المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة ابراهيم على نبينا وعليه، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ألف صلاة - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٥

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة ابراهيم على نبينا وعليه، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ألف صلاة

‌سورة ابراهيم

على نبينا وعليه، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ألف صلاة وأزكى سلام

وهي مكية سوى آيتين، وهما قوله سبحانه وتعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً..} .

إلخ وهي اثنتان وخمسون آية، وثمانمائة، وإحدى وستون كلمة، وثلاثة آلاف، وأربعمائة، وأربعة وثلاثون حرفا.

تنبيه: انظر شرح الاستعاذة والبسملة، وإعرابهما في أول سورة (يوسف) على نبينا وعليه ألف صلاة، وأزكى سلام، وانظر شرح:{الر} وإعرابها في أول سورة (يونس) عليه السلام.

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم

{الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)}

الشرح: {كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ} أي: هذا الكتاب أنزلناه إليك يا محمد، والمراد به: القرآن الكريم، وانظر شرح:{كِتابٌ} في الآية رقم [1] من سورة (الحجر). {لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ} أي: لتنقذ الناس بهذا القرآن من ظلمات الكفر والضلالة والجهل إلى نور الهدى والحق، وانظر الآية رقم [17] من سورة (الرعد). {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ:} بتوفيقه، وتسهيله، فهو مستعار من الإذن الذي هو تسهيل الحجاب، وأضيف الفعل إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الداعي، والمنذر الهادي. {إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أي: إلى دين الإسلام. هذا والصراط في الأصل: الطريق، استعير لدين الإسلام في كثير من الآيات، وهو يذكر، ويؤنث، والأول أكثر، و {الْعَزِيزِ:} القوي الغالب الذي لا يغلب، و {الْحَمِيدِ} المحمود بكل لسان، الممجد في كل مكان على كل حال.

الإعراب: {كِتابٌ:} خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هو، أو هذا كتاب، أو هذا القرآن كتاب، وهناك وجه آخر: وهو اعتبار {الر} مبتدأ وكتاب خبره، ونظيره الآية رقم [1] من سورة (الأعراف). {أَنْزَلْناهُ:} فعل ماض وفاعله ومفعوله، والجملة الفعلية في محل رفع صفة كتاب.

{إِلَيْكَ:} متعلقان بما قبلهما. {لِتُخْرِجَ:} مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام

ص: 5

التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل (أنزلنا). {مِنَ الظُّلُماتِ:} متعلقان بالفعل: (تخرج).

{إِلَى النُّورِ:} متعلقان به أيضا، {بِإِذْنِ:} متعلقان به أيضا، أو هما متعلقان بمحذوف حال من فاعله، أو من مفعوله وتقدير الأول: مأذونا لك، وتقدير الثاني: مأذونا لهم، و (إذن): مضاف، و {رَبِّهِمْ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {إِلى صِراطِ:} الجار والمجرور بدل من {إِلَى النُّورِ} وأجاز الزمخشري الاستئناف، كأنه قيل: إلى أي نور، فقيل:{إِلى صِراطِ..} . إلخ، و {صِراطِ:} مضاف، و {الْعَزِيزِ:} مضاف إليه. {الْحَمِيدِ:} بدل من {الْعَزِيزِ} أو عطف بيان عليه، وقيل: نعت له، ولا أسلمه؛ لأنهما اسمان من أسماء الله الحسنى، والاسم لا يوصف بالاسم.

{اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2)}

الشرح: {اللهِ:} انظر الآية رقم [40] من سورة (الرعد). {الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} أي: ملكا، وخلقا، وعبيدا، واختراعا. هذا؛ وإطلاق {ما} على ما ذكر فيه تغليب، لأن فيه كثيرا من العقلاء. هذا؛ وفي الكلام تهديد، ووعيد لمن ترك عبادة من يستحق العبادة، وعبدوا من لا يملك شيئا في السموات والأرض، بل هو مملوك لله؛ لأنه من جملة ما خلق في هذا الكون.

هذا {(وَيْلٌ):} كلمة تقولها العرب لكل من وقع في هلكة، وأصلها في اللغة العذاب والهلاك.

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-الويل: شدة العذاب، وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الويل واد في جهنّم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا، قبل أن يبلغ قعره» . أخرجه الترمذي. هذا؛ والويل: مصدر لم يستعمل منه فعل؛ لأن فاءه وعينه معتلتان، ومثله ويح، وويس، وويب، وهو لا يثنى، ولا يجمع، وقيل: يجمع على ويلات بدليل قول امرئ القيس: [الطويل]

ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة

فقالت: لك الويلات إنّك مرجلي

وإذا أضيفت هذه الأسماء؛ فالأحسن النصب على المفعولية المطلقة، وإذا لم تضف؛ فالأحسن فيها الرفع على الابتداء، وهي نكرات، وساغ ذلك لتضمنها معنى خاصا. هذا؛ و {(وَيْلٌ):} نقيض الوأل، وهو النجاة.

أقول: وقد ينادى الويل إذا أضيف لياء المتكلم، أو نا، وسبقته أداة النداء، وانظر:

{يا وَيْلَتى} في الآية رقم [72] من سورة (هود) عليه السلام، وانظر:{يا وَيْلَتَنا} في الآية رقم [50] من سورة (الكهف)، ولا تنس: أنه قد أنث الويل في الآيتين المذكورتين.

ص: 6

الإعراب: {اللهِ:} يقرأ بالجر على أنه بدل من العزيز الحميد، أو عطف بيان، ويقرأ بالرفع على أنه مبتدأ، خبره ما بعده، وأجاز أبو البقاء اعتباره خبرا لمبتدإ محذوف، التقدير: هو الله، واعتباره مبتدأ، وخبره محذوف دل عليه ما قبله. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة لفظ الجلالة على قراءة الجر، وفي محل رفع خبره على قراءة الرفع. {اللهِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر، {فِي السَّماواتِ:} متعلقان بمحذوف صلة {ما،} أو بمحذوف صفتها. {(ما)} في الأرض، عطف على ما قبلهما، والإعراب والاعتبار مثل ذلك، والجملة الاسمية:{لَهُ ما فِي..} . إلخ: صلة الموصول لا محل لها، والجملة الاسمية:{اللهِ..} . إلخ على قراءة الرفع مستأنفة، لا محل لها. {وَوَيْلٌ:}

الواو: حرف استئناف. {(وَيْلٌ):} مبتدأ، سوغ الابتداء به، وهو نكرة الدعاء؛ لأنه من المسوغات سواء أكان دعاء له، أو عليه

إلخ. {لِلْكافِرِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {مِنْ عَذابٍ:}

متعلقان بمحذوف صفة ويل بعد الخبر، وهو جائز، ولا يجوز أن يتعلقا ب:{(وَيْلٌ)} لأجل الفصل. انتهى. عكبري، وقال أبو السعود: متعلقان به على معنى يولون، ويضجون منه، والأول أولى. {شَدِيدٍ:} صفة عذاب، والجملة الاسمية: {(وَيْلٌ

)} إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3)}

الشرح: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ:} يختارون الفانية على الباقية، ويفضلون العاجلة على الآجلة. {وَيَصُدُّونَ:} يمنعون، ويصرفون، وهو بضم الصاد. هذا؛ ويأتي بمعنى: يعرضون، ويميلون، كما في قوله تعالى:{رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} ويأتي بضم الصاد وكسرها، كما يأتي بمعنى: يضجون فرحا، وهو بكسر الصاد، كما في قوله تعالى:{وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} ومصدر الأولين: صد، وصدود، ومصدر الأخير: صديد، والصدد: القرب، يقال: داري صدد داره، أي قبالتها وقربها، والصدد: القصد، تقول: رجعنا إلى ما نحن بصدده، أي بقصده، وهو أيضا الميل بفتح الياء والناحية، قال البيضاوي: وقرئ بضم الياء من أصده، وهو منقول من صد صدودا: إذا تنكب، وليس فصيحا؛ لأن في صده مندوحة عن تكلف التعدية بالهمزة. {سَبِيلِ اللهِ:} دينه وشريعته، وانظر شرح:{سَبِيلِي} في الآية رقم [108] من سورة (يوسف) عليه السلام.

{وَيَبْغُونَها عِوَجاً:} يطلبون لها اعوجاجا، وميلا عن القصد والاستقامة، وذلك بمنعهم الناس عن الدخول في الإسلام، وأنث الضمير على اعتبار السبيل مؤنثة. هذا والعوج بكسر العين وفتحها، وقد فرق العرب بينهما، فخصوا المكسور بالمعاني، والمفتوح بالأعيان، تقول:

ص: 7

في دينه عوج بالكسر، وفي الجدار عوج بالفتح. {أُولئِكَ} أي: الموصوفون بما ذكر. {فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} أي: ضلوا عن سبيل الله الحق، وحادوا عنه بمراحل عديدة. هذا؛ وفي إسناد البعد إلى الضلال مجاز عقلي؛ لأن البعيد في الحقيقة إنما هو الضال؛ لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق، فوصف به فعله، كما تقول: جد جده.

الإعراب: {الَّذِينَ:} بدل من الكافرين، أو هو صفة لهم، أو هو منصوب على الذم بفعل محذوف، أو هو مبتدأ، خبره ما بعده، فهو مبني على الفتح في محل جر، أو في محل نصب، أو في محل رفع، وجملة:{يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا} صلة الموصول لا محل لها. {عَلَى الْآخِرَةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {الْحَياةَ الدُّنْيا} أي:

حالة كونها مفضلة على الآخرة، وجملة:{وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها. {(يَبْغُونَها):} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، وها: مفعول به، وقد كان هذا الضمير مجرورا بحرف الجر، فلما حذف الجار اتصل بالفعل، وانتصب به على حد قوله تعالى:{وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} .

{عِوَجاً:} مفعول به ثان على التوسع. هذا؛ وقد قيل: إن الضمير مفعول به صراحة، و {عِوَجاً} حال من الضمير بمعنى: معوجة، ولا بأس به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، لا محل لها مثلها. {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {فِي ضَلالٍ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {بَعِيدٍ:} صفة {ضَلالٍ،} والجملة الاسمية مستأنفة على الوجهين الأولين في الموصول، وفي محل رفع خبره على اعتباره مبتدأ. تأمل، وتدبر.

{وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)}

الشرح: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ:} إلا بلغة قومه الذين هو منهم، وبعث فيهم. {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} أي: ما أمروا به، فيفهموه عنه بيسر، وسهولة، وسرعة، ثم ينقلوه، ويترجموه لغيرهم، فإنهم أولى الناس إليه بأن يدعوهم وأحق بأن ينذرهم. {فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ:} انظر الكلام على هاتين الجملتين في الآية رقم [29] من سورة (الرعد).

{الْعَزِيزُ:} هو القوي الغالب الذي لا يغلب. {الْحَكِيمُ:} هو الذي يضع الأمور مواضعها، وقدم العزيز، لتقدم العلم بقدرته على العلم بحكمته.

هذا وقد قرئ: «(بلسن)» بصيغة الجمع بضم اللام، وضم السين، وتسكينها أيضا، وهو على هذا مؤنث كذراع، وأذرع، ويذكر فيجمع على ألسنة كحمار، وأحمرة، وتصغيره على التذكير:

لسين، وعلى التأنيث لسينة، وقد يجعل اللسان كناية عن كلمة السوء كما في قول الشاعر:[الوافر]

ص: 8

لسان السّوء تهديها إلينا

وحنت، وما حسبتك أن تحينا

فيؤنث لا غير، كما يجعل كناية عن الرسالة، أو عن القصيدة من الشعر كقول الآخر:[المتقارب]

أتتني لسان بني عامر

فجلّى أحاديثها عن بصر

وقد يجعل كناية عن الكلمة الواحدة، كما في قول الأعشى، وكان قد أتاه خبر مقتل أخيه المنتشر:[البسيط]

إنّي أتتني لسان لا أسرّ بها

من علو لا عجب منها ولا سخر

قال الجوهري: يروى: «من علو» بضم الواو، وفتحها وكسرها، أي أتاني خبر من أعلى، والتأنيث للكلمة، وقد أطلقه الله على القرآن بكامله مع التذكير في سورة (النحل)، الآية رقم [103] حيث قال جل ذكره:{وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} كما أطلقه على الثناء الجميل، والذكر الحسن في قوله جلت قدرته:{وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} الآية رقم [49] من سورة (مريم) على نبينا وعليها ألف صلاة، وألف سلام.

تنبيه: قال القرطبي: ولا حجة للعجم وغيرهم في هذه، أي في نفي بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة؛ لأن كل من ترجم له ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ترجمة يفهمها لزمته الحجة، وقد قال الله تعالى:{وَما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} وقال صلى الله عليه وسلم: «والّذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمّة، يهوديّ ولا نصرانيّ، ثمّ لم يؤمن بالّذي أرسلت به إلاّ كان من أصحاب النار» . أخرجه مسلم، وقال:«أرسل كلّ نبيّ إلى أمّته بلسانها، وأرسلني الله إلى كلّ أحمر، وأسود من خلقه» . انتهى.

وقال الخازن: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب، وبلسانهم، والناس تبع للعرب، فكان مبعوثا إلى جميع الخلق؛ لأنهم تبع للعرب، ثم إنه يبعث إلى الأطراف، فيترجمون لهم بألسنتهم، ويدعونهم إلى الله تعالى بلغاتهم، وقيل: إن الرسول إذا أرسل بلسان قومه، وكانت دعوته خاصة، وكان كتابه بلسان قومه، كان أقرب لفهمهم عنه، وقيام الحجة عليهم في ذلك، فإذا فهموه، ونقل عنهم؛ انتشر عنهم علمه، وقامت التراجم ببيانه، وتفهيمه لمن يحتاج إلى ذلك ممن هو من غير أهله، وإذا كان الكتاب واحدا بلغة واحدة، مع اختلاف الأمم، وتباين اللغات، كان ذلك أبلغ في اجتهاد المجتهدين، في تعليم معانيه، وتفهيم فوائده، وغوامضه، وأسرار علومه، وجميع حدوده وأحكامه. انتهى.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. {(ما):} نافية. {أَرْسَلْنا:} فعل وفاعل. {مِنْ:}

حرف جر صلة. {رَسُولٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {إِلاّ:} حرف حصر. {بِلِسانِ:} متعلقان

ص: 9

بمحذوف حال من رسول، التقدير: إلا متكلما بلسان، وساغ ذلك منه مع كونه نكرة لتقدم النفي عليه، و (لسان) مضاف، و {قَوْمِهِ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة. {لِيُبَيِّنَ:}

مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى {رَسُولٍ}. {لَهُمْ:}

متعلقان بما قبلهما، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، التقدير:

للتبيين، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {أَرْسَلْنا،} والجملة الفعلية: {وَما أَرْسَلْنا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَيُضِلُّ} الفاء: حرف استئناف. (يضل الله): مضارع وفاعله. {مِنْ:}

اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: يضل الذي، أو شخصا يشاء إضلاله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، وجملة:{وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ} معطوفة على ما قبلها، وإعرابها مثلها. {وَهُوَ} الواو: واو الحال. {(هُوَ):} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ:} خبران للمبتدإ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل {يَشاءُ} المستتر، والرابط: الواو، والضمير، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها.

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ (5)}

الشرح: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا:} المراد بالآيات: المعجزات التي جاء بها موسى عليه السلام، مثل: العصا، واليد، وفلق البحر، وغير ذلك من المعجزات العظيمة الباهرة، وقد رأيت ذلك مفصلا في سورة (الأعراف)، وغيرها مما تقدم. {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ} أي: أخرج قومك بالدعوة إلى الإيمان من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وانظر الآية رقم [17] من سورة (الرعد). {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيّامِ اللهِ} أي: بوقائع الله في الأمم السابقة، وأيام العرب حروبها ووقائعها، وقيل: ذكرهم ببلائه ونعمائه، وانظر شرح يوم في الآية رقم [3] من سورة (هود) عليه السلام تجد ما يسرك. {إِنَّ فِي ذلِكَ} أي: من التذكير بما ذكر. {لَآياتٍ:} لعظات، وعبرة. {لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ:} فهما صيغتا مبالغة بمعنى: كثير الصبر، وكثير الشكر، وإنهما خصهما الله بالاعتبار بالآيات، وإن كان فيها عبرة لجميع الناس؛ لأنهما هما اللذان ينتفعان بها دون غيرهما، فهو كقوله تعالى:{هُدىً لِلْمُتَّقِينَ؛} لأن الانتفاع بالآيات لا يمكن حصوله إلا لمن يكون صابرا شاكرا، أما من لم يكن كذلك؛ فلا ينتفع بها البتة. بعد هذا انظر الصبر في الآية رقم [115] من سورة (هود) عليه السلام، والآية رقم [24] من سورة (الرعد)، وانظر الشكر في الآية رقم [7] الآتية، وانظر تذكير موسى لقومه في الآية رقم [61] من سورة (الكهف).

ص: 10

الإعراب: {وَلَقَدْ} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. اللام: واقعة في جواب القسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَرْسَلْنا:} فعل وفاعل. {مُوسى:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {بِآياتِنا:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من موسى، و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب القسم المقدر، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. {أَنْ:} حرف تفسير؛ لأن معنى الإرسال القول، أو هي مصدرية. {أَخْرِجْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {قَوْمَكَ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {مِنَ الظُّلُماتِ:} متعلقان بالفعل أخرج. {إِلَى النُّورِ:} متعلقان به أيضا، وجملة:{أَخْرِجْ..} . إلخ لا محل لها على اعتبار {أَنْ} تفسيرية، وتؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير:«بأن أخرج» على اعتبارها مصدرية، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {أَرْسَلْنا}. {(ذَكِّرْهُمْ):} أمر، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» والهاء في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{أَنْ أَخْرِجْ..} . إلخ {بِأَيّامِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (أيام): مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {أَنْ:} حرف مشبه بالفعل. {فِي:} حرف جر.

{ذلِكَ:} (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بفي، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف في محل نصب اسم {أَنْ} مقدم، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب. {لَآياتٍ:}

اللام: لام الابتداء. (آيات): اسم {أَنْ} مؤخر منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {لِكُلِّ:} متعلقان بمحذوف صفة آيات، و (كلّ): مضاف، و {صَبّارٍ:} مضاف إليه، وهو صفة لموصوف محذوف. {شَكُورٍ:} صفة ثانية للموصوف المحذوف، والجملة الاسمية:{إِنَّ فِي ذلِكَ..} . إلخ تعليل للأمر قبلها لا محل لها.

{وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)}

الشرح: {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ} أي: واذكر وقت قال موسى لقومه مذكرا لهم بنعم الله عليهم.

{اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ:} فسر النعمة هنا بالإنجاء من كيد فرعون، واستعباده لهم، وفسرها في الآية رقم [22] من سورة (المائدة) بجعل الأنبياء فيهم كثيرين، وبجعلهم ملوكا، وبإيتائهم ما لم يؤت أحدا من العالمين، وهذا كله كان بعد أن أنجاهم الله من هيمنة فرعون عليهم واستعباده لهم، فالفرق واضح بين النعمتين، وما في هذه الآية يضارع الآية رقم [49] من سورة (البقرة) و [141] من

ص: 11

سورة (الأعراف). {إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ:} يذيقونكم. وقيل: معناه: يديمون تعذيبكم. {سُوءَ الْعَذابِ:} أشده وأفظعه، وإن كان كله سيئا؛ لأنه أقبح بالإضافة إلى سائره.

و {وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ} أي: الذكور. {وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ:} يتركون بناتكم أحياء.

وسبب ذلك: أنّ فرعون رأى في منامه رؤيا أفزعته، فعبرها له الكهنة بأن مولودا يولد في بني إسرائيل يكون ذهاب ملك فرعون على يده. {بَلاءٌ:} اختبار وامتحان، ويكون في الخير والشر، قال تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ} فيمتحن الله تعالى بالخير؛ ليشكروا، وبالشر؛ ليصبروا، وقال ابن كيسان: أبلاه وبلاه في الخير والشر، وقيل: الأكثر في الخير: أبليته، وفي الشر بلوته، وفي الاختبار: ابتليته، وبلوته. قاله النحاس. واسم الإشارة:{وَفِي ذلِكُمْ} يجوز أن يكون إشارة إلى الإنجاء، وهو خير محبوب، ويجوز أن يكون إشارة إلى الذبح، وهو شر مكروه.

هذا؛ وموسى في الأصل (موشى) بالشين مركبا من اسمين: الماء والشجر، فالماء يقال له في العبرانية:«مو» ، والشجر يقال له:«شا» فعربته العرب، وقالوا: موسى بالسين، وسبب تسميته بذلك: أن امرأة فرعون التقطته من نهر النيل بين الماء والشجر لمّا ألقته أمه فيه، كما هو مذكور في سورة (طه) و (القصص)، وموسى هو ابن عمران بن قاهت بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام. {فِرْعَوْنَ:} قال الجمل: قال المسعودي:

ولا يعرف لفرعون تفسير في العربية، وظاهر كلام الجوهري: أنه مشتق من معنى العتو، فإنه قال:

الفراعنة: العتاة، وقد تفرعن، وهو ذو فرعنة، أي دهاء، ومكر، وفرعون لقب لمن ملك العمالقة في مصر، كقيصر وكسرى، لملكي الفرس والروم، وكان فرعون موسى عليه السلام مصعب بن ريان، وقيل: هو ابن مصعب، واسمه الوليد من بقايا قوم عاد، وفرعون يوسف عليه السلام: هو الريان بن الوليد، وقد رأيت: أنه قد أسلم على يد يوسف، وبينهما أكثر من أربعمائة سنة.

هذا والسوء كل ما يغم الإنسان من أمر دنيوي، أو أخروي، وهو في الأصل مصدر، ويؤنث بالألف، كما في قوله تعالى:{ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ} وقيل: إن السوأى تأنيث الأسوأ، كما أن الحسنى تأنيث الأحسن، والسوء أيضا: العمل السيئ، وأطلق عليه ذلك؛ لأنه يسوء صاحبه، ويغمه عند مجازاته به في الدنيا وفي الآخرة. و {بَلاءٌ:}

أصله: (بلاو) فيقال في إعلاله: تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، ولم يعتد بالألف الزائدة؛ لأنها حاجز غير حصين، فالتقى ساكنان: الألف الزائدة، والألف المنقلبة، فأبدلت الثانية همزة، وأصل أبناء:(أبناو) وأصل نساء: (نساي) فإعلالهما مثل إعلال: {(بَلاءٌ)} بلا فارق.

الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف استئناف. {(إِذْ):} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بفعل محذوف تقديره: اذكر، أو هو مفعول به لهذا المحذوف، وجملة:{قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ} في محل جر بإضافة {(إِذْ)} إليها. {اُذْكُرُوا:} أمر مبني على حذف

ص: 12

النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {نِعْمَةَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، {عَلَيْكُمْ:} متعلقان ب: {نِعْمَةَ اللهِ،} أو بمحذوف حال منه، وجملة:{اُذْكُرُوا..} .

إلخ في محل نصب مقول القول. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان متعلق ب: {نِعْمَةَ اللهِ،} أو هو بدل منها بدل اشتمال، وجوز اعتبارهما متعلقين بمحذوف حال من {نِعْمَةَ اللهِ} .

{أَنْجاكُمْ:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {اللهِ} والكاف مفعول به. {مِنْ آلِ:} متعلقان بما قبلهما، و {آلِ:} مضاف، و {فِرْعَوْنَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة.

{يَسُومُونَكُمْ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والكاف مفعوله الأول، والجملة الفعلية في محل نصب حال من ضمير المخاطبين، أو من آل فرعون، والرابط على الاعتبارين: الضمير فقط. {سُوءَ:} مفعول به ثان، وهو مضاف، و {الْعَذابِ:} مضاف إليه من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ إذ الأصل: العذاب السوء، وجملة:

{وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ} معطوفة على ما قبلها فهي في محل نصب حال مثلها، ومثلها جملة:

{وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ} . {وَفِي:} الواو: حرف استئناف. {(فِي):} حرف جر. {ذلِكُمْ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر ب {(فِي)،} والجار والمجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، والميم في الجميع حرف دال على جمع المذكر. {بَلاءٌ:} مبتدأ مؤخر. {مِنْ رَبِّكُمْ:} متعلقان ب: {بَلاءٌ؛} لأنه مصدر، أو بمحذوف صفة له، والكاف في محل جر بالإضافة. {عَظِيمٌ:} صفة بلاء، والجملة الاسمية:

{وَفِي ذلِكُمْ..} . إلخ مستأنفة، وهي من مقول موسى عليه السلام، وقيل: معطوفة على الجمل الفعلية قبلها، وقيل: محتملة للحالية.

تنبيه: قال سبحانه وتعالى في سورة (البقرة): {يُذَبِّحُونَ} بغير واو، وقال هنا:{وَيُذَبِّحُونَ} بزيادة الواو، والسبب في ذلك: أن قوله {يُذَبِّحُونَ} في سورة (البقرة) تفسير لقوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ} وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو، ودخول الواو هنا لبيان: أن آل فرعون كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير التذبيح، وبالتذبيح أيضا، فهو نوع من أنواع العذاب، فالواو للتنويع.

