحدٌ أن هناك إلهاً آخر غير الله.

وذكر الله سبحانه هنا أن هذا القرآن قد نزل في دائرة:

{لَاّ إله إِلَاّ هُوَ} [هود: 14] .

وما دام الحق سبحانه قد حكم بذلك فلنثق بهذا الحكم.

ص: 6378

مثال ذلك: هو حكم الحق سبحانه على أبي لهب وعلى امرأته بأنهما سيدخلان النار فهل كان من الممكن أن يعلن أبو لهب إسلامه، ولو نفاقاً؟ طبعاً لا؛ لأن الذي خلقَه علم كيف يتصرف أبو لهب.

لذلك نجد بعد سورة المسد التي قررت دخول أبي لهب النار، قول الحق سبحانه:

{قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] .

أي: أن الحق سبحانه ما دام قد أصدر حكمه بأن أبا لهب سيدخل وزوجه النار، فلن يقدر أحد على أن يُغيِّر من حكمه سبحانه، فلا إله إلا هو.

ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله تعالى:

{فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} [هود: 14] .

وهذا استفهام، أي: طلب للفهم، ولكن ليس كل استفهام طلباً للفهم، فهذا الاستفهام هنا صادر عن إرادة حقيقية قادرة على فرض الإسلام على من يستفهم منهم.

ص: 6379

ولكنه سبحانه شاء أن يأتي هذا الاستفهام على لسان رسوله ليقابله جواب، ولو لم يكن السائل واثقاً أنه لا يوجد إلا الإسلام لما قالها، ولو لم يكن السائل واثقاً أنه لا جواب إلا أن يُسْلِم السامع، ما جعل جواب السامع حجة على السامع.

وقائل هذا الكلام هو الخالق سبحانه، ولله المثل الأعلى، وهو سبحانه مُنزَّه عن كل مثل، تجد إنساناً يحكي لك أمراً بتفاصيله، ثم يسألك: هل أنا صادق فيما قلت لك؟ . . وهو يأتي بهذا الاستفهام؛ لأنه واثق من أنك ستقول له: نعم، أنت صادق.

وإذا نظرنا في آية تحريم الخمر والميسر على سبيل المثال نجد الحق سبحانه وتعالى يقول:

{إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] .

ص: 6380

وكأن هذا الاستفهام يحمل صيغة الأمر بأن: انتهوا من الخمر والميسر، واخجلوا مما تفعلون.

إذن: فقول الحق سبحانه في آخر الآية الكريمة:

{فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} [هود: 14] يعني: أسلموا، واتركوا اللجاجة بأن القرآن قد جاء من عند محمد، أو أنه افتراه، بل هو من عند الله سبحانه الذي لا إله إلا هو.

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا}

ص: 6381

وكان الكافرون قد تكلموا بما أورده الحق سبحانه على ألسنتهم وقالوا:

{لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ} [هود: 12] .

ص: 6381

فهم إذن مشغولون بنعيم الدنيا وزينتها.

والحياة تتطلب المقومات الطبيعية للوجود، من ستر عورة، وأكل لقمة وبيت يقي الإنسان ويؤويه. أما الزينة فأمرها مختلف، فبدلاً من أن يرتدي الإنسان ما يستر العورة، يطلب لنفسه الصوف الناعم شتاء، والحرير الأملس صيفاً، وبدلاً من أن يطلب حجرة متواضعة تقيه من البرد أو الحر، يطلب لنفسه قصراً.

وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:

{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث} [آل عمران: 14] .

وكل هذه أشياء تدخل في متاع الحياة الدنيا، ويقول الحق سبحانه:

{ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب} [آل عمران: 14] .

إذن: ما معنى كلمة «زينة» ؟

معنى كلمة «زينة» أنها حُسْنٌ أو تحسين طارىء على الذات، وهناك فرق بين الحسن الذاتي والحسن الطارىء من الغير.

ص: 6382

والمرأة على سبيل المثال حين تتزين فهي تلبس الثياب الجميلة الملفتة، وتتحلّى بالذهب البرَّاق، فهو المعدن الذي يأخذ نفاسته من كثرة تلألئه الذي يخطف الأبصار، ولا تفعل ذلك بمغالاة إلا التي تشك في جمالها.

