الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة طه
مكية، وهي مائة وأربع. وقيل: خمس وثلاثون آية، وألف وستمائة وإحدى وأربعون كلمة، وخمسة آلاف ومائتان واثنان وأربعون حرفا، فعن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت السورة التي فيها (البقرة) من الذكر الأوّل، وأعطيت (طه) و (الطواسين) من ألواح موسى، وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم سورة (البقرة) من تحت العرش، وأعطيت المفصّل نافلة» . النافلة: الزيادة. وفقنا الله لفهم ذلك. هذا؛ وقد نزلت السورة الكريمة قبل إسلام عمر-رضي الله عنه، وقصته مع أخته فاطمة وزوجها سعيد بن زيد مشهورة، مسطورة لا أطيل الكلام بذكرها هنا.
بسم الله الرحمن الرحيم
{طه (1)}
الشرح: لقد اختلف في معناه، فقال ابن عباس-رضي الله عنهما: معناه: يا رجل! فيكون المراد به النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: إنها لغة معروفة في قبيلة عكل، وأنشد الطبري في ذلك قول متمم ابن نويرة:[الطويل]
دعوت بطه في القتال فلم يجب
…
فخفت عليه أن يكون موائلا
أي: ناديته بيا رجل. وقال عبد الله بن عمرو معناه: يا حبيبي بلغة قبيلة عك. وقال قطرب:
هو بلغة طيئ، وأنشد ليزيد بن المهلهل:[البسيط]
إنّ السّفاهة طه من شمائلكم
…
لا بارك الله في القوم الملاعين
معناه: إن السفاهة يا حبيبي
…
إلخ، واستشهد بهذا البيت أيضا من قال: معناه: يا رجل كما استشهد بسابقه. وقيل: هو اسم من أسماء الله تعالى، وقسم أقسم به. وقيل: هو اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم سماه الله به، كما سماه محمدا، وهو المشهور، والمعروف لدى الناس، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «لي عند ربّي عشرة أسماء» . فذكر: أن فيها طه، وياسين. وقيل: إنه اسم للسورة، ومفتاح لها. وقيل: إنها حروف مقطعة، يدل كل حرف منها على معنى، فالطاء افتتاح اسمه: طاهر، وطيب، والهاء افتتاح اسمه: هادي. وقيل: الطاء: يا طامع بالشفاعة للأمة، والهاء: يا هادي الخلق إلى الله. وقيل: غير ذلك. وقيل: إن معناه: طأ الأرض، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتمل مشقة الصلاة حتى كادت قدماه تتورّمان، فقيل له: خفّف عن نفسك. وقيل: كان صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل واحدة، ورفع الأخرى، فقال الله له: طأ الأرض بقدميك يا محمد. انتهى. من
القرطبي باختصار كبير. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [1] من سورة (يونس) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف ألف صلاة، وألف ألف سلام. ولا تنس: أن اللفظ يقرأ بقراءات كثيرة.
أما الإعراب، فهو منادى حذف منه حرف النداء على تفسيره ب: يا رجل، أو يا حبيبي، أو هو اسم علم له صلى الله عليه وسلم، أو هو فعل أمر على التفسير الأخير له، ولا محل له من الإعراب على اعتباره من الحروف المقطعة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الشرح: لقد اختلف في سبب نزول هذه الآيات، فقال الكلبي: لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بمكة؛ اجتهد في العبادة، واشتدت عبادته، فجعل يصلي الليل كله زمانا حتى نزلت هذه الآية، فأمره الله تعالى أن يخفف عن نفسه، فيصلي، وينام، فنسخت هذه الآية قيام الليل، فكان بعدها يصلي، وينام. وقال مقاتل، والضحاك: فلما نزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم؛ قام هو، وأصحابه، فصلوا، فقال كفار قريش: ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان شديد التأسف والتحسر على عدم إيمان قومه، فيكون الكلام مثل الآية [6] من سورة (الكهف). هذا؛ وأصل الشقاء في اللغة: العناء، والتعب. قال المتنبي:[الكامل]
ذو العقل يشقى في النّعيم بعقله
…
وأخو الجهالة في الشّقاوة ينعم
هذا؛ ومصدر الفعل يشقى: شقاء، وشقوة، وشقاوة، وهن ضدّ السعادة. وقد شقي شقاء، وشقاوة، وأشقاه الله، فهو شقي بيّن الشقاوة. وفي القاموس: الشقاء: الشدة، والعسر. وشقي، كرضي شقاء، وشقاوة.
{إِلاّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى} أي: يخاف الله تعالى، وإنما خص من يخشى بالتذكرة؛ لأنه هو الذي ينتفع بالموعظة، والتذكرة. {تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى} أي: نزله عليك يا محمد العلي القدير الذي خلق الأرض، والسموات العلية الرفيعة؛ التي لا يقدر على خلقها في عظمها، وعلوها إلا الله تعالى.
هذا؛ ويقرأ: «(ما نزّل عليك القرآن لتشقى)» والفرق بين أنزل ونزّل: فالأول: يفيد التنزيل جملة واحدة، وأما الثاني: فإنه يفيد: أن القرآن نزل مفرقا في ثلاث وعشرين سنة على حسب الوقائع، ومقتضيات الأحوال، على ما نرى عليه أهل الشعر، والخطابة، وهذا ممّا كان يريب المشركين، كما حكى سبحانه وتعالى عنهم:{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً} فبين سبحانه الحكمة من ذلك بقوله: {كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً} وانظر شرح
(القرآن) في الآية رقم [1] من سورة (الحجر). وانظر شرح «خشي» في الآية رقم [80] من سورة (الكهف). هذا؛ و {الْعُلى} جمع: العليا، مثل كبرى، وكبر، وصغرى، وصغر.
الإعراب: {ما:} نافية. {أَنْزَلْنا:} فعل، وفاعل. {عَلَيْكَ:} متعلقان بالفعل قبلهما.
{الْقُرْآنَ:} مفعول به. {لِتَشْقى:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة جوازا بعد لام التعليل وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية:{ما أَنْزَلْنا..} . إلخ مستأنفة على اعتبار {طه} منادى، أو فعلا كما رأيت، وفي محل رفع خبره على اعتباره مبتدأ، وجوابه إن جعلته قسما.
{إِلاّ:} أداة استثناء. {تَذْكِرَةً:} منصوب على الاستثناء المنقطع، ولا يجوز أن يكون بدلا من محل {لِتَشْقى} لاختلاف الجنسين، ولا مفعولا له ل:{أَنْزَلْنا} فإن الفعل الواحد لا يتعدى إلى علتين. وقيل: هو مصدر في موقع الحال من الكاف، أو القرآن، أو المفعول له على أنّ لتشقى متعلق بمحذوف هو صفة القرآن. انتهى. بيضاوي، وهو قول الزمخشري، ودافع عنه، وأيده، وأنكره الفارسي. {لِمَنْ:} متعلقان ب: {تَذْكِرَةً} أو بمحذوف صفة له، و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر باللام. {يَخْشى:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«هو» ، يعود إلى (من) وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة (من) أو صفتها، والمفعول محذوف للعلم به.
{تَنْزِيلاً:} مفعول مطلق بفعل محذوف، أو هو بدل من {تَذْكِرَةً} على اعتباره حالا فقط، وقرئ بالرفع على أنه خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هو، أو هذا تنزيل. {مِمَّنْ} متعلقان ب {تَنْزِيلاً،} أو بمحذوف صفة له، وجملة:{خَلَقَ الْأَرْضَ} صلة (من)، والعائد رجوع الفاعل إليها. {وَالسَّماواتِ:} معطوف على {الْأَرْضَ} منصوب مثله، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم. {الْعُلى:} صفة (السموات) منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر.
الشرح: {الرَّحْمنُ..} . إلخ: انظر الآية رقم [2] من سورة (الرعد) ففيها الكفاية، أو الآية رقم [22] من سورة (الأنبياء). {وَما تَحْتَ الثَّرى:} يريد ما تحت الصخرة التي لا يعلم ما تحتها إلا هو، وهي التي ذكرها لقمان لابنه، وذلك في قوله تعالى في سورة (لقمان):{يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} .
تنبيه: قال البيضاوي رحمه الله تعالى في هذا الكلام تفخيم لشأن المنزّل بعرض تعظيم المنزل؛ أي: القرآن، بذكر أفعاله وصفاته على الترتيب الذي هو عند العقل، فبدأ بخلق السموات والأرض التي هي أصول العالم، وقدم الأرض؛ أي: في الآية السابقة؛ لأنها أقرب إلى الحسّ، وأظهر عنده من السموات العلى، ثم أشار إلى وجه إحداث الكائنات، وتدبير أمرها بأن قصد العرش، فأجرى منه الأحكام، والتقادير، وأنزل منه الأسباب على ترتيب ومقادير حسبما اقتضته حكمته، وتعلقت به مشيئته، فقال {الرَّحْمنُ..} . إلخ ليدل بذلك على كمال قدرته، وإرادته، ولما كانت القدرة تابعة للإرادة-وهي لا تنفك عن العلم-عقب ذلك بإحاطة علمه بجليات الأمور، وخفياتها على سواء، فقال:{وَإِنْ تَجْهَرْ..} . إلخ.
هذا؛ و «استوى» له في اللغة معان كثيرة. قال في «القاموس» : استوى الشيء: اعتدل، واستقام، يقال: سويت الشيء، فاستوى، واستوى الرجل: استقام أمره، وانتهى شبابه، وبلغ أشده. قال تعالى في حق موسى-على نبينا وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{وَلَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى..} . إلخ. واستوى عليه: ظهر واستولى. واستوى على ظهر الدابة: استقر، وثبت.
واستوى على سرير الملك: كناية عن التملك. واستوى إلى الشيء: قصده. قال تعالى في الآية رقم [11] من سورة (فصلت): {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ..} . إلخ. واستوى الطعام: نضج، والفاكهة: نضجت، وطاب أكلها. هذا؛ و {اِسْتَوى} هنا بمعنى: استولى، وقهر. هذا مذهب الخلف. ومذهب السلف: استوى استواء يليق به.
أما {الثَّرى} بالقصر، فهو التراب الندي، فإن لم يكن نديا؛ فهو تراب، ولا يقال له حينئذ:
ثرى، وفي اللسان وغيره: شهر ثرى، وشهر ترى، وشهر مرعى؛ أي: تكون الأرض ندية أولا، ثم ترى الخضرة، ثم يطول النبات حتى يصلح للرعي. هذا؛ والثراء بالمد: الغنى، وكثرة المال. والثري الغني، وكثير المال.
الإعراب: {الرَّحْمنُ:} مبتدأ، {عَلَى الْعَرْشِ:} متعلقان بالفعل بعدهما. {اِسْتَوى:} ماض، وفاعله يعود إلى الرحمن، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. هذا؛ وأجيز اعتبار {الرَّحْمنُ} خبرا لمبتدإ محذوف، التقدير: هو الرحمن، وعليه فالجملة الفعلية في محل رفع خبر ثان للمبتدإ المحذوف، أو هي في محل نصب حال من {الرَّحْمنُ} كما أجيز اعتبار {الرَّحْمنُ} بدلا من فاعل {خَلَقَ} فتبقى الجملة الفعلية حالا. وقال القرطبي: ويجوز النصب على المدح، فتبقى الجملة الفعلية حالا، ولكن لم أر من قرأ بالنصب. هذا؛ وقرئ بالجر بدلا من الموصول، فتبقى الجملة الفعلية حالا. وقال الزمخشري: هي خبر مبتدأ محذوف لا غير، ولا أراه قويا. {لَهُ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. {فِي السَّماواتِ:} متعلقان بمحذوف صلة {ما،} أو صفتها، والجملة الاسمية
مستأنفة، لا محل لها، وأجيز اعتبارها خبرا ل:{الرَّحْمنُ} على رفعه. {وَما فِي الْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، وهو مثله في إعرابه. {بَيْنَهُما:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة (ما) والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {تَحْتَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة {ما،} أو صفتها، و {تَحْتَ:} مضاف، و {الثَّرى:} مضاف إليه مجرور
…
إلخ.
الشرح: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويشمل كل عاقل، والمعنى: إن ترفع صوتك بالذكر، ونحوه؛ فاعلم: أنه غني عن جهرك. {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى:} قال ابن عباس رضي الله عنهما: السر: ما تسر في نفسك؛ وأخفى من السر: ما يلقيه الله في قلبك من بعد، ولا تعلم أنك ستحدث به نفسك؛ لأنك لا تعلم ما تسر اليوم، ولا تعلم ما تسر غدا، والله يعلم ما أسررت به اليوم، وما تسر به غدا. وانظر الآية [10] من سورة (الرعد). وانظر {الْقَوْلُ} في الآية رقم [16] من سورة (الإسراء)، والفعل {يَعْلَمُ} بمعنى: يعرف، انظر الآية رقم [74] من سورة (النحل)، وفي الكلام التفات من التكلم إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى الخطاب، ومنه إلى الغيبة، وذلك للتفنن. وانظر الآية رقم [22] من سورة (النحل) تجد ما يسرك.
{اللهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ..} . إلخ: وحد الله نفسه، وذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا المشركين إلى عبادة الله تعالى، وخلع عبادة الأوثان، فكبر ذلك عليهم، فلما سمعه أبو جهل يذكر الرحمن؛ قال للوليد بن المغيرة: محمد ينهانا أن ندعو مع الله إلها آخر، وهو يدعو الله، والرحمن، فأنزل الله الآية رقم [110] من سورة (الإسراء) ثم قال تعالى:{اللهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ..} . إلخ انظر آية الإسراء المذكورة تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
الإعراب: {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. (إن) حرف شرط جازم. {تَجْهَرْ:} مضارع فعل الشرط، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {بِالْقَوْلِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف، انظر تقديره في الشرح، والجملة الشرطية مستأنفة، لا محل لها. {فَإِنَّهُ:} الفاء: حرف تعليل. (إنه):
حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {يَعْلَمُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {الرَّحْمنُ}. {السِّرَّ:}
مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية تعليل لجواب الشرط.
{وَأَخْفى:} يجوز فيه أن يكون فعلا ماضيا، وفاعله يعود إلى الإنسان، ومفعوله محذوف، التقدير: وأخفى السر عن الخلق، أو هو أفعل تفضيل معطوف على {السِّرَّ} التقدير: وأخفى من السر، والمعنى عليه أقوى، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.
{اللهُ:} مبتدأ. {لا:} نافية للجنس تعمل عمل «إن» . {إِلهَ:} اسم {لا} مبني على الفتح في محل نصب، وخبرها محذوف، التقدير: لا إله موجود. {إِلاّ:} حرف حصر. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع، وفيه ثلاثة أوجه: الأول: اعتباره بدلا من اسم {لا} على المحل؛ إذ محله الرفع على الابتداء، والثاني: اعتباره بدلا من {لا} واسمها؛ لأنها وما بعدها في محل رفع بالابتداء. والثالث: اعتباره بدلا من الضمير المستكن في الخبر المحذوف، وهو الأولى والأقوى، والجملة الاسمية:{لا إِلهَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ. {اللهُ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْأَسْماءُ:} مبتدأ مؤخر. {الْحُسْنى:} صفة الأسماء مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية في محل رفع خبر ثان للمبتدإ، والجملة الاسمية:{اللهُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى:} قال أهل المعاني: هو استفهام، وإثبات، وإيجاب معناه: أليس قد أتاك؟ وقيل: معناه: وقد أتاك. قاله ابن عباس، وغيره، ومجيء «هل» بمعنى:
«قد» ذكره ابن هشام في مغنيه، وجعل منه قوله تعالى:{هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} . هذا؛ وفي ذكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في أول السورة، ثم ذكر نبوة موسى عليه الصلاة والسلام، وما جرى له مع فرعون، ثم مع قومه ذلك: ليأتم به في تحمل أعباء النبوة، وتبليغ الرسالة، والصبر على مقاساة الشدائد، فإن هذه من أوائل ما نزل.
{إِذْ رَأى ناراً فَقالَ..} . إلخ: قال ابن عباس-رضي الله عنهما-هذا حين قضى الأجل؛ أي:
الذي عاقد شعيبا عليه، ثم استأذنه في الرجوع إلى أهله بمصر، وخرج بزوجه، وهي بنت شعيب كما ستعرفه، وتعرف نشأته في سورة (القصص) إن شاء الله تعالى، فلما وافى وادي طوى وفيه جبل الطور، وكانت أيام الشتاء، فأخذ على غير الطريق المعروف مخافة من ملوك الشام، وامرأته حامل في شهرها، لا يدري: أليلا تضع، أم نهارا؟ فسار في البرية غير عارف بطرقها، فألجأه المسير إلى جانب الطور الغربي الأيمن، وذلك في ليلة مظلمة مثلجة شديدة البرد لما أراد من كرامته، فأخذ امرأته الطلق، فأخذ زنده فجعل يقدح فلا يوري، فأبصر نارا من بعيد عن يسار الطريق من جانب الطور، فذهب إليها. وقال لأهله:
{اُمْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً:} أقيموا مكانكم لأني أبصرت نارا. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: فلما توجه نحو النار؛ فإذا النار في شجرة عناب، فوقف متعجبا من حسن ذلك الضوء، وشدة خضرة تلك الشجرة، فلا شدة حرّ النار تغيّر حسن خضرة الشجرة، ولا كثرة ماء الشجرة،
ولا نعمة الخضرة تغيّران حسن ضوء النهار. {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ} أي: بشعلة، أو بجمرة.
{أَوْ أَجِدُ عَلَى النّارِ هُدىً} أي: هاديا يهديني، ويدلني على الطريق، ولما كان حصول الاثنين مترقبا متوقعا، وليس محققا بناه على الرجاء بخلاف الإيناس فإنه كان محققا، فلذا حققه. هذا؛ ومعنى الاستعلاء في قوله:{عَلَى النّارِ} أن أهلها مشرفون عليها، أو هم مستعلون على المكان القريب منها، ومثله قول الأعشى من قصيدة مدح بها المحلّق:[الطويل]
تشبّ لمقرورين يصطليانها
…
وبات على النّار النّدى والمحلّق
هذا؛ وفي سورة (النمل) قوله تعالى: {سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} وفي سورة (القصص) قوله تعالى: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} والمعنى واحد، واختلاف الألفاظ لشحذ الأذهان، ويورث لذة على الأسماع، وهو دليل واضح على بلاغة القرآن الذي أخرس الفصحاء، وأسكت البلغاء من العرب، وما يتذكر إلا أولو الألباب. وقال بعضهم: لا منافاة بين هذه الأشياء، فهو تعالى ذكر الكل، إلا أنه حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك النداء.
هذا؛ و {آنَسْتُ:} أبصرت، والإيناس: الإبصار البين، الذي لا شبهة فيه، ومنه إنسان العين؛ لأنه يبصر به الأشياء، و (القبس): الجذوة من النار.
بعد هذا فالفعل «أتى» يستعمل لازما؛ إذا كان بمعنى: حضر، وأقبل، وقرب كما في قوله تعالى:{أَتى أَمْرُ اللهِ..} . إلخ ويستعمل متعديا إذا كان بمعنى: وصل، وبلغ، كما في هذه الآية، ونحوها. ومثله:«جاء» في التعدية، واللزوم مع اختلاف اللفظ واتفاق المعنى. هذا؛ و {مُوسى} أصله:(موشى) مركّبا من اسمين: الماء، والشجر، فالماء يقال له في العبرانية:(مو) والشجر يقال له: (شا) فعربته العرب. وقالوا: موسى بالسين، وسبب تسميته بذلك: أن امرأة فرعون التقطته من نهر النيل بين الماء، والشجر لما ألقته أمه فيه، كما ستعرفه قريبا، أما «النار» فأصلها النّور، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فهي في المؤنث المجازي، وقد تذكر، وتصغيرها: نويرة، والجمع: أنور، ونيران، ويكنى بها عن جهنم التي سيعذب الله بها الكافرين، والفاسقين من أبناء المسلمين، والفعل: نار، ينور، ويستعمل لازما، ومتعديا إذا بدئ بهمزة التعدية، كما في قولك: أنارت الشمس الكون. وانظر شرح (الأهل) في الآية رقم [71] من سورة (الكهف)، وإعلال {هُدىً} في الآية رقم [13] منها، وإعلال {أَجِدُ} مثل إعلال {تَزِرُ} في الآية رقم [15] من سورة (الإسراء).
الإعراب: {وَهَلْ:} الواو: حرف استئناف. (هل): حرف استفهام. وانظر الشرح.
{أَتاكَ:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {حَدِيثُ:} فاعله، وهو مضاف، و {مُوسى:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية
مستأنفة، لا محل لها. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق ب: {حَدِيثُ،} أو هو متعلق بفعل محذوف، تقديره: اذكر، أو هو مفعول به لهذا المقدر.
وقيل: متعلق بمحذوف مؤخر، التقدير: حين رأى نارا كان كيت، وكيت {رَأى:} ماض، وفاعله يعود إلى {مُوسى}. {ناراً:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها.
{فَقالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {مُوسى}. {لِأَهْلِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {اُمْكُثُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. وانظر إعراب (اشربي) في الآية رقم [26] من سورة (مريم) والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{فَقالَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها.
{إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل وياء المتكلم اسمها. {آنَسْتُ:} فعل، وفاعل. {ناراً:}
مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ) والجملة الاسمية تعليل للأمر، لا محل لها، {لَعَلِّي:} حرف مشبه بالفعل معناه الترجي، والياء اسمها. {آتِيكُمْ:} مضارع مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعل)، والجملة الاسمية:{لَعَلِّي..} . إلخ تعليل ل: {آنَسْتُ} لا محل لها. {مِنْها:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من (قبس) كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . {بِقَبَسٍ:}
متعلقان بالفعل قبلهما. {أَوْ:} حرف عطف، {أَجِدُ:} مضارع، والفاعل تقديره:«أنا» . {عَلَى النّارِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {هُدىً:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين. والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها.
الشرح: {فَلَمّا أَتاها} أي: أتى النار، واقترب منها. قيل: إن موسى عليه السلام أخذ شيئا من حشيش الأرض اليابس وقصد الشجرة التي رأى فيها النار، فكان كلما دنا منها؛ نأت عنه، وإذا نأى؛ دنت منه، فوقف متحيرا، وسمع تسبيح الملائكة، وألقيت عليه السكينة، فعند ذلك {نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} قيل: إنه لما نودي؛ قال: من المتكلم؟ قال: «إني أنا الله» فوسوس إليه إبليس، لعلك تسمع كلام الشيطان، فقال: أنا عرفت: أنه كلام الله؛ لأني أسمعه من جميع الجهات، وبجميع الأعضاء. قيل: إنه سمعه بكل أجزائه، حتى إن كل جارحة كانت أذنا.
{فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ:} كان السبب فيه ما روي عن ابن مسعود-رضي الله عنه-مرفوعا. قال:
كانتا من جلد حمار ميت غير مدبوغ وإنما أمر بخلعهما صيانة للوادي المقدس. وقيل: أمر بخلعهما؛ ليباشر بقدميه تراب الأرض المقدسة؛ لتنالهما بركتها، فخلعهما، وألقاهما وراء الوادي. وقيل: أمره بخلعهما؛ لأن الحفوة تواضع، وأدب، ولذلك طاف بعض السلف حول الكعبة حافين. {إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ} أي: المطهر. {طُوىً:} اسم الوادي الذي حصل فيه الكلام، ويقرأ بغير تنوين على أنه معرفة مؤنث علم للبقعة. وقال في القاموس: وطوى بالضم والكسر، وينون واد بالشام. انتهى. وهو غير المذكور في الآية حتما.
هذا؛ و «الوادي» هو المنفرج بين جبلين يجري فيه السيل، ويجمع على، أودية وأوديات، وأوادية، وأوداء وأوداة. قال جرير:[الوافر]
عرفت ببرقة الأوداه رسما
…
محيلا طال عهدك من رسوم
ولم أعثر على «وديان» مع أنه كثير، ومستعمل. هذا؛ وقد قال أبو البقاء في جمع «واد» على: أودية، وجمع فاعل على أفعلة شاذ ولم نسمعه في غير هذا الحرف، ووجهه: أن فاعلا قد جاء بمعنى: فعيل، وكما جاء فعيل، وأفعلة كجريب، وأجربة كذلك فاعل. انتهى.
الإعراب: {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لمّا): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف بمعنى:«حين» عند ابن السراج، والفارسي، وابن جني وجماعة، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وصوب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني. {أَتاها:} ماض ومفعوله، وفاعله يعود إلى {مُوسى،} والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية على القول بحرفية (لمّا)، وهي في محل جر بإضافة (لمّا) إليها على القول بظرفيتها. {نُودِيَ:} ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى {مُوسى،} والجملة الفعلية جواب (لمّا)، لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. (يا):
حرف نداء ينوب مناب: «أدعو» . (موسى): مفرد علم مبني على ضم مقدر على الألف للتعذر في محل نصب ب: (يا)، والجملة الندائية في محل نصب مفعول به، وهي في معنى مقول القول.
{إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {أَنَا:} ضمير منفصل يجوز أن يكون فصلا لا محل له، وأن يكون توكيدا لاسم (إنّ) على المحل، وأن يكون مبتدأ. {رَبُّكَ:} خبر (إنّ) على الوجهين الأولين في الضمير، وخبره على الوجه الثالث، وعليه فالجملة الاسمية في محل رفع خبر إن، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ يقال فيها ما قيل بالجملة الندائية قبلها. هذا؛ ويقرأ بفتح همزة (أنّ)، وعليه فهي تؤوّل مع اسمها وخبرها بمصدر في محل جرّ بحرف جر محذوف، التقدير:
بكوني ربك، والجار والمجرور على هذا متعلقان بالفعل {نُودِيَ} .
{فَاخْلَعْ:} الفاء: حرف عطف على رأي: من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأعتبرها الفاء الفصيحة، (اخلع): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، {نَعْلَيْكَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك واقعا فاخلع
…
إلخ والكلام كله يقال فيه ما قيل فيما قبله. {إِنَّكَ:}
حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {بِالْوادِ:} متعلقان بمحذوف خبر (إنّ). وعلامة الجر كسرة مقدرة على الياء. {الْمُقَدَّسِ:} صفة الوادي. {طُوىً:} بدل من الوادي، والجملة الاسمية:{إِنَّكَ..} . إلخ تعليل للأمر، لا محل لها.
الشرح: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} أي: اصطفيتك برسالاتي، وبكلامي، وقرئ:«(وأنّا اخترناك)» .
{فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى:} فيه نهاية الهيبة، والجلال له، فكأنه قال له: لقد جاءك أمر عظيم، فتأهب له. قيل: لما قيل له ذلك؛ وقف على حجر، واستند إلى حجر ووضع يمينه على شماله، وألقى ذقنه على صدره، ووقف يستمع، وكان لباسه صوفا.
قال القرطبي: حسن الاستماع كما يجب قد مدح الله عليه، فقال:{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ} وذمّ على خلاف هذا الوصف، فقال:{نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ..} . إلخ، فمدح المنصت لاستماع كلامه مع حضور العقل، وأمر عباده بذلك أدبا لهم، فقال:{وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لأنه بذلك ينال الفهم عن الله تعالى.
قال وهب بن منبه: من أدب الاستماع: سكون الجوارح، وغض البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور العقل، والعزم على العمل، وذلك هو الاستماع كما يحب الله تعالى، وهو أن يكف العبد جوارحه، ولا يشغلها بشيء.
…
{لِذِكْرِي:} لقد اختلف في تأويل قوله: {لِذِكْرِي} فقيل: يحتمل أن يريد لتذكرني فيها، أو يريد: لأذكرك بالمدح في عليين بها. وقيل: المراد: إذا نسيت الصلاة، ثم تذكرت، فصل، فعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نسي صلاة فليصلّ إذا ذكرها، لا كفّارة لها إلاّ ذلك» . متفق عليه. وقيل: المعنى: لإخلاص ذكري، وطلب وجهي، ولا ترائي فيها، ولا تطلب بها غرضا آخر.
الإعراب: {وَأَنَا:} الواو: حرف استئناف. (أنا): ضمير منفصل مبني على السكون في محلّ رفع مبتدأ. {اِخْتَرْتُكَ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة
الاسمية مستأنفة، لا محل لها. وعلى القراءة الثانية فالمصدر المؤول من (أنّ) واسمها، وخبرها فيه، وجهان: أحدهما: هو مجرور بحرف جر محذوف، والجار والمجرور يتعلقان بالفعل بعدهما، التقدير: فاستمع لاختيارنا إياك. والثاني: هو معطوف على ما قبله؛ أي: بأني ربك، وبأنّا اخترناك.
{فَاسْتَمِعْ:} الفاء: هي الفصيحة، وجملة:{فَاسْتَمِعْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم. التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا فاستمع. {لِما:} متعلقان بأحد الفعلين السابقين، و «ما»: تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر باللام. {يُوحى:}
مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، ونائب الفاعل يعود إلى (ما)، وهو العائد، أو الرابط، والمتعلق محذوف، التقدير: للذي، أو لشيء يوحى إليك. {إِنَّنِي أَنَا اللهُ} إعراب هذه الجملة مثل إعراب:{إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} في الآية رقم [12]. {لا إِلهَ إِلاّ أَنَا} إعراب هذه الجملة مثل إعراب: {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} في الآية رقم [8] والجملة الاسمية هذه في محل رفع خبر ثان ل: (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّنِي..} . إلخ بدل من «الذي يوحى» أو هي تفسير له. تأمل. {فَاعْبُدْنِي:} الفاء: هي الفصيحة، (اعبدني): أمر، وفاعله تقديره:«أنت» ، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط على مثال ما رأيت. {وَأَقِمِ:} الواو: حرف عطف. (أقم): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» .
{لِذِكْرِي:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، ومفعوله محذوف، التقدير: لذكري إياك، أو من إضافة المصدر لمفعوله، والفاعل محذوف، التقدير: لتذكرك إياي، و {الصَّلاةَ:} مفعول به، وجملة:{وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
{إِنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15)}
الشرح: {إِنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها:} قيل: معنى {أُخْفِيها} أظهرها؛ لأنه يقال: خفيت الشيء، وأخفيته: إذا أظهرته، فأخفيته من حروف الأضداد يقع على الستر، والإظهار. واستدلوا بقول امرئ القيس:[المتقارب]
فإن تدفنوا الداء لا نخفه
…
وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
أراد: لا نظهره، وقوله أيضا:[الطويل]
خفاهنّ من أنفاقهنّ كأنّما
…
خفاهنّ ودق من عشيّ مجلّب
المعنى: أظهرهن من أنفاقهن. وقال أبو بكر الأنباري: بعد {أَكادُ} كلام مضمر، التقدير:
أكاد آتي بها، وأيد هذا القول علي بن سليمان، والنحاس، وعليه فيبقى:{أُخْفِيها} من الإخفاء
لا الإظهار، وتكون الجملة، مستأنفة. قال القرطبي: وهذا معنى صحيح؛ لأن الله عز وجل قد أخفى الساعة التي هي القيامة، والساعة التي يموت فيها الإنسان؛ ليكون الإنسان يعمل والأمر عنده مبهم، فلا يؤخر التوبة.
وقال أبو علي الفارسي: معنى {أُخْفِيها} أزيل عنها خفاءها، وهو سترها، وإذا أزال عنها سترها؛ ظهرت. وحكى أبو حاتم عن الأخفش: أن «كاد» زائدة مؤكدة. قال: ومثله: {إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها} لأن الظلمات التي ذكرها الله تعالى، بعضها يحول بين الناظر، والمنظور إليه. وروي معناه عن سعيد بن جبير، واستشهدوا بقول زيد الخير:[الطويل]
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه
…
فما إن يكاد قرنه يتنفّس
أراد، فما يتنفس قرنه؛ أي: مقارنه، وهو محاربه. وقال آخر:[الطويل]
وألاّ ألوم النفس فيما أصابني
…
وألاّ أكاد بالذي نلت أنجح
معناه: وألا أنجح بالذي نلت. وقيل: المعنى: {أَكادُ أُخْفِيها} أي: أقارب ذلك. قال اللغويون: «كدت أفعل» معناه عند العرب: قاربت الفعل، ولم أفعل، وشاهده قول الله جلت عظمته:{فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ} معناه فعلوا بعد إبطاء لتعذر وجدان البقرة عليهم. وقيل:
المعنى: أريد أخفيها. قال الأنباري: وشاهد هذا القول الفصيح من الشعر: [الكامل]
كادت وكدت، وتلك خير إرادة
…
لو عاد من زمن الصّبابة ما مضى
معناه: أرادت، وأردت. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: وأكثر المفسرين فيما ذكره الثعلبي: إن المعنى أكاد أخفيها من نفسي، فكيف يعلمها مخلوق، وكيف أظهرها لكم؟! وهو محمول على أنه جاء على ما جرت به عادة العرب في كلامها، من أن أحدهم إذا بالغ في كتمان الشيء. قال: أخفيه من نفسي، والله تعالى لا يخفى عليه شيء، ورد هذا الزمخشري بقوله:
ولا دليل على الكلام في هذا المحذوف، ومحذوف لا دليل عليه مطّرح. انتهى. قرطبي بتصرف.
وقال الجمل: والحكمة من إخفاء الساعة ومن إخفاء وقت الموت: أن الله تعالى وعد بعدم قبول التوبة عن قربهما، فلو عرف وقت الموت لاشتغل الإنسان بالمعصية إلى قرب ذلك الوقت، ثم يتوب، فيتخلص من عقاب المعصية، فتعريف وقت الموت كالإغراء بفعل المعصية، وهو لا يجوز. انتهى.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {السّاعَةَ:} اسمها. {آتِيَةٌ:} خبرها. {أَكادُ:}
مضارع ناقص، واسمه مستتر تقديره:«أنا» . وخبرها محذوف، انظر ما ذكرته في الشرح، وعلى زيادتها فلا محل لها، وعلى تفسيرها ب «أريد» فهي تامة والجملة بعدها مفعول به. وانظر الشرح بتدبر، وتعقل ينجلي لك الأمر، والجملة الاسمية:{إِنَّ السّاعَةَ..} . إلخ ابتدائية، أو تعليلية، أو
مستأنفة، لا محل لها. {أُخْفِيها:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر ثان ل:{إِنَّ} وجملة: {أَكادُ} معترضة في بعض الوجوه، أو الجملة في محل نصب خبر أكاد على وجه آخر وتكون جملة:{أَكادُ..} . إلخ في محل رفع خبر ثان ل: {إِنَّ} .
{لِتُجْزى:} مضارع مبني للمجهول منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {كُلُّ:} نائب فاعل، و {كُلُّ} مضاف، و {نَفْسٍ} مضاف إليه، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان ب:{آتِيَةٌ} أو بالفعل: (أخفي). {بِما:} متعلقان بالفعل (تجزى) و (ما) تحتمل الموصولة، والمصدرية، فعلى الأول: مبنية على السكون في محل جر بالباء، وعلى الثاني:
تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بسعيها؛ أي: بعملها الذي عملته.
{تَسْعى:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والفاعل يعود إلى {كُلُّ نَفْسٍ} والجملة الفعلية صلة (ما) على الوجه الأول فيها، التقدير: بالذي تسعى له من خير، أو من شر.
{فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاِتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16)}
الشرح: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها:} فلا يصرفنك عن الإيمان بالساعة ومجيئها
…
إلخ، والخطاب لموسى عليه الصلاة والسلام، والمراد: أمته؛ لأنه معصوم من اتباع قول من لا يؤمن بها؛ لأن فطرته السليمة لو خليت بحالها لاختارها ولم يعرض عنها. {وَاتَّبَعَ هَواهُ} أي: هوى نفسه وميله إلى اللذات المحسوسة، وخالف أوامر الله وأوامر رسله. {فَتَرْدى:} فتهلك مع الهالكين.
الإعراب: {فَلا:} الفاء: هي الفصيحة. (لا): ناهية. {يَصُدَّنَّكَ:} مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم ب: (لا) الناهية، والنون حرف لا محل له، والكاف مفعول به. {عَنْها:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع فاعل، وجملة:{لا يُؤْمِنُ بِها} صلة (من)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: عود الفاعل إليها. {وَاتَّبَعَ:} ماض، وفاعله، يعود إلى من. {هَواهُ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. {فَتَرْدى:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد الفاء السببية، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر وجوبا تقديره:«أنت» ، و «أن» المضمرة بعد الفاء، والمضارع في تأويل مصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: لا يكن منك صد عنها، واتباع لهوى من لا يؤمن بها، فإرداء لك. والجملة الفعلية:{فَلا يَصُدَّنَّكَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط مقدر ب: «إذا» التقدير: وإذا كانت الساعة آتية؛ فلا يصدنك
…
إلخ.
الشرح: {وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى:} سؤال تقرير، والحكمة فيه تنبيهه وتوقيفه على أنها عصا، حتى إذا قلبها حية علم: أنها معجزة، وإلا فقد علم الله في الأزل ما هي؟ {قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها} أي: أعتمد عليها في المشي، والوقوف. {وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي} أي:
أخبط بها ورق الشجر ليسقط. فيسهل على غنمي تناوله، فتأكله. قال الراجز:[الرجز]
أهشّ بالعصا على أغنامي
…
من ناعم الأراك والبشام
هذا؛ وقرئ «(أهشّ)» بكسر الهاء وضمها، كما قرئ «(أهسّ)» بالسين، والهس: زجر الغنم.
هذا؛ وأما هش، يهش بفتح الهاء، وكسرها في المضارع، فهو بمعنى: السرور، والبشاشة.
{وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى} أي: حوائج كثيرة، واحدها: مأربة، بتثليث الراء وانظر الآية رقم [31] من سورة (النور)، ووصفها ب:{أُخْرى} بلفظ المفرد؛ لأن {مَآرِبُ} في معنى الجمع لغير العاقل، وما كان من هذا فإنه يعامل معاملة الواحدة المؤنثة، كقوله تعالى:{وَلِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها} وكقوله تعالى: {يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ} .
تنبيه: تعرض كثيرون لتعديد منافع العصا منهم ابن عباس-رضي الله عنهما، فقال: إذا انتهيت إلى رأس بئر، فقصر الرّشا؛ وصلته بالعصا. وإذا أصابني حر الشمس؛ غرزتها في الأرض، وألقيت عليها ما يظلني. وإذا خفت شيئا من هوام الأرض؛ قتلته بها. وإذا مشيت؛ ألقيتها على عاتقي، وعلقت عليها القوس، والكنانة، والمخلاة، وأقاتل بها السباع عن الغنم.