تنبيه: تذبيح الصبيان وقلتهم بلاء ظاهر، وترك البنات أحياء بلاء من حيث أن الفراعنة كانوا يستخدمونهن كالإماء، بالإضافة لما يتبع ذلك من انتهاك أعراضهن، وامتهان شرفهن، فهو أكبر بلاء عند ذوي المروءات، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7)}

الشرح: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ:} تأذن، وأذن بمعنى: أعلم، وأخبر. مثل، أوعد وتوعد، والثاني أبلغ لما في التفعل من معنى التكلف والمبالغة. {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} أي: لئن

ص: 13

شكرتم إنعامي؛ لأزيدنكم من فضلي، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-أي: لئن شكرتم نعمتي؛ لأزيدنكم من طاعتي. {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ:} المراد بالكفر هنا جحود النعم؛ لأنه مذكور في مقابلة الشكر. {إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ} أي: عقابي الشديد لمن جحد نعمتي، وسمى سبحانه جحود النعمة كفرا؛ لأن معنى الكفر اللغوي: الستر، والتغطية كما رأيت في الآية رقم [37] من سورة (يوسف) عليه السلام، فمن جحد النعمة كان بمنزلة من سترها، وغطاها. وجملة القول:

إن شكر العبد لله على نعمه يعود على نفسه بالثواب العظيم، والنفع العميم، وعدم الشكر لا يضر الله شيئا، خذ قوله تعالى في سورة (النمل) حكاية عن قول سليمان عليه السلام:

{أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} وقوله تعالى في سورة (لقمان): {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} .

فائدة: وعد الله عز وجل بالمزيد من النعم إن شكره العبد عليها، ولم يستثن، بينما استثنى في خمسة أشياء بعد الوعد فيها، فاستثنى الإغناء، فقال:{فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ} وفي الإجابة، فقال:{فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ} وفي الرزق، فقال:{يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ} وفي المغفرة، فقال:{وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} وفي التوبة، فقال:{وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ} ومعنى الاستثناء التعليق بالمشيئة، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. {(إِذْ):} هي مثل ما قبلها في الآية السابقة. {تَأَذَّنَ:} ماض. {رَبُّكُمْ:} فاعل والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {(إِذْ)} إليها.

{لَئِنْ:} اللام: موطئة لقسم محذوف. (إن): حرف شرط جازم. {شَكَرْتُمْ:} ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والميم حرف دال على جماعة الذكور، والمفعول محذوف، التقدير: شكرتموني، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:

لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَأَزِيدَنَّكُمْ} اللام: واقعة في جواب القسم. (أزيدنكم): مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» والنون حرف لا محل له، والكاف مفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف، التقدير: لأزيدنكم نعمة فوق نعمتكم، والجملة الفعلية هذه جواب القسم لا محل لها، وجواب الشرط محذوف على القاعدة:«إذا اجتمع شرط وقسم فالجواب للسابق منهما» قال ابن مالك رحمه الله في ألفيته: [الرجز]

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخّرت فهو ملتزم

والقسم وجوابه في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: وقال: لئن

إلخ، أو في محل نصب مفعول به ل:{تَأَذَّنَ؛} لأنه يجري مجرى قال. انتهى. بيضاوي. {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ} إعرابه مثل سابقه، وجواب القسم محذوف، التقدير: لأعذبنكم، دل عليه ما بعده،

ص: 14

وإنما حذف هنا، وصرح به في جانب الوعد؛ لأن عادة أكرم الأكرمين أن يصرح بالوعد، ويعرّض بالوعيد. انتهى. بيضاوي. والكلام معطوف على ما قبله. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل.

{عَذابِي:} اسم {إِنَّ} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم المصدر لفاعله. {لَشَدِيدٌ:} خبر {إِنَّ،} واللام هي المزحلقة، والجملة الاسمية:{إِنَّ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، أو هي تعليل لما قبلها. هذا؛ والكلام:{وَإِذْ تَأَذَّنَ..} . إلخ من كلام موسى عليه السلام فهو في محل نصب مقول القول، وقيل: هو من قول الله تعالى، فيكون مستأنفا.

{وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)}

الشرح: {وَقالَ مُوسى} أي: لقومه. {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} أي: من الإنس والجن وغيرهما، {فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ:} عن شكركم لنعمه، وغني عن إيمانكم وطاعتكم. {حَمِيدٌ:}

مستحق للحمد في ذاته، محمود تحمده الملائكة، وتنطق بحمده ذرات المخلوقات، فما ضررتم بالكفر إلا أنفسكم، حيث حرمتموها مزيد الإنعام من فضله، وعرضتموها للعذاب الشديد.

الإعراب: {وَقالَ:} الواو: حرف عطف. {(قالَ مُوسى):} ماض وفاعله. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {تَكْفُرُوا:} مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، التقدير: بالله، والجملة الفعلية لا محل لها على نحو ما سبق.

{أَنْتُمْ:} ضمير منفصل في محل رفع توكيد لواو الجماعة. {(مَنْ):} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع معطوف على واو الجماعة. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول.

{جَمِيعاً:} حال من واو الجماعة وما عطف عليها، فهي حال مؤكدة. {فَإِنَّ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط، والجملة الاسمية: (إن الله

) إلخ في محل جزم جواب الشرط. هذا؛ وإن اعتبرت الجواب محذوفا، التقدير: فلن تضروا الله شيئا؛ فتكون الجملة الاسمية تعليلا لهذا المحذوف، وهو كلام سديد، و (إن) الشرطية ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة: {(قالَ مُوسى

)} إلخ معطوفة على ما قبلها في الآية رقم [6] فهي في محل جر مثلها.

{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنّا لَفِي شَكٍّ مِمّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)}

الشرح: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ:} قال بعض المفسرين:

يحتمل أن يكون هذا من كلام موسى لقومه حكاه الله عنه، ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى

ص: 15

ابتداء لنبينا صلى الله عليه وسلم، والمخاطب بذلك كفار قريش، وانظر الكلام على الأقوام الثلاثة مفصلا في سورة (الأعراف)، وسورة (هود) عليه السلام، والمقصود منه التذكير بأمر القرون الماضية، والأمم الخالية، وحصول العبرة، والعظة بأحوال من تقدم، وهلاكهم بسبب سوء أعمالهم.

{وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي: الأقوام الثلاثة. {لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ:} لا يحصي عددهم، ولا يعرف نسبهم إلا الله تعالى، كما قال جل ذكره:{وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً} .

والنسابون في جميع العصور، وإن نسبوا إلى آدم؛ فلا يدّعون إحصاء جميع الأمم، وإنما ينسبون البعض، ويمسكون عن نسب البعض، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع النسابين ينسبون إلى معد بن عدنان، ثم زادوا، فقال:«كذب النسابون: إن الله يقول: {لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ» }.

وقد روي عن عروة بن الزبير-رضي الله عنهما: أنه قال: ما وجدنا أحدا يعرف ما بين عدنان وإسماعيل، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون.

{جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ:} بالدلالات الواضحات، والمعجزات الباهرات.

{فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ:} عضوها غيظا مما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسّلام، فيكون كقوله تعالى:{عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ،} أو وضعوا أيديهم على أفواههم تعجبا مما جاءت به الرسل، أو استهزاء عليه، كمن غلبه الضحك، أو هو إسكات للرسل، أي أشاروا بأيديهم إلى أفواههم: أن اسكتوا تكذيبا لهم، أو هو أمر لهم بإطباق الأفواه، وأشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم، وما نطقت به من قولهم:{إِنّا كَفَرْنا} إشارة على أن لا جواب لهم سواه، أو المعنى ردوا الأيدي في أفواه الأنبياء يمنعونهم من التكلم، وعلى هذا يحتمل أن يكون تمثيلا، وقيل: الأيدي بمعنى: الأيادي، أي أيادي الأنبياء، التي هي مواعظهم، وما، أوحي إليهم من الحكم والشرائع في أفواههم؛ لأنهم إذا كذبوا، ولم يقبلوا، فكأنهم ردوها إلى حيث جاءت منه. هذا؛ وجمع {أَفْواهِهِمْ} على الأصل؛ لأن الأصل في فم: فوه، مثل حوض، وأحواض، وثوب، وأثواب.

وانظر شرح اليد في الآية رقم [50] من سورة (يوسف) عليه السلام. {وَقالُوا إِنّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ} أي: كفرنا بما تدعون، وتزعمون: أن الله أرسلكم به؛ لأنهم لم يعترفوا بأن الله أرسلهم ولو اعترفوا لكانوا مؤمنين. {وَإِنّا لَفِي شَكٍّ مِمّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ} أي: من التوحيد، وعبادة إله واحد، ونبذ عبادة الأصنام. {مُرِيبٍ:} موقع في الريبة.

الإعراب: {أَلَمْ} الهمزة: حرف استفهام وتقرير. {(لَمْ):} حرف نفي وقلب وجزم.

{يَأْتِكُمْ:} مضارع مجزوم ب: {(لَمْ)،} وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والكاف مفعول به. {نَبَؤُا:} فاعل، وهو مضاف، و {الَّذِينَ} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة، {مِنْ قَبْلِكُمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والكاف في محل جر بالإضافة. {قَوْمِ:} بدل من {الَّذِينَ،} بدل بعض من كل، و {قَوْمِ} مضاف،

ص: 16

و {نُوحٍ:} مضاف إليه. {(عادٍ):} معطوف على ما قبله. {(ثَمُودَ):} معطوف أيضا مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة، وقيل: والتأنيث بدل العجمة. {(الَّذِينَ):} مبتدأ. {مِنْ بَعْدِهِمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة، لا: نافية. {يَعْلَمُهُمْ:} مضارع، والهاء مفعول به. {إِلاَّ:} حرف حصر.

{اللهُ:} فاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة معترضة بين المفسر، وهو {نَبَؤُا الَّذِينَ} وتفسيره، وهو قوله:{جاءَتْهُمْ..} . إلخ هذا وجه للإعراب، وقيل:{وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} عطف على قوم نوح

الخ، أو على {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ،} وقوله: {لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ} اعتراض كما ذكر، وهذان الوجهان ضعيفان؛ لأن قوله تعالى:{جاءَتْهُمْ..} . إلخ لا يفسر نبأ الذين، وإنما الوجه أن تكون الجملة الفعلية في محل نصب حال من {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} والرابط: الضمير فقط، وهي على تقدير «قد» قبلها، وعليه فالاعتراض واقع بين الحال وصاحبها. هذا، وأجاز أبو البقاء اعتبار {(الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ)} بدلا من سابقه، وأجاز في الجملتين الفعليتين بعده الحالية، والاستئناف، كما أجاز اعتبار {(الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ)} مبتدأ، وجملة:{لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ} خبره، أو حال من الاستقرار، وجملة:{جاءَتْهُمْ} الخبر، ويعني خبرا ثانيا على اعتبار الأولى خبرا، أو خبرا واحدا على اعتبار الأولى حالا. {جاءَتْهُمْ:}

ماض، والتاء للتأنيث، والهاء مفعول به. {رُسُلُهُمْ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة.

{بِالْبَيِّناتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وقد رأيت الأقوال في محل الجملة الفعلية. (ردّوا):

ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَيْدِيَهُمْ:} مفعول به. {فِي أَفْواهِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة: (ردّوا

) إلخ معطوفة على ما قبلها على جميع الاعتبارات فيها. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل. و (نا): اسمها، حذفت نونها للتخفيف، وبقيت الألف دليلا عليها. {كَفَرْنا:} فعل وفاعل. {بِما:} متعلقان بما قبلهما، و (ما): تحتمل الموصولة والموصوفة، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلا بالباء، وتقدير القرطبي المصدرية لا وجه له البتة، وجملة:{كَفَرْنا..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنّا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالُوا إِنّا..} .

إلخ معطوفة على ما قبلها، والكلام {أَلَمْ يَأْتِكُمْ..} . إلخ يحتمل أن يكون من كلام موسى فهو في محل نصب مقول القول، ومستأنف على احتماله مبتدأ من كلام الله تعالى. (إنا): مثل سابقتها.

{لَفِي} اللام: هي المزحلقة. (في شكّ) متعلقان بمحذوف خبر (إنّ). {مِمّا:} متعلقان ب: {شَكٍّ؛} لأنه مصدر، أو هما متعلقان بمحذوف صفة له، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة. {تَدْعُونَنا:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، و (نا):

مفعوله. {إِلَيْهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مُرِيبٍ:} صفة ثانية ل: {شَكٍّ،} وجملة: {تَدْعُونَنا}

ص: 17

إِلَيْهِ صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلا ب: (إلى)، والجملة الاسمية:{وَإِنّا لَفِي..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي مثلها في محل نصب مقول القول.

{قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10)}

الشرح: {قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ} أي: هل تشكون في الله؟ وهو لا يحتمل الشك لكثرة الأدلة. {فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي: خالقهما ومخترعهما، ومنشئهما، وموجدهما بعد العدم لينبه على قدرته فلا تجوز العبادة إلا له. {يَدْعُوكُمْ} أي: إلى عبادته وطاعته، والإيمان بالرسل، والكتب، والملائكة، واليوم الآخر وغير ذلك. {لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} أي:

يدعوكم لما ذكر ليغفر لكم ذنوبكم، إن آمنتم وصدقتم. {وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي: إلى حين انقضاء آجالكم، فلا يعاجلكم بالعقوبة.

{قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا} أي: لستم إلا مثلنا في الهيئة والصورة، تأكلون مما نأكل، وتشربون مما نشرب، ولستم ملائكة، فلا فضل لكم علينا، فلم تخصون بالنبوة دوننا؟ ولو شاء الله أن يبعث إلى البشر رسلا لبعث من جنس أفضل. {تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا:} تمنعونا. {عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا} أي: من الحجارة، والأوثان. {فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ} أي: بحجة واضحة على صحة دعواكم، وهذا جدال ومحال منهم، فإن الرسل ما دعوهم إلى الإيمان إلا وقد أيدهم الله بالمعجزات، ولكنهم لم يعتبروا ما جاءوا به من البينات الواضحة، والحجج الدامغة، واقترحوا عليهم آيات أخرى تعنتا، ولجاجا.

الإعراب: {قالَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث حرف لا محل له، وحذف متعلقه اكتفاء بذكره في الآية التالية. {رُسُلُهُمْ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {أَفِي} الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي. {(فِي اللهِ):} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {شَكٌّ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. هذا؛ ويجوز اعتبار {شَكٌّ} فاعلا بالجار والمجرور لاعتمادهما على الاستفهام، وفي الحقيقة هو نائب فاعل بفعل محذوف، التقدير: أيوجد في الله شك، أو هو فاعل، التقدير: أيثبت في الله شك، وعليه فالجملة فعلية، وهي في محل نصب مقول القول. {فاطِرِ:} بدل من لفظ الجلالة، أو صفة له، وهو مضاف، و {السَّماواتِ:} مضاف إليه من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، {يَدْعُوكُمْ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة

ص: 18

على الواو للثقل، والفاعل يعود إلى {اللهِ،} والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الضمير فقط. {لِيَغْفِرَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى {اللهِ} أيضا و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {لَكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما.

{مِنْ ذُنُوبِكُمْ:} متعلقان بالفعل (يغفر) أيضا، و {مِنْ} للتبعيض أي: يغفر بعض ذنوبكم، وعليه يقتصر الغفران على حقوق الله تعالى وحدها، وقيل:(من) زائدة، وهذا على مذهب الأخفش الذي يجيز زيادة من في الإيجاب وعليه فالغفران يشمل جميع الذنوب؛ لأن الإيمان يجبّ ما قبله، ويكون {ذُنُوبِكُمْ} مفعولا به منصوبا، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد والكاف في محل جرّ بالإضافة. {وَيُؤَخِّرَكُمْ:}

معطوف على (يغفر) منصوب مثله، والفاعل يعود إلى {اللهِ،} والكاف في محل نصب مفعول به. {إِلى أَجَلٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مُسَمًّى:} صفة أجل مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والثابتة دليل عليها، وليست عينها. {قالُوا:}

ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {إِنْ:} حرف نفي. {أَنْتُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {إِلاّ:} حرف حصر. {بَشَرٌ:} خبر المبتدأ.

{مِثْلُنا:} صفة بشر، و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية: {إِنْ أَنْتُمْ

}. إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {تُرِيدُونَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله، {إِنْ:} حرف مصدري ونصب.

{تَصُدُّونا:} مضارع منصوب بأن، وعلامة نصبه حذف النون

الخ، والواو فاعله، و (نا):

مفعول به، و {إِنْ} والمضارع في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، وجملة:{تُرِيدُونَ..} .

إلخ في محل رفع صفة ثانية ل: {بَشَرٌ،} وحمل على معناه؛ لأنه بمنزلة القوم والرهط. كقوله:

{أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا،} أو هي في محل نصب حال من بشر بعد وصفه بما تقدم، وجوز فيها أن تكون مستأنفة، لا محل لها. {عَمّا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة فهي مبنية على السكون في محل جر ب «عن» ، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: عن الذي، أو عن شيء كان يعبده آباؤنا، {كانَ:} ماض ناقص، واسمه ضمير الشأن محذوف. {يَعْبُدُ:} مضارع. {آباؤُنا:}

فاعله. و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {كانَ،} وليس الكلام من باب التنازع؛ لأنه كان يجب أن تثبت واو الجماعة على إعمال أحد الفعلين في الاسم الظاهر، والإضمار في الآخر. {فَأْتُونا:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر.

(ائتونا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، و (نا): مفعول به، والجملة الفعلية لا محل

ص: 19

لها؛ لأنها جواب لشرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ما تدعونه حقا؛ فأتونا. {بِسُلْطانٍ:}

متعلقان بالفعل قبلهما. {مُبِينٍ:} صفة له.

{قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)}

الشرح: {قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أي: نحن كما قلتم بشر، لا ننكر ذلك، ولا نترفع عنه. {وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ} أي: بالهداية للإيمان، والتوفيق للطاعة، ويصطفي للنبوة من يشاء من عباده لهذا المنصب العظيم الشريف، ويختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. {وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ} أي: ليس لنا مع ما خصنا الله به من النبوة، وشرفنا به من الرسالة أن نأتيكم بحجة، وبرهان، ومعجزة تدل على صدق دعوانا إلا بإذن الله، ومشيئته، وإرادته. {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي: فليعتمدوا عليه لا على غيره، فهو الذي يحفظهم، ويرد عنهم كيد أعدائهم، وفحواه: أننا نتوكل على الله في معاندتكم، ومعاداتكم. عمموا الأمر للإشعار بما يوجب التوكل، وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا، وهو ما يفيده الآية التالية.

الإعراب: {قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ:} انظر الإعراب في الآية السابقة. {إِنْ:} حرف نفي.

{نَحْنُ:} ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع مبتدأ. {إِلاّ:} حرف حصر. {بَشَرٌ:}

خبر المبتدأ. {مِثْلُكُمْ:} صفة بشر، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَتْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَلكِنَّ:} الواو:

حرف عطف. {(لكِنَّ):} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {يَمُنُّ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهَ}. {عَلى:} حرف جر. {يَمُنُّ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر ب:{عَلى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. وجملة: {يَشاءُ} صفة {يَمُنُّ،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: يشاؤه. {مِنْ عِبادِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف المنصوب، و {يَمُنُّ} بيان لما أبهم في {يَمُنُّ،} والجملة الفعلية:

{يَمُنُّ..} . إلخ في محل رفع خبر (لكنّ) والجملة الاسمية: {(لكِنَّ

)} إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية.

{كانَ:} ماض ناقص. {لَنا:} متعلقان بمحذوف خبر {كانَ} تقدم على اسمها، والمصدر المؤول من {أَنْ نَأْتِيَكُمْ} في محل رفع اسمها مؤخرا. {بِسُلْطانٍ:} متعلقان بما قبلهما.

{إِلاّ:} حرف حصر. {بِإِذْنِ:} متعلقان بمحذوف حال مستثنى من عموم الأحوال، التقدير:

ص: 20

إلا مأذونا لنا. هذا؛ وأجاز أبو البقاء ومكي اعتبار المصدر المؤول في محل رفع اسم {كانَ،} و {بِإِذْنِ} متعلقين بمحذوف خبرها، وعليه يكون {لَنا} متعلقين ب:{كانَ،} و {بِإِذْنِ} مضاف، و {اللهَ} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله، وجملة: {(ما كانَ لَنا

)} إلخ مستأنفة، وهي من مقول الرسل كما هو واضح. الواو: فيما أرى زائدة. {وَعَلَى اللهِ:}

متعلقان بالفعل بعدهما. {فَلْيَتَوَكَّلِ:} الفاء: حرف استئناف، أو هي الزائدة، والواو عاطفة.

(ليتوكل): مضارع مجزوم بلام الأمر، وحرك بالكسرة لالتقاء الساكنين. {الْمُؤْمِنُونَ:} فاعل مرفوع

إلخ، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. هذا؛ وقد قال أبو البقاء في مثلها:

دخلت الفاء لمعنى الشرط، والمعنى هنا: إن اعتدى أحد علينا؛ فنحن نتوكل على الله، وعلى هذا فالواو ليست زائدة، وإنما هي عاطفة جملة شرطية على الكلام السابق، وتكون الفاء هي الفصيحة، ولا يخفى ما فيه من التكلف. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَما لَنا أَلاّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)}

الشرح: {وَما لَنا أَلاّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ} أي: أيّ عذر لنا في ترك التوكل على الله، وعدم الاعتماد عليه. {وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا} أي: وقد دلنا على الطرق التي نعرفه بها، ونعلم أن كل شيء بمشيئته وإرادته، وبيّن لنا الطرق التي توصل إلى رحمته، وتنجي من سخطه ونقمته.

{وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا} أي: والله لنصبرن على أذاكم قولا كان، أو فعلا. وعلى الله، {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} أي: عليه فليعتمد المعتمدون: وليفوضوا شئونهم وأمورهم إليه، وليستسلموا لحكمه وقضائه وقدره، فهو الذي يكفيهم، ويدفع عنهم شر أعدائهم؛ إن توكلوا واعتمدوا عليه.

هذا؛ وفي الآية التفات بالنسبة لما قبلها، وذلك من الغيبة إلى التكلم، وانظر الالتفات في الآية رقم [41] من سورة (الرعد)، وانظر التوكل في الآية رقم [67] من سورة (يوسف) على نبينا وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

تنبيه: قال الخازن: فإن قلت: كيف كرر الأمر بالتوكل، وهل من فرق بين التوكلين؟ قلت:

نعم التوكل الأول فيه إشارة إلى استحداث التوكل، والتوكل الثاني، فيه إشارة إلى السعي في التثبيت على ما استحدثوا من توكلهم، وإبقائه وإدامته، فحصل الفرق بين التوكلين.

الإعراب: {وَما} الواو: حرف استئناف، (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَنا:} متعلقان بمحذوف في محل رفع خبره. {أَلاّ:} (أن): حرف مصدري ونصب. (لا): نافية. {نَتَوَكَّلَ:} مضارع منصوب ب: «أن» والفاعل مستتر تقديره: «نحن» .

{عَلَى اللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و «أن» المصدرية والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: في عدم التوكل، أو في ترك التوكل، والجار والمجرور متعلقان

ص: 21

بمحذوف حال من (نا) والعامل الاستفهام لما فيه من معنى الفعل. {وَقَدْ} الواو: واو الحال.

(قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {هَدانا:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {اللهِ،} و (نا): مفعول به أول. {سُبُلَنا:} مفعول به ثان، و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية: {(قَدْ هَدانا

)} إلخ في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو، والضمير، وهي حال متداخلة، والجملة الاسمية: {(ما لَنا

)} إلخ مستأنفة، وهي من مقول الرسل. {وَلَنَصْبِرَنَّ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم بالله، اللام:

واقعة في جواب القسم، (نصبرن): مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه من مقول الرسل أيضا. وانظر سورة (الرعد) [32] {عَلَى:} حرف جر. {ما:}

مصدرية، {آذَيْتُمُونا:} ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والميم علامة جمع الذكور، وحركت بالضم لتحسين اللفظ، فتولدت واو الإشباع، و (نا): مفعول به، وما والفاعل في تأويل مصدر في محل جر بعلى، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، انظر الشرح. هذا؛ وأجيز اعتبار {ما} موصولة، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف، التقدير: على الذي آذيتمونا به، وانظر إعراب مثل:{وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} في الآية السابقة.

{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظّالِمِينَ (13)}

الشرح: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ..} . إلخ: حلف كفار الأمم السابقة على أحد أمرين مهدّدين لرسلهم: إما إخراجهم من بلدهم وأرضهم، أو عودهم إلى دينهم وطريقتهم، وهو يوهم بظاهره: أن الرسل كانوا على دين أقوامهم في أول الأمر حتى يعودوا فيها، وهذا محال في حق الرسل عليهم الصلاة والسّلام؛ لأنهم من أول نشأتهم نشئوا على التوحيد، وهو بمعنى: الصيرورة هنا؛ إذ المعنى: لتصيرن في ملتنا، وهذا التعبير مستعمل في كلام العرب، وفيه تأويل آخر، وهو أن الرسل قبل الرسالة لم يظهروا خلاف أممهم، فلما أرسلوا إليهم أظهروا مخالفتهم، ودعوهم إلى الله، فقالوا لهم: لتعودن في ملتنا ظنا منهم: أنهم كانوا على ملتهم، ثم خالفوهم، وقد تقدم مثل هذا في الآية رقم [87] من سورة (الأعراف). {فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ:}

فأخبرهم ربهم بعد هذه المخاطبات، والمحاورات. {لَنُهْلِكَنَّ الظّالِمِينَ} أي: الكافرين.

هذا وأصل {لَتَعُودُنَّ:} لتعودننّ فحذفت نون الرفع لتوالي النونات، فصار: لتعودون فحذفت الواو لالتقاء الساكنين، وبقيت الضمة على الدال دليلا عليها.