أما المرأة الجميلة بطبيعتها، فهي ترفض أن تتزين؛ ولذلك يسمونها في اللغة:«الغانية» ، أي: التي استغنت بجمالها الطبيعي عن الزينة، ولا تحتاج إلى مداراة كِبرَ أذنيها بقُرْط ضخم، ولا تحتاج إلى مداراة رقبتها بعقد ضخم، ولا تحاول أن تداري معصمها الريان بسوار، وترفض أن تُخفِي جمال أصابعها بالخواتم.

وحين تُبالغ المرأة في ذلك التزيُّن فهي تعطي الانطباع المقابل.

وقد يكون المثل الذي أضربه الآن بعيداً عن هذا المجال، لكنه يوضح كيف يعطي الشيء المبالَغ فيه المقابل له.

وفي ذلك يقول المتنبي:

الطِّيبُ أنت إذَا أصَابكَ طِيبهُ

والماءُ أنتَ إذا اغتسلتَ الغاسلُ

ص: 6383

وهو هنا يقول: إن الطيب إذا ما أصاب ذلك الإنسان الموصوف، فالطيب هو الذي يتطيَّب، كما أن الماء هو الذي يُغْسَل إذا ما لمس هذا الإنسان، وكذلك تأبى المرأة الجميلة أن تُزيِّن نَحْرَها بقلادة؛ لأن نحرها بدون قلادة يكون أكثر جمالاً.

ويقال عن مثل هذه المرأة «غانية» ؛ لأنها استغنتْ بجمالها.

ويقال عن جمال نساء الحضر: إنه جمال مصنوع بمساحيق، وكأن تلك المساحيق مثبتة على الوجه بمعجون كمعجون دهانات الحوائط، وكأن كل واحدة تفعل ذلك قد جاءت بسكين من سكاكين المعجون لتملأ الشقوق المجعدة في وجهها.

ولحظة أن يسيح هذا المعجون ترتبك، ويختل مشهد وجهها بخليط الألوان؛ ولذلك يقال:

حُسْنُ الحضَارةِ مُجْلُوبٌ بِتَطْريةٍ

وفي البدَاوةِ حُسْنٌ غيرُ مَجْلوبِ

إذن: فالزينة هي تحسين الشيء بغيره، والشيء الحسن يستعني عن الزينة.

وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى:

{مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} [هود: 15] .

أي: إن كفرتم بالله فهو سبحانه لا يضن عليكم في أن يعطيكم مقومات

ص: 6384

الحياة وزينتها؛ لأنه رب، وهو الذي خلقكم واستدعاكم إلى الوجود، وقد ألزم الحق سبحانه نفسه أن يعطيكم ما تريدون من مقومات الحياة وزينتها؛ لأنه سبحانه هو القادر على أن يوفِّي بما وعد.

وهو سبحانه يقول هنا:

{نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ} [هود: 15] .

أي: أنهم إن أخذوا بالأسباب فالحق سبحانه يُلزم نفسه بإعطاء الشيء كاملاً غير منقوص.

وهم في هذه الدار الدنيا لا يُبْخَسون في حقوقهم، فمن يتقن عمله يأخذ ثمرة عمله.

وهذا القول الكريم يحُلُّ لنا إشكالاً كبيراً نعاني منه، فهناك مَنْ يقول: إن هؤلاء المسلمين الذين يقولون: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ويقيمون الصلاة، ويبنون المساجد، بينما هُمْ قومٌ متخلّفون ومتأخّرون عن رَكْب الحضارة، بينما نجد الكافرين وهم يَرْفُلُون في نعيم الحَضَارة.

ونقول: إن لله تعالى عطاءَ ربوبية للأسباب، فمن أحسنَ الأسباب حتى لو كان كافراً، فالأسباب تعطيه، ولكن ليس له في الآخرة من نصيب؛ لأن الحق سبحانه يقول:

{وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] .