وقال البيضاوي: وكأنه عليه الصلاة والسلام فهم: أن المقصود من السؤال أن يتذكر حقيقتها، وما يرى من منافعها، حتى إذا رآها بعد ذلك على خلاف تلك الحقيقة، ووجد منها خصائص خارقة للعادة، مثل أن يشتعل شعبتاها بالليل كالشمع، وتصيران دلوا عند الاستقاء، وتطول بطول البئر. وتحارب عنه إذا ظهر عدو، وينبع الماء بركزها، وينضب بنزعها، وتورق، وتثمر إذا اشتهى ثمرة، فركزها؛ علم: أن ذلك آيات باهرة، ومعجزات قاهرة، أحدثها الله فيها لأجله، وليست من خواصها، فذكر حقيقتها، ومنافعها مفصلا ومجملا، على معنى: أنها من جنس العصي تنفع منافع أمثالها، ليطابق جوابه الغرض الذي فهمه. هذا؛ ومن فوائد العصا: أن الرجل إذا كبر يعتمد عليها في مشيه. قال عمرو بن أحمد الباهلي: [البسيط]
وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني
…
ثوبي فأنهض نهض الشّارب السّكر
وكنت أمشي على رجلين معتدلا
…
فصرت أمشي على أخرى من الشّجر
ومن فوائدها: التنبيه على الانتقال من هذا الدار، كما قيل لبعض الزهاد: مالك تمشي على العصا، ولست بكبير، ولا مريض. قال: إني أعلم أني مسافر، وأنها دار قلعة، وأن العصا آلة السفر، فأخذه بعض الشعراء فقال:[الطويل]
حملت العصا لا الضّعف، أوجب حملها
…
عليّ، ولا أني تحنّيت من كبر
ولكنّني ألزمت نفسي حملها
…
لأعلمها أنّي مقيم على سفر
الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {تِلْكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع خبر المبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {بِيَمِينِكَ:} متعلقان بمحذوف حال من اسم الإشارة، والعامل في الحال معنى الاستفهام. هذا؛ والكوفيون يعتبرون {تِلْكَ} اسما موصولا، ويعتبرون الجار والمجرور متعلقين بمحذوف صلة (ما)، والتقدير عندهم، وما التي بيمينك؟ انظر مبحث ذلك في الشاهد [837] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» . {يا مُوسى:} انظر الآية رقم [11] والجملتان: الاسمية، والندائية مستأنفتان، وعند التأمل يتبين لك: أن الكلام من قوله تعالى:
{يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا} إلى هنا كله في محل نصب بقوله: {نُودِيَ} . {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى (موسى). {هِيَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {عَصايَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، وياء المتكلم في محل جر بالإضافة، وهو يقرأ بقراءات كثيرة، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {أَتَوَكَّؤُا:} مضارع والفاعل مستتر تقديره: «أنا» ، {عَلَيْها:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب حال من ياء المتكلم، والرابط: الضمير فقط. وقيل: مستأنفة. وقيل في محل رفع خبر ثان للمبتدإ، وجملة:{وَأَهُشُّ بِها} معطوفة عليها، فهي في محل نصب حال مثلها. {عَلى غَنَمِي:}
متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم. منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {وَلِيَ:} الواو: حرف عطف. (لي):
متعلقان بخبر مقدم. {أُخْرى:} صفة {مَآرِبُ} والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال أيضا، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {قالَ أَلْقِها يا مُوسى:} لما أراد الله تعالى أن يدرّبه في تلقى النبوة، وتكاليفها أمره بإلقاء العصا التي كانت بيده على الأرض. {فَأَلْقاها:} فقلب الله أوصافها، وأعراضها، وكانت عصا ذات شعبتين، فصارت الشعبتان لها فما، وصارت حية تسير بسرعة، وتلتقم الحجارة، فلما
رآها موسى عليه السلام؛ خاف منها: {وَلّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} فقال الله له: {خُذْها وَلا تَخَفْ} وإنما أظهر له هذه الآية لئلا يفزع منها إذا ألقاها عند فرعون. ويقال: إن العصا كانت بعد ذلك تماشيه، وتحادثه، ويعلق عليها أحماله، وتضيء له الشعبتان بالليل كالشمع. وقيل: إنها كانت من آس الجنة. وقيل: أتاه جبريل بها. وقيل: قال له شعيب عليه الصلاة والسلام: خذ عصا من ذلك البيت، فوقعت بيده تلك العصا، وكانت عصا آدم عليه السلام هبط بها من الجنة.
{فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى:} قيل: لما ألقاها؛ انقلبت حية صفراء بغلظ الإصبع، ثم تورمت، وانتفخت، وعظمت، فلذلك سماها الله تارة جانا نظرا إلى المبدأ، وتارة ثعبانا باعتبار المنتهى، وحية تارة أخرى باعتبار الحالين. {سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى:} إلى هيئتها، وحالتها المتقدمة، فلما قال الله له ذلك؛ اطمأنت نفسه، فأدخل يده في فمها، وأخذ بلحييها، فعادت كما كانت.
هذا؛ والسيرة: الحالة التي يكون عليها الإنسان غريزية كانت، أو مكتسبة، وهي في الأصل فعلة من السير، كالركبة من الركوب، ثم استعملت بمعنى: الحالة، والطريقة. قال خالد بن زهير الهذلي:[الطويل]
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها
…
فأوّل راض سنّة من يسيرها
تنبيه: إلقاء العصا، وانقلابها حية حصل ثلاث مرات: الأولى في طريق عودته من مدين إلى مصر، وهي المذكورة هنا، والثانية كانت بحضرة فرعون، وكانت سببا في جمع السحرة، والثالثة كانت بحضرة السّحرة، كما ستعرفه في الآيات التالية.
الإعراب: {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى (الله). {أَلْقِها:} أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل تقديره:«أنت» . {يا مُوسى:} انظر الآية رقم [11] والجملة الندائية مع الجملة الفعلية قبلها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} .
إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَأَلْقاها:} الفاء: حرف عطف. (ألقاها): ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل يعود إلى {مُوسى،} و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:
{قالَ..} . إلخ لا محل لها مثلها. {فَإِذا:} الفاء: انظر الآية رقم [66] الآتية.
والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
{تَسْعى:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، والفاعل يعود إلى {حَيَّةٌ} والجملة الفعلية في محل رفع صفة {حَيَّةٌ} وقيل: في محل رفع خبر ثان. وقيل: في محل نصب حال من {حَيَّةٌ،} وكأن القائل يريد: أنها علم. {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى (الله)، {خُذْها:} أمر، وفاعله: أنت، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {وَلا تَخَفْ:} مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية، والفاعل أنت، والجملة معطوفة على ما قبلها. {سَنُعِيدُها:} السين: حرف استقبال معناه هنا: التحقيق، والتأكيد. (نعيدها):
مضارع، والفاعل: نحن، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، {سِيرَتَهَا:} منصوب بنزع الخافض، التقدير: إلى سيرتها، أو هو ظرف مكان. وقيل: مفعول مطلق؛ لأن معنى {سَنُعِيدُها:} سنسيرها. وقال أبو البقاء: بدل من الضمير المنصوب والمعتمد الأول، وهو قول ابن هشام في المغني. ثم قال: ويحتمل {سِيرَتَهَا} أن يكون بدلا من ضمير المفعول بدل اشتمال؛ أي: سنعيدها طريقتها. انتهى. و (ها): في محل جر بالإضافة.
{الْأُولى:} صفة {سِيرَتَهَا} مجرور مثله
…
إلخ، وجملة:{سَنُعِيدُها..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ:} إلى جنبك تحت العضد؛ إذ يقال لكل ناحيتين:
جناحان كجناحي العسكر، وذلك استعارة من جناحي الطائر سميا بذلك؛ لأنه يجنحهما عند الطيران؛ أي: يميلهما. والمعنى أدخلها تحت عضدك، والمراد: كف اليد اليمنى، فعبر بالكل عن الجزء. هذا؛ وفي سورة (النمل) قال الله تعالى:{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} وقال في سورة (القصص): {اُسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} فيكون المراد أدخلها في جيبك، وأوصلها تحت العضد، وضم عليها العضد، وهو ما صرحت به آية القصص. وانظر شرح الاستعارة في الآية [24] من سورة (الإسراء).
{تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ:} من غير عاهة قبح، كنى به عن البرص، كما كنى بالسوءة عن العورة؛ لأن الطباع تعافه، وتنفر منه. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كان ليده نور ساطع، يضيء بالليل، والنهار كضوء الشمس، والقمر، فكان يعشي البصر من شدته. {آيَةً أُخْرى} أي:
معجزة ثانية بعد العصا، وعلامة واضحة على نبوّتك.
{لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كانت يد موسى أكبر آياته.
هذا؛ وانظر شرح (اليد) في الآية رقم [64] من سورة (مريم) وشرح (سوء) في الآية رقم [28] منها، أما «غير» فهو اسم شديد الإبهام، لا يتعرف بالإضافة لمعرفة وغيرها، وهو ملازم للإضافة، ويجوز أن يقطع عنها إن فهم المعنى، أو تقدمت عليها كلمة ليس، يقال: قبضت عشرة ليس غير، وهو مبني على الضم، أو الفتح خلاف، ولا تنس: أنّ بقوله: {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} احتراسا دفع توهم البياض لمرض من برص، ونحوه.
الإعراب: {وَاضْمُمْ:} الواو: حرف عطف. (اضمم): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» .
{يَدَكَ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {إِلى جَناحِكَ:} متعلقان بالفعل قبلهما،
والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَاضْمُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {تَخْرُجْ:} مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للطلب، وهو عند الجمهور مجزوم بشرط محذوف، والفاعل يعود إلى {يَدَكَ} والجملة الفعلية من جملة مقول القول.
{بَيْضاءَ:} حال من الضمير المستتر. {مِنْ غَيْرِ:} متعلقان بالفعل {تَخْرُجْ} أو متعلقان بمحذوف حال من الضمير في {بَيْضاءَ} . وقيل: متعلقان بمحذوف صفة {بَيْضاءَ} وهو ضعيف، وتعليقهما بنفس {بَيْضاءَ} جيد لما فيها من معنى الفعل، نحو ابيضت من غير سوء. {آيَةً:}
حال أخرى من فاعل {تَخْرُجْ} المستتر، وهي في معنى البدل من {بَيْضاءَ،} أو هي حال من الضمير المستتر في {بَيْضاءَ} . وقيل: منصوبة بفعل محذوف، التقدير: جعلناها آية، ونحوه.
{أُخْرى:} صفة {آيَةً} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {لِنُرِيَكَ:}
مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والكاف مفعول به، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف يدل عليه {آيَةً} التقدير: دللنا بها لنريك، ونحوه. {مِنْ آياتِنَا:} متعلقان بمحذوف حال من {الْكُبْرى} تقدمت عليها، وعليه ف:{الْكُبْرى} مفعول ثان، أو الجار والمجرور متعلقان بمحذوف مفعول به ثان، وعليه ف:{الْكُبْرى} صفة {آياتِنَا} والنصب والجر مقدر على الألف للتعذر، و (نا): في محل جر بالإضافة.
الشرح: {اِذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ} أي: بهاتين الآيتين، وذلك بعد أن آنسه بالعصا واليد، وأراه ما يدل على أنه رسول أمره بالذهاب إلى فرعون. {إِنَّهُ طَغى:} عصى، وتكبر، وكفر، وتجبر، وتجاوز الحد. وانظر الآية رقم [60] من سورة (الإسراء).
{قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي:} قال البيضاوي: لما أمره الله بخطب عظيم، وأمر جسيم؛ سأله أن يشرح صدره، ويفسح قلبه، لتحمل أعبائه، والصبر على مشاقه، والتلقي لما ينزل عليه، ويسهل له الأمر بإحداث الأسباب، ورفع الموانع، وفائدة {لِي} إبهام المشروح، والميسر أولا، ثم رفعه بذكر الصدر، والأمر تأكيدا، ومبالغة. هذا؛ وقد قال الزمخشري: فإن قلت: {عَلَى} من قوله: {اِشْرَحْ لِي..} . إلخ: ما جدواه؟ والكلام مستتب بدونه. قلت: أبهم الكلام
أولا: فقيل: {اِشْرَحْ لِي} {وَيَسِّرْ لِي} فعلم أن ثمّ مشروحا، وميسرا، ثم بين، ورفع الإبهام بذكرهما، فكان آكد لطلب الشرح، والتيسير لصدره، وأمره. انتهى. هذا؛ وشيء آخر يلحظ من ذكرهما، وهو الاعتراف بنعمة الله تعالى، وأن شرح الصدر، وتيسير الأمر لا يكونان إلا منه تعالى.
{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي:} المراد بالعقدة التي كانت بلسانه: الرّتّة التي حصلت من الجمرة التي التقمها، وذلك: أن موسى ربّي في حجر فرعون، فكان يلاعبه ذات يوم، فلطم موسى فرعون لطمة على وجهه، وأخذ بلحيته، فقال فرعون لامرأته آسية بنت مزاحم، وهي بنت عمّ موسى: إن هذا عدوي، وأراد قتله، فقالت له آسية عليها السلام: إنه صبي لا يعقل، جربه؛ إن شئت، فجاءت بطستين، في أحدهما جمر، وفي الآخر جوهر. وقيل: تمر، فوضعتهما بين يدي موسى؛ وفرعون ينظر، فأراد أن يأخذ الجوهر، فأخذ جبريل-عليه السلام-يد موسى عليه السلام، فوضعها على الجمر، فأخذ جمرة، فوضعها في فمه، فاحترق لسانه، وصارت فيه عقدة ومعنى {يَفْقَهُوا قَوْلِي} يفهموه. هذا؛ ولقد اختلف في زوال العقدة بكمالها، فمن قال به تمسك بقوله تعالى:{قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى} ومن لم يقل به فقد احتج بقوله تعالى: {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً} وقوله: {وَلا يَكادُ يُبِينُ} .
{وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي} أي: معينا، وظهيرا، والوزير: من يوازرك، ويحتمل عنك بعض ثقل عملك. أو هو من الوزر، وهو الملجأ؛ لأن الملك يعتصم برأيه، ويلجأ إليه في أموره العظام، ومنه قوله تعالى:{كَلاّ لا وَزَرَ} ثم عين الوزير بقوله: هارون أخي، وكان هارون عليه السلام أكبر من موسى، وأفصح لسانا، وأجمل، وأوسم، وكان أبيض اللون، وكان موسى آدم أقنى جعدا، وكان هارون ألين عريكة من موسى، على نبينا، وحبيبنا، وعليهم ألف ألف ألف صلاة، وألف ألف ألف سلام.
{اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} أي: قوّ به ظهري، واجعله سندا في أموري. {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} أي: في أمر النبوة وتبليغ الرسالة. هذا؛ وكان هارون عليه السلام بمصر في أهله، فأمر الله موسى أن يأتي هو، وهارون فرعون، وأوحى الله إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى، فتلقاه إلى مرحلة، وأخبره بما، أوحى إليه، فقال له موسى: إن الله أمرني أن آتي فرعون، وسألت ربي أن يجعلك معي رسولا.
{كَيْ نُسَبِّحَكَ} أي: نصلي لك، ونعبدك، ونقدسك. {وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً:} وفحواه: أن التعاون على الأمور يهيج الرغبات ويؤدي إلى تزايد الخير، وتكاثره، وهذا ملموس في الحضور إلى المساجد، فإن المسلم تشتد رغبته في العبادة، ويكثر نشاطه حينما يرى إخوانه يسبقونه إلى المساجد، {وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ}. {إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً:} عالما بأحوالنا، وتصرفاتنا، وأن
التعاون ممّا يصلحنا، ويقوي عزمنا، وقد أحسنت إلينا فيما مضى من أعمارنا، فأحسن إلينا فيما بقي منها يا أرحم الراحمين! آمين!
الإعراب: {اِذْهَبْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {إِلى فِرْعَوْنَ:} متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل. والهاء في محل نصب اسمها. {طَغى:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {فِرْعَوْنَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل للأمر، لا محل لها. {قالَ:}
ماض، والفاعل يعود إلى (موسى). {رَبِّ:} انظر الآية رقم [3] من سورة (مريم)
{اِشْرَحْ:} فعل دعاء، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {لِي:} متعلقان بالفعل قبلهما.
{صَدْرِي:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، وإعراب ما بعدها مثلها. {مِنْ لِسانِي:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف صفة {عُقْدَةً،} وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة. {يَفْقَهُوا:}
مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للطلب، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، وهو عند الجمهور مجزوم بشرط محذوف. {قَوْلِي:} مفعول به منصوب
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله.
هذا؛ وقال أبو البقاء: وفي مفعولي، (اجعل) ثلاثة أوجه: أحدها: أنهما {وَزِيراً} و {هارُونَ} ولكن قدم المفعول الثاني، فعلى هذا يجوز أن يتعلق {لِي} ب:(اجعل) وأن يكون حالا من {وَزِيراً} أي: على القاعدة: «نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . والثاني: أن يكون {وَزِيراً} مفعولا أول، و {لِي} الثاني، و {هارُونَ} بدل، أو عطف بيان، و {أَخِي} كذلك. والثالث: أن يكون المفعول الثاني: {مِنْ أَهْلِي} و {لِي} تبيين مثل قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} و {هارُونَ أَخِي} على ما تقدم، ويجوز أن ينتصب {هارُونَ} بفعل محذوف؛ أي: اضمم إليّ هارون. انتهى. ولم يعلق {مِنْ أَهْلِي} بالوجهين السابقين، وهما متعلقان بالفعل (اجعل) أو هما متعلقان بمحذوف صفة {وَزِيراً} .
{اُشْدُدْ} و (أشركه): هذان الفعلان يقرآن بصيغة الأمر، وعليه فهما فعلا دعاء، وفاعلهما مستتر تقديره:«أنت» ، ويقرآن بصيغة المضارع، وعليه فالأول: مجزوم لوقوعه جوابا للأمر، والثاني: معطوف عليه، وفاعلهما مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنا» . هذا؛ وحاصل ما ذكر في هذين الفعلين قراءات خمسة. والجار والمجرور {بِهِ} متعلقان بالفعل {اُشْدُدْ} . {أَزْرِي:}
مفعول به، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {فِي أَمْرِي:} جار ومجرور متعلقان بالفعل (أشركه) وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر
بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله مستتر؛ إذ الأصل: فيما تأمرني به. {كَيْ:}
حرف ناصب {نُسَبِّحَكَ:} منصوب ب: {كَيْ} والفاعل: نحن، والكاف مفعول به. {كَثِيراً} صفة مفعول مطلق محذوف، التقدير: نسبحك تسبيحا كثيرا، و {كَيْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف التقدير: لكي نسبحك، والجار والمجرور متعلقان بأحد الأفعال:(اجعل){اُشْدُدْ،} (أشركه) على التنازع، ولا تنس: أن بعضهم يعتبر الناصب «أن» مضمرة بعد {كَيْ،} والمصدر المؤول منها، ومن المضارع في محل جر ب:{كَيْ} . {وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} (34) معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله. {إِنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها.
{كُنْتَ:} ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمها. {بِنا:} متعلقان بما بعدهما.
{بَصِيراً:} خبر (كان) وجملة: {كُنْتَ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل للتسبيح، والذكر، وأخيرا ينبغي أن تعلم أن الكلام من قوله:{رَبِّ اشْرَحْ لِي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على محمد الهادي وسلم.
الشرح: {قالَ} أي: الله تعالى. {قَدْ أُوتِيتَ:} أعطيت، {سُؤْلَكَ:} ما سألت، وطلبت، و «السّؤل»: فعل بمعنى: مفعول كالخبز بمعنى: المخبوز، والأكل بمعنى: المأكول. {وَلَقَدْ مَنَنّا:} أنعمنا، وتفضلنا من النعمة. {عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى} أي: قبل إجابة طلبتك هذه، وهي حفظه سبحانه له من شر الفراعنة حين حاولوا قتله؛ وهو صبي مع ما قتلوا من صبيان بني إسرائيل. {إِذْ أَوْحَيْنا..}. إلخ: وبذلك بإلهام الله لها، أو في المنام، أو على لسان نبي في وقتها، لا على وجه النبوة، وكذلك كما، أوحى إلى مريم عليها السلام، بعد هذا انظر شرح {أُمَّهاتِكُمْ} في الآية رقم [78] من سورة (النحل) وشرح «الوحي» في الآية رقم [68] منها، وشرح {الْقَوْلُ} في الآية رقم [16] من سورة (الإسراء). وانظر شرح (نا) في الآية رقم [21] من سورة (مريم).
الإعراب: {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى (الله). {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أُوتِيتَ:} ماض مبني للمجهول مبني على السكون والتاء نائب فاعله، وهو المفعول الأول. {سُؤْلَكَ:} مفعول به ثان، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله.
{يا مُوسى:} انظر الآية رقم [11]. {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر. اللام: واقعة في جواب القسم المقدر: والله. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {مَنَنّا:} ماض، وفاعله.
وانظر إعراب {نَذَرْتُ} في الآية رقم [26] من سورة (مريم). {عَلَيْكَ:} متعلقان بالفعل قبلهما.
{مَرَّةً:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. {أُخْرى:} صفة {مَرَّةً} منصوب مثله
…
إلخ. هذا؛ وقيل: {مَرَّةً} مصدر، وهو يعني: أنه مفعول مطلق، وبالأحرى نائب مفعول مطلق. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب بدلا من {مَرَّةً} على اعتباره ظرفا، ومتعلق ب:{مَنَنّا} على اعتبار مرة مصدرا. وقيل: هو حرف تعليل. {أَوْحَيْنا:} فعل، وفاعل. {إِلى أُمِّكَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {يُوحى:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، ونائب الفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {ما} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة (ما)، لا محل لها، وجملة: {(لَقَدْ
…
)} إلخ جواب القسم لا محل لها، والكلام:{قَدْ أُوتِيتَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
تنبيه: بعضهم يعتبر الواو عاطفة بقوله: {وَلَقَدْ} وبعضهم يعتبرها حرف استئناف، ويعتبران الجملة الآتية جوابا لقسم محذوف، ولا أسلمه أبدا؛ لأنه على هذا يكون قد حذف واو القسم والمقسم به، ويصير التقدير: وو الله أقسم، أو أقسم والله. اللام واقعة في جواب القسم المحذوف. وبعضهم يقول: اللام موطئة للقسم، والموطئة معناها المؤذنة، وهذه اللام، إنما تدخل على «إن» الشرطية، لتدل على القسم المتقدم على الشرط، وتكون الجملة الآتية جوابا للقسم المدلول عليه باللام، والمتقدم على الشرط حكما، كما في قوله تعالى:{لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ..} . إلخ الآية رقم [12] من سورة (الحشر). افهم هذا؛ واحفظه فإنه جيد.
فإن قيل: ما ذكرته من إعراب يؤدي إلى حذف المقسم به، وبقاء حرف القسم، فالجواب:
أنه قد حذف المقسم به حذفا مطردا في أوائل السور، مثل قوله تعالى:{وَالضُّحى} {وَالسَّماءِ وَالطّارِقِ} فإن التقدير: ورب الضحى، ورب السماء
…
إلخ الدليل عليه التصريح به في قوله تعالى: {فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ..} . إلخ الآية رقم [23] من سورة (الذاريات) وحذف المقسم به ظاهر في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها..} . إلخ الآية رقم [71] من سورة (مريم)، وأظهر منه في قوله تعالى:{وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} الآية رقم [73] من سورة (المائدة)، فالواو في الآيتين حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف بلا ريب، والله أعلم، وأجل، وأعظم.
الشرح: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التّابُوتِ} أي: ألهمنا أمك، وقلنا لها: ألقيه في التابوت، وذلك حين ولدتك، وخافت عليك من القتل. قال مقاتل: الذي صنع التابوت، ونجره مؤمن آل فرعون،
وكان اسمه: حزقيل. {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ:} فاطرحيه في نهر النيل، و {الْيَمِّ} في الأصل: البحر، فأطلق على نهر النيل لعظمه.
{فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسّاحِلِ} أي: شاطئ النهر، وكانت أمه قد جعلت فيه قطنا، ووضعت فيه موسى، وقيّرت رأسه، وشقوقه، ثم ألقته في النيل، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر صغير، فدفعه الماء إليه، فأداه إلى بركة في البستان، وكان فرعون جالسا على رأسها مع امرأته:
آسية بنت مزاحم، فأمر به ففتح، فإذا فيه صبي أصبح الناس وجها، فأحبه حبا شديدا، وذلك قوله تعالى:{يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} وقيل: كان لفرعون بنت برصاء، فقال له الأطباء: لا تبرأ إلا من قبل البحر، يوجد فيه شبه إنسان، دواؤها ريقه، فلما رأته البنت أخذت من ريقه فلطخت به برصها، فبرئت. هذا؛ وقوله:{فَلْيُلْقِهِ..} . إلخ أمر بمعنى: الخبر، مثل رقم [75] من سورة (مريم).
هذا؛ وقيل: جعل الله في عيني موسى عليه السلام ملاحة ما رآه أحد إلا أحبه، وعطف عليه. وفي محبة فرعون لموسى عليه السلام هنا تناقض مع قوله تعالى في سورة (القصص):
{وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ..} . إلخ فقال فرعون لها: أمّا لك فنعم، وأمّا لي فلا، فروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لو أنّ فرعون قال: نعم قرة عين لي ولك؛ لآمن وصدّق» .
فقالت: هبه لي، ولا تقتله، فوهبه لها، والتوفيق بين ما هنا وبين آية القصص أن يقال: المراد محبة من رآه من الناس أجمعين، أما محبة فرعون له، فهي حماية الله له من أن يقتله فرعون، بل في تبنيه له بعد ذلك، وتربيته في بلاطه تربية دلال، وعزة، ورفاهية. وانظر سورة (القصص) فالكلام فيها، أوفى، وأتم. هذا؛ وفي إسناد الإلقاء إلى اليم، وهو لا يعقل تمثيل لمشيئة الله تعالى وإرادته التي لا تخطئ، ولا يعزب عنها شيء، فأسند إليه الإلقاء المقرر في علم الله الأزلي كأنه عاقل ذو تمييز يطيع، ويمتثل ما يؤمر به.
{وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي} أي: تربى، وتغذى على مرأى مني، بل وبعنايتي، ورعايتي. هذا؛ وانظر شرح {عَيْنٍ} في الآية رقم [86] من سورة (الكهف)، أما {عَدُوٌّ} فهو ضد الصديق، وهو على وزن فعول بمعنى: فاعل، مثل: صبور، وشكور، وما كان على هذا الوزن يستوي فيه المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث إلا لفظا واحدا جاء نادرا. قالوا: هذه عدوّة الله. قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} وقال تعالى حكاية عن قول إبراهيم عليه السلام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاّ رَبَّ الْعالَمِينَ} والجمع: أعداء، وأعاد، وعدات وعدى. وقيل: أعاد جمع: أعداء، فيكون جمع الجمع، وفي القاموس المحيط: والعدا بالضم والكسر اسم الجمع.
الإعراب: {أَنِ:} حرف تفسير. وقيل: حرف مصدري. {اِقْذِفِيهِ:} أمر مبني على حذف النون، والياء فاعله، والهاء مفعول به. وانظر إعراب (اشربي) في الآية رقم [26] من سورة
(مريم) عليها السلام. {فِي التّابُوتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية مفسرة للإيحاء لا محل لها. وقال الشلوبين: بحسب ما تفسره. هذا؛ وعلى اعتبار {أَنِ} مصدرية تؤوّل مع الفعل بمصدر في محل نصب بدلا من {ما،} والأول: أقوى؛ لأن {أَنِ} مسبوقة بجملة فيها معنى القول دون حروفه، وجملة:{فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} معطوفة على ما قبلها. {فَلْيُلْقِهِ:} الفاء:
حرف عطف. اللام: لام الأمر. (يلقه): مضارع مجزوم بلام الأمر، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والهاء مفعول به. {الْيَمِّ:} فاعله.
{بِالسّاحِلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {الْيَمِّ} التقدير:
مطروحا بالساحل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {يَأْخُذْهُ:} مضارع مجزوم بجواب الأمر، أو بجواب لام الأمر، والهاء مفعول به. {عَدُوٌّ:} فاعل. {لِي:} متعلقان ب: {عَدُوٌّ،} أو بمحذوف صفة له، والجملة الفعلية لا محل لها {وَعَدُوٌّ لَهُ} معطوف على ما قبله.
{وَأَلْقَيْتُ:} فعل، وفاعل. {عَلَيْكَ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مَحَبَّةً:} مفعول به.
{مِنِّي:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو بمحذوف صفة {مَحَبَّةً} وجملة:{وَأَلْقَيْتُ..} . إلخ:
مستأنفة، أو هي معطوفة على جملة:{أَوْحَيْنا..} . إلخ فهي في محل جر مثلها، ويكون في الكلام التفات من الجمع إلى التكلم بالمفرد. {وَلِتُصْنَعَ:} يقرأ بالجزم على أنّ اللام لام الأمر، وهو مبني للمجهول، ونائب الفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:
{فَلْيُلْقِهِ..} . إلخ، ويكون في الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب، وتقدير الكلام في الأصل:
وليصنعك غيرك بأمري، وقراءة الجمهور بكسر اللام، وفتح العين فهو منصوب ب:«أن» مضمرة بعد لام التعليل، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور معطوفان على محذوف، وذلك المحذوف متعلق بالفعل (ألقيت) التقدير: ألقيت عليك محبة مني ليعطف الناس عليك {وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي:} متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة.
الشرح: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ} واسمها: مريم، وهي غير أم عيسى، وكانت أمها قد أمرتها باتباع أثره، وتلقّي أخباره، كما في سورة (القصص). {فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ:} لمّا وهبه فرعون لامرأته، وأحبته؛ طلبت له المراضع، فأبى أن يأخذ ثدي واحدة منهن، فلما رأت البنت ذلك تقدّمت. وقالت:{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ} قالوا:
فأحضريها! فأحضرتها، فناولته ثديها، فأخذه، فسرت آسية سرورا عظيما بذلك، فاستأجرتها لرضاعه، كما ستعرفه في سورة (القصص) إن شاء الله تعالى، وهو مفاد قوله تعالى هنا:
{فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها} أي: بلقائك، ورؤيتك. وانظر الآية رقم [26] من سورة (مريم) عليها السلام.
{وَلا تَحْزَنَ} أي: لفراقك. {وَقَتَلْتَ نَفْساً:} المراد به القبطي الذي قتله خطأ، كما ستعرف قصته في سورة (القصص) إن شاء الله تعالى، وكان طباخا لفرعون. وانظر شرح (النفس) في الآية رقم [35] من سورة (الأنبياء)، وكان عمره إذ ذاك ثلاثين سنة. وقيل: اثنتي عشرة سنة، والمعتمد الأول. {فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ} أي: من الخوف، والكرب الذي أصابك بسبب قتل القبطي؛ لأنه خاف من القتل، أو الحبس. {وَفَتَنّاكَ فُتُوناً} أي: اختبرناك اختبارا، وأخلصناك إخلاصا للرسالة.
قال ابن عباس-رضي الله عنهما: الفتون: وقوعه في محنة بعد محنة، وخلصه الله منها:
أولها: أن أمه حملت فيه في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الصبيان، ثم إلقائه في البحر في التابوت، ثم منعه من الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم أخذه بلحية فرعون حتى همّ بقتله، ثم تناوله الجمرة بدل الجوهرة، ثم قتله القبطي، ثم خروجه إلى مدين خائفا يترقب، ثم رعايته الغنم. انتهى. ويضاف إلى ذلك ما لقيه في ذهابه إلى مدين من مشقة السفر، ومفارقة الأهل، والوطن، والمشي راجلا على حذر، وفقد الزاد، والماء، ونحو ذلك.
{فَلَبِثْتَ سِنِينَ:} هي عشر على المعتمد. وقيل: ثمانية وعشرون سنة، والمعتمد الأول.
{فِي أَهْلِ مَدْيَنَ:} هي بلدة شعيب عليه الصلاة والسلام على ثمان مراحل من مصر. و «مدين» هو اسم ابن إبراهيم الخليل، على نبينا، وحبيبنا، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام، ثم صار علما للقبيلة من أولاده. وقيل: هو في الأصل اسم مدينة بناها مدين المذكور. {ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ:} على القدر الذي قدرت لك أن تجيء فيه، وذلك على رأس أربعين سنة، وهو القدر؛ أي: السن الذي يوحى إلى الرسل فيه. قال جرير في مدح عمر بن عبد العزيز، حين تولى الخلافة الإسلامية، وعمره في حدود الأربعين-رضي الله عنه:[البسيط]
جاء الخلافة أو كانت له قدرا
…
كما أتى ربّه موسى على قدر
هذا؛ وقال الجمل نقلا عن شيخه: وحاصل ما ذكره الله من المنن على موسى من غير سؤال ثمانية: الأولى: قوله: {إِذْ أَوْحَيْنا..} . إلخ إلى قوله: {وَعَدُوٌّ لَهُ} . الثانية: قوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً..} . إلخ الثالثة: قوله: {وَلِتُصْنَعَ..} . إلخ إلى قوله: {مَنْ يَكْفُلُهُ} . الرابعة: قوله:
{فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ} إلخ إلى قوله: {وَلا تَحْزَنَ} . الخامسة: قوله: {وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ} . السادسة: قوله: {وَفَتَنّاكَ فُتُوناً} . السابعة: قوله: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ..} . إلخ إلى قوله:
{يا مُوسى} . الثامنة: قوله: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} .
واذكر أن وضع موسى عليه السلام في تابوت محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء، وإلقاؤه في لجّة اليم، وبقاؤه حيا إنما هو معجزة باهرة فيها عظة بالغة لقوم يتعظون، كل واحد يدرك: أنّ كل ذي روح إذا حبس عنه الهواء لحظات يموت، وما أشبه هذه المعجزة بمعجزة يونس عليه السلام الذي التقمه الحوت، وجاب به أعماق البحار، وبقي حيا أيضا حتى نبذه إلى شاطئ البحر.
الإعراب: {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بفعل محذوف، تقديره: اذكر. أو هو مفعول به لهذا المقدر. أو هو متعلق بأحد الفعلين السابقين. أو هو بدل من {إِذْ} الأولى. وقال الجلال، ووافقه الجمل عليه: حرف تعليل. {تَمْشِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. {أُخْتُكَ:} فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. (تقول): مضارع، والفاعل يعود إلى (أختك). {هَلْ:} حرف استفهام. {أَدُلُّكُمْ:} مضارع، والفاعل تقديره: أنا، والكاف مفعول به. {عَلى مَنْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {مَنْ} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر. {يَكْفُلُهُ:} مضارع، والهاء مفعول به، والفاعل يعود إلى {مَنْ،} وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة {مَنْ} أو صفتها، وجملة:{هَلْ أَدُلُّكُمْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:(تقول..) إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها.
{فَرَجَعْناكَ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: فأجيبت، فجاءت بأمها، فقبلت ثديها. وانظر الشرح. {إِلى أُمِّكَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {كَيْ:} حرف مصدري، ونصب. {تَقَرَّ:} مضارع منصوب ب: {كَيْ} . {عَيْنُها:} فاعل، و (ها): في محل جر بالإضافة، و {كَيْ:} والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام تعليل محذوفة، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل:
إن النصب ب: «أن» مضمرة بعد {كَيْ} على مثال ما رأيت في الآية رقم [33]. {وَلا:} الواو:
حرف عطف. (لا): نافية. {تَحْزَنَ:} معطوف على ما قبله منصوب مثله، والفاعل يعود إلى {أُمِّكَ}. {وَقَتَلْتَ نَفْساً:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:
{فَرَجَعْناكَ} وجملة: {فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ} معطوفة عليها أيضا، وجملة:{وَفَتَنّاكَ} معطوفة عليها أيضا. {فُتُوناً:} مفعول مطلق مثل: القعود، والجلوس. أو هو منصوب على نزع الخافض؛ إذا كان جمع: فتنة، فيكون المعنى: اختبرناك بأنواع الفتن، والشدائد.. {فَلَبِثْتَ:} فعل، وفاعل.
{سِنِينَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {فِي أَهْلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {أَهْلِ:} مضاف، و {مَدْيَنَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة، وجملة:{فَلَبِثْتَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها.
{جِئْتَ:} فعل، وفاعل. {عَلى قَدَرٍ:} متعلقان بمحذوف حال من تاء الفاعل؛ أي: موافقا على
قدر، والجملة الفعلية:{جِئْتَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها. {يا مُوسى:} انظر الآية رقم [1].
هذا؛ والكلام كله من قول الله تعالى. تأمل، وتدبر.
{وَاِصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اِذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42)}
الشرح: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} أي: اخترتك، واصطفيتك لرسالتي، ووحيي لتتصرف على إرادتي، ومشيئتي، ومحبتي، وذلك لأن قيامه بأداء الرسالة تصرف على إرادة الله، ومحبته. انتهى. خازن. هذا؛ ومثله فيما خوله الله من الكرامة مثل من قربه الملك، واستخلصه لنفسه. {بِآياتِي:} بمعجزاتي. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: المراد بها الآيات التسع. انتهى. {وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي:} قال ابن عباس: لا تضعفا في أمر الرسالة، وقاله قتادة.
وقيل: لا تفترا. قال العجاج: [الرجز]
فما ونى محمد مذ أن غفر
…
له الإله ما مضى وما غبر
والونى: الضعف، والفتور، والإعياء، والكلال. قال امرؤ القيس:[الطويل]
مسح إذا ما السابحات على الونى
…
أثرن غبارا بالكديد المركّل
هذا؛ وفلان لا يني كذا؛ أي: لا يزال، وبه فسر أبان معنى الآية، واستشهد بقول طرفة:[الطويل]
كأنّ القدور الرّاسيات أمامهم
…
قباب بنوها لا تني أبدا تغلي
الإعراب: {وَاصْطَنَعْتُكَ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.
{لِنَفْسِي:} متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة. {اِذْهَبْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {أَنْتَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع توكيد للضمير المستتر.
{وَأَخُوكَ:} معطوف على الضمير المستتر مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والكاف في محل جر بالإضافة. {بِآياتِي:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر وما عطف عليه، التقدير: مصحوبين بآياتي، وعلامة الجر كسرة مقدرة
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا) ناهية. {تَنِيا:} مضارع تام، أو ناقص مجزوم ب:(لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وألف الاثنين فاعله، أو اسمه. {فِي ذِكْرِي:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف خبره على نقصانه، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَلا تَنِيا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها، والكلام من مقول الله تعالى. تأمل.
الشرح: {اِذْهَبا..} . إلخ: فقد حذف الله المذهوب به {بِآياتِي} هنا، وذكره في الآية السابقة، بينما حذف في الآية السابقة المذهوب إليه، وهو فرعون، فقد حذف من كل واحد ما أثبته في الآخر، وهذا يسمى في فن البلاغة احتباكا. هذا؛ وانظر طغى في الآية رقم [24] أما فرعون فقد قال المسعودي: ولا يعرف لفرعون تفسير في العربية، وظاهر كلام الجوهري: أنه مشتق من معنى العتو، فإنه قال: والفراعنة: العتاة، وقد تفرعن، وهو ذو فرعنة؛ أي: دهاء، ومكر، وفرعون لقب لمن ملك العمالقة في مصر، ككسرى، وقيصر لملكي الفرس، والروم، وكان فرعون موسى عليه السلام مصعب بن ريان. وقيل: ابنه الوليد من بقايا عاد، وفرعون يوسف ريان بن الوليد، وبينهما أكثر من أربعمائة سنة.
وكان ملك فرعون أربعمائة سنة، وعاش ستمائة وعشرين سنة، ولم ير مكروها قط، ولو حصل له في تلك المدة جوع يوم، أو وجع يوم، أو حمّى يوم لما ادعى الربوبية.
هذا؛ وقد كان هارون في مصر، ولم يكن حاضرا في مجلس المناجاة، وإنما جمعهما في هذا الخطاب من باب تغليب الحاضر على الغائب، وقد ذكر: أن الله في ذلك الوقت أرسل جبريل بالرسالة إلى هارون، فيكون الخطاب إليهما في وقت واحد، وهما في مكانين متباعدين، والله أعلم.
{فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً:} فيه دليل على جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون ذلك باللين من القول لمن معه القوة، وضمنت له العصمة، واختلف في معنى اللين، فقالت فرقة: كنياه، وكانت كنيته أبو العباس، أو أبو الوليد، أو أبو مرة، فعلى هذا القول تكنية الكافر جائزة، وقد كنى الرسول صلى الله عليه وسلم ناسا من الكافرين، وناسا من المنافقين. وقال عليه الصلاة والسلام:«إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» .
وقيل: القول اللين مثل: {هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى} فإنه دعوة في صورة عرض ومشورة. وقيل: عداه شبابا لا يهرم بعده، وملكا لا يزول إلا بالموت، وتبقى عليه لذة المطعم، والمشرب، والمنكح إلى حين موته، فلما أتاه موسى ووعده بذلك أعجبه، وكان لا يقطع أمرا دون هامان، وكان غائبا، فلما قدم؛ خبره بالذي دعاه إليه موسى. وقال: أردت أن أقبل منه. فقال له هامان، كنت أرى أن لك رأيا، وعقلا، أنت رب تريد أن تكون مربوبا، وأنت تعبد تريد أن تعبد غيرك؟! فقال فرعون: ما قلته صواب! وغلبه على رأيه.
{لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى} أي: يتعظ، ويخاف، ويسلم. فإن قيل: كيف قال: لعله يتذكر، وقد سبق في علمه: أنه لا يتذكر، ولا يسلم، فالجواب: معناه: اذهبا على رجاء منكما،
وطمع، وقضاء الله وراء أمركما. وقيل: هو إلزام الحجة، وقطع المعذرة، كقوله تعالى:{وَلَوْ أَنّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ} . هذا؛ وقرأ رجل عند يحيى بن معاذ الرازي الآية فبكى يحيى. وقال: إلهي هذا رفقك بمن يقول: أنا الإله، فكيف رفقك بمن يقول: أنت الإله. انتهى. خازن بتصرف.
هذا؛ والترجي في هذه الآية وأمثالها إنما هو بحسب عقول البشر؛ لأن الله تعالى لا يحصل منه ترج، ورجاء لعباده. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. وانظر:{يَخْشى} في الآية رقم [81] من سورة (الكهف).
الإعراب: {اِذْهَبا:} أمر، مبني على حذف النون، وألف الاثنين فاعله. {إِلى فِرْعَوْنَ:}
متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية فيها معنى التوكيد لما قبلها. {إِنَّهُ} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {طَغى:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل يعود إلى فرعون، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل للأمر، لا محل لها. {فَقُولا:}
الفاء: حرف عطف. {فَقُولا:} أمر وفاعله. {لَهُ:} متعلقان بالفعل قبلهما، {فَقُولا:} مفعول مطلق. {لَيِّناً:} صفة له، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {لَعَلَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه، {يَتَذَكَّرُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {فِرْعَوْنَ} والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعل) والجملة الاسمية تعليل للأمر لا محل لها. {يَخْشى:} مضارع مرفوع، والفاعل يعود إلى {فِرْعَوْنَ} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها فهي في محل رفع مثلها. هذا؛ والكلام من تتمة مقول الله تعالى. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
{قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45)}
الشرح: {قالا} أي: موسى، وهارون، وذلك بعد تلاقيهما، واجتماعهما، وتوجيه الأمر إليهما بالذهاب إلى فرعون معا. وانظر {الْقَوْلُ} في الآية رقم [16] من سورة (الإسراء).
{رَبَّنا:} انظر الآية رقم [8] منها. {إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا:} أن يعجّل علينا بالعقوبة، ولا يصبر إلى إتمام الدعوة، وإظهار المعجزة. يقال: فرط مني أمر؛ أي: بدر، ومنه: الفارط في الماء الذي يتقدم القوم إلى الماء. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «وأنا فرطكم على الحوض» . وقرئ بقراءات كثيرة منها «(يفرِط)» من الرباعي ومعناه: يشطط، ويتجاوز الحد في أذيتنا. قال الراجز:[الرجز]
قد أفرط العلج علينا وعجل
وانظر الآية رقم [62] من سورة (النحل)، ففيها مزيد فائدة. وانظر:«الخوف» و «التخوف» في الآية رقم [13] من سورة (الرعد). {أَوْ أَنْ يَطْغى:} يجاوز الحد في الإساءة إلينا، أو يزداد طغيانا، فيقول فيك: ما لا ينبغي لجراءته، وقساوته، وخلوه من حسن الأدب. وانظر الآية رقم [24].
الإعراب: {قالا:} ماض، والألف فاعله. {رَبَّنا:} منادى حذف منه أداة النداء، و (نا):
في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {نَخافُ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {أَنْ يَفْرُطَ:} مضارع منصوب ب: (أن)، والفاعل يعود إلى فرعون، {عَلَيْنا:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {أَنْ} والمضارع في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، وجملة:{نَخافُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ) والجملة الاسمية، والجملة الندائية كلتاهما في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، والمصدر المؤول من:{أَنْ يَطْغى} معطوف على ما قبله، فهو في محل نصب مثله.
{قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46)}
الشرح: {قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما:} بالحفظ، والنصرة، والمعونة. {أَسْمَعُ وَأَرى} أي:
ما يجري بينكما، وبينه من قول، وفعل، فأحدث في كل حال ما يصرف شره عنكما، ويوجب نصرتي لكما. هذا؛ وفي الآية الكريمة، وسابقتها دليل واضح على أنّ الخوف من الأعداء، والحذر من شرهم إنما هو سنة الله في أنبيائه، وأوليائه مع معرفتهم به وثقتهم بنصره، ومنه حفر النبي صلى الله عليه وسلم الخندق حول المدينة تحصينا للمسلمين، وأموالهم مع كونه من التوكل والثقة بربه بمحل لم يبلغه أحد، ثم كان من أصحابه ما لا يجهله أحد من تحولهم عن منازلهم مرة إلى الحبشة، ومرة إلى المدينة، تخوفا على أنفسهم من مشركي مكة، وهربا بدينهم أن يفتنوهم عنه بتعذيبهم. وخاب الفسقة والفجرة الذين يصمون الصديق-رضي الله عنه-بالجبن، وضعف الإيمان لما ناله من الخوف في ليلة الهجرة الشريفة، ودخوله مع حبيبه صلى الله عليه وسلم الغار، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى (الله) تعالى، {لا تَخافا:} مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والألف فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {إِنَّنِي:} حرف مشبه بالفعل، والنون للوقاية، وياء المتكلم اسمها. {مَعَكُما:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر (إنّ)، ولا يتعلق بالفعل بعده لفساد المعنى، والكاف في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {أَسْمَعُ:}
مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية في محل رفع خبر ثان ل:(إنّ)، وجملة:{وَأَرى} مع المفعول المحذوف لتساوي رءوس الآي معطوفة عليها، فهي في محل رفع مثلها، واعتبار الجملتين حالا من الضمير المستتر في الخبر المحذوف جيد، والجملة الاسمية:{إِنَّنِي..} . إلخ تعليل للنهي، لا محل لها، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {فَأْتِياهُ فَقُولا إِنّا رَسُولا رَبِّكَ} أي: أرسلنا الله إليك يا فرعون؛ لندعوك إلى الإيمان به، وإلى عبادته. {فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ} أي: أطلقهم، وخلهم يسيرون معنا، ويتركون بلادك.
{وَلا تُعَذِّبْهُمْ} أي: بالأعمال الشاقة، والتكاليف الصعبة، وقتل الصبيان، فإنهم كانوا في أيدي القبط، يستخدمونهم، ويتعبونهم بالعمل، ويقتلون الذكور عاما، دون عام، وقد ذكّر الله بني إسرائيل بهذا بعد أن أنجاهم من كيد فرعون في كثير من الآيات. {قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ:} قال فرعون: وما هي؟ فأخرج موسى يده من تحت عضده؛ فإذا لها شعاع كشعاع الشمس، فعجب منها فرعون، ولم يره العصا إلا في يوم الزينة، كذا قيل، وقال البيضاوي: وإنما وحد الآية، وكان معه آيتان؛ لأن المراد إثبات الدعوى ببرهانها، لا الإشارة إلى وحدة الحجة، أو تعددها، وكذلك قوله تعالى:{قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ} . {وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى:} ليس المراد من هذا السّلام سلام التحية، بل معناه: السلامة من العذاب، وسخط الله تعالى في الدارين. وقيل: المراد: سلام الملائكة، وخزنة الجنة على المهتدين، فيكون مثل الآية رقم [24] من سورة (الرعد).
الإعراب: {فَأْتِياهُ:} الفاء: هي الفصيحة. وانظر الآية رقم [12]. (ائتياه): أمر مبني على حذف النون، والألف فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم؛ إذ التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا، وواقعا مني؛ فأتياه. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، وحذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {رَسُولا:} خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الألف؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، و {رَسُولا} مضاف، و {رَبِّكَ} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية:{إِنّا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{فَقُولا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {فَأَرْسِلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والفاء هي الفصيحة أيضا. {مَعَنا:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و (نا): في محل جر بالإضافة.
{بَنِي:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {بَنِي} مضاف، و {إِسْرائِيلَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة، وجملة:{فَأَرْسِلْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك صحيحا وواقعا؛ فأرسل
…
إلخ، وهذا الكلام في محل نصب مقول القول.
{وَلا تُعَذِّبْهُمْ:} مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» والهاء مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال.
{جِئْناكَ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، وهذه الجملة مفسرة ومبينة لقوله:{إِنّا رَسُولا رَبِّكَ} {بِآيَةٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ رَبِّكَ:} متعلقان بمحذوف صفة (آية)، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله. وفاعله مستتر فيه. {وَالسَّلامُ:} مبتدأ. {عَلى مَنِ:}
متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و {مِنْ} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب:{عَلى} . {اِتَّبَعَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {مِنْ،} وهو العائد، أو الرابط.
{الْهُدى:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية صلة {مِنْ} أو صفتها، والجملة الاسمية:{وَالسَّلامُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول. وأخيرا فالآية بكاملها من مقول الله تعالى.
{إِنّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلّى (48)}
الشرح: المعنى: إن الله أخبرنا، وأعلمنا بواسطة وحيه إلينا: أن الهلاك، والدمار في الدنيا، والخلود في جهنم في الآخرة هو مقرر على من كذب رسل الله، وأعرض عن الإيمان بالله تعالى. هذا؛ وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: هذه الآية أرجى آية للموحدين؛ لأنهم لم يكذبوا، ولم يتولوا.
الإعراب: {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. {قَدْ:} حرف تحقيق
…
إلخ، {أُوحِيَ:} ماض مبني للمجهول. {إِلَيْنا:} متعلقان بالفعل قبلهما. {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل.
{الْعَذابَ:} اسم {أَنَّ} . {عَلى مَنْ:} متعلقان بمحذوف خبر {أَنَّ} و {عَلى مَنْ} مثلها في الآية السابقة، {كَذَّبَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {مَنْ} ومفعوله محذوف، والجملة صلتها، أو صفتها، وجملة تولى مع المتعلق معطوفة عليها، و {أَنَّ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع نائب فاعل:{أُوحِيَ} على حد قوله تعالى: {أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ} . وجملة: {قَدْ أُوحِيَ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنّا..} . إلخ من جملة قول الله تعالى الذي أمر به موسى، وهارون أن يقولاه لفرعون، التقدير: وقولا له: والسّلام على من
…
إلخ، وقولا له: إنا قد، أوحي
…
إلخ.
الشرح: {قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى:} ذكر فرعون موسى دون هارون موافقة لرءوس الآي.
وقيل: خصه بالذكر؛ لأنه صاحب الرسالة، والكلام والآية. وقيل: إنهما جميعا بلّغا الرسالة، وإن كان هارون ساكتا؛ لأنه في وقت الكلام، إنما يتكلم واحد، والخطاب يكون منه، وإليه وحده.
{قالَ} موسى {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} أي: إنه يعرف بصفاته، وليس له اسم علم حتى يقال: هو فلان، بل هو خالق العالم أجمع، وهو الذي خص كل مخلوق بهيئة، وصورة،
وشكل يطابق المنفعة المنوطة به، كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار، وأعطى الأذن الشكل الذي يوافق الاستماع، وكذا الأنف، والرّجل، واليد، وسائر الجوارح، كل واحد منها مطابق للمنفعة المنوطة به.
{ثُمَّ هَدى} أي: هداه، وعرفه كيف يرتفق بما أعطاه، وكيف يتوصل به إلى بقائه، وكماله، وهداه إلى منافعه من المطعم، والمشرب، والمنكح. وقيل: المعنى: جعل الزوجة للرجل والأنثى من سائر المخلوقات للذكر، ثم ألهم الذكر، وهداه كيف يأتي الأنثى، وذلك للتوالد، وبقاء الجنس من كل المخلوقات، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى فرعون. {فَمَنْ:} الفاء: حرف صلة. (من):
اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {رَبُّكُما:} خبر المبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {يا مُوسى:} انظر الآية رقم [11] والجملتان الاسمية والندائية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى (موسى). {رَبُّنَا:} مبتدأ، ونا في محل جر بالإضافة
…
إلخ، {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {أَعْطى:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، وفاعله يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد. {كُلَّ:} مفعول به ثان تقدم على الأول، و {كُلَّ:} مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه. {خَلْقَهُ:} مفعول به أول، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{أَعْطى..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{هَدى} مع المفعول المحذوف معطوفة عليها، لا محل لها مثلها، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {قالَ} أي: فرعون {فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى} أي: ما حال الأمم السابقة كقوم نوح، وصالح، وهود، ونحوهم، فإنهم كانوا ينكرون البعث، ويعبدون الأوثان، وكيف حالهم من شقاوة، أو سعادة. وإنما قال فرعون هذا؛ لأن موسى عليه الصلاة والسلام قد خوفه، وقومه مصارع الأمم الخالية، وإذا لم يؤمن؛ يحل به ما حل بهم.
هذا؛ وقد قال الرازي في مختاره: البال: القلب، يقال: ما يخطر فلان ببالي؛ أي: بقلبي، والبال: رخاء النفس. يقال: فلان رخي البال. والبال: الحال، يقال: ما بالك؟ والبال:
الشأن. يقال: ما باله لا يفعل كذا؟! هذا؛ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يعرض بمن ينكر عليهم
بعض أعمالهم، فيقول:«ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا» وقال البغدادي: وقد التزم بعده ذكر حال يفسره غالبا، وقد يأتي بدونها، كقوله تعالى:{فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى} وقد تتبعت استعمال هذه الحال في كلام العرب-ولم أر من سبقني له-فرأيتهم يستعملونها على وجوه شتّى: منها:
أنها ماضوية مقرونة به قد، وماضوية بدون قد، ومضارعية مثبتة، ومضارعية منفية، وتكون مفردة، وتكون اسمية غير مقترنة بواو، ومقترنة بالواو، وأورد لكل وجه مثالا شعريا.
{قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ:} المعنى قال موسى مجيبا لذلك الضال: إنما تسأل عن أمور مغيبة قد استأثر الله بها، لا يعلمها إلا الله، وما أنا إلا عبد مثلك، لا أعلم منها إلا ما أخبرني به علام الغيوب، وعلم أحوال القرون الأولى مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ، وإنما رد موسى علم ذلك إلى الله تعالى؛ لأن التوراة إنما نزلت بعد هلاك فرعون، وقومه.
{لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى:} الضلال: أن تخطئ الشيء في مكانه، فلم تهتد إليه، والنسيان:
أن تذهب عنه بحيث لا يخطر ببالك، وهما محالان على الله تعالى، لذا كان أحسن قول من أقوال مختلفة في تفسير ذلك: إن الوقف على {كِتابٍ} والابتداء بما بعده، والمراد: تنزيه الله تعالى عن هاتين الصفتين. وقيل: إن المراد: الكتاب لا يضل؛ أي: غير ضال عن الله تعالى، وغير ناس له، وهو معنى ركيك كما ترى. هذا؛ وقرئ:«(لا يُضلّ)» من الرباعي على معنى لا يضيعه ربي، ولا ينساه، وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قوله: لا يترك من كفر به؛ حتى ينتقم منه، ولا يترك من وحده؛ حتى يجازيه.
الإعراب: {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى فرعون، تقديره:«هو» . {فَما:} الفاء: حرف صلة. (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {بالُ:} خبره، و {بالُ:}
مضاف، و {الْقُرُونِ} مضاف إليه. {الْأُولى:} صفة القرون مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف، والجملة الاسمية:{فَما بالُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} .
إلخ مستأنفة، لا محل لها. {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى (موسى) عليه السلام، تقديره:
«هو» . {عِلْمُها:} مبتدأ، و (ها): في محل جر بالإضافة. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، و {عِنْدَ} مضاف، و {رَبِّي} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وعلى هذا فالجار والمجرور:{فِي كِتابٍ} متعلقان بالخبر المحذوف، أو متعلقان بمحذوف خبر ثان، أو متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف المقدر بكائن، أو بموجود. هذا؛ وأجيز اعتبارهما متعلقين بمحذوف خبر المبتدأ، وتعليق عند بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المقدر، وهذا على قول الأخفش وقيل: متعلق بمحذوف حال من الضمير المضاف إليه في {عِلْمُها} . وقيل: هو ظرف متعلق بالمصدر:
(علم). هذا؛ وقيل: الظرف والجار والمجرور كلاهما متعلقان بخبر واحد، مثل: هذا حلو حامض، وهذا يعطي معنى الاعتبار الأول. تأمل. {لا:} نافية. {يَضِلُّ:} مضارع. {رَبِّي:}
فاعله، مرفوع
…
إلخ، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، أو في محل جر صفة {كِتابٍ} على وجه مرّ ذكره في الشرح، فيكون الرابط محذوفا: التقدير في كتاب لا يضله ربي، أو لا يضل حفظه ربي، وجملة:{وَلا يَنْسى} معطوفة عليها، والمفعول محذوف، التقدير: لا ينساه.
الشرح: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً:} هذا؛ ويقرأ: «(مهادا)» مثل قوله في سورة (النبأ):
{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً} فقيل: هما لغتان لما يبسط، ويفرش. وقيل:{مَهْداً} مصدر، و (مهادا) جمع له، والمعنى: جعلها فراشا، وقرارا تستقرون عليها. {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً:} جعل لكم فيها طرقا بين الجبال، والأودية، والبراري تسلكونها من أرض إلى أرض؛ لتبلغوا منافعها.
{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً:} انظر الآية رقم [10] من سورة (النحل) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
{فَأَخْرَجْنا بِهِ:} قال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: عدل به من لفظ الغيبة إلى صيغة التكلم على الحكاية لكلام الله تعالى، تنبيها على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة، والحكمة، وإيذانا بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لمشيئته، وعلى هذا نظائره كقوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها} وقوله جل ذكره: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ} . هذا؛ وقيل: تم الكلام على قوله:
{السَّماءِ،} وما بعده مستأنف.
{أَزْواجاً:} أصنافا، سميت بذلك لازدواجها، واقتران بعضها ببعض. {مِنْ نَباتٍ شَتّى} أي:
مختلف الألوان، والطعوم، والمنافع، فمنها ما هو للناس، ومنها ما هو للبهائم. وانظر الآية رقم [4] من سورة (الرعد) ففيها فضل بيان. هذا؛ و {شَتّى} مأخوذ من: شتّ الشيء؛ أي:
تفرق. قال تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتّى} وتقول: جاءوا أشتاتا؛ أي: متفرقين، وعليه ف:{شَتّى} جمع، واحده: شتّ، أو شتيت، كمريض، ومرضى. ولا تنس: الالتفات من الغيبة إلى التكلم.
الإعراب: {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع بدل من {رَبِّي،} أو عطف بيان عليه، أو هو صفة له، أو هو خبر مبتدأ محذوف، التقدير: هو الذي، أو هو مفعول به لفعل محذوف، التقدير: أعني الذي
…
إلخ، {جَعَلَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد. {لَكُمُ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {مَهْداً} كان
نعتا له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» .
{الْأَرْضَ:} مفعول به أول. {مَهْداً:} مفعول به ثان، وجملة:{جَعَلَ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها. {وَسَلَكَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {الَّذِي}. {لَكُمُ:} متعلقان بما قبلهما.
{فِيها:} متعلقان بما قبلهما، أو بمحذوف حال من {سُبُلاً} على مثال ما قبله. {سُبُلاً:}
مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، وجملة:{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً} معطوفة عليها، وإعرابها مثلها. {فَأَخْرَجْنا:} فعل، وفاعل. {بِهِ:} متعلقان بما قبلهما.
{مِنْ نَباتٍ:} متعلقان بمحذوف صفة {أَزْواجاً} . {شَتّى:} يجوز اعتباره صفة ل: {أَزْواجاً،} وصفة ل: {نَباتٍ} أو هو حال من {أَزْواجاً} بعد وصفه بالجار والمجرور، وجملة:{فَأَخْرَجْنا..} .
إلخ معطوفة على جملة الصلة على اعتبارها من تتمة كلام موسى عليه السلام، ويكون المعنى:
أخرجنا به أي: بالحرث والسقي، ونحوهما؛ لأن الماء المنزل سبب خروج النبات، وتكون مستأنفة على اعتبارها من كلام الله تعالى. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
{كُلُوا وَاِرْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54)}
الشرح: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ:} هذا أمر إباحة، و (الأنعام) المواشي، انظر الآية رقم [5] من سورة (النحل). {إِنَّ فِي ذلِكَ} أي: في إنزال المطر من السماء، وإنبات النبات من الأرض.
{لَآياتٍ:} لدلالات، وعلامات واضحة على قدرة الله تعالى. {لِأُولِي النُّهى:} لأصحاب العقول السليمة الذين ينتهون عن الأفعال القبيحة، والأخلاق الذميمة، الواحدة: نهية. أما (أولي)، فهو جمع لا واحد له من لفظه، وإنما واحده:«ذو» المضاف إن كان مرفوعا، و «ذا» المضاف إن كان منصوبا، و «ذي» المضاف إن كان مجرورا.
الإعراب: {كُلُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. وانظر إعراب (اشربي) في الآية رقم [26] من سورة (مريم)، والجملة الفعلية في محل نصب لقول يقع حالا، من نا: التقدير: قائلين كلوا، وجملة:{وَارْعَوْا} معطوفة عليها. {إِنَّ} حرف مشبه بالفعل. {فِي ذلِكَ:} متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ} تقدم على اسمها، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب. {لَآياتٍ:} اللام: هي لام الابتداء. (آيات): اسم {إِنَّ} مؤخر منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {لِأُولِي:} متعلقان بمحذوف صفة آيات، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، و {لِأُولِي} مضاف، و {النُّهى} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية:{إِنَّ..} . إلخ تعليل للأمر لا محل لها، أو هي مستأنفة.
{مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55)}
الشرح: {مِنْها خَلَقْناكُمْ:} للعمل، والثواب، {وَفِيها نُعِيدُكُمْ} أي: للدود، والتراب. {وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ:} للجزاء، والحساب. هذا؛ وخلق بني آدم من الأرض إنما هو بخلق الأب من التراب، وقد بينت ذلك، وشرحته في الآية رقم [26] من سورة (الحجر)، وهذا خلق غير مباشر. وقيل: كل نطفة مخلوقة من التراب وعلى هذا يدل ظاهر القرآن، وروى أبو هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلاّ وقد ذرّ عليه من تراب حفرته» . أخرجه أبو نعيم. وقال عطاء الخراساني: إذا وقعت النطفة في الرحم؛ انطلق الملك الموكل بالرحم، فأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه، فيذرّه على النطفة، فيخلق الله النسمة من النطفة، ومن التراب.
هذا؛ وهناك خلق مباشر من الأرض، وذلك إذا عرفنا: أن النطفة المادة التي يتخلق منها ابن آدم من الدم، والدم مصدره من الغذاء، والشراب، وهما من الأرض بلا ريب، ولا شك، وقد أشار النسفي إلى هذا حيث قال: أو لأن النطفة من الأغذية، وهي من الأرض. هذا؛ وأراد بإخراجهم من الأرض: أنه يؤلف أجزاءهم المتفرقة المختلطة بالتراب، ويردهم كما كانوا أحياء ويخرجهم إلى المحشر قال تعالى:{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً} .
هذا؛ وقد قال الزمخشري: عدد الله على الخلق ما علق بالأرض من مرافقهم؛ حيث جعلها لهم فراشا، ومهادا يتقلبون عليها، وسوى لهم فيها مسالك، يترددون فيها كيف شاءوا، وأنبت فيها أصناف النبات التي منها أقواتهم، وعلوفات بهائمهم، وهي أصلهم الذي منه تفرعوا، وأمهم التي منها ولدوا، ثم هي كفاتهم إذا ماتوا، ومن ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«تمسّحوا بالأرض فإنّها بكم برّة» . انتهى. هذا؛ وخذ ما رواه ربيعة الجرشي-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
هذا؛ وقد ورد بأن الأرض تضم كل إنسان يدفن فيها بعد موته؛ لأنها أمه، والأم من بني آدم تضم ولدها إذا كان غائبا، وحضر، ولكن ضمة الأرض للعبد المؤمن ضمة عطف، ولطف، وشفقة، وحنان، وضمها للكافر، والفاجر، والفاسق ضمة غضب، وسخط، وقسوة، وإزعاج.
اللهم وفقنا للعمل بكتابك، وللاهتداء بهدي نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
الإعراب: {مِنْها:} متعلقان بما بعدهما. {خَلَقْناكُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة وهي من قول الله تعالى بلا ريب، وهذا ممّا يقوي: أن الكلام: {فَأَخْرَجْنا..} . إلخ هنا إنما هو من مقول الله تعالى، وليس من مقول موسى عليه السلام، وجملة:{وَفِيها نُعِيدُكُمْ} معطوفة عليها، وكذا جملة:{وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ} معطوفة عليها، وهو ظاهر. {تارَةً:} نائب مفعول
مطلق، أو هو ظرف مثل {مَرَّةً} في الآية رقم [37]. {أُخْرى:} صفة {تارَةً} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر.
{وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56)}
الشرح: {وَلَقَدْ أَرَيْناهُ} أي: لفرعون رأى المعجزات بعينه. {كُلَّها} أي: التي أيد الله بها موسى. وانظر الآية رقم [101] من سورة (الإسراء) تجد ما يسرك. {فَكَذَّبَ} أي: فرعون موسى. {وَأَبى:} الإيمان كفرا، وعنادا، وطغيانا. وانظر شرح {أَبى} في الآية رقم [31] من سورة (الحجر). وانظر شرح آيات في الآية [1] منها.
الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. وانظر الآية رقم [37]. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَرَيْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به. وانظر إعراب {نَذَرْتُ} في الآية رقم [26] من سورة (مريم) عليها السلام، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف، لا محل له. {آياتِنا:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، و (نا): في محل جر بالإضافة. {كُلَّها:} توكيد {آياتِنا} و (ها): في محل جر بالإضافة. (كذب): ماض، وفاعله يعود إلى فرعون، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {وَأَبى:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {فِرْعَوْنَ} أيضا، ومفعوله محذوف أيضا، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.
{قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57)}
الشرح: المعنى: جئت لتوهم الناس: أنك جئت بآية توجب اتباعك والانقياد لك حتى تغلب علينا وعلى أرضنا، وذلك لما رأى معجزة اليد فقط، وهذا تعلل، وتحير ودليل على أنه علم أن موسى كان محقا حتى خاف منه على ملكه، وإلا فأي: ساحر يقدر أن يخرج ملكا من أرضه.
هذا؛ والسحر: كل ما لطف، ودق، يقال: سحره: إذا أبدى له أمرا يدق، ويخفى. وقال الغزالي في الإحياء ما نصه: السحر نوع يستفاد من العلم بخواص الجواهر، وبأمور حسابية في مطالع النجوم، فيتخذ من تلك الحواس هيكل على صورة الشخص المسحور، ويترصد له وقت مخصوص من المطالع، وتقرن به كلمات يتلفظ بها من الكفر، والفحش المخالف للشرع، ويتوصل بسببها إلى الاستغاثة بالشياطين، ويحصل من مجموع ذلك بحكم إجراء الله العادة أحوال غريبة في الشخص المسحور. انتهى. وانظر الآية رقم [47] من سورة (الإسراء) تجد ما يسرك.
الإعراب: {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {فِرْعَوْنَ}. {أَجِئْتَنا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري، (جئتنا): فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول.
{لِتُخْرِجَنا:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل والفاعل تقديره: «أنت» ، و (نا):
مفعول به، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ أَرْضِنا:} متعلقان بالفعل قبلهما. و (نا): في محلّ جرّ بالإضافة.
{بِسِحْرِكَ:} متعلقان بالفعل: (تخرج) أيضا. {يا مُوسى:} انظر الآية رقم [11] والجملة الندائية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً} أي: عين موعدا لاجتماعنا وحضور الناس؛ ليروا ما نأتيك به من السحر، ويعرفوا: أننا أعلم منك بالسحر. {لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ:} بل نحضره جميعا بدون تخلف. {مَكاناً سُوىً} أي: وسطا بيننا، وبينك تستوي فيه مسافة الفريقين. وقيل: معناه: سوى هذا المكان؛ أي: غيره.
هذا؛ و {مَوْعِداً} يحتمل أن يكون اسم زمان، أو اسم مكان، أو مصدرا ميميا، ويشهد للأول قوله تعالى:{قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} ويشهد للثاني: {مَكاناً سُوىً} ويشهد للمصدر قوله تعالى: {لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ} وإذا أعرب {مَكاناً} بدلا منه لا ظرفا ل: {نُخْلِفُهُ} تعينت الظرفية.
فعلى الأول: يكون المعنى: اجعل لنا يوما معلوما، وعلى الثاني: اجعل لنا مكانا معروفا، وعلى الثالث: اجعل بيننا وبينك وعدا، ورجح هذا الأخير، بسبب عود الضمير عليه؛ إذ التقدير: لا نخلف ذلك الوعد. هذا؛ وأما {سُوىً} فإنه يقرأ بكسر السين، وضمها مع تنوينه، مثل: عدى، وعدى، وطوى، وطوى، وقد رأيت شرحه، وهو يقصر، ويمد. ويقال: مررت برجل سواك، وسواك، وسوائك؛ أي: غيرك، وهما في هذا الأمر سواء، وإن شئت: سواءان، وهم سواء للجمع، وهم أسواء، وهم سواسية، وهذا كله بمعنى: مستوون في هذا الأمر. هذا؛ وانظر شرح «بين» في الآية رقم [45] من سورة (الإسراء). وانظر شرح مثل في الآية رقم [24] من سورة (إبراهيم) عليه السلام.
الإعراب: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ:} الفاء: حرف استئناف، وأجيز اعتبارها فصيحة. اللام: واقعة في جواب قسم محذوف. (نأتينك): مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية لا محل
لها؛ لأنها جواب قسم مقدر، والقسم وجوابه كلام مستأنف، لا محل له. {بِسِحْرٍ:} متعلقان بالفعل قبلها، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر. {مِثْلِهِ:} صفة (سحر) والهاء في محل جر بالإضافة. {فَاجْعَلْ:} الفاء: هي الفصيحة. وانظر الآية رقم [12]. (اجعل): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {بَيْنَنا:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و (نا) في محل جرّ بالإضافة. {وَبَيْنَكَ:} معطوف على ما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {مَوْعِداً:} مفعول به. وانظر الشرح، وجملة:{فَاجْعَلْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط يقدر ب: «إذا» .
{لا:} نافية. {نُخْلِفُهُ:} مضارع، والفاعل تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية صفة موعدا. {نَحْنُ:} توكيد للفاعل المستتر. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية.
{أَنْتَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع معطوف على الضمير المستتر، وساغ ذلك لوجود الفاصل، وهو التوكيد بالضمير. وقال ابن مالك: إن التقدير: ولا تخلفه أنت؛ لأن مرفوع فعل الأمر لا يكون ظاهرا، ومرفوع الفعل المضارع ذي النون لا يكون غير ضمير المتكلم. انتهى. مغني. وعليه فالجملة المقدرة معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مثلها، والضمير {أَنْتَ} توكيد للضمير المستتر في الفعل المحذوف، وفيه: أن الحذف، والتوكيد متنافيان، ومتناقضان.
{مَكاناً:} فيه خمسة أوجه: أحدها: أنه بدل من {مَوْعِداً} على اعتباره ظرفا. والثاني: أنه مفعول ثان ل: (اجعل). الثالث: أنه منصوب بإضمار فعل. الرابع: أنه منصوب بالمصدر {مَوْعِداً} . الخامس: هو ظرف مكان متعلق ب: (اجعل). {سُوىً:} صفة له منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. هذا؛ والآية بكاملها من مقول فرعون أخزاه الله تعالى.
{قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى (59)}
الشرح: {قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ:} هو يوم عيد كان لهم، يتزينون، ويجتمعون فيه في كل سنة. {وَأَنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى} أي: يجتمع الناس في ذلك اليوم وقت الضحوة نهارا جهارا؛ ليكون أبعد من الريبة، وإنما عينه موسى-عليه الصلاة والسلام-ليظهر الحق، ويزهق الباطل.
وانظر شرح {الْيَوْمَ} في الآية رقم [14] من سورة (الإسراء). وانظر شرح (الناس) في الآية رقم [60] منها.
الإعراب: {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى (موسى) عليه السلام. {مَوْعِدُكُمْ:} مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر الميمي لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {يَوْمُ:}
خبر المبتدأ، ويقرأ بالنصب على أنه ظرف زمان متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، ويوم مضاف، و {الزِّينَةِ} مضاف إليه. {وَأَنْ} حرف مصدري ونصب. {يُحْشَرَ:} مضارع مبني للمجهول
منصوب ب: (أن). {النّاسُ:} نائب فاعل. {ضُحًى:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والثابتة دليل عليها، وليست عينها، وإعلاله مثل إعلال {هُدىً} في الآية رقم [13] من سورة (الكهف)، والمصدر المؤول من {وَأَنْ يُحْشَرَ} في محل رفع معطوف على خبر المبتدأ، وأجيز اعتباره معطوفا على {الزِّينَةِ} ويكون التقدير: ويوم حشر الناس، والجملة الاسمية:{مَوْعِدُكُمْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
{فَتَوَلّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60)}
الشرح: {فَتَوَلّى فِرْعَوْنُ:} فذهب، وأعرض عن موسى عليه السلام. {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} أي:
حيله، وسحره، والمراد: جمع السحرة، وآلاتهم. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كانوا اثنين وسبعين ساحرا، مع كل ساحر منهم حبال وعصي. وقيل: كانوا أربعمائة. وقيل: كانوا اثني عشر ألفا. وقيل غير ذلك، وكان لهم رئيس يقال له: شمعون، هذا، ويقال: أجمع الأمر: إذا عزم عليه، والأمر مجمع، ويقال أيضا: اجمع أمرك، ولا تدعه منتشرا. قال تعالى حكاية عن قول فرعون، وأشياعه في الآية رقم [64] الآتية:{فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ..} . إلخ. ولا يقال: أجمع أعوانه، وشركاءه، وإنما يقال: جمع أعوانه وأصدقاءه، وهذا مبني على قاعدة: يقال: أجمع في المعاني، وجمع في الأعيان، وأما قوله تعالى هنا:{فَجَمَعَ كَيْدَهُ:} فصحيح لتأويله بما رأيت.
هذا؛ ويقرأ في الآية [64] بقطع الهمزة: {فَأَجْمِعُوا} أي: اعزموا، وجدّوا. ويقرأ بهمزة الوصل (فاجمعوا) قال النحاس: ويصحح هذه القراءة أن المعنى أجمعوا كل كيد لكم، وكل حيلة فضموه مع أخيه. وقال الثعلبي: القراءة بقطع الألف وكسر الميم لها وجهان: أحدهما:
بمعنى: الجمع، تقول: أجمعت الشيء، وجمعته بمعنى: واحد. وفي الصحاح: وأجمعت الشيء: جعلته جميعا. قال أبو ذؤيب يصف حمرا: [الكامل]
فكأنّها بالجزع بين نبايع
…
وأولات ذي العرجاء نهب مجمع
أي: مجموع، والثاني: أنه بمعنى: العزم، والإحكام. قال الشاعر:[الرجز]
يا ليت شعري والمنى لا تنفع
…
هل أغدون يوما، وأمري مجمع؟
هذا؛ ونبايع اسم مكان، أو جبل، أو واد في بلاد هذيل. انتهى. قرطبي بتصرف. وابن هشام قال في المغني: إن «أجمع» لا يتعلق بالذوات، بل بالمعاني، كقولك: أجمعوا على كذا، بخلاف «جمع» ، فإنه مشترك، بدليل قوله تعالى:{فَجَمَعَ كَيْدَهُ} وقوله جل شأنه: {الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ} هذا؛ والتعبير ب: {ثُمَّ} وهي للتراخي، دلالة على أنه استغرق وقتا طويلا في جمع السحرة، وترتيب الحيل، ورسم الخطط، والله من ورائه محيط.
الإعراب: {فَتَوَلّى:} الفاء: حرف استئناف. (تولى فرعون): ماض، وفاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، وجملة:{فَجَمَعَ كَيْدَهُ} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها، والهاء في محل جر بالإضافة. {أَتى:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل يعود إلى (فرعون) والجملة معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.
الشرح: {قالَ لَهُمْ مُوسى} أي: للسحرة الذين جمعهم فرعون للمناظرة {وَيْلَكُمْ:}
الويل: الهلاك، والعذاب. وانظر الآية رقم [2] من سورة (إبراهيم) على نبينا وحبيبنا وعليه ألف ألف صلاة، وألف ألف سلام. {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً} أي: لا تختلقوا عليه الكذب، ولا تشركوا به شيئا، ولا تقولوا للمعجزات: إنها سحر. وانظر ما ذكرته بشأن الكذب في الآية رقم [15] من سورة (النحل). {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ} أي: يستأصلكم بالإهلاك، يقال فيه: سحت، وأسحت بمعنى، ويقرأ الفعل من الأول، وهو الثلاثي، وهي لغة أهل الحجاز، وقرأ حفص، وغيره من الرباعي، وهي لغة نجد، وبني تميم، ومصدر الأول: السحت، ومصدر الثاني:
الإسحات. وقال الفرزدق: [الطويل]
وعضّ زمان يا بن مروان لم يدع
…
من المال إلا مسحتا أو مجلّف
هذا؛ والسحت: المال الحرام؛ كالرشى، والربا، وغير ذلك من أنواع الحرام، وهو من سحته؛ إذا استأصله؛ لأنه مسحوت البركة. وانظر الآية رقم [42] من سورة (المائدة) وأصل المادة يدل على الاستقصاء والنفاد، ومنه سحت الحالق الشعر؛ أي: استقصاه فلم يترك منه شيئا، ويستعمل في الإهلاك، والإذهاب وهو ما في الآية.
{وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى} أي: خسر، وهلك، وخاب من الرحمة، والثواب من ادعى على الله ما لم يأذن به. هذا؛ وقد قال الزمخشري في بيت الفرزدق: لا تزال الركب تصطك في تسوية إعرابه مع كون مسحت يروى بالرفع والنصب فعلى رواية الرفع فهو مرفوع على المعنى، فكأنه قال: لم يبق من المال إلا مسحت، أو مجلف، وعلى رواية النصب فهو منصوب بالفعل لم يدع، ويكون رفع مجلف على المعنى، والتقدير: لم يدع إلا مسحتا، وبقي مجلف، ومثل بيت الفرزدق قول الآخر:[الطويل]
غداة أحلّت لابن أصرم طعنة
…
حصين عبيطات السّدائف والخمر
إذ التقدير: أحلت له عبيطات السدائف وحلّت له الخمر.
الإعراب: {قالَ:} ماض. {لَهُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مُوسى:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {وَيْلَكُمْ:} مفعول به لفعل محذوف، التقدير:
ألزمكم ويلا، وأجاز الزجاج أن يكون نداء، كقوله تعالى:{قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا} والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لا تَفْتَرُوا:}
مضارع مجزوم ب: {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {عَلَى اللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {كَذِباً:} مفعول به. {فَيُسْحِتَكُمْ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد الفاء السببية، والفاعل يعود إلى (الله)، والكاف مفعول به، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: لا يكن منكم افتراء على الله فإسحات، أو فسحت لكم. {بِعَذابٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {وَقَدْ:} الواو: واو الحال. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {خابَ:}
ماض. {مَنِ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع فاعل.
{اِفْتَرى:} ماض، وفاعله يعود إلى {مَنِ} وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة {مَنِ} أو صفتها، وجملة: {(قَدْ خابَ
…
)} إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط الواو فقط، والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62)}
الشرح: {فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي: تناظروا، وتشاوروا يعني: السحرة في أمر موسى عليه السلام سرا من فرعون. وقالوا: إن غلبنا موسى؛ اتبعناه. وقيل قالوا: إن كان ما يفعله سحرا؛ فسنغلبه، وإن كان من عند الله؛ فسيكون له أمر، وهذا هو الذي أسروه. هذا؛ و {النَّجْوى} حديث السر بين اثنين، أو أكثر. قال تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى} . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناج اثنان دون الثالث، فإنّ ذلك يحزنه» . هذا؛ وقد قيل: إن النجوى القوم الذين يتناجون، وبه قيل في قوله تعالى:{وَإِذْ هُمْ نَجْوى} الآية رقم [47] من سورة (الإسراء). هذا؛ وقيل: إن الضمير يعود لفرعون، وقومه.
هذا؛ وقيل: إن أسرّوا يحتمل أن يكون بمعنى أظهروا، وأخفوا، فهو من الأضداد كما قيل به في قول امرئ القيس:[الطويل]
تجاوزت أحراسا عليها ومعشرا
…
عليّ حراصا لو يسرّون مقتلي
وبه قيل في الآية رقم [3] من سورة (الأنبياء). وأيضا قيل في قوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمّا رَأَوُا الْعَذابَ} الآية رقم [54] من سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
الإعراب: {فَتَنازَعُوا:} الفاء: حرف استئناف. (تنازعوا): ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة، والواو فاعله، والألف للتفريق. وانظر إعراب (قالوا) في الآية رقم [26] من سورة (مريم) عليها السلام، والجملة الفعلية مستأنفة، أو هي معطوفة على جملة:{قالَ لَهُمْ..} . إلخ لا محل لها على الاعتبارين. {أَمْرَهُمْ:} مفعول به. {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {النَّجْوى:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، وجملة:{وَأَسَرُّوا النَّجْوى} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
الشرح: {قالُوا} أي: السحرة، أو فرعون، وقومه على مثال ما رأيت. {إِنْ هذانِ لَساحِرانِ:} هذه الجملة تقرأ: «(إنّ هذين لساحران)» وهذه القراءة موافقة للإعراب، مخالفة لرسم المصحف، ويقرأ:{إِنْ هذانِ لَساحِرانِ} وهذه القراءة سلمت من مخالفة المصحف ومن فساد الإعراب، ويكون معناها، ما هذان إلاّ ساحران، فإن نافية بمعنى:«ما» واللام بمعنى: إلا، والإعراب واضح، واعتبرها ابن هشام في الشذور مخففة من الثقيلة مهملة لا عمل لها، وهذان مبتدأ، واللام هي الفارقة، وساحران خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: لهما ساحران، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، وفاته أنّ المخففة المهملة يشترط أن يليها فعل ناسخ للابتداء مثل قوله تعالى:{وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ} . {وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ} قال ابن مالك رحمه الله تعالى: [الرجز]
والفعل إن لم يك ناسخا فلا
…
تلفيه غالبا بإن ذي موصلا
ويقرأ: «(إنّ هذان لساحران)» فوافقوا رسم المصحف، وخالفوا الإعراب.
قال النحاس: فهذه ثلاث قراءات قد رواها الجماعة الأئمة. قال القرطبي: وللعلماء في قراءة أهل المدينة، والكوفة-ويعني بها الأخيرة-ستة أقوال ذكرها ابن الأنباري في آخر كتاب الردّ له، وذكرها النحاس في إعرابه، والمهدوي في تفسيره:
القول الأول: أنها لغة بني الحارث بن كعب، وزبيد، وخثعم، وكنانة بن زيد، يجعلون رفع الاثنين، ونصبه، وخفضه بالألف، وأنشد الفراء قول المتلمس:[الطويل]
فأطرق إطراق الشجاع، ولو رأى
…
مساغا لناباه الشّجاع لصمّما
الشجاع: الثعبان العظيم، وصمم: عضّ، ونيّب، ويقولون: كسرت يداه، وركبت علاه بمعنى: كسرت يديه، وركبت عليه. وقال هوبر الحارثي:[الطويل]
تزوّد منّا بين أذناه طعنة
…
دعته إلى هابي التّراب عقيم
أي: بين أذنيه. وقال أبو النجم العجلي، وينسب لرؤبة بن العجاج:[الرجز]
إنّ أباها وأبا أباها
…
قد بلغا في المجد غايتاها
أي: إن أبا أبيها، وغايتيها. قال أبو جعفر النحاس: وهذا القول من أحسن ما حملت عليه الآية؛ إذ كانت هذه اللغة معروفة، وقد حكاها من يرتضى بعلمه، وأمانته. منهم أبو زيد الأنصاري، وأبو الخطاب الأخفش، والكسائي، والفراء، كلهم قالوا: هذا على لغة بني الحارث بن كعب.
القول الثاني: أن تكون إنّ بمعنى: «نعم» . قال الشاعر: [الكامل]
قالوا: غدرت فقلت إنّ وربّما
…
نال العلا وشفى الغليل الغادر
أي: فقلت: نعم، فعلى هذا جائز أن يكون قول الله عز وجل:{إِنْ هذانِ لَساحِرانِ} بمعنى:
نعم، ولا تنصب. قال النحاس: أنشدني داود بن الهيثم. قال: أنشدني ثعلب: [الرمل]
ليت شعري هل للمحبّ شفاء
…
من جوى حبّهنّ؟ إنّ اللّقاء
أي: نعم هو اللقاء. وقال عبد الله بن قيس الرقيات: [مجزوء الكامل]
ويقلن شيب قد علا
…
ك وقد كبرت فقلت: إنّه
أي: فقلت: نعم، والهاء للسكت. قال ابن هشام في مغنيه: وردّ بأنّا لا نسلم: أن الهاء للسكت، بل هي ضمير منصوب بها، والخبر محذوف؛ أي: إنه كذلك، والجيد الاستدلال بقول ابن الزبير-رضي الله عنهما-لمن قال له: لعن الله ناقة حملتني إليك: (إنّ وراكبها) أي: نعم، ولعن راكبها.
هذا؛ وذكر القرطبي سندا طويلا يتصل بعلي بن أبي طالب-كرم الله وجهه-أنه قال:
لا أحصي كم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على منبره: «إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه» . كأنه صلى الله عليه وسلم يريد: نعم الحمد لله
…
إلخ وذلك: أن خطباء الجاهلية كانت تفتتح خطبها بنعم.
القول الثالث: قاله الفراء: وجدت الألف دعامة ليست بلام الفعل، فزدت عليها نونا ولم أغيرها، كما قلت: الذي، ثم زدت عليها نونا فقلت: جاءني الذي عندك، ورأيت الذين عندك، ومررت بالذين عندك.
الرابع: قاله بعض الكوفيين. قال: الألف في هذان مشبهة بالألف في يفعلان، فلم تغير.
القول الخامس: قال أبو إسحاق: النحويون القدماء يقولون: الهاء هاهنا مضمرة، والمعنى: إنّه هذان لساحران. قال ابن الأنباري: فأضمرت الهاء التي هي منصوب (إنّ)،
و {هذانِ} خبر، و (ساحران) يرفعهما «هما» المضمر، والتقدير: إنه هذان لهما ساحران، والأشبه عند أهل هذا الجواب: أن الهاء اسم (إنّ) وهذان رفع بالابتداء، وما بعده خبر الابتداء.
السادس: قال أبو جعفر النحاس: وسألت أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية، فقال:
القول عندي: أنه لما كان يقال: (هذا) في موضع الرفع والنصب والخفض على حال واحدة، وكانت التثنية يجب ألا يغير لها الواحد أجريت التثنية مجرى الواحدة. انتهى. قرطبي بتصرف كبير مني مع ما أضفته من المغني لابن هشام. رحم الله الجميع رحمة واسعة! وله في الشذور وجهان آخران بعيدان.
أقول: والمعتمد عند النحويين القولان: الأول، والثاني، وهما اللذان يستشهدون لهما بما ورد من شعر العرب، كما رأيت والله الموفق، والمعين وبه أستعين. ويبقى إشكال على القول الثاني، وهو دخول اللام على خبر المبتدأ، ويؤول الكلام بما يلي:(إنّ هذان لهما ساحران) وفحواه أن (ساحران) خبر مبتدأ محذوف، والجملة الاسمية خبر {هذانِ} .
{يُرِيدانِ} أي: موسى، وهارون. {أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ:} أرض مصر. {وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى:} وهذا من قول فرعون وملئه للسحرة؛ أي: غايتهما إفساد دينكم الذي أنتم عليه، كما حكى الله عن فرعون في آية أخرى:{إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ} هذا؛ والطريقة: المذهب الذي يتبعه الإنسان، والسنة التي يسير على نهجها، فيكون المعنى:
ويذهبا بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب بإظهار مذهبه، وإعلاء دينه. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: يعني: يذهبا بسراة قومكم، وأشرافكم. وقيل: أراد أهل طريقتكم، وهم بنو إسرائيل، فإنهم أرباب علم، ويرجعون بالانتساب إلى الأنبياء، والمعتمد الأول. هذا؛ و {الْمُثْلى} تأنيث الأمثل، كما أن الفضلى تأنيث الأفضل، والحسنى تأنيث الأحسن.
الإعراب: {قالُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق. {إِنْ هذانِ لَساحِرانِ} انظر القول الأول، والثاني: في الشرح ففيهما الكفاية. {يُرِيدانِ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، وألف الاثنين فاعله. {أَنْ يُخْرِجاكُمْ:} مضارع منصوب ب: {إِنْ،} وعلامة نصبه حذف النون، والألف فاعله، والكاف مفعوله، وأن والمضارع في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به. {مِنْ أَرْضِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {بِسِحْرِهِما:} متعلقان بالفعل قبلهما أيضا، أو هما متعلقان بمحذوف حال من ألف الاثنين؛ أي: ملتبسين بسحرهما. والكاف والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. وجملة:{يُرِيدانِ..} . إلخ في محل رفع صفة (ساحران). {وَيَذْهَبا:} معطوف على ما قبله منصوب مثله، وألف الاثنين فاعله، {بِطَرِيقَتِكُمُ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {الْمُثْلى:} صفة طريقتكم مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف، والكلام في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ اِئْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اِسْتَعْلى (64)}
الشرح: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} أي: اجعلوه مجمعا عليه حتى لا تختلفوا. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [63] فهو يحتمل أن يكون من قول السحرة بعضهم لبعض، وأن يكون من قول فرعون لهم. هذا؛ والكيد: المكر، والخبث، والحيلة. {اِئْتُوا صَفًّا} أي: مصطفين، فيكون أشد لهيبتكم. {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ:} فاز، ونجح. {مَنِ اسْتَعْلى:} من غلب خصمه.
هذا؛ و {اِئْتُوا} أمر من: أتى، يأتي، والأمر بهمزتين: همزة الوصل، التي يتوصل بها إلى النطق بالساكن، والثانية هي فاء الفعل، ولا يجتمع همزتان، فإذا ابتدأت الكلام، قلت: ايتوا، بإبدال الثانية ياء لكسر ما قبلها، فإذا وصلت الكلام زالت العلة في الجمع بين همزتين، فتحذف همزة الوصل، وتعود الهمزة الأصلية فتقول: ائت، ومثل ذلك قل في إعلال: أذن يأذن ائذن.
الإعراب: {فَأَجْمِعُوا:} الفاء: هي الفصيحة. (اجمعوا): أمر مبني على حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان الأمر كما ذكر من كونهما ساحرين فأجمعوا
…
إلخ، وهذا الكلام في محل نصب مقول القول. {كَيْدَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {ثُمَّ:} حرف عطف. {اِئْتُوا:} أمر
…
إلخ، {صَفًّا:} حال؛ أي:
مصطفين. وقيل: مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. الواو: واو الحال. (قد):
حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَفْلَحَ:} ماض. {الْيَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. {مَنِ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: رجوع الفاعل إليها، وجملة:{وَقَدْ أَفْلَحَ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط الواو فقط. هذا؛ وقال الزمخشري معترضة في آخر الكلام، وعليه فلا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
{قالُوا يا مُوسى إِمّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65)}
الشرح: {قالُوا يا مُوسى} القائل هم السحرة، وهذا التخيير منهم استعمال أدب حسن منهم مع موسى عليه السلام، وكأن الله ألهمهم ذلك، وقد وصلت إليهم بركته، فهداهم الله للإيمان، وأعلم الله موسى اختيار إلقائهم أولا، فقال لهم: بل ألقوا
…
إلخ. هذا؛ وانظر شرح «أول» في الآية رقم [24] من سورة (النحل)، وشرح {إِمّا} في الآية رقم [87] من سورة (الكهف).
الإعراب: {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. (يا): أداة نداء تنوب مناب: «أدعو» .
(موسى): منادى مفرد علم، مبني على ضم مقدر على الألف المقصورة في محل نصب ب:(يا).
{إِمّا:} أداة شرط، وتخيير. وقيل: تقسيم، والمصدر المؤول من:{أَنْ تُلْقِيَ} في محل رفع مبتدأ، والخبر محذوف، التقدير: إما الإلقاء حاصل منك، أو خبر لمبتدإ محذوف التقدير:
الأمر إلقاؤك، ونحوه، أو المصدر المؤول في محل نصب مفعول به، التقدير: اختر إلقاءك، ومفعول الفعل محذوف للعلم به؛ إذ التقدير: إما أن تلقى عصاك. {وَإِمّا:} الواو: حرف عطف. (إما): معطوفة على سابقتها. {أَنْ نَكُونَ:} مضارع ناقص منصوب ب: {أَنْ} واسمه ضمير مستتر تقديره: «نحن» . {أَوَّلَ:} خبر {نَكُونَ،} و {أَوَّلَ:} مضاف، و {مَنْ} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة. {أَلْقى:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل يعود إلى {مَنْ،} وهو العائد، والمفعول محذوف، التقدير: ألقى حبالنا، وعصينا، والجملة الفعلية صلة {مَنْ،} والمصدر المؤول من {أَنْ نَكُونَ..} . إلخ فهو مثل سابقه في التأويل، والجملة الاسمية سواء أكانت اسمية، أم فعلية معطوفة على ما قبلها، والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وألفت النظر إلى أنّ الآية شبيهة في الآية رقم [87] من سورة (الكهف).
الشرح: {قالَ بَلْ أَلْقُوا} مقالة أدب بأدب، وعدم مبالاة بسحرهم، وليبرزوا ما معهم من مكايد السحر، ويظهر الله سلطانه، ويقذف بالحق على الباطل، فيدمغه، ويسلط المعجزة على السحر فتمحقه، فيصير آية نيرة للمناظرين، وعبرة للمعتبرين. {فَإِذا حِبالُهُمْ..}. إلخ: قبله محذوف، التقدير: فألقوا ما معهم، فإذا حبالهم
…
إلخ.
{وَعِصِيُّهُمْ:} يقرأ بضم العين، وكسرها، مثل: قسي، وقسي، ومفرده: عصا، ومقتضى القياس أن يقال في جمعها:(عصوّ) فأبدل من الواو الثانية ياء؛ لأنها طرف ليس بينها وبين الضمة إلا حرف ساكن، فصار:(عصوي) فاجتمعت الواو، والياء، والأول: ساكن، فقلبت الواو الأولى ياء، ثم أدغمت الياء في الياء، ثم قلبت ضمة الصاد كسرة لتصح الياء. ثم تبعت حركة العين حركة الصاد، فكسرت على قراءة كسرها، وبقيت على حالها على قراءة ضمها.
هذا؛ وانظر بالإضافة لما ذكرته في الآية رقم [18] ما ذكرت في الآية رقم [106] من سورة (الأعراف) تجد ما يسرك ويثلج صدرك، وكذا الآية رقم [45] من سورة (الشعراء).
{يُخَيَّلُ:} يظن، وتخيل الشيء: توهمه، ويقرأ «(تخيّل)» على أنّ نائب الفاعل يعود إلى العصي، والحبال، وقرئ «(تخيّل)» بالبناء للمعلوم على أنّ أصله: تتخيّل، ويقرأ «(نخيّل)» بالنون على أن الله هو المخيل. {أَنَّها تَسْعى:} تمشي، وذلك: أنهم لطخوا الحبال والعصي، فلما ضربت عليها الشمس، اضطربت، فخيل إلى موسى: أنها تسعى، فرأى أن الأرض قد امتلأت حيات، وكانت قد أخذت ميلا في ميل من كلّ جانب.
الإعراب: {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى (موسى). {بَلْ:} حرف إضراب. {أَلْقُوا:}
أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ..}. إلخ:
الفاء: حرف عطف وتعقيب، وخذ ما قاله السيوطي في «همع الهوامع» ، فقد قال رحمه الله تعالى: اختلف في هذه الفاء. فقال المازني: هي زائدة لازمة للتوكيد؛ لأن الفجائية فيها معنى الاتباع، ولذا وقعت في جواب الشرط موقع الفاء، وهذا ما اختاره ابن جني. وقال مبرمان: هي عاطفة لجملة (إذا) ومدخولها على الجملة قبلها، واختاره الشّلوبين الصغير، وأيده أبو حيان بوقوع (ثم) موقعها في قوله تعالى:{ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} وقال الزجاج: دخلت على حد دخولها في جواب الشرط. انتهى. أي: للسببية المحضة وفي مغني اللبيب نحو هذا.
(إذا): كلمة دالة على المفاجأة هنا، وهي تختص بالجمل الاسمية، ولا تحتاج إلى جواب، ولا تقع في الابتداء، ومعناها الحال لا الاستقبال، نحو خرجت فإذا الأسد بالباب؛ وهي حرف عند الأخفش وابن مالك، ويرجحه:(خرجت فإذا إنّ زيدا بالباب) لأن (إنّ) لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وظرف مكان عند المبرد، وابن عصفور، وظرف زمان عند الزجاج، والزمخشري، وزعم الأخير: أن عاملها فعل مشتق من لفظ المفاجأة، ولا يعرف هذا لغير الزمخشري، وإنما ناصبها الخبر المذكور في نحو: خرجت فإذا زيد جالس. أو المقدر في نحو: (فإذا الأسد) أي:
حاضر، وإذا قدرت: أنها الخبر؛ فعاملها: مستقر، أو استقر، ولم يقع الخبر معها في التنزيل إلا مصرحا به. انتهى. ملخصا من مغني اللبيب.
{حِبالُهُمْ:} مبتدأ. {وَعِصِيُّهُمْ:} معطوف على ما قبله، والهاء فيهما ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {يُخَيَّلُ:} مضارع مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى «الكيد» وعلى قراءته بالتاء فنائب الفاعل يعود إلى:«الحبال، والعصي» وهما بمعنى: الملقى، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ على اعتبار (إذا) حرفا، وفي محل نصب حال من «الحبال، والعصي» على اعتبار (إذا) ظرفا متعلقا بمحذوف خبر مقدم. {إِلَيْهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ سِحْرِهِمْ:}
متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بما بعدهما، وهو أجود، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، (أنها): حرف مشبه بالفعل، و (ها): اسمها. {تَسْعى:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، والفاعل يعود إلى «الحبال، والعصي» والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أنّ)، والمصدر المؤول من {أَنَّها تَسْعى} في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بكونها تسعى، أو في محل رفع بدل من نائب الفاعل المستتر بدل الاشتمال، أو هو نفسه نائب فاعل، التقدير: يخيل إليه سعيها، أو في محل نصب حال على حذف مضاف.
التقدير: تخيل الحبال ذات سعي، اعتبارات على حسب القراءات. تأمل، وتدبر، والكلام:{بَلْ أَلْقُوا..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ} المراد به: العصا، وإنما أبهمه، ولم يقل:«عصاك» تحقيرا لها؛ أي: لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، وألق العويدة التي في يدك. أو أبهمه تعظيما لها؛
أي: لا تحتفل بكثرة الأجرام وعظمها، فإن في يمينك ما هو أعظم منها أثرا، فألقه. {تَلْقَفْ} أي: تأخذ، وتبتلع. ومثله: تلقم، وتلهم، واللقف: الأخذ بسرعة، ورجل لقف ثقف؛ أي:
خفيف حاذق. ويقرأ برفعه، وجزمه، ويقرأ «(تلقّف)» بتشديد القاف، أصله: تتلقّف. هذا؛ والتّلقّي، والتّلقّف، والتّلقّن معان متقاربة خلا أنّ في الأول: معنى الاستقبال، وفي الثاني:
معنى الخطف، والأخذ بسرعة، وفي الثالث: معنى الحذق، والمهارة.
{إِنَّما صَنَعُوا} أي: إن الذي زوروا، وافتعلوا، {كَيْدُ ساحِرٍ:} ويقرأ «(كيد سِحر).» {وَلا يُفْلِحُ السّاحِرُ} أي: لا يفوز، ولا ينجو، وإنما أفرده؛ لأن المراد الجنس، ونكر الأول: لتنكير المضاف، وعرف الثاني: على حد قوله تعالى في سورة (المزمل): {إِنّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ..} . إلخ {حَيْثُ أَتى:} حيث كان وأين أقبل.
وانظر شرح: {أَتى} في الآية رقم [9].
أما {حَيْثُ} فهي ظرف مكان، وهي مبنية، وإنما بنيت؛ لأنها لا تدل على موضع بعينه، ولأن ما بعدها من تمامها، كالصلة من الموصول، وبنيت على حركة؛ لأن ما قبل آخرها ساكن، وكان الضم أولى بحركتها؛ لأنها غاية، فأعطيت غاية الحركات، وهي الضمة؛ لأنها أقوى الحركات. وقيل: بنيت على الضم؛ لأن أصلها حوث. فدلت الضمة على الواو، ويجوز فتحها، وفي «حيث» ستّ لغات بالياء مع الضم، والفتح، والكسر، وبالواو مع الضم، والفتح، والكسر، وهي: حيث، وحيث، وحيث، وحوث، وحوث، وحوث.
الإعراب: {وَأَلْقِ:} الواو: حرف عطف. (ألق): أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {فِي يَمِينِكَ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَأَلْقِ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها فهي في محل نصب مقول القول أيضا. {تَلْقَفْ:} مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للطلب، وجزمه عند الجمهور بشرط محذوف، التقدير: إن تلق
…
تلقف. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: تلقف الذي، أو شيئا صنعوه. هذا؛ وعلى رفع الفعل {تَلْقَفْ..} . إلخ فجملته مستأنفة، أو في محل نصب حال من {ما} والرابط: الضمير فقط.
{إِنَّما:} (إن): حرف مشبه بالفعل، و (ما): اسمها، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: إن الذي، أو شيئا صنعوه. {كَيْدُ:} خبر (إنّ) وهو مضاف، و {ساحِرٍ:} مضاف إليه. هذا؛ ويقرأ بنصب كيد، على أنّ (إنما) كافة، ومكفوفة،
وهو مفعول به، والجملة على جميع الاعتبارات تعليل لما قبلها، لا محل لها. الواو: واو الحال. (لا): نافية، وجملة:{وَلا يُفْلِحُ السّاحِرُ} في محل نصب حال من {كَيْدُ ساحِرٍ} والرابط: الواو فقط، أو هي مستأنفة، لا محل لها. {حَيْثُ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، وهو مبني على الضم في محل نصب. وجملة:{أَتى} في محل جر بإضافة {حَيْثُ} إليها هذا، وإن اعتبرت {ما} مصدرية في الموضعين، فهي تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب؛ ويكون التقدير: تلقف صنعهم، إن صنعهم كيد ساحر، ولكن الاعتبار الأول: أظهر كما هو واضح، كما يجوز فتح همزة (إنّ) ولكن لم يقرأ به، وتؤوّل بمصدر في محل جر بلام تعليل محذوفة، والكلام كله في محل نصب مقول القول. تأمل.
{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70)}
الشرح: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً} أي: خروا ساجدين لله تعالى، وذلك بعد أن ألقى موسى عصاه، وتلقفت جميع ما صنعوه، فتحقق عندهم: أنه ليس بسحر، وإنما هو من آيات الله، ومعجزة من معجزاته، فإنّ ما صنعوه كان حمل ثلاثمائة بعير، فابتلعته ثم عادت عصا لا يعلم أحد أين ذهبت الحبال والعصي إلا الله تعالى، وروي: أنها لما تلقفت الحبال والعصي وابتلعتها بأسرها، أقبلت على الحاضرين، فهربوا، وازدحموا حتى هلك جمع عظيم منها. وانظر الآية رقم [116] من سورة (الأعراف) ففيها فضل بيان.
هذا؛ وروي: أن السحرة لم يرفعوا رءوسهم من السجود حتى رأوا الجنة والنار، والثواب والعقاب، ورأوا منازلهم في الجنة. وقال الزمخشري رحمه الله تعالى: ما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم، وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رءوسهم بعد ساعة للشكر، والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين. {قالُوا آمَنّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى:} قدم هارون لكبر سنه، أو لروي الآية، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {فَأُلْقِيَ:} الفاء حرف استئناف، أو حرف عطف. (ألقي): ماض مبني للمجهول.
{السَّحَرَةُ:} نائب فاعله. {سُجَّداً} حال من السحرة، والجملة الفعلية مستأنفة، أو هي معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: فألقى موسى عصاه، فتلقفت كل ما صنعوه، فألقي السحرة.
لا محل لها على الاعتبارين. {قالُوا:} ماض، وفاعله والألف للتفريق. {آمَنّا:} فعل فاعل.
{بِرَبِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، ورب مضاف، و {هارُونَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة، والإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَمُوسى:} معطوف على هارون مجرور مثله، والجملة
الفعلية: {آمَنّا..} . إلخ في محل نصب مقول القول وجملة: {قالُوا..} . إلخ في محل نصب حال أخرى من (السحرة) والرابط: الضمير فقط، وهو الواو.
الشرح: {قالَ آمَنْتُمْ..} . إلخ وفي (الأعراف): {آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ..} . إلخ. يقال: آمن بالله، وآمن به، وآمن له، فهو إنكار منه عليهم؛ أي: تعديتم، وفعلتم ما لم آمركم به. {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} أي: رئيسكم في التعليم، وإنما غلبكم؛ لأنه أحذق به منكم، وأبرع، وإنما أراد فرعون بقوله هذا ليشبه على الناس؛ حتى لا يتبعوهم، فيؤمنوا كإيمانهم، وإلا فقد علم:
أنهم لم يتعلموا من موسى، بل قد علموا السحر قبل قدوم موسى وولادته، ولا تنس: أنه قال في سورة (الأعراف) بعد هذا القول: {إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها} .
{فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ:} قرئت الأفعال هنا وفي سورة (الأعراف) بفتح الهمزة، وتخفيف النون، والمراد: بقوله: {مِنْ خِلافٍ:} اليد اليمنى، والرجل اليسرى. قيل: إنه أول من سن ذلك، فشرعه الله للبغاة، وقطاع الطريق تعظيما لجرمهم، ولذا سماه محاربة الله ورسوله، ولكن على التعاقب لفرط رحمته، انظر الآية رقم [33] من سورة (المائدة). {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أي: على جذوع النخل؛ لأن «في» بمعنى: «على» قال سويد بن أبي كاهل اليشكري: [الطويل]
هم صلبوا العبديّ في جذع نخلة
…
فلا عطست شيبان إلاّ بأجدعا
وقيل: هي على بابها؛ لأن الجذع مكان للمصلوب، ومحتو عليه. قيل: إنه نقر جذوع النخل حتى جوفها، ووضعهم فيها فماتوا جوعا، وعطشا بعد أن قطع الأيدي والأرجل، وهذا كله لم يصرفهم عن الإيمان بالله، ورسوله. {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى:} فهو يريد نفسه، وموسى عليه السلام، وموسى لم يعذب أحدا، فهو يريد تحقير موسى، والهزء به؛ لأنه لم يكن من التعذيب في شيء، والفعل يحتمل أن يكون قلبيا، وأن يكون عرفانيا، {وَأَبْقى:} أطول عذابا، وأدومه، فحذف التمييز لدلالة ما قبله عليه.
بعد هذا انظر شرح (النخل) في الآية رقم [24] وما بعدها من سورة (إبراهيم) عليه السلام تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. وانظر شرح (اليد) في الآية رقم [63] من سورة (مريم). وانظر شرح (السحر) في الآية رقم [57]. أما {عَذاباً} فهو اسم مصدر لا مصدر؛ لأن المصدر تعذيب؛ لأن الفعل عذب، يعذب بتشديد الذال فيهما. وقيل: هو مصدر على حذف الزوائد، مثل:
سلام، وعطاء، ونبات، من: سلّم، وأعطى، وأنبت.
أما (لتعلمنّ): فأصل الفعل: تعلمون، فلما دخله التوكيد صار:«لتعلموننّ» فحذفت نون الرفع لتوالي الأمثال، فصار:«لتعلمونّ» فحذفت واو الجماعة لالتقائها ساكنة مع نون التوكيد، وبقيت الضمة على الميم لتدل على واو الجماعة المحذوفة، فصار:«لتعلمنّ» أما {آمَنْتُمْ} فأصله: أأمنتم، قلبت الهمزة الثانية مدا مجانسا لحركة الأولى، كما قلبت في إيمان، فإن أصله:
إئمان، وكما قلبت في: أومن، فإن أصله: أؤمن ومثل «آمن» في إعلاله «آذن» و «آدم» ونحوهما.
الإعراب: {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى فرعون. {آمَنْتُمْ:} فعل، وفاعل. {لَهُ:}
متعلقان بما قبلهما. {قَبْلَ:} ظرف زمان متعلق بما قبله. {أَنْ آذَنَ:} مضارع منصوب ب: {أَنْ} والفاعل مستتر تقديره: «أنا» ، و {أَنْ} والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بإضافة {قَبْلَ} إليه. {لَكُمْ:} متعلقان بما قبلهما. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {لَكَبِيرُكُمُ:}
اللام: هي المزحلقة. (كبيركم): خبر (إن) والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:
{إِنَّهُ..} . إلخ تعليل لإيمانهم في نظر الخبيث فرعون. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع بدل، أو عطف بيان من (كبيركم). {عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ:} ماض، ومفعولاه، والفاعل يعود إلى الذي، وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها.
{فَلَأُقَطِّعَنَّ:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ إذ التقدير: وإذا كان قد حصل منكم هذا فلأ
…
إلخ، واللام واقعة في جواب قسم محذوف، تقديره: والله.
(أقطعن): مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب قسم مقدر. {أَيْدِيَكُمْ:}
مفعول به. {وَأَرْجُلَكُمْ:} معطوف على ما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {مِنْ خِلافٍ:}
متعلقان بمحذوف حال من: {أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} بمعنى: مختلفات، وجملة:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} معطوفة على ما قبلها، وإعرابها مثلها.
{وَلَتَعْلَمُنَّ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة المدلول عليها بالضمة فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها مع ملاحظة الإعراب في هذا الفعل والبناء في الفعلين السابقين. {أَيُّنا:} اسم استفهام مبتدأ، و (نا): في محل جر بالإضافة. {أَشَدُّ:} خبره. {عَذاباً:} تمييز. {وَأَبْقى:} معطوفة على {أَشَدُّ} مرفوع مثله، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، وفاعلهما مستتر وجوبا تقديره:«هو» ، والجملة الاسمية في محل نصب سدت مسد مفعولي الفعل (لتعلمن) المعلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام إن كان الفعل علميا، أو مفعوله الواحد إن كان عرفانيا، كما رأيت. هذا؛ ويجوز اعتبار {أَيُّنا} اسما موصولا مبتدأ بمعنى: الذي، وبنيت على الضم؛ لأنها قد أضيفت، وحذف صدر صلتها، و {أَشَدُّ} خبر مبتدأ محذوف، والجملة الاسمية صلة ل:(أي) وتكون أي: في محل نصب مفعول به للفعل
(لتعلمن) على اعتباره متعديا لواحد فقط، ويكون الكلام على مثال قوله تعالى:{ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا} من سورة (مريم) عليها السلام، وجملة:{وَلَتَعْلَمُنَّ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا؛ لأنها جواب لقسم مقدر أيضا، بعد هذا فالآية بكاملها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {قالُوا} أي: السحرة لفرعون. {لَنْ نُؤْثِرَكَ:} لن نختارك. {عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ:}
من المعجزات الواضحات. وانظر ما رأوا في الآية قبل السابقة. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما:
يريد ما جاءنا من العلم واليقين. {وَالَّذِي فَطَرَنا} أي: لا نختارك على الذي خلقنا، وإنما أخروا ذكره تعالى؛ لأنه من باب الترقي من الأدنى، إلى الأعلى. {فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ} أي: فاصنع ما أنت صانعه، وافعل ما أنت فاعله من القطع والصلب، ونحوهما. {إِنَّما تَقْضِي..}. إلخ: إنما تصنع ما تريد، وتهواه في أمور هذه الحياة الدنيا، وسيزول عن قريب، وقد زال بعونه تعالى.
بعد هذا انظر {الْقَوْلُ} في الآية رقم [16] من سورة (الإسراء)، وشرح:(قضينا) في الآية رقم [4] منها، ولقد وصف الله تعالى في هذه الآية وغيرها الحياة التي يحياها ابن آدم بالدنيا لدناءتها، وحقارتها، وأنها لا تساوي عنده جناح بعوضة، ورحم الله الحريري إذ يقول:[الكامل]
يا خاطب الدّنيا الدّنيّة إنّها
…
شرك الرّدى، وقرارة الأكدار
دار متى ما أضحكت في يومها
…
أبكت غدا تبّا لها من دار
أو هي من الدنو، وهو القرب؛ لأنها في متناول يد الإنسان ما دام حيا.
أما أصل «قاض» فهو: قاضي بكسرة على الياء علامة للجر، أو بضمة علامة للرفع، وبتنوين الصرف، لكن استثقلت الكسرة، أو الضمة على الياء بعد كسرة، فسكنت الياء، فالتقى ساكنان:
الياء والتنوين، فحذفت الياء لعلة الالتقاء، وبقيت الضاد مكسورة على ما كانت عليه قبل الإعلال، فقيل: قاض بالكسرة، وإنما لم يقل بالرفع لأن الياء محذوفة لعلة الالتقاء، فهي كالثابتة، فتمنع الرفع للضاد، وهكذا قل في إعلال كل اسم منقوص مجرد من ال، والإضافة، سواء كان ثلاثيا، أم رباعيا؟
الإعراب: {قالُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق. وانظر الآية رقم [26] من سورة (مريم).
{لَنْ:} حرف نفي، ونصب، واستقبال. {نُؤْثِرَكَ} مضارع منصوب ب:{لَنْ} والفاعل مستتر تقديره: «نحن» ، و (نا): مفعول به. {عَلى ما:} متعلقان بما قبلهما، و {ما} تحتمل الموصولة،
والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر. {جاءَنا} ماض، ومفعوله، والفاعل يعود إلى (ما)، وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها. {مِنَ الْبَيِّناتِ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، ومن بيان لما أبهم في {ما}. {وَالَّذِي:} الواو: حرف عطف.
(الذي): اسم موصول مبني على السكون في محل جر معطوف على {ما} وأجيز اعتبار الواو، واو القسم، والذي مقسما به، وجواب القسم محذوف، التقدير: وحق الذي فطرنا لا نؤثرك، وجملة:
{فَطَرَنا} صلة الموصول، لا محل لها. {فَاقْضِ:} الفاء: هي الفصيحة. (اقض): أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:
«أنت» . {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {أَنْتَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {قاضٍ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: اقض الذي أنت قاضيه، والجملة الفعلية هذه لا محل لها؛ لأنها جواب شرط مقدر ب:«إذا» التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا منا؛ فاقض
…
إلخ.
{إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {تَقْضِي:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» .
{هذِهِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل نصب على الظرفية الزمانية متعلق بالفعل قبله، والمفعول محذوف، التقدير: إنما تقضي غرضك في هذه الحياة. وعلى الثاني و (ما) نفسها اسم (إنّ) والتقدير: إنّ الذي تقضيه نافذ في هذه الحياة. أو اسم الإشارة مفعول به على الاتساع، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {الْحَياةَ:} بدل من {هذِهِ} أو عطف بيان عليه. {الدُّنْيا:} صفة الحياة مجرور مثله، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف للتعذر. هذا؛ وأجيز اعتبار (إنّ) عاملة.
و (ما) تحتمل المصدرية والموصولة، فعلى الأول: تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب اسم (إنّ) والخبر محذوف، وهو متعلق الظرف، التقدير: إن قضاءك نافذ في هذه الحياة، وعلى الثاني ف:(ما) نفسها اسم (إنّ) والتقدير: إنّ الذي تقضيه نافذ في هذه الحياة ويكون العائد محذوفا، وقد قدرته، وجملة:{إِنَّما..} . إلخ تعليلية لما قبلها، وقول القرطبي: وأجاز الفراء الرفع على أنّ تجعل (ما) بمعنى: «الذي» وتحذف الهاء من تقضي، ورفعت {هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا} ولكنني لم أجد من قرأ بالرفع، وأخيرا فالكلام كله في محل نصب مقول القول وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {إِنّا آمَنّا بِرَبِّنا} أي: صدقنا بالله وحده لا شريك له، وأن ما جاء به موسى هو الحق. {لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا} أي: من الشرك، والمعاصي، وعمل السحر. {وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ}
السِّحْرِ: المراد به إتيانهم من المدائن القاصية، أو تعليمهم صغارا، فأما حين حضروا، وقابلوا موسى عليه السلام فلم يكونوا مكرهين بإلقاء حبالهم وعصيهم بدليل قولهم في سورة (الشعراء) لفرعون {أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنّا نَحْنُ الْغالِبِينَ} وقولهم فيها:{وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ} {وَاللهُ خَيْرٌ} أي: ثوابه خير. {وَأَبْقى} أي: عذابا، فيكون المعنى: الله خير ثوابا من ثوابك؛ إن أطعناه، وأبقى عقابا؛ إن عصيناه.