ص: 22

تنبيه: كثيرا ما يعبر القرآن عن الكافرين بالظالمين، والمجرمين، والمعتدين، والفاسقين، والمسرفين، وغير ذلك، ويتهددهم بالعذاب الأليم، ويتوعدهم بالعقاب الشديد، وإننا نجد الكثير من المسلمين يتصفون بهذه الصفات، فهل يوجه إليهم هذا التهديد، وهذا الوعيد؟ الحق أقول: نعم يتوجه إليهم ما ذكر، وهم أحق بذلك، ولا سيما من قرأ القرآن، واطلع على أحوال الأمم السابقة، وما جرى لهم مع رسلهم وكيف نكّل الله بهم، وجعلهم عبرة للمعتبرين، وما يتذكر إلا أولو الألباب، والتعبير عن الكافرين بالظالمين، والمجرمين

إلخ ليكون لطفا للمؤمنين في ترك الجرائم من ظلم، واعتداء، وفسوق، وإسراف، وغير ذلك من الأعمال التي يبغضها الله ورسوله.

الإعراب: {وَقالَ:} الواو: حرف استئناف. (قال): ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل. {كَفَرُوا:} ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها. {لِرُسُلِهِمْ:} متعلقان بالفعل {(قالَ)} والهاء في محل جر بالإضافة. {لَنُخْرِجَنَّكُمْ:} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف. (نخرجنكم): مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، والفاعل مستتر تقديره نحن، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب القسم المحذوف، والقسم وجوابه في محل نصب مقول القول، وجملة: {(قالَ الَّذِينَ

)} إلخ مستأنفة، لا محل لها. {مِنْ أَرْضِنا:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (نا): في محل جر بالإضافة. {أَوْ:} حرف عطف، {لَتَعُودُنَّ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة المدلول عليها بالضمة فاعله، أو اسمه، والنون حرف لا محل لها، والجملة الفعلية المعطوفة على ما قبلها. {فِي مِلَّتِنا:} متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف خبره. و (نا): في محل جر بالإضافة. {فَأَوْحى:} الفاء: حرف استئناف. (أوحى): ماض. {إِلَيْهِمْ:} متعلقان به. {رَبُّهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وإعراب {لَنُهْلِكَنَّ الظّالِمِينَ} مثل إعراب {لَنُخْرِجَنَّكُمْ،} والجملة لا محل لها؛ لأنها جواب قسم محذوف، والقسم وجوابه في محل نصب مقول القول لقول محذوف، أو في محل نصب مفعول به ل:(أوحى) إجراء له مجرى {(قالَ)،} وجملة: (أوحى

) إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14)}

الشرح: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ:} الخطاب للرسل، والمراد بالأرض: أرض الكفرة، وديارهم، وقد حقق الله ذلك للرسل؛ حيث أهلك أقوامهم، وأورثهم أرضهم، كما قال تعالى:

ص: 23

{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا} هذا وقرئ: «(ليهلكن)» «(وليسكننكم)» بالياء اعتبارا لأوحى. {ذلِكَ:} الإشارة إلى الموحى به، وهو إهلاك الظالمين، وإسكان المؤمنين مع المرسلين. {لِمَنْ خافَ مَقامِي} أي: موقفي، وهو الموقف الذي يقيم فيه العباد للحساب يوم القيامة. أو المعنى: خاف قيامي عليه، ومراقبتي له، وحفظي لأعماله. والمقام:

مصدر كالقيام، يقال: قام قياما، ومقاما، والمقام أيضا: مكان الإقامة، وبالضم فعل الإقامة.

وأصله: (مقوم) بفتح الميم، أو ضمها، فقل في إعلاله: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو إلى القاف بعد سلب سكونها، ثم يقال: تحركت الواو بحسب الأصل؛ وانفتح ما قبلها الآن، فقلبت ألفا. {وَخافَ وَعِيدِ} أي: وعيدي بالعذاب، أو عذابي الموعود للكفار، بعد هذا انظر «الخوف» في الآية رقم [13] من سورة (الرعد)، وانظر «الوعد والوعيد» في الآية رقم [31] منها.

الإعراب: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ:} انظر إعراب {لَنُخْرِجَنَّكُمْ} في الآية السابقة، والكاف مفعول به أول. {الْأَرْضَ} منصوب على الظرفية المكانية عند بعض النحاة، وفي مقدمتهم سيبويه، والمحققون وعلى رأسهم الأخفش ينصبونه على التوسع في الكلام بإسقاط الخافض، لا على الظرفية، فهو منتصب انتصاب المفعول به على السعة، بإجراء اللازم مجرى المتعدي، ومثل ذلك قل في:(دخلت المدينة، ونزلت البلد، وسكنت الشّام)، ويجب أن نلاحظ هنا أن الفعل متعد بالهمزة إلى الثاني، فعومل معاملة المفعول الواحد؛ إذا كان الفعل ثلاثيا، أي غير متعد بالهمزة. {مِنْ بَعْدِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل: متعلقان بمحذوف حال، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{لَنُهْلِكَنَّ الظّالِمِينَ} على ما فيها من اعتبارات. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لِمَنْ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر، وجملة:{خافَ مَقامِي} صلة من، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: رجوع الفاعل إليها، وجملة: {(خافَ

)} إلخ معطوفة عليها.

{وَعِيدِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، والياء المحذوفة في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، ومثله قل في:

{مَقامِي} والجملة الاسمية: {ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَاِسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبّارٍ عَنِيدٍ (15)}

الشرح: {وَاسْتَفْتَحُوا} أي: واستنصروا، أي: أذن للرسل في الاستفتاح على قومهم، والدعاء بهلاكهم، قاله ابن عباس-رضي الله عنهما-في رواية عنه، وبه قال مجاهد، وقتادة.

ص: 24

وفي رواية أخرى عن ابن أبي عباس، وبه قال ابن زيد وغيره: استفتحت الأمم بالدعاء، كما قالت قريش:{اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ..} . إلخ الآية رقم [32] من سورة (الأنفال)، وقيل: إن الرسل والأمم استفتحوا، فالرسول كان يقول:«إنهم كذبوني فافتح بيني وبينهم فتحا» كما في الآية رقم [89] من سورة (الأعراف)، والأمم كانت تقول: إن كان هؤلاء صادقين؛ فعذبنا، نظيره قوله تعالى حكاية عن قولهم:{اِئْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ} .

{وَخابَ كُلُّ جَبّارٍ عَنِيدٍ} أي: خسر، وهلك، والخيبة: قطع الأمل من الشيء المرغوب فيه، والمطلوب تحصيله. {جَبّارٍ:} المتكبر الذي لا يرى لأحد حقا عليه، بل يرى نفسه فوق كل الناس. {عَنِيدٍ:} المعاند للحق، المجانب له، والعنيد والعنود والعاند: المعاند للحق، والمخالف له، وفعله يأتي من الباب الأول والثاني، والرابع، والخامس، والمصدر عندا، وعنودا، وعندا وهو مأخوذ من العند، وهو الناحية، أي أخذ في ناحيته معرضا، قال الشاعر:[الرجز]

إذا نزلت فاجعلوني وسطا

إنّي كبير لا أطيق العندا

والعنيد والجبار لفظان مترادفان بمعنى: واحد، وإن اللفظ مختلف.

تنبيه: ذكرت في كتابي فتح القريب المجيب الشاهد [74] أنّ الوليد بن يزيد بن عبد الملك، كان خليفة، وكان خليعا فاسقا، متهتكا مولعا بالرذائل والمفاسد، جبارا عنيدا، لاهيا عن تدبير أمور الرعية، وأحوال الخلافة، وقد فتح المصحف مستفتحا، فوافق ذلك قوله تعالى:

{وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ..} . إلخ فمزقه بيديه، وأنشد:[الوافر]

أتوعد كلّ جبّار عنيد

فها أنا ذاك جبّار عنيد

إذا ما جئت ربّك يوم حشر

فقل يا ربّ مزّقني الوليد

فلم يلبث أياما حتى قتل شر قتلة، وصلب رأسه على قصره، ثم على سور بلده، ومزقه الله شرّ ممزّق {فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ} .

الإعراب: (استفتحوا): ماض مبني على الضم، والواو فاعله، وقرئ بصيغة الأمر، عطفا على جملة:{لَنُهْلِكَنَّ..} . إلخ فيكون موجها إلى الرسل خاصة، وإذنا لهم بالدعاء على أقوامهم.

(خاب): ماض. {كُلُّ:} فاعله، و {كُلُّ} مضاف، و {جَبّارٍ} مضاف إليه، وهو في الأصل صفة لموصوف محذوف؛ إذ التقدير: كل شخص جبار، {عَنِيدٍ:} صفة ثانية للموصوف المحذوف، أو هو بدل من جبار على الترادف، وجملة: {(خابَ

)} إلخ معطوفة على جملة محذوفة، أي فنصر الرسل وسعدوا، وربحوا، وخاب

إلخ.

ص: 25

{مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16)}

الشرح: {مِنْ وَرائِهِ} أي: من أمام الجبار العنيد، وانظر الآية رقم [71] من سورة (هود) عليه السلام تجد ما يسرك ويثلج صدرك. {جَهَنَّمُ} أي: فإنه مرصد بها، واقف على شفيرها في الدنيا، مبعوث إليها في الآخرة، وقيل: المعنى من وراء حياة الجبار العنيد جهنم. {وَيُسْقى} أي: الجبار العنيد. {مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ} أي: مثل الصديد، كما يقال للرجل الشجاع: أسد؛ أي:

مثل الأسد، وهو تمثيل وتشبيه، وقيل: هو ما يسيل من أجسام أهل النار من القيح والدم، وقال محمد بن كعب القرظي: هو ما يسيل من فروج الزناة، والزواني، وانظر الآية التالية.

الإعراب: {مِنْ وَرائِهِ:} متعلقان بمحذوف صفة ثالثة للموصوف المحذوف، أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم. {جَهَنَّمُ:} فاعل بالجار والمجرور لاعتمادهما على الموصوف، وفي الحقيقة نائب فاعل لفعل مقدر؛ أي: يوجد من ورائه جهنم. هذا؛ والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، و {جَهَنَّمُ} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية صفة للموصوف المحذوف، أو حال منه على نحو ما تقدم. {وَيُسْقى:} الواو: حرف عطف.

(يسقى): مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، ونائب الفاعل يعود إلى الشخص الجبار، وهو المفعول الأول. {مِنْ ماءٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني. {صَدِيدٍ:} عطف بيان، أو بدل من {ماءٍ،} وقيل: هو نعت ل: {ماءٍ،} كما تقول: هذا خاتم حديد، والبصريون لا يجيزون عطف البيان في النكرات، وأجازه الكوفيون، وتبعهم الفارسي، وهو بصري. وجملة: {(يُسْقى

)} إلخ معطوفة على الصفة قبلها، فهو عطف جملة فعلية على مثلها على الإعراب الأول في:{مِنْ وَرائِهِ} وعطف جملة فعلية على اسمية على الإعراب الثاني، وقيل: الجملة معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: يلقى فيها، ويسقى، فيكون المحل للمقدرة، وجملة: {(يُسْقى

)} إلخ تابعة لها.

{يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)}

الشرح: {يَتَجَرَّعُهُ} أي: يتحسى الجبار العنيد الماء الصديد، ويشربه لا بمرة واحدة، بل يبتلعه جرعة بعد جرعة لمرارته، وكراهته، وحرارته، ونتنه، فعن أبي أمامة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ} قال: «يقرّب إلى فيه فيكرهه، فإذا أدني منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه، قطّع أمعاءه حتى تخرج من دبره» .

ص: 26

يقول الله: {وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ} ويقول: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ» خرجه الترمذي، وقال: حديث غريب. انتهى. قرطبي.

{وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ:} ولا يقارب أن يبتلعه، فكيف تكون الإساغة، فهو كقوله تعالى:

{لَمْ يَكَدْ يَراها} أي: لم يقرب من رؤيتها، فكيف يراها؟! وساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغا إذا كان سلسا سهلا، وقيل:{يَكادُ} صلة؛ أي: يسيغه بعد إبطاء. {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ} أي: يأتيه أسباب الموت من كل جهة، عن يمينه وشماله، ومن فوقه، وتحته، ومن قدامه، وخلفه. وقيل: إنه لا يبقى عضو من أعضائه إلا وكل به نوع من العذاب، لو مات سبعين مرة لكان أهون عليه من نوع منها في فرد لحظة: إما حية تنهشه، أو عقرب تلدغه، أو نار تسفعه، أو قيد برجليه، أو غل في عنقه، أو سلسلة يقرن بها، أو تابوت يكون فيه، أو زقوم، أو حميم، أو غير ذلك من أنواع العذاب.

{وَما هُوَ بِمَيِّتٍ} أي: لا يموت، فيستريح، وقال ابن جريح: تعلق روحه في حنجرته، فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه، فتنفعه الحياة، ونظيره قوله تعالى:

{ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها} وقال الشاعر: [الطويل]

ألا من لنفس لا تموت فينقضي

شقاها، ولا تحيا حياة لها طعم

{عَذابٌ غَلِيظٌ} أي: شديد متواصل الآلام من غير فتور.

بعد هذا؛ فالموت: انتهاء الحياة بخمود حرارة البدن، وبطلان حركته، وموت القلب: قسوته، فلا يتأثر بالمواعظ، ولا ينتفع بالنصائح، أما الميت والميتة بفتح الميم وسكون الياء فيهما، فهو من فارقت روحه جسده، وجمعه: أموات، وأما المشدد فهو الحي الذي سيموت، وعليه قوله تعالى:

{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ،} وجمعه موتى، قال الإمام علي-كرم الله وجهه-:[البسيط]

ففز بعلم، ولا تجهل به أبدا

فالنّاس موتى، وأهل العلم أحياء

هذا وقد قال بعض الأدباء في الفرق بين المشدد والمخفف: [الطويل]

أيا سائلي تفسير ميت وميّت

فدونك قد فسّرت ما عنه تسأل

فمن كان ذا روح، فذلك ميّت

وما الميت إلاّ من إلى القبر يحمل

هذا هو الأصل الغالب في الاستعمال، وقد يتعاوضان كما في قول ابن الرعلاء الغساني:[الخفيف]

ليس من مات فاستراح بميت

إنّما الميت ميّت الأحياء

إنما الميت من يعيش كئيبا

كاسفا باله قليل الرّجاء

ص: 27

أقول: ومن هذا ما في الآية رقم [27] من سورة (آل عمران)، وما في الآية رقم [95] من سورة (الأنعام) حيث استعمل المشدد فيهما لفاقد الحياة والروح، كما هو واضح فيهما. هذا؛ ولا تنس: أن أصل ميت المشدد (ميوت)؛ لأنه من: مات يموت، فقل في إعلاله: اجتمعت الياء والواو: وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، وقل مثله في إعلال سيّد، وهيّن، وصيّب، ونحو ذلك، وانظر شرح (كاد) في الآية رقم [117] من سورة (التوبة) أو الآية رقم [73] من سورة (الإسراء)، والله ولي التوفيق.

الإعراب: {يَتَجَرَّعُهُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى «الجبار العنيد» والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر صفة {ماءٍ،} أو هي في محل نصب حال من نائب فاعل {(يُسْقى)،} أو هي مستأنفة، لا محل لها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {يَكادُ:} مضارع ناقص، واسمه يعود إلى الجبار، وجملة:{يُسِيغُهُ} في محل نصب خبره، وجملة:{وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ:} معطوفة على ما قبلها على جميع الوجوه المعتبرة فيها. (يأتيه): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والهاء مفعول به. {الْمَوْتُ:} فاعل. {مِنْ كُلِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {الْمَوْتُ،} و {كُلِّ:}

مضاف، و {مَكانٍ:} مضاف إليه، وجملة: {(يَأْتِيهِ

)} إلخ معطوفة على ما قبلها. {وَما:}

الواو: واو الحال. (ما): نافية حجازية تعمل عمل ليس. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع اسمها. {بِمَيِّتٍ} الباء: حرف جر صلة. (ميت): خبر ما منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وإن اعتبرت (ما) مهملة؛ فالباء تكون زائدة في خبر المبتدأ، وعلى الاعتبارين فالجملة اسمية، وهي في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الواو، والضمير، {وَمِنْ وَرائِهِ:}

متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة. {عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر. {غَلِيظٌ:}

صفة، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها، أو هي مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر.

{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اِشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18)}

الشرح: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} أي: صفة الذين كفروا بربهم التي هي مثل في الغرابة، ووقوع المثل بمعنى: الصفة موجود في قوله تعالى: {ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} وأنكر أبو علي الفارسي وقوع المثل بمعنى: الصفة، وقال: معناه الشبه، ألا تراه يجري مجراه في مواضعه، ومتصرفاته، كقولك: مررت برجل مثلك، كما تقول: مررت برجل شبهك،

ص: 28

وقال الفراء: المثل مقحم للتوكيد. {كَرَمادٍ:} هو ما يسقط من الحطب والفحم بعد إحراقه بالنار. {اِشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} أي: فنسفته، وطيرته، ولم تبق منه شيئا. {فِي يَوْمٍ عاصِفٍ:} وصف اليوم بالعصوف، والعصوف من صفة الريح؛ لأن الريح تكون فيه، كقولك: يوم بارد، ويوم حار، وليلة ماطرة؛ لأن الحر والبرد والمطر توجد فيهما وهذا يسمى بالمجاز العقلي، وقيل:

معناه في يوم عاصف الريح؛ لأنه قد تقدم ذكرها.

{لا يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ:} المعنى: أنهم لا يجدون ثوابا في الآخرة للأعمال الصالحة التي عملوها في الدنيا، وأملوا نفعا من ورائها. {ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} أي: ذلك هو الخسران الكبير؛ أي: لأن أعمالهم ضلت، وهلكت، فلا يرجى عودها، وإنما جعله الله كبيرا بعيدا لعدم استدراكه بالموت وضياعه، وانظر الآية رقم [3] هذا ومثل هذه الآية في بيان ضياع أعمال الكافر قوله تعالى في سورة (النور) رقم [39] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً..}. إلخ وقوله تعالى في سورة (الفرقان) رقم [23]:

{وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً} .

تنبيه: في الآية الكريمة التشبيه التمثيلي بقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ} وهو ما انتزع من متعدد، فالمشبه مركب من الذين كفروا، وأعمالهم الصالحة التي يقومون بها في حياتهم، والمشبه به مركب من الرماد، واشتداد الريح، واليوم العاصف، وجه الشبه أن الريح العاصف تطير الرماد، وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى له أثر، فكذلك كفرهم أبطل أعمالهم وأحبطها بحيث لا تنفعهم فتيلا.

تنبيه: في الآية الكريمة مثل ضربه الله تعالى لأعمال الكفار التي لم ينتفعوا بها، ووجه المشابهة بين هذا المثل، وبين هذه الأعمال هو أن الريح العاصف تطير الرماد، وتفرق أجزاءه حيث لا يبقى منه شيء، وكذلك أعمال الكفار تبطل وتذهب بسبب كفرهم حتى لا يبقى منها شيء. وما أحراك أن تنظر ما ذكرته في سورة (التوبة) رقم [55] وانظر الآية رقم [15] من سورة (هود) عليه السلام تجد فيهما الدواء الشافي لقلبك، والغذاء الكافي لروحك.

الإعراب: {مَثَلُ:} مبتدأ، اختلف في خبره، فقال سيبويه: محذوف، التقدير: فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا، وقال الخليل: خبره جملة: {أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ} أي: صفة الذين كفروا بربهم أعمالهم

إلخ كقولك: قولي: يقوم زيد. وانظر الشرح. وقال الفراء: المثل مقحم للتأكيد، والمعنى: الذين كفروا بربهم أعمالهم

إلخ. والعرب تفعل ذلك كثيرا بالمثل، وانظر الآية رقم [35] من سورة (الرعد)، و {مَثَلُ} مضاف، و {الَّذِينَ} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة، وجملة:{كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} صلة الموصول، لا محل لها، {أَعْمالُهُمْ:}

مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {كَرَمادٍ:} متعلقان بمحذوف

ص: 29

خبر المبتدأ، وإن اعتبرت الكاف اسما فهي الخبر، وتكون مضافة و (رماد) مضاف إليه، والجملة الاسمية:{أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ} مستأنفة، أو هي في محل نصب حال من واو الجماعة، وهذان الاعتباران إنما هما على رأي: سيبويه، وهي في محل رفع خبر المبتدأ على رأي: الخليل والفراء، مع اختلاف تقديرهما، وقيل:{أَعْمالُهُمْ} بدل اشتمال من {مَثَلُ،} و {كَرَمادٍ} الخبر.

{اِشْتَدَّتْ:} ماض، والتاء للتأنيث. {بِهِ:} متعلقان به. {الرِّيحُ:} فاعله. {فِي يَوْمٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {عاصِفٍ:} صفة يوم، وانظر الشرح، وقرئ بإضافة يوم إلى عاصف بدون تنوين، وجملة:{اِشْتَدَّتْ..} . إلخ في محل جر صفة رماد. {لا:} نافية. {يَقْدِرُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، أو هي في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا بالإضافة، أو من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط. {مِمّا:} متعلقان بمحذوف حال من شيء، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:(من)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: من الذي كسبوه، أو من شيء كسبوه، وعلى اعتبار (ما): مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل جر بمن، التقدير: من كسبهم، واعتبارها موصوفة ضعيف معنى. {عَلى شَيْءٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ ثان. {الضَّلالُ:} خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ الأول. هذا؛ وإن اعتبرت الضمير فصلا ف:{الضَّلالُ} خبر ذلك، {الْبَعِيدُ:} صفة الضلال، والجملة الاسمية:{ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (20)}

الشرح: {أَلَمْ تَرَ:} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به أمته، وقيل: لكل واحد على التلوين. انتهى. بيضاوي. والرؤية هنا قلبية؛ لأن المعنى: ألم تنظر بعين البصيرة إلى خلق السموات والأرض. {بِالْحَقِّ:} بالحكمة البالغة، والوجه الذي يحق أن يخلق عليه، وقرئ:

«(خالق)» . {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ:} يعدمكم، ويهلككم أيها الناس. {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ:} أفضل وأطوع منكم، كما قال تعالى:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ} والمعنى: إن الذي قدر على خلق السموات والأرض قادر على إفناء قوم وإماتتهم، وإيجاد خلق سواهم؛ لأن القادر لا يصعب عليه شيء. {وَما ذلِكَ} أي: الاستبدال المذكور. {عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ} أي:

ص: 30

بمتعذر، أو متعسر، فإن الله قادر لذاته لا اختصاص له بمقدور دون مقدور، ومن كان هذا شأنه كان جديرا بأن يؤمن به ويعبد، رجاء لثوابه، وخوفا من عقابه، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 و 89].

الإعراب: {أَلَمْ} الهمزة: حرف استفهام، وتقرير. (لم): حرف نفي وقلب وجزم. {تَرَ:}

مضارع مجزوم ب (لم)، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهِ:}

اسمها. {خَلَقَ:} ماض، وفاعله يعود إلى الله. {السَّماواتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم. {وَالْأَرْضَ:} معطوف على ما قبله. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بالفعل خلق، أو هما متعلقان بمحذوف صفة مفعول مطلق محذوف، التقدير: خلقا ملتبسا بالحق، وجملة:{خَلَقَ..} . إلخ في محل رفع خبر {أَنَّ،} وأن واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي {تَرَ،} والجملة الفعلية: {أَلَمْ تَرَ..} .

إلخ مستأنفة، لا محل لها. {أَنَّ:} حرف شرط جازم. {يَشَأْ:} مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى {اللهِ،} ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {يُذْهِبْكُمْ:} مضارع جواب الشرط، والفاعل يعود إلى {اللهِ،} والكاف مفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية، و {أَنَّ} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. (يأت): مضارع معطوف على جواب الشرط مجزوم مثله، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى الله. {بِخَلْقٍ:} متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به.

{جَدِيدٍ:} صفة خلق، هذا؛ ويجوز في العربية نصب (يأت) ورفعه، وهذا على القاعدة:«إذا عطف مضارع بالواو، أو بالفاء على جواب الشرط يجوز رفعه ونصبه وجزمه» . قال ابن مالك رحمه الله تعالى: [الرجز]

والفعل من بعد الجزا إن يقترن

بالفا، أو الواو بتثليث قمن

ولم أجد من قرأ بنصب الفعل، أو جزمه، وقد قرئ بالرفع والنصب والجزم في الآية رقم [284] من سورة (البقرة). {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية حجازية تعمل عمل «ليس» . {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع اسمها، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {عَلَى اللهِ:} متعلقان بما بعدهما. {بِعَزِيزٍ:} الباء: حرف جر صلة.

(عزيز): خبر (ما) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وإن اعتبرت (ما) مهملة فالباء زائدة في خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَما ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وقيل: معطوفة على ما قبلها، أو في محل نصب حال، ولا وجه له البتة.

ص: 31

{وَبَرَزُوا لِلّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنّا كُنّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21)}

الشرح: {وَبَرَزُوا لِلّهِ جَمِيعاً} أي: برز الكفار من قبورهم يوم القيامة للحساب والجزاء، والبروز: الظهور، ومعنى {لِلّهِ} أي: لأجل أمر الله إياهم بالبروز، وهذا يكون بعد النفخة الثانية، كما قال تعالى:{ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ} . فقال الضعفاء: أي: الأتباع.

{لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} أي: عن الإيمان في الدنيا، وهم القادة، والرؤساء. {إِنّا كُنّا لَكُمْ تَبَعاً} أي: تابعين لكم في تكذيب الرسل، وتبع يجوز أن يكون مصدرا، على حذف مضاف؛ أي:

ذوي تبع، ويجوز أن يكون جمع تابع، مثل راصد، ورصد، وباقر، وبقر، وخادم، وخدم.

{فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّا:} دافعون عنا، يقال: أغنى عنه: إذا دفع عنه الأذى. وأغناه: إذا، أوصل إليه النفع. {مِنْ عَذابِ اللهِ} أي: الذي سيحل بنا بسبب كفرنا، وضلالنا.

قالوا: أي: القادة والسادة مجيبين للضعفاء. {لَوْ هَدانَا اللهُ} أي: للإيمان واتباع الرسل.

{لَهَدَيْناكُمْ} أي: ولكن ضللنا سواء السبيل، فأضللناكم، وقيل: المعنى: لو نجانا الله من العذاب لنجيناكم منه. {سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا} أي: مستو علينا الصبر والجزع، والجزع أبلغ من الحزن؛ لأنه يصرف الإنسان عما هو بصدده، ويقطعه، والجزع عدم الصبر، أما الحزن فقد يكون معه الصبر؛ لذا كان الحزن مباحا، والجزع محرما مذموما. {ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ} أي:

من مهرب وملجأ، ولا منجى مما نحن فيه. هذا؛ ويجوز أن يكون مصدرا كالمغيب، والمشيب، وأن يكون اسم مكان كالمبيت والمصيف. هذا؛ وانظر شرح:{سَواءٌ} في الآية رقم [10] من سورة (الرعد).

تنبيه: قال محمد بن كعب القرظي-رضي الله عنه: بلغني: أن أهل النار يستغيثون بالخزنة، كما قال الله تعالى:{وَقالَ الَّذِينَ فِي النّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ} فردت عليهم الخزنة: {قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى} فردت الخزنة: {فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ} أي: في ضياع، فلما يئسوا مما عند الخزنة {وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ} سألوا الموت، فلا يجيبهم ثمانين سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوما، واليوم كألف سنة مما تعدون، ثم يجيبهم بقوله:{إِنَّكُمْ ماكِثُونَ} فلما يئسوا مما عنده، قال بعضهم لبعض: تعالوا فلنصبر كما صبر أهل الطاعة لعل ذلك ينفعنا، فصبروا، وطال صبرهم، فلم ينفعهم، وجزعوا، فلم ينفعهم، فعند ذلك قالوا:{سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا..} .

إلخ. انتهى. خازن.

ص: 32

تنبيه: الأفعال: (برزوا)، (قال)، (قالوا). في هذه الآية، والأفعال:(قال)، (قضي) في الآية التالية، والفعل:(أدخل) في الآية التالية لها أيضا كلها بلفظ الماضي، وهي تنص على شيء يقع في المستقبل، بلا ريب، والتعبير بالأفعال الماضية بدل الأفعال المستقبلة، إنما هو لتحقق وقوع ما يذكر، وهذا التعبير مستعمل في القرآن الكريم بكثرة، مثل قوله تعالى:{أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} والمراد بأمر الله الحشر، والنشر

إلخ، وهذا الاستعمال، إنما هو فن من فنون البلاغة، ألا فليتنبه العالمون.

الإعراب: {وَبَرَزُوا:} الواو: حرف استئناف. (برزوا): ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {لِلّهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما.

{جَمِيعاً:} حال من واو الجماعة، فيها معنى التأكيد. {فَقالَ:} الفاء: حرف عطف. (قال الضعفاء): ماض وفاعله. {لِلَّذِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{اِسْتَكْبَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها، وجملة: {(قالَ

)} إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، وحذفت نونها للتخفيف، وبقيت الألف دليلا عليها. {كُنّا:} ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمها. {لَكُمْ:} متعلقان بما بعدهما على اعتباره مصدرا، أو اسم فاعل، وقيل: متعلقان بمحذوف حال منه، كان نعتا له

إلخ {تَبَعاً:} خبر (كان)، وجملة:{كُنّا..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:

{إِنّا..} . إلخ في محل نصب مقول القول. {فَهَلْ:} الفاء: حرف استئناف. (هل): حرف استفهام. {أَنْتُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {مُغْنُونَ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وفاعله مستتر فيه. {عَنّا:} متعلقان ب: {مُغْنُونَ} . {مِنْ عَذابِ:} متعلقان به أيضا، وقيل: متعلقان بمحذوف حال مما بعدهما على مثال ما سبق، و {عَذابِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله. {مِنْ:} حرف جر صلة.

{شَيْءٍ:} مفعول به لاسم الفاعل {مُغْنُونَ} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وأجاز أبو البقاء أن يكون شيء واقعا موقع المصدر؛ أي: غناء، فيكون {مِنْ عَذابِ} متعلقين ب:{مُغْنُونَ،} والجملة الاسمية: {فَهَلْ أَنْتُمْ..} . إلخ مستأنفة، وهي من مقول الضعفاء. تأمل.

{قالُوا:} ماض وفاعله، والألف للتفريق. {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.

{هَدانَا:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، و (نا): مفعول به أول، والثاني محذوف، تقديره: للإيمان. {اللهِ:} فاعل، والجملة الفعلية:{هَدانَا اللهُ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَهَدَيْناكُمْ:} فعل وفاعل، ومفعول به أول، والثاني محذوف، التقدير: لهديناكم إليه، واللام واقعة في جواب {لَوْ،} والجملة الفعلية جواب

ص: 33

{لَوْ} لا محل لها. و {لَوْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول. وجملة: (قالوا

) إلخ مستأنفة، لا محل لها. {سَواءٌ:} خبر مقدم. {عَلَيْنا:} متعلقان ب: {سَواءٌ} . {أَجَزِعْنا:}

الهمزة: حرف استفهام، وتسوية. (جزعنا): فعل وفاعل، وهمزة التسوية والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ مؤخر. {أَمْ:} حرف عطف معادل لهمزة التسوية. {صَبَرْنا:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية هذه مؤولة بمصدر، ومعطوف على سابقه، وتقدير الكلام: جزعنا، وصبرنا سواء. هذا؛ وجوز اعتبار سواء مبتدأ، والمصدر المؤول خبرا عنه، والأول أقوى لأن سواء نكرة، كما ترى، ولا مسوغ لوقوعه مبتدأ، وعلى الوجهين فالجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {ما:} نافية. {لَنا:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْ:} حرف جر صلة.

{مَحِيصٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. هذا ويجوز اعتبار {ما} حجازية تعمل عمل «ليس» والإعراب لا يتغير كثيرا، والجملة الاسمية على الاعتبارين في محل نصب مقول القول أيضا.

{وَقالَ الشَّيْطانُ لَمّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22)}

الشرح: {وَقالَ الشَّيْطانُ لَمّا قُضِيَ الْأَمْرُ:} يعني لما فرغ منه، وانتهى الحساب، وأدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فيجتمع أهل النار على إبليس اللعين، ويأخذون في لومه، وتقريعه، وتوبيخه، فيقوم فيهم خطيبا، ويقول لهم:{إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} يعني:

البعث، والجنة، والنار، وثواب المطيع، وعقاب العاصي، فصدقكم وعده. {وَوَعَدْتُكُمْ:} أن لا بعث، ولا جنة، ولا نار، ولا ثواب، ولا عقاب، {فَأَخْلَفْتُكُمْ} أي: فقد جعل تبين خلف وعده كالإخلاف منه. {وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ:} تسلط، وقهر، فألجئكم إلى الكفر، والمعاصي. أو المعنى: لم آتكم بحجة على ما وعدتكم به، وزينته لكم في الدنيا، وانظر التوسع في شرح:{سُلْطانٍ} في الآية رقم [99] من سورة (النحل).

{إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ} أي: إلا دعائي إياكم إلى الكفر، والمعاصي بتسويلي، وتزييني، وهو ليس من باب القهر والجبر. {فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} أي: أسرعتم إلى إجابتي. {فَلا تَلُومُونِي} أي: على وسوستي؛ لأنكم عرفتم عداوتي لكم، {وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ:} حيث سارعتم إلى طاعتي، وخالفتم، أوامر ربكم، وكان الواجب أن لا تلفتوا إلي، ولا تسمعوا قولي، فلما رجحتم قولي، ووسوستي على

ص: 34

الدلائل الظاهرة، كان اللوم بكم أولى بإجابتي ومتابعتي من غير حجة ولا برهان. {ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} أي: بمغيثكم من العذاب، ومنقذكم منه. {وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ:} بمغيثي ومنقذي، والصارخ، والمستصرخ: هو الذي يطلب النصرة والمعاونة، والمصرخ: هو المغيث، قال سلامة بن جندل:[البسيط]

كنّا إذا ما أتانا صارخ فزع

كان الصّراخ له قرع الظّنابيب

الظنابيب جمع ظنبوب، وهو حرف الساق اليابس من قدم، وقال أمية بن أبي الصلت:[الطويل]

ولا تجزعوا إنّي لكم غير مصرخ

وليس لكم عندي غناء ولا نصر

{إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} أي: كفرت بجعلكم إياي شريكا لله في عبادته، وتبرأت من ذلك، والمعنى: تنصل إبليس ممن تبعوه في الدنيا. {إِنَّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ:}

يحتمل أن يكون من تتمة كلام الشيطان، أو ابتداء كلام من الله تعالى، وفي حكاية أمثال ذلك لطف للسامعين، وإيقاظ لهم حتى يحاسبوا أنفسهم، ويتدبروا عواقبهم.

روى البغوي بسنده عن عقبة بن عامر-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة:

«فيقول عيسى: هل أدلكم على النبيّ الأميّ؟ فيأتوني، فيأذن الله لي أن أقوم فيثور من مجلسي أطيب ريح شمّها أحد حتّى آتي ربّي، فيشفّعني، ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظهر قدمي، ثمّ يقول الكفار: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم، فمن يشفع لنا؟ فيقولون: ما هو غير إبليس الذي أضلّنا، فيأتونه، فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم، فإنك أنت أضللتنا، فيقوم، فيثور من مجلسه أنتن ريح شمّها أحد، ثمّ تعظم جهنّم، ويقول عند ذلك: {إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ..}. إلخ» . وانظر ما ذكرته في الآية رقم [38] من سورة (مريم) عليها السلام، فإنه جيد.

تنبيه: {بِمُصْرِخِيَّ:} أصله بمصرخين لي، فحذفت اللام الجارة، ثم حذفت النون للإضافة على قاعدة جمع المذكر السالم، ثم أدغمت ياء الجمع بياء المتكلم؛ لأن الأولى ساكنة، والثانية متحركة، ثم حركت الياء الثانية بالفتحة طلبا للخفة، وتخلصا من توالي ثلاث كسرات، وقرئ بكسر الياء على أصل التخلص من التقاء الساكنين، أو إتباعا لكسرة الخاء. وجاء في حديث بدء الوحي «أو مخرجيّ هم؟». ولكن هنا أصله: أو مخرجون لي هم. فقلبت الواو ياء، ثم حصل الإدغام بعد حذف اللام الجارة، وحذف النون. تأمل. ولمكي كلام طويل في ذلك لا طائل تحته.

تنبيه: لعلك تدرك معي أن بين الآية الكريمة والحديث الشريف تعارضا، بل إن هذا التعارض موجود في الحديث ذاته، فقول الشيطان المذكور إنما هو بعد إدخال أهل الجنة الجنة، وإدخال أهل النار النار، والفراغ من الحكم بين العباد، والحديث الشريف نص في الشفاعة العظمى بدليل قول عيسى عليه الصلاة والسلام: هل أدلكم على النبي، وإني إزاء هذا التعارض

ص: 35

أقف مكتوف الأيدي، لا أحير جوابا، فمن كان عنده جواب فليتفضل بإرساله إلينا مشكورا، والله الموفق والمعين، وبه أستعين.

الإعراب: {وَقالَ الشَّيْطانُ:} ماض وفاعله. {لَمّا:} ظرف بمعنى: «حين» مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل (قال). {قُضِيَ:} ماض مبني للمجهول. {الْأَمْرُ:} نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {لَمّا} إليها. {الشَّيْطانُ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:}

اسمها. {وَعَدَكُمْ:} ماض، والكاف مفعول به، والفاعل يعود إلى {اللهَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ). {وَعْدَ:} مفعول مطلق، وهو مضاف، و {الْحَقِّ:} مضاف إليه، من إضافة الموصوف للصفة، وانظر تقدير الجملة المحذوفة في الشرح، وهي:(فصدقكم). وقول القرطبي: هو إضافة الشيء إلى نفسه، كقولهم: مسجد الجامع لا وجه له، والجملة الاسمية:

{إِنَّ اللهَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية: {(قالَ

)} إلخ مستأنفة، أو معطوفة على ما قبلها، لا محل لها على الاعتبارين. {(وَعَدْتُكُمْ):} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على خبر (إن)، وكذلك جملة:(أخلفتكم) معطوفة عليها أيضا. {وَما:}

الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {كانَ:} ماض ناقص. {لِي:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَلَيْكُمْ:} متعلقان بسلطان، أو بمحذوف حال منه، كان صفة له

إلخ، أو هما متعلقان بالخبر المحذوف، {مِنْ:} حرف جر صلة. {سُلْطانٍ:} اسم كان مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد-:{إِلاّ:}

أداة استثناء منقطع. {الشَّيْطانُ:} حرف مصدري ونصب يؤول مع الفعل بعده بمصدر في محل نصب على الاستثناء، التقدير: إلا دعائي إياكم. {فَاسْتَجَبْتُمْ:} الفاء: حرف عطف. (استجبتم): فعل وفاعل. {لِي:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {فَلا:} الفاء:

هي الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر. (لا): ناهية جازمة. {تَلُومُونِي:} مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ما ذكر حاصلا منكم فلا

إلخ. (لوموا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {أَنْفُسَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {لَمّا:} نافية حجازية تعمل عمل «ليس» . {أَنَا:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع اسمها. {بِمُصْرِخِكُمْ:} الباء: حرف جر صلة. (مصرخكم):

خبر ما منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ:} إعرابها مثل إعراب سابقتها بلا فارق، وهي معطوفة عليها.

{إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، والياء اسمها. {كَفَرْتُ:} فعل وفاعل. {بِما:} متعلقان بالفعل

ص: 36

قبلهما. {أَشْرَكْتُمُونِ:} ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والميم علامة جمع الذكور، وحركت بالضم لتحسين اللفظ، فتولدت واو الإشباع، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة مفعول به، والجملة الفعلية صلة (ما)، على اعتبارها موصولة، والعائد محذوف؛ إذ التقدير:

كفرت بالذي أشركتمونيه، وهو الله تعالى بطاعتكم إياي، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر، التقدير: كفرت بإشراككم إياي. {مِنْ قَبْلُ:} متعلقان بالفعل (أشركتم) على اعتبار (ما) مصدرية، ومتعلقان بالفعل {كَفَرْتُ} على اعتبار (ما) موصولة، وبني قبل على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى، وجملة:{كَفَرْتُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ مع الكلام قبلها في محل نصب مقول القول. {الشَّيْطانُ:} حرف مشبه بالفعل. {الظّالِمِينَ:} اسمها منصوب وعلامة نصبه

إلخ. {لَهُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر. {أَلِيمٌ:} صفته، والجملة الاسمية في محل رفع خبر {الشَّيْطانُ} . هذا؛ وإن اعتبرت {لَهُمْ} متعلقين بمحذوف خبر {الشَّيْطانُ،} فيكون {عَذابٌ} فاعلا، بمتعلقهما. هذا؛ والجملة الاسمية:{إِنَّ الظّالِمِينَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول على اعتبارها من مقول الشيطان، ومستأنفة على اعتبارها من مقول الله تعالى. تأمل، وتدبر.

{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23)}

الشرح: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا..} . إلخ: لما شرح الله حال الكفار الأشقياء بما تقدم من الآيات الكثيرة شرح أحوال السعداء، وما أعد لهم في الآخرة من الثواب العظيم، والأجر الجزيل؛ إذ اقتضت حكمة الله ورحمته أن لا يذكر التكذيب من الكافرين؛ إلا ويذكر التصديق من المؤمنين، ولا يذكر الإيمان، إلا ويذكر الكفر، ولا يذكر الجنة؛ إلا ويذكر النار، ولا يذكر الرحمة؛ إلا ويذكر الغضب والسخط؛ ليكون المؤمن راغبا، راهبا، خائفا، راجيا.

{بِإِذْنِ رَبِّهِمْ:} بأمره، وفضله، وإنعامه، وهذا يدل على أنهم لا يدخلون الجنة بعملهم إلا بعد إذنه تعالى وتكرمه عليهم، وقد تقدم معنا كثير من ذلك، وانظر الاحتراس في الآية رقم [29] من سورة (الرعد).

الإعراب: {وَأُدْخِلَ:} الواو: حرف استئناف، (أدخل): ماض مبني للمجهول، وقرئ «(وأدخل)» بضم اللام على أنه مضارع مرفوع فيكون فاعله مستترا تقديره:«أنا» . {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع نائب فاعل، أو في محل نصب مفعول به، وجملة:

{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ} معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {جَنّاتٍ:} منصوب على الظرفية المكانية عند بعض

ص: 37

النحاة، وفي مقدمتهم سيبويه، والمحققون وعلى رأسهم الأخفش ينصبونه على التوسع في الكلام. بإسقاط الخافض، لا على الظرفية، فهو منتصب انتصاب المفعول به على السعة، بإجراء اللازم مجرى المتعدي، ومثل ذلك قل في:«دخلت المدينة، ونزلت البلد، وسكنت الشام» . ويجب أن تلاحظ هنا أن الفعل متعد بالهمزة إلى الثاني، فعومل معاملة المفعول الواحد إذا كان الفعل ثلاثيا؛ أي: غير متعد بالهمزة، وعلامة نصب {جَنّاتٍ} الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، وجملة:{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} في محل نصب صفة {جَنّاتٍ} .

{خالِدِينَ:} حال من الموصول منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {فِيها:} متعلقان ب: {خالِدِينَ،} {بِإِذْنِ:}

متعلقان بمحذوف حال ثانية من واو الجماعة؛ أي: مأذونا لهم، و (إذن): مضاف، و {رَبِّهِمْ:}

مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. هذا؛ وأجيز تعليق {بِإِذْنِ} بالفعل (أدخل)، كما أجيز تعليقهما ب {خالِدِينَ،} وجملة: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {تَحِيَّتُهُمْ:} مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، أو لمفعوله حسب ما تراه في الشرح.

{فِيها:} متعلقان بالمصدر (تحية). {سَلامٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، وأجيز اعتبارها حالا من {الَّذِينَ،} وهي حال مقدرة، أو حال من المضمر في {خالِدِينَ،} فلا تكون حالا مقدرة، وأجيز أن تكون في موضع نصب صفة جنات. انتهى.

مكي. وينبغي أن تعلم أن الحال بالنسبة للزمان على ثلاثة أقسام: حال مقارنة، وهي الغالبة نحو قوله تعالى:{وَهذا بَعْلِي شَيْخاً،} وحال مقدرة، وهي المستقبلة، نحو قوله تعالى:{فَادْخُلُوها خالِدِينَ،} وحال محكية: وهي الماضية، نحو جاء زيد أمس راكبا.

هذا وقد قال أيضا: ونصب {جَنّاتٍ} على حذف الجر، وهو نادر لا يقاس عليه، تقول:

دخلت الدار، وأدخلت زيدا الدار، تريد: في الدار، والدليل على أن دخلت لا يتعدى أن نقيضه لا يتعدى، وهو خرجت، وكل فعل لا يتعدى نقيضه لا يتعدى هو. انتهى، مكي، ولكن ما ذكرته أولا هو المشهور عن سيبويه وغيره، فليتأمل. هذا وقد أجاز أبو البقاء عطف جملة:

{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ..} . إلخ بالبناء للمجهول على جملة: (برزوا)، أو على جملة:{فَقالَ الضُّعَفاءُ..} . إلخ. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24)}

الشرح: {أَلَمْ تَرَ:} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به أمته، وقيل: لكل واحد على التلوين.

والرؤية هنا قلبية؛ لأن المعنى: ألم تنظر أيها الإنسان بعين البصيرة إلى ضرب هذا المثل؟!

ص: 38

ومعنى ضرب مثلا: وضعه، ووصفه، وبينه. هذا؛ والمثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر، بينهما مشابهة ليتبين أحدهما من الآخر، ويصوره، وقيل: هو تشبيه شيء بشيء آخر.

هذا؛ ومثل بفتح الميم والثاء يأتي بمعنى: الصفة، كما رأيت في الآية رقم [18] وأيضا الآية رقم [35] من سورة (الرعد). هذا؛ وهو بكسر الميم وسكون الثاء، ومثله مثيل بمعنى: شبه وشبيه، فهو اسم متوغل في الإبهام، لا يتعرف بإضافته إلى الضمير، ولا إلى غيره من المعارف؛ ولذلك نعتت به النكرة في قوله تعالى حكاية عن قول فرعون وقومه:{أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ} ويوصف به المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، وتستعمل على ثلاثة، أوجه: الأول بمعنى: التشبيه كما رأيت، كقوله تعالى:{سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ،} والثاني بمعنى:

نفس الشيء وذاته كما في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} عند بعضهم؛ حيث قال: المعنى ليس كذاته شيء، والثالث زائدة، كما في قوله تعالى:{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} أي: بما آمنتم به.

هذا والمثل بفتح الميم والثاء هو: القول السائر بين الناس، والذي فيه غرابة من بعض الوجوه، والممثل بمضربه؛ أي: هو الحالة الأصلية التي ورد الكلام فيها، وما أكثر الأمثال في اللغة العربية، علما بأن ألفاظ الأمثال لا تغير، تذكيرا وتأنيثا، إفرادا وتثنية وجمعا، بل ينظر فيها دائما إلى مورد المثل، مثل (الصّيف ضيّعت اللّبن) فإنه يضرب لكل من فرط في تحصيل شيء في أوانه، ثم يطلبه بعد فواته. هذا؛ ويجمع مثل بكل معانيه على أمثال، كما في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ} .

{كَلِمَةً:} فيها ثلاث لغات؛ الأولى: كلمة على وزن نبقة، وهي الفصحى، ولغة أهل الحجاز، وبها نطق القرآن الكريم في آيات كثيرة، وجمعها: كلم كنبق، والثانية: كلمة على وزن سدرة، والثالثة: كلمة على وزن تمرة، وهما لغتا تميم، وجمع الأولى كلم كسدر، والثانية كلم كتمر، وكذلك كل ما كان على وزن فعل، نحو كبد وكتف، فإنه يجوز فيه اللغات الثلاث، فإن كان الوسط حرف حلق، جاز فيه لغة رابعة، وهي إتباع الأول للثاني في الكسر، نحو فخذ وشهد، وهي-أي: الكلمة-في الأصل: قول مفرد، مثل: محمد، وقام، وقعد، وفي، ولن، وقد تطلق على الجمل المفيدة، كما في قوله تعالى:{كَلاّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها} إشارة إلى قوله:

{رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99 - 100] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد» : [الطويل]

ألا كلّ شيء-ما خلا الله-باطل

وكلّ نعيم-لا محالة-زائل

المراد ب: «كلمة» الشطر الأول بكامله، وتقول: قال فلان كلمة، والمراد بها كلام كثير، وهو شائع ومستعمل عربية في القديم والحديث، وانظر شرح الكلام في الآية رقم [54] من سورة

ص: 39

(يوسف) عليه السلام، بعد هذا فالمراد بالكلمة كلمة:(لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وهي كلمة الإيمان، والمراد بالشجرة شجرة النخل، وبه قال ابن عباس، وابن مسعود، وأنس، ومجاهد وعكرمة، والضحاك-رضي الله عنهم أجمعين-.

عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«أخبروني عن شجرة شبه الرجل؟» . أو قال: «كالرجل المسلم لا يتحاتّ ورقها، تؤتي أكلها كلّ حين؟» . قال ابن عمر: فوقع في نفسي: أنها النخلة، ورأيت أبا بكر، وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلّم، فلما لم يقولوا شيئا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هي النخلة» . قال: فلمّا قمنا قلت لعمر: يا أبتاه والله لقد وقع في نفسي أنها النخلة! فقال: ما منعك أن تتكلم؟! قلت: فلم أركم تتكلمون، فكرهت أن أتكلّم، أو أقول شيئا. فقال عمر: لأن تكون قلتها أحبّ إليّ من كذا وكذا-. متفق عليه. انتهى. خازن.

وعن أنس-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ مثل الإيمان كمثل شجرة ثابتة، الإيمان عروقها، والصّلاة أصلها، والزّكاة فروعها، والصّيام أغصانها، والتّأذّي في الله نباتها، وحسن الخلق ورقها، والكفّ عن محارم الله ثمرتها» . انتهى. قرطبي. وعنه صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمن كالنخلة، إن صاحبته نفعك، وإن جالسته نفعك، وإن شاورته نفعك، كالنخلة كلّ شيء منها ينتفع به، وقال: كلوا من عمّتكم» . يعني النخلة. ويروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أكرموا عمّاتكم النخل فإنّهنّ المطعمات في المحل» .

{أَصْلُها ثابِتٌ} أي: جذورها متشعبة في الأرض وثابتة وقوية، وكذلك الإيمان في قلب المؤمن ثابت وراسخ. {وَفَرْعُها فِي السَّماءِ} أي: فروعها باسقة ومرتفعة إلى أعلى، وكذلك الإيمان، كما ستعرفه في الآية التالية.