والحق سبحانه يجزي الكافر الذي يعطي خيراً للناس بخيرٍ في الدنيا، ويجزي الصادق الذي لا يكذب من الكفار بصدق الآخرين معه في الدنيا، ويجزي من يمدُّ يده بالمساعدة من الكفار بمساعدة له في الدنيا.

ص: 6385

وكلها أعمال مطلوبة في الدِّين، ولكنَّ الكافر قد يفعلها، فيردُّ الله سبحانه وتعالى له ما فعل في الدنيا، وإنْ كان قد فعل ذلك ليُقَال: إن فلاناً عَمِلَ كذا، أو فلاناً كان شَهْماً في كذا، فيُقال له:«علْمتَ لِيُقال وقد قِيل» .

وإذا كان الكافرون يأخذون بالأسباب؛ فالحق سبحانه يعطيهم ثمرة ما أخذوا من الأسباب.

ويجب أن نقول لمن يتهم المسلمين بالتخلُّف:

لقد كان المسلمون في أوائل عهدهم متقدمين، وكانوا سادة حين طبَّقوا دينهم، ظاهراً وباطناً، شكلاً ومضموناً.

وعلى ذلك فالتخلُّف ليس لازماً ولا ملازماً للإسلام، وإنما جاء التخلُّف لأننا تركنا روح الإسلام وتطبيقه.

وإنْ عقدنا مقارنة بين حال أوربا حينما كانت الكنيسة هي المسيطرة، كنا نجد طل صاحب نشاط عقلي مُبْدِعٍ ينال القتل عقوبة على الإبداع، وكانت تسمى تلك الأيام في أوربا «العصور المظلمة» .

وحينما جاءت الحروب الصليبية وعرفت أوربا قوة الإسلام

ص: 6386

والمسلمين، ودحرهم المسلمون، بدأوا في محاولة الخروج على سلطان البابا والكنيسة، وعندما فعلوا ذلك تَقَدَّموا.

هم إذن عندما تركوا سلطان البابا تقدموا، ونحن حين تركنا العمل بتعاليم الإسلام تخلَّفنا.

إذن: فأيُّ الجَرْعَتيْن خير؟

إن واقع الحياة قد أثبت تقدُّم المسلمين حين أخذوا بتعاليم الإسلام، وتخلفوا حين تركوها.

وهكذا. . فمعيار التقدُّم هو الأخذْ بالأسباب، فمن أخذ بالأسباب وهو مؤمن نال حُسْن خير الدنيا وحُسْن ثواب الآخرة، ومَنْ لم يؤمن وأخذ بالأسباب نال خير الدنيا ولم يَنَلْ ثواب الآخرة.

والحق سبحانه وتعالى هو القائل:

{والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ} [النور: 39] .

ص: 6387

وهكذا يُفاجأ بالإله الذي كذَّب به.

والحق سبحانه يقول:

{مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَاّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ} [إبراهيم: 18] .

إذنْ: فمن أراد الدنيا وزينتها، فالحق الأعلى سبحانه يوفِّيه حسابه ولا يبخسه من حقه شيئاً، فحاتم الطائي على سبيل المثال أخذ صفة الكرم، وعنترة أخذ صفة الشجاعة، وكل إنسان أحسن عملاً أخذ أجره، ولكن عطاء الآخرة هو لمن عمل عمله لوجه الله تعالى، وآمن به.

وحتى الذين دخلوا الإسلام نفاقاً وحاربوا مع المسلمين، أخذوا نصيبهم من الغنائم، ولكن ليس لهم في الآخرة من نصيب.

إذن: فالوفاء يعني وجود عَقْد، وما دام هناك عقد بين العامل والعمل، وأتقن العاملُ العملَ فلا بد أن يأخذ أجره دون بَخْس؛ لأن البَخْسَ هو إنقاص الحق.

ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة}

ص: 6388

إذن: فالنار مثوى هؤلاء الذين عملوا من أجل الدنيا دون إيمان بالله، فقد أخذوا حسابهم في الدنيا، أما عملهم فقد حبط في الآخرة، والحَبَط هو انتفاخ الماشية حين تأكل شيئاً أخضر لم ينضح بعد، ويقال في الريف عن ذلك:«انتفخت البهيمة» أي: أن هناك غازات في بطنها، وقد يظنها الجاهل سِمْنةً، لكن هذا الانتفاخ يزول بزوال سببه.

وعمل الكافرين إنما يحبط في الآخرة؛ لأنه باطل.

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ}

ص: 6389

والبيِّنة هي بصيرة الفطرة السليمة التي تُلْفِت الإنسان إلى وجود وجب الوجود، وتوضِّح للإنسان أن هذا الكون الجميل البديع لا بُدَّ له من واجد.

وهكذا تكون الهداية بالبصيرة والفطرة.

ص: 6389

والعربي القديم حين سار في الصحراء ووجود بَعْراً مُلْقَى في الصحراء، ورأى أثر قدم، فقال:«البَعْرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، وسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات امواج، أفلا يدل كُلُّ ذلك على اللطيف الخبير؟» .

وهكذا اهتدى الرجل بالفطرة، وهي بيِّنة من الله.

وقد أودع الله سبحانه في كل إنسان فطرة، وبهذه الفطرة شهدنا في عالم الذَّرِّ.

وفي ذلك يقول الحق سبحانه:

{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ} [الأعراف: 172] .

إذن: فالبيِّنة هي: إيمان الفطرة المركوز في ذرات الأشياء.

وقد تُضبِّب الشهوات هذا الإيمان، فلا يحمل نفسه على المنهج فيرسل الحق سبحانه رحمة منه رسلاً تذكِّرنا بالبينات الأولى، وتدلنا على العلل

ص: 6390

والأحكام حتى تنضمَّ البينة من الرسل على البينة من الفطرية في الكائن.

وهكذا يبيِّن الحق سبحانه وتعالى مناط الاقتناع بدين الله، فقد يكون هذا الأمر مجهولاً للخلق، فيريد سبحانه أن يبيِّن لنا أن هذا الجهل هو جهل غير طبيعي؛ لأن الفطرة السليمة تهتدي قبل أن يجيء رسولٌ يُلْفِتنا إلى القوة العليا التي تدبِّر حركة هذا الكون.

وقد ضربت من قبل مثلاً لذلك بمن سقطتْ به طائرة في الصحراء، لا ماء فيها ولا طعام ولا أنيس ولا مأوى، ثم غلبه النوم فنام، وحين استيقظ وجد مائدة منصوبة عليها أطايب الطعام وأطيب الشراب، ووجد صواناً منصوباً ليأوي إليه؛ فلا بد لهذا الإنسان أن يدور بفكره سؤالٌ: من صنع هذا؟

وهو سيسأل نفسه هذا السؤال قبل أن يستمتع بشيء من هذا، خصوصاً وأنه لم يجد أحداً يقول له: أنت في ضيافتي.

إذنْ: فلا بد أن يفكر بعقله.

وكذلك الإنسان الذي طرأ على الوجود، وما ادَّعى واحدٌ من خَلْق الله تعالى أنه خلق هذا الوجود، وما ادَّعى أحدٌ أنه خلق السموات والأرض، وما ادَّعى أحدٌ أنه سخَّر كلَّ ما في الكون لخدمة الإنسان.

وكان من الواجب على الإنسان قبل أن ينعم بهذا، أن يفكر: من الذي صنع له كل ذلك؟ فإذا جاء رسول من جنس الإنسان ليقول له: أنا جئت لأحل لك اللغز المطلوب لك.

ص: 6391

هنا كان على الإنسان أن يرهف سمعه لذلك الرسول؛ لأنه قد جاء ليحلَّ للإنسان أمراً يشغل باله.

ومن لطف الله سبحانه بنا أنه يطلب منا مقدَّماً أن نفكر في ذلك، بل تركنا فترة طويلة بلا تكليف في هذه الدنيا، لينعم الإنسان بخير ربه، وبعد ذلك إذا ما جاء اكتمال الرشد ونضج، ولم يكن مكرهاً؛ فالحق سبحانه وتعالى يكلفه بتكاليف الإيمان.

