الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الحجر
وهي مكية بالإجماع، وآياتها تسع وتسعون، وكلماتها ستمائة وأربع وخمسون، وحروفها ألفان وسبعمائة وستون. انتهى. خازن.
تنبيه: انظر شرح الاستعاذة والبسملة وإعرابهما في أول سورة (يوسف) على نبينا، وعليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ألف صلاة، وأزكى سلام، وانظر شرح:{الر} وإعرابها في أول سورة (يونس) عليه السلام.
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
{الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)}
الشرح: {تِلْكَ:} إشارة إلى ما تضمنته السورة الكريمة من الآيات، والمراد بالكتاب والقرآن المبين: الكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وتنكير القرآن للتفخيم، والتعظيم؛ أي:
الجامع للكمال، والغرابة في البيان، وإنما ذكر القرآن بوصفين، وإن كان الموصوف واحدا لما فيه من زيادة التفخيم والتعظيم، و {مُبِينٍ:} مبين للحلال والحرام، والنافع والضار
…
إلخ.
هذا؛ وإنما أدخل اللام على اسم الإشارة، وهي للبعد، والسورة الكريمة، بل القرآن الكريم كله في متناول اليد، وذلك للإيذان بعلو شأنه، وكونه في الغاية القصوى من الفضل والشرف، وعلو المكانة، فكأنه بسبب ذلك بعيد كل البعد، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [2] من سورة (النمل) ففيها فضل بيان.
هذا و «كتاب» في اللغة الضم والجمع، وسميت الجماعة من الجيش كتيبة لاجتماعهم، كما سمي الكاتب كاتبا؛ لأنه يضم الكلام بعضه إلى بعض، ويجمعه ويرتبه، وفي الاصطلاح: اسم لجملة مختصة من العلم، مشتملة على أبواب وفصول ومسائل غالبا، و {آياتُ} جمع آية، وهي تطلق على معان كثيرة الدلالة، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وتطلق على المعجزة، مثل انشقاق القمر ونحوه، وتطلق على الموعظة، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} كما تطلق على جملتين، أو أكثر من كلام الله تعالى، وانظر شرح «القرآن» في الآية رقم [2] من سورة (يوسف) عليه السلام.
و {مُبِينٍ:} اسم فاعل من «أبان» الرباعي، أصله: مبين، بسكون الباء وكسر الياء، فنقلت كسرة الياء إلى الباء بعد سلب سكونها؛ لأن الحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، ولا تنس: أن اسم الفاعل من بان الثلاثي بائن، أصله باين، وإعلاله مثل إعلال (قائم) في الآية رقم [12] من سورة (يونس) عليه السلام.
الإعراب: {تِلْكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {آياتُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {الْكِتابِ:} مضاف إليه.
{وَقُرْآنٍ:} معطوف على ما قبله. {مُبِينٍ:} صفته، والجملة الاسمية:{تِلْكَ..} . إلخ ابتدائية لا محل لها، أو هي في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، التقدير: اقرأ، أو اتل، ونحو ذلك.
{رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2)}
الشرح: {رُبَما يَوَدُّ:} قرئ بتشديد الدال وتخفيفها، و (ربّ) للتقليل، ورجح ابن هشام أنها هنا للتكثير؛ لأن الآية مسوقة للتخويف، وقد زيدت (ما) معها لتهيئها للدخول على الجملة الفعلية، ويغلب أن يكون الفعل بعدها ماضيا لفظا ومعنى، لكن لما كان المرتقب في إخبار الله تعالى كالماضي في تحققه أجري مجراه في هذه الآية.
وقال ابن هشام في مغنيه: وفي «رب» ست عشرة لغة، ضم الراء وفتحها، وكلاهما مع التشديد والتخفيف، والأوجه الأربعة مع تاء التأنيث ساكنة، أو محركة، ومع التجرد منها، فهذه اثنتا عشرة، والضم والفتح مع إسكان الباء، وضم الحرفين مع التشديد، ومع التخفيف. انتهى.
أقول: لم تذكر «رب» في غير هذه الآية من القرآن الكريم، ويكثر ذكرها في الشعر العربي، والكلام العربي، وهي حرف جر شبيه بالزائد لا يتعلق بشيء، فمحل مجرورها في نحو «ربّ رجل صالح عندي» رفع على الابتدائية، وفي نحو «رب رجل صالح لقيت» على المفعولية، وفي نحو «ربّ رجل صالح لقيته» رفع، أو نصب، كما في قولك:«هذا لقيته» وكثيرا ما تحذف في الشعر، وتحل الواو محلها، وتسمى حينئذ واو رب، ولا يجمع بينها وبين الواو، ويجب تصديرها في أول الكلام، وتنكير مجرورها، ونعته إن كان ظاهرا، وإفراده، وتذكيره، وتمييزه بما يطابق المعنى؛ إن كان ضميرا، وانظر بحثها وشواهدها في كتابنا:«فتح القريب المجيب» إعراب شواهد مغني اللبيب.
{يَوَدُّ:} يتمنى، ويحب، والماضي: ود، والود: الحب، وهو بتثليث الواو، والودود:
الكثير الحب. {لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ:} لقد اختلف في تمني إسلامهم متى يكون، فقيل: حين معاينة نصر المسلمين عليهم. وقيل: عند نزول الموت بهم. وقيل: عند القيامة. وقيل: عند إخراج المسلمين المجرمين من نار الجحيم، وهو المشهور، فعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اجتمع أهل النار في النار، ومعهم من شاء الله من أهل القبلة، قال الكفار لمن في النار من أهل القبلة: ألستم مسلمين؟ قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم وأنتم معنا في النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها، فيغفرها الله لهم بفضل رحمته، فيأمر الله بكلّ من كان من أهل القبلة في النار، فيخرجون منها، فحينئذ يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين» . ذكره البغوي بغير سند. انتهى. خازن. وفي القرطبي قريب من معناه، وهو من رواية جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما.
الإعراب: {رُبَما:} كافة ومكفوفة، وقال الأخفش:(رب) حرف جر شبيه بالزائد لا يتعلق بشيء، و (ما): نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر لفظا ب: (رب)، وهي في محل رفع مبتدأ. {يَوَدُّ:} مضارع. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، وجملة:
{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها، والجملة مستأنفة على اعتبار (رب) مكفوفة، وفي محل جرّ صفة (ما)، على اعتبارها موصوفة، والرابط محذوف، التقدير:
يوده الذين كفروا، وعليه فخبر المبتدأ (ما) محذوف تقديره موجود، وعليه فالجملة اسمية، وهي مستأنفة، لا محل لها. {لَوْ:} حرف مصدري. {كانُوا:} ماض ناقص، مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {مُسْلِمِينَ:} خبر كان منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، و {لَوْ} المصدرية وما بعدها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به؛ أي: يود الذين كفروا كونهم مسلمين على اعتبار (ما) كافة لرب، وعلى اعتبارها نكرة موصوفة فالمصدر المؤول بدل منها. هذا؛ وأجيز اعتبار {لَوْ} امتناعية، فيكون جوابها محذوفا، تقديره: لسروا بذلك، أو تخلصوا مما هم فيه، ومفعول يود محذوف على هذا التقدير؛ أي: ربما يود الذين كفروا النجاة، وعليه ف:{لَوْ} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، والأول: أقوى بلا ريب.
{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)}
الشرح: {ذَرْهُمْ:} اتركهم. {يَأْكُلُوا} أي: كما تأكل الأنعام. {وَيَتَمَتَّعُوا:} بدنياهم، وما فيها من نعيم، ولذات، وشهوات. {وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ:} يشغلهم عن الإيمان بالله، وعن طاعته وعبادته الأمل في هذه الدنيا. {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي: إذا وردوا القيامة، وذاقوا، وبال ما صنعوا، ففيه تهديد، ووعيد لمن أخذ حظه من الدنيا ولذاتها، ولم يأخذ بحظه من طاعة الله عز وجل، قال بعض أهل العلم:{ذَرْهُمْ} تهديد، و {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} تهديد فكيف يهنأ العيش بين تهديدين، وهذه الآية منسوخة بآية القتال، فإن المخاطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والمعنيّ بالتهديدين كفار قريش.
{ذَرْهُمْ:} اتركهم، والمستعمل من هذه المادة المضارع والأمر بكثرة في القرآن الكريم، وفي الكلام العربي، ومثله:«دع» ومضارعه: يدع، فكلا المادتين ناقص التصرف، وهما بمعنى:
الترك، وقد سمع الماضي منهما سماعا نادرا فقالوا: وذر، وودع بوزن وضع، إلا أن ذلك شاذ في الاستعمال؛ لأن العرب كلهم إلا قليلا منهم أميت هذا الماضي من لغاتهم، وليس المعنى:
أنهم لم يتكلموا به البتة، بل تكلموا به دهرا طويلا، ثم أماتوه بإهمالهم استعماله، فلما جمع العلماء ما وصل إليهم من لغات العرب؛ وجدوه مماتا إلا ما سمع منه سماعا نادرا.
قال قطة العدوي: قال بعض المتقدمين: زعم النحاة: أن العرب أماتت ماضي «ودع» ومصدره، واسم مفعوله، واسم فاعله، مع أنه قد قرأ عروة بن الزبير، وابنه هشام قوله تعالى:{ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى} بتخفيف الدال، بمعنى: ما تركك، وكذا قرأ مقاتل، وابن أبي عبلة، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:«شرّ الناس من ودعه الناس اتقاء شرّه» . وقال عليه الصلاة والسلام: «دعوا الحبشة ما ودعوكم» . ورواه الجمل: «ذروا الحبشة ما وذرتكم» . وقال أبو العتاهية الصوفي: [المنسرح]
أثروا فلم يدخلوا قبورهم
…
شيئا من الثروة الّتي جمعوا
وكان ما قدّموا لأنفسهم
…
أعظم نفعا من الّذي ودعوا
وقال آخر: [الطويل]
وثمّ ودعنا آل عمرو وعامر
…
فرائس أطراف المثقّفة السّمر
وقال أنس بن رؤيم: [الرمل]
ليت شعري عن خليلي ما الّذي
…
غاله في الحبّ حتّى ودعه
فها هو الماضي قد ورد عن أفصح العرب قراءة وحديثا، وكذا في شعر العرب، وورد المصدر أيضا في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لينتهينّ قوم عن ودعهم الجمعات، وفي رواية: (الجماعات) أو ليختمنّ الله على قلوبهم، ثمّ ليكوننّ من الغافلين» . أخرجه مسلم وغيره، وورد اسم المفعول، واسم الفاعل من «ودع» في قول خفاف بن ندبة:[الطويل]
إذا ما استحمّت أرضه من سمائه
…
جرى، وهو مودوع وواعد مصدق
فكيف يقال: إن العرب أماتته؟! فالصواب القول بقلة الاستعمال، لا بالإماتة. انتهى.
بتصرف كبير. هذا؛ وما قيل في «ودع» ومضارع «يدع» ، وأمره «دع» يقال في: وذر، ومضارعه:
«يذر» ، وأمره:«ذر» ، كما يقال في «وعم» ومضارعه «يعم» ، وأمره «عم» ، وانظر الشاهد رقم [308] من كتابنا فتح القريب تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
{الْأَمَلُ:} من أمّل يؤمّل، تأميلا: إذا رجى الأمر، وأكثر ما يستعمل فيما يستبعد حصوله بخلاف الطمع، فإنه لا يكون إلا فيما يرجى حصوله، وقد يكون «الأمل» بمعنى: الطمع، وأما الرجاء؛ فهو بين الأمل والطمع، والآمال في الدنيا رحمة من الله تعالى، حتى عمر بها الدنيا،
وتم صلاحها، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الأمل رحمة من الله تعالى لأمّتي، ولولا ذلك ما غرس غارس شجرة، ولا أرضعت أمّ ولدا» قال الشاعر: [البسيط]
وللنّفوس، وإن كانت على وجل
…
من المنيّة آمال تقوّيها
فالمرء يبسطها والدهر يقبضها
…
والنفس تنشرها والموت يطويها
وقال القرطبي: وطول الأمل داء عضال ومرض مزمن، ومتى تمكن من القلب فسد مزاجه، واشتد علاجه، ولم يفارقه داء، ولا نجع فيه دواء، بل أعيا الأطباء، ويئس من برئه الحكماء والعلماء، وحقيقة الأمل الحرص على الدنيا، والانكباب عليها، والحب لها، والإعراض عن الآخرة، وقال الحسن: ما أطال عبد الأمل، إلا أساء العمل، وصدق-رضي الله عنه، فالأمل يكسل عن العمل، ويورث التراخي، والتواني، ويعقب التشاغل والتقاعس، ويخلد إلى الأرض، ويميل إلى الهوى، وهذا أمر قد شوهد بالعيان فلا يحتاج إلى بيان، ولا يطلب صاحبه ببرهان. انتهى.
الإعراب: {ذَرْهُمْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به. {يَأْكُلُوا:}
مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للطلب، وهو عند الجمهور مجزوم بشرط محذوف، وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {وَيَتَمَتَّعُوا:} معطوف على ما قبله، وهو مثله في إعرابه. {وَيُلْهِهِمُ:} معطوف على ما قبله مجزوم أيضا، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهو الياء، والهاء مفعول به. {الْأَمَلُ:} فاعله، والجمل كلها لا محل لها، فالأولى، مستأنفة، والثانية لوقوعها جوابا للطلب، وما بعدها بسبب العطف عليها. {فَسَوْفَ:} الفاء: حرف استئناف.
(سوف): حرف استقبال. {يَعْلَمُونَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والمفعول محذوف للتعميم، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. هذا؛ وقيل: الفاء الفصيحة، وعليه فالجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك واقعا منهم فسوف يعلمون، وفيه ركاكة لا تخفى، لذا فالمعتمد ما ذكرته أولا في الفاء. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
{وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4)}
الشرح: {وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ} أي: من أهل قرية، والمراد: هلاك الاستئصال، كما فعل الله بقرى قوم لوط ونحوها. {إِلاّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ} أي: أجل مضروب، ووقت معين، لا يتقدم العذاب، ولا يتأخر عنه. هذا؛ والقرية في الأصل: اسم للمكان الذي يجتمع فيه القوم، وهو يطلق على المدينة الكبيرة وغيرها، كيف لا؟ وقد جعل الله مكة المكرمة أم القرى، وكثيرا ما أطلق عليها اسم القرية، كما تطلق على الضيعة الصغيرة، وهي مأخوذة من: قريت الماء في المكان: جمعته، وفي القاموس المحيط: القرية بكسر القاف وفتحها، والنسبة إليها: قروي وقريي.
الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {أَهْلَكْنا:} فعل وفاعل. {مِنْ:}
حرف جر صلة. {قَرْيَةٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {إِلاّ:} حرف حصر. {وَلَها:} الواو: واو الحال. (لها): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {كِتابٌ:} مبتدأ مؤخر. {مَعْلُومٌ:} صفته، والجملة الاسمية:{وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ} في محل نصب حال من {قَرْيَةٍ،} وهي نكرة، وكان الواجب أن تكون صفة لها، على القاعدة:«الجمل بعد النكرات صفات، وبعد المعارف أحوال» . والمعارض في ذلك الواو، فإنها لا تعترض بين الصفة والموصوف، خلافا للزمخشري، وأبي البقاء، وإنما توسطت الواو في رأي: الزمخشري؛ لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، والذي أجازه الزمخشري هنا، وأجازه أبو البقاء في آية البقرة رقم [214] هو رأي:
ابن خيران، وسائر النحويين يخالفونه، وانظر (الشعراء) الآية رقم [208].
أقول: والشاهد على هذه المسألة في «مغني اللبيب» قول قيس بن ذريح، وهو الشاهد رقم [786] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» إعراب شواهد «مغني اللبيب» انظره وما بعده تجد ما يسرك ويثلج صدرك. [الطويل]
مضى زمن والناس يستشفعون بي
…
فهل لي إلى ليلى الغداة شفيع
{ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5)}
الشرح: المعنى: إن الأجل المضروب لهم، وهو وقت الموت، أو نزول العذاب لا يتقدم، ولا يتأخر، ونظير هذه الآية في الأعراف رقم [34] مع الفارق بينهما دخول الهاء في {أَجَلَها} هنا لإرادة الأمة، والواو في {يَسْتَأْخِرُونَ} لإرادة الرجال، وانظر أمة في الآية رقم [8] من سورة (هود) عليه السلام. هذا؛ وقد روعي لفظ أمة بقوله:{أَجَلَها} فأفرد، وأنث، وروعي معناها بقوله:{يَسْتَأْخِرُونَ} فجمع وذكر.
الإعراب: {ما:} نافية. {تَسْبِقُ:} مضارع. {مِنْ:} حرف جر صلة. {أُمَّةٍ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {أَجَلَها:} مفعول به، و (ها): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{ما تَسْبِقُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): نافية. {يَسْتَأْخِرُونَ:} مضارع مرفوع..
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
{وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)}
الشرح أي: قال كفار قريش للرسول صلى الله عليه وسلم: {يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} أي: القرآن، وذلك على سبيل التهكم، والاستهزاء بدليل قولهم:{إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} ونظيره قول فرعون: {إِنَّ}
رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. وإنما نسبوه إلى الجنون؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يظهر عند نزول الوحي عليه ما يشبه الغشي، فظنوا أن ذلك جنون. وقيل: إن الرجل إذا سمع كلاما مستغربا من غيره، فربما نسبه إلى الجنون الذي هو زوال العقل، أو فساده. هذا؛ وقرئ {(نُزِّل)،} بالبناء للمجهول مع التشديد، وبالمعلوم مع التخفيف.
الإعراب: {وَقالُوا:} الواو: حرف استئناف. (قالوا): ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. (يا): أداة نداء تنوب مناب أدعو. (أيها): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب ب: (يا)، و (ها): حرف تنبيه لا محل له، وأقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع بدل من لفظ (أيها) وانظر إعراب {يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ} في الآية رقم [88] من سورة (يوسف) عليه السلام؛ إن أردت الزيادة. {نُزِّلَ:} ماض مبني للمجهول. {عَلَيْهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الذِّكْرُ:} نائب فاعل {نُزِّلَ،} والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد الضمير المجرور ب:(على){إِنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {لَمَجْنُونٌ:} خبر (إن)، واللام هي المزحلقة، والجملة الاسمية مع الجملة الندائية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ (7)}
الشرح: {لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ} أي: هلا تنزل علينا الملائكة ليصدقوك فيما تقول، ويعضدوك في دعوتك، فهو كقولهم في سورة (الفرقان) رقم [7]:{لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً،} أو تنزل علينا الملائكة للانتقام، والعقاب على تكذيبنا لك، كما أنزلت على الأمم الذين كذبوا رسلهم. {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ} أي: في قولك: إنك نبي مرسل، وإن هذا القرآن من عند الله تعالى فائتنا بالملائكة، وانظر شرح (الملائكة) في الآية رقم [25] من سورة (الرعد).
تنبيه: {لَوْ ما:} هنا حرف تحضيض، لا يليها إلا الفعل ظاهرا، أو مضمرا، والامتناعية لا يليها إلا الأسماء لفظا، أو تقديرا عند البصريين، قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته:[الرجز]
لولا ولو ما يلزمان الابتدا
…
إذا امتناعا بوجود عقدا
واختلف في: {لَوْ ما} هل هي بسيطة أم مركبة، فقال الزمخشري:«لو» ركبت مع «لا» تارة، وتارة مع «ما» لمعنيين، وزعم المالقي: أن «لو ما» لا تأتي إلا للتحضيض، ويرده قول الشاعر:[الكامل]
لو ما الإصاخة للوشاة لكان لي
…
من بعد سخطك في رضاك رجاء
وقال ابن مقبل: [البسيط]
لو ما الحياء ولو ما الدّين عبتكما
…
ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري
الإعراب: {لَوْ ما:} حرف تحضيض. {تَأْتِينا:} مضارع مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» و (نا): مفعول به. {بِالْمَلائِكَةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتَ:} ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {مِنَ الصّادِقِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر (كان)، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب «لو ما» محذوف لدلالة ما قبله عليه، انظر تقديره في الشرح، والكلام في الآية كله من مقول الكافرين.
{ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8)}
الشرح: {ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاّ بِالْحَقِّ} أي: ما ننزل الملائكة إلا بالحكمة، ولا حكمة في أن تأتيكم عيانا تشاهدونها، وتشهد لكم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار، ولا حكمة أيضا في معاجلتكم بالعقوبة، فإن منكم، ومن ذراريكم من سبقت له كلمتنا بالإيمان. انتهى. جمل نقلا عن كرخي.
{وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ} أي: لو أنزلت عليهم الملائكة بالعذاب؛ لم يمهلوا، ولم يؤخروا ساعة. هذا؛ وقرئ الفعل:(ننزّل) بنون المضارعة الدالة على العظمة ونصب الملائكة، وقرئ:
«(تنزّل)» بضم التاء، وفتح النون والزاي المشددة مبنيا للمفعول، ورفع (الملائكة)، وقرئ:«(ما تنزّل)» بفتح التاء والنون والزاي المشددة، ورفع الملائكة، كما قرئ:«(تنزل)» بفتح التاء وسكون النون وكسر الزاي، ورفع (الملائكة)، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {ما:} نافية. {نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ:} انظر اختلاف القراءات في الشرح. {إِلاّ:}
حرف حصر. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: إلا تنزيلا ملتبسا بالحق. وهو قول الزمخشري، وأجاز السمين تعليقهما بالفعل قبلهما، أو بمحذوف حال من الفاعل، أو المفعول؛ أي: ملتبسين بالحق. (ما): نافية: كانوا ماض ناقص مبني على الضم والواو اسمه، والألف للتفريق. {إِذاً:} حرف جواب وجزاء لا عمل له، ومعناه: حينئذ. أفاده القرطبي، وهو يفيد: أنه ظرف زمان متعلق بما بعده، والتنوين نائب عن الجملة التي تضاف «إذ» إليها، وعليه فتقدير الكلام كما يلي: وما كانوا منظرين حين تنزل الملائكة بعذابهم، وهو جيد المعنى. افهم هذا، واحفظه فإنه جيد. {مُنْظَرِينَ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء
إلخ، وجملة:{وَما كانُوا..} . إلخ جواب لشرط مقدر بلو، انظر الشرح، ولو المقدرة ومدخولها كلام معطوف على الجملة الفعلية قبله لا محل له مثلها؛ لأنها مستأنفة.
{إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)}
الشرح: {إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} أي: القرآن أنزلناه عليك يا محمد، وهو جواب لقولهم:
{يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} فأخبر الله: أنه هو الذي أنزله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم. {وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ} أي: حافظون للذكر من الزيادة فيه، والنقص منه، والتغيير، والتبديل، والتحريف، فالقرآن العظيم محفوظ بحمد الله تعالى من هذه الأشياء كلها، لا يقدر أحد من جميع الخلق من الجن والإنس أن يزيد فيه، أو ينقص منه حرفا واحدا، وهذا مختص بالقرآن العظيم، بخلاف سائر الكتب المنزلة، فإنه قد دخل على بعضها التحريف، والتزييف، والزيادة والنقصان، ولما تولى الله عز وجل حفظ هذا الكتاب بقي مصونا إلى الأبد، محروسا من الزيادة والنقصان. انتهى خازن. وإنما سماه الله ذكرا؛ لأن فيه مواعظ، وتنبيها للغافلين.
أقول: دخل سائر الكتب المنزلة التغيير، والتبديل، والتحريف بسبب إسناد حفظها للأحبار، والرهبان، كما قال تعالى:{بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ} الآية رقم [47] من سورة (المائدة) ولو وكل الله تعالى حفظ هذا الكتاب لعلماء المسلمين، لغيروا فيه، وبدلوا، فقد وجد ويوجد في كل عصر، ومكان علماء فاسقون، ضالون يزيفون الحقائق، ويبيعون دينهم بعرض من الدنيا، ولا يستبعد منهم أن يدعموا ضلالهم بآيات من القرآن الكريم كذبا، وزورا، وبهتانا، وفجورا، ولكن احتجاجهم ببعض الآيات باطل، لا يخفى على من عنده معرفة ببعض أحكام هذا الدين، وفهم لكتاب الله العزيز. هذا؛ وقد قيل: إن الضمير في: {لَهُ} يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: وإنا لمحمّد لحافظون ممّن أراده بسوء، فهو كقوله تعالى:{وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ} والقول الأول: أصح وأشهر، وهو قول الأكثرين؛ لأنه أشبه بظاهر التنزيل وردّ الكناية إلى أقرب مذكور أولى، وهو الذكر.
تنبيه: روى القرطبي في تفسيره ما يلي: قال يحيى بن أكثم: كان للمأمون مجلس نظر (أي:
مناظرة ومناقشة في جميع فنون العلم)، فدخل في جملة الناس رجل يهودي، حسن الثوب، حسن الوجه، طيب الرائحة، قال: فتكلم، فأحسن الكلام والعبارة، قال: فلما تقوض المجلس، دعاه المأمون، فقال له: إسرائيلي؟ قال: نعم، قال له: أسلم حتى أفعل بك وأصنع (أي: من الإكرام) ووعده، فقال: ديني ودين آبائي، وانصرف، قال: فلما كان بعد سنة جاءنا مسلما، قال: فتكلم على الفقه، فأحسن الكلام، فلما تقوّض المجلس دعاه المأمون، وقال: ألست صاحبنا بالأمس؟ قال له: بلى! قال: فما كان سبب إسلامك؟ قال: انصرفت من حضرتك، فأحببت أن أمتحن هذه الأديان، وأنت تراني حسن الخط، فعمدت إلى التوراة، فكتبت ثلاث نسخ، فزدت فيها، ونقصت، وأدخلتها «الكنيسة» ، فاشتريت مني، وعمدت إلى الإنجيل، فكتبت ثلاث نسخ، فزدت
فيها ونقصت، وأدخلتها «البيعة» فاشتريت مني، وعمدت إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ، وزدت فيها ونقصت، وأدخلتها دار الورّاقين فتصفحوها، فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان، رموا بها، فلم يشتروها، فعلمت: أن هذا كتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي! قال يحيى بن أكثم:
فحججت تلك السنة، فلقيت سفيان بن عيينة، فذكرت له الخبر، فقال لي: مصداق هذا في كتاب الله عز وجل. قال: قلت: في أي موضع؟ قال في قول الله تبارك وتعالى في التوراة والإنجيل: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ} فجعل حفظه إليهم فضاع، وقال عز وجل:{إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ} فحفظه الله عز وجل علينا، فلم يضع. انتهى. بحروفه. هذا والبيعة لليهود، والكنيسة للنصارى، فلك الحمد يا رب العالمين على حفظك كتابنا!
الإعراب: {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل. و (نا): اسمها، وقد حذفت نونها للتخفيف، وبقيت الألف دليلا عليها. {نَحْنُ:} ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع مبتدأ، أو هو تأكيد لاسم (إنّ) على المحل، ولا يجوز أن يكون فصلا؛ لأن ما بعدها ليس معرفة، ولا ما قاربها، بل هو مما يقوم مقام النكرة: إذ هو جملة، والجمل تكون نعتا للنكرات، فحكمها حكم النكرات وجوز الجرجاني اعتباره فصلا. {نَزَّلْنَا الذِّكْرَ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} في محل رفع خبر (إنّ)، أو الجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ) على الاعتبارين الأخيرين في الضمير، والجملة الاسمية:
{إِنّا نَحْنُ..} . إلخ مستأنفة، أو ابتدائية لا محل لها. {لَهُ:} متعلقان بما بعدهما. {لَحافِظُونَ:}
خبر (إنّ) مرفوع
…
إلخ، واللام هي المزحلقة، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، واعتبارها حالا من:(نا) الفاعل، أو من المفعول:{الذِّكْرَ} جيد، والرابط على الاعتبارين:
الواو، والضمير.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)}
الشرح: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا..} . إلخ قال الخازن: لما تجرأ كفار مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاطبوه بالسفاهة، وهو قولهم:{إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} أخبره الله عز وجل: أن عادة الكفار في قديم الزمان مع أنبيائهم كذلك؛ أي: فلك يا محمد أسوة في الصبر على أذى قومك بجميع الأنبياء، ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. هذا؛ و {شِيَعِ} جمع: شيعة، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة وأشياع، وأصله من التشيع، ومعنى الشيعة: الجماعة الذين يتبع بعضهم بعضا. وقيل: الشيعة هم الذين يتقوى بهم الإنسان، وفي «القاموس المحيط»: وشيعة الرجل بالكسر: أتباعه وأنصاره، والفرقة على حدة، وتقع على الواحد، والاثنين، والجمع، والمذكر، والمؤنث، وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولى عليا بن أبي طالب، وأهل بيته، حتى صار اسما لهم خاصة،
والجمع أشياع، وشيع كعنب. {الْأَوَّلِينَ:} جمع: أول، انظر شرحه في الآية رقم [24] من سورة (النحل)؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، التقدير: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. هذا؛ وبعضهم يعتبر الواو عاطفة، وبعضهم يعتبرها حرف استئناف، ويعتبر الجملة الآتية جوابا لقسم محذوف، ولا أسلمه أبدا؛ لأنه على هذا يكون قد حذف واو القسم والمقسم به، ويصير التقدير: وو الله أقسم
…
إلخ، أو: وأقسم والله، اللام: واقعة في جواب القسم المحذوف، وبعضهم يقول: موطئة، والموطئة معناها المؤذنة، وهذه اللام إنما تدخل على «إن» الشرطية لتدل على القسم المتقدم على الشرط، وتكون الجملة الآتية جوابا للقسم المدلول عليه باللام، والمتقدم على الشرط حكما، كما في قوله تعالى:{لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ..} . إلخ الآية رقم [12] من سورة (الحشر). افهم هذا واحفظه فإنه جيد. فإن قيل: ما ذكرته من إعراب-يؤدي إلى حذف المقسم به، وبقاء حرف القسم.
فالجواب: أنه قد حذف المقسم به حذفا مطردا في أوائل السور، مثل قوله تعالى:{وَالضُّحى} {وَالسَّماءِ وَالطّارِقِ..} . إلخ فإن التقدير: ورب الضحى، ورب السماء.. إلخ. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَرْسَلْنا:} فعل وفاعل، {مِنْ قَبْلِكَ:} متعلقان بما قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {فِي شِيَعِ:} متعلقان بمحذوف صفة للمفعول المحذوف، التقدير: ولقد أرسلنا من قبلك رسلا كائنين من شيع، و {شِيَعِ:} مضاف، و {الْأَوَّلِينَ:} مضاف إليه مجرور
…
إلخ، والإضافة من إضافة الموصوف إلى صفته، وجملة:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا..} . إلخ جواب القسم الذي رأيت تقديره لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له.
{وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11)}
الشرح: في هذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: كما فعل بك كفار قريش من الاستهزاء، والوصف بالجنون، وغير ذلك فعل كفار الأمم السابقة برسلهم، وانظر شرح الرسول في الآية رقم [38] من سورة (الرعد). {يَأْتِيهِمْ:} ماضيه أتى، وهو يستعمل لازما، إن كان بمعنى:
حضر، وأقبل: ومتعديا. إن كان بمعنى: وصل، وبلغ، فمن الأول: قوله تعالى: {أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} ومن الثاني: الآية الكريمة، ومثلها كثير.
هذا و «الاستهزاء بالشيء» : السخرية منه، والاستخفاف به، وهو مذموم، وصاحبه مطرود من رحمة الله تعالى، وانظر ما تفيده سورة (الحجرات)، إن كنت من أهل القرآن، بالإضافة إلى الأحاديث النبوية الشريفة التي تشدّد النكير على المستهزءين بالناس.
الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {يَأْتِيهِمْ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، والهاء مفعول به. {مِنْ:} حرف جر صلة. {رَسُولٍ:} فاعل
مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، {إِلاّ:} حرف حصر. {كانُوا:} ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {بِهِ:} متعلقان بالفعل بعدهما. {يَسْتَهْزِؤُنَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {كانُوا،} وهذه الجملة في محل نصب حال من الضمير المنصوب والرابط: الضمير فقط، أو هي في محل جر صفة {رَسُولٍ} على اللفظ، أو على المحل، وجملة:{وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وأجيز اعتبارها حالا من {الْأَوَّلِينَ،} ويكون الرابط: الواو، والضمير.
{كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12)}
الشرح: {كَذلِكَ نَسْلُكُهُ..} . إلخ: السّلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في المخيط، والرمح في المطعون. هذا؛ وسلك، وأسلك بمعنى واحد، ومعنى الآية: كما أدخلنا الكفر والتكذيب، والاستهزاء في قلوب شيع الأولين، كذلك نسلكه، وندخله في قلوب المجرمين من أهل مكة، وفيه ردّ على القدرية والمعتزلة، وهي أبين آية في ثبوت القدر لمن أذعن للحق، ولم يعاند، وانظر الآية رقم [13] من سورة (إبراهيم) عليه السلام للتعبير عن الكافرين بالمجرمين ونحوه، وانظر المضل، والهادي في الآية رقم [34] من سورة (هود) عليه السلام.
الإعراب: {كَذلِكَ} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف عامله ما بعده، التقدير: نسلكه في قلوب المجرمين سلكا كائنا مثل سلكه في قلوب الأمم السابقة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {نَسْلُكُهُ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره: نحن، والهاء مفعول به. {فِي قُلُوبِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {قُلُوبِ:} مضاف، و {الْمُجْرِمِينَ:}
مضاف إليه مجرور
…
إلخ، والجملة:{كَذلِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)}
الشرح: {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: بالقرآن. {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ:} فيه وعيد، وتهديد لكفار مكة، يخوفهم الله أن ينزل بهم مثل ما نزل بالأمم الماضية المكذبة للرسل من العقاب، والهلاك.
هذا؛ وقد قيل: إن الضمير في {نَسْلُكُهُ} وفي هذه الآية يعودان إلى {الذِّكْرَ} وهو شيء واحد، والمعنى: مثل ذلك السلك نسلك الذكر في قلوب المجرمين مكذّبا غير مؤمن به. وهذا الاحتجاج ضعيف؛ إذ لا يلزم من تعاقب الضمائر توافقها في المرجوع إليه، ولا يتعين أن تكون
الجملة حالا من الضمير؛ لجواز أن تكون حالا من المجرمين، ولا ينافي كونها مفسرة للمعنى الأول، بل يقويه. انتهى بيضاوي.
هذا؛ والسنة: هي الطريقة، والشريعة، وهي تكون حسنة إن كانت في الخير، وتكون سيئة إن كانت في الشر، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من سنّ خيرا فاستنّ به كان له أجره، ومثل أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا، ومن سنّ شرّا فاستنّ به، كان عليه وزره، ومثل أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئا» . وانظر الآية رقم [25] من سورة (النّحل). وجمع سنة: سنن، قال تعالى:{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ..} . إلخ أي: وقائع سنها الله في الأمم التي كذبت رسلها.
الإعراب: {لا:} نافية. {يُؤْمِنُونَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {بِهِ:}
متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {الْمُجْرِمِينَ}. وقيل: حال من الضمير المنصوب، انظر الشرح، والرابط على الاعتبارين: الضمير فقط. {وَقَدْ:} الواو: حرف استئناف. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {خَلَتْ:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث الساكنة، التي هي حرف لا محل له.
{سُنَّةُ:} فاعله، و {سُنَّةُ} مضاف، و {الْأَوَّلِينَ} مضاف إليه مجرور
…
إلخ، وجملة:{وَقَدْ خَلَتْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، واعتبارها حالا ضعيف.
{وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)}
الشرح: معنى الآية: لو فتحنا على هؤلاء المكذبين؛ الذين طلبوا نزول الملائكة عليهم بابا من السماء، فظلوا يصعدون إليها، ويرون عجائبها طول نهارهم مستوضحين لما يرون في ملكوت السموات، وما فيها؛ لما آمنوا لعنادهم، وكفرهم، ولقالوا: إنا سحرنا. وقيل: المراد عروج الملائكة، فيكون المعنى: لو كشف عن أبصار هؤلاء الكفار، فرأوا بابا من السماء مفتوحا، والملائكة تصعد فيه؛ لما آمنوا. هذا؛ و (ظلوا) أصله: ظللوا، فأسكنت اللام الأولى بعد إسقاط حركتها، وأدغمت في الثانية، وذلك كراهة أن يجمع بين حرفين متحركين من جنس واحد في كلمة واحدة، وهذا يطرد في كل مضعّف، فإذا اتصل بضمير متحرك؛ وجب الفك، مثل قولك:
ظللت، وظللنا.. إلخ، وتقول: ظللت أفعل ذلك وظللت أفعله، وظلت أفعله، وظلت أفعله: إذا كنت تفعله نهارا، وقد قرئ قوله تعالى:{فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} بقراءات ثلاث، وقد يراد به عدم التوقيت في النهار، ويستفاد منه الاستمرار كما في قوله تعالى:{فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ} .
الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف، (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.
{فَتَحْنا:} فعل وفاعل. {عَلَيْهِمْ:} متعلقان به. {باباً:} مفعول به. {مِنَ السَّماءِ:} متعلقان بمحذوف صفة {باباً،} وجملة: {فَتَحْنا..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها
جملة شرط غير ظرفي. (ظلوا): ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {فِيهِ:} متعلقان بما بعدهما. {يَعْرُجُونَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (ظلوا) وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
{لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)}
الشرح: {لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: سدّت أبصارنا مأخوذ من: سكر النهر إذا حبس، ومنع من الجري. وقيل: هو من: سكر الشراب، والمعنى:
إن أبصارهم حارت، ووقع بها من فساد النظر مثل ما يقع للسكران من تغيير العقل، وفساد النظر. وقيل: سكرت: غشيت، وسكنت عن النظر، وأصله من السكور، يقال: سكرت عينه:
إذا تحيرت، وسكنت عن النظر. {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} أي: سحرنا محمد، وعمل فينا سحره.
وقرئ: (سكرت) بالتخفيف، والتشديد، وقرئ:«(سَكرت)» .
وحاصل معنى الآية: أن الكفار لما طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم الملائكة، فيروهم عيانا، ويشهدوا بصدقه؛ أخبر الله سبحانه وتعالى: أنه لو حصل لهم هذا، وشاهدوه عيانا؛ لما آمنوا، وقالوا: سحرنا لما سبق لهم في الأزل من الشقاوة. انتهى. خازن.
الإعراب: {لَقالُوا} اللام: واقعة في جواب (لو). (قالوا): ماض وفاعله، والألف للتفريق.
{إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {سُكِّرَتْ:} ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث. {أَبْصَرْنا:} نائب فاعل، و (نا): في محل جر بالإضافة، {بَلْ:} حرف انتقال. {نَحْنُ:} ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع مبتدأ. {قَوْمٌ:} خبر المبتدأ. {مَسْحُورُونَ:} صفة قوم مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والكلام:{إِنَّما..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{لَقالُوا..} . إلخ جواب (لو) لا محل لها، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.
{وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنّاها لِلنّاظِرِينَ (16)}
الشرح: {وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً:} اثني عشر مختلفة الهيئات والخواص على ما دل عليه الرصد، والتجربة مع بساطة السماء، وأسماؤها: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، والعرب تعدّ المعرفة لمواقع النجوم، وأبوابها من أجلّ العلوم، ويستدلون بها على الطرقات، والأوقات، والخصب والجدب، وقالوا: الفلك اثنا عشر برجا، كل برج ميلان ونصف، وأصل البروج:
الظهور، ومنه: تبرج المرأة بإظهار زينتها، وهذه البروج تنزلها الشمس في مسيرها، وهذه البروج
مقسومة على ثمانية وعشرين منزلا، لكل برج منزلان وثلث منزل، وقد تقدم في الآية رقم [5] من سورة (يونس) عليه السلام ذكر منازل القمر، وهذه البروج مقسومة على ثلاثمائة وستين درجة، لكل برج منها ثلاثون درجة، تقطعها الشمس في كل سنة مرة، وبها تتم دورة الفلك، ويقطعها القمر في ثمانية وعشرين يوما وانظر الآية رقم [61] من سورة (الفرقان). {وَزَيَّنّاها لِلنّاظِرِينَ} أي:
المعتبرين المستدلين بها على قدرة خالقها وصانعها، وهو الله الذي أوجد كل شيء وخلقه وصوره، كما قال تعالى في سورة (الملك):{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ..} . إلخ والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً:} انظر إعراب مثل هذا في الآية رقم [10] ففيه الكفاية. {وَزَيَّنّاها:} فعل ماض وفاعله ومفعوله، والجملة معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {لِلنّاظِرِينَ:} متعلقان بما قبلهما. و {جَعَلْنا} إذا كان بمعنى: خلقنا فالجار والمجرور {فِي السَّماءِ} متعلقان به، وإذا كان بمعنى: صيرنا؛ فيكون {بُرُوجاً} مفعوله الأول، والجار والمجرور في محل نصب مفعوله الثاني.
{وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17)}
الشرح: {وَحَفِظْناها} أي: السماء. {شَيْطانٍ رَجِيمٍ:} انظر شرح الاستعاذة في أول سورة (يوسف) عليه السلام، ففيها الكفاية. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كانت الشياطين لا يحجبون عن السموات، وكانوا يدخلونها، ويأتون بأخبارها إلى الكهنة، فيلقونها إليهم، فلما ولد عيسى عليه السلام؛ منعوا من ثلاث سماوات، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات أجمع، فما منهم من أحد يريد أن يسترق السّمع، إلا رمي بشهاب، فلما منعوا من تلك المقاعد؛ ذكروا ذلك لإبليس، فقال: لقد حدث في الأرض حدث، فبعثهم ينظرون، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن، فقالوا: هذا والله حدث. انتهى. خازن.
الإعراب: {وَحَفِظْناها:} الواو: حرف عطف. {(حَفِظْناها:)} ماض مبني على السكون لاتصاله ب: (نا)، التي هي ضمير متصل في محل رفع فاعل، و (ها): مفعول به، هذا هو الإعراب المتعارف عليه في مثل هذا، والإعراب الحقيقي أن تقول: مبني على فتح مقدر على آخره، منع من ظهوره اشتغال المحل بالسكون العارض، كراهة توالي أربع متحركات فيما هو كالكلمة الواحدة، وقل مثله في إعراب كل ماض، اتصل به ضمير رفع متحرك، مثل: حفظت، وحفظن.
{مِنْ كُلِّ:} متعلقان بما قبلهما. و {كُلِّ} مضاف، و {شَيْطانٍ} مضاف إليه. {رَجِيمٍ:} صفة له، والجملة الفعلية:{وَحَفِظْناها..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.
{إِلاّ مَنِ اِسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18)}
الشرح: {إِلاّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} أي: من الشياطين، واستراق السمع: اختلاسه سرا، شبه به خطفتهم اليسيرة من قطّان السموات فيما بينهم من المناسبة في الجواهر، أو بالاستدلال من أوضاع الكواكب، وحركاتها. انتهى بيضاوي. {فَأَتْبَعَهُ:} فتبعه، ولحقه. {شِهابٌ مُبِينٌ:} ظاهر للمبصرين، والشهاب: شعلة نار ساطعة، سمي الكوكب شهابا لأجل ما فيه من البريق.
قال ابن عباس-رضي الله عنهما-في قوله: {إِلاّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} يريد الخطفة اليسيرة، وذلك: أن الشياطين يركب بعضهم بعضا إلى السماء يسترقون السمع من الملائكة، فيرمون بالكواكب، فلا تخطئ أبدا، فمنهم من تقتله، ومنهم من تحرق وجهه، أو جنبه، أو يده، أو حيث يشاء الله، ومنهم من تخبله، فيصير غولا، يضل الناس في البوادي.
عن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء؛ ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنّه سلسلة على صفوان، فإذا فزّع عن قلوبهم؛ قالوا: ماذا قال ربّكم؟ قالوا: للّذي قال الحقّ، وهو العليّ الكبير، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض-ووصف سفيان بكفّه، فحرفها، وبدّد بين أصابعه-فيسمع الكلمة، فيلقيها إلى من تحته، ثمّ يلقيها الآخر إلى من تحته؛ حتّى يلقيها على لسان السّاحر، أو الكاهن، فربّما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها، وربّما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال له: أليس قد قال لنا يوم كذا، وكذا؟ فيصدّق بتلك الكلمة التي سمعت من السّماء» . أخرجه البخاري.
تنبيه: لقد اختلف هل كانت الشياطين ترمى بالشهب قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على قولين:
أحدهما: أنه لم يكن ذلك موجودا قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام، والثاني: أنه كان موجودا، ولكن لما بعث شدد وغلظ عليهم، وزيد في حفظ السماء وحراستها، صونا لأخبار الغيوب.
والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {إِلاّ:} أداة استثناء. {مَنِ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب على الاستثناء من {كُلِّ شَيْطانٍ،} فهو منقطع. وقيل: متصل، وأجاز أبو البقاء اعتبار {مَنِ:} في محل جر بدل من {كُلِّ،} وبه قال البيضاوي، كما أجاز أبو البقاء وجها ثالثا، وهو اعتباره مبتدأ، والمعتمد الأول: من الثلاثة. {اِسْتَرَقَ:} ماض وفاعله يعود إلى (من){السَّمْعَ:} مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {فَأَتْبَعَهُ:} الفاء: حرف عطف. (أتبعه):
ماض، والهاء مفعول به. {شِهابٌ:} فاعله. {مُبِينٌ:} صفة له، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.