تنبيه: وإنما آمن السحرة؛ لأنهم أيقنوا: أنّ ما فعلته العصا من التقام حبالهم، وعصيهم ليس من فعل السحر، ولا يقدر على مثله البشر، وقد جرت سنة الله أن يتحدى القوم المكذبين بجنس ما برع به أولئك القوم، فقوم فرعون برعوا بالسحر، وكان فاشيا فيهم، فلما فعلت العصا ما فعلت، فأول من عرف: أن ذلك من صنع القوي القادر هم السحرة، وقوم عيسى عليه السلام برعوا في الطب، فلما أبرأ الله الأكمه والأبرص وأحيا الموتى على يده، فأول من عرف: أن ذلك من صنع القوي القاهر هم الأطباء، وقوم محمد صلى الله عليه وسلم كانوا فرسان الفصاحة، والبلاغة، وقد برعوا بقول الشعر، والخطابة، ونحوهما، فلما جاء القرآن الكريم؛ أخرس فصحاءهم، وأسكت بلغاءهم، وقصة سماع عتبة بن ربيعة، وسماع الوليد بن المغيرة القرآن مشهورة مسطورة؛ حتى قال الوليد: إن له لحلاوة، وإن عليه، لطلاوة وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وإنه يعلو، ولا يعلى عليه، والفضل ما شهدت به الأعداء.
الإعراب: {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، وحذفت نونها للتخفيف، وبقيت الألف دليلا عليها. {آمَنّا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر إن. {بِرَبِّنا:}
متعلقان بالفعل قبلهما، و (نا): في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لِيَغْفِرَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وهي تؤوّل مع الفعل بمصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما أيضا، والفاعل يعود إلى (ربنا). {لَنا:} متعلقان بما قبلهما. {خَطايانا:} مفعول به منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، و (نا): في محل جر بالإضافة.
{وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب معطوف على خطايانا. {أَكْرَهْتَنا:} فعل، وفاعل، ومفعول به. {عَلَيْهِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد: الضمير المجرور محلا ب: (على). {مِنَ السِّحْرِ:} متعلقان بمحذوف حال من العائد، و {مِنَ} بيان لما أبهم في (ما). هذا؛ وأجيز اعتبار (ما) مبتدأ والخبر محذوف، تقديره: والذي أكرهتنا. مخطوط، أو موضوع عنا، وعليه فالجملة الاسمية في محل نصب حال من (نا)، والرابط: الواو، والضمير. وقيل:(ما) نافية، وليس بسديد. {وَاللهُ:} مبتدأ. {خَيْرٌ:} خبره. {وَأَبْقى:} معطوف على ما قبله مرفوع مثله، وعلامة
رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية معترضة، أو مستأنفة، لا محل لها.
هذا؛ والآية بكاملها في محل نصب مقول القول.
{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74)}
الشرح: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ..} . إلخ: هذه الآية وما بعدها يحتمل أن تكون من قول السحرة، ويحتمل أن تكون من قول الله تعالى، ومعنى الإتيان: الموت على الشرك، والموت على الإصرار على المعاصي، {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ..}. إلخ: وهذا حال الكافر المكذب؛ إذا أدخل جهنم لا يخرج منها أبدا، ولا يموت فيها فيستريح، ولا يحيا حياة طيبة، ولا يعيش عيشة هنيئة. وانظر ما ذكرته في هذا الصدد في الآية رقم [17] من سورة (إبراهيم) عليه السلام.، ولا تنس:
المطابقة بين {يَمُوتُ} و {يَحْيى} .
هذا؛ وألفت النظر إلى أن التعبير عن الكافرين يكثر بالظالمين، والمجرمين، والمعتدين، والفاسقين، والمسرفين، وغير هذا، ويتهددهم بالعذاب الأليم، ويتوعدهم بالعقاب الشديد، وإننا نجد الكثير من المسلمين يتصفون بهذه الصفات، فهل يوجه إليهم هذا التهديد وهذا الوعيد؟ الحق أقول: نعم يوجه إليهم ما ذكر، وهم أحق بذلك، ولا سيما من قرأ القرآن، واطلع على أحوال الأمم السابقة، وما جرى لهم مع رسلهم، والله أعلم. هذا؛ ويجوز في العربية فتح همزة (إن) الثانية وكسرها، انظر الآية رقم [54] من سورة (الأنعام)، والآية رقم [4] من سورة (الحج)، ولكني لم أطلع على قراءتين في هذه الآية.
الإعراب: {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير الشأن اسمها. {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَأْتِ:} مضارع فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى {مَنْ} .
{رَبَّهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {مُجْرِماً:} حال من فاعل {يَأْتِ} . {فَإِنَّ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إن):
حرف مشبه بالفعل. {لَهُ:} متعلقان بمحذوف خبر (إنّ) تقدم على اسمها. {جَهَنَّمَ:} اسمها مؤخر. {لا:} نافية {يَمُوتُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (من). {فِيها:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المجرور باللام، أو من جهنم؛ لأن في الجملة ضمير كل منهما، وجملة:{وَلا يَحْيى} مع المتعلق المحذوف معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها، والجملة الاسمية:{فَإِنَّ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو {مَنْ} مختلف فيه، فقيل: جملة الشرط وقيل: جملة الجواب. وقيل: الجملتان، وهو المرجح
لدى المعاصرين، والجملة الاسمية:{مَنْ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)؛ ومثل الآية الكريمة في وقوع الجملة الشرطية خبرا لأن قول الأخطل التغلبي النصراني وقد حذف اسم إن: [الخفيف]
إنّ من يدخل الكنيسة يوما
…
يلق فيها جآذرا وظباء
وأيضا قول الأعشى ميمون من قصيدة يمدح فيها قيس بن معديكرب: [الخفيف] إنّ من لام في بني بنت حسّا
…
ن ألمه، وأعصه في الخطوب
هذا؛ والجملة الاسمية: {إِنَّهُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، إن كانت من مقول السحرة، ومستأنفة، لا محل لها إن كانت من قول الله عز وجل.
{وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75)}
الشرح: {وَمَنْ يَأْتِهِ} أي: ربه. {مُؤْمِناً} أي: مات على الإيمان، وذكر العمل الصالح احتراس حتى لا يفهم منه أن الإيمان وحده ينيل صاحبه الدرجات الرفيعة في الجنة، والمراد:
بالصالحات على اختلاف أنواعها، وتفاوت مراتبها مع الكف عن المعاصي والسيئات على اختلاف أنواعها، وتفاوت مراتبها كلاهما بحسب القدرة والاستطاعة. قال تعالى:{فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} من سورة (التغابن). {فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ:} المنازل الرفيعة في الجنة، و {الْعُلى} جمع: العليا، مثل كبرى، وكبر، وصغرى، وصغر، ولا تنس: أنه قد روعي لفظ (من) في صدر الآية، وروعي معناها في آخرها.
الإعراب: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً} انظر الآية السابقة. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {عَمِلَ:} ماض، والفاعل يعود إلى (من). {الصّالِحاتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، وجملة:{قَدْ عَمِلَ..} . إلخ في محل نصب حال ثانية، من فاعل (يأت) المستتر، أو هي في محل نصب حال من الضمير المستتر في {مُؤْمِناً} فتكون حالا متداخلة. وقيل: الجملة صفة {مُؤْمِناً،} وهو ضعيف؛ لأنه صفة لموصوف محذوف. {فَأُولئِكَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لَهُمُ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الدَّرَجاتُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{فَأُولئِكَ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط
…
إلخ. وانظر تتمة الإعراب في الآية السابقة، والجملة الاسمية:{وَمَنْ يَأْتِهِ..} . إلخ معطوفة على مثلها في الآية السابقة، فهي في محل رفع مثلها. {الْعُلى:} صفة الدرجات مرفوع مثله، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر.
{جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكّى (76)}
الشرح: {جَنّاتُ عَدْنٍ..} . إلخ: انظر الآية رقم [60] من سورة (مريم)، و {الْأَنْهارُ} جمع نهر.
وانظر الآية رقم [33] من سورة (الكهف). {خالِدِينَ فِيها:} ماكثين، مقيمين، لا يخرجون منها أبدا. {وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكّى} أي: تطهر من الكفر، والمعاصي، فعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أهل الدرجات العلى، ليراهم من تحتهم، كما ترون النّجم الطالع في أفق السماء، وإن أبا بكر، وعمر منهم، وأنعما» . أخرجه الترمذي. أي: زادا، وتناهيا في الفضل إلى غايته. هذا؛ ومن قال: إن الآيات الثلاث من كلام السحرة، لعلهم سمعوه من موسى عليه السلام، أو من بني إسرائيل، وكان فيهم المؤمن من آل فرعون، كما يحتمل أن يكون ذلك إلهاما من الله لهم أنطقهم بذلك لما آمنوا. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {جَنّاتُ:} بدل من الدرجات العلى، وأجيز اعتباره خبرا لمبتدإ محذوف، و {جَنّاتُ} مضاف، و {عَدْنٍ} مضاف إليه. {تَجْرِي:} مضارع مرفوع
…
إلخ. {مِنْ تَحْتِهَا:}
متعلقان بالفعل قبلهما، وها: في محل جر بالإضافة. {الْأَنْهارُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع صفة {جَنّاتُ}. {خالِدِينَ:} حال من الضمير المجرور باللام منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وفاعله مستتر فيه. {فِيها:} متعلقان ب: {خالِدِينَ} . {وَذلِكَ:} الواو: حرف استئناف. (ذلك):
اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {جَزاءُ:} خبر المبتدأ، وجزاء مضاف، و {مِنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، وجملة:{تَزَكّى} مع المتعلق المحذوف، صلة {مِنْ،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط: عود الضمير إليها.
الشرح: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنا..} . إلخ: وهذا الإيحاء والأمر بالسير كان بعد ثلاثين سنة أقامها موسى بينهم يدعوهم إلى توحيد الله، فلم يزدادوا إلا عتوا، وعنادا على كثرة المعجزات التي رأوها على يد موسى عليه السلام، وقد فصل ذلك في سورة (الأعراف) في الآية رقم [136] وما بعدها. هذا؛ وانظر شرح «أسرى» في الآية رقم [1] من سورة (الإسراء)، والمراد: ب: (عبادي) بنو إسرائيل، والإضافة إضافة تشريف. وانظر الآية رقم [1] من سورة (الإسراء) أيضا.
{فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً} أي: فاجعل لهم طريقا في البحر يبسا، وهذا كان حين أمره الله أن يضرب بعصاه البحر في قوله تعالى من سورة (الشعراء):{فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ}
بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، وقد أيبس الله لهم أرض البحر، فلم يبق فيه ماء، ولا طين، وأرسل الله الهواء عليه، فلم يبق في أرض البحر التي ساروا فيها رطوبة قطعا.
قال أبو العتاهية الصوفي: [البسيط]
ما بال دينك ترضى أن تدنّسه
…
وثوبك الدّهر مغسول من الدّنس
ترجو النّجاة، ولم تسلك طريقتها
…
إنّ السّفينة لا تجري على اليبس
{لا تَخافُ دَرَكاً:} لحاقا من فرعون، وجنوده. ويقرأ الفعل بالجزم. وانظر الإعراب. {وَلا تَخْشى} أي: غرقا، فقد روي: أن فرعون لما لحقهم قرب البحر. قالوا: هذا فرعون قد أدركنا بجيشه، وهذا البحر أمامنا، فقال الله لموسى ليطمئن قومه:{لا تَخافُ..} . إلخ. هذا؛ والدرك بفتح الدال وتسكن: اللّحاق كما رأيت، وإدراك الحاجة، وأقصى قعر الشيء، ومنه قوله تعالى:
{إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ} الآية رقم [145] من سورة (النساء). وانظر شرح (نا) في الآية رقم [49] من سورة (مريم) عليها السلام.
الإعراب: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى} انظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية رقم [56]. {أَنْ:}
حرف تفسير. {أَسْرِ} أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {بِعِبادِي:} متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة وجملة:{أَنْ أَسْرِ..} . إلخ مفسرة للإيحاء. وانظر الآية رقم [39] حيث جوز اعتبار {أَنْ} مصدرية. (اضرب): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لَهُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {طَرِيقاً:} مفعول به. {فِي الْبَحْرِ:}
متعلقان بمحذوف صفة {طَرِيقاً} . {يَبَساً:} صفة ثانية، أو هو حال من {طَرِيقاً} بعد وصفه بما تقدم، والجملة الفعلية:{فَاضْرِبْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها على الاعتبارين فيها، والكلام:
{وَلَقَدْ..} . إلخ مستأنف، لا محل له. {لا:} نافية. {تَخافُ:} مضارع، والفاعل أنت.
{دَرَكاً:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل (اضرب) المستتر، والرابط:
الضمير فقط. هذا؛ ويقرأ الفعل بالجزم في جواب الأمر، أو ب:{لا} الناهية، والجملة الفعلية لا محل لها على الاعتبارين. هذا؛ والفعل:{تَخْشى} معطوف على ما قبله بحالة الرفع، وحالة الجزم، ففي حالة الرفع فالأمر بين، وفي حالة الجزم، فالجملة الفعلية في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: وأنت لا تخشى، والجملة الاسمية هذه في محل نصب حال من فاعل تخاف. والرابط: الواو، والضمير. هذا؛ وأجيز اعتباره مجزوما بعطفه على ما قبله، واعتبار الألف الثابتة للإطلاق على حد قوله تعالى:{فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} وقوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا} وانظر {يَتَّقِ:} في الآية رقم [90] من سورة (يوسف) عليه الصلاة والسلام.
الشرح: بعد أن أهلك الله فرعون وجنوده، وأنجى بني إسرائيل ذكرهم الله في هذه الآية
نعمته عليهم، ولعلك تدرك معي: أن موسى عليه السلام لقي منهم عناء، وذلك لما طبعوا عليه من خبث، ومكر، وفسوق. {وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ:} هذا الوعد كان لطلب التوراة التي وعدهم إياها موسى قبل إهلاك فرعون وجنوده، وإنما قال:(واعدناكم) لأنها اتصلت بهم حيث كانت لنبيهم، ورجعت منافعها إليهم، وبها قوام دينهم، وشريعتهم، وفيها أفاض الله عليهم من سائر نعمه، وأرزاقه، وبقيت دستورهم، ومصدر حكمهم حتى جاء عيسى عليه السلام بالإنجيل، وما أحراك أن تنظر ما حصل لهم عند ما سمعوا كلام الله تعالى في الآية رقم [155] من سورة (الأعراف)، أما {الْمَنَّ} فكان ينزل عليهم مثل الثلج من الفجر إلى طلوع الشمس، لكل إنسان صاع، وهو أحلى من السكر، و (السلوى) نوع من الطير يسمى السّمانى، فحشره عليهم ريح الجنوب فيذبح الرجل ما يكفيه، وعياله، وهذا كان في التيه المذكور في الآية رقم [26] من سورة (المائدة). هذا؛ والكلام يحتمل أن يكون في محل نصب مقول القول، كما يحتمل أن يكون من تذكير اليهود الموجودين في عهد محمد صلى الله عليه وسلم، بما أنعم الله على آبائهم الأولين، وكذلك التوبيخ، والتقريع الموجه إليهم بما فعل آباؤهم من عبادة العجل، ونقض العهود، وخلف الوعود، وغير ذلك من سيئ الأفعال، وفاحش الفعال، والأقوال.
وانظر شرح {إِسْرائِيلَ} في الآية رقم [2] من سورة (الإسراء)، وشرح (عدو) في الآية رقم [39]، وانظر شرح (الوعد) في الآية رقم [54] من سورة (مريم) على نبينا، وحبيبنا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام.
الإعراب: {يا بَنِي:} (يا): حرف نداء ينوب مناب: «أدعو» . (بني): منادى منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر، وحذفت النون للإضافة، و (بني): مضاف، و {إِسْرائِيلَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة، أو التركيب المزجي. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَنْجَيْناكُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، أو هي في محل نصب حال من {بَنِي إِسْرائِيلَ،} والرابط: الضمير فقط، والعامل (يا)، لما فيها من معنى الفعل. {مِنْ عَدُوِّكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {وَواعَدْناكُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به أول. {جانِبَ:} مفعول به ثان وهو على حذف مضاف؛ أي: إتيان جانب، والجملة الفعلية: معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها، و {جانِبَ:} مضاف، و {الطُّورِ:} مضاف إليه. {الْأَيْمَنَ:} صفة جانب. {وَنَزَّلْنا:} فعل، وفاعل. {عَلَيْكُمُ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الْمَنَّ:} مفعول به.
{وَالسَّلْوى:} معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وأخيرا فالآية في محل نصب مقول القول، أو هي مستأنفة، لا محل لها، انظر الشرح. هذا؛ وقرئ «الأيمن» بالجر على الجوار، أفاده الزمخشري.
الشرح: {كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ} أي: من حلاله، أو من لذائذه، والمراد: المن، والسلوى اللذان نزلا عليهم في التيه. {وَلا تَطْغَوْا فِيهِ} أي: لا تعصوا الله تعالى؛ لأن الطغيان:
التجاوز إلى ما لا يجوز. وقيل: المعنى: لا تكفروا النعمة، ولا تنسوا شكر المنعم بها عليكم.
وقيل: لا تدخروا. {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} أي: يجب، أو ينزل. {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى} أي: هلك، وسقط في النار.
هذا؛ وذكر القرطبي عن شفيّ بن ماتع الأصبحي حديثا موقوفا عليه: «إنّ في جهنّم جبلا يدعى: صعودا، يطلع الكافر فيه أربعين خريفا قبل أن يرقاه. قال الله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} وإنّ في جهنّم قصرا، يقال له: هوى يرمى الكافر من أعلاه، فيهوي أربعين خريفا قبل أن يبلغ أصله، فالله تعالى يقول: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى» ،} ولا تنس: أن في الآية التفاتا من متكلم الجماعة إلى متكلم الواحد، انظر الالتفات في الآية رقم [22] من سورة (النحل) وانظر شرح {ثُمَّ} في الآية رقم [53] منها. هذا؛ ويقرأ الفعلان (يحل) و {يَحْلِلْ} بضم الحاء وكسرها، وفرق بينهما في المعنى، فقيل: معنى الأول: ينزل، ومعنى الثاني: يجب.
الإعراب: {كُلُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِنْ طَيِّباتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {طَيِّباتِ} مضاف. و {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة، أو مصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: طيبات الذي، أو شيء رزقناكموه، وعلى اعتبار {ما} مصدرية، تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالإضافة، التقدير: من طيبات رزقنا لكم، وجملة:{كُلُوا..} . إلخ في محل نصب مقول القول لقول محذوف. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية. {تَطْغَوْا:} مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {فِيهِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {فَيَحِلَّ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد الفاء السببية. {عَلَيْكُمْ:} متعلقان بما قبلهما. {غَضَبِي:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: لا يكن منكم طغيان فحلول غضب عليكم.
{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.
{يَحْلِلْ:} فعل الشرط. {غَضَبِي:} فاعله مرفوع. {فَقَدْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.
(قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {هَوى:} ماض، وفاعله يعود إلى (من)، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه كما رأيت في الآية رقم [74] والجملة الاسمية:{وَمَنْ يَحْلِلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وهي من جملة مقول القول المحذوف.
{وَإِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اِهْتَدى (82)}
الشرح: {وَإِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ:} من الشرك، ومن المعاصي. {وَآمَنَ} أي: بالله الإيمان الصحيح، وآمن بجميع الرسل، وجميع الكتب السماوية، وبوجود الملائكة، وباليوم الآخر، والقضاء والقدر خيره وشره من الله تعالى. {وَعَمِلَ صالِحاً:} صلى، وصام، وحجّ، وزكى، وعمل أنواع البر والخيرات. {ثُمَّ اهْتَدى:} ثم استقام، وثبت على ما ذكر. وانظر الآية رقم [60] من سورة (مريم) عليها السلام، ففيها فضل زيادة. وانظر تبديل سيئات التائبين بحسنات في الآية رقم [70] من سورة (الفرقان).
الإعراب: {وَإِنِّي:} الواو: واو الحال. (إني): حرف مشبه بالفعل. وياء المتكلم اسمها.
{لَغَفّارٌ:} اللام: هي المزحلقة. (غفار): خبر (إنّ). {لِمَنْ:} متعلقان بغفار، و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر باللام، وجملة:{تابَ} مع المتعلق المحذوف صلة (من)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: رجوع الفاعل إليها. وجملة:
{وَآمَنَ} مع المتعلق المحذوف معطوفة عليها، وكذلك جملة:{وَعَمِلَ صالِحاً} وجملة:
{اِهْتَدى} معطوفتان عليها، والجملة الاسمية:{وَإِنِّي لَغَفّارٌ..} . إلخ في محل نصب حال من فاعل: {يَحْلِلْ} والرابط: الواو، والضمير، وهو أقوى من الاستئناف. تأمل، وتدبر.
الشرح: {وَما أَعْجَلَكَ} أي: وما حملك على العجلة، {عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى:} وذلك: أنّ موسى عليه السلام، اختار من قومه سبعين رجلا يذهبون معه إلى جبل الطور ليأخذوا التوراة التي وعده بها ربه، ووعد هو بها بني إسرائيل كما رأيت في الآية رقم [154] من سورة (الأعراف)، فسار بهم حتى قارب الجبل، ثم عجل السير من بينهم شوقا إلى ربه، وتركهم خلفه وأمرهم أن يتبعوه إلى الجبل على هيئتهم، فقال له ربه:{وَما أَعْجَلَكَ..} . إلخ فأجاب ربه قال:
{هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي} أي: هم خلفي يلحقون بي، وليس بيني وبينهم إلا مسافة قصيرة. ويقرأ:
{أَثَرِي} بفتحتين، وبكسر وسكون، لغتان، وهما بمعنى: واحد.
{وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى} أي: عجلت إلى الموضع الذي أمرتني بالمسير إليه لترضى عني؛ لأن المسارعة إلى امتثال أمرك، والوفاء بعهدك يوجب مرضاتك. هذا؛ وإنما أجاب موسى عليه السلام بجوابين: أوّلهما كان همّ موسى بسط العذر، وتمهيد السبب في نفس ما أنكر عليه، فاعتذر بأنه لم يوجد منه إلا تقدم يسير عن رفقته وهذا يحصل بين الرفقة في غالب الأحيان، ثم أعقبه بالجواب الثاني، وهو الموافق للسؤال. وينبغي أن تعلم: أن السؤال يقع من الله، لكنه ليس لاستدعاء المعرفة، بل إما لتعريف غيره، أو لتبكيته، أو تنبيهه، كما صرح به الراغب، وظاهره: أنه ليس بمجاز كما يقول التلميذ: سألني الأستاذ عن كذا ليعرف فهمي، ونحو ذلك. انتهى جمل.
وانظر ما ذكرته بشأن العجلة في الآية رقم [1] من سورة (النحل) تجد ما يسرك.
الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَعْجَلَكَ:} ماض، والكاف مفعول به، والفاعل يعود إلى (ما). {عَنْ قَوْمِكَ:}
متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة، (يا): أداة نداء تنوب مناب: «أدعو» .
(موسى): منادى مبني على الضم المقدر على الألف في محل نصب ب: (يا)، والآية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: قال الله: وما أعجلك
…
إلخ. {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {مُوسى}. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.
{أُولاءِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ ثان. {عَلى أَثَرِي:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ الأول، والياء في محل جر بالإضافة، وهذا الإعراب إنما هو على مذهب البصريين. هذا؛ وأجيز اعتبار الجار والمجرور متعلقين بمحذوف خبر ثان للمبتدإ، أو في محل نصب حال من اسم الإشارة. وأما الكوفيون؛ فهم يعتبرون اسم الإشارة موصولا وهو الخبر، والجار والمجرور صلته، والجملة الاسمية على الاعتبارين في محل نصب مقول القول. {وَعَجِلْتُ:} فعل، وفاعل. {إِلَيْكَ:} متعلقان بما قبلهما. {رَبِّ:} انظر الآية رقم [25]{لِتَرْضى:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، و «أن» المضمرة بعد لام التعليل والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل: عجلت، وعليه فالجملة الندائية معترضة بينهما، وجملة:{وَعَجِلْتُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها فهي في محل نصب مقول القول مثلها، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{قالَ فَإِنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ (85)}
الشرح: {قالَ} أي: قال الله: {فَإِنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} أي: ابتليناهم بعبادة العجل بعد خروجك من بينهم، وهم الذين خلف عليهم هارون، وكانوا ستمائة ألف، ما نجا من عبادة
العجل منهم إلا اثنا عشر ألفا. وقيل: المعنى: ألقيناهم في الفتنة، ولذا قال موسى عليه السلام:
{إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ} وهذا يعود إلى أنّ الله هو الفاعل لأعمال العبد. {وَأَضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ:} وإنما أضاف الله الضلال إلى السامري؛ لأنهم ضلوا بسببه. ويقرأ: «(أضلّهم)» بضم اللام مشددة؛ أي:
أشدهم ضلالة. هذا؛ والسامري اسمه موسى بن ظفر، اختلف في نسبته، اختلافا كبيرا. وقال الجمل نقلا عن شيخه: منسوب إلى سامرة قبيلة من بني إسرائيل، كان منافقا، وكان قد ربّاه جبريل عليه السلام؛ لأن فرعون لما شرع في ذبح الولدان كانت المرأة من بني إسرائيل تأخذ ولدها وتلقيه في حفيرة، أو كهف من جبل، أو غير ذلك، وكانت الملائكة تتعهد هذه الأطفال بالتربية حتى يكبروا، فيدخلوا بين الناس، وكان موسى السامري ممّن تعهده جبريل عليه السلام، فكان يغذيه من أصابعه الثلاثة، فيخرج له من أحدها لبن، ومن الأخرى سمن، ومن الثالثة عسل. انتهى. وهذا القول ذكره الثعلبي في قصص الأنبياء، وكثير من المفسرين، ومن محفوظي قديما هذان البيتان:[الطويل]
إذا المرء لم يخلق سعيدا تخلّفت
…
ظنون مربّيه، وخاب المؤمّل
فموسى الذي ربّاه جبريل كافر
…
وموسى الذي ربّاه فرعون مرسل
الإعراب: {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى (الله). {فَإِنّا:} الفاء: زائدة لتحسين اللفظ.
(إنا): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال.
{فَتَنّا:} فعل، وفاعل. {قَوْمَكَ:} مفعول به. والكاف في محل جر بالإضافة. {مِنْ بَعْدِكَ:}
متعلقان بمحذوف حال من قومك، وهو أقوى من تعليقهما بالفعل، وجملة:{قَدْ فَتَنّا..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَأَضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ:} ماض، ومفعوله، وفاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {قَوْمَكَ} والرابط: الواو، والضمير، وهي على تقدير قد قبلها، وعلى القراءة الثانية فالجملة اسمية، وتبقى في محل نصب حال.
الشرح: {فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً:} الأسف: شدة الحزن، ورجوعه كان بعد أن أتم أربعين يوما كما رأيت في الآية رقم [142] من سورة (الأعراف) وأخذ التوراة. {قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً:} وعدهم الله عز وجل الجنة؛ إذا أقاموا على طاعته، وعدهم أن يسمعهم كلامه في التوراة على لسان موسى ليعملوا بما فيها، فيستحقوا ثواب عملهم. وقيل:
وعدهم النصر، والظفر. هذا؛ والغضب: تغير مزاج الإنسان، واحمرار عينيه، وانتفاخ، أوداجه، وهو مذموم إلا إذا كان لله تعالى. وهذا شأن الأنبياء، فكانوا لا يغضبون إلا إذا انتهكت حرمات الله تعالى.
فعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرّت عيناه، وعلا صوته، واشتدّ غضبه، كأنه منذر جيش، يقول:«صبّحكم ومسّاكم» . ويقول: «بعثت أنا والسّاعة كهاتين» . ويقرن بين إصبعيه: السبابة والوسطى، ويقول:«أمّا بعد فإنّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة» . رواه مسلم.
{أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} أي: مدة مفارقتي لكم. {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أي: أردتم أن تفعلوا فعلا تستحقون الغضب من ربكم بسببه، وذلك هو ما بدر منكم، وهو عبادة العجل. {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} أي: ما وعدتموني به من الثبات على الطاعة، والتمسك بعرى الإيمان.
الإعراب: {فَرَجَعَ:} الفاء: حرف استئناف. {فَرَجَعَ مُوسى:} ماض، وفاعله. {إِلى قَوْمِهِ:}
متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {مُوسى،} وهو أقوى، والهاء في محل جر بالإضافة. {غَضْبانَ أَسِفاً:} حالان من {مُوسى،} وجملة: {فَرَجَعَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {مُوسى}. {يا قَوْمِ:} إعرابه مثل إعراب «رب» في الآية رقم [35] مع ملاحظة حذف أداة النداء هناك، وإثباتها هنا. {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وتوبيخ. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَعِدْكُمْ:} مضارع مجزوم ب: (لم)، والكاف مفعول به أول. {رَبُّكُمْ:} فاعل، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَعْداً:} مفعول به ثان، إن كان بمعنى: الموعود، أو هو مفعول مطلق إن كان على ظاهره. {حَسَناً:} صفة {وَعْداً} . {أَفَطالَ:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي أيضا. (طال): ماض. {عَلَيْكُمُ:} متعلقان به. {الْعَهْدُ:} فاعله. {أَمْ:} حرف عطف. {أَرَدْتُمْ:} فعل، وفاعل. والمصدر المؤول من {أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ} في محل نصب مفعول به. {مِنْ رَبِّكُمْ:} متعلقان بمحذوف صفة {غَضَبٌ} والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {فَأَخْلَفْتُمْ:} الفاء: حرف عطف وسبب.
(أخلفتم): فعل، وفاعل. {مَوْعِدِي:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر الميمي لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. هذا؛ والجمل {يا قَوْمِ..} . إلخ كلها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.
الشرح: {قالُوا} أي: مجيبين لموسى عليه السلام حين وبخهم على عبادة العجل. {ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا:} بقدرتنا، وطاقتنا، أو بإرادتنا، وهو يقرأ بتثليث الميم. {وَلكِنّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} أي: حملنا أحمالا من حلي القبط التي استعرناها منهم حين هممنا بالخروج من مصر باسم عرس، أو بحجة عيد لنا، ثم لم يردوها عند الخروج مخافة أن يعلموا بهم. وقيل:
هي ما ألقاه البحر على الساحل بعد إغراقهم، فأخذه بنو إسرائيل، ولعلهم سموها، أوزارا؛ لأنها آثام، فإن الغنائم لم تكن تحل لهم، أو؛ لأنهم كانوا مستأمنين، وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي إذا كان مستأمنا.
{فَقَذَفْناها} أي: في النار. {فَكَذلِكَ أَلْقَى السّامِرِيُّ} أي: ما كان معه منها. روي أنّ السامري قال لهم حين استبطأ القوم موسى: إنما احتبس عليكم من أجل ما معكم من الحلي، فجمعوه وأعطوه للسامري، فرمى به في النار، فذاب الذهب، وصاغ لهم منه عجلا، ثم ألقى عليه قبضة تراب من أثر فرس جبريل، عليه السلام. وكان الخبيث قد رأى فرس جبريل عند سوقه القبط لا يدوس على تراب إلا نبت الحشيش مكان قدمه فأخذ تلك القبضة، واحتفظ بها. وقال: سيكون لها شأن. فعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: مر هارون بالسامري، وهو يصنع العجل، فقال: ما هذا؟ فقال: ينفع، ولا يضر، فادع لي، فقال هارون عليه السلام: اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه، فألقى قبضة التراب في جوفه، فجعل يخور، وهو ما في الآية التالية.
الإعراب: {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {ما:} نافية. {أَخْلَفْنا:} فعل، وفاعل. {مَوْعِدَكَ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر الميمي لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {بِمَلْكِنا:} متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال من (نا)، والمعنى لا يؤيده. و (نا): في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، ومفعوله محذوف؛ إذ التقدير: بملكنا الصواب، أو بملكنا قدرتنا. {وَلكِنّا:} الواو: حرف عطف. (لكنّا):
حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، وحذفت نونها، وبقيت ألفها. {حُمِّلْنا:} ماض، ونائب فاعله، أو هو ماض، وفاعله على قراءة التخفيف. {أَوْزاراً:} مفعول به ثان. {مِنْ زِينَةِ:} متعلقان بمحذوف صفة {أَوْزاراً،} و {زِينَةِ:} مضاف، و {الْقَوْمِ} مضاف إليه، وجملة:{حُمِّلْنا..} . إلخ في محل رفع خبر (لكنّ)، والجملة الاسمية:{وَلكِنّا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها.
{فَقَذَفْناها:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وقبلها كلام مقدر؛ أي: فقال لنا السامري اقذفوها في النار
…
إلخ. {فَكَذلِكَ:} الفاء: حرف
عطف. الكاف: حرف جر. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف عامله ما بعده، التقدير: ألقى السامري ما معه من الحلي إلقاء كائنا مثل إلقائنا حلينا، والكلام كله معطوف على ما قبله، والآية بكاملها في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قالُوا ما أَخْلَفْنا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم.
{فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88)}
الشرح: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً} أي: من تلك الحلي المذابة. {لَهُ خُوارٌ} أي: صوت كصوت البقر، وقرئ:«(جؤار)» وهو بمعنى: الأول، واختلفوا: هل كان الجسد حيا من لحم ودم، أم هو تمثال من ذهب قولان: أحدهما لم يكن من لحم ودم؛ لأنه لا يجوز إظهار خرق العادة على يد ضال، بل صور السامري صورة على شكل عجل، وجعل فيه منافذ ومخاريق بحيث إذا دخل الهواء فيها صوت كصوت العجل، الثاني: أنه صار حيا، وهو قول الحسن، وقتادة، والسدي. أقول: وهذا أقرب إلى الصواب؛ لأنه لو بقي جمادا لم يكن فيه خرق للعادة، وكان العجل إذا خار؛ سجدوا له.
{فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ..} . إلخ: أي: قال السامري، ومن افتتن بالعجل أول ما رأوه. وقيل:
عكفوا عليه، وأحبوه حبا لم يحبوا شيئا قط مثله. {فَنَسِيَ} أي: قال السامري: إن موسى نسي إلهه، وتركه هنا، وذهب يطلبه. هذا؛ وقد روي: أن موسى عليه السلام لما رأى العجل المصنوع من ذهب قال: يا رب هذا السامريّ أخرج لهم عجلا جسدا له خوار من حليهم، فمن جعل الجسد والخوار؟ قال الله تبارك وتعالى: أنا. قال موسى-على نبينا وعليه ألف ألف صلاة، وألف ألف سلام-: وعزّتك، وجلالك، وارتفاعك، وعلوّك، وسلطانك ما أضلّهم غيرك! قال: صدقت يا حكيم الحكماء! وانظر شرح {جَسَداً} في الآية [8] من سورة (الأنبياء).
الإعراب: {فَأَخْرَجَ:} الفاء: حرف استئناف. (أخرج): ماض، والفاعل يعود إلى (السامري). {لَهُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {عِجْلاً:} مفعول به، {جَسَداً:} صفة؛ أي:
عجلا مجسدا، وقول الجمل: هو حال من {عِجْلاً} غير واضح إلا أن يكون قد صار علما بالغلبة، وهو غير مسلم، واعتباره بدلا جيد. {لَهُ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {خُوارٌ:}
مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب صفة ثانية، أو في محل نصب حال من {عِجْلاً} بعد وصفه بما تقدم، وجملة:{فَأَخْرَجَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. وقيل: معطوفة على جملة: {وَأَضَلَّهُمُ..} . إلخ وهو ضعيف جدا. {فَقالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق.
{هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له.
{إِلهُكُمْ:} خبر المبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة. {وَإِلهُ:} معطوف على الخبر، و (إله) مضاف، و {مُوسى} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {فَنَسِيَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {مُوسى} بزعمهم، ومفعوله محذوف، التقدير: فنسي {مُوسى} إلهه هنا. وقيل: يعود الضمير إلى السامري، فيكون التقدير: فترك السامري ما كان عليه من الإيمان بالله تعالى، وعلى هذا فالجملة مستأنفة، لا محل لها، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، وجملة:{فَقالُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: {فَأَخْرَجَ..} . إلخ لا محل لها مثلها.
{أَفَلا يَرَوْنَ أَلاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89)}
الشرح: {أَفَلا يَرَوْنَ:} يعتبرون، ويفكرون. {أَلاّ يَرْجِعُ..}. إلخ: أي: أن العجل لا يرد لهم جوابا إذا دعوه، ولا يكلمهم. {وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً:} فكيف يكون إلها؟! والذي يعبده موسى عليه السلام يضر، وينفع، ويثيب، ويعذب، ويعطي، ويمنع. وهذا توبيخ لليهود إلى يوم القيامة حيث عبدوا ما لا يملك ضر من ترك عبادته، ولا ينفع من عبده، وكان العجل ابتلاء ابتلى الله به بني إسرائيل. وانظر (رجع) في الآية رقم [86].
الإعراب: {أَفَلا:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي تقريعي. الفاء: حرف استئناف. (لا):
نافية. {يَرَوْنَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله. {أَلاّ:} (أن): حرف مشبه بالفعل مخفف من الثقيلة، واسمه ضمير الشأن محذوف، التقدير: أنه؛ أي: العجل. (لا): نافية. {يَرْجِعُ:} مضارع مرفوع، وفاعله يعود إلى «العجل» .
{إِلَيْهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {قَوْلاً:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أن) و (أن) المخففة واسمها المحذوف، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، التقدير:
أفلا يرون عدم رجوعه بالقول، وقدر القرطبي: في أنه
…
إلخ، وهو ضعيف. هذا؛ ويقرأ بنصب الفعل، وضعفه القاضي البيضاوي، وجملة:{وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): زائدة لتأكيد النفي.
{نَفْعاً:} معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية:{أَفَلا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ} أي: قبل رجوع موسى من الميقات، أو حين عكفوا على عبادة العجل. {يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ} أي: اختبرتم وامتحنتم بعبادة العجل، أو ضللتم
بعبادته. {وَإِنَّ رَبَّكُمُ:} الحقيقي المستحق للعبادة هو المسمى: {الرَّحْمنُ} . {فَاتَّبِعُونِي:} في عبادة الرحمن. {وَأَطِيعُوا أَمْرِي:} في ترك عبادة العجل.
قال الخازن-رحمه الله تعالى-: اعلم: أن هارون عليه السلام سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه؛ لأنه زجرهم أولا عن الباطل بقوله: {إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ} ثم دعا إلى معرفة الله تعالى بقوله: {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ} ثم دعاهم إلى معرفة النبوة بقوله: {فَاتَّبِعُونِي} ثم دعاهم إلى اتباع الشرائع بقوله: {وَأَطِيعُوا أَمْرِي} فهذا هو الترتيب الجيد؛ لأنه لا بد من إماطة الأذى عن الطريق، وهي إزالة الشبهات، ثم معرفة الله، فإنها هي الأصل، ثم النبوة، ثم الشريعة، وإنما قال:{وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ} فخص هذا الموضع بهذا الاسم؛ لأنه ينبههم على أنهم متى تابوا؛ قبل الله توبتهم؛ لأنه هو التواب الرحيم. فقابلوا هذا القول بالإصرار، والجحود. انتهى.
الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره: أقسم. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [37]. واللام:
واقعة في جواب القسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {قالَ:} ماض.
{لَهُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {هارُونُ:} فاعل. {مِنْ قَبْلُ:} متعلقان بالفعل قبلهما وقيل:
متعلقان بمحذوف حال، وليس بشيء، وبني {قَبْلُ} على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى.