ولا بد للإنسان أن يتساءل: فكل شيء مهما كان تافهاً لا بد له من صانع، والمصباح الذي يضيء دائرة قطرها 20 متراً، عرفنا صانعه، ودرسنا المعامل التي أنجزته، والإمكانات التي تم استخدامها، والمواد التي صنع منها، أفلا نعرف تاريخ هذه الشمس، ومن جعلها لا تحتاج إلى صيانة ولا إلى وقود ولا إلى قطع غيار، وتنير نصف الكرة الأرضية؟

هذه مسألة كان يجب أن نبحثها؛ لنرى آفاق تلك البينة، بينة نور وقوة وفطرة، يهبها الله للإنسان المفكر؛ ليهتدي إلى أن وراء هذه الكون خالقاً مدبراً.

فإذا ما جاء إنسان مثله ليقول له: إن خالق الدنيا هو الله تعالى، وهو سبحانه يطلب منك كذا وكذا، كان أمراً منطقياً وطبيعياً أن نسمع لهذا الإنسان ونطابق ما يقول على إحساس الفطرة ورؤية البينات.

إذن: فنحن نصل إلى المجهول أولاً بالفطرة، وقد نصل بالبديهة التي لا تشوبها أدنى شبهة، فأنت حين ترى دخاناً تعتقد بالبديهة أن هناك ناراً، وحين تسير في الصحراء وترى خضرة؛ ألا تعتقد أن هناك مياهاً ترويها؟

ص: 6392

هذه إذن أمور تعرفها بالبديهة، ولا تحتاج إلى بحث أو جهد.

وهناك أمور قد تتطلب منك جهداً عقلياً تبحث به عما بعد المقدمات، مثل الجهد العقلي الذي استدل به العربي على أن هناك إلهاً خالقاً يُدير هذا الكون، فاستدل من البعرة على وجود البعير، وأن أثر القدم يدل على المسير، واستنتج من ذلك أن الكواكب ذات الأبراج، والأرض ذات الفجاج، والبحار ذات الأمواج، كلها أمور تدل على وجود اللطيف الخبير.

كل هذه الأمور لم يقدر العقل إلا على الحكم عليها جملة، وإن لم يعرف التفصيل.

لقد عرف العقل أن وراء هذا الكون خالقاً، صانعاً، حكيماً، لكنه لم يعرف اسماً له، وهذا أمر لا يعرفه الإنسان بالعقل، ولا يعرف أيضاً ما هو المنهج المطلوب لهذا الخالق، وبماذا يجزي المطيع له، ولا بماذا يعاقب العاصي له.

إذن: لا بد من بلاغ عن الله تعالى يدل على القوة التي اقتنعت بها جملة.

والمفكرون بالعقل في الكون يعلمون أن وراء هذا الكون خالقاً، لكن لا يعرفون اسمه، ولا مطلوبه.

إذن: فأنت لا تعرف اسم الله إلا منه، عن طريق الوحي إلى رسوله، ولا تعرف مطلوب الله إلا من الرسول الذي أنزل عليه البلاغ.

ومن رحمة الله بالإنسان أنه سبحانه قد أرسل رسولاً، ومع هذا الرسول معجزة هي القرآن؛ لأن العقل حتى حين يهتدي إلى قوة القادر الأعلى سبحانه، فإنها ستظل بالنسبة له مبهمة، وحين أنزل الحق سبحانه القرآن الكريم فقد أنزله رحمة بعباده وبينة لهم.

ص: 6393

{أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} [هود: 17] .

فالقرآن حجة ونور، وهو يهدي البصيرة الفطرية والموجودة في الإنسان {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} [هود: 17] هو من أنزل عليه الوحي، ويخبرنا عن الحق سبحانه وتعالى ما يوضح لنا أن الخالق الأعلى والقوة المطلقة هو الله سبحانه ويوضح لنا الشاهد مطلوب الله تعالى.

ونحن هنا أمام ثلاثة شهود:

الشاهد الأول: هو الحجة والبينة.