الإعراب: {أَلَمْ تَرَ:} انظر الآية رقم [19]{كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب حال من {مَثَلاً} تقدم عليه، وعلى العامل. التقدير: ألم تر ضرب الله مثلا حال كونه مسئولا عن حاله من غرابته وإحكامه وغير ذلك. والاستفهام معلق للفعل قبله عن العمل لفظا.

{ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً:} ماض وفاعله ومفعوله. {كَلِمَةً:} بدل من {مَثَلاً} . {طَيِّبَةً:} صفة {كَلِمَةً:} {كَشَجَرَةٍ:} متعلقان بمحذوف صفة ثانية ل: {كَلِمَةً،} وهذا على اعتبار {ضَرَبَ} متعديا لمفعول واحد، وقد رأيت شرحه ومعناه، فإن كان بمعنى: صير، فهو متعد لاثنين:

{كَلِمَةً} المفعول الأول و {مَثَلاً} المفعول الثاني تقدم على الأول، بمعنى: جعلها مثلا، وعلى هذا {كَشَجَرَةٍ} خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي كشجرة طيبة، كما قاله ابن عطية، وأجازه الزمخشري، ولكنه بدأ بالأول. انتهى. جمل نقلا عن كرخي. والجملة:{كَيْفَ..} . إلخ في محل نصب سدت مسد مفعولي الفعل قبلها، وجملة:{أَلَمْ تَرَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

ص: 40

{طَيِّبَةً:} صفة شجرة. {أَصْلُها:} مبتدأ، وها: في محل جر بالإضافة. {ثابِتٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل جر صفة ثانية ل:(شجرة)، أو في محل نصب حال منها بعد وصفها بما تقدم، (فرعها): مبتدأ، و (ها): في محل جر بالإضافة. {فِي السَّماءِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها.

{تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)}

الشرح: {تُؤْتِي..} . إلخ: تعطي النخلة ثمرها كل وقت بأمر ربها. هذا؛ والحين في اللغة:

الوقت، يطلق على القليل والكثير، واختلفوا في مقداره هنا، فقال مجاهد وعكرمة: الحين هنا سنة كاملة؛ لأن النخلة تثمر في كل سنة مرة واحدة. وقال سعيد بن جبير، وقتادة، والحسن: ستة أشهر، يعني من وقت طلعها إلى حين انصرامها. وروي ذلك عن ابن عباس أيضا. وقال علي بن أبي طالب: ثمانية أشهر، يعني أن مدة حملها باطنا وظاهرا ثمانية أشهر. وقيل: أربعة أشهر، من حين ظهور حملها إلى إدراكها. وقال سعيد بن المسيب: شهران، يعني من وقت أن يؤكل منها إلى صرامها. وقال الربيع بن أنس:{كُلَّ حِينٍ} يعني غدوة وعشية؛ لأن ثمر النخل يؤكل أبدا، ليلا ونهارا، صيفا وشتاء، فيؤكل منها الجمار والطلع، والبلح والبسر، والمنصف والرطب، وبعد ذلك يؤكل التمر اليابس إلى حين الطري الرطب، فأكلها دائم في كل وقت. وهذا القول هو الجدير بالاعتبار، انتهى. خازن، وكذلك المؤمن لا يخلو من الخير في الأوقات كلها.

قال الجلال: كذلك كلمة الإيمان ثابتة في قلب المؤمن، وعمله يصعد إلى السماء، ويناله بركته وثوابه كل وقت. انتهى. والحكمة في تمثيل الإيمان بالشجرة؛ لأن الشجرة لا تكون شجرة إلا بثلاثة أشياء: عرق راسخ، وأصل قائم، وفرع عال، كذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء:

تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأبدان. انتهى. جمل نقلا عن كرخي. وفحوى الآيتين: أن فيهما التشبيه التمثيلي، وهو المنتزع من متعدد، وهو ما رأيت شرحه. {وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنّاسِ:} لأن في ضربها زيادة إفهام وتذكير، وتصوير للمعاني، وتقريب لها من الحس.

{لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ:} لعلهم يتعظون، فيعتبرون. هذا وفي قوله:{تُؤْتِي أُكُلَها} مجاز عقلي؛ لأن النخلة لا تؤتي الأكل، وإنما يأتي به الله تعالى.

الإعراب: {تُؤْتِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«هي» يعود إلى الشجرة. {أُكُلَها:} مفعول به، و (ها): في محل جر بالإضافة.

{كُلَّ:} ظرف زمان متعلق بالفعل {تُؤْتِي،} و {كُلَّ} مضاف، و {حِينٍ} مضاف إليه. {بِإِذْنِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، أو بمحذوف حال من الفاعل المستتر، و (إذن) مضاف، و {رَبِّها}

ص: 41

مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله، و (ها): في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة:{تُؤْتِي..} . إلخ في محل جر صفة ثانية ل: (شجرة)، أو في محل نصب حال منها بعد وصفها بما تقدم، والاستئناف ممكن. تأمل. {وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ:}

مضارع وفاعله ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {لِلنّاسِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {لَعَلَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها، وجملة:{يَتَذَكَّرُونَ} في محل رفع خبر (لعلّ)، والجملة الاسمية تعليل لضرب الأمثال، وانظر مثل هذا الترجي في الآية رقم [2] من سورة (الرعد). تأمل، وتدبر.

{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26)}

الشرح: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ:} المراد به كلمة الشرك. {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ:} المراد بها شجرة الحنظل، قاله أنس بن مالك، ومجاهد، وفي رواية عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنها الثوم.

{اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ:} اقتلعت من أصلها. {ما لَها مِنْ قَرارٍ:} يعني ما لهذه الشجرة من ثبات في الأرض؛ لأنها ليس لها أصل ثابت في الأرض، ولا فرع صاعد في السماء، كذلك الكافر لا خير فيه، ولا يصعد له قول طيب، ولا عمل صالح، ولا لاعتقاده أصل ثابت، فهذا وجه تمثيل الكافر بهذه الشجرة الخبيثة، وهذا هو التشبيه التمثيلي الذي رأيت مثله في الآية السابقة.

فعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع عليه رطب، فقال:

{مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها} قال: هي النّخلة. {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ} قال: هي الحنظلة». أخرجه الترمذي مرفوعا، وموقوفا، وقال: الموقوف أصح.

الإعراب: {وَمَثَلُ:} الواو: حرف عطف. (مثل): مبتدأ، ومثل مضاف، و {كَلِمَةٍ:} مضاف إليه. {خَبِيثَةٍ:} صفة كلمة. {كَشَجَرَةٍ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {خَبِيثَةٍ:} صفة (شجرة). {اُجْتُثَّتْ:} ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث، ونائب الفاعل يعود إلى شجرة، والجملة الفعلية في محل جر صفة ثانية ل:(شجرة)، أو هي في محل نصب حال منها بعد وصفها بما تقدم. {مِنْ فَوْقِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {فَوْقِ} مضاف، و {الْأَرْضِ} مضاف إليه. {ما:} نافية. {لَها:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْ:} حرف جر صلة. {قَرارٍ:}

مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. هذا؛ ويجوز اعتبار {ما} حجازية، والإعراب واضح عليه، والجملة الاسمية على الاعتبارين تصلح لأن تكون صفة ثانية ل:(شجرة)، وأن تكون حالا من نائب الفاعل، والجملة الاسمية:{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

ص: 42

{يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (27)}

الشرح: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ} أي: الذي ثبت بالحجة عندهم، وتمكن من قلوبهم. {فِي الْحَياةِ الدُّنْيا:} فلا يزلون إذا افتتنوا في دينهم كزكريا، ويحيى، وجرجيس، وشمعون، والذين فتنهم أصحاب الأخدود، وكالسحرة الذين صلبهم فرعون، ويلحق بهم من أوذوا، أو فتنوا من المسلمين، وعذبوا في الله كعمار بن ياسر، وأبيه، وبلال، وصهيب وغيرهم. {وَفِي الْآخِرَةِ} أي: في القبر حين يسألهم الملكان عن ربهم، ودينهم، ونبيهم، فيجيبون بالصواب. {وَيُضِلُّ اللهُ الظّالِمِينَ} أي: الكفار، فلا يهتدون للجواب بالصواب، بل يقولون: لا ندري. {وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ:} يعني من التوفيق، والخذلان، والهداية، والإضلال، والتثبيت، وعدمه، لا اعتراض عليه في جميع أفعاله، لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [27] من سورة (الرعد)، وانظر ما ذكرته من التعبير عن الكافرين بالظالمين ونحوه في الآية رقم [13].

تنبيه: كثير من المفسرين يقولون: إن المراد بقوله تعالى: {فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} سؤال القبر، والمراد بقوله:{وَفِي الْآخِرَةِ} يوم القيامة عند البعث والحساب، وأرى أن التفسير الأول أولى الأمور؛ الأول: أن معنى الحياة لا يكون لمن دفن تحت الأرض وفارق الدنيا. الثاني: أن كل من خرجت روحه من جسده قد انتقل من دار إلى دار، ومن حال إلى حال، والدار الثانية غير الأولى، والحال الثانية غير الأولى، وهو واضح بداهة. الثالث: قد ورد أن كل من مات فقد قامت قيامته، وانقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو غير ذلك. الرابع: لم يثبت أن ابن آدم يسأل بعد البعث والحشر من ربك ومن نبيك

إلخ، والذي ثبت أنه يسأل في القبر بعد الدفن، والأحاديث الشريفة كثيرة في هذا المعنى، وهي كلها مشفوعة بالآية الكريمة التي الكلام فيها أكتفي بما يلي:

عن أنس بن مالك-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ العبد إذا وضع في قبره، وتولّى عنه أصحابه، وإنّه ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا عنه، أتاه ملكان فيقعدانه، فيقولان له:

ما كنت تقول في هذا الرّجل محمّد؟ فأمّا المؤمن فيقول: أشهد أنّه عبد الله ورسوله، فيقال له:

انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا من الجنة، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: فيراهما جميعا، وأمّا الكافر، أو المنافق، فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيه، فيقال: لا دريت ولا تليت، ثمّ يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلاّ الثّقلين».

رواه البخاري، واللفظ له، ومسلم.

ص: 43

قال القرطبي: وقيل: إن سبب نزول هذه الآية ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف مساءلة منكر ونكير، وما يكون من جواب الميت قال عمر-رضي الله عنه: يا رسول الله! أيكون معي عقلي؟ قال: «نعم» . قال: كفيت إذا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.

الإعراب: {يُثَبِّتُ اللهُ:} مضارع وفاعله. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها.

{بِالْقَوْلِ:} متعلقان بالفعل يثبت. {الثّابِتِ:} صفة القول. {فِي الْحَياةِ:} متعلقان بالفعل {يُثَبِّتُ} . وقيل: متعلقان بمحذوف حال، وهو ضعيف. {الدُّنْيا:} صفة {الْحَياةِ} مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، وبعضهم يعتبره مضافا إليه، والأول أولى. {وَفِي الْآخِرَةِ:} معطوفان على ما قبلهما، وجملة:{يُثَبِّتُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وجملة:

{وَيُضِلُّ اللهُ..} . إلخ معطوفة عليها لا محل لها مثلها، وجملة:{وَيَفْعَلُ اللهُ..} . إلخ معطوفة أيضا. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: يفعل الذي، أو شيئا يشاؤه، وعلى اعتبار {ما} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: يفعل مشيئته. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28)}

الشرح: {أَلَمْ تَرَ:} انظر مثله في الآية رقم [19] و [24]{إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً} أي:

جعلوا بدل نعمة الله عليهم الكفر بأن وضعوه مكانها، فإنهم لما كفروها؛ سلبت منهم، فصاروا تاركين لها، محصلين الكفر مكانها، كأهل مكة، خلقهم الله تعالى، وأسكنهم حرمه، وجعلهم قوام بيته، ووسع عليهم أبواب رزقه، وشرفهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكفروا ذلك، فقحطوا سبع سنين، وأسروا، وقتلوا يوم بدر، وصيروا أذلاء، فصاروا مسلوبي النعمة، موصوفين بالكفر. وقال علي، وعمر-رضي الله عنهما: نزلت في الأفجرين من قريش: بني مخزوم، وبني أمية، فأما بنو أمية؛ فمتعوا إلى حين، وأما بنو مخزوم؛ فأهلكوا يوم بدر. وقيل: هم متنصرة العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه حين لطم الفزاري، فجعل عمر له القصاص بمثلها، فلم يرض، وأنف، فارتد متنصرا، ولحق بالروم في جماعة من قومه، ولما حضرته الوفاة ندم، فقال:[الطويل]

تنصّرت الأشراف من عار لطمة

وما كان فيها لو صبرت لها ضرر

تكنّفني منها لجاج ونخوة

وبعت لها العين الصّحيحة بالعور

فيا ليتني أرعى المخاض ببلدة

ولم أنكر القول الذي قاله عمر

ص: 44

أقول: يبعد أن تكون الآية نزلت في هؤلاء؛ لأن ما فعله جبلة وأصحابه كان في خلافة الفاروق-رضي الله عنه-وإن كان حكمها ومعناها ينطبقان عليهم، وعلى من حذا حذوهم إلى يوم القيامة. {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ:} أنزلوهم. {دارَ الْبَوارِ:} دار الهلاك، وهي جهنم. والبوار:

الهلاك، وفي المصباح: بار الشيء يبور بورا بالضم: هلك، وبار الشيء بوارا: كسد على الاستعارة؛ لأنه إذا ترك؛ صار غير منتفع به، فأشبه الهالك من هذا الوجه، وأرض بور: لم تزرع، وبور جمع: بائر، قال تعالى:{وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} ورجل بائر: فاسد، لا خير فيه، وفي الأساس: فلان له نوره، وعليك بوره. أي: هلاكه، ونزلت بوار على الكفار؛ أي: هلاك.

ومن المجازات: بارت البياعات: كسدت، وسوق بائرة، وبارت الأيم: إذا لم يرغب فيها، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعوذ من بوار الأيم، وبارت الأرض: إذا لم تزرع، وأرض بوار، وأرضون بور.

الإعراب: {أَلَمْ تَرَ:} انظر الآية رقم [19]{إِلَى الَّذِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، وهذا يفيد أن الرؤية بصرية لا قلبية، {بَدَّلُوا:} ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {نِعْمَتَ:} مفعول به أول، و {نِعْمَتَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {كُفْراً:} مفعول به ثان وقيل العكس؛ أي: {كُفْراً} هو المفعول الأول، و {نِعْمَتَ} هو المفعول الثاني، والمعنى لا يؤيده، وجملة:{بَدَّلُوا..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها، وجملة: {(أَحَلُّوا

)} إلخ معطوفة عليها لا محل لها مثلها، وإعرابها واضح و {دارَ} مضاف، و {الْبَوارِ} مضاف إليه.

{جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29)}

الشرح: {جَهَنَّمَ:} واد من أودية النار، أو المراد بها النار جميعها. {يَصْلَوْنَها:}

يحترقون فيها، ويقاسون حرها، وشدائدها، وفي المصباح صلي بالنّار، وصليها صليا من باب تعب: وجد حرها. {وَبِئْسَ الْقَرارُ} أي: المستقر، والمقر، وانظر شرح:{وَبِئْسَ} في الآية رقم [24] من سورة (الرعد).

الإعراب: {جَهَنَّمَ:} بدل، أو عطف بيان، أو تفسير ل:{دارَ الْبَوارِ،} أو هو منصوب بفعل محذوف، التقدير: يصلون جهنم، فعلى الأول لا يجوز الوقف على {دارَ الْبَوارِ،} وعلى الثاني يجوز الوقف، بل ويحسن. هذا؛ ولو رفع {جَهَنَّمَ} رافع بإضمار على معنى: هي جهنم، أو باعتباره مبتدأ، والجملة بعده خبره لجاز، ولكني لم أجد من قرأ به.

{يَصْلَوْنَها:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {جَهَنَّمَ،} أو من {قَوْمَهُمْ}

ص: 45

وهي مفسرة لا محل لها على اعتبار جهنم منصوبا بفعل محذوف. (بئس): ماض جامد دال على إنشاء الذم. {الْقَرارُ:} فاعله، والمخصوص بالذم محذوف، التقدير: المذمومة هي، وجملة:

{وَبِئْسَ الْقَرارُ} مستأنفة، لا محل لها. وقيل: حالية، ولا وجه له البتة؛ لأنها إنشائية.

{وَجَعَلُوا لِلّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النّارِ (30)}

الشرح: {وَجَعَلُوا لِلّهِ أَنْداداً} أي: اخترع، وابتدع الكفار، والمشركون أمثالا، وأشباها من الحجارة ونحوها يعبدونها من دون الله، وليس لله ندّ، ولا شبيه، ولا مثيل، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا! وأنداد جمع: ند، وهو المقاوم، والمضاهي، سواء أكان مثلا، أو ضدا، أو خلافا.

وقيل: هو الضد. وقيل: هو الكفء، والمثل. {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} أي: ليضلوا الناس عن طريق الهدى ودين الحق، وسبيل الله: هو دينه، وشرعه الذي أوحاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وانظر شرح:{سَبِيلِي} في الآية رقم [108] من سورة (يوسف) عليه السلام. هذا؛ وقرئ الفعل بفتح الياء، فيكون المعنى ليضلوا هم، فتكون اللام لام العاقبة؛ أي: لتكون عاقبتهم إلى الضلال.

{قُلْ:} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويعم كل عاقل من شأنه أن يخاطب الكفار، والمجرمين بما يلي:{تَمَتَّعُوا} أي: بدنياكم قليلا، أو بعبادتكم الأوثان، أو اتباع الأهواء، فإنها من قبيل الشهوات التي يتمتع فيها، وفي التهديد بصيغة الأمر إيذان بأن المهدد عليه كالمطلوب لإفضائه إلى المهدد به. {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النّارِ} أي: مردكم ومرجعكم إلى عذاب جهنم، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

بعد هذا فالنار: أصلها النّور، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، وهي من المؤنث المجازي، وقد تذكر، وتصغيرها: نويرة، والجمع أنور، ونيران، ونيرة، ويكنى بها عن جهنم التي سيعذب الله بها الكافرين والفاسقين من أبناء المسلمين، والفعل نار ينور، يستعمل لازما، ومتعديا إذا بدئ بهمزة التعدية، كما في قولك: أنارت الشمس الكون. هذا وانظر دركات النار في الآية رقم [44] من سورة (الحجر).

الإعراب: {وَجَعَلُوا:} الواو: حرف عطف. {(جَعَلُوا:)} ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لِلّهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني تقدم على الأول، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {أَنْداداً}. {أَنْداداً:} مفعول به.

{لِيُضِلُّوا:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، أو العاقبة وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {عَنْ سَبِيلِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة وجملة: {(جَعَلُوا

)} إلخ معطوفة على جملة: {(أَحَلُّوا

)} إلخ، أو هي مستأنفة،

ص: 46

لا محل لها على الاعتبارين. {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره «أنت». {تَمَتَّعُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة. الفاء: حرف تعليل. (إن): حرف مشبه بالفعل. {مَصِيرَكُمْ:}

اسمها، والكاف في محل جر بالإضافة. {إِلَى النّارِ:} متعلقان بمحذوف خبر إن، والجملة الاسمية:{فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النّارِ} تعليل للأمر، لا محل لها.

{قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31)}

الشرح: {قُلْ:} أمر موجه لسيد الأنام صلى الله عليه وسلم، ويعم كل عاقل من شأنه أن يعظ وينصح الناس. {لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا:} خصهم بالذكر، وشرفهم بالإضافة تنويها بشأنهم، وتنبيها على أنهم المقيمون لحقوق العبودية. {يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً} انظر شرح هذه الكلمات في الآية رقم [22] من سورة (الرعد). {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ} أي: فيبتاع المقصر ما يتدارك به تقصيره، أو يفدي به نفسه. {وَلا خِلالٌ} أي: ولا خلة، وهي المودة والصداقة.

{لِعِبادِيَ:} يقرأ بفتح ياء المتكلم وسكونها، قراءتان سبعيتان، ويجريان في خمس مواضع من القرآن الكريم. هذا؛ وقوله تعالى في سورة (الأنبياء):{أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ} وقوله تعالى في سورة (العنكبوت): {يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيّايَ فَاعْبُدُونِ} وقوله تعالى في سورة (سبأ): {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ} وقوله تعالى في سورة (الزمر): {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ} والمراد ب: {يَوْمٌ} يوم القيامة.

هذا والخلال: المخالة والمصادقة، والخلة: الصداقة، وما ذكرته يعني: أن الخلال مفرد، وفي القرطبي: أنه جمع خلة مثل قلة وقلال، والخليل: الصديق الذي صفت مودته، فتجد من خلاله مثل ما يجد من خلالك، ويسعى لمصلحتك، كما يسعى لمصلحته، بل قد يؤثرك على نفسه، ويبذل روحه من أجلك، كما قال ربيعة بن مقروم الضبي:[الوافر]

أخوك أخوك من يدنو وترجو

مودّته، وإن دعي استجابا

إذا حاربت حارب من تعادي

وزاد سلاحه منك اقترابا

وهو معدوم في هذا الزمن الذي فسد أهله، وصاروا خلّا، ودودا، كما قال القائل:[الوافر]

سألت النّاس عن خلّ ودود

فقالوا النّاس من خلّ ودود

فقلت أليس فيهم ذو وفاء؟

فقالوا كان ذلك في الجدود

ص: 47

احفظ البيتين، ولا تنس: ما فيهما من الجناس التام، لذا فإنه لا وجود للصديق بالمعنى الحقيقي، بل صار وجوده مستحيلا، كما قال القائل:[الكامل]

قد قيل: إنّ المستحيل ثلاثة

الغول والعنقاء والخلّ الوفي

وقال الآخر: [الوافر]

سألت النّاس عن خلّ وفيّ

فقالوا: ما إلى هذا سبيل

تمسّك إن ظفرت بذيل حرّ

فإنّ الحرّ في الدّنيا قليل

ومما هو جدير بالذكر: أن كل صداقة لا تكون على أساس من التقوى تنقلب عداوة في الدنيا والآخرة، خذ قوله تعالى:{الْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} وانظر نتيجة صداقة إبليس في الآية رقم [22] من هذه السورة وفي سورة (ق).

قال الخازن: فإن قلت: كيف نفى الخلة في هذه الآية، وفي الآية رقم [254] من سورة (البقرة)، وأثبتها في الآية رقم [67] من سورة (الزخرف)، وهي {الْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ..}. إلخ قلت:

الآية الدالة على نفي الخلة (أي: نفي نفعها) محمولة على نفي الخلة الحاصلة بسبب ميل الطبيعة ورعونة النفس، والآية الدالة على حصول الخلة وثبوتها (أي: ثبوت نفعها) محمولة على الخلة الحاصلة بسبب محبة الله، ألا تراه أثبتها للمتقين فقط، ونفاها عن غيرهم. وقيل: إن ليوم القيامة أحوالا مختلفة، ففي بعضها يشتغل كل خليل عن خليله، وفي بعضها يتعاطف الأخلاء، بعضهم على بعض إذا كانت المخالة لله وفي محبته. انتهى.

الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره «أنت». {لِعِبادِيَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر صفة عبادي، أو بدل منه، أو عطف بيان عليه، وجملة:{آمَنُوا:} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {يُقِيمُوا:} قال أبو البقاء: فيه ثلاثة، أوجه: أحدها: هو جواب قل، وتقدير الكلام: إن تقل لهم يقيموا، قاله الأخفش، ورده قوم، قالوا: لأن قول الرسول لهم، لا يوجب أن يقيموا، وهذا عندي لا يبطل قوله؛ لأنه لم يرد بالعباد الكفار، بل المؤمنين، وإذا قال الرسول لهم: أقيموا الصلاة أقاموها، ويدل على ذلك قوله:{قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} والقول الثاني حكي عن المبرد، وهو أن التقدير: قل لهم: أقيموا يقيموا، فيقيموا المصرح به جواب أقيموا المحذوف، حكاه جماعة، ولم يتعرضوا لإفساده، وهو فاسد لوجهين:

أحدهما: أن جواب الشرط يخالف الشرط، إما في الفعل، أو في الفاعل، أو فيهما، فأما إذا كان مثله في الفعل والفاعل فهو خطأ، كقولك: قم تقم، والتقدير على ما ذكر في هذا الوجه

ص: 48

إن يقيموا يقيموا، والوجه الثاني: أن الأمر المقدر للمواجهة، و {يُقِيمُوا} على لفظ الغيبة، وهو خطأ إذا كان الفاعل واحدا، والقول الثالث: أنه مجزوم بلام محذوفة، تقديره: ليقيموا، فهو أمر مستأنف، وجاز حذف اللام لدلالة قل على الأمر، وهذه الأقوال الثلاثة ذكرها مكي باختصار، وذكرها ابن هشام في مغنيه بإطناب. انظر الشواهد من [408] إلى [414] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» . هذا ويشبه هذه الآية في تركيبها وإعرابها الآية رقم [30] من سورة (النور)، والفعل {يُقِيمُوا} مجزوم على الوجوه المذكورة، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مستأنفة، أو هي في محل نصب مقول القول على حسب الوجوه المعتبرة فيها.