{يا قَوْمِ:} انظر إعراب (رب) في الآية رقم [25] ففيه الكفاية. {إِنَّما:} كافة ومكفوفة.
{فُتِنْتُمْ:} ماض مبني على السكون مبني للمجهول، والتاء نائب فاعله. {بِهِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَإِنَّ:} الواو: واو الحال. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {رَبَّكُمُ:} اسمها، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {الرَّحْمنُ:} خبر (إنّ)، والجملة الاسمية في محل نصب حال من تاء الفاعل، والرابط: الواو، والضمير. {فَاتَّبِعُونِي:}
الفاء: هي الفصيحة. وانظر الآية رقم [12]. (اتبعوني): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ما قلته صحيحا فاتبعوني، وجملة:{وَأَطِيعُوا..} . إلخ معطوفة عليها لا محل لها. {أَمْرِي:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. هذا؛ والكلام:
{يا قَوْمِ..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَلَقَدْ قالَ..} . إلخ جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف، لا محل له، وفيه معنى التأكيد للكلام السابق.
{قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91)}
الشرح: {قالُوا} أي: مجيبين لهارون عليه السلام. {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ:} لا نزال مقيمين على عبادة العجل. {حَتّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى:} كأنهم قالوا: لن نقبل حجتك؛ حتى يعود
موسى، فننظر: هل يعبده كما عبدناه؟ فتوهموا: أن موسى يعبده؛ لأن السامري قال لهم: «هذا إلهكم وإله موسى فنسيه هنا» كما رأيت. وهددوه بالقتل، كما ستعرفه، فاعتزلهم هارون في اثني عشر ألفا، من الذين لم يعبدوا العجل، فلما رجع موسى عليه السلام، وسمع الصياح والجلبة، -وكانوا يرقصون حول العجل-قال للسبعين الذين معه: هذا صوت الفتنة. فلما رأى هارون أخذ شعر رأسه بيمينه، ولحيته بشماله غضبا وصار يجره إليه كما في الأعراف [150]، وكان عليه الصلاة والسلام حديدا، خشنا، متصلبا في كل شيء، فكيف إذا انتهكت حرمات الله؟! لذا لم يتمالك حين رأى قومه يعبدون العجل عيانا؛ حتى فعل بهارون ما فعل.
الإعراب: {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {لَنْ:} حرف نفي، ونصب، واستقبال. {نَبْرَحَ:} مضارع ناقص، واسمه مستتر تقديره:«نحن» . {عَلَيْهِ:} متعلقان بما بعدهما. {عاكِفِينَ:} خبر {نَبْرَحَ} منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {حَتّى:} حرف غاية وجر. {يَرْجِعَ:}
مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد حتى. {إِلَيْنا:} متعلقان به. {مُوسى:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى} والجار والمجرور متعلقان بعاكفين، أو هما متعلقان بمحذوف خبر ثان، وجملة:
{لَنْ نَبْرَحَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول. وجملة: {قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا} كفروا بعبادة العجل. {أَلاّ تَتَّبِعَنِ} أي: تتبع أمري، ووصيتي، وهلاّ قاتلتهم، وأنت تعلم أني لو كنت فيهم لقاتلتهم على كفرهم. وقيل:
معناه ما منعك من اللحوق بي، وإخباري بكفرهم وضلالهم، فتكون مفارقتك إياهم زجرا لهم عما أتوه وعذرا عند الله تعالى؟!. {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي:} يريد: أن مقامك بينهم مع ما رأيت منهم مخالفة لأمري، ووصيتي. قيل: إن أمره ووصيته ما ذكر في الآية رقم [142] من سورة (الأعراف)، فلما أقام معهم، ولم يبالغ في منعهم نسبه إلى عصيانه، ومخالفة، أوامره، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {قالَ:} ماض والفاعل يعود إلى {مُوسى} عليه السلام، (يا): أداة نداء تنوب مناب أدعو. (هارون): منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب بيا. {ما:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {مَنَعَكَ:} ماض، والفاعل يعود إلى {ما،} والكاف مفعول به. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل قبله. {رَأَيْتَهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها، وجملة ضلوا في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الضمير فقط، وهي
على تقدير «قد» قبلها. {أَلاّ:} (أن): حرف ناصب. (لا): صلة للتوكيد. {تَتَّبِعَنِ:} مضارع منصوب ب: (أن)، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة، أو الثابتة في قراءة أخرى مفعول به، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، و (أن) المصدرية، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: من اتباعي. والجار والمجرور متعلقان بالفعل، (منع) على أنهما مفعوله الثاني، وهذه الآية مثل الآية رقم [12] من سورة (الأعراف). هذا؛ والجملة الفعلية:
{مَنَعَكَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{ما مَنَعَكَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، ويقدر قبلها كلام محذوف، فلما رجع موسى ورأى ما رأى قال
…
إلخ. {أَفَعَصَيْتَ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. الفاء:
حرف عطف على محذوف. (عصيت): فعل، وفاعل. {أَمْرِي:} مفعول به
…
إلخ، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول أيضا. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي:} ناداه بذلك مع كونهما شقيقين للأبوين استعطافا، وتلطفا، وأدخل في الرقة، والرحمة. هذا؛ ويقرأ بكسر الميم، وفتحها، وكسر اللام، وفتحها، وكسر اللام أقوى. {إِنِّي خَشِيتُ:} خفت. {أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ} أي: إن فارقتهم، وتبعتك فربما اقتتلوا بسبب اختلافهم في عبادة العجل، فتلومني على ذلك، وقد وعظتهم، ونصحتهم، فلم يأبهوا بذلك؛ لأنهم استضعفوني وقد همّوا بقتلي. وهو فحوى آية (الأعراف) رقم [150]. {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} أي: لم تعمل بوصيتي حين قلت لك: اخلفني في قومي، وأصلح وارفق بهم، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
بعد هذا فاللحية: شعر الخدين، والذقن، وجمعها لحى، ومنبتها يقال له: لحي. وانظر خشي في الآية رقم [80] من سورة (الكهف) وشرح {الْقَوْلُ} في الآية رقم [16] من سورة (الإسراء) وشرح (بين) في الآية رقم [45] منها، وشرح (إسرائيل) في الآية [2] منها أيضا، وشرح (أم) في الآية رقم [78] من سورة (النحل).
الإعراب: {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى (هارون). (يا): أداة نداء تنوب مناب: «أدعو» .
(ابن): منادى، وهو مضاف، و (أم) مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة والمدلول عليها بالكسرة على قراءة كسر الميم، وعلى فتحها، فتكون ياء المتكلم قد قلبت ألفا، ثم حذفت للتخفيف، والفتحة على الميم تدل على الألف المحذوفة.
هذا؛ وحذف هذه الألف يكثر في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم إذا كان (ابن أم)، أو (ابن عم) والثاني: وارد في الشعر العربي كقول الشاعر: [الرجز]
كن لي، لا عليّ يا بن عمّا
…
نعش عزيزين؛ ونكف الهمّا
وهذه الألف الثابتة للإطلاق، وليست المنقلبة عن ياء المتكلم، وقد ثبتت وليست للإطلاق، وهو من القليل، وذلك في قول أبي النجم الفضل بن قدامة العجلي:[الرجز]
يا ابنة عمّا لا تلومي، واهجعي
…
لا يخرق اللوم حجاب مسمعي
البيت الأول: هو الشاهد رقم [434] والثاني: هو الشاهد [436] من كتابنا فتح رب البرية إعراب شواهد جامع الدروس العربية.
{لا تَأْخُذْ:} مضارع مجزوم ب: {لا} الناهية، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {بِلِحْيَتِي:}
متعلقان بما قبلهما. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية داخلة على فعل محذوف، {بِرَأْسِي} متعلقان به؛ إذ التقدير: ولا تأخذ برأسي، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة في الاسمين. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، والياء في محل نصب اسمها. {خَشِيتُ:} ماض، وفاعله. {أَنْ تَقُولَ:} مضارع منصوب ب: {أَنْ} والفاعل تقديره: «أنت» . {فَرَّقْتَ:} فعل، وفاعل. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، وبين مضاف، و {بَنِي} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {بَنِي} مضاف، و {إِسْرائِيلَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة، وجملة:{فَرَّقْتَ بَيْنَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول. {وَلَمْ:} الواو: حرف عطف. (لم): حرف جازم. {تَرْقُبْ:} مضارع مجزوم ب: (لم)، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {قَوْلِي:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، وجملة:
{وَلَمْ تَرْقُبْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا هذا؛ و {أَنْ تَقُولَ} في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، وجملة:{خَشِيتُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{إِنِّي خَشِيتُ..} . إلخ فيها معنى التعليل للنهي. وأخيرا فالجمل كلها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {قالَ} أي: موسى. {فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ} أي: ما أمرك وشأنك، وما الذي حملك على ما صنعت؟ قال قتادة: كان السامري عظيما في بني إسرائيل، من قبيلة يقال لها:
سامرة، ولكن عدو الله نافق بعد ما قطع البحر مع موسى. فلما مرت بنو إسرائيل بالعمالقة، وهم
يعكفون على أصنام لهم {قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ} الآية [133] من سورة (الأعراف)، فاغتنمها السامري، وعلم أنهم يميلون إلى عبادة العجل، فاتخذ العجل. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [85].
{قالَ} أي: السامري مجيبا لموسى. {بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} أي: رأيت ما لم يروه، رأيت جبريل عليه السلام راكبا على فرس لا يمس شيئا إلا حيي من نبات، أو غيره، فألقي في نفسي أن أقبض من أثره قبضة، فما ألقيت منها على شيء إلا صار له روح ولحم ودم، فلما سألوك أن تجعل لهم إلها زينت لي نفسي ذلك. هذا؛ ويقرأ الفعل:«(بما لم تبصروا)» بالتاء أي:
علمت بما لم تعلموا، وفطنت لما لم تفطنوا له، وبصر من الباب الخامس كما هو مشاهد.
{فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ:} ويقرأ بالصاد، والفرق بينهما أن القبض بجميع الكف، والقبص بأطراف الأصابع، ونحوهما: الخصم، والقصم، والصاد، والضاد، تتعاقبان في كثير من الكلمات، مثل قولك: عاد إلى ضئضئه، وصئصئه؛ أي: أصله، ومناص، ومناض بمعنى:
واحد. قال تعالى: {وَلاتَ حِينَ مَناصٍ} وأنقاض، وأنقاص بمعنى: واحد، ومضمض، ومصمص لسانه كلاهما بمعنى: حركه.
والمراد: بالرسول: جبريل عليه السلام، ولعله لم يسمه باسمه؛ لأنه لم يعرف: أنه جبريل، أو أراد أن ينبه على الوقت الذي رآه فيه، وهو حين جاء جبريل إلى موسى ليبلغه الذهاب إلى جبل الطور. وهنا مضافان محذوفان؛ إذ التقدير: فقبضت قبضة من أثر حافر فرس الرسول، ومثل هذه الآية قول كلحبة العرني اليربوعي:[الطويل]
فأدرك إرقال العرادة ظلعها
…
وقد جعلتني من حزيمة إصبعا
فإن التقدير: جعلتني من حزيمة مقدار مسافة إصبع، وهذا البيت هو الشاهد رقم:[1057] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» .
{فَنَبَذْتُها} أي: ألقيتها، وطرحتها في فم العجل المصنوع من ذهب، فخار. {وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي:} زينت لي ذلك نفسي، وهواي، وجاء لفظ سولت في الآية رقم [18] و [83] من سورة (يوسف) على حبيبنا، وشفيعنا عليه ألف ألف سلام، وألف ألف صلاة، وإعظام بهذا المعنى.
الإعراب: {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى موسى عليه السلام. {فَما:} الفاء: زائدة لتحسين اللفظ. (ما): اسم استفهام إنكاري مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.
{خَطْبُكَ:} خبره، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية مع الجملة الندائية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى السامري. {بَصُرْتُ:} فعل، وفاعل. {بِما:} متعلقان بما قبلهما، و (ما)
تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بالباء، وجملة:{لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلا بالباء. {فَقَبَضْتُ:}
فعل، وفاعل. {قَبْضَةً:} مفعول مطلق إن كانت مصدرا بمعنى: المرة، ومفعول به وإن كانت بمعنى: المقبوض. {مِنْ أَثَرِ:} متعلقان ب: {قَبْضَةً} أو بمحذوف صفة لها، و {أَثَرِ} مضاف، والرسول مضاف إليه.
{فَنَبَذْتُها:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة معطوفة على ما قبلها. {وَكَذلِكَ:}
الواو: حرف استئناف، (كذلك): جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، التقدير: سولت لي نفسي تسويلا كائنا مثل ذلك الذي صنعته، وأظهرته، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. وانظر تفصيل الإعراب في الآية [87] {سَوَّلَتْ:}
ماض، والتاء للتأنيث. {لِي:} متعلقان بما قبلهما. {نَفْسِي:} فاعل مرفوع
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة، وأخيرا فالجمل في الآية كلها في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {قالَ فَاذْهَبْ} أي: قال له موسى. {فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ} أي: لا أمسّ أحدا، ولا يمسني أحد طول الحياة، فنفاه موسى عليه السلام عن قومه، وأمر بني إسرائيل جميعا ألا يخالطوه، ولا يقربوه، ولا يكلموه عقوبة له، فمنع من مخالطة الناس منعا كليا، ومن كل ما يعايش به الناس بعضهم بعضا، وإذا اتفق أن يمس أحدا، رجلا، أو امرأة؛ حمّ الماسّ والممسوس، فتحامى الناس، وتحاموه. قال الشاعر:[الطويل]
تميم كرهط السّامريّ وقوله
…
ألا لا يريد السامريّ مساسا
وقد جعل الله عقوبته في الدنيا بأن جعله لا يماس أحدا، ولا يمكن من أن يمسه أحد، ويقال: ابتلي بالوسواس. وأصل الوسواس من ذلك الوقت. وقال قتادة: بقاياه إلى اليوم يقولون ذلك؛ أي: {لا مِساسَ:} وانظر الآية رقم [120] وقد هرب السّامريّ بعد ذلك، وعاش بقية حياته مع الوحش في البرية، وهذه الآية دليل واضح في نفي أهل البدع والمعاصي، وهجرانهم، وعدم مخالطتهم، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بكعب بن مالك، وصاحبيه الذين تخلفوا عن الخروج معه إلى غزوة تبوك كما رأيت في الآية رقم [118] من سورة (التوبة). هذا؛ وقرئ بكسر السين على وزن: فجار، وقطام، ورقاش. قال لجيم بن صعب والد حنيفة، وعجل:[الوافر]
إذا قالت حذام فصدّقوها
…
فإنّ القول ما قالت حذام
{وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ:} المراد به يوم القيامة الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين للحساب والجزاء، وقرئ الفعل بفتح اللام وكسرها وقرئ:«(لن يخلفه)» على إسناده لله عز وجل.
{وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً} أي: مقيما على عبادته، وتعظيمه، وتقديسه، و {ظَلْتَ} أصله: ظللت: فحذفت اللام الأولى تخفيفا. وانظر شرح (ظلوا
…
) إلخ في الآية رقم [14] من سورة (الحجر) تجد ما يسرك، والمراد: به هنا الاستمرار.
{لَنُحَرِّقَنَّهُ} أي: بالنار، ويقرأ بتشديد الراء وتخفيفها، وبكسرها، وضمّها مع التخفيف.
وقيل: المعنى لنبردنه بالمبارد، ويقال للمبرد: المحرق. قال السّدّيّ: ذبح العجل، فسال منه الدم، كما يسيل من العجل الحقيقي؛ إذا ذبح، ثم برد عظامه بالمبرد، وحرّقه. {ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ:}
لنذرينه، ولنطيرنه. {فِي الْيَمِّ:} في البحر. والغاية من ذلك: زيادة عقوبته، وإهانته، وإظهار غباوة الذين فتنوا به لمن له أدنى نظر. فلما حرّقه، وذراه في البحر، شرب بعضهم من مائه حبا له، فظهرت على شفاهم صفرة الذهب. وانظر رقم [105] الآتية.
الإعراب: {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى موسى عليه السلام. {فَاذْهَبْ:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنه أفصحت عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ذلك قد حصل منك؛ فاذهب. وهو أولى من اعتبارها زائدة هنا. (اذهب): أمر، وفاعله مستتر، والجملة الفعلية جواب الشرط المقدر ب «إذا». {فَإِنَّ:} الفاء حرف تعليل. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {لَكَ فِي الْحَياةِ:}
كلاهما متعلقان بمحذوف خبر مقدم على الإفراد أو على التعدد، ويجوز اعتبار:{فِي الْحَياةِ} متعلقين بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المقدر. والمصدر المؤوّل من: {أَنْ تَقُولَ} في محل نصب اسم (إنّ) مؤخر. {لا:} نافية للجنس تعمل عمل: (إنّ). {مِساسَ:} اسم {لا} مبني على الفتح في محلّ نصب وعلى قراءته بالكسر؛ فهو مبني على الكسر في محل نصب اسمها. واعتباره اسم فعل أمر مثل: دراك، ونزال، وقتال غير وجيه هنا معنى. وخبر {لا} محذوف، تقديره: حاصل لي، ونحوه. والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول.
{وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً:} خبر (إنّ) متعلق. {لَكَ،} واسمها المؤخر: {مَوْعِداً} . والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في معنى التعليل مثلها. {لَنْ تُخْلَفَهُ:} مضارع منصوب ب {لَنْ} على جميع القراءات، ونائب فاعله تقديره:«أنت» ، وهو المفعول الأول، والهاء مفعوله الثاني، أو فاعله مستتر، تقديره:«أنت» ، أو فاعله مستتر، تقديره:«نحن» ، والجملة الفعلية في محل نصب صفة {مَوْعِداً}. (انظر): أمر، وفاعله مستتر، تقديره:«أنت» . {إِلى إِلهِكَ:} متعلقان به، والكاف في محل جرّ بالإضافة. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محلّ جر صفة:
{إِلهِكَ} أو بدل منه. {ظَلْتَ:} ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {عَلَيْهِ:}
متعلقان بما بعدهما. {عاكِفاً:} خبر {ظَلْتَ} . والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها.
{لَنُحَرِّقَنَّهُ:} مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، التي هي حرف لا محل له، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» والهاء مفعول به، والجملة لا محل لها؛ لأنها جواب قسم محذوف، واللام واقعة في جواب ذلك القسم، والقسم وجوابه في محل نصب مفعول به ل:(انظر) المعلق عن العمل لفظا، وجملة:{وَانْظُرْ..} . إلخ معطوفة على جملة: (اذهب
…
) إلخ ثم: حرف عطف، وجملة:{لَنَنْسِفَنَّهُ} معطوفة على ما قبلها، وإعرابها مثلها بلا فارق بينهما.
{فِي الْيَمِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {نَسْفاً:} مفعول مطلق. بعد هذا فالآية بكاملها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98)}
الشرح: فلما فرغ موسى من أمر العجل، وإبطال ما ذهب إليه السامري: رجع إلى بيان الدين الحق، فقال مخاطبا لبني إسرائيل: إنما إلهكم الله المستحق للعبادة، لا يستحقها غيره، فهو الذي وسع علمه كل شيء، وأحاط بكل شيء، ولا يماثله، ولا يدانيه في كمال العلم والقدرة أحد بخلاف العجل المصنوع من الذهب فهو من الحقارة بمكان.
تنبيه: أما توبتهم من عبادة العجل فقد بينتها الآية رقم [54] من سورة (البقرة) حيث أمرهم موسى عليه السلام بأمر الملك العلام أن يقتل بعضهم بعضا بالسيوف. قيل: أمروا أن يقتل بعضهم بعضا. وقيل: أمر من لم يعبد العجل أن يقتل العبدة. روي: أن الرجل كان يلقى ابنه، أو أخاه، فلم يقدر على المضي لأمر الله تعالى، فأرسل الله عليهم ضبابة، أو سحابة سوداء، فجعلوا لا يعرف بعضهم بعضا، فأخذوا يقتتلون من الغداة إلى العشي؛ حتى دعا موسى، وهارون عليهما السلام، فكشفت السحابة، ونزلت؛ أي: التي أتى بها موسى، وكانت القتلى سبعين ألفا. والله أعلم، وأجل، وأكرم.
الإعراب: {إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {إِلهُكُمُ:} مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة.
{اللهُ:} خبره. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة، أو بدل من {اللهُ} وجملة:{لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} صلة الموصول، وانظر إعرابها في الآية رقم [8]. {وَسِعَ:}
ماض، والفاعل يعود إلى (الله). {كُلَّ:} مفعول به، وهو مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه، {عِلْماً:} تمييز. هذا؛ ويقرأ الفعل بالتشديد، فيكون مفعولا ثانيا، وجملة:{وَسِعَ كُلَّ..} . إلخ في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الضمير فقط، وهي على تقدير قد قبلها، واعتبارها خبرا ثانيا للمبتدإ لا بأس به، ولكن الأول: أقوى معنى، واعتبارها مستأنفة جيد، والجملة الاسمية، أو الآية بكاملها إنما هي من قول موسى، على نبينا وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
{كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنّا ذِكْراً (99)}
الشرح: {كَذلِكَ نَقُصُّ..} . إلخ: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، والمعنى: نقص عليك يا محمد من أخبار الأمم السابقة مثل الذي قصصنا عليك من خبر موسى مع قومه، وفي ذلك تبصرة لك، وزيادة في علمك، وتكثير لمعجزاتك وتذكير وتنبيه للمعتبرين من أمتك. {وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنّا:} من عندنا.
{ذِكْراً:} كتابا يشتمل على هذه الأحاديث، والأقاصيص حقيقا بالتفكير فيه، والاستفادة منه، والمراد: القرآن الكريم وقيل: معنى {ذِكْراً} شرفا، كما قال تعالى في آية أخرى:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} والأول: أصح، دليله الآية التالية. بعد هذا انظر شرح (لدن) في الآية رقم [80] من سورة (الإسراء)، وشرح {نَقُصُّ} و (أنباء) في الآية رقم [13] من سورة (الكهف).
هذا؛ وفي الآية تذكير للنبي صلى الله عليه وسلم وامتنان عليه بما أكرمه به ربه، وهذا كثير في القرآن الكريم، وهذا المن من الله على نبيه، وعلى عباده بما يذكرهم به مقبول؛ لأن الله يمن بما يملك حقيقة، فهو المتفضل والمنعم بخلاف المن الذي ذكرته في الآية رقم [264] من سورة (البقرة) فإنه مذموم؛ لأن العبد يمن بما لا يملك على وجه الحقيقة.
الإعراب: {كَذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف عامله ما بعده، التقدير: نقص عليك
…
قصصا كائنا مثل القصص الذي قصصناه عليك من خبر موسى، وقومه. واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. وانظر تفصيل الإعراب في الآية رقم [87].
{نَقُصُّ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {عَلَيْكَ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ أَنْباءِ:}
متعلقان به أيضا، أو هما متعلقان بمحذوف صفة لموصوف محذوف يقع مفعولا به، التقدير: نقص عليك نبأ كائنا من أنباء، و {أَنْباءِ:} مضاف، و {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {سَبَقَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {ما} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة (ما)، لا محل لها، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.
{وَقَدْ:} الواو: واو الحال، {قَدْ:} حرف تحقيق
…
إلخ، {آتَيْناكَ:} فعل، وفاعل، ومفعول به أول. {مِنْ لَدُنّا:} متعلقان بمحذوف حال من {ذِكْراً} كان صفة له
…
إلخ على مثال ما رأيت في الآية رقم [53] و (نا): في محل جر بالإضافة. {ذِكْراً:} مفعول به ثان، وجملة:{وَقَدْ آتَيْناكَ..} .
إلخ في محل نصب حال من فاعل {نَقُصُّ} المستتر، والرابط: الواو، والضمير.
{مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100)}
الشرح: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} أي: عن القرآن، فلم يؤمن به، ولم يعمل بما فيه، {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً:} عقوبة ثقيلة، سماها الله: وزرا تشبيها في ثقلها على المعاقب، وصعب
احتمالها بالحمل الثقيل الذي ينقض ظهره، أو؛ لأنها جزاء الوزر، وهو العذاب. وانظر شرح {الْقِيامَةِ} في الآية رقم [58] من سورة (الإسراء)، وشرح (يوم) في الآية رقم [14] منها.
الإعراب: {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَعْرَضَ:} ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، وفاعله يعود إلى {مَنْ}. {عَنْهُ:} متعلقان به.
{فَإِنَّهُ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنه): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {يَحْمِلُ:}
مضارع، والفاعل يعود إلى {مَنْ}. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، ويوم مضاف، و {الْقِيامَةِ:} مضاف إليه. {وِزْراً:} مفعول به، وجملة:{يَحْمِلُ يَوْمَ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{فَإِنَّهُ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط، وخبر المبتدأ الذي هو {مَنْ} مختلف فيه كما رأيته مرارا. هذا؛ وإن اعتبرت {مَنْ} موصولة فلست مفندا، وتكون مبتدأ، وجملة:{أَعْرَضَ عَنْهُ} صلتها، والجملة الاسمية:{فَإِنَّهُ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، وزيدت الفاء في خبره؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية:
{مَنْ..} . إلخ على الاعتبارين مستأنفة، لا محل لها.
{خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101)}
الشرح: {خالِدِينَ فِيهِ} مقيمين في عقوبة ذلك الوزر الذي حملوه في دنياهم. {وَساءَ لَهُمْ..} . إلخ: أي: وبئس الحمل الذي حملوه حملهم.
تنبيه: قال الإمام الرازي-رحمه الله تعالى-: قال قوم: إن عذاب الله للكافرين منقطع، وله نهاية، واستدلوا بقوله تعالى:{لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً} وبأن معصية الظالم متناهية، فالعقاب عليها بما لا يتناهى ظلم، والجواب: أن قوله تعالى: {أَحْقاباً} لا يقتضي أن له نهاية؛ لأن العرب يعبرون به، وبنحوه عن الدوام، ولا ظلم في ذلك؛ لأن الكافر كان عازما على الكفر ما دام حيا، فعوقب دائما، ولم يعاقب بالدائم إلا على دائم، فلم يكن عذابه إلا جزاء وفاقا. انتهى. جمل في سورة (هود)[108].
الإعراب: {خالِدِينَ} حال من فاعل {يَحْمِلُ} المستتر منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جمع مذكر سالم
…
إلخ وفيه مراعاة معنى {مَنْ} هنا، وهو الجمع، ومراعاة لفظها في الآية السابقة.
تأمل. {فِيهِ:} متعلقان ب: {خالِدِينَ} وفاعله مستتر فيه. {وَساءَ:} الواو: حرف استئناف.
{وَساءَ:} ماض جامد، دال على إنشاء الذم، وفاعله مستتر فيه يفسره التمييز. {لَهُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق ب: {حِمْلاً} أو متعلق بمحذوف حال من {حِمْلاً} كان نعتا له، فلما قدم عليه صار حالا، و {يَوْمَ:} مضاف، و {الْقِيامَةِ:} مضاف إليه. {حِمْلاً:} تمييز، والمخصوص بالذم محذوف؛ إذ التقدير: ساء الحمل حملا هو وزرهم، وجملة:{وَساءَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102)}
الشرح: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ:} انظر الآية رقم [99] من سورة (الكهف) ففيها الكفاية. هذا؛ ويقرأ: «(ننفخ)» و {يُنْفَخُ} بالبناء للمجهول، وبالبناء للمعلوم. {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ:} الكافرين، وقد ذكرت لك مرارا: أن في المسلمين مجرمين، وفاسقين، وضالين مضلين، فكل وعيد وتهديد يتوجه إليهم، وهم أولى به. {يَوْمَئِذٍ:} يوم القيامة. {زُرْقاً:} الزرق خلاف الكحل، والعرب تتشاءم بزرق العيون، وتذمه وهو من ألوان العيوب عندهم؛ لأن الروم كانوا أعداءهم، وهم زرق العيون. وقال بشار بن برد الأعمى في وصف البخيل:[البسيط]
وللبخيل على أمواله علل
…
زرق العيون عليها أوجه سود
وقيل: معناه: عميا. وقيل: عطاشا قد ازرقت عيونهم من شدة العطش، ويقال: رجل أزرق العين، والمرأة زرقاء: بينة الزرق، والاسم: الزرقة.
وقال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: قيل لابن عباس-رضي الله عنهما-في قوله تعالى:
{وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} وقال في موضع آخر: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا} فقال: إن ليوم القيامة حالات، فحالة يكونون فيها زرقا، وحالة عميا. وانظر الآية رقم [97] من سورة (الإسراء) تجد ما يسرك.
الإعراب: {يَوْمَ} بدل من {يَوْمَ الْقِيامَةِ} . {يُنْفَخُ:} مضارع مبني للمجهول. {فِي الصُّورِ:}
جار ومجرور في محل رفع نائب فاعله وعلى القراءتين الأخريين فالفاعل: نحن، أو هو، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (يوم) إليها. {وَنَحْشُرُ:} مضارع، والفاعل تقديره:«نحن» .
{الْمُجْرِمِينَ:} مفعول به منصوب
…
إلخ، {يَوْمَئِذٍ:} ظرف زمان متعلق بما قبله، و (إذ) ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وحرك بالكسرة لالتقاء الساكنين.
وانظر ما ذكرته في شرحه. {زُرْقاً:} حال من {الْمُجْرِمِينَ} وهو صفة مشبهة فاعله محذوف، التقدير: زرقا عيونهم وجملة: {وَنَحْشُرُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها.
{يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ عَشْراً (103)}
الشرح: {يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ:} يتحادثون في موقف القيامة حديث السر، والخفاء. وانظر الآية رقم [110] من سورة (الإسراء). وذلك لما يملأ صدورهم من الرعب، والهول. {إِنْ لَبِثْتُمْ:} ما أقمتم في الدنيا. {إِلاّ عَشْراً:} إلا عشر ليال، فهم يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا؛ لزوالها عنهم، أو لاستطالتهم أهوال يوم القيامة، أو لتأسفهم على الدنيا لما عاينوا الشدائد، وأيقنوا: أنهم استحقوها على إضاعة أعمارهم في قضاء الشهوات الدنيئة. أو المراد بقصر المدة
التي كانت في القبر. وقيل: المراد مدة ما بين النفختين، وهي أربعون سنة؛ حيث يرفع عنهم العذاب في تلك المدة، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {يَتَخافَتُونَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب حال ثانية من {الْمُجْرِمِينَ}. {إِنْ:} حرف نفي بمعنى: ما. {لَبِثْتُمْ:} فعل، وفاعل، {إِلاّ:} حرف حصر.
{عَشْراً:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، والمضاف إليه محذوف، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول لقول محذوف يقع حالا من واو الجماعة، التقدير: قائلين: إن لبثتم إلا عشرا.
الشرح: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ} أي: بما يتخافتون به فيما بينهم، أو بالمدة التي لبثوها.
{إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً:} أعدلهم قولا، وأعقلهم، وأعلمهم عند نفسه. {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ يَوْماً} أي: فتقاصرت المدة التي لبثوها في الدنيا، أو غير ذلك في نظرهم حتى كانت يوما واحدا، وذلك لشدة ما عاينوا من الأهوال التي تنتظرهم، وهذا؛ وانظر شرح (نا) في الآية رقم [49] من سورة (مريم) عليها. وانظر {الْقَوْلُ} في الآية رقم [16] من سورة (الإسراء)، وشرح {الْيَوْمَ} في الآية رقم [14] منها، وينبغي أن تعلم: أن نسبة القول إلى {أَمْثَلُهُمْ} لا لكونه أقرب إلى الصدق، بل لكونه أدل على شدة الهول.
الإعراب: {نَحْنُ:} ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع مبتدأ، {أَعْلَمُ:} خبره، وفاعله مستتر فيه. {بِما:} متعلقان ب: {أَعْلَمُ} و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: بالذي، أو بشيء يقولونه، {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق ب: {أَعْلَمُ} . {يَقُولُ:} مضارع. {أَمْثَلُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة. {طَرِيقَةً:} تمييز، وإعراب:{إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ يَوْماً} مثل إعراب: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ عَشْراً} والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{يَقُولُ..} . إلخ في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها، والجملة الاسمية:{نَحْنُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ} أي: عن حال الجبال يوم القيامة. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: سأل رجل من ثقيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كيف تكون الجبال يوم القيامة؟ فأنزل الله
هذه الآية وقيل: لم يسأل، وتقديره: إن سألوك فقل؛ ولذا قرن الجواب بالفاء، بخلاف سائر السؤالات الموجودة في القرآن، فإنها سؤالات تقدمت، فورد جوابها، ولم يكن فيها معنى الشرط، فلم يذكر الفاء.
{يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً} أي: يجعلها كالرمل، أو تكون كالصوف المنفوش، كما في سورة (القارعة) ثم يرسل عليها الرياح، فيفرقها، كما يذري الطعام، ونحوه. وانظر الآية رقم [97] {فَيَذَرُها} أي: يدع أماكن الجبال، أو يدع الأرض لعلمه من المقام. {قاعاً صَفْصَفاً:} أرضا مستوية ملساء، والقاع: المستوي من الأرض، والجمع: أقوع، وأقواع، وقيعان، وقيعة. هذا؛ وقيل: المعنى واحد في القاع، والصفصف، فالقاع: الموضع المنكشف، والصفصف: المستوي الأملس. قال الأعشى، وقد وصف بعد المسافة بينه وبين الممدوح الذي قصده:[المتقارب]
وكم دون بيتك من صفصف
…
ودكداك رمل وأعقادها
{لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً} أي: لا اعوجاجا، ولا نتوءا، لا انخفاضا، ولا ارتفاعا، لا واديا، ولا رابية. وانظر الآية رقم [88] من سورة (النمل). هذا؛ وقد رأيت في الآية رقم [1] من سورة (الكهف) أن العرب خصوا العوج بكسر العين بالمعاني، وبفتحها في الأعيان، والأرض، أو الجبال هنا عين، ولكن لما استوت الأرض استواء لا يمكن أن يوجد فيها اعوجاج بوجه ما، وإن دقت الحيلة، ولطفت؛ جرت مجرى المعاني، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَيَسْئَلُونَكَ:} الواو: حرف استئناف. (يسألونك): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون لأن من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والكاف مفعول به. {عَنِ الْجِبالِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني؛ لأن الفعل «سأل» تارة يكون لاقتضاء معنى في نفس المسئول، فيتعدى للثاني ب:«عن» كهذه الآية، وقد يكون لاقتضاء، مال، ونحوه، فيتعدى لاثنين صريحين، نحو سألت زيدا مالا، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {فَقُلْ:} الفاء:
زائدة على الوجه الأول: في الشرح، وهي الفصيحة على الوجه الثاني. (قل): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {يَنْسِفُها:} مضارع، و (ها): مفعول به. {رَبِّي:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {نَسْفاً:} مفعول مطلق مؤكد لعامله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{فَقُلْ..} . إلخ مستأنفة على الوجه الأول، وهي جواب شرط جازم على الوجه الثاني: في الشرح، والشرط ومدخوله كلام مستأنف، لا محل له.
{فَيَذَرُها:} مضارع، و (ها): مفعول به، والفاعل يعود إلى {رَبِّي} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {قاعاً:} حال من الضمير المنصوب، أو
هو مفعول به ثان، وهو أقوى. {صَفْصَفاً:} حال ثانية، أو هو من تعدد المفعول الثاني: وهو الأقوى. {لا:} نافية. {تَرى:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {فِيها:} متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من عوجا كان صفة له
…
إلخ. {عِوَجاً:} مفعول به. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): زائدة لتأكيد النفي. {أَمْتاً:} معطوف على ما قبله، وجملة:{لا تَرى..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من الضمير المنصوب أيضا. تأمل، وتدبر.
الشرح: {يَوْمَئِذٍ} أي: يوم القيامة. {يَتَّبِعُونَ الدّاعِيَ} أي: صوت الداعي الذي يدعوهم إلى موقف يوم القيامة، وهو إسرافيل، عليه السلام، وذلك: أنه يضع الصور في فيه، ويقف على صخرة بيت المقدس، ويقول: أيتها العظام البالية، والجلود المتمزقة، والشعور المتفرقة، والأوصال المتقطعة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. وهو فحوى قوله تعالى في سورة (ق):{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ} . {لا عِوَجَ لَهُ} أي: لا معدل لهم عنه؛ أي: عن دعائه، فلا يزيغون، ولا ينحرفون، بل يسرعون إليه، ولا يحيدون عنه. {وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ} أي: ذلت، وسكنت، والمراد: أصحاب الأصوات، وإنما خشعت هيبة وإجلالا لأجل الرحمن، أو خوفا، وإذلالا. {فَلا تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً:} الهمس: الصوت الخفي. وقيل: هو صوت وقع الأقدام بعضها على بعض إلى الحشر، ومنه قول الراجز:[الرجز]
وهنّ يمشين بنا هميسا
وهمس الطعام: أي: مضغه؛ وفوه منضم. قال الراجز: [الرجز]
لقد رأيت عجبا مذ أمسا
…
عجائزا مثل السّعالي خمسا
يأكلن ما في رحلهنّ همسا
…
لا ترك الله لهنّ ضرسا
وهذا هو الشاهد رقم [353] من كتابنا فتح رب البرية.
الإعراب: {يَوْمَئِذٍ:} بدل من {يَوْمَ الْقِيامَةِ} أو هو متعلق بالفعل بعده، وهو أقوى فيما يظهر. وانظر بقية الإعراب في الآية رقم [102]. {يَتَّبِعُونَ الدّاعِيَ:} مضارع، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها على الوجهين المعتبرين في الظرف. {لا:} نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» . {عِوَجَ:} اسم لا مبني على الفتح في محل نصب. {لَهُ:} متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر {لا،} والجملة الاسمية: {لا عِوَجَ لَهُ} في محل نصب حال من {الدّاعِيَ} أو
هي مستأنفة، لا محل لها، وأجيز أن تكون نعتا لمصدر محذوف، تقديره: يتبعونه اتباعا لا عوج فيه. انتهى. جمل.
{وَخَشَعَتِ:} ماض، والتاء للتأنيث. {الْأَصْواتُ:} فاعله. {لِلرَّحْمنِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. واعتبارها حالا من {الدّاعِيَ} أو غيره فيه ضعف، ولا يوجد رابط سوى الواو، وتحتاج إلى تقدير «قد» قبلها. {فَلا:} الفاء: حرف عطف. (لا): نافية. {تَسْمَعُ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {إِلاّ:} حرف حصر.
{هَمْساً:} مفعول به، وجملة:{فَلا تَسْمَعُ} إلخ: معطوفة على ما قبلها.
{يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109)}
الشرح: {يَوْمَئِذٍ} أي: في يوم القيامة الموصوف بما تقدم. {لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاّ مَنْ..} .
إلخ أي: لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن
…
إلخ، والمعنى: لا تقبل الشفاعة إلا ممن أذن له الرحمن في الشفاعة. أو المعنى: لا تنفع الشفاعة أحدا إلا من أذن الرحمن في الشفاعة له.
{وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} أي: للشافع، أو المشفوع. هذا؛ والقول المرضي عند الله قول لا إله إلا الله مقرونا بالعمل الصالح، كما قد نبهت عليه مرارا. هذا؛ والشفاعة العظمى ثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم في الموقف العظيم وبعده، وشفاعة المؤمنين ثابتة بعد الحساب، والجزاء وإدخالهم الجنة في ذويهم، وأصحابهم في الدنيا الذين دخلوا النار لشؤم معاصيهم، وسوء أعمالهم.
هذا؛ والشفاعة في الأصل: التوسل وابتغاء الخير، والذي يكون منه التوسل يسمى الشفيع.
والشفاعة في الآخرة لا تكون إلا حسنة؛ لأنها لطلب الخير الخالص، وأما في الدنيا فتكون حسنة، وأكثرها سيئة، فالشفاعة الحسنة هي التي روعي فيها حق مسلم، ودفع بها عنه شر، أو جلب إليه خير، وابتغي بها وجه الله، ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز، لا في حد من حدود الله، ولا في حق من حقوق الناس، والسيئة ما كانت بخلاف ذلك، والدستور في ذلك قوله تعالى:{مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها} هذا؛ وقيل:
الشفاعة الحسنة هي الدعوة للمسلم؛ لأنها في معنى الشفاعة إلى الله، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:«من دعا لأخيه بظهر الغيب استجيب له، وقال له الملك: ولك مثل ذلك» . فذلك النصيب.
الإعراب: {يَوْمَئِذٍ:} متعلق بالفعل بعده. وانظر بقية الإعراب في الآية رقم [102]. {لا:}
نافية. {تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ:} مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {إِلاّ:} حرف حصر. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع بدل من {الشَّفاعَةُ} وهو على حذف مضاف، والتقدير: إلا شفاعة من، أو هو مبني على السكون في محل نصب مفعول به؛ أي: إلا الذي
…
فإنها تنفعه، وجملة:{أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ} صلة {مَنْ} لا محل لها. {وَرَضِيَ:}
ماض، والفاعل يعود إلى {الرَّحْمنُ}. {لَهُ:} متعلقان به. {قَوْلاً:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. تأمل، وتدبر.
{يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110)}
الشرح: {يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ..} . إلخ: الفاعل يعود إلى {الرَّحْمنُ} والضمير المجموع يعود إلى المتبعين إلى الداعي، وهم جميع الخلق، والمعنى: يعلم الرحمن ما بين أيديهم من أمور الآخرة، {وَما خَلْفَهُمْ} أي: وما خلفوه من أمور الدنيا. أو المعنى: يعلم ما قدموا من الأعمال الصالحة، وما تركوا خلفهم من الأموال، وحطام الدنيا، وغير ذلك. وانظر الآية رقم [64] من سورة (مريم) عليها السلام ورقم [76] من سورة (الحج). {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ:} الضمير يعود إلى (الله)، أو يعود إلى معلومات الله، أو يعود إلى {ما} والمعنى: إن العباد لا يحيطون بما بين أيديهم وما خلفهم علما.
الإعراب: {يَعْلَمُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {الرَّحْمنُ}. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، و {بَيْنَ:} مضاف، و {أَيْدِيهِمْ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء للثقل، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَما:} معطوفة على ما قبلها. {خَلْفَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة {ما} والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{يَعْلَمُ..} . إلخ في محل نصب حال من {الرَّحْمنُ} والرابط: الضمير فقط، أو هي مستأنفة، لا محل لها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. لا: نافية. {يُحِيطُونَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {بِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان ب:{عِلْماً} بعدهما. {عِلْماً:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها.
{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111)}
الشرح: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ:} ذلت، وخضعت، ومنه قيل للأسير: عان؛ أي: ذليل خاضع لما يراد منه. قال أمية بن أبي الصلت: [الطويل]
مليك على عرش السّماء مهيمن
…
لعزّته تعنو الوجوه وتسجد
والمراد: بالوجوه: أصحابها، وإنما خص الوجوه بالذكر؛ لأن آثار الذل، والخضوع إنما تبين في الوجوه، وهذا يكون يوم القيامة؛ حيث الملك، والقهر لله وحده. وقيل: المراد بذلك:
المجرمون، والأصح: أن المراد جميع بني آدم، ويؤيده:{وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} أي: خاب وخسر من أشرك بالله. وأيضا: من حمل مظالم العباد التي تحمّلها في الدنيا بدليل الآية التالية.
هذا؛ و (الحي) هو الذي لا يموت، فهو الباقي أزلا، وأبدا، و (القيوم) هو القائم المقيم لغيره.
وقيل: الدائم الباقي، فيكون بمعنى: الحي، وتأكيدا له، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَعَنَتِ:} الواو: حرف استئناف. (عنت): ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث التي هي حرف لا محل له. {الْوُجُوهُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {لِلْحَيِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الْقَيُّومِ:} بدل من سابقه، أو عطف بيان عليه. {وَقَدْ:} الواو: واو الحال. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {خابَ:} ماض. {مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع فاعل، وجملة:{حَمَلَ ظُلْماً} صلة {مَنْ} أو صفتها، والعائد، أو الرابط: رجوع الفاعل إليها، وجملة:{وَقَدْ خابَ..} . إلخ في محل نصب حال من {الْوُجُوهُ} والرابط: الواو فقط، أو هي مستأنفة، لا محل لها. تأمل.
{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112)}
الشرح: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ:} ف: (من) للتبعيض؛ أي: بعض الأعمال الصالحات.
{وَهُوَ مُؤْمِنٌ:} شرط في قبول العمل الصالح؛ لأن العمل لا يقبل بغير إيمان بوجود الله تعالى، وتصديق حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرت لك مرارا أن هذا يسمى: احتراسا، كما أن الإيمان بدون عمل لا يجدي، ولا ينفع في دخول الجنة مع السابقين. وانظر الآية رقم [60] من سورة (مريم) عليها السلام، والآية رقم [107] من سورة (الكهف).
{فَلا يَخافُ ظُلْماً} أي: نقصا لثواب طاعته، ولا زيادة عليه في سيئاته. {(وَلا هَضْماً):}
بالانتقاص من حقه، والهضم: النقص، والكسر، يقال: هضمت ذلك من حقي؛ أي: حططته، وتركته، وهذا يهضم الطعام؛ أي: ينقص ثقله، وامرأة هضيم الكشح: ضامرة البطن. والفرق بين الظلم، والهضم أن الظلم المنع من الحق كله، والهضم المنع من بعضه، والهضم ظلم وإن افترقا من وجه. قال المتوكل الليثي:[الكامل]
إنّ الأذلّة واللّئام لمعشر
…
مولاهم المتهضّم المظلوم
وانظر شرح {هَضِيمٌ} في الآية رقم [148] من سورة (الشعراء) تجد ما يسرك.
الإعراب: {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَعْمَلْ:} مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {مِنَ الصّالِحاتِ:}
متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، والجملة الاسمية:{وَهُوَ مُؤْمِنٌ} في محل نصب حال من الفاعل المستتر، والرابط: الواو، والضمير، أو هي معترضة بين فعل الشرط
وجوابه، الغرض منها الاحتراس كما رأيت. {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا):
نافية. {يَخافُ:} مضارع مرفوع، والفاعل يعود إلى من، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط، وبعضهم يقدر «فهو لا يخاف» أي: إنها خبر لمبتدإ محذوف، وعليه فالجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط. هذا؛ ويقرأ بجزم الفعل على اعتبار (لا) ناهية. {ظُلْماً:} مفعول به.
{وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): صلة لتأكيد النفي. {هَضْماً:} معطوف على ما قبله، وخبر المبتدأ الذي هو من مختلف فيه، كما رأيت في الآية رقم [74] والجملة الاسمية:{وَمَنْ يَعْمَلْ..} .
إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ:} الضمير يعود إلى (القرآن) وإن لم يتقدم له ذكر للإيذان بعلوّ شأنه، وكونه مركوزا في العقول، حاضرا في الأذهان. {قُرْآناً عَرَبِيًّا} أي: بلغة العرب ليفهموه، ويقفوا على ما فيه من النظم المعجز الدال على كونه خارجا عن طوق البشر، نازلا من عند خلاق القوى، والقدر. وانظر ما ذكرته في شرح هذين اللفظين في الآية رقم [2] من سورة (يوسف) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف ألف صلاة، وألف ألف سلام.
{وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} أي: بينا ما فيه من التخويف، والتهديد، وبيان الثواب، والعقاب، ويدخل تحت الوعيد بيان الفرائض، والأحكام؛ لأن الوعيد بهما يتعلق. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [41] من سورة (الإسراء). {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ:} المعاصي؛ أي: يبتعدون عنها، فتصير التقوى ملكة راسخة فيهم. وانظر شرح (التقوى) في الآية رقم [2] من سورة (النحل). {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً:} عظة، واعتبارا حين يسمعون آياته، وزواجره، ولهذه النكتة أسند التقوى إليهم، والإحداث إلى القرآن. وانظر تفسيره في الآية رقم [99].
بعد هذا انظر مثل هذا الترجي في الآية رقم [44] وشرح (نا) في الآية رقم [49] من سورة (مريم) عليها السلام وشرح الوعد، والوعيد في الآية رقم [53] منها. وانظر «أنزل، ونزّل» في الآية رقم [2].
الإعراب: {وَكَذلِكَ:} الواو: حرف عطف. (كذلك): جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف عامله ما بعده: التقدير: أنزلناه إنزالا كائنا مثل ما قصصنا عليك أخبار الأمم السابقة. {أَنْزَلْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به. {قُرْآناً:} حال موطئة؛ إذ المقصود الصفة، وهي {عَرَبِيًّا} ولذا جاز وقوعه حالا، وهو جامد كما ترى، والجملة الفعلية معطوفة على ما في الآية رقم [99] {وَصَرَّفْنا:} فعل، وفاعل. {فِيهِ:} متعلقان به، {مِنَ الْوَعِيدِ:}
متعلقان بمحذوف صفة لمفعول به محذوف، التقدير: صرفنا في القرآن نوعا من الوعيد، والمراد: به الجنس، ويجوز أن تكون {مِنَ} مزيدة في المفعول به على رأي: الأخفش الذي يجيز زيادة «من» في الإيجاب، وجملة:{وَصَرَّفْنا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {لَعَلَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {يَتَّقُونَ:} مضارع، وفاعله، ومفعوله محذوف كما في الشرح، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعلّ) والجملة الاسمية:{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} تعليل للإنزال، وللتصريف لا محل لها. {أَوْ:} حرف عطف. {يُحْدِثُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (القرآن). {لَعَلَّهُمْ:} متعلقان بما قبلهما. {ذِكْراً:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها.
الشرح: {فَتَعالَى اللهُ:} في ذاته، وصفاته عن مماثلة المخلوقين، لا يماثل كلامهم كلامه، كما لا يماثل ذاتهم ذاته.
{الْمَلِكُ:} النافذ أمره ونهيه الحقيقي بأن يرجى وعده، ويخشى وعيده. {الْحَقُّ:} الثابت في ذاته وصفاته، {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ:} علّم نبيه صلى الله عليه وسلم كيف يتلقى القرآن. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كان صلى الله عليه وسلم يبادر جبريل عليه السلام، فيقرأ قبل أن يفرغ من الوحي، حرصا على الحفظ، وشفقة على القرآن مخافة النسيان، فنهاه الله عن ذلك، وهذا كقوله تعالى في سورة (القيامة):{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} وقيل: المعنى: لا تقرئه أصحابك، ولا تمله عليهم حتى يتبين لك معناه.
{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} أي: سل الله زيادة العلم بدل الاستعجال، فإن ما أوحى إليك تناله لا محالة، فلم يأمر الله نبيه بطلب الزيادة في الشيء إلا في العلم، وكان ابن مسعود-رضي الله عنه إذا قرأ هذه الآية يقول: اللهم زدني علما، وإيمانا، ويقينا. وقال الحسن: نزلت في رجل لطم وجه امرأته، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطلب القصاص، فجعل لها القصاص، فنزل قوله تعالى:{الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ} فيكون المعنى زدني فهما؛ لأن عليه الصلاة والسلام حكم بالقصاص وأبى الله ذلك، انظر الآية رقم [34] من سورة (النساء)، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
بعد هذا فالفعل: «تعالى» بمعنى: تنزه، وتعاظم، وهو ناقص التصرف يأتي منه ماض، ومضارع، ولا يأتي منه أمر. وانظر شرح {الْحَقُّ} في الآية رقم [81] من سورة (الإسراء)، وشرح:(قضينا) في الآية رقم [4] منها، وشرح:«زاد، يزيد» في الآية رقم [41] منها، وشرح
{رَبُّكُمْ} في الآية رقم [8] منها، وشرح {الْقَوْلُ} في الآية رقم [16] منها أيضا. وانظر شرح (العجلة) في الآية رقم [1] من سورة (النحل).
الإعراب: {فَتَعالَى:} الفاء: حرف استئناف. (تعالى): ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {اللهُ:} فاعله. {الْمَلِكُ:} بدل منه، أو عطف بيان عليه. {الْحَقُّ:} مثل سابقه. هذا؛ ويقال: هما صفتان للفظ الجلالة، ولا أسلمه؛ لأنهما اسمان من أسماء الله الحسنى، وليسا صفتين مشتقين، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {وَلا:} الواو: حرف استئناف، أو حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تَعْجَلْ:} مضارع مجزوم ب: (لا)، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» .
{بِالْقُرْآنِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ قَبْلِ:} متعلقان به أيضا. {أَنْ يُقْضى:} مضارع مبني للمجهول منصوب ب: {أَنْ} وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {إِلَيْكَ:} متعلقان بما قبلهما. {وَحْيُهُ:} نائب فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، هذا؛ ويقرأ:«(من قبل أن نقضي إليك وحيه)» ، والإعراب واضح على هذه القراءة، و {أَنْ} والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بإضافة {قَبْلِ} إليه، والجملة الفعلية:{وَلا تَعْجَلْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين. (قل): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {رَبِّ:} انظر إعرابه في الآية رقم [35]{زِدْنِي:} فعل دعاء، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به أول. {عِلْماً:} مفعول به ثان، والجملة الندائية، والفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقُلْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.
{وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115)}
الشرح: {وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ:} ولقد أمرناه، يقال: تقدم الملك إليه، وأوعز إليه، وعزم عليه، وعهد إليه: إذا أمره، وإنما عطف قصة آدم على قوله:{وَصَرَّفْنا فِيهِ} للدلالة على أنّ أساس بني آدم على العصيان، وعرقهم راسخ في النسيان. والعهد هنا بمعنى: الوصية، والمراد:
به النهي عن أكل الشجرة. {مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل هؤلاء الذين نقضوا عهدي، وتركوا الإيمان بي. {فَنَسِيَ} أي: غفل عما، أوصيناه به من عدم الأكل من الشجرة، ولم يتذكره. هذا؛ وقال محمد بن يزيد: المعنى: فترك الأمر، وليس من النسيان، والغفلة، بدليل ما ذكر القرآن من قول إبليس له، ولحواء:{ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ} الآية رقم [20] من سورة (الأعراف)، فلو كان آدم ناسيا لكان قد ذكره بهذا القول.
{وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} أي: صبرا عن أكل الشجرة، أو تصميم رأي، وثبات على الأمر؛ إذ لو كان ذا عزيمة، وتصلب في الرأي؛ لم يستزله الشيطان، ولم يستطع تغريره. وعن النبي صلى الله عليه وسلم:
«لو وزنت أحلام بني آدم بحلم آدم لرجح حلمه، وقد قال الله تعالى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» }.
هذا؛ وانظر شرح (آدم) في الآية رقم [61] من سورة (الإسراء)، وشرح (النسيان) في الآية رقم [24] من سورة (الكهف).
الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، التقدير: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره أقسم. اللام: واقعة في جواب القسم وانظر الآية رقم [37]. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {عَهِدْنا:} فعل، وفاعل {إِلى آدَمَ:}
جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {مِنْ قَبْلُ:} متعلقان بالفعل قبلهما أيضا. وقيل: متعلقان بمحذوف حال، وبني {قَبْلُ} على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى، وجملة:{وَلَقَدْ..} . إلخ جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه كلام معطوف على جملة:{وَصَرَّفْنا..} . إلخ {فَنَسِيَ:} ماض، والفاعل يعود إلى {آدَمَ} ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {وَلَمْ نَجِدْ:} مضارع مجزوم ب: (لم). والفاعل مستتر تقديره: «نحن» فإن كان الفعل من الوجود الذي بمعنى: العلم ف: {لَهُ عَزْماً} مفعولاه وإن كان من الوجود المناقض للعدم ف: {لَهُ} حال من {عَزْماً} أو هو متعلق بنجد. انتهى. بيضاوي. وجملة:
{وَلَمْ نَجِدْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.
{وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبى (116)}
الشرح: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ:} السجود في الأصل: تذلل مع تطامن، وفي الشرع: وضع الجبهة على الأرض على قصد العبادة. والمأمور به إما المعنى الشرعي، فالمسجود له في الحقيقة هو الله تعالى، وجعل آدم قبلة سجودهم تعظيما لشأنه، أو سببا لوجوبه، كما جعلت الكعبة قبلة للصلاة، والصلاة لله، فمعنى: اسجدوا له؛ أي: إليه، وإما المعنى اللغوي، وهو التواضع لآدم، تحية، وتعظيما له، كسجود إخوة يوسف له في قوله تعالى:
{وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} فلم يكن فيه وضع الجبهة على الأرض، إنما كان بالانحناء، فلما جاء الإسلام؛ أبطل ذلك بالسلام. {أَبى:} امتنع من السجود. هذا؛ وانظر شرح: {إِبْلِيسَ أَبى} في الآية رقم [31] من سورة (الحجر). وانظر الآية رقم [50] من سورة (الكهف). وانظر شرح (الملائكة) في الآية رقم [23] من سورة (الرعد).
الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف استئناف. (إذ): ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون متعلق بفعل محذوف، تقديره اذكر، أو هو مفعول به لهذا المحذوف. {قُلْنا:} فعل، وفاعل. {لِلْمَلائِكَةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {اُسْجُدُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لِآدَمَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب مقول
القول، وجملة:{قُلْنا..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذ) إليها. (سجدوا): ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {إِلاّ:} أداة استثناء. {إِبْلِيسَ:} مستثنى ب: {إِلاّ} وهل هو متصل، أو منقطع. انظر الآية رقم [50] من سورة (الكهف)، وجملة: (سجدوا
…
) إلخ معطوفة على جملة: {قُلْنا..} . إلخ فهي في محل جر مثلها. {أَبى:} ماض، وفاعله يعود إلى إبليس، وهل الفعل بمعنى: امتنع، فيكون لازما، أو هو متعد كما في سورة (الحجر)؟ والجملة الفعلية في محل نصب حال من {إِبْلِيسَ} والرابط: الضمير فقط، و «قد» قبلها مقدرة. وقال البيضاوي:
مستأنفة لبيان ما منعه من السجود، وهو الاستكبار.
الشرح: {فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا} أي: إبليس. {عَدُوٌّ لَكَ:} سبب العداوة ما رأى من آثار نعمة الله على آدم، وتكريمه بسجود الملائكة له، فحسده، فصار عدوا له. {وَلِزَوْجِكَ} أي:
حواء، عدو الرجل عدو لزوجته بلا ريب، ما لم تخن المرأة زوجها، فتكون عدوا له. {فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ:} أسند الإخراج إليه، وإن كان الله تعالى هو المخرج؛ لأنه لما كان بوسوسته، وفعل آدم ما يترتب عليه الخروج؛ صح ذلك. ومعنى (تشقى): تتعب، ويكون عيشك من كد يمينك، وعرق جبينك، وهو الحرث والزرع، والحصد، والطحن، والخبز. هذا؛ والزوج يطلق على الرجل وعلى المرأة، والقرينة تبين الذكر من الأنثى، ويقال لها أيضا: زوجة، وحذف التاء منها أفصح، إلا في الفرائض، فإنها بالتاء أفصح لتوضيح الوارث. هذا؛ والزوج:
القرين. قال تعالى في سورة (الصافات): {اُحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللهِ} والزوج ضد الفرد، وكل واحد منهما يسمى زوجا أيضا، يقال للاثنين: هما زوجان، وهما زوج، كما يقال: هما سيان، وهما سواء. وقال تعالى في الآية رقم [40] من سورة (هود) على نبينا وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أي: من كل نوع من أنواع الحيوانات ذكرا، أو أنثى. وقال تعالى في الآية رقم [143] من سورة (الأنعام):
{ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ..} . إلخ والمعنى: ثمانية أفراد.
قيل: أهبط إلى آدم ثور أحمر، فكان يحرث عليه، ويمسح العرق عن جبينه، فهو شقاؤه.
هذا؛ وأسند سبحانه الشقاء إلى آدم وحده؛ لأنه هو المكلف بالسعي لنفسه، ولزوجه، وفيه إشارة إلى أن نفقة المرأة واجبة على الزوج. هذا؛ وإن أردت التوسع في قصة آدم، وما آل إليه أمره بعد الأكل من الشجرة، فانظر الآية رقم [11] من سورة (الأعراف) وما بعدها. وانظر الآية رقم [30] من سورة (البقرة) وما بعدها، وانظر خلق آدم في الآية رقم [26] من سورة (الحجر) وما بعدها؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
الإعراب: {فَقُلْنا:} الفاء: حرف استئناف. (قلنا): فعل، وفاعل. (يا): أداة نداء تنوب مناب: «أدعو» . (آدم): منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب ب: (يا). {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل، {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب اسم {إِنَّ} والهاء حرف تنبيه لا محل له. {عَدُوٌّ:} خبر {إِنَّ} . {لَكَ:} متعلقان ب: {عَدُوٌّ،} أو بمحذوف صفة له.
{وَلِزَوْجِكَ:} معطوفان على ما قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {فَلا:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط محذوف. (لا): ناهية. {يُخْرِجَنَّكُما:} مضارع مبني على الفتح في محل جزم ب: (لا) الناهية، والنون للتوكيد حرف لا محل لها، والفاعل يعود إلى (إبليس) والكاف مفعول به، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {مِنَ الْجَنَّةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا منه؛ فلا
…
إلخ. {فَتَشْقى:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد الفاء السببية، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: فلا يكن إخراج لكما من الجنة، فشقاء لك. هذا؛ والجمل كلها في محل نصب مقول القول، وجملة:
{فَقُلْنا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{إِنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119)}
الشرح: {إِنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيها:} في الجنة. {وَلا تَعْرى} أي: من اللباس. {وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا:} لا تعطش. {وَلا تَضْحى} أي: تبرز للشمس، فيؤذيك حرها؛ لأنه ليس في الجنة شمس، وأهلها في ظل ممدود، والمعنى: إن الشبع، والري، والكسوة، والسكن هي الأمور التي يدور عليها كفاف الإنسان، فذكر الله تعالى حصول هذه الأشياء في الجنة، وأنه مكفي، لا يحتاج إلى كفاية كاف، ولا إلى كسب كاسب، كما يحتاج إليه أهل الدنيا. هذا؛ و {تَضْحى} بمعنى: البروز للشمس جاء في قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي: [الطويل] رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت
…
فيضحى، وأمّا بالعشيّ فيخصر
وقال الصفوي رحمه الله تعالى: قابل سبحانه وتعالى بين الجوع والعري، والظمأ والضحو، وإن كان الجوع يقابل العطش، والعري يقال الضحو؛ لأن الجوع ذل الباطن، والعري ذل الظاهر، والظمأ حر الباطن، والضحو حر الظاهر، فنفي عن ساكن الجنة ذل الظاهر، والباطن، وحر الظاهر، والباطن. انتهى. جمل.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {لَكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ} مقدم. {أَلاّ:} (أن): حرف ناصب. (لا): نافية. {تَجُوعَ:} مضارع منصوب ب: (أن) والفاعل
مستتر تقديره: «أنت» . {فِيها:} متعلقان بالفعل قبلهما و {أَلاّ تَجُوعَ} في تأويل مصدر في محل نصب اسم {إِنَّ} مؤخر، التقدير: إن لك عدم الجوع في الجنة. {وَلا:} الواو: حرف عطف.
(لا): نافية، أو زائدة لتأكيد النفي. {تَعْرى:} معطوف على ما قبله منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل تقديره:«أنت» . {وَأَنَّكَ:} الواو: حرف عطف.
(أنك): حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها، وجملة:{لا تَظْمَؤُا فِيها} في محل رفع خبر (أنّ)، والجملة بعدها معطوفة عليها، وأن واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب معطوف على {أَلاّ تَجُوعَ} وجاز أن يكون هذا المصدر المسبوك اسما ل:{إِنَّ} بكسر الهمزة للفصل بينهما، ولولا ذلك لم يجز؛ حتى لو قلت: إن أن زيدا قائم لم يجز، فلما فصل بينهما جاز.
هذا؛ ويقرأ بكسر الهمزة على الاستئناف، أو على العطف على {إِنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ} وهذه الجملة ابتدائية، أو هي تعليل للنهي، أو مستأنفة، لا محل لها على جميع الوجوه.
الشرح: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ:} الكلام على هذه الوسوسة طويل انظره في الآية رقم [20] من سورة (الأعراف). {قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ:} الشجرة التي من أكل منها؛ خلّد، ولم يمت أصلا، فأضافها إلى الخلد، وهو الخلود؛ لأن الأكل منها سببه بزعمه.
{وَمُلْكٍ لا يَبْلى:} لا يزول، ولا يفنى. هذا؛ والمراد: بالشجرة: شجرة الحنطة. وقيل: هي شجرة العنب؛ لأنها أصل كل فتنة. وقيل: غير ذلك.
قال الخازن رحمه الله تعالى: الشيء الذي رغّب الله فيه آدم رغّبه فيه إبليس إلا أن الله تعالى وقف ذلك على الاحتراز عن تلك الشجرة، وإبليس وقفه على الإقدام عليها، وآدم مع كمال علمه بأن الله تعالى هو خالقه، وربه، ومولاه، وناصره، وإبليس هو عدوه؛ أعرض عن قول الله تعالى، ولم يرد المخالفة، ومن تأمل هذا السر؛ عرف أنه لا دافع لقضاء الله، ولا مانع له منه.
والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
هذا؛ ووسوس إلى الرجل: كلمه كلاما خفيا، والوسواس: الاسم من: وسوس، والوسواس: الشيطان. والوسواس: مرض يحدث عند بعض الناس من غلبة السوداء، ويختلط معه الذهن، والموسوس في أمور الطهارة معروف لا يريد أن يمسه أحد. انظر الآية [97].
هذا؛ ويروى: أن روح موسى التقت مع روح آدم على نبينا، وحبيبنا، وعليهم جميعا ألف ألف صلاة، وألف ألف سلام. فقال موسى: يا آدم أكلت من الشجرة حتى سببت لذريتك العناء والشقاء، فقال آدم: يا موسى أنت رسول الله وكليمه، أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بآلاف السنين، فحجّ آدم موسى؛ أي: غلبه بالحجة. هذا؛ ورواه مسلم عن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن
النبي صلى الله عليه وسلم كما يلي: «قال: احتجّ آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم أنت أبونا خيّبتنا، وأخرجتنا من الجنّة! فقال آدم: يا موسى: اصطفاك الله بكلامه، وخطّ لك بيده؛ يا موسى! أتلومني على أمر قدّره الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة، فحجّ آدم موسى ثلاثا» . أي: قال النبي صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى ثلاث مرات. انتهى. قرطبي. ولا يبيح هذا لمن عمل الخطايا، ولم تأته المغفرة أن يحتج بمثل حجة آدم، فيقول: أتلومني على أن قتلت، أو زنيت، أو سرقت. وقد قدر الله عليّ ذلك.
الإعراب: {فَوَسْوَسَ:} الفاء: حرف عطف. (وسوس): ماض. {إِلَيْهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الشَّيْطانُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى الشيطان، (يا): أداة نداء تنوب مناب: «أدعو» . (آدم): منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب ب: (يا). {هَلْ:} حرف استفهام. {أَدُلُّكَ:} مضارع، والفاعل تقديره:
«أنا» ، والكاف مفعول به، {عَلى شَجَرَةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {شَجَرَةِ:} مضاف، و {الْخُلْدِ:} مضاف إليه. {وَمُلْكٍ:} معطوف على {شَجَرَةِ} . {لا:} نافية. {يَبْلى:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (ملك) والجملة الفعلية في محل جر صفة (ملك) والكلام:{يا آدَمُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قالَ..} . إلخ تفسير للوسوسة لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {فَأَكَلا مِنْها} أي: أكل آدم، وحواء من الشجرة المنهي عنها، وذكر الله في سورة (الأعراف) أن إبليس حلف لهما إنه لمن الناصحين. وانظر الآية رقم [21] منها وما ذكرته من قول محمد بن قيس، رحمه الله تعالى، ففيه كبير فائدة. وانظر اللباس الذي نزع عن آدم وحواء حتى بدت لهما سوآتهما في الآية رقم [20] من سورة (الأعراف).
{وَطَفِقا:} أخذا، وشرعا، فهذا الفعل من أفعال الشروع، {يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} أي: يرقعان، ويلزقان ورقة فوق ورقة على القبل، والدبر، وهذا؛ وخصف النعل خصفا خرزها، ورقعها. والورق قيل: ورق التين. وقيل: ورق الموز.
{وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ} أي: خالف أمره حيث أكل من الشجرة. {فَغَوى:} ففسد عيشه بنزوله إلى الدنيا. والغيّ: الفساد، وهو تأويل حسن، وهو أولى من تأويل من يقول: معناه ضل؛ من الغيّ الذي هو ضد الرشد. وقيل: معناه جهل موضع رشده. انتهى قرطبي. قال البيضاوي رحمه الله تعالى: والنعي عليه بالعصيان، والغواية مع صغر زلته تعظيم للزلة، وزجر بليغ لأولاده عنها. انتهى هذا؛ وخذ قول القائل في هذا المقام:[الكامل]
تضع الذّنوب على الذنوب وترتجي
…
درج الجنان وطيب عيش العابد
ونسيت أنّ الله أخرج آدما
…
منها إلى الدّنيا بذنب واحد
{ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ} أي: اختاره، واصطفاه، ووفقه للتوبة. {فَتابَ عَلَيْهِ} أي: قبل توبته لما تاب إلى الله، وأناب. {وَهَدى} أي: هداه لرشده؛ حتى رجع إلى الندم، والاستغفار.
تنبيه: قوله تعالى: {فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما} المراد المثنى؛ لأن المقصود آدم، وحواء، وقد جمع المضاف، وهو سوآت في محل المثنى، وقد تكلم السيوطي رحمه الله تعالى على هذه المسألة في كتابه:(همع الهوامع) الذي شرحت شواهده، وأعربتها، وأرجو الله أن يمتن عليّ بالتوفيق لطباعته، وها أنا ذا أنقل لك ما قاله بالحرف لتكون على بينة من أمرك.
قال رحمه الله تعالى: الأصل في كلام العرب دلالة كل لفظ على ما وضع له، فيدل المفرد على المفرد، والمثنى على اثنين، والجمع على جمع، وقد يخرج الكلام عن هذا الأصل، وذلك قسمان: مسموع، ومقيس:
فالأول: ما ليس جزءا ممّا أضيف إليه، سمع: ضع في رحالهما، يريد في اثنين، وديناركم مختلفة؛ أي: دنانيركم، وعيناه حسنة؛ أي: حسنتان، وأورد أربعة أبيات شعرية شاهدا لذلك.
قال: ومنه: لبّيك وإخوته، فإنه مثنى وضع موضع الجمع. وقالوا: شابت مفارقه، وليس له إلا مفرق واحد، وعظيم المناكب، وغليظ الحواجب، والوجنات، والمرافق، وعظيمة الأوراك، فكل هذا مسموع لا يقاس عليه، وقاسه الكوفيون، وابن مالك إذا أمن اللبس، وهو ماش على قاعدة الكوفيين من القياس على الشاذ، والنادر. قال أبو حيان: ولو قيس شيء من هذا لالتبست الدلالات، واختلطت الموضوعات.
والثاني: ما أضيف إلى متضمنه، وهو مثنى لفظا، نحو قطعت رءوس الكبشين؛ أي:
رأسيهما، أو معنى، نحو قول الشاعر:[الطويل]
رأيت بني البكريّ في حومة الوغى
…
كفاغري الأفواه عند عرين
فإن مثل ذلك ورد فيه الجمع، والإفراد، والتثنية، فمن الأول: قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما} . وقوله تعالى: {وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما،} ومن الإفراد قراءة الحسن: «(بدت لهما سوأتهما)» ، ومن التثنية قراءة من قرأ:«(بدت لهما سوأتاهما)» ، وقراءة الجمهور من الأول؛ أي: الجمع.
فطرد ابن مالك قياس الجمع، والإفراد أيضا لفهم المعنى، وخص الجمهور القياس بالجمع، وقصر الإفراد على ما سمع، وورد، وإنما وافق الجمهور على قياس الجمع كراهة اجتماع تثنيتين مع فهم المعنى، ولذلك شرط ألا يكون لكل واحد من المضاف إليه إلا شيء
واحد؛ لأنه إن كان له أكثر التبس، فلا يجوز في قطعت أذني الزيدين الإتيان بالجمع، ولا الإفراد للإلباس، وأورد ستة أبيات شعرية شاهدا لذلك، فإن فرق متضمناهما، كقوله تعالى:{عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} .
فقال ابن مالك أيضا بقياس الجمع، والإفراد، وخالفه أبو حيان؛ لأن الجمع إنما قيس هناك كراهة اجتماع تثنيتين؛ وقد زالت بتفريق المتضمنين. قال: فالذي يقتضيه النظر الاقتصار على التثنية، وإن ورد جمع، أو إفراد؛ اقتصر فيه على مورد السماع. قال: وأما الآية فليس المراد فيها باللسان الجارحة، بل المراد الكلام، أو الرسالة، فليس جزءا من داود، ولا من عيسى عليهما الصلاة والسّلام. انتهى.
أقول: ولم يذكر السيوطي رحمه الله تعالى أرجح الأوجه الثلاثة في الثاني: وهو ما أضيف إلى متضمنه، وهو جمع المضاف، وبقاء المضاف إليه على تثنيته، وبقاء كلّ من المضاف والمضاف إليه على تثنيته، فأرجحهما الوجه الأول، وهذه لغة القرآن كما رأيت، وهو متفق على رجحانه عند جميع النحاة، واختلف في الوجهين الآخرين، فذهب ابن مالك إلى رجحان الثاني:
على الثالث، وذهب أبو حيان إلى العكس، ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار» . وقد أطلت عليك الكلام في ذلك قصد الإفادة، والله ولي التوفيق.
تنبيه: يرد سؤال: آدم معصوم؛ فكيف يخالف النهي؟! وأجيب بوجوه: منها: أنه اعتقد: أن النهي عن أكل الشجرة للتنزيه، لا للتحريم. ومنها: أنه نسي النهي كما رأيت في الآية رقم [115].
ومنها: أنه اعتقد نسخه بسبب مقاسمة إبليس له: أنه من الناصحين، فاعتقد: أنه لا يحلف أحد بالله كذبا. هذا؛ ولا يستدل بما فعله آدم على جواز صدور الذنب من الأنبياء، وإنما ما حصل منهم، ولو عوتبوا عليه إنما وقع منهم على جهة الندور، وعلى جهة الخطأ، والنسيان، أو تأويل دعا إليه ذلك كالذي رأيته في أسرى بدر في سورة (الأنفال)، وكالإذن الذي كان من النبي صلى الله عليه وسلم للمنافقين في التخلف عن غزوة تبوك، كما رأيت في سورة (التوبة)، وكل ذلك لا يقدح في علوّ مناصبهم ورفعة شأنهم، ولقد أحسن الجنيد-رحمه الله تعالى-حيث قال: حسنات الأبرار سيئات المقربين؛ إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس، ولقد اختلف في الذي كان من آدم: هل كان قبل النبوة، أو بعدها؟ والظاهر: أنه أعطي النبوة في الأرض، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {فَأَكَلا:} الفاء: حرف استئناف. (أكلا): ماض، والألف فاعله. {مِنْها:}
متعلقان بالفعل قبلهما، وهما مفعوله في المعنى، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.
{فَبَدَتْ:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة، لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث التي هي حرف لا محل له. {لَهُما:} متعلقان بالفعل قبلهما. {سَوْآتُهُما:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها،
لا محل لها مثلها. {وَطَفِقا:} ماض ناقص، وألف الاثنين اسمه. {يَخْصِفانِ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وألف الاثنين فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (طفق). {عَلَيْهِما:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ وَرَقِ:} متعلقان به أيضا. أو هما متعلقان بمحذوف صفة لموصوف محذوف، التقدير: ورقا من ورق الجنة، و {وَرَقِ} مضاف، و {الْجَنَّةِ:} مضاف إليه، وجملة:{وَطَفِقا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا، وجملة:{وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ} معطوفة أيضا، لا محل لها، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {فَغَوى:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى آدم، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {ثُمَّ:} حرف عطف. {اِجْتَباهُ:} ماض، ومفعوله. {رَبُّهُ:} فاعله
…
إلخ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {فَتابَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {رَبُّهُ}. {عَلَيْهِ:} متعلقان به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {وَهَدى:} ماض، وفاعله يعود إلى ربه، ومفعوله محذوف، التقدير: وهداه.
والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. تأمّل، وتدبّر.
الشرح: {قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً} أي: من الجنة، أو من السماء. هذا؛ والهبوط:
الإنزال، والانحدار من فوق إلى أسفل على سبيل القهر، والهوان، والاستخفاف، وهو بكسر الباء، وقد تضمّ. هذا؛ وقد قال الله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [13]:{فَاهْبِطْ} بالإفراد.
وقال في سورة (البقرة) رقم [36 و 38]: {اِهْبِطُوا} بالجمع. وقال هنا: {اِهْبِطا} بالتثنية.
والمراد بالأول: إبليس وحده كما هو ظاهر، والمراد بالثاني: آدم وحواء، وإبليس. وقيل:
والحية، والصحيح: أن المراد: آدم وحواء وذريتهما. والمراد بالثالث: آدم وحواء، أو آدم وإبليس، وهو الظاهر. قال البيضاوي: ولما كانا أصل الذرية خاطبهما مخاطبتهم، فقال:
بعضكم لبعض عدو، وهذه العداوة بين آدم وإبليس من جهة، وبين إبليس وذريته من جهة أخرى حتمها الله، وقدرها من قديم الأزل، ولا تنس: العداوة التي تقع بين ذرية آدم بسبب المعاش، كما عليه الناس من التجاذب والتحارب والتكالب على حطام الدنيا، وذلك واضح جليّ للعيان.
{فَإِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} أي: كتاب، ورسول هو محمد صلى الله عليه وسلم، أو المراد جميع الكتب، وجميع الرسل، وهو أليق بالمقام. {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ} أي: كتبي، ورسلي الذين أرسلهم لهداية البشر من ذريتك يا آدم. {فَلا يَضِلُّ:} في الدنيا بالانحراف عن الصراط المستقيم. {وَلا يَشْقى:} في الآخرة بالعقاب الشديد، والعذاب الأليم. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: من
قرأ القرآن، واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة، ووقاه سوء الحساب يوم القيامة، وذلك؛ لأن الله تعالى يقول:{فَمَنِ اتَّبَعَ..} . إلخ بعد هذا انظر إعلال {هُدىً} في الآية رقم [13] من سورة (الكهف)، وشرح «عدو» في الآية رقم [39].