الشرح: {وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ:} انظر الآية رقم [3] من سورة (الرعد) ففيها الكفاية. {وَأَنْبَتْنا فِيها} أي: في الأرض، أو في الجبال. {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} أي: ما يوزن من الذهب، والفضة، والنحاس، والرصاص، والقزدير؛ حتى الزرنيخ والكحل، فيكون (أنبتنا) بمعنى: خلقنا. وقيل: أنبتنا في الأرض الثمار مما يكال ويوزن. وقيل: معنى موزون متناسب في الحسن، والهيئة، والشكل، تقول العرب: فلان موزون الحركات: إذا كانت حركاته متناسبة حسنة، وكلام موزون: إذا كان متناسبا حسنا بعيدا من الخطأ والسخف أوله وزن في أبواب النعمة والمنفعة، ومعنى:(ألقينا) جعلنا، ووضعنا، وانظر شرح:{شَيْءٍ} في الآية رقم [4] من سورة (هود) عليه السلام.
الإعراب: {وَالْأَرْضَ:} الواو: حرف عطف. (الأرض): منصوب على الاشتغال بفعل محذوف يفسره المذكور بعده، وهو أحسن من الرفع؛ لأنه معطوف على {بُرُوجاً،} وقد عمل فيه الفعل قبله، فيكون العطف عطف جملة فعلية على ما قبلها. {مَدَدْناها:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية مفسرة للجملة المحذوفة، لا محل لها، وقال الشلوبين بحسب ما تفسره، وما بعدها معطوف عليها. {مِنْ كُلِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {مِنْ} تبعيضية، ويجوز على مذهب الأخفش اعتبار {مِنْ} زائدة، فيكون {كُلِّ} مفعولا به مجرورا لفظا منصوبا محلا. وقيل: الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول محذوف التقدير: نباتا من كل شيء، و {كُلِّ:} مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه. {مَوْزُونٍ} صفة شيء. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
{وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20)}
الشرح: {وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ:} تعيشون بها من المطاعم والملابس، وقرئ شاذا:
«(معائش)» بالهمز كصحائف، وهو ليس مثله؛ لأن المد في صحيفة زائد، وفي معيشة أصلي؛ لأن أصلها معيشة كمكرمة، أو معيشة كمنزلة، أو معيشة كمتربة، فالياء أصلية على كل حال. هذا؛ والمعيش والمعيشة: مكسب الإنسان الذي يعيش به، وفي القاموس: العيش: الحياة، والعيش:
الطعام، وما يعاش به. {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ} أي: من العيال، والخدم، والحيوانات، وسائر ما يظنون أنهم يرزقونهم ظنا كاذبا، فإن الله يرزق الجميع، كما قال سبحانه وتعالى:{وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاّ عَلَى اللهِ رِزْقُها..} . إلخ الآية رقم [6] من سورة (هود) عليه السلام، والمعنى:
أنتم تنتفعون بهذه الأشياء، وخلقت لمنافعكم، ولستم برازقين لها، وإنما الرازق للجميع هو الله، وهذا في غاية الامتنان.
الإعراب: (جعلنا): فعل وفاعل. {لَكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {فِيها:} متعلقان ب: {مَعايِشَ} بعدهما، أو بمحذوف حال منه، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، على القاعدة «نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» وهذا أولى من التعليق بالفعل. {مَعايِشَ:}
مفعول به ثان، والمفعول الأول:{لَكُمْ،} أو هو على العكس، والجملة الفعلية: {(جَعَلْنا
…
)} إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {وَمَنْ:} الواو: حرف عطف. (من): اسم موصول مبني على السكون وفيه خمسة، أوجه: أحدها، وهو قول الزجاج: أنه منصوب بفعل مقدر، تقديره: وأغنينا من لستم له برازقين كالعبيد، والدواب، والوحوش.
الثاني: أنه منصوب عطفا على {مَعايِشَ؛} أي: وجعلنا لكم فيها من لستم له برازقين من الدواب المنتفع بها. الثالث: أنه منصوب عطفا على محل {لَكُمْ} . الرابع: أنه مجرور عطفا على الكاف المجرورة باللام، وجاز ذلك من غير إعادة الجار على رأي: الكوفيين وبعض البصريين. الخامس: أنه مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف؛ أي: ومن لستم له برازقين جعلنا له فيها معايش. انتهى. جمل نقلا من السمين. {لَسْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه، والميم علامة جميع الذكور. {لَهُ:} متعلقان بما بعدهما. {بِرازِقِينَ:} الباء: حرف جر صلة. (رازقين): خبر (ليس) مجرور لفظا منصوب محلا، وجملة:{لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ} صلة الموصول، لا محل لها، وفاعل (رازقين) مستتر فيه.
{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)}
الشرح: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ} أي: وإن من شيء من أرزاق الخلق ومنافعهم إلا عندنا خزائنه؛ يعني: المطر المنزل من السماء؛ لأن به نبات كل شيء، ومعنى:{عِنْدَنا} أنه في حكمه جلت قدرته، وتصرفه، وأمره، وتدبيره. {وَما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} أي: بقدر الكفاية. وقيل: إن لكل أرض حدا، ومقدارا من المطر، يقال: لا تنزل قطرة مطر من السماء، إلا ومعها ملك يسوقها إلى حيث شاء الله تعالى. وقيل: إن المطر ينزل من السماء كل عام بمقدار واحد، لا يزيد، ولا ينقص، ولكن الله تعالى يمطر أقواما، ويحرم آخرين. هذا؛ والخزائن جمع خزانة، وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء للحفظ، يقال: خزن الشيء إذا أحرزه، ووضعه في مكان أمين. هذا؛ والإنزال بمعنى: الإنشاء والإيجاد، كقوله تعالى:{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ} وقوله:
{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ،} والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. (إن) حرف نفي بمعنى: «ما» . {مِنْ:} حرف جر صلة. {شَيْءٍ:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {إِلاّ:} حرف حصر. {عِنْدَنا:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر
المبتدأ، و (نا): في محل جر بالإضافة. {خَزائِنُهُ:} فاعل بالظرف لاعتماده على النفي، والهاء في محل جر بالإضافة. هذا؛ ويجوز اعتبار الظرف متعلقا بمحذوف خبر مقدم و {خَزائِنُهُ} مبتدأ مؤخر، وتكون الجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَإِنْ مِنْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَما:} الواو: واو الحال. وقيل: عاطفة، والأول: أقوى لتخالف الجملتين بالاسمية والفعلية. (ما): نافية. {نُنَزِّلُهُ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به؛ {إِلاّ:} حرف حصر. {بِقَدَرٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب. {مَعْلُومٍ:} صفة (قدر)، والجملة الفعلية:{وَما نُنَزِّلُهُ..} .
إلخ في محل نصب حال من الضمير المجرور بالإضافة، والرابط: الواو، والضمير، وساغ مجيء الحال من المضاف إليه؛ لأنه كجزئه لملابسته له، قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته:[الرجز]
ولا تجز حالا من المضاف له
…
إلاّ إذا اقتضى المضاف عمله
أو كان جزء ما له أضيفا
…
أو مثل جزئه فلا تحيفا
الشرح: {وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ} أي: حوامل؛ لأنها تحمل الماء، والتراب، والسحاب، والخير، والنفع، وهي جمع: لاقح، وقال الأزهري: وجعل الريح لاقحا؛ لأنها تحمل السحاب؛ أي: تنقله، وتصرفه، ثم تمريه، فتستدره؛ أي: تنزله، قال تعالى:{حَتّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً} الآية رقم [56] من سورة (الأعراف)، فقد شبه سبحانه الريح التي جاءت بخير من إنشاء سحاب ماطر بالحامل، كما شبه ما لا يكون كذلك بالعقيم، أو الرياح ملقحات للسحاب والشجر والنبات وعليه فهي جمع ملقح؛ لأنه من ألقح يلقح، فهو ملقح، فجمعه ملاقح، فحذفت الميم تخفيفا لظهور المعنى، ومثله الطوائح، والأصل المطاوح، وقال الفراء: اللواقح جمع: لاقح على النسب كلابن وتامر؛ أي: ذات لقاح، وفي الكلام استعارة لا تخفى. {فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ} أي: جعلنا الماء النازل من السحاب لسقياكم، ولسقي مواشيكم وأرضكم. {وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ} أي: لستم بخازنين للمطر، وإنما هو مخزون عند الله، فهو الذي ينزله إذا شاء، ويمسكه إذا شاء، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ} الآية [18] من سورة (المؤمنون). هذا و «السماء» يذكر، ويؤنث، و «السماء» كل ما علاك، فأظلك، ومنه قيل لسقف البيت: سماء، و «السماء» المطر، يقال: ما زلنا نطأ السماء؛ حتى أتيناكم، قال معاوية بن مالك:[الوافر]
إذا نزل السّماء بأرض قوم
…
رعيناه وإن كانوا غضابا
أراد بالسماء المطر، ثم أعاد الضمير عليه في:«رعيناه» بمعنى: النبات، وهذا يسمى في فن البديع بالاستخدام، وأصل سماء سماو، فيقال في إعلاله: تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، ولم يعتد بالألف الزائدة؛ لأنها حاجز غير حصين، فالتقى ساكنان: الألف الزائدة، والألف المنقلبة، فأبدلت الثانية همزة.
الإعراب: (أرسلنا): فعل وفاعل. {الرِّياحَ:} مفعول به. {لَواقِحَ:} مفعول به ثان. وقيل:
هو حال مقدرة من {الرِّياحَ،} وجملة: {وَأَرْسَلْنَا..} . إلخ معطوفة على جملة: {جَعَلْنا فِي السَّماءِ..} . إلخ لا محل لها مثلها. {مِنَ السَّماءِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من (ماء)، كان صفة له
…
إلخ. {السَّماءِ:} مفعول به، والجملة الفعلية:
{فَأَنْزَلْنا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {فَأَسْقَيْناكُمُوهُ:} ماض، وفاعله، ومفعولاه، والميم علامة جمع الذكور، وحركت بالضم تحسينا للفظ، فتولدت واو الإشباع، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {وَما:} الواو: واو الحال. (ما): نافية حجازية تعمل عمل «ليس» . {أَنْتُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع اسمها. {لَهُ:}
متعلقان بما بعدهما. {بِخازِنِينَ:} الباء: حرف جر صلة. (خازنين): خبر (ما)، مجرور لفظا، منصوب محلا، والجملة الاسمية:{وَما أَنْتُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الواو، والضمير، أو هي مستأنفة، لا محل لها.
{وَإِنّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23)}
الشرح: {وَإِنّا لَنَحْنُ نُحْيِي:} ما نريد إحياءه بإيجاد الحياة في بعض الأجسام القابلة لها.
{وَنُمِيتُ:} بإزالة الحياة من تلك الأجسام، وهو يعم الحيوان، والنبات. {وَنَحْنُ الْوارِثُونَ} أي:
الأرض ومن عليها، ولا يبقى شيء سوانا، فهو كقوله تعالى:{إِنّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ} فملك كل شيء لله تعالى، ولكن ملك عباده وكالة، فإذا ماتوا؛ عاد الملك لمالكه الحقيقي، وتكرير الضمير للدلالة على الحصر.
هذا وقد قال ابن تيمية-رحمه الله تعالى-في كتابه (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح): وقوله تعالى: {أَخَّرْنا،} {جَعَلْنَا،} {إِنّا،} {نَحْنُ..} . إلخ لفظ يقع في جميع اللغات على من كان له شركاء وأمثال، وعلى الواحد المطاع العظيم، الذي له أعوان يطيعونه، وإن لم يكونوا شركاء، ولا نظراء، والله خلق كل ما سواه، فيمتنع أن يكون له شريك، أو مثل، والملائكة، وسائر العالمين جنوده، فإذا كان الواحد من الملوك يقول: فعلنا، وإنا، ونحن
إلخ، ولا يريدون أنهم ثلاثة ملوك، فمالك الملك رب العالمين، ورب كل شيء، ومليكه هو أحق أن يقول: فعلنا، وإنا، ونحن
…
إلخ مع أنه ليس له شريك، ولا مثل، بل له جنود السموات والأرض. انتهى.
أقول: و (نا): هذه تسمى نون العظمة، وليست دالة على الجماعة، كما يزعم الكافرون، والملحدون فالله تعالى لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وكثيرا ما يتكلم به العبد، فيقول: أخذنا وأعطينا
…
إلخ، وليس معه أحد، والغاية من هذا الكلام الرد على النصارى الذين يدخلون الشبهة على السذج من المسلمين بأن الإله ثلاثة أقانيم: الأب، والابن، وروح القدس، ويدعمون شبهتهم هذه بالألفاظ الموجودة في القرآن، والتي ظاهرها يفيد الجمع.
الإعراب: {وَإِنّا:} الواو: حرف استئناف، {(إِنّا):} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، وحذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {لَنَحْنُ:} اللام: هي المزحلقة. (نحن): مبتدأ.
{نُحْيِ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والمفعول محذوف للتعميم، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (إنّ). هذا؛ وأجيز في الضمير المنفصل أن يكون تأكيدا لاسم (إنّ) على المحل، ولا يجوز أن يكون فصلا؛ لأنه لم يقع بين اسمين، والجملة الاسمية:{وَإِنّا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وجملة:
{وَنُمِيتُ} مع المفعول المحذوف معطوفة على ما قبلها فهي في محل رفع مثلها، والجملة الاسمية:{وَنَحْنُ الْوارِثُونَ} في محل نصب حال من فاعل (نميت) المستتر، والرابط: الواو، والضمير، أو هي معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)}
الشرح: معنى الآية الكريمة: علمنا من استقدم، ولادة وموتا، ومن استأخر، أو من خرج من أصلاب الرجال، ومن لم يخرج بعد، أو من تقدم إلى الجهاد والإسلام، والطاعة، ومن تأخر. والمراد: لا يخفى علينا شيء من أحوالكم، وهو بيان على كمال علمه، بعد الاحتجاج على كمال قدرته، فإن ما يدل على قدرته دليل على علمه. وقيل: رغّب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف الأول: في الصلاة، فازدحموا عليه، فنزلت. وقيل: المستقدمين في صفوف الصلاة، والمستأخرين فيها بسبب النساء، وكل هذا معلوم لله تعالى، فإنه عالم بكل موجود ومعدوم، وعالم بمن خلق، وما هو خالقه إلى يوم القيامة، ورجح القرطبي السبب الأخير؛ لما رواه النسائي، والترمذي عن ابن عباس-رضي الله عنه-قال:«كانت امرأة تصلّي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناء من أحسن الناس، فكان بعض القوم يتقدّم حتى يكون في الصّفّ الأول لئلا يراها، ويتأخر بعضهم حتى يكون في الصّف المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت إبطه، فنزلت الآية الكريمة» . هذا والفعل {عَلِمْنَا} في الجملتين من المعرفة، لا العلم، انظر شرح ذلك في الآية [44] من سورة (الرعد).
الإعراب: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا..} . إلخ: انظر مثل هذا في الآية رقم [10] جملا وإفرادا. {الْمُسْتَقْدِمِينَ:}
مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وفاعله مستتر فيه. {مِنْكُمْ:} متعلقان ب: {الْمُسْتَقْدِمِينَ} وقيل: متعلقان بمحذوف حال، ولا وجه له، وحذف مثلهما من {الْمُسْتَأْخِرِينَ} .
{وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)}
الشرح: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ:} يخرجهم من قبورهم، ويجمعهم للحساب لا محالة، وتوسيط الضمير للدلالة على أنه القادر المتولي لحشرهم لا غير، وتصدير الجملة ب:(إنّ) لتحقيق الوعد، والتنبيه على أن ما سبق من الدلالة على كمال قدرته، وعلمه بتفاصيل الأشياء، يدل على صحة الحكم، كما صرح به بقوله:{إِنَّهُ حَكِيمٌ} أي: باهر الحكمة متقن في أعماله، لا يفعل إلا ما فيه حكمة، أو على وفقها. {عَلِيمٌ} قد وسع علمه كل شيء، ويعلم ما كان وما سيكون، ويعلم من سبقت له العناية الأزلية بالسعادة الأبدية، فيوفقه لعملها.
الإعراب: {وَإِنَّ:} الواو: حرف استئناف، (إن): حرف مشبه بالفعل. {رَبَّكَ:} اسم (إنّ)، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {هُوَ:}
ضمير منفصل مؤكد لاسم (إنّ) على المحل. {يَحْشُرُهُمْ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {رَبَّكَ،} والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ). هذا؛ وإن اعتبرت الضمير مبتدأ؛ فتكون الجملة الفعلية خبره، وعليه فالجملة الاسمية في محل رفع خبر (إنّ) والجملة الاسمية:
{وَإِنَّ رَبَّكَ..} . إلخ مستأنفة. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {حَكِيمٌ عَلِيمٌ} خبران ل:(إنّ)، والجملة الاسمية مؤكدة لسابقتها لا محل لها مثلها.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)}
الشرح: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ:} يعني آدم عليه السلام في قول جميع المفسرين، سمي إنسانا؛ لظهوره وإدراك البصر إياه. وقيل: من النسيان؛ لأنه عهد إليه فنسي. {مِنْ صَلْصالٍ:}
يعني من الطين اليابس الذي إذا نقرته سمعت له صلصلة، يعني صوتا وهو غير مطبوخ، وإذا طبخ فهو فخار، وقد ضعّفت فيه الصاد واللام، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-هو الطين الحر الطيب، الذي إذا نضب عنه الماء تشقق، فإذا حرّك تقعقع. وقال مجاهد: هو الطين المنتن، واختاره الكسائي. {مِنْ حَمَإٍ:} يعني من طين أسود. {مَسْنُونٍ:} متغير، وقال أبو عبيدة: هو المصبوب. قال ابن عباس: هو التراب المبتل المنتن، جعل صلصالا كالفخار.
والجمع بين هذه الأقاويل على ما ذكره بعضهم: أن الله سبحانه وتعالى، لما أراد خلق آدم عليه السلام؛ قبض قبضة من تراب الأرض، فبلها بالماء حتى اسودت، وأنتن ريحها، وتغيرت،
وإليه الإشارة بقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ} ثم إن ذلك التراب بله بالماء وخمره حتى اسود وأنتن ريحه، وتغير، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} ثم ذلك الطين الأسود المتغير صورة صورة إنسان أجوف، فلما جفّ ويبس كانت تدخل فيه الريح، فتسمع له صلصلة، يعني: صوتا، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ} .
تنبيه: وأما صفة خلق آدم عليه السلام، فإني أنقلها لك من الخازن بحروفه، وذلك من سورة (البقرة)، فقال وهب بن منبه-رحمه الله تعالى-: لما أراد الله تعالى أن يخلق آدم؛ أوحى إلى الأرض أني خالق منك خليفة، منهم من يطيعني، ومنهم من يعصيني، فبكت الأرض، فانفجرت منها العيون إلى يوم القيامة، فبعث الله إليها جبريل عليه السلام ليأتيه بقبضة منها، من أحمرها، وأسودها، وطيبها، وخبيثها، فلما أتاها ليقبض منها، قالت: أعوذ بعزة الله الذي أرسلك إليّ أن لا تأخذ مني شيئا يكون للنار فيه نصيب، فرجع جبريل إلى مكانه، وقال: يا رب استعاذت بك مني، فكرهت أن أقدم عليها، فقال الله لميكائيل-عليه السلام-انطلق فائتني بقبضة منها، فلما أتاها ليقبض منها، قالت له: مثل ما قالت لجبريل، فرجع إلى ربه، فقال ما قالت له، فقال لعزرائيل عليه السلام: انطلق فائتني بقبضة من الأرض، فلما أتاها ليقبض منها، قالت له مثل ما قالت لجبريل ولميكائيل، فقال: وأنا أعوذ بعزته أن أعصي له أمرا، فقبض منها قبضة من جميع بقاعها، من عذبها، ومالحها، وحلوها، ومرها، وطيبها، وخبثها، وصعد بها إلى السماء.
فسأله ربه عز وجل-وهو أعلم بما صنع-فأخبره بما قالت الأرض، وبما رد عليها، فقال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لأخلقن مما جئت به خلقا، ولأسلطنك على قبض أرواحهم، لقلة رحمتك، ثم جعل الله تلك القبضة، نصفها في الجنة، ونصفها في النار، ثم تركها ما شاء الله، ثم أخرجها، فعجنها طينا لازبا مدة، ثم حمأ مسنونا مدة، ثم صلصالا، ثم جعلها جسدا، وألقاه على باب الجنة، فكانت الملائكة يعجبون من صفة صورته؛ لأنهم لم يكونوا رأوا مثله، وكان إبليس يمر عليه، ويقول لأمر ما خلق هذا، ونظر إليه، فإذا هو أجوف، فقل: هذا خلق لا يتمالك، وقال يوما للملائكة: إن فضّل هذا عليكم ما تصنعون؟ فقالوا: نطيع ربنا، ولا نعصيه.
فقال إبليس في نفسه: لئن فضّل علي لأعصينه، ولئن فضّلت عليه لأهلكنّه، فلما أراد الله تعالى أن ينفخ فيه الروح أمرها أن تدخل في جسد آدم، فنظرت، فرأت مدخلا ضيقا، فقالت:
يا رب كيف أدخل هذا الجسد؟ قال الله عز وجل: ادخليه كرها، وستخرجين منه كرها، فدخلت في يافوخه، فوصلت إلى عينيه، فجعل ينظر إلى سائر جسده طينا، فسارت إلى أن وصلت منخريه، فعطس، فلما بلغت لسانه، قال: الحمد لله رب العالمين، وهي أول كلمة قالها،
فناداه الله تعالى: رحمك ربك يا أبا محمد، ولهذا خلقتك! ولما بلغت الروح الركبتين، همّ ليقوم، فلما يقدر، قال الله تعالى:{خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ} .
فلما بلغت إلى الساقين والقدمين، استوى قائما بشرا سويّا، لحما، ودما، وعظاما، وعروقا، وعصبا، وأحشاء، وكسي لباسا من ظفر، يزداد جسده جمالا، وحسنا كل يوم، وجعل في جسده تسعة أبواب، سبعة في رأسه، وهي الأذنان يسمع بهما، والعينان يبصر بهما، والمنخران يشم بهما، والفم فيه اللسان يتكلم به، والأسنان يطحن بهما ما يأكله، ويجد لذة المطعومات بها، وبابين في أسفل جسده، وهما القبل والدبر يخرج منهما ثفل طعامه، وشرابه، وجعل عقله في دماغه، وفكره، وصرامته في قلبه، وشرهه في كليته، وغضبه في كبده، ورغبته في رئته، وضحكه في طحاله، وفرحه، وحزنه في وجهه، فسبحان من جعله يسمع بعظم، ويبصر بشحم، وينطق بلحم، ويعرف بدم، وركب فيه الشهوة، وحجزه بالحياء!