{الصَّلاةَ:} مفعول به. (ينفقوا): معطوف على ما قبله مجزوم مثله، وعلامة جزمهما حذف النون؛ لأنهما من الأفعال الخمسة، والواو فاعلهما، والألف للتفريق {مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً} انظر الإعراب مفصلا في الآية رقم [22] من سورة (الرعد). {مِنْ قَبْلِ:} متعلقان بالفعل ينفقوا، والمصدر المؤول من {أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ} في محل جر بإضافة {قَبْلِ} إليه. {لا:} نافية حجازية تعمل عمل ليس، أو هي مهملة لا عمل لها، وهو الأقوى؛ لأنها تكررت. {بَيْعٌ:} اسم {لا،} أو هو مبتدأ. {فِيهِ:} متعلقان بمحذوف خبر {لا،} أو بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل رفع صفة {يَوْمٌ}. {وَلا:} الواو: حرف عطف، (لا): زائدة لتأكيد النفي. {خِلالٌ:}

معطوف على بيع. هذا؛ وقد قرئ في الآية رقم [253] من سورة (البقرة) برفع {بَيْعٌ،} وبنائه على الفتح، انظر الآية وأوجه الإعراب فيها، ولم أعثر هنا على قراءة بغير الرفع.

{اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32)}

الشرح: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} أي: أبدعهما واخترعهما على غير مثال سبق.

{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ} أي: من السحاب، سمي السحاب سماء لارتفاعه، مشتق من السمو، وهو الارتفاع. وقيل: إن المطر ينزل من السماء إلى السحاب، ومن السحاب إلى الأرض.

{فَأَخْرَجَ بِهِ} أي: بذلك الماء. {مِنَ الثَّمَراتِ:} الثمر اسم يقع على ما يحصل من الشجرة، وقد يقع على الزرع أيضا بدليل قوله تعالى:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ} . {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ:} ذلك السفن الجارية في أعماق البحار لمنافع الناس، حيث تسير من بلد إلى آخر، فهي من تمام نعمة الله على عباده. {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ} أي: ذللها لكم لتنتفعوا منها في الشرب منها، وسقي الزروع، والثمرات، ولما

ص: 49

كان ماء البحر المالح لا ينتفع به في سقي الزروع والثمار ولا في الشراب؛ ذكر الله نعمته على عباده في تسخير الأنهار العذبة لأجل هذه الحاجة.

الإعراب: {اللهُ:} مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبره.

{خَلَقَ:} ماض، والفاعل يعود إلى {الَّذِي،} وهو العائد. {السَّماواتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم. (الأرض): معطوف على ما قبله، وجملة:{خَلَقَ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها. (أنزل): ماض، والفاعل يعود إلى {الَّذِي}. {مِنَ السَّماءِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {السَّماءِ،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . {السَّماءِ:} مفعول به، وجملة: (أنزل

) إلخ معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها، وجملة:{فَأَخْرَجَ..} . إلخ معطوفة عليها أيضا. {بِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنَ الثَّمَراتِ:} متعلقان بالفعل (أخرج)، وجوز تعليقهما بمحذوف حال من {رِزْقاً،} كما علق {مِنَ السَّماءِ،} والأول: أقوى. {رِزْقاً:} مفعول لأجله على اعتبار {مِنَ} للتبعيض وتعليقها بالفعل، ومفعول به على اعتبار {مِنَ} للبيان وتعليقها بمحذوف حال كما رأيت، وأجيز اعتبار {رِزْقاً} مفعولا مطلقا لأن (أخرج) بمعنى: رزق. {لَكُمْ:} متعلقان ب: {رِزْقاً،} أو بمحذوف صفة له، واللام في الموضعين للملك، وجملة:{وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ} معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها. {لِتَجْرِيَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى {الْفُلْكَ} و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل (سخر). {فِي الْبَحْرِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {بِأَمْرِهِ:}

متعلقان به أيضا. وقيل: متعلقان بمحذوف حال، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:

{وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ} معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها.

{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33)}

الشرح: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ:} يجريان في فلكهما؛ أي: محلهما ومقرهما، وهو السماء الرابعة للشمس، وسماء الدنيا للقمر. هذا؛ والدأب: العادة المستمرة على حالة واحدة، ودأب في السير: داوم عليه، والمعنى: أن الله تعالى سخر الشمس والقمر يجريان دائما فيما يعود إلى مصالح العباد لا يفتران إلى آخر الدهر. وقيل: يدأبان في سيرهما وتأثيرهما في إزاحة الظلمة، وإصلاح النبات والحيوان؛ لأن الشمس سلطان النهار، وبها تعرف فصول السنة، والقمر سلطان الليل، وبه يعرف انقضاء الشهور، وكل ذلك بتسخير الله عز وجل، وإنعامه على عباده. انتهى. خازن بتصرف. وانظر الآية رقم [5] من سورة (يونس) عليه السلام.

ص: 50

{وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ:} لتسكنوا فيه، وتستريحوا من عناء النهار. {وَالنَّهارَ} أي: لتبتغوا فيه من فضله معاشكم بالسعي له، قال تعالى:{وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} . هذا؛ وإن الليل والنهار يتعاقبان في الضياء والظلمة، والزيادة والنقصان، وذلك من إنعام الله على عباده، وفيه عبرة لأولي الألباب، كما قال تعالى:{يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ} وانظر شرحهما في الآية رقم [67] من سورة (يونس) عليه السلام، وانظر دأبا في الآية رقم [47] من سورة (يوسف) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

الإعراب: {وَسَخَّرَ:} الواو: حرف عطف. (سخر): ماض، والفاعل يعود إلى الموصول.

{لَكُمُ:} متعلقان بما قبلهما. {الشَّمْسَ:} مفعول به. (القمر): معطوف على ما قبله. {دائِبَيْنِ:}

حال من {الشَّمْسَ} و {وَالْقَمَرَ} منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وغلب القمر؛ لأنه مذكر، والجملة الفعلية:{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ:} معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها، والجملة الثانية معطوفة عليها أيضا.

{وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ (34)}

الشرح: {وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ:} لما ذكر الله النعم العظام التي أنعم الله بها على عباده، وسخرها لهم وذكر ذلك في الآيتين السابقتين، بيّن في هذه: أنه سبحانه لم يقتصر على تلك النعم بل أعطى عباده من المنافع والمرادات ما لا يأتي على بعضها العد والحصر، و {مِنْ} الجارة معناها التبعيض، وأجيز في:{ما} الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، وأيضا النفي، وعليه فالمعنى يكون: وآتاكم من كل ما سألتموه، ومن كل ما لم تسألوه، فحذف الثاني، فلم نسأله سبحانه شمسا ولا قمرا، ولا كثيرا من نعمه التي ابتدأنا بها. وقيل:{مِنْ} زائدة؛ أي:

أتاكم كل ما سألتموه. {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها} أي: نعم الله لا تحصوها؛ ولا تطيقوا عدها لكثرتها، كالسمع، والبصر، وتقويم الصور، إلى غير ذلك من المال، والولد، والعافية، وأضر هذه النعم لوجود كل مخلوق وحياته الماء، والهواء، وهما أرخص كل الأشياء.

وأجل هذه النعم نعمة الإيمان لمن هداه الله، ووفقه له، وعمل بمقتضاه، وينبغي أن تعلم: أنّ الإنسان مهما عمل من الصالحات، وعبد الله تعالى لا يوفي حق أصغر هذه النعم، فعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان فيه العمل الصالح؛ وديوان فيه ذنوبه، وديوان فيه النّعم من الله عليه، فيقول الله عز وجل لأصغر نعمة، أحسبه قال: -في ديوان النّعم: خذي ثمنك من عمله الصّالح فتستوعب عمله الصالح، ثمّ تنحّى، وتقول: وعزّتك ما استوفيت! وتبقى الذنوب والنّعم، وقد ذهب العمل الصّالح، فإذا أراد الله أن يرحم عبدا، قال: يا عبدي قد ضاعفت لك حسناتك، وتجاوزت عن سيّئاتك-أحسبه قال: -

ص: 51

ووهبت لك نعمي». رواه البزار. هذا وحديث الذي عبد الله خمسمائة سنة برأس جبل، وقال الله له: «أدخل الجنة برحمتي، فقال: بل بعملي مشهور مسطور في كتاب الترغيب والترهيب.

{إِنَّ الْإِنْسانَ} أي: جنس الإنسان، وهو يفيد الاستغراق.

قال ابن عباس-رضي الله عنهما-أراد أبا جهل، والتعميم أولى. {لَظَلُومٌ:} شديد الظلم لغيره، بل ولنفسه حيث يعرضها لغضب الله وسخطه، والحرمان من رحمة الله وجوده وغفرانه.

{كَفّارٌ:} شديد الكفران لنعم الله؛ أي: يجحدها، ولا يقوم بشكرها الواجب عليه. وقيل:

ظلوم في الشدة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع.

الإعراب: {وَآتاكُمْ:} الواو: حرف عطف. (آتاكم): ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى الذي، والكاف مفعول به أول. {مِنْ كُلِّ:} متعلقان به على أنهما مفعوله الثاني، وقد رأيت: أن معنى {مِنْ} التبعيض. وقيل: {مِنْ} زائدة وعليه ف {كُلِّ} هي المفعول الثاني: مجرورة لفظا منصوبة محلا. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية ضعيفة معنى. فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بإضافة {كُلِّ} إليها. {سَأَلْتُمُوهُ:} ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والميم علامة جمع الذكور، وحركت بالضم لتحسين اللفظ وتسهيله فتولدت واو الإشباع؛ التي هي حرف لا محل لها، والهاء مفعول به أول، والثاني: محذوف، والجملة الفعلية صلة {ما،} أو صفتها، وعلى اعتبار {ما} نافية، تكون الجملة الفعلية في محل جر بإضافة {كُلِّ} إليها، التقدير: وآتاكم من كل شيء غير سائليه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها، ولا تنس:

أنه قد قرئ بتنوين {كُلِّ،} فتكون {ما} هي المفعول الثاني. {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. (إن) حرف شرط جازم. {تَعُدُّوا:} مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون.. إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، {نِعْمَتَ؛} مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، {لا:} نافية. {تُحْصُوها:} مضارع جواب الشرط مجزوم

إلخ، والواو فاعله، و (ها):

مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب «إذا» الفجائية، وإن ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {إِنْ:} حرف مشبه بالفعل. {الْإِنْسانَ:}

اسمها. {لَظَلُومٌ} اللام: هي المزحلقة. (ظلوم): خبر أول. {كَفّارٌ:} خبر ثان، والجملة الاسمية:{إِنَّ الْإِنْسانَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر.

{وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاُجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35)}

الشرح: {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} أي: مكة المكرمة كما ستعرفه، وقد أجاب الله دعاءه، وحقق رجاءه، فجعله حرما آمنا، لا يسفك فيه دم إنسان، ولا يظلم فيه أحد،

ص: 52

ولا يصاد صيده، ولا يختلى خلاه، وجعل أهله في أمان، كما قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} . {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ} أي: أبعدني، وبنيّ من عبادة الأصنام. هذا؛ وقرئ:«(وأجنبني)» بقطع الهمزة، والمعنى واحد، وهما على لغة نجد، وأما أهل الحجاز، فيقولون: جنبني شره. هذا؛ والأصنام: جمع صنم، وهو التمثال الذي يتخذ من خشب، أو حجارة، أو حديد، أو ذهب، أو فضة على صورة إنسان، أو غيره، وهو الوثن، وانظر النصب في الآية رقم [4] من سورة (المائدة)، والأنصاب في الآية رقم [93] منها أيضا.

قال البيضاوي: وفيه دليل على أن عصمة الأنبياء بتوفيق الله وحفظه إياهم، وهو بظاهره لا يتناول أحفاده، وجميع ذريته، وهو الصحيح، كيف لا وقد عبد الكثير من ذريته الأصنام مثل قريش، وعبد اليهود العجل، وضلوا ضلالا بعيدا. هذا؛ وقد قال القرطبي:

وأراد بقوله: {وَبَنِيَّ} بنيه من صلبه، وكانوا ثمانية، فما عبد أحد منهم صنما، ولم يذكر أسماءهم هو، ولا غيره من المفسرين، ورأيت في قصص الأنبياء للنجار ما يلي:

عاد إبراهيم فأخذ زوجته اسمها قطورة، فولدت له زمران ويقشان ومدان ومديان ويشباق، وشوحا. انتهى. نقلا من سفر التكوين. ولعلك تدرك معي: أن مديان هو مدين الذي يكثر ذكره في القرآن الكريم، وانظر الآية رقم [71] من سورة (هود) عليه السلام.

هذا وإبراهيم معناه في العبرانية: أب رحيم، وهو ابن تارح، أو تارخ، بن ناحور، بن سروج، بن رعو، بن فالج، بن عابر بن شالح، بن أرفكشاذ، بن سام، بن نوح عليه الصلاة والسلام، وانظر ما ذكرته في:{آزَرَ} في الآية رقم [74] من سورة (الأنعام) تجد ما يسرك.

وقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام تتخلص في أنه كان فتى من أهل فدان آرام بالعراق، وكان قومه أهل، أوثان، وكان أبوه نجارا، ينحت الأصنام، ويبيعها ممن يعبدها، وأن إبراهيم كان قد أنار الله بصيرته، وهداه إلى الرشد، فعلم أن الأصنام لا تسمع، ولا تبصر، ولا تسمع نداء، ولا تجيب دعاء، ولا تضر، ولا تنفع، ولذا عمد إلى تحطيمها في غيبة من يعبدها ليبين لهم عجزها، ولكنهم لم يرجعوا إلى رشدهم، بل أرادوا حرقه بالنار، فنجاه الله من كيدهم، وجعلهم الأخسرين، وكان الملك النمرود قد ادعى الألوهية، فحاجه إبراهيم عليه السلام وأفحمه، كما رأيت في الآية رقم [257] من سورة (البقرة)، ولما أيس من إسلام أبيه وقومه تركهم، وذهب إلى أور الكلدانيين من أرض الجزيرة قرب نهر الفرات، ثم إلى حران، ثم رحل بعد ذلك إلى فلسطين، ومعه زوجه سارة، وابن أخيه لوط، ومع لوط زوجه، كما قال تعالى في سورة (العنكبوت):{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .

ثم رحل إلى مصر بسبب جدب وقع في فلسطين، ثم عاد إلى فلسطين، وكان ملك مصر قد أهدى إبراهيم أموالا وماشية وجواري وعبيدا، منها هاجر التي تزوجها، وأنجبت منه إسماعيل،

ص: 53

على نبينا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام، وقد توفي في فلسطين، ودفن في بلدة الخليل، وقبره موجود فيها، وله مشهد عظيم.

تنبيه: حكى القرآن الكريم عن إبراهيم الخليل عليه السلام في الآية رقم [126] من سورة (البقرة): أنه قال: {رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً} وحكى عنه قوله هنا: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} والفرق بينهما أنه سأل في الأول: أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها، ولا يخافون، وسأل في الثاني: أن يخرج هذا البلد من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن، كأنه قال: هو بلد مخوف فاجعله آمنا. انتهى. خازن بتصرف.

هذا والرب يطلق، ويراد به السيد والمالك، ومنه قوله تعالى حكاية عن قول يوسف عليه السلام:{اِرْجِعْ إِلى رَبِّكَ..} . إلخ، وأيضا قوله:{أَمّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً..} . إلخ كما يقال:

ربّ الدار، وربّ الأسرة؛ أي: مالكها، ومتولي شئونها، كما يراد به المربي والمصلح، يقال:

رب فلان الضيعة يربها إذا أصلحها، والله سبحانه وتعالى مالك العالمين، ومربيهم، وموصلهم إلى كمالهم شيئا فشيئا، يجعل النطفة علقة، ثم يجعل العلقة مضغة، ثم يجعل المضغة عظما، ثم يكسو العظام لحما، ثم يصوره، ويجعل فيه الروح، ثم يخرجه خلقا آخر، وهو ضعيف صغير، فلا يزال ينميه، وينشيه؛ حتى يجعله رجلا، أو امرأة كاملين، ولا يطلق الرب على غير الله تعالى إلا مقيدا بالإضافة، مثل قولك: رب الدار، ورب الناقة، ونحو ذلك، والرب المعبود بحق، وهو المراد منه تعالى عند الإطلاق، ولا يجمع إذا كان بهذا المعنى، ويجمع إذا كان معبودا بالباطل، قال تعالى حكاية عن قول يوسف عليه السلام لصاحبي السجن:{أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ} كما يجمع إذا كان بأحد المعاني السابقة، قال الشاعر:[الطويل]

هنيئا لأرباب البيوت بيوتهم

وللآكلين التّمر مخمس مخمسا

وهو اسم فاعل بجميع معانيه، أصله رابب، ثم خفف بحذف الألف، وإدغام أحد المثلين في الآخر.

تنبيه: قال مكي بن أبي طالب القيسي: ونداء الرب قد كثر حذف (يا) النداء منه في القرآن الكريم، وعلة ذلك: أن في حذفها من نداء الرب فيه معنى التعظيم له والتنزيه، وذلك أن النداء فيه ضرب من معنى الأمر؛ لأنك إذا قلت: يا زيد فمعناه تعال يا زيد، أدعوك يا زيد، فحذفت (يا) من نداء الرب ليزول معنى الأمر، وينقص؛ لأن (يا) تؤكده، وتظهر معناه، فكان في حذف (يا) التعظيم والإجلال والتنزيه للرب تعالى، فكثر حذفها في القرآن والكلام في نداء الرب لذلك المعنى.

الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف استئناف. (إذ): ظرف متعلق بفعل محذوف، تقديره:

اذكر، أو هو مفعول به لهذا المحذوف، فهو مبني على السكون في محل نصب، وهو الأقوى، وجملة:{قالَ إِبْراهِيمُ} في محل جر بإضافة (إذ) إليها. {رَبِّ:} منادى حذف منه حرف النداء

ص: 54

منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، والياء المحذوفة ضمير في محل جر بالإضافة، وحذف الياء هذه إنما هو بالنداء خاصة؛ لأنه لا لبس فيه، ومنهم من يثبت الياء الساكنة، فيقول: يا ربّي، ومنهم من يثبتها ويحركها بالفتحة، فيقول:

يا ربّي، ومنهم من يقلبها ألفا بعد فتح ما قبلها، فيقول: يا ربّا، ومنهم من يقول: يا ربّ بضم الباء، ففيه خمس لغات، ويزاد سادسة، وهي حذف الياء بعد قلبها ألفا، وإبقاء الفتحة على الباء دليلا عليها، فيقول: يا ربّ.

{اِجْعَلْ:} فعل دعاء، وفاعله مستتر فيه. {هَذَا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب مفعول به أول، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {الْبَلَدَ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه. {آمِناً:} مفعول به ثان، (اجنبني): فعل دعاء، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به. (بنيّ): معطوف على ياء المتكلم، فهو منصوب أيضا، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، وياء المتكلم المدغمة ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وأجيز اعتباره مفعولا معه، وليس بشيء، والمصدر المؤول من {أَنْ نَعْبُدَ} في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: عن عبادة، أو هو منصوب بنزع الخافض، أو هو مفعول به ثان على التوسع. {الْأَصْنامَ:} مفعول به، والجمل في الآية كلها في محل نصب مقول القول، والكلام مستأنف لا محل له.

{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)}

الشرح: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النّاسِ:} وهذا مجاز؛ لأن الأصنام جمادات، وحجارة، لا تعقل شيئا حتى تضل من عبدها، إلا أنه لما حصل الإضلال بسبب عبادتها؛ أضيف إليها، كما تقول: فتنتهم الدنيا بزينتها، وغرتهم بزخرفها، وإنما فتنوا، واغتروا بسببها؛ لأن المضل والهادي في الحقيقة إنما هو الله تعالى، وينسب الإضلال للعبد كسبا، انظر ما ذكرته في الآية رقم [29] من سورة (الرعد).

{فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} أي: فمن تبعني على ديني واعتقادي، فإنه من المتدينين بديني المتمسكين بحبلي، كما قال الشاعر:[الوافر]

إذا حاولت في أسد فجورا

فإنّي لست منك، ولست منّي

{وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ:} قال السدي: ومن عصاني ثم تاب، فإنك غفور رحيم، وقال مقاتل: ومن عصاني فيما دون الشرك؛ فإنك غفور رحيم؛ إن شئت أن تغفر له؛ غفرت إذا

ص: 55

كان مسلما، قال البيضاوي: وفيه دليل على أن كل ذنب فلله أن يغفره حتى الشرك، إلا أن الوعد فرق بينه وبين غيره، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه، وانظر ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في حق أبي بكر-رضي الله عنه-في سورة (الأنفال) الآية [67].

الإعراب: {رَبِّ:} انظر الآية السابقة. {إِنَّهُنَّ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {أَضْلَلْنَ:} فعل وفاعل. {كَثِيراً:} مفعول به. {مِنَ النّاسِ:}

متعلقان ب: {كَثِيراً،} أو بمحذوف صفة له، وجملة:{أَضْلَلْنَ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن).

{فَمَنْ:} الفاء: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{تَبِعَنِي:} ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى (من). {فَإِنَّهُ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.

(إنه): حرف مشبه بالفعل، والهاء في محل نصب اسمها. {مِنِّي:} متعلقان بمحذوف خبر (إن)، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط. وقيل:

جملة الجواب. وقيل: الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، وما بعدها معطوف عليها، والإعراب ظاهر إن شاء الله تعالى، والآية بكاملها من مقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

{رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَاُرْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)}

الشرح: {رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} أي: بعض ذريتي، وهو إسماعيل عليه السلام.

{بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ:} يعني وادي مكة؛ فإنها حجرية لا تنبت. {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ:} الذي حرمت التعرض له بأذى، والتهاون بشأنه، أو لم يزل ممنعا تهابه الجبابرة، أو منع منه الطوفان فلم يستو عليه، ولذلك سمي: عتيقا. {رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} أي: أسكنتهم بذلك الوادي ليعبدوك بإقامة الصلاة وغيرها من العبادة، وأفرد الصلاة بالذكر تنويها بشأنها، وتعظيما لقدرها، ومكانتها، ولذا طلب من الله تعالى أن يوفقهم لإقامتها.

{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ} أي: فاجعل أفئدة من أفئدة الناس، ولو قال: أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند، واليهود والنصارى، ولكن قال: من الناس، فهم المسلمون، قاله ابن عباس، ومجاهد. {تَهْوِي إِلَيْهِمْ} أي: تحن، وتشتاق إليهم، ولزيارة البيت، ففيه دعاء للمؤمنين بأن يرزقهم الله حج البيت، ودعاء لسكان مكة من ذرية إبراهيم بأنهم

ص: 56

ينتفعون بمن يأتي إليهم من الناس لزيارة البيت، فقد جمع إبراهيم عليه السلام في هذا الدعاء من أمر الدين والدنيا ما ظهر بيانه، وعمّت بركاته. {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ:} فاستجاب الله دعاءه وأنبت لهم بالطائف سائر الأشجار، وبما يجلب لهم من الأمصار، كما قال تعالى:{يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ} حيث توجد فيه الفواكه الربيعية، والصيفية، والخريفية في يوم واحد، وهو مشاهد. {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} أي: لعلهم يشكرون هذه النعم التي أنعمت بها عليهم. وقيل: معناه:

لعلهم يوحدونك، ويعظمونك، وفيه دليل على أن تحصيل منافع الدنيا إنما هو ليستعان بها على أداء العبادات، وإقامة الطاعات. هذا؛ والفعل «شكر» يتعدى بنفسه وبحرف الجر تقول:

شكرته، وشكرت له، كما تقول: نصحته، ونصحت له: وقد قرئ: (أفئدة) و «(آفدة)» و «(أفئيدة)» .

بعد هذا جاء في البخاري عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقا لتعفّي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم، وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابا فيه تمر؛ وسقاء فيه ماء، ثم قفّى إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم أين تذهب، وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس، ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذا لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه، فقال:{رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ..} . إلخ حتى بلغ {يَشْكُرُونَ} وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء؛ عطشت، وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوّى-أو قال: يتلبّط-فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر، هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا؟ ففعلت ذلك سبع مرات».

قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فلذلك سعى الناس بينهما» . «فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا، فقالت: صه، تريد نفسها، ثم تسمّعت، فسمعت أيضا، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه-أو قال: بجناحه-حتى ظهر الماء، فجعلت تحوّضه، وتقول بيدها: هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعد ما تغرف» .

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله أمّ إسماعيل، لو تركت زمزم-أو قال: لو لم تغرف من الماء- لكانت زمزم عينا معينا» . قال: فشربت، وأرضعت ولدها، فقال لها الله: لا تخافوا الضيعة، فإن

ص: 57

هاهنا بيت الله ببنيه هذا الغلام، وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك؛ حتى مرت بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرا عائفا، فقالوا:

إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي، وما فيه ماء، فأرسلوا جريّا، أو جريّين، فإذا هم بالماء، فرجعوا، فأخبروهم بالماء، فأقبلوا. قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء. قالوا: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم، فألف ذلك أمّ إسماعيل، وهي تحب الأنس، فنزلوا، وأرسلوا إلى أهليهم، فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام، وتعلم العربية منهم، وأنفسهم، وأعجبهم حيث شب، فلما أدرك الحلم؛ زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل.