والشاهد الثاني: هو البرهان والبصيرة التي يهتدي إليها العقل، والرسول هو من يبين لنا المنهج بعد الإجمال.

وهذا الرسول جاء من قبله كتاب موسى:

{وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً} [هود: 17] .

وهذا هو الشاهد الثالث.

ومن لا يلتفت إلى المدلول بالأدلة الثلاثة مقصِّر؛ فمن عنده تلك البينة، ومن سمع الشاهد من الرسول، والشاهد الذي قبله، وهو كتاب موسى

ص: 6394

عليه السلام وشاهد بعده إلى نفس قوم موسى لا بد أن يقوده ذلك إلى الإيمان.

وقول الحق سبحانه:

{أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ} [هود: 17] .

إشارة إلى من التفتوا إلى الأدلة: بينة، وشاهداً، وشاهداً من قبله.

ثم يقول الحق سبحانه:

{وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ} [هود: 17] .

والكفر كما علمنا هو الستر، والكفر في ذاته دليل على الإيمان، فلا يفكر أحد بغير موجود.

فوجود المكفور به سابق على الكفر، والكفر طارىء عليه.

إذن: فالكفر طارىء على الإيمان؛ لأن الإيمان هو أصل الفطرة.

{وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ} [هود: 17] .

وكلمة «أحزاب» جمع حزب. والحزب هو الجماعة الملتقية على مبدأ تتحمس لتنفيذه، مثل الأحزاب التي نراها في الحياة السياسية، وهي

ص: 6395

أحزاب بشرية تتصارع في المناهج والغايات، وهم أحرار في ذلك؛ لأنهم يتصارعون بفكر البشر.

أما في العقيدة الأولى، فَمنَ المُخطِّط الأعلى، وهو الحق سبحانه وتعالى، فالمنهج يأتي منه؛ لأن هذا المنهج يوصل إليه؛ لذلك قال الله سبحانه عمَّن يتبعون منهجه:

{أولئك حِزْبُ الله} [المجادلة: 22] .

أي: أنهم يدخلون في حزب يختلف عن أحزاب البشر التي تختلف أو تتفق في فكر البشر.

وهنا يقول الحق سبحانه:

{وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ} [هود: 17] .

والمقصود بهم كفار قريش عبدة الأوثان، والصابئة واليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، وكل منهم جماعة تمثل حزباً، ويقول عنهم الحق سبحانه:

{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] .

ومن يكفر من هؤلاء برسالة رسول الله وبرسول الله فالجزاء هو النار، وبذلك بيَّن لنا الحق سبحانه أن هنالك حزبين: حزب الله، والأحزاب الأخرى، وهما فريقان كلّ منهما مواجه للآخر.

ويقول الحق سبحانه لرسوله، والمراد أيضاً أمة محمد صلى الله عليه وسلم َ:

ص: 6396

{فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} [هود: 17] .

أي: لا تكن يا رسول الله في شك من ذلك؛ لأن رسالتك وبعثتك تقوم على أدلة البينة والفطرة والهدى والنور المطلوب من الله تعالى، والشاهد معك، كما شهد لك من جاء من قبلك أنك جئت بالمنهج الحق:

{إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ} [هود: 17] .

والحق كما علمنا من قبل هو الشيء الثابت الذي لا يعتريه تغيير، وهذا الحق لا يمكن أن يأتي إلا من إله لا تتغير أفعاله.

ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله:

{ولكن أَكْثَرَ الناس لَا يُؤْمِنُونَ} [هود: 17] .

وهؤلاء لا يؤمنون عناداً؛ لأن الأدلة منصوبة بأقوى الحجج، ومَنْ يمتنع عليها هو مجرد معاند.

والحق سبحانه يقول في مثل هؤلاء المعاندين:

{وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] .

أي: أنهم مع كفرهم يعلمون صدق الأدلة على رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، وعلى صدق بعثته، فيكون كفرهم حنيئذ كفر عناد؛ لأن الأدلة منصوبة بأقوى الحجج، فيكون من يمتنع على الإيمان بهذه الأدلة إنساناً معانداً.

ص: 6397