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلق الله آدم عليه السلام، وطوله ستون ذراعا، ثمّ قال: اذهب فسلّم على أولئك-نفر من الملائكة-فاستمع ما يحيّونك به، فإنها تحيّتك، وتحيّة ذرّيتك، فقال: السّلام عليكم، فقالوا: السّلام عليك ورحمة الله، فزادوه رحمة الله، فكلّ من يدخل الجنة على صورة آدم، فلم يزل الخلق ينقص حتّى الآن» . متفق عليه.
وعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لمّا صوّر الله آدم، تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطوف به ينظر ما هو؟ فلمّا رآه أجوف؛ عرف: أنه لا يتمالك» .
رواه مسلم.
وعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الله تبارك وتعالى خلق آدم من قبضة قبضها من الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر، والأبيض، والأسود، وبين ذلك، والسّهل، والحزن، والخبيث، والطيّب» . أخرجه الترمذي، وأبو داود. انتهى. خازن.
هذا وقد قال عبد الوهاب النجار-رحمه الله تعالى في كتابه: (قصص الأنبياء): هل آدم هذا هو أول البشر، ولم يكن أحد قبله من جنسه؟
والجواب: أن العقل لا يجعل من المحال أن يكون الله خلق آدم غير آدم هذا، ولكن الله تعالى لم يذكر سوى آدم الذي نعرفه أبا البشر، فالقول بوجود غيره مجازفة بلا برهان، وقد وجد من البشر في الأزمان الغابرة والحاضرة من يدّعون: أن عمران بلادهم أقدم من خلق آدم كأهل الهند، وقد كانوا في الزمان السابق يدّعون: أن آدم كان عبدا من عبيدهم هرب إلى الغرب، وجاء بأولاده، وإلى هذا يشير المعري بقوله:[الوافر]
تقول الهند آدم كان قنّا
…
لنا فسعى إليه مخبّبوه
وإلى القول بوجود أو آدم سوى آدم يشير بقوله: [الخفيف]
جائز أن يكون آدم هذا
…
قبله آدم على إثر آدم
وقوله: [الطويل]
وما آدم في مذهب العقل واحد
…
ولكنّه عند القياس أوادم
وهناك فريق من الناس يرجّح: أنه ليس أول نوعه، ويستأنسون لذلك بقول الملائكة:
{أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ} الآية رقم [30] من سورة (البقرة)، ويقول: إن الملائكة لم يقولوا: ذلك إلا لرؤيتهم من تقدموا قبل آدم من الخلق الذين على صورته قد فعلوا ذلك، وأن آدم عليه السلام، إنما كان خليفة عن بشر كانوا من جنسه، وبادوا، وكل هذه الأقوال لا تستند إلى نصّ قطعي الثبوت والدّلالة. انتهى بحروفه.
الإعراب: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ:} انظر إعراب مثله في الآية رقم [10] ففيها الكفاية. {مِنْ صَلْصالٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ حَمَإٍ:} متعلقان بمحذوف صفة {صَلْصالٍ،} أو بدل منه بإعادة الجار، قاله أبو البقاء. {مَسْنُونٍ:} صفة {حَمَإٍ،} والكلام مستأنف كله لا محل له من الإعراب.
{وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27)}
الشرح: {وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل خلق آدم، قال ابن عباس-رضي الله عنهما:
الجان أبو الجن، كما أن آدم أبو البشر، وقال قتادة: هو إبليس. وقيل: الجان أبو الجن، وإبليس أبو الشياطين، وفي الجن مسلمون، وكافرون، يأكلون، ويشربون، ويحيون، ويموتون، ويتوالدون كبني آدم، وأما الشياطين؛ فليس فيهم مسلمون، ولا يموتون إلا إذا مات إبليس أبوهم. والأصح أن الشياطين نوع من الجن لاشتراكهم في الاستتار، سموا جنا لتواريهم، واستتارهم عن الأعين، من قولهم: جن الليل: إذا ستر بظلمته كل شيء، والشيطان: هو العاتي المتمرد الكافر، والجن منهم المؤمن، ومنهم الكافر وانظر الآية رقم [31] {مِنْ نارِ السَّمُومِ} أي:
من نار الحرّ الشديد النافذ في المسامّ.
الإعراب: {وَالْجَانَّ:} الواو: حرف عطف. (الجان): مفعول به لفعل محذوف يفسره المذكور بعده. {خَلَقْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به. {مِنْ قَبْلُ:} متعلقان بما قبلهما وقيل: متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب، واعتبار {مِنْ نارِ} متعلقين بمحذوف حال من الضمير المنصوب أولى، والمعنى عليه أقوى. وبني قبل على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى، {مِنْ نارِ:} متعلقان بالفعل قبلهما أيضا، و {نارِ:} مضاف، و {السَّمُومِ:} مضاف إليه، والجملة المفسّرة والمفسّرة معطوفتان على الجملة الواقعة جوابا للقسم، لا محل لهما مثلها.
{وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28)}
الشرح: {وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي..} . إلخ: فما أحراك أن تنظر ذلك مفصلا في الآية رقم [30] وما بعدها من سورة (البقرة)، وانظر الباقي في الآية رقم [26]، وانظر شرح الملائكة في الآية رقم [25] من سورة (الرعد)، وشرح:{رَبُّكَ} في الآية رقم [3] من سورة (هود) عليه السلام، وشرح:{بَشَراً} في الآية رقم [27] منها.
الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف استئناف. (إذ): ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بفعل محذوف تقديره: اذكر، أو هو مفعول به لهذا المقدر، وهو الأقوى، وجملة:{قالَ رَبُّكَ} في محل جر بإضافة (إذ) إليها. {لِلْمَلائِكَةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، والياء اسمها. {خالِقٌ:} خبرها، وفاعله مستتر فيه. {بَشَراً:}
مفعول به ل: {خالِقٌ،} {مِنْ صَلْصالٍ:} متعلقان بمحذوف صفة {بَشَراً} . {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ:}
انظر مثله في الآية رقم [26] والجملة الاسمية: {إِنِّي..} . إلخ في محل نصب مقول القول.
{فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29)}
الشرح: {فَإِذا سَوَّيْتُهُ} أي: سويت خلقه، وصورته. {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي:} النفخ عبارة عن إجراء الريح في تجاويف جسم آخر، ومنه نفخ الروح في النشأة الأولى، وأضاف سبحانه روح آدم إلى نفسه على سبيل التشريف، والتكريم لها، كقوله: أرضي، وسمائي، وناقة الله، وشهر الله، وانظر شرح (النفس) في الآية رقم [53] من سورة (يوسف) عليه السلام. {فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ} أي: خروا، واسقطوا على الأرض ساجدين لآدم، وهو سجود تحية وتكريم، لا سجود عبادة، وانظر المزيد من ذلك في آية (البقرة) رقم [34] والآية رقم [11] من سورة (الأعراف).
الإعراب: {فَإِذا:} الفاء حرف استئناف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {سَوَّيْتُهُ:} ماض وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح، وجملة:{وَنَفَخْتُ فِيهِ} معطوفة عليها، فهي في محل جر مثلها. {مِنْ رُوحِي:} متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: {مِنْ} زائدة، و {رُوحِي} مفعول به وتعليق الجار والمجرور بمحذوف صفة لمفعول محذوف أولى، التقدير: نفخت فيه روحا من روحي، والجر الحقيقي، أو اللفظي مقدر على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهوره اشتغال المحل بالحركة المناسبة، وياء المتكلم في محل جر بالإضافة. {فَقَعُوا:} الفاء: واقعة في جواب (إذا). (قعوا): أمر مبني على حذف النون،
والواو فاعله، والألف للتفريق. {لَهُ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو بما بعدهما. {ساجِدِينَ:}
حال من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{فَقَعُوا لَهُ..} . إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف، وهو من مقول الله تعالى.
تنبيه: هذه الآية دليل قاطع على تعليق. (إذا) بفعل شرطها، ولا يجوز تعليقها بجوابها، لاقترانه بالفاء؛ لأنه لا يعمل ما بعد الفاء فيما قبلها، وهذا ما اعتمده ابن هشام في «المغني» ، ومن أدلته الشعرية قول عبد قيس بن خفاف البرجمي:[الكامل]
استغن ما أغناك ربّك بالغنى
…
وإذا تصبك خصاصة فتجمّل
وعلى هذا لا يجوز اعتبارها مضافة للجملة بعدها، ولعلك تدرك بعد هذا قولي:«على المشهور المرجوح» .
{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)}
الشرح: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ} أي: الذين أمروا بالسجود، لآدم عليه السلام.
{أَجْمَعُونَ:} قال سيبويه: هذا توكيد بعد توكيد، وسئل المبرد عن هذه الآية فقال: لو قال سجد الملائكة لاحتمل أن يكون سجد بعضهم، فلما قال: كلهم لزم إزالة ذلك الاحتمال، فظهر بهذا أنهم سجدوا بأسرهم، ثم عند هذا بقي احتمال آخر، وهو أنهم سجدوا في أوقات متفرقة، أو في دفعة واحدة، فلما قال: أجمعون ظهر: أن الكل سجدوا دفعة واحدة. انتهى. خازن.
الإعراب: {فَسَجَدَ:} الفاء: حرف استئناف، أو هي عاطفة على محذوف، التقدير: فخلقه وسواه، ونفخ فيه من روحه، وقال للملائكة: اسجدوا له، فسجد
…
إلخ.
والكلام كله مستأنف لا محل له. (سجد): ماض. {الْمَلائِكَةُ:} فاعل. {كُلُّهُمْ:}
توكيد، والهاء في محل جر بالإضافة، {أَجْمَعُونَ:} توكيد ثان للملائكة مرفوع مثله، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم
…
إلخ، والجملة الفعلية: (سجد
…
) إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{إِلاّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ (31)}
الشرح: {إِبْلِيسَ:} اسم مأخوذ من: أبلس، يبلس، إبلاسا، بمعنى: سكت غمّا، وأيس من رحمة الله تعالى، وخاب، وخسر، وهو من الملائكة، كذا قال علي، وابن عباس، وابن مسعود-رضي الله عنهم-ولأن الأصل في الاستثناء أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، ولهذا قال تعالى له:{ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} وقوله: {كانَ مِنَ الْجِنِّ} معناه: صار من الجن،
كقوله تعالى: {فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} . وقيل: بل الاستثناء منقطع؛ لأنه لم يكن من الملائكة، بل كان من الجن بالنص، وهو قول الحسن، وقتادة، ولأنه خلق من نار، والملائكة خلقوا من النور، ولأنه أبى، وعصى، واستكبر، والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، ولا يستكبرون عن عبادته، ولأنه قال تعالى:{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي،} ولا نسل للملائكة، وعن الجاحظ: إنّ الجن والملائكة جنس واحد، فمن طهر منهم فهو ملك، ومن خبث منهم فهو شيطان، ومن كان بين بين فهو جن، وانظر الآية رقم [27]. هذا؛ والجن أجسام نارية لطيفة قادرة على التشكل في الغالب بأشكال مخيفة قبيحة من حية، ونحوها. {أَبى:} ماض من الإباء، وهو الامتناع، أو أشده، وإباء الله قضاؤه أن لا يكون الأمر، أو عدم قضائه أن يكون، قال تعالى في صيغة المضارع:{وَيَأْبَى اللهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} . هذا؛ ويكون متعديا إذا كان بمعنى: كره، ولازما إذا كان بمعنى: امتنع، وهذا الفعل يتضمن النفي والإيجاب؛ لأنه بمعنى: لا يقبل إلا
…
إلخ.
هذا والسجود في الأصل: تذلل مع تطامن، وفي الشرع: وضع الجبهة على قصد العبادة، والمأمور به إما المعنى الشرعي، فالمسجود له في الحقيقة هو الله تعالى، وجعل آدم قبلة سجودهم تعظيما لشأنه، أو سببا لوجوبه، كما جعلت الكعبة قبلة للصلاة، والصلاة لله، فمعنى اسجدوا له، اسجدوا إليه، وإما المعنى اللغوي، وهو التواضع لآدم، تحية وتعظيما له، كسجود إخوة يوسف له في قوله تعالى:{وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} فلم يكن فيه وضع الجبهة بالأرض، إنما كان بالانحناء، فلما جاء الإسلام؛ أبطل ذلك بالسلام، انظر الآية رقم [100] من سورة (يوسف) عليه السلام.
الإعراب: {إِلاّ:} أداة استثناء. {إِبْلِيسَ:} مستثنى من الملائكة، وانظر الشرح. {أَبى:}
ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل يعود إلى {إِبْلِيسَ}. {أَنْ} حرف مصدري ونصب. {يَكُونَ:} مضارع ناقص منصوب بأن، واسمه يعود إلى إبليس. {مَعَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر يكون، وهو مضاف، و {السّاجِدِينَ:} مضاف إليه مجرور
…
إلخ، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، و {أَنْ يَكُونَ} في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، أو هو في محل جر بحرف جر محذوف، أو هو منصوب بنزع الخافض، وجملة:{أَبى..} . إلخ في محل نصب حال من {إِبْلِيسَ} على اعتبار الاستثناء متصلا، وتكون «قد» مقدرة قبل الجملة، والرابط: الضمير فقط، ومستأنفة إن كان الاستثناء منقطعا لا محل لها.
{قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاّ تَكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ (32)}
الشرح: قال الله تعالى: يا إبليس ما المانع لك في أن تكون مع الساجدين من الملائكة.
الإعراب: {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى «الله». (يا): أداة نداء تنوب مناب: «أدعو» .
(إبليس): منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب ب: (يا). {ما:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَكَ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. (أن) حرف مصدري ونصب واستقبال. (لا): نافية. {تَكُونَ:} مضارع ناقص منصوب ب: (أن)، واسمه تقديره:«أنت» . {مَعَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر {تَكُونَ،} و {مَعَ} مضاف، و {السّاجِدِينَ:} مضاف إليه مجرور
…
إلخ، و {أَلاّ تَكُونَ} في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، والجار والمجرور متعلقان بما تضمنه الاستفهام من معنى الفعل، أو هما متعلقان بمحذوف في محل نصب حال من كاف الخطاب، التقدير: مالك غير كائن مع الساجدين، والعامل في الحال الاستفهام، والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)}
الشرح: أراد إبليس-أخزاه الله-أنه أفضل من آدم عليه السلام؛ لأن آدم طيني الأصل، وأنه ناري الأصل، والنار أفضل من الطين؛ لأن النار جسم شفاف، والطين جسم كثيف، فيكون إبليس في قياسه أفضل من آدم، ولم يدر الخبيث: أن الفاضل من فضّله الله، وانظر سورة (الأعراف) الآية رقم [12] ففيها فضل بيان، وانظر شرح بقية الآية في الآية رقم [26] وقد عبر بشار بن برد الأعمى عن هذه الأفضلية حيث قال:[الكامل]
إبليس أفضل من أبيكم آدم
…
فتبيّنوا يا معشر الأشرار
النّار عنصره وآدم طينة
…
والطين لا يسمو سموّ النار
الإعراب: {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى (إبليس). {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم.
{أَكُنْ:} مضارع ناقص مجزوم ب: {لَمْ،} واسمه مستتر فيه، تقديره:«أنا» . {لِأَسْجُدَ:}
مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة وجوبا بعد لام الجحود، والفاعل مستتر وجوبا تقديره:«أنا» ، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام الجحود، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر {أَكُنْ،} التقدير: لم أكن مريدا للسجود. {لِبَشَرٍ:} متعلقان بما قبلهما. {خَلَقْتَهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل جر صفة (بشر). {مِنْ صَلْصالٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ حَمَإٍ:} متعلقان بمحذوف صفة: {صَلْصالٍ،} أو بدل منه بإعادة الجار، قاله أبو البقاء. {مَسْنُونٍ:} صفة: {حَمَإٍ،} وجملة: {لَمْ أَكُنْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34)}
الشرح: قال الله لإبليس: اخرج من الجنة، أو من السموات، أو من زمر الملائكة. {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ:} مطرود من رحمتي، ومرجوم باللعن، والطرد عن الخير، وهذا على أنه بمعنى:
مفعول. وقيل: هو فعيل بمعنى: فاعل؛ أي: يرجم غيره بالوسوسة والإغواء، وما أجدرك أن تنظر القول في الآية رقم [18] من سورة (هود) عليه السلام.
الإعراب: {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى «الله». {فَاخْرُجْ:} الفاء: زائدة لتحسين اللفظ، أو هي الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، التقدير: وحيثما حصل منك العصيان، والتكبر؛ فاخرج، وهذا أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {مِنْها:} متعلقان به، والجملة الفعلية لا محل لها بمفردها، إن كانت جوابا للشرط، ثمّ الشرط المقدر، ومدخوله في محل نصب مقول القول. وأيضا الجملة بمفردها في محل نصب مقول القول على اعتبار الفاء زائدة.
{فَإِنَّكَ:} الفاء: حرف تعليل. (إنك): حرف مشبه بالفعل، {رَجِيمٌ:} خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل للأمر، لا محل لها، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35)}
الشرح: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ} . قيل: إن أهل السموات يلعنون إبليس، كما يلعنه أهل الأرض، فهو ملعون في السموات والأرض. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (ص):{وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي} . {إِلى يَوْمِ الدِّينِ:} يوم الحساب والجزاء، وانظر الآية رقم [40] من سورة (يوسف) عليه السلام. وإنما حدّ سبحانه لعن إبليس إلى يوم الدين؛ لأنه أبعد غاية يضربها للناس؛ ثم لا ينتهي لعنه له، بل يزاد فوق اللعن العذاب الشديد الدائم الذي لا انقطاع له، فيصير اللعن لا قيمة له، وكأنه زائل بجانب ذلك، وانظر اللعن في الآية رقم [25] من سورة (الرعد).
الإعراب: {وَإِنَّ:} الواو: حرف عطف. (إن): حرف مشبه بالفعل. {عَلَيْكَ:} متعلقان بمحذوف خبر (إنّ) مقدم، والتقديم يفيد الحصر، والاختصاص. {اللَّعْنَةَ:} اسمها مؤخر.
{إِلى يَوْمِ:} متعلقان ب: {اللَّعْنَةَ؛} لأنها مصدر، و {يَوْمِ:} مضاف، و {الدِّينِ:} مضاف إليه
…
إلخ. هذا؛ وأجيز تعلق الجار والمجرور بمحذوف حال من {اللَّعْنَةَ،} والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
الشرح: {قالَ رَبِّ..} . إلخ: أي: قال إبليس-أخزاه الله-: رب أمهلني فلا تمتني. {إِلى}
يَوْمِ يُبْعَثُونَ: المراد به: يوم القيامة، وهو اليوم الذي يخرج فيه الناس من قبورهم للحساب، والجزاء بعد النفخة الثانية، فقال الله لإبليس لما سأل الإمهال:{فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ؛} أي:
الممهلين المؤخرين، وقد قيد الله هذا الإمهال هنا بقوله:{إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} وهو النفخة الأولى التي يموت بسببها كلّ من في السموات والأرض إلا من شاء الله، ولم يقيده بسورة (الأعراف) للتفنن، فقد كره اللعين أن يذوق مرارة الموت، وطلب البقاء والخلود إلى النفخة الثانية، وحينئذ لا موت؛ لأن الموت يتم عند النفخة الأولى، فلم يعط سؤاله، وإنما أجيب طلبه، وهو الإمهال، مع أنه إنما طلبه ليفسد أحوال العباد، لما في ذلك من ابتلاء العباد، ولما في مخالفته من عظيم الثواب.
أقول: وإنما أمهله ربه ليكون سببا في وفاء وعده تعالى لجهنم: {وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ؛} إذ لولاه لكان الناس جميعا مهتدين. هذا؛ وقد ذكر الله في سورة (الكهف) أن له ذرية، وذلك ليكون لكل إنسان من بني آدم قرين، وشيطان، وإنما سمي يوم القيامة بيوم الوقت المعلوم؛ لأن ذلك اليوم لا يعلمه أحد إلا الله تعالى، فهو معلوم عنده.
وقيل: لأن جميع الخلائق يموتون فيه، فهو معلوم بهذا الاعتبار.
هذا؛ وقد قال البيضاوي: ويجوز أن يراد بالأيام الثلاثة يوم القيامة، واختلاف العبارات لاختلاف الاعتبارات، فعبر عنه أولا بيوم الجزاء؛ لما عرفت، وثانيا بيوم البعث؛ إذ به يحصل العلم بانقطاع التكليف، واليأس عن التضليل، وثالثا بالمعلوم؛ لوقوعه في الكلامين، ولا يلزم من ذلك أن لا يموت، فلعله يموت، أول اليوم، ويبعث مع الخلائق في تضاعيفه، وهذه المخاطبة وإن لم تكن بواسطة لم تدل على علو منصب إبليس؛ لأن خطاب الله له على سبيل الإهانة والإذلال. انتهى.
الإعراب: {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى إبليس. {رَبِّ:} منادى حذف منه أداة النداء، وانظر الآية رقم [35] من سورة (إبراهيم) عليه السلام. {فَأَنْظِرْنِي} الفاء: انظر مثلها في الآية رقم [24] وتقدير الكلام على اعتبارها الفصيحة: إن قضيت علي بهذا الجزاء فأنظرني.
(انظرني): فعل دعاء، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية يقال فيها ما قلته بجملة:{فَاخْرُجْ مِنْها} . {إِلى يَوْمِ:} متعلقان بالفعل قبلهما.
{يُبْعَثُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع إلخ
…
والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {يَوْمِ} إليها، والكلام {رَبِّ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} .
إلخ مستأنفة، لا محل لها. {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى «الله». {فَإِنَّكَ} الفاء: انظر مثلها فيما سبق. (إنك): حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {مِنَ الْمُنْظَرِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (إن)، {إِلى يَوْمِ:} متعلقان ب: {الْمُنْظَرِينَ،} و {يَوْمِ} مضاف، و {الْوَقْتِ}
مضاف إليه. {الْمَعْلُومِ:} صفة الوقت، والجملة الاسمية:{فَإِنَّكَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي} أي: فبأي: شيء أضللتني. وقيل: المعنى فبسبب إغوائك إياي لأزينن
…
إلخ. وقيل: المعنى فبسبب وقوعي في الغي؛ لأجتهدن في غوايتهم حتى يفسدوا بسببي، كما فسدت بسببهم، وقال سليمان الجمل في سورة (الأعراف): غرضه بهذا أخذ ثأره منهم؛ لأنه لما طرد، ومقت بسببهم على ما تقدّم؛ أحب أن ينتقم منهم أخذا بالثأر. هذا؛ وضمير الجمع لذرية آدم، وإن لم يجر لهم ذكر، للعلم به.
{لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ:} مراده: تزيين المعاصي، والشهوات، وحب الدنيا، والانهماك في العمل لها. {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} أي: لأضلنهم بإلقاء الوسوسة في قلوبهم، وذلك: أن إبليس لما علم بأنه سيموت على الكفر غير مغفور له؛ حرص على إضلال الخلق بالكفر، وإغوائهم. {إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} أي: المؤمنين الذين أخلصوا لك التوحيد والطاعة والعبادة، وهذا على قراءة كسر اللام، وعلى القراءة بفتح اللام يكون المعنى إلا من أخلصته، واصطفيته لتوحيدك، وعبادتك، وإنما استثنى إبليس المخلصين؛ لأنه علم أن وسوسته وكيده، لا يعملان فيهم، ولا يقبلان منه.
وحقيقة الإخلاص: فعل الشيء خالصا لله عن شائبة الغير، فكل من أتى بعمل من أعمال الطاعات فلا يخلو إما أن يكون مراده بتلك الطاعة وجه الله فقط، أو غير وجه الله، أو مجموع الأمرين، أما ما كان لله تعالى فهو الخالص المقبول، وأما ما كان لغير الله، فهو الباطل المردود، وأما من كان مراده مجموع الأمرين، فإن ترجح جانب الله تعالى كان من المخلصين الناجين، وإن ترجح الجانب الآخر كان من الهالكين؛ لأن المثل يقابله المثل، فيبقى القدر الزائد، وإلى أي الجانبين رجح؛ أخذ به. انتهى خازن.
الإعراب: {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى (إبليس). {رَبِّ:} منادى حذفت منه أداة النداء، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [35] من سورة (إبراهيم) عليه السلام. {بِما} الباء: حرف جر. (ما): مصدرية. {أَغْوَيْتَنِي:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والنون للوقاية، وانظر إعراب:
(حفظنا) في الآية رقم [17] و (ما) المصدرية، والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم، أو أحلف؛ لأن الباء دالة على قسم
مقدر، ومتعلقة بفعله المقدر. انتهى. جمل. وقال البيضاوي، والنسفي: والباء تتعلق بفعل القسم المحذوف، تقديره: فبسبب إغوائك أقسم، أو تكون للقسم؛ أي: فأقسم بإغوائك. وقال أبو البقاء: الباء تتعلق بالفعل: {لَأُزَيِّنَنَّ،} ولا وجه له؛ لأن اللام تمنعه. هذا؛ وأجيز اعتبار (ما) استفهامية مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {أَغْوَيْتَنِي} والوقف يكون عليه، وما بعده كلام مستأنف، وعليه فالجملة فعلية، وهي في محل نصب مقول القول. انتهى. منقولا من إعراب الآية رقم [16] من سورة (الأعراف).
وأضيف هنا: أنّ الجمل قال: والفقهاء قالوا: الإقسام بصفات الذات صحيح، واختلفوا في القسم بصفات الأفعال، ومنهم من فرق بينهما، ولأن جعل الإغواء مقسما به غير متعارف. انتهى. نقلا عن كرخي. هذا؛ والمراد بصفات الذات مثل حلف إبليس في سورة (ص):{فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ،} والمراد بصفات الأفعال حلفه هنا وفي سورة (الأعراف)، وهو ما رأيته. {لَأُزَيِّنَنَّ:} اللام: واقعة في جواب القسم، (أزينن): مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والفاعل مستتر تقديره: أنا، والنون حرف لا محل له، والمفعول محذوف، انظر الشرح. {لَهُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ} جواب القسم المحذوف المدلول عليه بالباء، وهي جواب قسم محذوف على اعتبار (ما) استفهامية، وعلى الاعتبارين فالكلام كله في محل نصب مقول القول.
{فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما وقيل: متعلقان بمحذوف حال من الضمير المجرور محلا باللام. {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ:} إعرابه مثل إعراب سابقه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على جميع الوجوه المعتبرة فيها. {أَجْمَعِينَ:} توكيد للضمير المنصوب، فهو منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {إِلاّ:} أداة استثناء. {عِبادَكَ:} مستثنى ب: {إِلاّ} من الضمير المنصوب المؤكد بما رأيت، والكاف في محل جر بالإضافة. {مِنْهُمُ:} متعلقان بما بعدهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {عِبادَكَ}. {الْمُخْلَصِينَ:} صفة {عِبادَكَ،} أو بدل منه منصوب
…
إلخ.
الشرح: قال عمر بن الخطاب-رضي الله عنه: معناه: هذا صراط مستقيم يستقيم بصاحبه حتى يهجم به على الجنة. وقال مجاهد والكسائي: هذا على الوعيد والتهديد، كقولك لمن تهدده: طريقك عليّ، ومصيرك إليّ. وقيل: معناه حق عليّ أن أراعيه. هذا؛ ويقرأ: «(عليٌّ)» بتنوينه، ومعناه: رفيع مستقيم.
{إِنَّ عِبادِي..} . إلخ: أي: إن عبادي المؤمنين المخلصين لا تسلط لك عليهم إلا بالوسوسة، من غير أن تلقيهم في ذنب يضيق عنه عفوي، وهؤلاء خاصة الله الذين هداهم واجتباهم من عباده. {إِلاّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ} أي: من اتبع إبليس من الضالين فإن له عليهم تسلطا بسبب كونهم منقادين له فيما يأمرهم به. هذا؛ وصراط هو في الأصل: الطريق، والمراد به هنا: السنّة التي أجراها الله في عباده. {مُسْتَقِيمٌ:} لا اعوجاج فيه، ولا انحراف، وانظر إعلال {مُقِيمَ} في الآية رقم [40] من سورة (إبراهيم) عليه السلام فهو مثله، وانظر مثل {عِبادِي} في الآية رقم [31] منها، وانظر شرح:{سُلْطانٌ} في الآية رقم [96] من سورة (هود) عليه السلام.
الإعراب: {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى (الله). {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه، لا محل له. {صِراطٌ:} خبر المبتدأ. {عَلَيَّ:} متعلقان بمحذوف صفة؛ أي: حق علي. {مُسْتَقِيمٌ:} صفة ثانية. هذا وعلى القراءة الثانية ف: {(عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ)} صفتان لصراط، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {عِبادِي:} اسم إن منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {لَيْسَ:} ماض ناقص.
{لَكَ:} متعلقان بمحذوف خبر {لَيْسَ} مقدم. {عَلَيْهِمْ:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {سُلْطانٌ،} {سُلْطانٌ:} اسم {لَيْسَ} مؤخر، وجملة:{لَيْسَ..} . إلخ في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ عِبادِي..} . إلخ مفسرة لقوله تعالى: {صِراطٌ..} . إلخ {إِلاّ:} أداة استثناء. {مَنِ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب على الاستثناء من {عِبادِي،} وهل هو متصل، أو منقطع خلاف. {اِتَّبَعَكَ:} ماض، والفاعل يعود إلى من، والكاف مفعول به. {مِنَ الْغاوِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. هذا؛ ويجوز تعليق:{مِنَ الْغاوِينَ} بمحذوف حال من الفاعل المستتر، و {مَنِ} بيان لما أبهم في:{مَنِ} وجملة: {قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} أي: لموعد الغاوين المتبعين إبليس. {لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ:} لجهنم سبع طبقات، بعضهم فوق بعض ينزلونها بحسب مراتبهم في المتابعة، قال ابن جريج: النار سبع دركات، وهي منازل أهلها، والجنة درجات، فالدرك ما كان إلى أسفل، والدرج ما كان إلى أعلى، فالعليا من طبقات النار لعصاة المسلمين، وهي جهنم، تكون بعد خروجهم منها خرابا، لا نار فيها. والثانية: لظى للنصارى. والثالثة: الحطمة لليهود. والرابعة:
السعير للصابئين. والخامسة: سقر للمجوس. والسادسة: الجحيم لأهل الشرك. والسابعة:
الهاوية، وهي الدرك الأسفل للمنافقين، قال تعالى:{إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ} وإنما كان عقابهم كذلك؛ لأنهم أخبث الكفرة؛ لأنهم ضموا إلى الكفر استهزاء بالإسلام، وخداعا للمؤمنين، وبالمقابل انظر الجنان في الآية رقم [26] من سورة (يونس) عليه السلام، والآية رقم [23] من سورة (الرعد). {لِكُلِّ بابٍ} أي: من أبواب جهنم. {مِنْهُمْ جُزْءٌ:} حظ ونصيب من الغاوين وأتباع الشيطان معلوم.
تنبيه: روي: أن سلمان الفارسي-رضي الله عنه-لما سمع هذه الآية فرّ ثلاثة أيام من الخوف لا يعقل، فجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله، فقال: يا رسول الله أنزلت هذه الآية، فو الذي بعثك بالحق لقد قطعت قلبي، فأنزل الله تعالى الآية التالية. وقال بلال-رضي الله عنه-كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في مسجد المدينة وحده، فمرت به امرأة أعرابية، فصلت خلفه، ولم يعلم بها، فقرأ صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فخرت الأعرابية مغشيا عليها، وسمع النبي عليه الصلاة والسلام وجبتها، فانصرف، ودعا بماء فصب على وجهها حتى أفاقت وجلست، فقال:«يا هذه مالك؟» فقالت:
أهذا شيء من كتاب الله المنزل، أو تقوله من تلقاء نفسك؟ فقال:«يا أعرابية! بل هو من كتاب الله تعالى المنزل» ، فقالت: كل عضو من أعضائي يعذب على كل باب منها، قال:«يا أعرابية، بل لكل باب منهم جزء مقسوم، يعذب أهل كل منها على قدر أعمالهم» . فقالت: والله إني امرأة مسكينة، ما لي مال، وما لي إلا سبعة أعبد، أشهدك يا رسول الله! أنّ كل عبد منهم عن كل باب من أبواب جهنم حر لوجه الله تعالى. فأتاه جبريل، فقال: يا رسول الله! بشر الأعرابية: أن الله قد حرم عليها أبواب جهنم كلها، وفتح لها أبواب الجنة كلها. انتهى. قرطبي بتصرف.
تنبيه: لقد ذكرت قصة آدم عليه السلام في سورة (البقرة)، وفي سورة (الأعراف)، و (الإسراء) و (الكهف) وسورة (طه) باسمه وصفته، وذكرت في سورة (الحجر)، وسورة (ص) بصفته فقط، وكلها بمعنى: واحد، ولكن بعبارات مختلفة اللفظ فقط، وذلك مما يدل على إعجاز القرآن، فإن أكتب الكتاب، وأبلغ البلغاء إذا كتب قصة مرة، يستحيل عليه أن يكتبها مرة أخرى بألفاظ غير الأولى، مع المحافظة على المتانة في الأسلوب، والبلاغة في التعبير كما في القرآن الكريم.
الإعراب: {وَإِنَّ:} الواو: حرف عطف. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {جَهَنَّمَ:} اسم (إنّ).
{لَمَوْعِدُهُمْ:} اللام: هي المزحلقة. (موعدهم): خبر (إنّ)، والهاء في محل جر بالإضافة.
{أَجْمَعِينَ:} توكيد للضمير المجرور محلا بالإضافة مجرور، وعلامة جره الياء
…
إلخ. وقيل:
هو حال من الضمير المذكور، والأول: أولى، والجملة الاسمية:{وَإِنَّ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {لَها:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {سَبْعَةُ:}
مبتدأ مؤخر، و {سَبْعَةُ:} مضاف، و {أَبْوابٍ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية:{لَها..} . إلخ في محل نصب حال من {جَهَنَّمَ،} والرابط: الضمير فقط والعامل (إنّ) لما فيها من معنى التأكيد،
أو هي في محل رفع خبر ثان ل: (إنّ)، أو هي مستأنفة، لا محل لها، وضعف أبو البقاء الأول، ولا وجه له. {لِكُلِّ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم، و (كل) مضاف، و {بابٍ} مضاف إليه.
{مِنْهُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من جزء، كان صفة له، فلما قدم عليه، صار حالا، وهذا لا يجيزه سيبويه، أعني به مجيء الحال من المبتدأ، فالأولى اعتباره حالا من الضمير المستتر في متعلق الجار والمجرور، أعني: الخبر المحذوف. {جُزْءٌ:} مبتدأ مؤخر. {مَقْسُومٌ:} صفته، والجملة الاسمية:{لِكُلِّ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47)}
الشرح: {وَنَزَعْنا..} . إلخ: أي: وأخرجنا ما في صدور المتقين الموحدين من حسد، وحقد، وعداوة كانت بينهم في الدنيا، فجعلناهم {إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ:} لا يحسد بعضهم
بعضا على شيء خص الله به بعضهم دون بعض، ولا يحقد بعضهم على بعض، ومعنى نزع الغل: تصفية الطباع، وإسقاط الوساوس، ودفعها على أن ترد على القلب، حتى يكون القلب خاليا من كل غش.
روي عن عليّ كرم الله وجهه: أنه قال: فينا والله أهل بدر نزلت: {وَنَزَعْنا..} . إلخ. وروي عنه أيضا أنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا، وعثمان، وطلحة، والزبير منهم. وانظر ما ذكرته في آية (الأعراف) رقم [43] وآية (الأنبياء) رقم [101] تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. هذا؛ و (الغل) بالمعنى المذكور بكسر الغين، وهو بضمها: القيد من الحديد، وحرارة العطش أيضا. هذا؛ والغلول من المغنم خاصة، وهو أخذ الشيء خفية، وهو ما ذكر في الآية رقم [161] من سورة (آل عمران): هذا و {إِخْواناً} في المحبة والمودة والمخالطة، وليس المراد أخوة النسب، و (السرر) جمع: سرير، مثل: جديد، وجدد.
قال ابن عباس-رضي الله عنهما: على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد، والدرّ، والياقوت، و {مُتَقابِلِينَ} أي: يقابل بعضهم بعضا، لا ينظر بعضهم في قفا بعض، وفي بعض الأخبار: أن المؤمن في الجنة إذا أراد أن يلقى أخاه المؤمن سار سرير كل واحد منهما إلى صاحبه، فيلتقيان، ويتحدثان. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَنَزَعْنا:} الواو: حرف استئناف. (نزعنا): فعل، وفاعل. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {فِي صُدُورِهِمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنْ غِلٍّ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في متعلق الجار والمجرور، و {مِنْ} بيان لما أبهم في:{ما} وجملة: {(نَزَعْنا
…
)} إلخ مستأنفة، لا محل لها. {إِخْواناً:} حال من الضمير المجرور محلا بالإضافة، فهي حال متداخلة، وجاز؛ لأن المضاف جزؤه، وانظر الآية رقم [21] وقيل: حال من واو الجماعة، أو من الضمير المستتر في آمنين. {عَلى سُرُرٍ:} متعلقان بما بعدهما، فيكون {مُتَقابِلِينَ:} صفة ل: {إِخْواناً،} وأجيز تعليق الجار والمجرور بمحذوف صفة إخوانا فيكون متقابلين حالا من الضمير المستقر في الجار والمجرور، كما أجيز تعليقهما بنفس {إِخْواناً؛} لأنه بمعنى:
متصافين، فيكون {مُتَقابِلِينَ} حالا من الضمير في {إِخْواناً} . انتهى. عكبري بتصرف.
{لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48)}
الشرح: {لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ:} ولا يصيبهم في الجنة تعب، وإعياء، {وَما هُمْ مِنْها..} .
إلخ: أي: ليس المتقون مخرجين من الجنة، وهذا نص من الله في كتابه على خلود أهل الجنة في الجنة، والمراد منه خلود بلا زوال، وبقاء بلا فناء، وكمال بلا نقصان، وفوز بلا حرمان.
الإعراب: {لا:} نافية. {يَمَسُّهُمْ:} مضارع، والهاء مفعول به. {فِيها:} متعلقان بالفعل قبلهما. {نَصَبٌ:} فاعل، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المستتر في {مُتَقابِلِينَ} فهي حال متداخلة، أو هي حال متكررة، كما أجيز اعتبارها مستأنفة. {وَما:}
الواو: حرف عطف. (ما): نافية حجازية تعمل عمل «ليس» . {يَمَسُّهُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع اسم (ما). {مِنْها:} متعلقان بما بعدهما. {بِمُخْرَجِينَ:} الباء: حرف جر صلة. (مخرجين): خبر (ما)، مجرور لفظا، منصوب محلا، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها على جميع الاعتبارات فيها. هذا؛ وإن اعتبرت (ما) تميمية؛ فالمعنى لا يتغير، والإعراب يبقى بحاله على أنّ الضمير مبتدأ، وزيدت الباء في الخبر.
الشرح: قال القرطبي: هذه الآية وزان قوله عليه الصلاة والسلام: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنّته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من رحمته أحد» . أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه، وهم يضحكون، فقال:«أتضحكون؛ وبين أيديكم النار؟» . فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام بهذه الآية، وقال: يقول لك ربّك: يا محمد! ممّ تقنّط عبادي؟ ذكره البغوي بغير سند. انتهى. خازن.
و {عِبادِي:} جمع عبد، وهو الإنسان من بني آدم حرا كان، أو رقيقا، ويقال للمملوك، عبد قن، وله جموع كثيرة، وأشهرها عبيد، وعباد، والإضافة في الآية ونحوها إضافة تشريف، وتكريم.
الإعراب: {نَبِّئْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {عِبادِي:} مفعول به أول منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، وياء المتكلم في محل جر بالإضافة. {أَنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {أَنَا:} ضمير منفصل لا محل له، أو هو تأكيد لاسم (إنّ) على المحل، وعليهما ف {الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} خبران ل:(أنّ). هذا؛ ويجوز اعتبار الضمير مبتدأ و {الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} خبران له، وعليه فالجملة الاسمية في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي {نَبِّئْ،} والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.. والمصدر المؤول من:{وَأَنَّ عَذابِي..} . إلخ معطوف على المصدر المؤول السابق، والإعراب واضح لا خفاء فيه، أما الضمير {هُوَ} فيجوز اعتباره فصلا، ومبتدأ، ولا يجوز اعتباره تأكيدا؛ لأن الظاهر لا يؤكد بالضمير. و {الْأَلِيمُ} صفة {الْعَذابُ} .
الشرح: {وَنَبِّئْهُمْ..} . إلخ: أي: أخبر عبادي وحدثهم عن ضيف إبراهيم عليه السلام.
والمراد بضيف إبراهيم: الملائكة الذين بشروه بإسحاق عليه السلام، وبهلاك قوم لوط. انظر شرح ذلك مفصلا في سورة (هود) الآية رقم [69] وما بعدها، وانظر عمر إبراهيم، عليه السلام، وعمر أولاده، وأحفاده في الآية رقم [71] منها أيضا.
{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ:} على إبراهيم، {فَقالُوا سَلاماً} أي: نسلم سلاما، {قالَ إِنّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} أي: فزعون خائفون، وإنما خاف منهم بعد أن قرب إليهم العجل المشوي، ورآهم لا يأكلون، وقد رأيته مفصلا في سورة (هود).
تنبيه: قال الجمل نقلا عن الخطيب، ولما بالغ تعالى في تقرير النبوة، ثم أردفه بذكر دلائل التوحيد، ثم ذكر تعالى عقبه أحوال القيامة، ووصف الأشقياء، والسعداء؛ أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم السلام؛ ليكون سماعها مرغبا في العبادة، الموجبة للفوز بدرجات الأولياء، ومحذرا عن المعصية الموجبة لاستحقاق دركات الأشقياء، وافتتح من ذلك بقصة إبراهيم عليه السلام. انتهى.
الإعراب: {(نَبِّئْهُمْ)} : أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به أول، {عَنْ ضَيْفِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، و {ضَيْفِ} مضاف، و {إِبْراهِيمَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة، والجملة الفعلية:{وَنَبِّئْهُمْ..} . معطوفة على ما قبلها لا محل لها. {إِذْ:}
ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل (نبئهم).
هذا وقد قال الجمل نقلا عن كرخي: {إِذْ} إما معمول لفعل مقدر؛ أي: اذكر، وإما ظرف على بابه، والعامل فيه محذوف، تقديره: خبر ضيف، أو نفس ضيف، وتوجيه ذلك: أنه لما كان في الأصل مصدرا؛ اعتبر ذلك فيه، ويدل على اعتبار مصدريته بعد الوصف به عدم مطابقته لما قبله، تثنية، وجمعا، وتأنيثا في الأغلب، ولأنه قائم مقام وصف، والوصف يعمل، أو أنه على حذف مضاف؛ أي: أصحاب ضيف إبراهيم؛ أي: ضيافته، فالمصدر باق على حاله، فلذلك عمل. انتهى. وأبو البقاء قال بمعنى: هذا الكلام.
{دَخَلُوا:} ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة، والواو فاعله، والألف للتفريق، هذا هو الإعراب المتعارف عليه في مثل هذه الكلمة، والإعراب الحقيقي أن تقول: فعل ماض مبني على فتح مقدر على آخره، منع من ظهوره اشتغال المحل بالضم الذي جيء به لمناسبة واو الجماعة، ويقال اختصارا: فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها.
{عَلَيْهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{فَقالُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها. {سَلاماً:}
مفعول مطلق لفعل محذوف، انظر الشرح، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. هذا وجوز اعتبار {سَلاماً} مفعولا به ل:(قالوا)؛ لأنه يتضمن كلاما كثيرا، أو على معنى:(ذكروا سلاما){قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {إِبْراهِيمَ} عليه السلام. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، ونا: اسمها، وحذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {مِنْكُمْ:} متعلقان بما بعدهما.
{وَجِلُونَ:} خبر (إن) مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الاسمية:{إِنّا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {قالُوا} أي: الملائكة. {لا تَوْجَلْ:} لا تخف، والوجل الخوف، وقرئ:
{(لا تَوْجَلْ)} بالبناء للمجهول، وقرئ:«(لا تاجل)» ، و:«(لا تواجل)» . {إِنّا نُبَشِّرُكَ:} هنا البشارة لإبراهيم. وفي (هود) كانت ل: «سارة» ، انظر الآية رقم [71] منها. {بِغُلامٍ عَلِيمٍ:} هو إسحاق كما صرح بذلك في سورة (هود)، وعليم بالأحكام والشرائع، وينبغي أن تعلم: أن الله قال في بشارته بإسماعيل عليه السلام {فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} الصافات الآية رقم [101] منها ممّا يدل على أن الذبيح هو إسماعيل، وليس إسحاق كما يدعيه اليهود والنصارى. {قالَ} أي: إبراهيم.
{أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ:} استفهام تعجب من أن يولد له ولد مع مسه الكبر ومس امرأته وقد ذكر في سورة (هود) ذلك مفصلا. {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ:} فبأي: شيء تبشروني، فإن البشارة تكون عادة ممّا يتوقّع حصوله، ويرجى الوصول إليه. هذا؛ وقد قرئ الفعل:{تُبَشِّرُونَ} بفتح النون، وبكسرها مع التشديد أيضا والتخفيف، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
هذا و «غلام» يطلق على الصبي دون البلوغ، وجمعه: غلمان، وغلمة، وأغلمة، كما يطلق على العبد، والأجير اسم الغلام؛ وإن كانا كبيرين. هذا؛ وقد يقال للأنثى: غلامة، خذ قول الشاعر:[الطويل]
فلم أر عاما عوض أكثر هالكا
…
ووجه غلام يشترى وغلامه
(بم): كلمة مؤلفة من حرف واسم، فالحرف الباء الجارة، والاسم «ما» الاستفهامية، وقد حذفت ألفها كما تحذف مع كل جار، نحو قوله تعالى:{فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها} {عَمَّ يَتَساءَلُونَ} {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ} للفرق بين الموصولة والاستفهامية، ويقال: للفرق بين الخبر، والاستخبار.
الإعراب: {قالُوا:} ماض وفاعله، والألف للتفريق. {لا:} ناهية جازمة. {تَوْجَلْ:}
مضارع مجزوم ب {لا} الناهية والفاعل مستتر تقديره: «أنت» . {إِنّا:} انظر مثلها في الآية السابقة. {نُبَشِّرُكَ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل للنهي لا محل لها، والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {بِغُلامٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {عَلِيمٍ:} صفة غلام. {قالَ:} ماض، وفاعله مستتر يعود إلى {إِبْراهِيمَ} .
{أَبَشَّرْتُمُونِي:} الهمزة: حرف استفهام، وتعجب. (بشرتموني): ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والميم علامة جمع الذكور، وحركت بالضم لتحسين اللفظ، فتولدت واو الإشباع، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {عَلى:}
حرف جر. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {مَسَّنِيَ:} ماض مبني على الفتح في محل نصب ب: {أَنْ،} والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به. {الْكِبَرُ:} فاعله، و {أَنْ} والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر ب:{عَلى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل:
متعلقان بمحذوف حال، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{فَبِمَ:} الفاء: هي الفصيحة. (بم): جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما، وانظر الشرح.
{تُبَشِّرُونَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وهذا على القراءة بفتح النون، وأما على كسرها، فتكون نون الرفع قد حذفت مع التخفيف، وأدغمت مع نون الوقاية مع التشديد، والواو فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط جازم مقدر ب:«إذا» إذ التقدير: وإذا كان الأمر كما ذكرت فبم
…
إلخ، والكلام في محل نصب مقول القول.
{قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55)}
الشرح: {قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ} أي: بالصدق الذي قضاه الله تعالى بأن يخرج منك ولدا ذكرا، تكثر ذريته، وهو «إسحاق» عليه الصلاة، والسّلام. {فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ} أي: الآيسين من ذلك، فإنه تعالى قادر على كل شيء، فكيف يعجز عن إيجاد ولد من أبوين شيخين، وكان استعجاب إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه باعتبار العادة دون القدرة؛ ولذلك قال {أَبَشَّرْتُمُونِي،} وانظر شرح (الحق) في الآية [120] من سورة (هود).
الإعراب: {قالُوا:} ماض وفاعله، والألف للتفريق. {بَشَّرْناكَ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {فَلا} الفاء: هي الفصيحة، وهي حرف عطف على قول من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة. (لا): ناهية جازمة. {تَكُنْ:} مضارع ناقص مجزوم ب: (لا)،
واسمه مستتر تقديره: أنت. {مِنَ الْقانِطِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر {تَكُنْ،} والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك صحيحا وواقعا فلا تكن
إلخ، والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضّالُّونَ (56)}
الشرح: المعنى لا يقنط من رحمة الله تعالى إلا المكذبون الذاهبون عن طريق الحق والصواب، فلا يعرفون سعة رحمة الله، وكمال علمه، وقدرته، كما قال تعالى:{لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ} هذا ويقرأ {يَقْنَطُ} بكسر النون وفتحها قراءتان سبعيتان، وفي المختار: القنوط اليأس، وبابه جلس ودخل وطرب وسلم، فهو قنط، وقنوط، وقانط، وقرئ شاذّا بضم النون.
الإعراب: {قالَ:} ماض، وفاعله مستتر يعود إلى {إِبْراهِيمَ}. {وَمَنْ:} الواو: زائدة.
(من): اسم استفهام معناه النفي مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَقْنَطُ:} مضارع، {مِنْ رَحْمَةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {رَحْمَةِ:} مضاف، و {رَبِّهِ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {إِلاَّ:} حرف حصر.
{الضّالُّونَ:} فاعل {يَقْنَطُ} مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة
…
إلخ، هذا هو الظاهر، وعند التأمل يتبين لك أن فاعل {يَقْنَطُ} يعود إلى (من) الاستفهامية، والضالون بدل من الفاعل المستتر بدل بعض من كل، على حد قوله تعالى:{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ} الآية رقم [135] من سورة (آل عمران).
وجملة: {يَقْنَطُ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَمَنْ يَقْنَطُ..} .
إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57)}
الشرح: {قالَ فَما خَطْبُكُمْ} أي: فما أمركم وشأنكم، وما الذي جئتم به؟ والخطب الأمر الخطير، قال البيضاوي: ولعله علم أن كمال المقصود ليس البشارة؛ لأنهم كانوا عددا، والبشارة لا تحتاج إلى العدد؛ ولذلك اكتفى بالواحد في بشارة زكريا، ومريم عليهما السلام، أو؛ لأنهم بشروه في تضاعيف الحال لإزالة الوجل، ولو كانت البشارة تمام المقصود لابتدءوه بها. انتهى. {أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} أي: أيها الملائكة المرسلون إليّ.
الإعراب: {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى (إبراهيم). {فَما} الفاء: حرف صلة، وانظر مثلها في الآية رقم [34]. (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.
{خَطْبُكُمْ:} خبر المبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، {أَيُّهَا:} منادى نكرة مقصودة حذف منه أداة النداء مبني على الضم في محل نصب ب: «يا» المحذوفة، و (ها): حرف تنبيه لا محل له، وأقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه. {الْمُرْسَلُونَ:} بدل من (أيّ)، أو عطف بيان عليه، أو صفة، فهو مرفوع تبعا للفظه، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [88] من سورة (يوسف) عليه السلام، إن أردت الزيادة، والجملة الندائية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ: مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {قالُوا} أي: الملائكة. {إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} أي: كافرين لإهلاكهم.
{إِلاّ آلَ لُوطٍ:} هم من الناجين بدليل ما بعده. {إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ} أي:
الباقين مع الكفرة لتهلك معهم، والتذكير لتغليب الذكور. هذا؛ وفي المختار: غبر الشيء: بقي، وغبر أيضا: مضى، فهو من الأضداد، وبابه: دخل. انتهى. والغابر: اسم الفاعل منه يحتمل:
الماضي والباقي أيضا، ولهذا يمكن أن يقال: في غابر الأزمان وحاضرها، كما يقال: في غابر الأزمان وماضيها، قال أبو ذؤيب الهذلي من قصيدة يرثي بها أولاده:[الكامل]
فغبرت بعد هم بعيش ناصب
…
وإخال أنّي لاحق مستتبع
قال الخازن: وإنما أسند الملائكة القدر إلى أنفسهم، وإن كان ذلك لله عز وجل، لاختصاصهم بالله، وقربهم منه، كما تقول خاصة الملك: نحن أمرنا، ونحن فعلنا، وإن كان قد فعلوه بأمر الملك، ثم قال: والاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي، فاستثناء امرأة لوط من الناجين يلحقها بالهالكين. انتهى. وهذا ملخص ما ذكره القرطبي، والزمخشري، وأبو البقاء، وغيرهم.
فائدة: حكي: أن الكسائي سأل أبا يوسف يوما، فقال له: ما تقول في رجل قال: له عليّ مائة درهم إلا عشرة إلا اثنين؟. فقال: يلزمه ثمان وثمانون، فقال له الكسائي: يلزمه اثنان وتسعون. واستدل عليه بقوله تعالى: {إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاّ آلَ لُوطٍ إِنّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ،} فحجّه بذلك-رضي الله عنهم، وأرضاهم أجمعين-.
الإعراب: {قالُوا:} ماض وفاعله، والألف للتفريق. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا):
اسمها. {أُرْسِلْنا:} ماض مبني للمجهول مبني على السكون، و (نا): نائب فاعله. {إِلى قَوْمٍ:}
متعلقان بالفعل قبلهما. {مُجْرِمِينَ:} صفة قوم مجرور.. إلخ، وجملة:{أُرْسِلْنا..} . إلخ في محل
رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنّا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} .
إلخ مستأنفة، لا محل لها. {إِلاَّ:} أداة استثناء. {آلَ:} مستثنى ب: {إِلاَّ} فإن كان من القوم، فهو استثناء منقطع، وإن كان من الضمير المستتر في {مُجْرِمِينَ} فهو متصل، و {آلَ:} مضاف، و {لُوطٍ:} مضاف إليه. {إِنّا:} مثل سابقتها. {لَمُنَجُّوهُمْ:} اللام: هي المزحلقة. (منجوهم):
خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو؛ لأنه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {أَجْمَعِينَ:} تأكيد للضمير فهو مجرور تبعا للفظه
…
إلخ، والجملة الاسمية:{إِنّا لَمُنَجُّوهُمْ..} . إلخ مستأنفة إذا اتصل الاستثناء، ومتصلة ب:{آلَ لُوطٍ} جارية مجرى خبر «لكنّ» إذا انقطع،. انتهى. بيضاوي، وجمل. ولا مفهوم له، ويبقى محل الجملة مجهولا، وأرى أنها في محل نصب حال من آل لوط، والرابط: الضمير فقط. {إِلاَّ:} أداة استثناء. {اِمْرَأَتَهُ:} مستثنى بإلا من {آلَ لُوطٍ،} أو من الضمير بقوله: {لَمُنَجُّوهُمْ،} والهاء في محل جر بالإضافة. {قَدَّرْنا:} فعل، وفاعل، ويقرأ بتشديد الدال وتخفيفها، والفعل معلق عن العمل باللام بعده؛ لأنه بمعنى: العلم؛ ولذا كسرت همزة (إنّ). {إِنَّها:} حرف مشبه بالفعل، و (ها): اسمها. {لَمِنَ:} اللام: هي المزحلقة. (من الغابرين): متعلقان بمحذوف خبر (إن
…
) إلخ في محل نصب حال من امرأته، والرابط: الضمير فقط، وهي على تقدير قد قبلها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.
الشرح: المعنى الإجمالي لهذه الآيات: لما بشر الملائكة إبراهيم-عليه السلام-بالولد، وأخبروه بما هم عازمون عليه من إهلاك قوم لوط المجرمين؛ تركوه، وذهبوا إلى لوط، عليه السلام، فلما دخلوا عليه؛ قال لهم: إني لا أعرفكم؛ لأنهم دخلوا عليه في زي شبان مرد حسان الوجوه، فخاف عليهم من قومه المجرمين الذين كانوا يفعلون الفواحش، فقالوا له: أتيناك بما يشك فيه قومك من العذاب المهين الذي لا شك واقع فيهم، وإنا لصادقون فيما نخبرك به من إهلاكهم، ووقوع العذاب بهم، وتفصيل ذلك تجده في سورة (الأعراف)، وسورة (هود) وسورة (الشعراء) و (النمل).
الإعراب: {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لما): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف بمعنى:«حين» عند ابن السراج، والفارسي، وابن جني، وجماعة، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وصوب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني. {جاءَ:} ماض، وهو متعدّ هنا، وقد يأتي لازما. {آلَ:}
مفعول به، وهو مضاف، و {لُوطٍ:} مضاف إليه. {الْمُرْسَلُونَ:} فاعل {جاءَ} مرفوع
…
إلخ، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية على اعتبار (لما) حرفا، وهي في محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا. {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {لُوطٍ}. {إِنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {قَوْمٌ:} خبرها. {مُنْكَرُونَ:} صفة {قَوْمٌ} مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ جواب (لمّا) لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {قالُوا:} ماض وفاعله، والألف للتفريق.
{بَلْ:} حرف إضراب. {جِئْناكَ:} ماض وفاعله ومفعوله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {بِما:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالباء. {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه. {فِيهِ:} متعلقان بما بعدهما، وجملة:
(يمترون فيه) في محل نصب خبر: {كانُوا،} وهذه الجملة صلة الموصول، لا محل لها، وإن اعتبرت (ما) موصوفة فالجملة صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلا ب: (في)، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. (أتيناك): فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من (نا) الفاعل. {وَإِنّا:} الواو: واو الحال. (إنا): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، {لَصادِقُونَ:} خبر (إنّ) مرفوع
…
إلخ، واللام هي المزحلقة، والجملة الاسمية:{وَإِنّا..} .
إلخ في محل نصب حال من (نا) والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: من قوله: {فَأَسْرِ} إلى قوله: {أَحَدٌ:} أرجو أن تنظر شرح هذا الكلام في الآية رقم [81] من سورة (هود) عليه السلام مع ملاحظة زيادة الجملة: {وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ} هنا، ومعناها: اتبع آثار أهلك، وسر خلفهم، وامنعهم من الالتفات إلى الوراء. {وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} أي: إلى حيث أمركم الله بالمضي إليه. وهو الشام، أو مصر. وقيل: إلى حيث يأمركم جبريل، وذلك: أن جبريل عليه السلام أمرهم أن يسيروا إلى قرية معينة ما عمل أهلها عمل قوم لوط، وانظر شرح:{حَيْثُ} في الآية رقم [56] من سورة (يوسف).
الإعراب: من قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} إلى قوله: {أَحَدٌ:} انظر إعراب الآية رقم [81] من سورة (هود) عليه السلام ففيها الكفاية. (امضوا): أمر مبني على حذف النون لاتصاله بواو الجماعة التي هي فاعله، والألف للتفريق، هذا هو الإعراب المتعارف عليه في مثل هذه الكلمة،
والإعراب الحقيقي أن تقول: مبني على السكون المقدر على آخره، منع من ظهوره اشتغال المحل بالضم الذي جيء به لمناسبة الواو، ويقال: منع من ظهوره إرادة التخلص من التقاء الساكنين، وحرك بالضم لمناسبة واو الجماعة، وقل مثله في قولك:«ادخلا» والمانع من ظهور السكون الفتح الذي جيء به لمناسبة ألف الاثنين، وأيضا قولك:«ادخلي» والمانع من ظهور السكون الفتح الذي جيء به لمناسبة ياء المؤنثة المخاطبة التي هي فاعله. {حَيْثُ} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله. وقيل: مفعول به، ولا وجه له؛ لأن «مضى» لازم، مبني على الضم في محل نصب. {تُؤْمَرُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {حَيْثُ} إليها، وجملة:{وَامْضُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: {فَأَسْرِ..} . إلخ على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء، والكلام كله في محل نصب مقول القول؛ لأنه من مقول الملائكة.
{وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)}
الشرح: {وَقَضَيْنا إِلَيْهِ..} . إلخ: أي: وأوحينا إلى لوط ذلك الأمر الذي حكمنا به على قومه، وأبرمناه فلا رجوع عنه، وهذا الأمر أنّ هؤلاء القوم يستأصلون عن آخرهم وقت الصبح، وإنما أبهم الأمر الذي قضاه عليهم أولا، وفسره ثانيا تفخيما له، وتعظيما لشأنه.
هذا؛ وقد ذكرت لك في سورة (هود) عليه السلام في الآية رقم [81] أنّ الملائكة لمّا وعدوا لوطا بإهلاك قومه في الصباح قال: أريد أسرع من ذلك، فقالوا له:{أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} .
هذا؛ و «الدابر» : آخر كل شيء. وأخيرا انظر: (قضى) في الآية رقم [44] من سورة (الأنفال)، أو في سورة (الإسراء) رقم [4].
الإعراب: {وَقَضَيْنا:} الواو: حرف استئناف. {(قَضَيْنا:)} فعل، وفاعل، وانظر إعراب (حفظنا) في الآية رقم [17]. {إِلَيْهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب مفعول به؛ لأن الفعل بمعنى: «أوحينا» ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {الْأَمْرَ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه. {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {دابِرَ:} اسمها، وهو مضاف، و {هؤُلاءِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل جر بالإضافة، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {مَقْطُوعٌ:} خبر {أَنَّ} . {مُصْبِحِينَ:}
حال من الضمير المستتر في {مَقْطُوعٌ،} وجمعه للحمل على المعنى، فإن دابر هؤلاء في معنى مدبري هؤلاء، أو هو حال من اسم الإشارة، و {أَنَّ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب بدل من الأمر، أو عطف بيان عليه، وقد فسر الأمر كما ترى. وقيل: في محل
رفع خبر لمبتدإ محذوف، والأول: أقوى معنى، وجملة:{وَقَضَيْنا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها على اعتبارها من مقول الله تعالى، وهو الراجح.
الشرح: لما علم قوم لوط بوجود الرسل عنده؛ أقبلوا؛ وهم فرحون طمعا منهم في ركوب الفاحشة التي اعتادوها، وامرأة لوط هي التي أخبرت القوم بالرسل، فقال لوط-عليه السلام:
إن هؤلاء حلّوا ضيوفا عندي، وواجب علي أن أكرمهم، وأن أدافع عنهم ما استطعت، ومن أسيء إلى ضيفه فقد أسيء إليه، وخذلان الضيف فضيحة يفشو أمرها بين الناس، ثم قال لهم:
اتقوا الله، وخافوه، ولا تخزوني بالإساءة إلى أضيافي! وما أجدرك أن تنظر المزيد من ذلك في الآية رقم [78] من سورة (هود) عليه السلام، وينبغي أن تعلم: أنّ الفعل: «جاء» يكون لازما، إن كان بمعنى: حضر وأقبل، ويكون متعديا إن كان بمعنى: وصل وبلغ، ومثله:«أتى» والآيات التي بين يديك توضح ذلك، وربك أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَجاءَ:} الواو: حرف عطف. (جاء): ماض. {أَهْلُ:} فاعله، وهو مضاف، و {الْمَدِينَةِ:} مضاف إليه. {يَسْتَبْشِرُونَ:} مضارع مرفوع، والواو فاعله، ومتعلقه محذوف، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {أَهْلُ الْمَدِينَةِ،} وجملة: {وَجاءَ..} . إلخ معطوفة على جملة: {(قَضَيْنا
…
)} إلخ لا محل لها مثلها. {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى (لوط). {إِنَّ:}
حرف مشبه بالفعل. {هؤُلاءِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل نصب اسم {إِنَّ،} والهاء حرف تنبيه لا محل له. {ضَيْفِي:} خبر {إِنَّ} مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع.. إلخ، والياء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية: في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. الفاء: حرف عطف على رأي: من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر. (لا): ناهية جازمة. {تَفْضَحُونِ:} مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والنون للوقاية، وحذفت ياء المتكلم للتخفيف، وكسرة النون دليل عليها، والجملة:{فَلا تَفْضَحُونِ} لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم؛ إذ التقدير: وإذا كان ذلك هو الواقع فلا تفضحون بانتهاك حرمة ضيفي، والشرط المقدر ومدخوله في محل نصب مقول القول. {وَاتَّقُوا:} أمر مبني على حذف النون
…
إلخ والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهَ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول، وإعراب {وَلا تُخْزُونِ} مثل إعراب {فَلا تَفْضَحُونِ} بلا فارق، وهي معطوفة على ما قبلها. تأمل، وتدبر.
الشرح: قال قوم لوط له: أو لم ننهك أن تضيف أحدا من الناس. أو المعنى: ألسنا قد نهيناك أن تكلمنا في أحد من العالمين إذا قصدناه بالفاحشة. وكان لوط عليه السلام يعظهم، ويمنعهم من ذلك بقدر وسعه، بل ويبذل جهده في ذلك، ولمّا أصروا على ما يريدون؛ قال لهم لوط:{هؤُلاءِ بَناتِي..} . إلخ: وما أجدرك أن تنظر ذلك في سورة (هود) عليه السلام الآية رقم [78] ففيها الدواء الشافي، والغذاء الكافي لمن كان له قلب، أو ألقى السمع؛ وهو شهيد.
{لَعَمْرُكَ:} هذا قسم بحياة المخاطب، والمخاطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: بل المخاطب لوط عليه السلام، قالت له الملائكة ذلك.
هذا؛ وقال الجمل: وفي الكرخي، وفي «الدر المنثور» للشيخ المصنف: أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة-رضي الله عنه، عن رسول الله، قال: (ما حلف الله بحياة أحد إلاّ بحياة محمد، قال:{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
{إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ} أي: ضلالهم وغوايتهم، وقيل: في غفلتهم. {يَعْمَهُونَ:} يتحيرون ويترددون، فكيف يسمعون نصحك، ويقبلون موعظتك؟! والضمير يعود إلى قريش، أو إلى قوم لوط حسب ما رأيت من خلاف في المخاطب. هذا؛ و «العمه»: التحير والتردد، وهو قريب من العمى، لكن العمى يطلق على ذهاب نور العين، وعلى الخطأ في الرأي، والعمه لا يطلق إلا على الثاني.
وفي المصباح «عمه، عمها» من باب: «تعب» : إذا تردد متحيرا، و «تعامه» مأخوذ من قولهم: أرض عمهاء إذا لم يكن فيها أمارات تدل على النجاة، فهو عمه، وأعمه، وهذا الفعل لم أر له ماضيا، ولا أمرا، فيظهر: أنه فعل جامد، لا يأتي منه غير المضارع، وإن ذكر له في كتب اللغة ماض؛ لكنه لم يستعمل، ولم يتداول.
تنبيه: «لعمرك» : كلمة تستعمل في القسم من: عمر الرجل بكسر الميم يعمر عمرا بفتح العين، وضمها؛ إذا عاش زمنا طويلا، ومعناه: أحلف بحياتك، فمفتوح العين إذا دخلت عليه اللام، رفع على الابتداء، والخبر محذوف وجوبا، وإن لم تدخل عليه اللام نصب نصب المصادر، والرفع قليل، فيقال: عمر الله ما فعلت كذا، وعمرك الله ما فعلت كذا، قال عمر بن أبي ربيعة المخزومي:[الخفيف]
أيّها المنكح الثّريّا سهيلا
…
عمرك الله كيف يلتقيان؟
وقد يقرن به حرف القسم، كما في قول عمر أيضا:[الوافر]
بعمرك هل رأيت لها سميّا
…
فشاقك أم لقيت لها خدينا؟
ومعنى: «لعمر الله وعمر الله» : أحلف ببقاء الله ودوامه، ومعنى:«عمرك الله» : أحلف بتعميرك الله؛ أي: بإقرارك له بالبقاء، ويأتي بمعنى: سألت الله أن يطيل عمرك، من غير إرادة القسم، وكلمة «عمر» في غير رواية الرفع منصوبة، كما ترى، أو مجرورة بحرف القسم، والاسم الكريم بعدها يجوز أن تقرأه بالرفع، والنصب، فأما نصب «عمر» فذهب الأخفش، والمبرد، وأبو سعيد السيرافي إلى أنه منصوب على حذف حرف القسم، وأصل الكلام: بعمرك الله، وأصله الأصيل: بتعميرك الله؛ أي: بإقرارك له بالبقاء، والدوام، فتكون الكاف في موضع رفع على أنها فاعل بالمصدر، والاسم الكريم منصوب على التعظيم.