الإعراب: {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {رَبُّهُ}. {اِهْبِطا:} أمر مبني على حذف النون، والألف فاعله. {مِنْها:} متعلقان بالفعل قبلهما. {جَمِيعاً:} حال من ألف الاثنين فيها معنى التأكيد. {بَعْضُكُمْ:} مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة. {لِبَعْضٍ:} متعلقان ب:
{عَدُوٌّ} بعدهما. {عَدُوٌّ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من ألف الاثنين، والرابط: الضمير فقط، وقد رأيت في الشرح المراد من ألف الاثنين. {فَإِمّا:} الفاء:
حرف تفريع واستئناف. (إما): هي (إن) الشرطية مدغمة في (ما) الزائدة للتأكيد. {يَأْتِيَنَّكُمْ:}
مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم فعل الشرط، والكاف مفعول به، {مِنِّي:} متعلقان بالفعل قبلهما، والنون للوقاية، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {هُدىً} كان صفة له، فلما قدم عليه؛ صار حالا
…
إلخ، {هُدىً:} فاعل مرفوع، وعلامة الرفع ضمة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.
{فَمَنِ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {اِتَّبَعَ:} ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من).
{هُدايَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والياء في محل جر بالإضافة. {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا): نافية. {يَضِلُّ:} مضارع، وفاعله يعود إلى (من)، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط، وجملة:{وَلا يَشْقى} معطوفة عليها، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه كما رأيت في الآية رقم [74] هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا فالجملة الفعلية:{اِتَّبَعَ هُدايَ} صلتها، وجملة:{فَلا يَضِلُّ..} . إلخ في محل رفع خبرها، وزيدت الفاء في الخبر؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، وعلى الاعتبارين فالجملة الاسمية:{فَمَنِ اتَّبَعَ..} . إلخ في محل جزم جواب (إن) عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. هذا؛ والجمل {اِهْبِطا..} . إلخ كلها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} أي: ديني، وتلاوة كتابي، والعمل بما فيه. {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} أي: عيشا ضيقا، يقال: منزل ضنك، وعيش ضنك، فهو مصدر يستوي فيه الواحد، والاثنان، والجمع، والمذكر، والمؤنث. قال عنترة:[الكامل]
إن يلحقوا أكرر، وإن يستلحموا
…
أشدد، وإن يلفوا بضنك أنزل
وهذا من قبيل القاعدة التي ذكرها ابن مالك رحمه الله تعالى في قوله: [الرجز]
ونعتوا بمصدر كثيرا
…
فالتزموا الإفراد والتّذكيرا
وقال سعيد بن جبير-رحمه الله تعالى-في معنى الضنك: يسلبه القناعة حتى لا يشبع، فمع الدين التسليم، والقناعة، والتوكل، فتكون حياة طيبة، كما قال تعالى:{فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً} ومع الإعراض الحرص، والشح فعيشة المعرض عن الإيمان ضنك، وحاله مظلمة، كما قال بعضهم: لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته، وتشوش عليه رزقه، وكان في عيشه ضنك. هذا؛ وقيل: المراد به: عذاب القبر. قال أبو سعيد الخدري: يضغط عليه في القبر؛ حتى تختلف أضلاعه. وقيل: هو الزقوم، والضريع، والغسلين في النار. وقيل: غير ذلك.
هذا؛ ويقرأ: «(ضنكى)» كسكرى.
{وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: أعمى البصر، وهو كقوله تعالى:{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً} . وقيل: أعمى عن الحجة. وقيل: أعمى عن جهات الخير لا يهتدى إليها. وأعتمد هذا؛ وانظر الآية رقم [72] و [97] من سورة (الإسراء) ففيهما الشفاء الكافي لقلبك، والغذاء الوافي لروحك، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه، ولا تنس: الالتفات من المتكلم المفرد إلى المتكلم المجموع.
الإعراب: {وَمَنْ:} الواو: حرف عطف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَعْرَضَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من) تقديره:«هو» . {عَنْ ذِكْرِي:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {فَإِنَّ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنّ):
حرف مشبه بالفعل. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (إنّ) تقدم على اسمها.
{مَعِيشَةً:} اسم (إنّ) مؤخر. {ضَنْكاً:} صفة معيشة. وانظر الشرح، والجملة الاسمية:{فَإِنَّ لَهُ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. وانظر بقية الكلام في قوله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ..} . إلخ في الآية السابقة، فهو مثله بلا فارق، والجملة الاسمية معطوفة عليها، فمحلها مثلها.
{وَنَحْشُرُهُ:} الواو: حرف استئناف. (نحشره): فعل مضارع، والفاعل مستتر وجوبا تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بما قبله، وهو مضاف، و {الْقِيامَةِ:} مضاف إليه. {أَعْمى:} حال من الضمير المنصوب، فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر.
{قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125)}
الشرح: {قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى} أي: بأي: ذنب عاقبتني بالعمى. {وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} أي: في الدنيا، وكأنه يظن أن لا ذنب له. هذا؛ والتعبير بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه، وقد نوهت بذلك فيما مضى. وانظر شرح {رَبِّ} في الآية رقم [3] من سورة (مريم)، وشرح {لِمَ} في الآية رقم [42] منها.
الإعراب: {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {آدَمُ} عليه السلام. {رَبِّ:} منادى حذفت منه أداة النداء. وانظر الآية رقم [25]{لِمَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما، (ما): اسم استفهام مبني على السكون، وهو الألف المحذوفة للفرق بين الخبر، والاستخبار. {حَشَرْتَنِي:}
فعل، وفاعل، ومفعول به، والنون للوقاية. {أَعْمى:} حال من ياء المتكلم منصوب
…
إلخ، والجملة الفعلية، والندائية كلتاهما في محل نصب مقول القول. {وَقَدْ:} الواو: واو الحال.
(قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {كُنْتُ:} ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {بَصِيراً:} خبره، وجملة:{وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} في محل نصب حال ثانية من ياء المتكلم، والرابط: الواو، والضمير، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126)}
الشرح: {قالَ} أي: الله. {كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا} أي: الدلالات واضحة نيرة على وحدانيتنا وقدرتنا. {فَنَسِيتَها} أي: أهملتها، وأعرضت عنها، ولم تنظر فيها نظر تبصر، واعتبار. {وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى} أي: تترك في النار، أو تنسى من الرحمة، ولا تنسى من العذاب. وينبغي أن تعلم أنّ الكلام والخطاب مع آدم، والمراد: ذريته فردا فردا إلى يوم القيامة؛ كيف لا وقد قال تعالى:
{ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى} .
هذا؛ والتعبير ب: {تُنْسى} لمشاكلة (نسيتها) فالله لا يقع منه نسيان لشيء أبدا لا في الدنيا، ولا في الآخرة، وهذه المشاكلة نبهت عليها كثيرا في محالها، بعد هذا انظر (نا) في الآية رقم [49] من سورة (مريم) عليها السلام. وانظر (النسيان) في الآية رقم [24] من سورة (الكهف)، وشرح:{الْيَوْمَ} في الآية رقم [14] من سورة (الإسراء).
الإعراب: {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى (الله) {كَذلِكَ} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ذا):
اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: الأمر كذلك، أو هما متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف عامله ما بعده، التقدير: قال: أتتك آياتنا إتيانا مثل
ذلك. وهذا أولى من اعتبار عامله ما قبله، التقدير: حشرنا حشرا مثل ذلك. تأمل. {أَتَتْكَ:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث التي هي حرف لا محل له، والكاف مفعول به. {آياتُنا:} فاعل، و (نا): في محل جر بالإضافة. {فَنَسِيتَها:} الفاء: حرف عطف. (نسيتها): فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها فهي مثلها في محل نصب مقول القول. {وَكَذلِكَ:} الواو: حرف عطف. (كذلك): متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، التقدير: تنسى اليوم نسيانا كائنا مثل نسيانك آياتنا.
{الْيَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بما بعده. {تُنْسى:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، ونائب الفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} أي: وكما جزينا من أعرض عن القرآن، وعن النظر في دلائل قدرتنا، ووحدانيتنا؛ نجزي من أسرف في المعاصي، وانهمك في الشهوات. وهذه الآية أقوى دليل على تعذيب أهل المعاصي، والمنكرات، والفواحش من المسلمين. {وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ:} لم يصدق، ولم يعمل بها. هذا؛ وإني أقول: إن أرباب المعاصي من المسلمين لا يصدقون بآيات الله، والدليل على ذلك: أن الوعظ، والنصح، والإرشاد لا يقع منهم موقع القبول، بل يقابل بالرفض منهم، ومقاومة، ومعادات الواعظ، والناصح لهم، وهذا مشاهد وملموس في واقعنا الحاضر، ولا حول، ولا قوة إلا بالله.
{وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى} أي: أفظع من المعيشة الضنك، وعذاب القبر؛ لأنه أدوم، وأثبت، فهو لا ينقطع، ولا ينقضي. هذا؛ وفي الآية التفات من التكلم إلى الغيبة. انظر شرح الالتفات في الآية رقم [22] من سورة (النحل) وشرح الآخرة في الآية رقم [30] منها، وشرح {يَجْزِي} في الآية رقم [31] منها أيضا، وهذا آخر ما يتعلق من كلام بقصة آدم، على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف سلام وألف صلاة. وإن أردت أن تعرف قصة آدم بحذافيرها فارجع إلى سورة (الحجر)، وسورة (الأعراف)، وسورة (البقرة)، فإن ما أغفل هنا ذكر هنا، أو هناك، والله الموفق والمعين، وبه أستعين.
الإعراب: {وَكَذلِكَ:} الواو: حرف عطف. (كذلك): متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف عامله ما بعده، التقدير: نجزي من أسرف في المعاصي جزاء كائنا مثل جزاء من نسي الآيات وأعرض عنها. واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {نَجْزِي:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية
على السكون في محل نصب مفعول به أول، والمفعول الثاني: محذوف، وجملة:{أَسْرَفَ} مع المتعلق المحذوف صلة {مَنْ،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، والتقدير: نجزي الذي، أو شخصا أسرف في المعاصي عذابا شديدا. {وَلَمْ:} الواو: حرف عطف. {وَلَمْ يُؤْمِنْ:} مضارع مجزوم ب: (لم)، والفاعل يعود إلى {مَنْ}. {بِآياتِ:} متعلقان به، و (آيات): مضاف، و {رَبِّهِ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، والفاعل مستتر فيه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، واعتبارها حالا لا بأس به. {وَلَعَذابُ:} الواو: حرف استئناف. اللام: لام الابتداء. (عذاب): مبتدأ، وهو مضاف، و {الْآخِرَةِ} مضاف إليه. {أَشَدُّ:}
خبر المبتدأ، {وَأَبْقى:} معطوف عليه مرفوع مثله، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، وفيهما ضمير مستتر وجوبا هو فاعلهما. هذا؛ والآية بكاملها معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا. تأمل، وتدبر.
الشرح: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ..} . إلخ: أي: أفلم يتبين لأهل مكة خبر من أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إذا سافروا، وخرجوا في التجارة لطلب المعيشة، فيرون بلاد الأمم الماضية، والقرون الخالية خاوية، كقوم عاد، وثمود، وقوم لوط، أفلا يخافون أن يحل بهم ما حل بالمكذبين قبلهم من الهلاك، والانتقام. {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ:} لدلالات واضحة، وبراهين ساطعة على قدرتنا، ووحدانيتنا. {لِأُولِي النُّهى:} لذوي العقول السليمة الناهية عن التغافل، والتعامي عن التبصر والاعتبار. هذا؛ وانظر شرح (أولي) في الآية رقم [54].
الإعراب: {أَفَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي. الفاء: حرف عطف، أو حرف استئناف. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَهْدِ:} مضارع مجزوم ب: (لم)، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، وفي الفاعل أقوال كثيرة.
قال ابن هشام في مغنيه بعد أن رد قول ابن عصفور: إنّ {كَمْ} فاعل، مردود بأنّ {كَمْ} لها الصدر، فقال: وإنما الفاعل ضمير اسم الله تعالى، أو ضمير العلم، أو الهدى المدلول عليه بالفعل، أو جملة:{أَهْلَكْنا} على القول بأن الفاعل يكون جملة، وجوز أبو البقاء كونه ضمير الإهلاك المفهوم من الجملة، وليس هذا من المواطن التي يعود الضمير فيها على المتأخر. انتهى. هذا؛ واعتبر الجلال الفاعل المصدر المأخوذ من {أَهْلَكْنا} واعتذر عن ذلك بقوله: وما ذكر من أخذ «إهلاك» من فعله الخالي عن حرف مصدري لرعاية المعنى لا مانع منه.
{لَهُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {كَمْ:} خبرية بمعنى: كثير مبنية على السكون في محل نصب
مفعول به مقدم. {أَهْلَكْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب مفعول به للفعل {يَهْدِ} وهو معلق عن العمل فيها لفظا؛ لأن «كم» الخبرية تعلق ذكره ابن هشام في المغني، أو في محل رفع فاعل على حسب ما رأيت في الفاعل. {قَبْلَهُمْ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله والأولى تعليقه بمحذوف حال من القرون، التقدير: من القرون كائنين قبلهم، ومثله في آية (السجدة) رقم [26] والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {مِنَ الْقُرُونِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من {كَمْ} و {مِنَ} بيان لما أبهم فيها. وقيل: متعلقان بمحذوف صفة تمييز {كَمْ} المحذوف؛ فإن التقدير: كم قرنا من القرون أهلكنا.
{يَمْشُونَ:} مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا باللام، والرابط: الضمير فقط. {فِي مَسْكَنِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {فِي ذلِكَ:} متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ} تقدم على اسمها، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لَآياتٍ:} اللام: لام الابتداء.
(آيات): اسم إن مؤخر منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم.
{لِأُولِي:} متعلقان بمحذوف صفة (آيات) وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و (أولي) مضاف، و {النُّهى} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، والكلام:{أَفَلَمْ..} . إلخ كله مستأنف، أو معطوف على كلام محذوف، التقدير: أغفلوا، فلم يهد
…
إلخ، لا محل له على الاعتبارين.
{وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)}
الشرح: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} أي: ولولا حكم أزلي سبق في علمه تعالى بتأخير العذاب عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى أجل مسمى، وهو يوم القيامة؛ لكان العذاب واقعا بأهل مكة، والمكذبين له صلى الله عليه وسلم، كما وقع ولزم القرون الماضية، والأمم الخالية الكافرة التي كذبت رسلها.
هذا؛ وانظر شرح: {كَلِمَةٌ} في الآية رقم [24] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. وإعلال {مُسَمًّى} مثل إعلال {هُدىً} في الآية رقم [13] من سورة (الكهف).
وانظر شرح {لِزاماً} في الآية رقم [77] من سورة (الفرقان) فإنه جيد.
الإعراب: {وَلَوْلا:} الواو: حرف استئناف. (لولا): حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط. {كَلِمَةٌ:} مبتدأ، والخبر محذوف وجوبا، تقديره: موجودة. {سَبَقَتْ:} ماض، والفاعل يعود إلى {كَلِمَةٌ} والتاء للتأنيث، والجملة الفعلية صفة {كَلِمَةٌ}. {مِنْ رَبِّكَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لَكانَ:} اللام: واقعة في جواب
(لولا). (كان): ماض ناقص، واسمه محذوف معلوم من المقام، التقدير: لكان العذاب.
{لِزاماً:} خبر كان، والجملة الفعلية جواب (لولا) لا محل لها. {وَأَجَلٌ:} معطوف على {كَلِمَةٌ} . وقال الجلال: معطوفة على اسم كان المستتر، وقام الفصل بخبرها مقام التأكيد.
ويكون التقدير: لكان العذاب، أو الأخذ العاجل وأجل مسمى، لازمين لهم، كما كانا لازمين لعاد، وثمود، وغيرهما. {مُسَمًّى:} صفة أجل مرفوع مثله، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والثابتة دليل عليها، وليست عينها، ولولا، ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.
الشرح: {فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ:} أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على أقوالهم: إنه ساحر، إنه كذاب، إنه كاهن إلى غير ذلك. والمعنى: لا تكترث بهم، فإن لعذابهم وقتا مضروبا لا يتقدم، ولا يتأخر. {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي: صل، وأنت حامد لربك على هدايته، وتوفيقه، أو نزهه عن الشرك وسائر ما يضيفون إليه من النقائص، حامدا له على ما ميزك به، معترفا بأنه مولي النعم كلها.
{قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} أي: صلاة الفجر. {وَقَبْلَ غُرُوبِها:} يعني: الظهر، والعصر؛ لأنهما آخر النهار، أو العصر وحده. {وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ} أي: من أوقاته، وساعاته. {فَسَبِّحْ} أي: فصل المغرب، والعشاء. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يريد أول الليل، وإنما قدم زمان الليل فيه لاختصاصه بمزيد من الفضل، فإن القلب فيه أجمع والنفس أميل إلى الراحة، فكانت العبادة فيه أحزم؛ ولذلك قال تعالى:{إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} . {وَأَطْرافَ النَّهارِ:} تكرير لصلاتي: الصبح، والمغرب. انتهى. بيضاوي. وفي القرطبي: المغرب، والظهر؛ لأن الظهر في آخر طرف النهار الأول، وأول طرف النهار الآخر، فهي في طرفين منه، ومثله في الخازن، وما أحراك أن تنظر الآية رقم [114] من سورة (هود) عليه السلام، والآية رقم [17] و [18] من سورة (الروم).
تنبيه: جاء لفظ التسبيح بالماضي أحيانا، وبالمضارع أحيانا، وبالأمر أحيانا، وبالمصدر أحيانا أخرى، استيعابا لهذه الكلمة من جميع جهاتها، وألفاظها، وهي أربع: المصدر، والماضي، والمضارع، والأمر. وهذا الفعل بألفاظه الأربعة، وقد عدّي باللام تارة، مثل قوله تعالى:{سَبَّحَ لِلّهِ،} {تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ..} . إلخ: وبنفسه أخرى، مثل قوله تعالى:{وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً،} وقوله جل شأنه: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ} وأصله التعدي بنفسه؛ لأن معنى سبّحته بعدته من السوء، منقول من: سبّح: إذا ذهب، وبعد، فاللام إما أن تكون مثل
اللام في نصحته، ونصحت له، وشكرته، وشكرت له، وإما أن يراد يسبح لله: اكتسب التسبيح لأجل الله، ولوجهه خالصا. انتهى نسفي من سورة (الحديد).
{لَعَلَّكَ تَرْضى} أي: لعلك تثاب على هذه الأعمال بما ترضى به. وقيل: معناه لعلك ترضى بالشفاعة العظمى. هذا؛ ويقرأ: «(ترضى)» بضم التاء؛ أي: لعلك تعطى ما يرضيك. وانظر مثل هذا الترجي في الآية رقم [44] وانظر شرح (الليل، والنهار) في الآية رقم [9] من سورة (الإسراء). وانظر (الحمد، والشكر) في الآية رقم [39] من سورة (إبراهيم) عليه السلام.
أما {آناءِ} فواحدها: أنى بفتح الهمزة، والنون، أو إنى بكسر الهمزة، وفتح النون، أو أني بالفتح والسكون، أو إني بالكسر والسكون، أو إنو بالكسر والسكون وبالواو، وكل واحد من هذه المفردات الخمس يطلق على الساعة من الزمان. وانظر مفرد (آلاء) في الآية رقم [69] من سورة (الأعراف) فهو قريب منه، وأما (أطراف) فهو جمع: طرف بفتحتين، وهو في الأصل:
حرف الشيء، ومنتهاه. وانظره بفتح الطاء وسكون الراء في الآية رقم [43] من سورة (إبراهيم) صلّى الله على محمد، وعليه، وسلم.
الإعراب: {فَاصْبِرْ:} الفاء: حرف استئناف. (اصبر): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» {عَلى ما:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:{عَلى} والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: على الذي، أو على شيء يقولونه، وعلى الثالث تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب:{عَلى} التقدير: فاصبر على قولهم، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. وقيل: الفاء الفصيحة، التقدير: إذا كان الأمر على ما ذكر من أن تأخير عذابهم ليس بإهمال، بل إمهال، وهو واقع بهم، وآت عليهم فاصبر، وهو تكلف كما ترى. {وَسَبِّحْ:}
أمر، وفاعله أنت. {بِحَمْدِ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، التقدير: سبح ملتبسا بحمد، و (حمد) مضاف، و {رَبِّكَ} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {قَبْلَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل (سبح)، و {قَبْلَ:}
مضاف، و {طُلُوعِ} مضاف إليه، و {طُلُوعِ} مضاف، و {الشَّمْسِ} مضاف إليه، {وَقَبْلَ غُرُوبِها:}
معطوف على سابقه، وجملة:{وَسَبِّحْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
{وَمِنْ آناءِ:} متعلقان بالفعل بعدهما، و {آناءِ:} مضاف، و {اللَّيْلِ} مضاف إليه.
{فَسَبِّحْ:} الفاء: زائدة. وقيل: عاطفة على مقدر، أو واقعة في جواب شرط مقدر، والمعتمد الأول. (سبح): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {وَأَطْرافَ:} معطوف على محل (من آناء) فهو ظرف بلا ريب. وقيل: معطوف على: (قبل) والأول: أقوى، و (أطراف): مضاف، و {النَّهارِ:} مضاف إليه. {لَعَلَّكَ:} حرف
مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {تَرْضى:} مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية في محل خبر (لعل) والجملة الاسمية:{لَعَلَّكَ..} .
إلخ في محل نصب حال من فاعل (سبح) المستتر، التقدير: سبح أي: صل حال كونك راجيا وطامعا في أن الله يرضيك بما يعطيك من الثواب. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ..} . إلخ: المعنى لا تتطلع يا محمد، ولا تنظر إلى ما أعطيناه الكفار من متع الحياة الدنيا، ولذائذها وشهواتها، فإن ذلك لا دوام له، ولا بقاء، وما أعطيناه الكفار من حطام الدنيا الفاني إنما هو كالزهرة تتفتح في أول النهار، ثم تذبل في آخره، فقد نهى الله النبي صلى الله عليه وسلم عن الرغبة في الدنيا، ومزاحمة أهلها عليها، ولذا كان لا ينظر إلى شيء من متعها، ولا يلتفت إليه، ولا يستحسنه.
{لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ:} لنختبرهم. وقيل: لنجعل ذلك فتنة لهم، وضلالا، فيزدادوا كفرا، وطغيانا، ومعنى أزواجا: أصنافا من الكفرة. {وَرِزْقُ رَبِّكَ} أي: ما ادخر لك في الآخرة، أو ما رزقك من الهدى والنبوة. {خَيْرٌ وَأَبْقى:} أفضل، وأدوم؛ لأنه لا ينقطع، ولا ينتهي. هذا؛ وانظر شرح (العين) في الآية رقم [86] من سورة (الكهف)، وشرح {خَيْرٌ} في الآية رقم [44] منها.
قال القرطبي رحمه الله تعالى: قال بعض الناس: سبب نزول هذه الآية ما رواه أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نزل ضيف برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلني عليه السلام إلى رجل من اليهود، وقال:«قل له يقول لك رسول الله: نزل بنا ضيف، ولم يلف عندنا بعض الذي يصلحه، فبعني كذا، وكذا من الدقيق، أو أسلفني إلى هلال رجب» . فقال: لا، إلا برهن. قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال:«والله إني لأمين في السماء، أمين في الأرض، ولو أسلفني، أو باعني؛ لأديت إليه، اذهب بدرعي إليه» . ونزلت الآية تعزية له عن الدنيا.
قال ابن عطية: وهذا معترض أن يكون سببا؛ لأن السورة مكية والقصة المذكورة مدنية في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مات؛ ودرعه مرهونة عند يهودي بهذه القصة التي ذكرت، وإنما الظاهر: أن الآية متناسقة مع ما قبلها، وذلك: أن الله تعالى وبخهم على ترك الاعتبار بالأمم السالفة، ثم توعدهم بالعذاب المؤجل، ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالاحتقار لشأنهم، والصبر على أقوالهم، والإعراض عن أموالهم، وما في أيديهم من الدنيا؛ إذ ذلك منصرم عنهم، صائر إلى خزي. انتهى. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [88] من سورة (الحجر) ففيها كبير فائدة. والله الموفق، والمعين، وبه أستعين.
الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تَمُدَّنَّ:} مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، التي هي حرف لا محل له، وهو في محل جزم ب:(لا) الناهية، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {عَيْنَيْكَ} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، والكاف في محل جر بالإضافة، {إِلى:} حرف جر. {ما:}
اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر ب:{إِلى} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مَتَّعْنا:} فعل، وفاعل. {بِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلا بالباء. {أَزْواجاً:} فيه، وجهان: أحدهما أنه مفعول به، وهو واضح، والثاني: أنه حال من الضمير في {بِهِ} فيكون فيه مراعاة لفظ {ما} مرة ومعناها أخرى، فلذلك جمع. {مِنْهُمْ:} متعلقان بمحذوف صفة {أَزْواجاً} على اعتباره مفعولا به، أو هما متعلقان بمحذوف مفعول به على اعتبار:{أَزْواجاً} حالا، وجملة:
{وَلا تَمُدَّنَّ..} . إلخ معطوفة على جملة: {فَاصْبِرْ..} . إلخ لا محل لها مثلها.
{زَهْرَةَ:} فيه تسعة أوجه: أحدها: أنه مفعول به ثان على تضمين: {مَتَّعْنا} معنى:
«أعطينا» ، والأول: هو {أَزْواجاً} أو متعلق {مِنْهُمْ} حسب ما رأيت، الثاني: أن يكون بدلا من {أَزْواجاً} وذلك إما على حذف مضاف؛ أي: ذوي زهرة. وإما على المبالغة جعلوا نفس الزهرة.
الثالث: أن يكون منصوبا بفعل مضمر دل عليه {مَتَّعْنا} تقديره: جعلنا لهم زهرة، أو آتيناهم.
وهو قول ابن هشام في المغني. الرابع: نصبه على الذم؛ أي: أذم زهرة، وسماه الزمخشري النصب على الاختصاص. الخامس: أن يكون بدلا من موضع الموصول، ورد هذا ابن هشام في مغنيه، ورده مكي أيضا لأن:{لِنَفْتِنَهُمْ} من صلة {مَتَّعْنا،} وجملة: {مَتَّعْنا} صلة الموصول، فيلزم الفصل بين أبعاض الصلة بأجنبي، وبأن الموصول لا يتبع قبل كمال صلته.
السادس: أن يكون بدلا من محل: {بِهِ} قال ابن هشام: وفيه ما ذكر؛ أي: ما المانع المذكور، وزيادة الإبدال من العائد، وبعضهم يمنعه بناء على أنّ المبدل منه في نية الطرح، فيبقى الموصول بلا عائد في التقدير. السابع: أن ينتصب على الحال من {ما} الموصولة. الثامن: أنه حال من الهاء في {بِهِ،} وهو ضمير الموصول، وهذا كالذي قبله، وإن التنوين حذف لسكونه وسكون اللام من {الْحَياةِ} وإن جر {الْحَياةِ} على أنه بدل من (ما) كما قرئ:«(ولا الليل سابق النهارَ)» فنصب النهار بسابق على تقدير حذف التنوين بسكونه وسكون اللام، وهو قول عزاه مكي لأبي محمد من غير تسمية له، ورده ابن هشام. التاسع: أنه تمييز ل: {ما} أو للهاء في {بِهِ} قاله الفراء. قال ابن هشام: وهذا على مذهب الكوفيين في تعريف التمييز. وقال مكي: ويجوز أن تنصب {زَهْرَةَ} على أنها موضوعة موضع المصدر، موضع «زينة» مثل:(صنع الله) و (وعد الله) وفيه نظر، فيكون وجها عاشرا. انتهى. جمل نقلا من السمين. وفيه ما أدخلته من قول ابن هشام وقول مكي، رحم الله الجميع رحمة واسعة، وحشرنا معهم في مستقر رحمته.
{لِنَفْتِنَهُمْ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر تقديره:
«نحن» ، والهاء مفعول به، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {مَتَّعْنا}. {فِيهِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَرِزْقُ:} الواو:
حرف استئناف. (رزق): مبتدأ، و «هو» مضاف، و {رَبِّكَ} مضاف إليه، من: إضافة المصدر لفاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، {خَيْرٌ:} خبر المبتدأ. {وَأَبْقى:} معطوف عليه، وفاعلهما مستتر فيهما وجوبا، تقديره:«هو» ، والجملة الاسمية مستأنفة، أو معترضة في آخر الكلام لا محل لها. وقيل: حال. ولا وجه له.
الشرح: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ:} أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يأمر أهل بيته، أو التابعين له من أمته بالصلاة بعد ما أمره بها، ويدخل في عموم هذا الأمر جميع أمته، وأهل بيته على التخصيص، وكان صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية يذهب كل صباح إلى بيت فاطمة، وعلي رضوان الله عليهما، فيقول: الصلاة، ويروى: أن عروة بن الزبير-رضي الله عنهما-كان إذا رأى شيئا من أخبار السلاطين، وأحوالهم بادر إلى منزله، فدخله، وهو يقرأ:{وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ..} . إلخ، ثم ينادي بالصلاة، ويقول: الصلاة يرحمكم الله! {وَاصْطَبِرْ عَلَيْها} أي: داوم عليها، فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.
{لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً} أي: لا نطلب منك أن ترزق نفسك وأهلك، بل نحن نتكفل برزقك، وإياهم؛ وقد قال تعالى:{وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (56) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} وكان صلى الله عليه وسلم إذا نزل بأهله ضيق أمرهم بالصلاة.
{وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى} أي: العاقبة المحمودة لأهل التقوى. قال ابن عباس-رضي الله عنهما:
الذين صدقوك، وآمنوا بك، واتبعوك.
الإعراب: {وَأْمُرْ:} الواو: حرف عطف. (اؤمر): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» .
{أَهْلَكَ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، {بِالصَّلاةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{وَأْمُرْ..} . إلخ معطوفة على جملة: (اصبر
…
) إلخ لا محل لها مثلها، وجملة:
{وَاصْطَبِرْ عَلَيْها} معطوفة عليها أيضا. {لا:} نافية. {نَسْئَلُكَ:} مضارع، والفاعل تقديره:
«نحن» ، والكاف مفعول به أول. {رِزْقاً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل نصب حال من كاف المخاطب، والرابط: الضمير فقط. وانظر مجيء الحال من المضاف إليه في الآية رقم [23] من سورة (الإسراء). {نَحْنُ:} ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع مبتدأ.
{نَرْزُقُكَ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والكاف مفعول به أول، والثاني:
محذوف، التقدير: نرزقك ما نشاء، ونحوه، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية تعليل للنفي لا محل لها، أو هي مستأنفة، لا محل لها أيضا. {وَالْعاقِبَةُ:} الواو:
حرف استئناف. (العاقبة): مبتدأ. {لِلتَّقْوى:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {وَقالُوا} أي: كفار مكة. {لَوْلا يَأْتِينا:} هلا يأتينا محمد صلى الله عليه وسلم. {بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ} أي: معجزة تدل على صدقه، وذلك كعصا موسى، أو ناقة صالح، أو كالذي اقترحوه من شق الأنهار حول مكة، وتسيير الجبال، وغير ذلك، كما رأيت في الآية رقم [90] من سورة (الإسراء) وما بعدها.
{أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى} يريد: التوراة، والإنجيل، والكتب المتقدمة التي بشرت بمحمد صلى الله عليه وسلم. وأيضا ما ذكر فيها من إهلاك الأمم السابقة الذين اقترحوا الآيات فلما أتتهم، ولم يؤمنوا؛ أهلكوا. وأيضا، فإن القرآن الكريم قد جمع بين دفتيه زبدة ما في الكتب المتقدمة من العقائد والأحكام مع أن الآتي بها أمّيّ لم يرها، ولم يتعلم من علمها، أليس في ذلك معجزة باهرة وبرهان ساطع على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؟! والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَقالُوا:} الواو: حرف استئناف. (قالوا): ماض، وفاعله، والألف للتفريق.
{لَوْلا:} حرف تحضيض. {يَأْتِينا:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، و (نا): مفعول به. {بِآيَةٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ رَبِّهِ:} متعلقان بمحذوف صفة (آية) والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {أَوَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي. الواو: عاطفة على مقدر يقتضيه المقام، كأنه قيل: ألم تأتهم سائر الآيات، ولم تأتهم خاصة بينة. هذا؛ ويقرأ الفعل بالياء والتاء سبعيتان. {بَيِّنَةُ:} فاعل، وهو مضاف، و {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة. هذا؛ ويقرأ «(بينة)» بالتنوين منصوبا ومرفوعا، فالنصب على الحال من {ما} وقد قدمت عليها، والرفع على أنها فاعل، و {ما:} بدل منها، أو خبر مبتدأ محذوف، وتكون الجملة صفة {بَيِّنَةُ}. {فِي الصُّحُفِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول.
{الْأُولى:} صفة الصحف مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. هذا؛ والكلام:{لَوْلا..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَلَوْ أَنّا أَهْلَكْناهُمْ} أي: أهل مكة. {بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ} أي: قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن. {لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا..} . إلخ: أي: لقالوا يوم القيامة: هلا أرسلت إلينا يا ربنا رسولا يدعونا إلى الإيمان ويبيّن لنا ما يجب علينا من عبادتك، وتقديسك. {فَنَتَّبِعَ آياتِكَ..} .
إلخ: أن نذل بالقتل، والسبي في الدنيا، {وَنَخْزى} بالعقاب الشديد، والعذاب الأليم في الآخرة. هذا؛ ويقرأ الفعلان للمعلوم بالبناء للمجهول.
هذا؛ وروى أبو سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهالك في الفترة والمعتوه، والمولود. قال: «يقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتاب، ولا رسول، ثمّ تلا الآية:{وَلَوْ أَنّا أَهْلَكْناهُمْ..} . إلخ. ويقول المعتوه: ربّ لم تجعل لي عقلا، أعقل به خيرا، ولا شرّا. ويقول المولود: ربّ لم أدرك العمل. فترفع لهم نار، فيقول لهم: ردوها وادخلوها.
قال: فيردها، أو يدخلها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل، ويمسك عنها من كان في علم الله شقيّا لو أدرك العمل، فيقول الله تبارك وتعالى: إياي عصيتم، فكيف رسلي لو أتتكم؟!». وبه احتج من قال: إن الأطفال وغيرهم يمتحنون في الآخرة. انتهى. قرطبي. هذا؛ وانظر ما ذكرته في الآية رقم [15] من سورة (الإسراء) بشأن أهل الفترة.
الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.
{أَنّا:} حرف مشبه بالفعل. و (نا): اسمها، حذفت نونها للتخفيف، وبقيت الألف دليلا عليها.
{أَهْلَكْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به. وانظر إعراب (نذرت) في الآية رقم [26] من سورة (مريم) عليها السلام. {بِعَذابٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ قَبْلِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وتعليقهما بمحذوف صفة (عذاب) جيد معنى، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع فاعل لفعل محذوف، هو شرط لو عند المبرد، التقدير: ولو حصل، أو وقع عذابهم من قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال سيبويه: هو في محل رفع بالابتداء، والخبر محذوف، التقدير: ولو هلاكهم حاصل، أو واقع. وقول المبرد هو المرجح لأن (لو) لا يليها إلا فعل ظاهر، أو مقدر، والفاعل المقدر على قول المبرد، وفاعله المؤول جملة فعلية لا محل لها من الإعراب؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.
{لَقالُوا:} اللام: واقعة في جواب (لو). (قالوا): فعل، وفاعل، والألف للتفريق. وانظر الآية رقم [26] من سورة (مريم) عليها السلام. {رَبَّنا:} منادى حذفت منه أداة النداء، و (نا):
في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لَوْلا:} حرف تحضيض. {أَرْسَلْتَ:} فعل، وفاعل. {إِلَيْنا:} متعلقان بالفعل قبلهما. {رَسُولاً:} مفعول به.
{فَنَتَّبِعَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد الفاء السببية، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيد من الفاعل السابق، التقدير: لولا حصل إرسال رسول إلينا، فاتباع منا
…
إلخ. {آياتِكَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والكاف في محل جر بالإضافة. {مِنْ قَبْلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {قَبْلِ:} مضاف، والمصدر المؤول من {أَنْ نَذِلَّ} على القراءتين في محل جر بالإضافة. (نخزى): مضارع معطوف على ما قبله منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل، أو نائب الفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره:«نحن» . هذا؛ والكلام: {رَبَّنا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:
{لَقالُوا..} . إلخ جواب (لو)، لا محل لها، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.
الشرح: {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ} أي: كل واحد منا، ومنكم. {مُتَرَبِّصٌ:} منتظر دوائر الزمان، وذلك: أن المشركين كانوا يقولون: نتربص بمحمد ريب المنون، وحوادث الدهر، فإذا مات تخلصنا منه، وكان المؤمنون من جهتهم ينتظرون النصر، والعزة، وعلو شأن الإسلام، وذلّ الكافرين المعاندين. {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ:} هذا وعيد وتهديد، والمعنى:
ستعلمون إذا جاء نصر الله للمؤمنين من أصحاب الطريقة المستقيمة، ومن هم أصحاب الطريقة المعوجة، وستعلمون من اهتدى إلى الحق وإلى النعيم المقيم، ومن ضل وانحرف إلى الباطل، ومآله العقاب الشديد، والعذاب الأليم في نار الجحيم. فحذف أحد المتقابلين لدلالة الآخر عليه. هذا؛ ويقرأ:«(الصراط السواء)» أي: الوسط الجيد، وقرئ «(السّوء)» بفتح السين، و «(السوأى)» تأنيث الأسوأ، وقرئ و «(السُّوى)» .
الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {كُلٌّ:} مبتدأ. وانظر الشرح لحذف المضاف إليه. {مُتَرَبِّصٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {فَتَرَبَّصُوا:} الفاء: هي الفصيحة. (تربصوا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله والألف للتفريق. وانظر إعراب:(اشربي) في الآية رقم [26] من سورة (مريم) على نبينا، وحبيبنا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان الأمر كذلك؛ فتربصوا. {فَسَتَعْلَمُونَ:} الفاء: حرف استئناف. السين:
حرف استقبال. (تعلمون): مضارع مرفوع، والواو فاعله. {مَنْ:} اسم استفهام مبني على
السكون في محل رفع مبتدأ. {أَصْحابُ:} خبره، وأصحاب مضاف، و {الصِّراطِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل نصب سدت مسد مفعولي الفعل (تعلمون) أو مسد مفعول واحد؛ لأنه علق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام. هذا؛ وأجاز الفراء اعتبار (من) موصولة مفعولا به، وعليه ف:{أَصْحابُ} خبر مبتدأ محذوف، التقدير: الذين هم أصحاب، والجملة الاسمية صلة الموصول، وضعف هذا القول؛ لأن العائد قد حذف، ولم تطل الصلة. {مَنْ:} اسم استفهام مبتدأ، وجملة:{اِهْتَدى} في محل رفع خبره، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مثلها. هذا وعلى اعتبار:(من) موصولة، فهي معطوفة على ما قبلها، وجملة {اِهْتَدى} صلتها، وهذا يقوي ما قاله الفراء، و (أصحاب): مضاف، و {الصِّراطِ} مضاف إليه.
{السَّوِيِّ:} صفة الصراط. بعد هذا فالكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} .
إلخ مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
انتهت سورة (طه) بعونه تعالى تفسيرا وإعرابا.
**