فجاء إبراهيم-عليه السلام-بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له: يغيّر عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل عليه السلام كأنه آنس شيئا، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك؛ فأخبرته، وسألني كيف عيشنا، فأخبرته أنا في جهد وشدة، قال:

فهل، أوصاك بشيء؟ قالت: نعم أمرني أن أقرأ عليك السّلام، ويقول: غيّر عتبة بابك، قال:

ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك؛ الحقي بأهلك، فطلقها، وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد، فلم يجده، فدخل على امرأته، فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله، فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم، والماء!.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم دعا لهم فيه» . قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكّة، إلا لم يوافقاه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومريه يثبت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل عليه السلام، قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك، فأخبرته، فسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنّا بخير، قال:

فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، هو يقرأ عليك السّلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وأنت العتبة أمرني أن أمسكك، ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك، وإسماعيل عليه السلام يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل! إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني، قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتا، وأشار إلى أكمة مرتفعة

ص: 58

على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر، فوضعه له، فقام عليه، وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان:{رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . انتهى.

التجريد الصريح. موقوفا في أوله، ومرفوعا أربع مرات في وسطه وآخره، وقد رفعته في أوله أيضا كما رفعه المرحوم عبد الوهاب النجار.

تنبيه: وإني أرجئ الكلام على إقدام إبراهيم على ذبح إسماعيل-على نبينا، وعليهما، وعلى جميع الأنبياء، والمرسلين ألف صلاة، وألف سلام-إلى سورة (الصافات) الآية رقم [101] وما بعدها. هذا؛ وأضيف أن سبب إلقاء هاجر ورضيعها إسماعيل في مكة على نحو ما عرفت إنما هو غيرة سارة منها ومن ولدها؛ لأنها كانت جارية لها، فوهبتها لإبراهيم، فتزوجها، ولم يكن لسارة ولد قط، فأمر الله إبراهيم عليه السلام أن يأخذهما إلى ذلك المكان القفر وأن يتركهما، فركب البراق هو وهاجر والطفل، فجاء في يوم واحد من الشام إلى بطن مكة، وترك ابنه وأمه، وركب منصرفا من يومه، فكان ذلك كله بوحي من الله تعالى، وكان مطيته البراق كلما أراد أن يزور إسماعيل عليهما السلام، وما تقدم يفيد: أن إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-كان يحسن اللغة العربية ويجيدها، وإلا فكيف كان يمكن أن يتفاهم مع زوجتي ابنه، الأخرى تلو الأولى، ولم يكن بينهما ترجمان يترجم لهما ما يتفاهمان به.

وأيضا فكيف يمكن أن يتفاهم مع إسماعيل وأمه هاجر حينما ذهب إليهما، وقص رؤياه على إسماعيل، التي رأى أنه يذبحه، بل فكيف يمكن أن يتعاون مع إسماعيل، وإقامته عنده المدة الطويلة حينما بنيا الكعبة المعظمة، وهذا كله قد وقع، لا ريب فيه، ولا شك.

تنبيه: لا يجوز لأحد أن يتعلق بهذا في طرح ولده بأرض مضيعة اتكالا على العزيز الرحيم، واقتداء بفعل الخليل إبراهيم، كما تقوله غلاة الصوفية في حقيقة التوكل، فإن إبراهيم فعل ذلك بأمر الله، كما رأيت. هذا؛ وإن أحد الفسقة تزوج امرأة ثانية، وهجر الأولى مع أولادها في دار مستقلة، فلما نوقش في ذلك، قال: أنا أسكنها في دار مع أولادها، وأعطيتها أرضا تعمل فيها، وتعيش منها، وإبراهيم الخليل ألقى هاجر، وابنه في أرض قاحلة، لا أنيس فيها، ولا ماء، ولا نبات، فهو يقول ذلك متفكها، ومضحكا الناس، فويل لهم كيف يفترون على الله الكذب؟! وويل لهم مما يصنعون؟!

الإعراب: {رَبَّنا:} منادى حذف منه أداة النداء، و (نا): في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمه.

{أَسْكَنْتُ:} فعل وفاعل. {مِنْ ذُرِّيَّتِي:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، وقد رأيت أن {مِنْ} للتبعيض، وبعضهم يعتبرها صلة ويخرج على قول الأخفش بزيادتها في

ص: 59

الإيجاب. وقيل: إن المفعول محذوف، التقدير: إني أسكنت ذرية من ذريتي، وضعفه ظاهر، فيكون {ذُرِّيَّتِي} مفعولا به، مجرورا لفظا منصوبا محلا، وياء المتكلم في محل جر بالإضافة، {بِوادٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين.

{غَيْرِ:} صفة (واد). وقيل: بدل منه، و {غَيْرِ} مضاف، و {ذِي} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، وجمعه:«أولي» من غير لفظه كما قد رأيت في الآية رقم [19] من سورة (الرعد)، و {ذِي:} مضاف، و {زَرْعٍ:} مضاف إليه، {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل السابق، و {عِنْدَ} مضاف، و {بَيْتِكَ} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة. {الْمُحَرَّمِ:} صفة له، وجملة:{أَسْكَنْتُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ).

هذا؛ وقال أبو البقاء في {عِنْدَ} يجوز أن يكون صفة ل: (واد)، وأن يكون بدلا منه. {رَبَّنا:}

توكيد لسابقه. {لِيُقِيمُوا:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل. وقيل: اللام للأمر، فيكون مجزوما، وعلامة النصب، أو الجزم حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وعلى النصب تؤول «أن» المضمرة مع الفعل بمصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {أَسْكَنْتُ} وعلى الجزم تكون الجملة مستأنفة، لا محل لها. {فَاجْعَلْ:} الفاء:

هي الفصيحة. (اجعل): فعل دعاء، والفاعل تقديره:«أنت» . {أَفْئِدَةً:} مفعول به. {مِنَ النّاسِ:} متعلقان بمحذوف صفة، التقدير: أفئدة كائنة من أفئدة الناس، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. {تَهْوِي:} يقرأ بفتح الواو، وكسرها، فهو مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، أو على الألف، والفاعل يعود إلى {أَفْئِدَةً} كما قرئ بالبناء للمجهول. {إِلَيْهِمْ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب مفعول به ثان، وجملة: (اجعل

) إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا، بإيحائك وأمرك؛ فاجعل

إلخ، وجملة: (ارزقهم

) إلخ معطوفة على ما قبلها. {مِنَ الثَّمَراتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما مفعوله الثاني، والجملة الاسمية:{لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} مفيدة للتعليل، وينبغي أن تدرك معي: أن الآية الكريمة بكاملها من مقول إبراهيم عليه السلام.

{رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38)}

الشرح: {رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ} أي: تعلم سرنا كما تعلم علننا؛ أي: جهرنا.

والمعنى: إنك تعلم أحوالنا، وما يصلحنا، وما يفسدنا، وأنت أرحم بنا منا، فلا حاجة بنا إلى الدعاء والطلب، إنما ندعوك إظهارا للعبودية لك، وتخشعا لعظمتك، وتذللا لعزتك، وافتقارا إلى ما عندك. وقيل: معناه: تعلم ما نخفي من الوجد بفرقة إسماعيل وأمه، حيث أسكنتهما بواد

ص: 60

غير ذي زرع، وما نعلن من البكاء، وتكرير النداء للمبالغة في التضرع، والالتجاء إلى الله تعالى.

{وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ..} . إلخ: قيل: هذا من قول إبراهيم عليه السلام. وقيل: إنما هو من قول الله تعالى لمّا قال إبراهيم ما تقدم، قال الله تعالى:{وَما يَخْفى..} . إلخ وعليه الأكثرون، فهو تصديق لما قاله إبراهيم أولا، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {رَبَّنا:} منادى انظر مثله في الآية السابقة، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {إِنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه. {تَعْلَمُ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره «أنت». {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: تعلم الذي، أو شيئا نخفيه في قلوبنا، وما نعلن:

مثل ما قبله في الإعراب، وجملة:{تَعْلَمُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ). {وَما:} الواو: واو الحال على اعتبار الكلام من مقول إبراهيم، وواو الاستئناف على اعتباره من مقول الله تعالى.

{ما:} نافية. {يَخْفى:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {عَلَى اللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {مِنْ:} حرف جر صلة، {شَيْءٍ:} فاعل يخفى مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {فِي الْأَرْضِ:}

متعلقان بمحذوف صفة شيء. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): صلة لتأكيد النفي. {فِي السَّماءِ:} معطوفان على ما قبلهما. والآية الكريمة بكاملها من مقول إبراهيم، على الاعتبار الأول: في الشرح، واعتبار الجملة {(ما يَخْفى

)} إلخ في محل نصب حال من فاعل {تَعْلَمُ} المستتر، والرابط: الواو، وإعادة اللفظ الكريم، ففيه، وضع الظاهر موضع المضمر، وعلى الاعتبار الثاني: في الشرح تكون الجملة {(ما يَخْفى

)} إلخ مستأنفة. تأمل، وتدبر.

{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39)}

الشرح: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي..} . إلخ: هذا الكلام قاله إبراهيم في وقت آخر، لا عقيب ما تقدم من الدعاء؛ لأن الظاهر أنه عليه السلام دعا بذلك الدعاء المتقدم أول ما قدم بهاجر وابنها، وهي ترضعه، ووضعها عند البيت، وإسحاق لم يولد في ذلك الوقت، قال ابن عباس-رضي الله عنهما: ولد إسماعيل لإبراهيم، وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد له إسحاق، وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة، وقد قيد الهبة بحال الكبر استعظاما للنعمة، وإظهارا لما فيها من المعجزة.

{إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ} أي: لمجيب الدعاء، من قولك: سمع الملك كلامي: إذا اعتدّ به، و (سميع) من صيغ المبالغة. هذا؛ وولد لإسماعيل اثنا عشر ولدا، ولإسحاق اثنان.

هذا و (الحمد) في اللغة: الثناء بالكلام على الجميل الاختياري على جهة التبجيل والتعظيم، سواء أكان في مقابلة نعمة أم لا، فالأول: كمن يحسن إليك، والثاني: كمن يجيد صلاته، وهو

ص: 61

في اصطلاح علماء التوحيد: فعل ينبئ عن تعظيم المنعم من حيث كونه منعما على الحامد، أو غيره، سواء أكان ذلك قولا باللسان، أو اعتقادا بالجنان، أو عملا بالأركان، التي هي الأعضاء، كما قال القائل:[الطويل]

أفادتكم النّعماء منّي ثلاثة

يدي ولساني والضّمير المحجّبا

ومما هو جدير بالذكر: أن معنى الشكر في اللغة هو معنى الحمد في الاصطلاح، وأما معنى الشكر في الاصطلاح: فهو صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه، فيما خلق لأجله، وانظر الآية رقم [7] تجد ما يسرك.

هذا وقد حثنا الرسول صلى الله عليه وسلم على حمد الله باللسان، ورغبنا فيه، وذكر لنا أحاديث ترغبنا فيه، وصيغا مفضلة على غيرها لما فيها من المعاني القوية، وخذ نبذة من ذلك، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّثهم:«أنّ عبدا من عباد الله قال: يا ربّ لك الحمد، كما ينبغي لجلال وجهك، ولعظيم سلطانك، فعضّلت بالملكين، فلم يدريا كيف يكتبانها، فصعدا إلى السّماء، فقالا: يا ربّنا، إنّ عبدك قد قال مقالة، لا ندري كيف نكتبها؟ قال الله-وهو أعلم بما قال عبده-: ماذا قال عبدي؟ قالا: يا ربّ إنّه قد قال: يا ربّ لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك، ولعظيم سلطانك، فقال الله لهما: اكتباها كما قال عبدي حتّى يلقاني، فأجزيه بها» . رواه أحمد وابن ماجة.

وعن أبي أيوب-رضي الله عنه-قال: قال رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله حمدا كثيرا طيّبا مباركا فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صاحب الكلمة؟» . فسكت الرجل، ورأى أنّه قد هجم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء يكرهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من هو؟ فإنّه لم يقل إلاّ صوابا» . فقال الرّجل: أنا قلتها يا رسول الله! أرجو بها الخير. فقال: «والّذي نفسي بيده! لقد رأيت ثلاثة عشر ملكا يبتدرون كلمتك، أيّهم يرفعها إلى الله تعالى» . رواه الطبراني، والبيهقي.

الإعراب: {الْحَمْدُ:} مبتدأ. {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة لفظ الجلالة، أو بدل منه، وجملة:{وَهَبَ لِي} صلة الموصول، والعائد رجوع الفاعل إليه. {عَلَى الْكِبَرِ:} متعلقان بمحذوف حال من ياء المتكلم، ويجوز أن يكونا متعلقين بمحذوف حال مما بعدهما. {إِسْماعِيلَ:} مفعول به.

و (إسحاق): معطوف عليه. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {رَبِّي:} اسم إن منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لَسَمِيعُ:} خبر (إنّ)، واللام هي المزحلقة، و (سميع): مضاف، و {الدُّعاءِ} مضاف إليه من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. وقيل: من إضافته لفاعله على إسناد السماع إلى دعاء الله تعالى على المجاز. هذا؛ والآية الكريمة كلها من مقول إبراهيم عليه السلام.

ص: 62

{رَبِّ اِجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40)}

الشرح: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ} أي: ممن يقيم الصلاة بأركانها، ويحافظ عليها في أوقاتها، وانظر الآية رقم [114] من سورة (هود) عليه السلام. {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} أي: واجعل من ذريتي من يقيم الصلاة، وإنما أدخل لفظة (من) التي هي للتبعيض؛ لأنه علم بإعلام الله له أنه قد يوجد من ذريته جمع من الكفار لا يقيمون الصلاة، وهذا واقع وملموس ومشاهد، وانظر شرح (ذرية) في الآية رقم [23] من سورة (الرعد). {رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ:} وقد تقبل الله دعاء إبراهيم بفضله وكرمه. وقيل: المعنى: وتقبل عبادتي، وطاعتي. وتكرير النداء للمبالغة في التضرع، والالتجاء إلى الله تعالى. هذا؛ و {مُقِيمَ} أصله:(مؤقوم) حذفت منه الهمزة على نحو ما رأيت في الآية رقم [2] من سورة (الرعد)، فصار (مقوم) ثم نقلت كسرة الواو إلى القاف قبلها بعد سلب سكونها، فصار (مقوم) ثم قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة، فصار:«مقيم» .

الإعراب: {رَبِّ:} انظر الآية رقم [35] لشرحه وإعرابه، {اِجْعَلْنِي:} فعل دعاء، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به أول. {مُقِيمَ:} مفعول به ثان، وهو مضاف، و {الصَّلاةِ} مضاف إليه من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي:} معطوفان على ياء المتكلم، وانظر الشرح، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم

إلخ، والياء في محل جر بالإضافة. {رَبَّنا:} تقدم مثله. (تقبل دعاء): فعل دعاء، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {دُعاءِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، وتقدم مثله في الآية رقم [32] من سورة (الرعد)، والآية بكاملها من مقول إبراهيم على نبينا وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

{رَبَّنَا اِغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41)}

الشرح: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ:} قيل: استغفر إبراهيم لوالديه قبل أن يثبت عنده أنهما عدوّان لله، وهذا أفادته آية التوبة رقم [115]. هذا وقال القشيري: ولا يبعد أن تكون أمه مسلمة؛ لأن الله ذكر عذره في استغفاره لأبيه دون أمه، قال القرطبي: وعلى هذا قراءة سعيد بن جبير: «(ربّ اغفر لي ولوالدي)» يعني: أباه. وقيل: استغفر لهما طمعا في إيمانهما. وقيل:

استغفر لهما بشرط أن يسلما. وقيل: أراد آدم وحواء، وقد روي: أن العبد إذا قال: اللهم اغفر لي ولوالدي، وكان أبواه قد ماتا كافرين انصرفت المغفرة إلى آدم، وحواء؛ لأنهما والدا الخلق أجمع. هذا؛ وقرئ:«(ولأبويّ)» وفي (والديّ وأبويّ) تغليب الأب على الأم، وفيه إشعار بتفضيل الذكر على الأنثى.

ص: 63

وقيل: أراد ولديه إسماعيل، وإسحاق، وقد قرئ «(ولولدي)» وهذه القراءة وقراءة الإفراد، وقراءة:«(ولدي)» جمع ولد كلها قراءات شاذة. {وَلِلْمُؤْمِنِينَ} أي: اغفر للمؤمنين كلهم، والله لا يرد دعاء خليله، ففيه بشارة عظيمة لجميع المؤمنين بالمغفرة. {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ} أي:

يثبت، فهو مستعار من القيام على الرّجل، كقولهم: قامت الحرب على ساقها. وقيل: المراد:

يقوم الناس للحساب، فاكتفى بذكر الحساب؛ لكونه مفهوما للسامع.

تنبيه: قال الخازن: فإن قلت: طلب المغفرة من الله إنما يكون لسابق ذنب قد سلف حتى يطلب المغفرة له. قلت: المقصود منه الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى، وقطع الطمع من كل شيء إلا من فضله وكرمه، والاعتراف بالعبودية لله تعالى، والاتكال على رحمته. انتهى.

أقول: وفيه أمران آخران: أولهما: إظهار التذلل، والافتقار له تعالى، والتواضع، وثانيهما تعليم الناس وحثهم على طلب المغفرة من الله مهما بلغوا من الصلاح والتقوى، ولا تنس: أن نوحا عليه السلام قد دعا بمثل هذا الدعاء، انظر الآية الأخيرة من السورة المسماة باسمه، وعلّم ربنا حبيبه وصفيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يدعوه بأدعية شبيهة لما دعا إبراهيم ونوح، عليهم جميعا ألف تحية، وألف صلاة، انظر خواتيم سورة (البقرة)، والنصف الثاني: من سورة (الفاتحة)، وغير ذلك كثير، وقال صلى الله عليه وسلم:«توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب إليه في اليوم والليلة سبعين مرة» .

ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم حينما كان يحض أصحابه على الاستغفار، ويخبرهم: أنه يستغفر في اليوم سبعين مرة، لم يقصد نفع نفسه، أو التخلص من ذنوب نسبت إليه، فهو المعصوم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، ولكنه قصد أن يعلم أتباعه كيف يفيئون بعد غفلة، ويستقيمون بعد زلة، ويرجعون بعد هفوة، ولا عجب فهو بالمؤمنين رءوف رحيم.

الإعراب: {رَبَّنَا:} تقدم مثله. {اِغْفِرْ:} فعل دعاء، والفاعل:«أنت» . {لِي:} متعلقان بما قبلهما. (لوالدي): معطوفان على ما قبلهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، وياء المتكلم في محل جر بالإضافة. (للمؤمنين) معطوفان على ما قبلهما، وعلامة الجر

إلخ. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل السابق، أو هو متعلق بمحذوف حال التقدير: حال كون الغفران في ذلك اليوم العصيب، والأول: أقوى، وجملة:{يَقُومُ الْحِسابُ} في محل جر بإضافة يوم إليها، والآية الكريمة من مقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

{وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42)}

الشرح: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً..} . إلخ: هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد تثبيته على ما هو عليه، وأنه تعالى مطلع على أحوالهم وأفعالهم، لا تخفى عليه خافية، وفيه وعيد لهم بأنه

ص: 64

معاقبهم على قليله، وكثيره لا محالة، أو لكل من توهم غفلته جهلا بصفاته، واغترارا بإمهاله.

وقيل: إنه تسلية للمظلوم، وتهديد للظالم. {إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ} أي: يؤخر عقاب الظالمين والانتقام منهم. {لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ} أي: لا تغمض من هول ما تراه في ذلك اليوم، قاله الفراء:

يقال: شخص الرجل بصره، وشخص البصر نفسه؛ أي: سما، وطمح من هول ما يرى. قال ابن عباس: تشخص أبصار الخلائق يومئذ إلى الهواء لشدة الحيرة، فلا يرمضون.

قال الخازن: الغفلة معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقائق الأمور. وقيل: حقيقة الغفلة سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ، والتيقظ، وهذا في حق الله محال، فلا بد من تأويل الآية، فالمقصود منها: أنه سبحانه وتعالى ينتقم من الظالم للمظلوم، ففيه وعيد، وتهديد للظالم، وإعلام له بأنه لا يعامله معاملة الغافل عنه، بل ينتقم منه، ولا يتركه مغفلا. انتهى.

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف استئناف. (لا): ناهية جازمة. {تَحْسَبَنَّ:} مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم ب: (لا)، ونون التوكيد حرف لا محل له، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {غافِلاً:} مفعول به ثان، وفاعله مستتر فيه. {عَمّا:} متعلقان ب: {غافِلاً،} و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:(عن)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: عن الذي، أو عن شيء يعمله الظالمون، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب:(عن)، التقدير: من عمل الظالمين. {إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {يُؤَخِّرُهُمْ:} مضارع، والفاعل يعود إلى الله، وقرئ بالنون، فيكون الفاعل تقديره:«نحن» والهاء مفعول به. {لِيَوْمٍ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:{تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ} في محل جر صفة يوم، والرابط: الضمير المجرور محلا بفي، والجملتان {(لا تَحْسَبَنَّ

)} و {إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ..} . إلخ مستأنفتان لا محل لهما من الإعراب، وفي الثانية معنى التعليل للنهي.

{مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43)}

الشرح: {مُهْطِعِينَ:} مسرعين، ومنه قوله تعالى في سورة (القمر):{مُهْطِعِينَ إِلَى الدّاعِ} وقال الشاعر: [الوافر]

بدجلة دارهم ولقد أراهم

بدجلة مهطعين إلى السّماع

فعلى هذا المعنى: أن الغالب من حال من بقي بصره شاخصا من شدة الخوف أن يبقى واقفا باهتا، فبيّن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية، وفي آية (القمر): أن أحوال أهل الموقف يوم القيامة بخلاف الحال المعتادة، فأخبر سبحانه وتعالى: أنهم مع شخوص الأبصار يكونون

ص: 65

مهطعين نحو الداعي. وقيل: المهطع: الخاضع الذليل الساكت. انتهى خازن. والمراد ب: (الداعي) الذي ذكرته إسرافيل عليه السلام قال تعالى في سورة (ق): {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ} فيقول: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء.

وقال مجاهد، والضحاك: أي: مديمي النظر، قال أبو عبيد: وقد يكون الوجهان جميعا، يعني: الإسراع مع إدامة النظر. {مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ} أي: رافعي رءوسهم ينظرون في ذلّ، وإقناع الرأس: رفعه، قاله ابن عباس، ومجاهد-رضي الله عنهما-وهذا بخلاف المعتاد لأن من يتوقع البلاء فإنه يطرق ببصره إلى الأرض.

وقال المهدوي: ويقال: أقنع: إذا رفع رأسه، وأقنع: إذا طأطأ رأسه ذلة وخضوعا، والآية محتملة الوجهين. انتهى قرطبي. وعليه فهو من الأضداد.

قال الحسن: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد، وهو قوله تعالى:

{لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} أي: لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة الخوف، فهي شاخصة لا ترتد إليهم، قد شغلهم ما بهم. انتهى. خازن.

أقول: وهنا يجدر بالذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه الشيخان عن عائشة-رضي الله عنها:

«يحشر الناس حفاة عراة غرلا» . قالت عائشة: فقلت: الرجال والنّساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: «الأمر أشدّ من أن يهمّهم ذلك-وفي رواية-: من أن ينظر بعضهم إلى بعض» .

{وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ} أي: قلوبهم خاوية خربة متخوفة ليس فيها خير، ولا عقل، ولا فهم لفرط الحيرة والدهشة، ومنه يقال للأحمق وللجبان: قلبه هواء؛ أي: لا رأي فيه، ولا قوة، ومنه قول حسان رضي الله عنه:[الوافر]

ألا أبلغ أبا سفيان عنّي

فأنت مجوّف نخب هواء

وقال تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً} أي: من كل شيء إلا من همّ موسى، هذا، والهوى يقصر ويمد، والمراد بالأول: الحب، والعشق، والغرام، وهو أيضا محبة الإنسان للشيء، وغلبته على قلبه، ومنه قوله تعالى:{فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى} وقوله جل ذكره: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى} أي: نهاها عن شهواتها، وما تدعو إليه من معاصي الله تعالى، ويراد بالممدود: ما بين السماء والأرض، وقد جاء الهواء بمعنى: العشق ممدودا في الشعر، ومنه قول الشاعر:[الطويل]

وهان على أسماء أن شطّت النّوى

نحنّ إليها والهواء يتوق

وإليك هذين البيتين، فإنهما من النكت الحسان:[الكامل]

جمع الهواء مع الهوى في مهجتي

فتكاملت في أضلعي ناران

فقصرت بالممدود عن نيل المنى

ومددت بالمقصور في أكفاني

ص: 66

وقال أبو عبيدة: لم نجد الهوى يوضع إلا موضع الشر؛ لأنه لا يقال: فلان يهوى الخير، بل يقال: فلان يحب الخير، وجمعه أهواء، وجمع الممدود: أهوية.

هذا وقد رأيت تفسير {طَرْفُهُمْ} بالأبصار؛ أي: العيون، وقد يراد بالطّرف الجفن خاصة، كما في قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:[الطويل]

أشارت بطرف العين خيفة أهلها

إشارة محزون ولم تتكلّم

فأيقنت أنّ الطرف قد قال: مرحبا

وأهلا وسهلا بالحبيب المتيّم

ويقال: ما طبق طرفه-أي: جفنه-على الآخر. هذا؛ والطّرف بالمعنى السابق لا يثنى، ولا يجمع، كما ستجده إن شاء الله في سورة (الصافات)، وص، والشورى، وسورة (الرحمن)، وهو هنا بفتح الطاء، وسكون الراء، وهو بفتحهما: حرف الشيء، ومنتهاه، وجمعه: أطراف، كما رأيت في الآية رقم [114] من سورة (هود) عليه السلام، وهو بكسر الطاء، وسكون الراء:

الكريم من الخيل، وقد يراد به أيضا: الكريم الطرفين؛ أي: الأب والأم، ويجمع على أطراف أيضا. هذا؛ وانظر الآية رقم [49] من سورة (الكهف).