وذهب أبو علي الفارسي إلى انتصاب «عمرك» على أنه مفعول مطلق، وأصل الكلام عمرك الله تعميرا، فأضيف المصدر إلى المفعول، وارتفع الاسم الكريم بعده على أنه فاعل، والظاهر من كلام سيبويه على ما قاله أبو حيان انتصاب:«عمر» على أنه مفعول به لفعل محذوف، والتقدير: أسأل تعميرك الله، وعليه يكون تعمير مفعولا به، وهو مصدر مضاف إلى مفعوله، ولفظ الجلالة منصوب ب:«أسأل» أيضا، كأنه قال: أسأل الله أن يطيل عمرك. انتهى.
بعد هذا ينبغي أن تعلم أن القسم ب: «لعمرك، ولعمري، ولعمر الله» يستعمل في أشعار العرب، وفصيح كلامها بكثرة، فمن المخاطب قول طرفة بن العبد:[الطويل]
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى
…
لكالطّول المرخى وثنياه باليد
ومن استعماله في المتكلم قول النابغة الذبياني: [الطويل]
لعمري وما عمري عليّ بهيّن
…
لقد نطقت بطلا عليّ الأقارع
ومن استعماله للغائب قول القحيف بن سليم العقيلي: [الوافر]
إذا رضيت عليّ بنو قشير
…
لعمر الله أعجبني رضاها
وختاما ينبغي أن تعلم: أن هذا اللفظ، وهذا الاستعمال لم يرد في غير هذه السورة من سور القرآن الكريم.
الإعراب: {قالُوا:} ماض وفاعله، والألف للتفريق. {أَوَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وإنكار. الواو: حرف عطف. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {نَنْهَكَ:} مضارع مجزوم ب: (لم)، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» والكاف مفعول به. {عَنِ الْعالَمِينَ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {لُوطٍ}. {هؤُلاءِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع
مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {بَناتِي:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم منع
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
وقال الجمل نقلا عن السمين: يجوز فيه، أوجه؛ أحدها: أن يكون هؤلاء مفعولا بفعل مقدر؛ أي: تزوجوا هؤلاء، و {بَناتِي} بيان، أو بدل، الثاني: أن يكون {هؤُلاءِ بَناتِي} مبتدأ، وخبرا، ولا بدّ من شيء محذوف تتم به الفائدة؛ أي: فتزوجوهن، الثالث: أن يكون هؤلاء مبتدأ، وبناتي بدل، أو بيان، والخبر محذوف؛ أي: هنّ أطهر لكم كما جاء في نظيرها. انتهى.
ويعني: في الآية رقم [78] من سورة (هود) عليه السلام، وقريب منه قول أبي البقاء.
{إِنْ:} حرف شرط جازم، {كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {فاعِلِينَ:} خبر كان منصوب
…
إلخ، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه أي: إن كنتم فاعلين فانكحوهن. والكلام في محل نصب مقول القول. {لَعَمْرُكَ:} اللام: لام الابتداء.
(عمرك): مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، أو من إضافة المصدر لفاعله حسب ما رأيت في الشرح، وخبر المبتدأ محذوف وجوبا تقديره:
قسمي. {إِنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {لَفِي:} اللام: هي المزحلقة، {(لَفِي سَكْرَتِهِمْ):} متعلقان بما بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله.
{يَعْمَهُونَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إن). هذا؛ واعتبر أبو البقاء الجار والمجرور متعلقين بمحذوف خبر (إن)، وجملة:{يَعْمَهُونَ} حالا من الضمير المستقر في الجار والمجرور، أو من الضمير المجرور بالإضافة. تأمل.
والجملة الاسمية جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه في محل نصب مقول قول محذوف، والقائل الملائكة، أو من مقول الله تعالى حسب ما رأيت في الشرح.
الشرح: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ:} يعني صيحة هائلة مهلكة. وقيل: هي صيحة جبريل عليه السلام، ولكن الهلاك لم يكن بها، وإنما هي للدهشة، وإيقاع الرعب في قلوبهم، والهلاك بالصيحة كان في قوم هود، وصالح عليهما السلام، وهلاك قوم لوط كان بما أفادته الآية التالية، وانظر ما ذكرته عن ابن عباس-رضي الله عنهما-في الآية رقم [94] من سورة (هود) على نبينا وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
{مُشْرِقِينَ:} وقت شروق الشمس؛ أي: طلوعها. وقيل: وقت شروق الفجر، فيكون أول العذاب عند الصبح، وامتد إلى شروق الشمس، فكان تمام الهلاك عند ذلك، و «أشرقت» الشمس و «شرقت» مثل: أضاءت، وضاءت، فهما لغتان بمعنى واحد، وانظر شرح الآية التالية بكاملها في الآية رقم [82] من سورة (هود) عليه السلام. {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ} أي: فيما وقع لقوم لوط من العذاب علامات، أو عبر، وعظات. {لِلْمُتَوَسِّمِينَ:} للمتفكرين المتفرسين. وقيل:
للناظرين. قال طريف بن تميم العنبري: [الكامل]
أو كلّما وردت عكاظ قبيلة
…
بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم
وقال قتادة: للمعتبرين. وقال أبو عبيدة: للمتبصرين، كقول زهير:[الطويل]
وفيهنّ ملهى للصّديق ومنظر
…
أنيق لعين النّاظر المتوسّم
ويعضد القول الأول: ما روي عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله» . ثمّ قرأ: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ،} أخرجه الترمذي. وقال: حديث غريب. وهذا؛ وقد ذكر القرطبي من فراسة بعض الصحابة، والتابعين الشيء الكثير. {وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} أي: وإن قرى قوم لوط على طريق قومك يا محمد في ذهابهم إلى الشام، وإيابهم منها، فهم يشاهدون ذلك، ويرون أثر العقاب الذي نزل بها، وانظر شرح (سبيل) في الآية رقم [108] من سورة (يوسف) عليه السلام.
الإعراب: {فَأَخَذَتْهُمُ:} الفاء: حرف استئناف. (أخذتهم): ماض، والتاء للتأنيث، والهاء مفعول به. {الصَّيْحَةُ:} فاعل. {مُشْرِقِينَ:} حال من الضمير المنصوب، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. (جعلنا): فعل، وفاعل وهو بمعنى: صيرنا. {عالِيَها:} مفعول به أول.
{سافِلَها:} مفعول به ثان، و (ها): في محل جر بالإضافة، وهي عائدة على القرى، ولم يتقدم لها ذكر، ولكنها مفهومة من المقام، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [82] من سورة (هود) عليه السلام، وجملة:{فَجَعَلْنا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، وجملة:{وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً} معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {مِنْ سِجِّيلٍ:} متعلقان بمحذوف صفة {حِجارَةً} .
{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {فِي ذلِكَ:} متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ} تقدم على اسمها، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لَآياتٍ:} اللام: لام الابتداء. (آيات): اسم إن مؤخر منصوب وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {لِلْمُتَوَسِّمِينَ:}
متعلقان بمحذوف صفة (آيات)، أو هما متعلقان بها؛ لأنها بمعنى: علامات، والجملة الاسمية:
{إِنَّ فِي..} . إلخ مستأنفة، أو مبتدأة لا محل لها على الاعتبارين. {وَإِنَّها:} الواو: واو الحال.
(إنها): حرف مشبه بالفعل. و (ها): اسمها. {لَبِسَبِيلٍ:} اللام: هي المزحلقة. (بسبيل):
متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ} . {مُقِيمٍ:} صفة (سبيل). والجملة الاسمية: {وَإِنَّها..} . إلخ في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الواو، والضمير، وعليه فالجملة:{إِنَّ فِي ذلِكَ..} . إلخ معترضة بين الحال وصاحبها، وهذا أقوى من عطف الجملة الاسمية على الجملة المستأنفة قبلها. تأمل، وتدبر.
الشرح: {إِنَّ فِي ذلِكَ} أي: الذي ذكر من عذاب قوم لوط. {لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: لعبرة ودلالة للمصدقين المقرّين بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. وصدقوا جميع الأنبياء والرسل، وعرفوا:
أن ذلك إنما كان لانتقام الله من الجهال لأجل مخالفتهم أوامر الله تعالى، وأما الذين لا يؤمنون فيحملونه على حوادث العالم، وحصول القرانات الكوكبية والاتصالات الفلكية، وجمع «الآيات» أولا، باعتبار تعدد ما قصّ الله من حديث لوط، وضيف إبراهيم، وتعرض قوم لوط لهم، وما كان من هلاكهم، وقلب المدائن على من فيها، وإمطار الحجارة على من غاب عنها، ووحدها ثانيا باعتبار وحدة قرية قوم لوط المشار إليها بقوله:{وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} فلا يرد كيف جمع «الآية» أولا، ووحدها ثانيا، والقصّة واحدة. انتهى. جمل، نقلا عن كرخي.
{وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ:} انظر ما ذكرته في الآية رقم [83] وما بعدها من سورة (هود) عليه السلام، ففيه الغذاء الكافي، والدواء الشافي، لمن كان له قلب، أو ألقى السمع، وهو شهيد.
{فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ} أي: أهلكناهم انتقاما منهم لسوء أعمالهم، والانتقام: المبالغة في العقوبة، والأخذ الشديد بالثأر. {وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ} أي: إن مدينة قوم لوط، ومدينة أصحاب الأيكة بطريق واضح مستبين لمن مرّ بهما. وقيل: إن الضمير يعود إلى مدين والأيكة اللتين أرسل إليهما شعيب عليه السلام؛ لأنه بعث إليهما كما رأيت في الآيات المشار إليها من سورة (هود). هذا؛ وسمي الطريق إماما؛ لأنه يؤتم ويتبع، والمسافر يأتم به حتى يصل إلى مقصده، ففي ذلك استعارة تصريحية؛ لأن الطريق سبيل الوصول والمسافر فيه يتبعه حتى النهاية فاستعمل المشبه به بدلا من المشبه، وانظر قصة أصحاب الأيكة مفصلة في سورة (الشعراء)، فإنك تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
الإعراب: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} إعراب هذه الآية مثل إعراب الآية رقم [75] والجملة الاسمية فيها معنى التأكيد لتلك الجملة. {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف، أو هي حرف عطف لعطف قصة على قصة. (إن): حرف مشبه بالفعل، مخفف من الثقيلة، مهمل لا عمل له.
{كانَ:} ماض ناقص. {أَصْحابُ:} اسم {كانَ،} وهو مضاف، و {الْأَيْكَةِ:} مضاف إليه.
{لَظالِمِينَ:} اللام: هي الفارقة بين النفي والإثبات. (ظالمين): خبر كان منصوب
…
إلخ، وجملة:{وَإِنْ كانَ..} . إلخ معطوفة، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين. {فَانْتَقَمْنا:}
الفاء: حرف استئناف. (انتقمنا): فعل، وفاعل. {مِنْهُمْ:} متعلقان بما قبلهما، وجمع الضمير باعتبار الأفراد، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، أو هي معطوفة على محذوف، التقدير:
أي: أمعنوا في الضلال، والفساد، فانتقمنا
…
إلخ. {وَإِنَّهُما:} الواو: واو الحال. (إنهما):
حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {لَبِإِمامٍ:} اللام:
هي المزحلقة. (بإمام): متعلقان بمحذوف خبر (إنّ). {مُبِينٍ:} صفة، والجملة الاسمية:
{وَإِنَّهُما..} . إلخ في محل نصب حال من الضمير المجرور ب: (من)، والرابط: الواو، والضمير، وقد ثني الضمير باعتبار القومين، أو البلدتين، والآية مثل قوله تعالى:{وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} . تأمل، وتدبر، وربك أعلم.
الشرح: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ:} المراد بأصحاب الحجر: قبيلة ثمود الذين كذبوا نبيهم صالحا عليه السلام، وإنما ذكره بلفظ الجمع للتعظيم، أو لأن من كذب واحدا من الرسل؛ فكأنما كذب الجميع، و {الْحِجْرِ} اسم واد كانت تسكنه قبيلة ثمود، وهو معروف بين المدينة والشام، عند وادي القرى، وآثاره موجودة باقية، يمر عليها ركب الشام إلى الحجاز، وركب الحجاز إلى الشام. {وَآتَيْناهُمْ آياتِنا} أي: أريناهم المعجزات الباهرة، وهي الناقة وولدها، وخروجها من الصخرة، وعظم جثتها، وقرب ولادها، وغزارة لبنها. {فَكانُوا عَنْها:}
عن الآيات المذكورة. {مُعْرِضِينَ:} تاركين لها غير مكترثين فيها. {وَكانُوا يَنْحِتُونَ..} . إلخ: أي:
يحفرون بيوتهم في سفوح الجبال، خوفا من الأعداء، أو من الخراب، أو خوفا من العذاب، وذلك لشدة جهلهم وغفلتهم: أن الجبال تحميهم منه، {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} أي: صيحة جبريل التي فيها العذاب، والهلاك وقت الصبح، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [94] من سورة (هود) عليه السلام. {فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ:} فما نفعهم، ولا دفع عنهم العذاب ما كانوا يبنون من البيوت الوثيقة، وما كانوا يجمعون من الأموال، وما يستكثرون من العدد، والعدد.
هذا؛ وإن قصة صالح-عليه السلام-مع قومه قد مرت معنا في سورة (الأعراف)، وسورة (هود) عليه السلام بأوسع منها في هذه السورة، وانظر شرح (آيات) في الآية رقم [1]. هذا؛ والحجر يطلق على أشياء كثيرة:«حجر الإنسان» بفتح الحاء وكسرها، وهو ما بين يديه من ثوبه،
ويقال: نشأ فلان في حجر فلان؛ أي: تحت رعايته وحفظه، وهو بفتح الحاء: المنع من التصرفات المالية لصغر، أو سفه، أو فلس، وغير ذلك، و «الحجر» بكسر الحاء يطلق على الفرس الأنثى، وعلى العقل، قال تعالى:{هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} ويطلق على حجر إسماعيل، وعلى حجر ثمود، وعلى الكذب، وعلى الحرام، كما في قوله تعالى:{وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} وقد نظمها بعضهم بقوله: [البسيط]
ركبت حجرا، وطفت البيت خلف الحجر
…
وحزت حجرا عظيما في دخول الحجر
لله حجر منعني من دخول الحجر
…
ما قلت حجرا، ولو أعطيت ملء الحجر
تنبيه: عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: لمّا مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر، قال:
«لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم، إلاّ أن تكونوا باكين، ثمّ قنّع رأسه، وأسرع السّير حتّى جاوز الوادي» . متفق عليه، وعن ابن عمر-رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما نزل بالحجر في غزوة تبوك، أمرهم ألاّ يشربوا من بئرها، ولا يستقوا منها، فقالوا: عجنّا، واستقينا، فأمرهم أن يهريقوا الماء، وأن يطرحوا ذلك العجين» رواه البخاري.
الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، التقدير: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. (قد): حرف تحقيق بقرب الماضي من الحال.
{كَذَّبَ:} ماض. {أَصْحابُ:} فاعله، وهو مضاف، و {الْحِجْرِ} مضاف إليه. {الْمُرْسَلِينَ:} مفعول به منصوب.. إلخ، وجملة:{وَلَقَدْ كَذَّبَ..} . إلخ جواب القسم الذي رأيت تقديره لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. (آتيناهم): فعل، وفاعل، ومفعول به أول، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {آياتِنا:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، و (نا): في محل جر بالإضافة. (كانوا): ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {عَنْها:} متعلقان بما بعدهما. {مُعْرِضِينَ:} خبر (كان) منصوب
…
إلخ، وجملة: {(كانُوا
…
)} إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها. {يَنْحِتُونَ:}
مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله. {مِنَ الْجِبالِ:} متعلقان بمحذوف حال من {بُيُوتاً} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة المشهورة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . {بُيُوتاً:} مفعول به. {آمِنِينَ:} حال من واو الجماعة منصوب وعلامة نصبه الياء.. إلخ، وجملة:{يَنْحِتُونَ..} . إلخ في محل نصب خبر (كان) وجملة: {وَكانُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها. {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} إعراب هذه الجملة مثل إعراب الآية رقم [73] بلا فارق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {فَما:} الفاء: حرف استئناف. (ما): نافية وجوز اعتبارها استفهامية، وليس بشيء يعتد به. {أَغْنى:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {عَنْهُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما.
{فَما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية فعلى الأولين مبنية على السكون في محل رفع فاعل {أَغْنى،} والجملة الفعلية صلة {فَما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: فما أغنى عنهم الذي، أو شيء كانوا يكسبونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل رفع فاعل، التقدير: فما أغنى عنهم كسبهم، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.
الشرح: {وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما} أي: من أفلاك، وكواكب، وما على الأرض من دواب، وجبال، وأنهار، وغير ذلك. {إِلاّ بِالْحَقِّ} أي: لإظهار الحق، والمجازاة، وهو أن يثاب المؤمن المصدق، ويعاقب الجاحد الكافر المكذب. {وَإِنَّ السّاعَةَ لَآتِيَةٌ} أي:
القيامة لا بد واقعة ليجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} أي:
أعرض عنهم يا محمد، واعف عنهم عفوا حسنا، واحتمل ما تلقى من أذى قومك. وهذا الصفح، والإعراض منسوخ بآية القتال. وقيل: فيه بعد؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يظهر الخلق الحسن، وأن يعاملهم بالعفو، والصفح الخالي من الجزع، والخوف. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاّقُ:} الذي خلقك، وخلقهم، وبيده أمرك، وأمرهم، و {الْخَلاّقُ} صيغة مبالغة للتكثير، وقرئ:«(الخالق)» . {الْعَلِيمُ:} بحالك، وحالهم، فكل إليه أمرك، وأمرهم؛ ليحكم بينكم يوم القيامة.
هذا وقد أعاد الضمير إلى {السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} مثنّى، والمرجوع إليه مجموع السموات والأرض، وتثنية الجمع جائزة على تأويل الجماعتين، ومنه قول الشاعر يذم عاملا على الصدقات:[البسيط]
سعى عقالا، فلم يترك لنا سبدا
…
فكيف لو قد سعى عمرو عقالين؟
لأصبح النّاس أوبادا، ولم يجدوا
…
عند التّفرّق في الهيجا جمالين
فقد ثنى جمالا، الذي هو جمع: جمل، والعقال: صدقة عام، والسبد: المال القليل، واللبد المال الكثير، وأوبادا هلكى جمع وبد، فهو يقول: صار عمرو عاملا على الزكوات في سنة واحدة، فظلم، وأخذ أموالنا بغير حق؛ حتى لم يبق لنا شيء قليل من المال، فكيف يكون حالنا، أو كيف يبقى لأحد مال لو صار عمرو عاملا في زكاة عامين؟! ثم أقسم، فقال: والله لو صار عمرو عاملا سنتين لصارت القبيلة هلكى، فلا يكون لهم عند التفرق في الحرب جمالان؛ أي: قطيعان من الجمال فيختل أمر الغزوات.
هذا والساعة: القيامة سميت بذلك؛ لأنها تفجأ الناس بغتة في ساعة لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى. وقيل: سميت ساعة؛ لسرعة الحساب فيها؛ لأن حساب الخلائق يوم القيامة يكون في ساعة، أو أقل من ذلك، وانظر علامات الساعة في الآية رقم [187] من سورة (الأعراف)، ولا تنس: أن ساعة كل إنسان وقيامته وقت مقدّمات الموت، وما فيه من أهوال، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من مات؛ فقد قامت قيامته» .
الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف، (ما): نافية. {خَلَقْنَا:} فعل، وفاعل.
{السَّماواتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم. {وَالْأَرْضَ:} معطوف على ما قبله. {وَما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب معطوف على ما قبله. {بَيْنَهُما:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {إِلاّ:} حرف حصر.
{بِالْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من {السَّماواتِ..} . إلخ أي: إلا ملتبسا بالحق والحكمة، والجملة الفعلية:{وَما خَلَقْنَا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
(إن): حرف مشبه بالفعل. {السّاعَةَ:} اسمها. {لَآتِيَةٌ:} خبر (إنّ). {لَآتِيَةٌ:} اللام هي المزحلقة، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {فَاصْفَحِ:} الفاء: هي الفصيحة، وانظر الآية رقم [68]. (اصفح): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {الصَّفْحَ:} مفعول مطلق.
{الْجَمِيلَ:} صفته، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك واقعا؛ فاصفح
…
إلخ، والكلام لا محل له، سواء عطفته، أو استأنفته. {إِنَّ:}
حرف مشبه بالفعل. {رَبَّكَ:} اسمها، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {هُوَ:} ضمير فصل. {الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ:} خبران ل: {إِنَّ،} ويجوز اعتبار {هُوَ} مبتدأ، و {الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ} خبران له، والجملة الاسمية في محل رفع خبر {إِنَّ} .
هذا؛ ولا يجوز اعتبار الضمير تأكيدا؛ لأن الاسم الظاهر لا يؤكد، والجملة الاسمية:{إِنَّ رَبَّكَ..} . إلخ مستأنفة، أو تعليلية لا محل لها.
{وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)}
الشرح: لقد اختلف في السبع المثاني على أقوال كثيرة:
أحدها: أنها هي الفاتحة، قاله عمر، وعلي، وأبو هريرة، والرّبيع بن أنس، وأبو العالية والحسن، وغيرهم-رضي الله عنهم أجمعين-. وحجّتهم ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله أمّ القرآن، وأمّ الكتاب، والسّبع المثاني» . أخرجه أبو داود، والترمذي. وسميت الفاتحة سبعا؛ لأنها سبع آيات بإجماع أهل العلم، وسميت بالمثاني؛ لأنها تثنى في الصلاة، فتقرأ في كل ركعة. وقيل: لأنها مقسومة بين الله وبين العبد نصفين، فنصفها
الأول: ثناء على الله، ونصفها الثاني: دعاء. ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال، يقول الله تبارك وتعالى:«قسمت الصلاة بيني، وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل» وقيل: غير ذلك.