الإعراب: {مُهْطِعِينَ:} حال من المضاف إليه المحذوف؛ إذ التقدير: تشخص فيه أبصارهم. وقيل: التقدير: أصحاب الأبصار والأول: أولى. {مُقْنِعِي:} حال ثانية منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، وهو مضاف، و {رُؤُسِهِمْ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله ضمير مستتر فيه، والهاء في محل جر بالإضافة. {لا:} نافية. {يَرْتَدُّ:} مضارع. {إِلَيْهِمْ:} متعلقان بما قبلهما.

{طَرْفُهُمْ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المستتر في {مُقْنِعِي} فهي حال متداخلة، وجوز اعتبارها بدلا منه، كما جوز اعتبارها مستأنفة، والجملة الاسمية:{(أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ)} مستأنفة، وأجيز اعتبارها حالا من الضمير المجرور محلا بالإضافة، والعامل {يَرْتَدُّ} والرابط: الواو، والضمير. هذا؛ وأفرد هواء مع أنه خبر عن جمع؛ لأنه بمعنى: فارغة كما رأيت، فأفرد كما يجوز إفراد فارغة؛ لأن تاء التأنيث تدل على تأنيث الجمع الذي في أفئدتهم، ومثله؛ أحوال صعبة، وأحوال فاسدة، ونحو ذلك.

{وَأَنْذِرِ النّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44)}

الشرح: {وَأَنْذِرِ النّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ} أي: خوف يا محمد أهل مكة يوم القيامة، وما فيه من أهوال وشدائد، ومتاعب ومصاعب، أو يوم الموت، فإنه أول أيام عذابهم، وأول منازل

ص: 67

الآخرة. {فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: أنفسهم بالشرك، أو بالمعاصي والسيئات، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [13] {رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ} أي: يقولون عند مشاهدة العذاب أخر عنا العذاب، وردنا إلى الدنيا، وأمهلنا إلى حدّ من الزمان قريب، أو أخر آجالنا إلى زمن قريب بمقدار ما نؤمن بك، ونجيب دعوتك، ونتبع رسلك، فهو كقوله تعالى في سورة (المنافقون):

{لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصّالِحِينَ} . وقوله تعالى في سورة (فاطر): {رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ} وانظر ما ذكرته في الآية رقم [109] من سورة (المؤمنون)؛ لترى ما يسرك ويثلج صدرك.

{أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ..} . إلخ: أي: حلفتم أنكم باقون مخلدون في الدنيا لا تخرجون منها بالموت. قال البيضاوي: ولعلهم أقسموا بطرا وغرورا، ودل عليه حالهم، حيث بنوا شديدا، وأملوا بعيدا. وقيل: أقسموا: أنهم لا ينتقلون إلى دار أخرى، وأنهم إذا ماتوا لا يزالون عن تلك الحالة إلى حالة أخرى، كقوله تعالى:{وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ} الآية [38] من سورة (النحل)، انظر شرحها هناك.

الإعراب: {وَأَنْذِرِ:} الواو: حرف عطف. (أنذر): أمر، وفاعله تقديره:«أنت» .

{النّاسَ:} مفعول به أول. {يَوْمَ:} مفعول به ثان. {يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ:} مضارع مرفوع، ومفعوله وفاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة يوم إليها، وجملة:{فَيَقُولُ الَّذِينَ..} . إلخ معطوفة عليها، فهي في محل جر مثلها، وجملة:{ظَلَمُوا} مع المفعول المحذوف صلة الموصول، لا محل لها، وجملة: (أنذر

) إلخ معطوفة على جملة: {(لا تَحْسَبَنَّ

)} إلخ لا محل لها مثلها. {رَبَّنا:} منادى حذف منه أداة النداء، و (نا) في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {أَخِّرْنا:} فعل دعاء، والفاعل تقديره «أنت» ، و (نا): مفعول به، والجملة الفعلية مع الجملة الندائية في محل نصب مقول القول. {إِلى أَجَلٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {قَرِيبٍ:} صفة أجل. {نُجِبْ:} مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للأمر، وهو عند الجمهور مجزوم بشرط محذوف، والفاعل مستتر تقديره «نحن» ، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها لم تقترن بالفاء، {دَعْوَتَكَ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{(نَتَّبِعِ الرُّسُلَ)} معطوفة على ما قبلها. {أَوَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وتوبيخ. الواو:

حرف عطف. (لم): حرف نفي وقلب وجزم. {تَكُونُوا:} مضارع ناقص مجزوم ب: (لم)، وعلامة جزمه حذف النون، والواو اسمه، والألف للتفريق، {أَقْسَمْتُمْ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {تَكُونُوا}. {مِنْ قَبْلُ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وبني {قَبْلُ} على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى. {ما:} نافية. {لَكُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْ:} حرف جر صلة. {زَوالٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على

ص: 68

آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وأجيز اعتبار {ما} حجازية، والجملة الاسمية جواب القسم لا محل لها، وإنما جاء بلفظ الخطاب لقوله: أقسمتم، ولو جاء بلفظ المقسمين، لقيل: ما لنا من زوال، والكلام كله {أَوَلَمْ..}. إلخ في محل نصب مقول القول لقول محذوف؛ أي: فيقال لهم من قبل الله، أو من قبل الملائكة، والقول ومقوله كلام مستأنف لا محل له. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45)}

الشرح: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ:} بالكفر والمعاصي كعاد، وثمود، فهلا اعتبرتهم فيما حل بهم من المقت والوبال. {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ} أي: وقد عرفتم، كيف كانت عقوبتهم. {وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ} أي: بينا لكم أنكم مثلهم في الكفر، واستحقاق العذاب، والأمثال التي ضربها الله في القرآن للناس ليتدبروها، ويعتبروا بها، فيجب على كل من شاهد أحوال الماضين من الأمم الخالية، وعلم ما جرى لهم أن يعتبر بهم، ويعمل في خلاص نفسه من العقاب والهلاك، فاعتبروا يا أولي الألباب، يا أولي الأبصار.

هذا و (سكن) فالأصل فيه أن يعدى ب: «في» كقرّ، وغني، وأقام، وقد يستعمل بمعنى:

التبوّؤ، فيجري مجراه، كقولك: سكنت الدار، ومثله: دخل ونزل، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [14] وانظر شرح:{مَثَلاً} في الآية رقم [24] وانظر شرح: {النَّفْسَ} في الآية رقم [53] من سورة (يوسف) عليه السلام، وتبيّن الشيء وبان وأبان، واستبان كله بمعنى: واحد، وهو لازم، وقد يستعمل بعضها متعديا، كما في قولك: استبنت الأمر، وتبينته، وأبنته بمعنى: عرفت حقيقته. تأمل، وتدبر.

الإعراب: (سكنتم): فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{أَقْسَمْتُمْ..} . إلخ فهي في محل نصب مثلها. {فِي مَساكِنِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {مَساكِنِ:} مضاف، و {الَّذِينَ} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة، وجملة:{ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} صلة الموصول، لا محل لها. (تبين): ماض، وفاعله محذوف، التقدير: تبين حالهم، وخبرهم، وهلاكهم. {لَكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب مفعول به مقدم للفعل بعده. وقيل: في محل نصب مفعول مطلق عامله ما بعده. وقيل:

في محل نصب حال، والأول: أقوى.

{فَعَلْنا:} فعل وفاعل. {بِهِمْ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية مفسرة للفاعل المحذوف. هذا؛ وأجاز بعض الكوفيين اعتبار الجملة الفعلية فاعلا للفعل (تبيّن)، وانظر ما

ص: 69

ذكرته في الآية رقم [35] من سورة (يوسف) عليه السلام، وجملة:{وَتَبَيَّنَ لَكُمْ..} . إلخ معطوفة على جملة: {أَقْسَمْتُمْ..} . إلخ، وأيضا جملة:{وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ} معطوفة عليها.

{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46)}

الشرح: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ:} لقد اختلف في الضمير إلى من يعود، فقيل: يعود إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم. وقيل: إن المراد بالضمير كفار قريش الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة الهجرة. انظر الآية رقم [30] من سورة (الأنفال). {وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ} أي: إن مكرهم مسجل عند الله، ومعلوم لديه، فهو يجازيهم عليه يوم القيامة، بالإضافة لما جازاهم به في الدنيا. {وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ..}. إلخ: أي: ما كان مكرهم مكرا يكون له أثر وخطر عند الله تعالى، فالجبال مثل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن المعنى: وما كان مكرهم في تقديرهم لتزول منه الجبال عن أمكنتها، وتؤثر في إبطال الإسلام. وهذا على اعتبار (إن) نافية، واللام لام الجحود. وقرئ «(لَتزولُ منه الجبال)» بفتح اللام الأولى، وضم الثانية؛ أي: على الإثبات، فيكون المعنى: كان مكرهم مكرا عظيما تزول منه الجبال عن مكانها، ولكن الله حفظ محمدا صلى الله عليه وسلم ودينه من مكرهم، والجبال لا تزول، ولكن العبارة عن تعظيم الشيء هكذا تكون، ولقد ذكر الخازن، والقرطبي قصة هي أقرب إلى الخيال من الحقيقة. هذا وقرئ:«(وإن كاد مكرهم)» ، والمكر: تدبير الأمر في خفية، وهو أيضا احتيال، وخداع.

هذا وفي الآية استعارة تمثيلية: فقد شبه الله مكرهم في شدته، وتفاقمه-لا سيما حينما انتهى أمرهم في ليلة الهجرة إلى المؤامرة الدنيئة المعروفة-بمحاولة إزالة الجبال من أماكنها، وشبه شريعته الغراء، وما أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم من تعاليم سامية، وحجج بينة بالجبال في رسوخها، وتمكنها من نفوس المؤمنين بها المتعلقين بأهدابها، وهي من أرقى الاستعارات، وتزداد روعتها بأن صدور المكر المعد لإزالة الجبال صادر عن قوم لا حول لهم، ولا قوة، حيث شبه قلوبهم في خفتها، وعدم تعلقها بالهواء. هذا؛ وقد ذكر الثعلبي في قصص الأنبياء: أن الآية تقص علينا خبرا من أخبار النمرود وصرحه الذي بناه، وهو شيء تفرد به، ولم يذكره غيره.

الإعراب: {وَقَدْ:} الواو: واو الحال، أو حرف استئناف. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {مَكَرُوا:} ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق.

{مَكْرَهُمْ:} مفعول مطلق، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر الميمي لفاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة في:{ظَلَمُوا} والرابط: الواو، والضمير، أو هي في محل نصب حال من الساكنين، المفهوم من قوله تعالى:{وَسَكَنْتُمْ..} .

ص: 70

إلخ ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة، انظر الآية رقم [41] من سورة (الرعد).

هذا؛ والجملة الفعلية مستأنفة على أن المراد بالضمير كفار قريش: {وَعِنْدَ:} الواو: واو الحال. (عند): ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، و (عند) مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {مَكْرَهُمْ:} مبتدأ مؤخر، والهاء في محل جر بالإضافة

إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وهي حال متداخلة على الاعتبار الأول: في الجملة الأولى، دون الاعتبار الثاني. {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف: (إن): نافية بمعنى: «ما» . {كانَ:} ماض ناقص. {مَكْرَهُمْ:} اسم {كانَ،} والهاء في محل جر بالإضافة

إلخ، والميم علامة جمع الذكور، {لِتَزُولَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام الجحود. {مِنْهُ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الْجِبالُ:} فاعل، و «أن» المضمرة والفعل (تزول) في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر {كانَ} التقدير: وإن كان مكرهم مسددا لإزالة الجبال. هذا؛ وعلى القراءة الثانية ف (إن) مخففة من الثقيلة مهملة، واللام المفتوحة هي الفارقة بين النفي والإثبات، و (تزول) مرفوع، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {كانَ،} والجملة الفعلية: {وَإِنْ كانَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو اِنتِقامٍ (47)}

الشرح: {فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} أي: فلا تظنن يا محمد: أنّ الله مخلف ما وعد به رسله من النصر، وإعلاء الكلمة، وإظهار الدين، فإنه ناصر رسله، وأولياءه، ومهلك أعداءه، فهو مثل قوله تعالى:{إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا..} . إلخ وقوله تعالى: {كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} وأصله: «مخلف رسله، وعده» فقدم المفعول الثاني إيذانا بأنه لا يخلف الوعد أصلا.

لقوله: {إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ} وإذا لم يخلف وعده أحدا، فكيف يخلف رسله؟! وإضافة:

{مُخْلِفَ} إلى «الوعد» اتساع، وقد ساغ ذلك؛ لأن كل واحد منهما مفعول، وهو قريب من قولهم: يا سارق اللّيلة أهل الدّار. والأصل: يا سارق أهل الدار الليلة.

{عَزِيزٌ:} قوي، لا يغلبه شيء، لا يماكر، قادر، لا يدافع. {ذُو انتِقامٍ:} صاحب انتقام، والانتقام: المبالغة في العقوبة، والأخذ الشديد بالثأر.

الإعراب: {فَلا:} الفاء: حرف استئناف، أو هي عطف تفريعي على:{وَلا تَحْسَبَنَّ} .

(لا): ناهية. {تَحْسَبَنَّ:} مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {مُخْلِفَ:} مفعول به ثان، وانظر الشرح، و {مُخْلِفَ} مضاف، و {وَعْدِهِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله الثاني: الذي قدم على الأول، وهو {رُسُلَهُ،} والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة

ص: 71

الفعلية: {فَلا تَحْسَبَنَّ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:}

اسمها. {عَزِيزٌ:} خبر أول. {ذُو:} خبر ثان مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و {ذُو} مضاف، و {اِنتِقامٍ} مضاف إليه، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ..} . إلخ تعليل للنهي لا محل لها.

{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ (48)}

الشرح: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ:} اختلف في هذا التبديل على قولين:

أحدهما: أنه تبدل صفة الأرض، والسماء، لا ذاتهما، فأما تبديل الأرض؛ فبتغيير صفتها، وهيئتها مع بقاء ذاتها، وهو أن تدكدك جبالها، وتسوى وهادها، وأوديتها، وتذهب أشجارها، وجميع ما عليها من عمارة وغيرها، لا يبقى على وجهها شيء إلا ذهب، وتمد مدّ الأديم. وأما تبديل السماء؛ فهو أن تنتثر كواكبها، وتطمس شمسها وقمرها، وكونها تارة كالدهان، وتارة كالمهل. ويدل له ما روي عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحشر النّاس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النّقيّ، ليس بها علم لأحد» . رواه الشيخان.

والقول الثاني: هو تبديل ذوات الأرض والسماء. ثم اختلف في هذا التبديل، فقال ابن مسعود-رضي الله عنه: تبدل الأرض بأرض كالفضة بيضاء نقية، لم يسفك بها دم، ولم يعمل عليها خطيئة. وقال علي كرم الله وجهه: تبدل الأرض أرضا من فضة، والسماء من ذهب. وقال أبي بن كعب-رضي الله عنه: تصير الأرض نيرانا، والسماء جنانا. وقال أبو هريرة وسعيد بن جبير، ومحمد بن كعب القرظي: تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه. ويدل لهذا ما روي عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة، يتكفؤها الجبّار بيده، كما يتكفّأ أحدكم خبزته في السّفر، نزلا لأهل الجنة» . أخرجاه في الصحيحين. انتهى. خازن بتصرف كبير.

وخذ هذا الحديث عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ} فأين يكون الناس يومئذ؟ قال: «على الصراط» .

أخرجه مسلم، والترمذي، وابن ماجة.

{وَبَرَزُوا لِلّهِ:} انظر الآية رقم [21]{الْواحِدِ الْقَهّارِ:} انظر الآية رقم [16] من سورة (الرعد)، والمحال عليها في سورة (يوسف) عليه السلام، وانظر شرح السموات والأرض في الآية رقم [3] من سورة (يونس) عليه السلام، وانظر شرح:{غَيْرَ} في الآية رقم [2] من سورة (الرعد)، وانظر التعبير بالماضي في الآية [21].

الإعراب: {يَوْمَ:} بدل من {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ،} أو هو متعلق بالمصدر انتقام، أو هو معمول لمقدر باذكر {تُبَدَّلُ:} مضارع مبني للمجهول. {الْأَرْضُ:} نائب فاعل، وهو المفعول الأول.

ص: 72

{غَيْرَ:} مفعول به ثان، و {غَيْرَ} مضاف، و {الْأَرْضُ} مضاف إليه. (السموات): معطوف على الأرض، وجملة:{تُبَدَّلُ..} . إلخ في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها. (برزوا): ماض والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على سابقتها، فهي في محل جر مثلها وأجاز أبو البقاء الاستئناف، والحالية على تقدير «قد» قبلها، وكلاهما ضعيف. {الْواحِدِ:} صفة لفظ الجلالة، {الْقَهّارِ:} صفة ثانية، أو هما بدلان من لفظ الجلالة على اعتبارهما من الأسماء الحسنى، وهو المعتمد. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49)}

الشرح: {وَتَرَى:} انظر إعلال {نَرى} في الآية رقم [27] من سورة (هود) عليه السلام.

{الْمُجْرِمِينَ:} الكافرين، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [13] {يَوْمَئِذٍ:} انظر شرحه في الآية رقم [66] من سورة (هود). {مُقَرَّنِينَ:} قرن بعضهم مع بعض بحسب مشاركتهم في العقائد والأعمال، لقوله تعالى:{وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ،} أو قرنوا مع الشياطين، لقوله تعالى:{اُحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ} أي: قرناءهم من الشياطين، أو قرنوا مع ما اكتسبوا من العقائد الزائغة، والملكات الباطلة، لقوله تعالى:{وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ..} . إلخ، أو المعنى: قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال، ومعنى {مُقَرَّنِينَ:} مشدودين في الأصفاد، وهي الأغلال والقيود، واحدها: صفد، وصفد، ويقال: صفدته صفدا؛ أي: قيدته، والاسم الصّفد، فإذا أردت التكثير قلت: صفّدته تصفيدا، وأصفدته إصفادا: أعطيته. وقيل: صفدته، وأصفدته جاريان في القيد والإعطاء جميعا، فالصّفد: العطاء؛ لأنه يقيّد ويعبد، قال أبو الطيب:[الطويل]

وقيّدت نفسي في ذراك محبّة

ومن وجد الإحسان قيدا تقيّدا

الإعراب: {وَتَرَى:} الواو: حرف عطف. (ترى): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {الْمُجْرِمِينَ:} مفعول به منصوب

إلخ.

{يَوْمَئِذٍ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، وإذ ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وحرك بالكسر لالتقاء الساكنين، والتنوين عوض عن جملة محذوفة، تضاف إذ إليها في الأصل، فإن الأصل يوم إذ ينزل بهم العذاب الأليم، والعقاب الشديد، فحذفت الجملة الفعلية، وعوض عنها التنوين، وكسرت (إذ) لالتقاء الساكنين كما كسرت في (صه) و (مه) عند تنوينهما. {مُقَرَّنِينَ:} حال من المجرمين منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {فِي الْأَصْفادِ:} متعلقان ب: {مُقَرَّنِينَ} .

وقيل: بمحذوف حال من الضمير المستتر فيه. وقيل: بمحذوف صفة له، وكلاهما ضعيفان، وجملة: {(تَرَى

)} إلخ معطوفة على جملة: {تُبَدَّلُ الْأَرْضُ..} . إلخ، فهي في محل جر مثلها.

ص: 73

{سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النّارُ (50)}

الشرح: {سَرابِيلُهُمْ:} قمصانهم، جمع سربال، قال تعالى:{وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} انظر الآية رقم [81] من سورة (النحل)، والفعل:

تسربلت، وسربلت غيري، قال كعب بن زهير:[البسيط]

شمّ العرانين أبطال لبوسهم

من نسج داود في الهيجا سرابيل

{مِنْ قَطِرانٍ:} هو سائل دهني يتخذ من بعض الأشجار كالصنوبر والأرز، فيطبخ، وتدهن به الإبل الجربى، فيحرق الجرب لشدته وحدته، وهو أسود منتن، تشتعل النار فيه بسرعة، يطلى به جلود أهل النار، حتى يكون طلاؤه لهم كالقمص؛ ليجتمع عليهم لذع القطران، ووحشة لونه، ونتن ريحه، مع إسراع النار في جلودهم، على أن التفاوت بين قطران الدنيا، وقطران الآخرة كالتفاوت بين ناريهما.

فعن أبي مالك الأشعري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النّائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة، وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب» . رواه مسلم وغيره. هذا؛ وفي {قَطِرانٍ} قراءات: فتح القاف، وكسر الطاء، وهذه القراءة سبعية، وثانية: بفتح القاف، وسكون الطاء، وثالثة: بكسر القاف، وسكون الطاء، ورابعة:«(قطر آن)» على كلمتين منونتين، فالقطر:

النحاس المذاب، ومنه قوله تعالى حكاية عن قول الاسكندر:{آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} و «آن» : شديد الحرارة، ومنه قوله تعالى:{يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} {وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النّارُ} أي: تعلوها وتجللها وتغطيها، وخصت الوجوه بالذكر مع أن النار تحيط بهم من جميع الجهات؛ لأنهم لم يتوجهوا بها إلى الحق، ولم يستعملوا في تدبره مشاعرهم وحواسهم التي خلقت فيها لأجله، كما تطلع النار على أفئدتهم؛ لأنها فارغة من المعرفة، مملوءة بالجهالات، ونظيره قوله تعالى:{أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ} وقوله تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ،} والله أعلم بمراده.

الإعراب: {سَرابِيلُهُمْ:} مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنْ قَطِرانٍ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المستتر في {مُقَرَّنِينَ،} أو من المجرمين، وجوز استئنافها. (تغشى): مضارع مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف. {وُجُوهَهُمُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {النّارُ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها.

{لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51)}

الشرح: {لِيَجْزِيَ اللهُ..} . إلخ أي: يفعل الله بالمجرمين ذلك العذاب المذكور ليجزي كل

ص: 74

نفس مجرمة الذي كسبته في دنياها، أو كل نفس من مجرمة، أو مطيعة؛ لأنه إذا بيّن أن المجرمين يعاقبون لإجرامهم، علم أن المطيعين يثابون لطاعتهم. {إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ:}

انظر الآية رقم [41] من سورة (الرعد).

الإعراب: {لِيَجْزِيَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، و «أن» المضمرة والفعل في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل المحذوف على الاعتبار الأول: في التفسير، أو متعلقان بالفعل (برزوا) على الاعتبار الثاني: في التفسير ويكون ما بينهما اعتراضا. {اللهُ:} فاعل. {كُلَّ:} مفعول به أول، و {كُلَّ:} مضاف، و {نَفْسٍ:}

مضاف إليه. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: الذي، أو شيئا كسبته. هذا؛ ويجوز اعتبار {ما} مصدرية، تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به ثان، التقدير: كسبها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:}

اسمها. {سَرِيعُ:} خبرها، وهو مضاف، و {الْحِسابِ:} مضاف إليه، من إضافة الصفة المشبهة لفاعلها؛ إذ الأصل: سريع حسابه. والجملة الاسمية مستأنفة، أو هي تعليل لما قبلها، ولا محل لها على الاعتبارين.

{هذا بَلاغٌ لِلنّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)}

الشرح: {هذا بَلاغٌ لِلنّاسِ} أي: هذا القرآن فيه تبليغ للناس وموعظة. وقد ذكر سبحانه لهذا البلاغ ثلاث فوائد هي الغاية والحكمة في إنزال الكتب: أولها: الإنذار؛ أي: التخويف بالقرآن، ومواعظه، وزواجره، وثانيها: الاستدلال بآيات القرآن على وحدانية الله تعالى، وثالثها: الاتعاظ بما في هذا القرآن من المواعظ، والنصائح، وما يتعظ إلا أصحاب العقول السليمة، والأفهام الصحيحة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه. بعد هذا ف:{بَلاغٌ} اسم مصدر، لا مصدر، انظر (سلام) و «عذاب» في الآية رقم [24] من سورة (الرعد).

الإعراب: {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {بَلاغٌ:} خبر المبتدأ. {لِلنّاسِ:} متعلقان ب: {بَلاغٌ،} أو بمحذوف صفة له، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {وَلِيُنْذَرُوا:} الواو: حرف عطف. (لينذروا): مضارع مبني للمجهول منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو نائب فاعله، وقرئ بالبناء للمعلوم، فتكون الواو فاعله، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور معطوفان على

ص: 75

محذوف، التقدير: لينصحوا، والجار والمجرور الحاصلان من هذا متعلقان بمحذوف، التقدير:

أنزل هذا القرآن للنصح والإنذار وللاستدلال

إلخ. {بِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما.

(ليعلموا): إعرابه مثل إعراب سابقه، وبعد التأويل والعطف، انظره آنفا.

{أَنَّما:} كافة ومكفوفة. {هُوَ:} مبتدأ. {إِلهٌ:} خبره. {واحِدٌ:} صفة له، والجملة الاسمية في تأويل مصدر سدت مسد مفعول (يعلموا). {وَلِيَذَّكَّرَ:} مثل سابقه تأويلا وعطفا.

{أُولُوا:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، و {أُولُوا:} مضاف، و {الْأَلْبابِ:} مضاف إليه. تأمل، وتدبر. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

انتهت سورة (إبراهيم) عليه الصلاة والسلام-تفسيرا، وإعرابا.

بعون الله وتوفيقه.

**

ص: 76