القول الثاني: أنها السبع الطوال؛ أي: السور من البقرة
…
إلى التوبة، وهذا قول ابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن جبير-رضي الله عنهم أجمعين-. ويدل على صحة هذا القول ما روي عن ثوبان-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله سبحانه وتعالى أعطاني السّبع الطوال مكان التّوراة، وأعطاني المئين مكان الإنجيل، وأعطاني مكان الزّبور المثاني، وفضّلني ربّي بالمفصّل» . أخرجه البغوي بإسناد الثعلبي. وقال ابن عباس: سميت السبع الطوال مثاني؛ لأن العبر، والأحكام، والحدود، والأمثال تثبت فيها. ورد هذا القول بأنّ السور الطوال كلها مدنية، وسورة (الحجر) مكية.
القول الثالث: أن السبع المثاني هي القرآن كله. قاله طاوس والضحاك، ورواية عن ابن عباس، وحجة هذا القول قوله تعالى:{اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ} وسمي القرآن كله مثاني؛ لأن الأخبار، والقصص، والأمثال ثنيت فيه.
القول الرابع: أن المراد بالسبع المثاني أقسام القرآن من الأمر، والنهي، والتبشير، والإنذار، وضرب الأمثال، وتعديد النعم، وأنباء الأمم الماضية، قاله زياد بن أبي مريم، والصحيح الأول: من هذه الأقوال، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه. وإنما سمي القرآن:
عظيما؛ لأنه كلام الله، ووحيه، أنزله على خير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [2] من سورة (يوسف) عليه السلام.
الإعراب: {وَلَقَدْ:} انظر الآية رقم [10]. {آتَيْناكَ:} فعل، وفاعل، ومفعول به أول.
{سَبْعاً:} مفعول به ثان. {مِنَ الْمَثانِي:} متعلقان بمحذوف صفة {سَبْعاً} . {وَالْقُرْآنَ:} معطوف على ما قبله من عطف الكل على البعض، أو هو من عطف المرادف. وقيل: الواو صلة، و (القرآن) بدل من {سَبْعاً،} انظر الشرح والتفسير. {الْعَظِيمَ:} صفة القرآن، والجملة الفعلية:
{وَلَقَدْ آتَيْناكَ..} . إلخ جواب القسم المقدّر لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. تأمل، وتدبر.
الشرح: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ:} المعنى: يا محمد! لا تنظر إلى ما أعطيناه الكفار من متع الحياة الدنيا، ولذائذها، وشهواتها، فإن ذلك لا بقاء له، ولا دوام.
هذا؛ وأضاف سبحانه إلى ما ذكر في الآية رقم [131] من سورة (طه) قوله: {زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} . والمعنى: أن الذي يعطاه أصناف الكفار من حطام الدنيا، إنما هو كالزهرة تتفتح في أول النهار، ثم تذبل في آخره، فقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الرّغبة في الدنيا، ومزاحمة أهلها عليها؛ ولذا كان لا ينظر إلى شيء من متعها، ولا يلتفت إليه، ولا يستحسنه.
{وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي: ولا تحزن على المشركين إن لم يؤمنوا. وقيل: المعنى: لا تحزن على ما متعوا به في الدنيا، فلك في الآخرة أفضل منه. {وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: ألن جانبك لمن آمن بك، وتواضع لهم. وفي هذه الجملة استعارة مكنية، وهي ما حذف فيها المشبه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه، فقد استعير الطائر للذل، ثم حذفه، ودل عليه بشيء من لوازمه، وهو الجناح، وإثبات الجناح للذل يسمونه: استعارة تخييلية، وانظر الآية رقم [24] من سورة (الإسراء) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
هذا، وقد قال ابن الجوزي: سبب نزول هذه الآية وسابقتها أنّ سبع قوافل وافت من بصرى، وأذرعات ليهود قريظة، والنضير في يوم واحد فيها أنواع من البزّ، والطيب، والجواهر، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها، وأنفقناها في سبيل الله، فأنزل الله الآيتين الكريمتين، فيكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد: أمته، وضعّف هذا القول؛ لأن السورة مكية بكاملها، وروي عن أبي بكر-رضي الله عنه: أنه قال: من أوتي القرآن، فرأى: أن أحدا، أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي؛ فقد صغّر عظيما، وعظّم صغيرا.
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» . رواه مسلم. قال عوف بن عبد الله بن عتبة: كنت أصحب الأغنياء، فما كان أحد أكثر همّا مني، كنت أرى دابة خيرا من دابتي، وثوبا خيرا من ثوبي، فلمّا سمعت هذا الحديث، صحبت الفقراء، فاسترحت. انتهى.
خازن.
الإعراب: {لا:} ناهية. {تَمُدَّنَّ:} مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وهو في محل جزم ب:{لا} الناهية، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والنون حرف لا محل له.
{عَيْنَيْكَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، والكاف في محل جر بالإضافة. {إِلى:} حرف جر. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر ب:{إِلى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما.
{مَتَّعْنا:} فعل، وفاعل. {بِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة {ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلا بالباء، {أَزْواجاً:} مفعول به. {مِنْهُمْ:}
متعلقان بمحذوف صفة {أَزْواجاً} هذا وهناك وجه ثان، وهو اعتبار {أَزْواجاً} حالا من الضمير
في: {بِهِ} فيكون فيه مراعاة لفظ {ما} مرة، ومعناها أخرى، فلذلك جمع، وعليه ف:{مِنْهُمْ} متعلقان بمحذوف مفعول به، والجملة الفعلية:{لا تَمُدَّنَّ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تَحْزَنْ:} مجزوم ب: (لا) الناهية، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {عَلَيْهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، وما بعدها معطوفة عليها أيضا.
الشرح أي: قل يا محمد لهؤلاء الكفرة المجرمين: إني نذير لكم من عذاب شديد، يقع بكم عاجلا، أو آجلا، كما أنزله الله بالمقتسمين الذين اختلفوا في شأن القرآن الكريم. وقالوا ما قالوا فيه من افتراءات، وأكاذيب، ولقد اختلف في {الْمُقْتَسِمِينَ} على أقوال سبعة:
الأول: قال مقاتل، والفراء: هم ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم، فاقتسموا طرق مكة، ومداخلها، يقولون لمن أراد الدخول فيها: لا تغتروا بهذا الخارج فينا يدعي النبوة، فإنه مجنون، وربما قالوا: ساحر، وربما قالوا: شاعر، وربما قالوا: كاهن، وسموا بالمقتسمين؛ لأنهم اقتسموا هذه الطرق، فأماتهم الله شرّ ميتة، وكانوا نصبوا الوليد بن المغيرة حكما على باب المسجد، فإذا سألوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: صدق أولئك.
الثاني: قال قتادة: هم قوم من كفار قريش اقتسموا كتاب الله، فجعلوا بعضه شعرا، وبعضه سحرا، وبعضه كهانة، وبعضه أساطير.
الثالث: قال ابن عباس-رضي الله عنهما-هم أهل الكتاب آمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه.
وكذلك قال عكرمة: هم أهل الكتاب، وسموا بالمقتسمين؛ لأنهم كانوا مستهزءين، فيقول بعضهم: هذه السورة لي، وهذه السورة لك، وهو القول الرابع.
الخامس: قال قتادة: قسموا كتابهم، ففرقوه وبددوه وحرفوه.
السادس: قال زيد بن أسلم: المراد: قوم صالح، تقاسموا على قتله؛ أي: تحالفوا، فسموا مقتسمين كما قال تعالى:{تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} .
السابع: قال الأخفش: هم قوم اقتسموا أيمانهم، وتحالفوا عليها. وقيل: إنهم العاص بن وائل، وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل، وأبو البختري بن هشام، والنضر بن الحارث، وأمية بن خلف، ومنبه بن الحجاج. ذكره الماوردي. انتهى. قرطبي بتصرف.
هذا ومعنى {عِضِينَ} أجزاء مفرقة، وتفسيره ما رأيته في القول الثاني، وما بعده، ومثله في المعنى:{عِزِينَ} أي: فرقا شتّى، وهو جمع: عضة، من قولهم: عضيت الشيء: إذا فرقته،
وجعلته أجزاء، وعزين: جمع عزة، أصلهما: عضوة، وعزوة، فحذفت الواو منهما. وقيل:
أصل «عضة» : عضهة، فنقصت الهاء منه لأن العضه والعضين في لغة قريش: السّحر، وهم يقولون للساحر: عاضه، وللساحرة، عاضهة، وفي الحديث: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم العاضهة، والمستعضهة، وفسر بالسّاحرة، والمستسحرة. وقيل: أصل «عضة» : عضو، من قولهم: عضيته تعضية: إذا فرقته، قال رؤبة: وليس دين الله بالمعضّى. يعني: بالمفرق، وعلى ما تقدم حذفت الواو، وعوض منها الهاء، فقيل: عضه، ونظير عضة في النقصان شفة، والأصل شفهة، كما قالوا: سنة، والأصل سنهة، فنقصوا الهاء الأصلية، وأثبتوا هاء العلامة، وهي للتأنيث كما قيل:
أصل: سنة وشفة سنو وشفو، فالتاء عوض عن واو محذوفة. هذا؛ والعضه: الكذب، والبهتان، وكان الفراء يذهب إلى أنه مأخوذ من العضاه، وهي شجر الوادي، ويخرج كالشوك. قلت: قال الشاعر: [الطويل]
إذا مات منهم سيّد سرق ابنه
…
ومن عضة ما ينبتنّ شكيرها
وهذا هو الشاهد رقم [641] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» .
الإعراب: {وَقُلْ:} الواو: حرف عطف. (قل): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» .
{إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {أَنَا:} ضمير منفصل لا محل له، أو هو تأكيد لاسم (إنّ) على المحل؛ لأن محله في الأصل مبتدأ، وعليهما ف:{النَّذِيرُ} خبر (إنّ)، و {الْمُبِينُ:} صفته. هذا؛ ويجوز اعتبار الضمير مبتدأ، و {النَّذِيرُ} خبره، وعليه فالجملة الاسمية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:
{وَقُلْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {كَما:} الكاف: حرف تشبيه وجر.
(ما): مصدرية. {أَنْزَلْنا:} فعل، وفاعل، وانظر إعراب (حفظنا) في الآية رقم [17] {عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ:} متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر
…
إلخ. هذا؛ و (ما) والفعل في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف، التقدير: آتيناك سبعا من المثاني، إيتاء كائنا مثل إنزالنا على المقتسمين؛ لأن {آتَيْناكَ} بمعنى: أنزلنا عليك.
وقيل: التقدير: متعناهم تمتيعا كما
…
إلخ، والمعنى: نعمنا بعضهم كما عذبنا بعضهم. وقيل:
التقدير: إنذارا مثل ما أنزلنا، فيكون وصفا لمصدر. وقيل: هو وصف لمفعول، التقدير: أنذركم عذابا مثل العذاب المنزل على المقتسمين. انتهى. أبو البقاء بتصرف. {الَّذِينَ:} فيه وجوه:
الأول: الإتباع لما قبله على البدلية، أو على النعت. الثاني: منصوب على الذم بفعل محذوف.
الثالث: هو مرفوع على اعتباره مبتدأ خبره محذوف، التقدير: معذبون، أو يعذبون، ونحو ذلك، أو هو خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هم الذين
…
إلخ، وهو مبني على الفتح في محل جر على الأول، أو في محل نصب على الثاني، أو في محل رفع على الثالث. {جَعَلُوا:} ماض وفاعله وهو بمعنى: صيروا فلذا نصب مفعولين، والألف للتفريق. {الْقُرْآنَ:} مفعول به أول. {عِضِينَ:}
مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{جَعَلُوا..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها.
الشرح: {فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ:} أقسم الله بنفسه: أنه يسأل هؤلاء المقتسمين الذين مرّ ذكرهم. {عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ} أي: من الكفر، والمعاصي، والمنكرات. هذا؛ وقيل: يسألون عن قول لا إله الا الله، دليله ما رواه أنس بن مالك-رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{فَوَ رَبِّكَ..} . إلخ قال: عن قول: لا إله إلا الله. قال أبو عبد الله: معناه: عندنا:
عن صدق لا إله إلا الله، ووفائها، والتصديق بها، والعمل بمقتضاها، كما قال الحسن البصري -رحمه الله تعالى-: ليس الإيمان بالتّحلّي، ولا الدّين بالتمنّي، ولكن ما وقر في القلوب وصدّقته الأعمال، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من قال لا إله إلاّ الله مخلصا دخل الجنّة» . قيل:
يا رسول الله! وما إخلاصها؟ قال: «أن تحجزه عن محارم الله» . رواه زيد بن أرقم-رضي الله عنه. وانظر ما ذكرته من الاحتراس في الآية رقم [31] من سورة (الرعد).
قال القرطبي: والآية بعمومها تدل على سؤال الجميع، ومحاسبتهم، كافرهم، ومؤمنهم.
وفي سؤال الكافر ومحاسبته خلاف بين العلماء، والذي يظهر سؤاله؛ لقوله تعالى:{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ} وقوله: {إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ،} فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} وقال: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ؟} . قلنا: القيامة مواطن، فموطن يكون فيه سؤال وكلام، وموطن لا يكون ذلك فيه. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-لا يسألهم سؤال استخبار، واستعلام، ولكن يسألهم سؤال تقريع، وتوبيخ، فيقول لهم:
لم عصيتم القرآن؟ وما حجتكم فيه؟. انتهى. بتصرف كبير. قال ابن عادل: وأليق الوجوه بهذه الآية الاستعتاب لقوله تعالى: {ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} وقوله تعالى: {هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} .
{فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ..} . إلخ: أي: اجهر بالدعوة إلى الله، وإلى عبادته، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله مستخفيا في دار الأرقم بن أبي الأرقم؛ حتى نزلت الآية الكريمة، فصعد على الصفا، ونادى: يا معشر قريش! فهرعوا إليه، فقال لهم:«لو أخبرتكم أن خيلا وراء هذا الوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقيّ؟» . قالوا: ما جرّبنا عليك كذبا، فقال لهم:«إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» . {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} أي: اكفف عنهم، ولا تلتفت إلى لومهم على إظهار
دينك، وتبليغ رسالتك، ولا تكترث باستهزائهم، ولا تخف أحدا غيري، فإني أنا كافيك، وحافظك ممّن عاداك، وهو ما تفيده الآية التالية.
ويروى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم حين اجتمعوا إليه: «إنّ الرّائد لا يكذب أهله، وإنّي لو كذبت الناس جميعا؛ ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعا؛ ما غررتكم، والله الّذي لا إله إلاّ هو إنّي لرسول الله، إليكم خاصّة، وإلى الناس كافّة! والله لتموتنّ كما تنامون ولتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، ولتجزونّ بالإحسان إحسانا، وبالسّوء سوءا! وإنها لجنة أبدا أو لنار أبدا» . والرائد: هو الذي يرسله أهله ليبحث لهم عن مرعى، وماء لمواشيهم. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [214] من سورة (الشعراء) إن أردت الزيادة.
هذا وفي قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ} استعارة مكنية، فالمستعار منه: الزجاجة، والمستعار: الصدع، وهو الشق، والمستعار له هو إرشاد المكلفين من بني آدم، وهو من استعارة المحسوس للمعقول، والمشابهة بينهما فيما يؤثره التصديع في القلوب، فيظهر أثر ذلك على ظاهر الوجوه من التقبض، والانبساط، ويلوح عليها من علامات الإنكار، والاستبشار كما يظهر ذلك على ظاهر الزجاجة المصدوعة.
ويروى: أن بعض الأعراب لما سمع هذه الآية؛ سجد، فقيل له: لم سجدت؟ فقال:
سجدت لبلاغة هذا الكلام.
الإعراب: {فَوَ رَبِّكَ:} الفاء حرف استئناف. الواو: حرف قسم وجر. (ربك): مقسم به مجرور، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لَنَسْئَلَنَّهُمْ:} اللام: واقعة في جواب القسم. (نسألنهم): مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. {أَجْمَعِينَ:} توكيد للضمير المنصوب منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ. {عَمّا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما):
تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:(عن)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير:
عن الذي، أو عن شيء كانوا يعملونه، وعلى اعتبار (ما): مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب: (عن)، التقدير: عن عملهم. {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{يَعْمَلُونَ} في محل نصب خبر (كان). {فَاصْدَعْ:} الفاء: هي الفصيحة، وانظر الآية رقم [68] (اصدع): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {بِما:} متعلقان بالفعل قبلهما، وقل فيهما ما قلته في:{عَمّا} . {تُؤْمَرُ:} مضارع مبني للمجهول، ونائب الفاعل
مستتر تقديره: «أنت» ، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: بالذي، أو بشيء تؤمر به، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: فاصدع بالأمر، وهذه الجملة لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء. {وَأَعْرِضْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {عَنِ الْمُشْرِكِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {إِنّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ:} بقمعهم، وإهلاكهم. قيل: كانوا خمسة من أشراف قريش: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وعدي بن قيس، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، فقد كانوا يبالغون في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، والاستهزاء به، فقال جبريل عليه السلام-لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أكفيكهم، فأومأ إلى ساق الوليد، فمرّ بنبال، فتعلق بثوبه سهم، فلم ينعطف تعظما لأخذه، فأصاب عرقا في عقبه، فقطعه، فمات، وأومأ إلى أخمص العاص، فدخلت فيه شوكة، فانتفخت رجله، حتى صارت كالرّحى، ومات، وأشار إلى أنف عدي بن قيس، فامتخط قيحا، فمات، وإلى الأسود بن عبد يغوث، وهو قاعد في أصل شجرة، فجعل ينطح برأسه الشجرة، ويضرب وجهه بالشّوك حتى مات، وإلى عيني الأسود بن المطلب، فعمي. انتهى بيضاوي بتصرف، وانظر (نا) في الآية رقم [23] وانظر (كفى) في الآية رقم [43] من سورة (الرعد). {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ:} وهو ما اخترعوه، وابتدعوه من حجر وخشب وغيرهما. {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي: إذا نزل بهم العذاب، ففيه وعيد وتهديد. هذا؛ والاستهزاء حرام قطعا كما بينته مرارا.
الإعراب: {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، وحذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {كَفَيْناكَ:} فعل، وفاعل، والكاف مفعوله الأول، {الْمُسْتَهْزِئِينَ:} مفعوله الثاني:
منصوب، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنّا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {الَّذِينَ:} انظر مثله في الآية رقم [91]{يَجْعَلُونَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {مَعَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، أو هو متعلق بمحذوف خبر ثان، و {مَعَ:} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {إِلهاً:} مفعول به. {آخَرَ:} صفة، وجملة:
{يَجْعَلُونَ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها. {فَسَوْفَ:} الفاء: حرف استئناف. (سوف):
حرف استقبال. {يَعْلَمُونَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والمفعول محذوف للاختصار، أو للتعميم، وجملة:{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل رفع
خبر {الَّذِينَ} على أحد الوجوه المعتبرة فيه، واقترنت الجملة بالفاء؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم.
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97)}
الشرح: المعنى: نعلم: أنك يحصل لك ضيق في صدرك بسبب ما يقولون من تكذيب، واستهزاء، وقول فاحش، والطبيعة البشرية تأبى ذلك، فيحصل عند سماع ذلك ضيق، فعند ذلك أمره بالتسبيح، والعبادة فيما يلي.
الإعراب: {وَلَقَدْ:} انظر الآية رقم [10]{نَعْلَمُ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» .
{أَنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {يَضِيقُ:} مضارع. {صَدْرُكَ:} فاعل، والكاف في محل جر بالإضافة. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وانظر:{عَمّا} في الآية رقم [93] فهما مثلهما، والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: بالذي، أو بشيء يقولونه، وعلى اعتبار (ما): مصدرية تؤول مع الفعل بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بقولهم، وجملة:{يَضِيقُ..} . إلخ في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي الفعل {نَعْلَمُ} وجملة:{وَلَقَدْ..} . إلخ جواب القسم المقدر، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له.
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ (98)}
الشرح: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: فصل بأمر ربك. وقال البيضاوي: فافزع إلى الله تعالى فيما نابك بالتسبيح، والتحميد؛ يكفك، ويكشف الغمّ عنك. انتهى. {وَكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ} أي: من المصلين، ولا خفاء: أن غاية القرب في الصلاة حال السجود، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أقرب ما يكون العبد من ربّه، وهو ساجد، فأخلصوا الدّعاء» . وكان عليه ألف صلاة، وأزكى سلام إذا حزبه أمر؛ فزع إلى الصلاة. وقال بعض العلماء: إذا نزل بالعبد مكروه، ففزع إلى الصلاة، فكأنه يقول: يا رب إنما يجب عليّ عبادتك، سواء أعطيتني ما أحب، أو كفيتني ما أكره، فأنا عبدك، وبين يديك، فافعل بي ما تشاء! هذا؛ ويظن بعض الناس: أن هنا آية سجدة، يسن السجود عند تلاوتها، وليس كذلك.
الإعراب: {فَسَبِّحْ:} الفاء: هي الفصيحة، وانظر الآية رقم [68] (سبح): أمر، وفاعله تقديره:«أنت» . {بِحَمْدِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر؛ أي: ملتبسا بحمد، و (حمد): مضاف، و {رَبِّكَ:} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة:{فَسَبِّحْ..} . إلخ لا محل
لها على جميع الوجوه المعتبرة بالفاء. (كن): فعل أمر ناقص، واسمه مستتر فيه تقديره:«أنت» ، {مِنَ السّاجِدِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر: (كن)، وجملة:{وَكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها.
{وَاُعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)}
الشرح: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ:} دم على عبادته في جميع الأوقات، وجميع الأحوال، وانظر شرح «العبادة» في الآية رقم [62] من سورة (هود) عليه السلام، وشرح:{رَبَّكُمْ} في الآية رقم [3] منها. {حَتّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} أي: الموت، فإنه متيقن لحاقه كلّ حيّ مخلوق، وكان عمر بن عبد العزيز-رضي الله عنه-يقول: ما رأيت يقينا أشبه بالشّكّ من يقين النّاس بالموت: ثمّ لا يستعدّون له. هذا وروى البغوي بسنده عن جبير بن نفير عن أبي مسلم الخولاني: أنه سمعه يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أوحى الله إليّ أن أجمع المال، وأكون من التّاجرين، ولكن، أوحى إليّ أن سبّح بحمد ربّك، وكن من السّاجدين، واعبد ربّك حتّى يأتيك اليقين» . والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: (اعبد): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {رَبَّكَ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {حَتّى:} حرف غاية، وجر. {يَأْتِيَكَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد {حَتّى،} والكاف مفعول به.
{الْيَقِينُ:} فاعله: و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على الهادي، وعلى آله، وصحبه، وسلم.
انتهت سورة (الحجر) بعونه تعالى تفسيرا وإعرابا.
والحمد لله رب العالمين
**