المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة النّحل وتسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٥

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة النّحل وتسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من

‌سورة النّحل

وتسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من نعمه على عباده، وهي مكية غير قوله تعالى:

{وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ..} . إلخ؛ فإنها نزلت بالمدينة في شأن التمثيل بالحمزة، وقتلى أحد-رضي الله عنهم أجمعين-وغير قوله تعالى:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا..} .

إلخ الآية رقم [110]، وغير قوله تعالى:{وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا..} . إلخ. وقيل:

هذه مكية نزلت بشأن هجرة الحبشة. وقيل: غير ذلك، وآياتها مائة وثمان وعشرون، وكلماتها ألفان وثمانمائة وأربعون، وحروفها سبعة آلاف وسبعمائة وسبعة أحرف.

تنبيه: انظر شرح الاستعاذة والبسملة وإعرابهما في أول سورة (يوسف) على نبينا، وعليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ألف صلاة، وأزكى سلام. روي عن إبراهيم بن حيان أنه حينما احتضر قيل له: أوص، فقال: إنما الوصية من المال، ولا مال لي، ولكني، أوصيكم بخواتم سورة (النحل).

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم

{أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ (1)}

الشرح: {أَتى أَمْرُ اللهِ} أي: عقابه لمن أقام على الشك، وتكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم. {فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} أي: فلا تستعجلوا عقابه، وكان الكفار يستعجلون العقاب استهزاء وسخرية، حتى قال النضر بن الحارث:{اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ..} . إلخ الآية رقم [32] من سورة (الأنفال). وقيل المراد بأمر الله: يوم القيامة. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لما نزل قوله تعالى: {اِقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} قال الكفار: إن الرجل يزعم: أن القيامة قد قربت، فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون، فأمسكوا، وانتظروا، فلم يروا شيئا، فقالوا: ما نرى شيئا، فنزل قوله تعالى:{اِقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ} فأشفقوا، وانتظروا قرب الساعة، فلم يروا شيئا، فقالوا: ما نرى شيئا، فنزل:{أَتى أَمْرُ اللهِ} فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسلمون، وخافوا، فنزل {فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} فاطمأنوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«بعثت أنا والسّاعة كهاتين» . وأشار بإصبعيه: السبابة والتي تليها. أخرجاه في الصحيحين من حديث سهل بن سعد. {وَتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ} أي: تنزه الله تعالى، وتعاظم بالأوصاف الحميدة،

ص: 142

والأفعال المجيدة عما يصفه المشركون به، أو تنزه، وتبرأ من أن يكون له شريك، فيدفع ما أراد بالمشركين من عذاب، وعقاب. هذا؛ و (تعالى) يأتي منه مضارع، ولا يأتي منه أمر، فهو ناقص التصرف.

بعد هذا ف: «أتى» يستعمل لازما؛ إذا كان بمعنى: حضر، وأقبل، وقرب، كما في هذه الآية، ويستعمل متعديا إذا كان بمعنى: وصل، وبلغ، كما في قوله تعالى:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وعبر سبحانه بالماضي عن المستقبل لتحقّق وقوعه، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [21] من سورة (إبراهيم) عليه الصلاة والسلام، وفي الآية الكريمة التفات من الخطاب إلى الغيبة، انظر ما ذكرته في الآية رقم [22] ويقرأ:«تشركون» بالتاء، فلا يكون في الآية التفات.

تنبيه: لقد نهى الله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن استعجال الشيء قبل أوانه، أو هو نهي للكفار، عن استعجال طلب العقاب، والعذاب، بينما حث الله تعالى على المسارعة إلى فعل الطاعات، فقال:{وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ..} . إلخ الآية رقم [133] من سورة (آل عمران) وقال {سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ..} . إلخ، الآية رقم [21] من سورة (الحديد) كما وصف أنبياءه بأنهم كانوا يسارعون في الخيرات، وهذا لا يناقض ما روي:«العجلة من الشيطان، والتأني من الرحمن» ؛ لأن المسارعة إلى الطاعات مستثناة منه، كما أن هناك أمورا تسن المبادرة إلى فعلها، كأداة الصلاة المكتوبة إذا دخل وقتها، وقضاء الدين بحق الموسر، وتزويج البكر البالغ؛ إذا أتى الكفؤ لها، ودفن الميت، وإكرام الضيف؛ إذا نزل. وخذ ما يلي: فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: «يا عليّ ثلاث لا تؤخّرها: الصّلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيّم إذا وجدت كفؤا» . أخرجه الترمذي. وجاء في الشعر العربي الحث على العجلة، قال بشار بن برد الأعمى:[البسيط]

من راقب النّاس لم يظفر بحاجته

وفاز بالطّيّبات الفاتك اللهج

واختصره سلم الخاسر، فقال:[مخلع البسيط]

من راقب النّاس مات همّا

وفاز باللّذّة الجسور

ونسب للأعشى، ولغيره ما يلي:[البسيط]

وربّما فات قوما جلّ أمرهم

من التّأنّي، وكان الحزم لو عجلوا

وقال آخر: [البسيط]

وربّما ضرّ بعض النّاس بطؤهم

وكان خيرا لهم لو أنّهم عجلوا

هذا و {سُبْحانَهُ} اسم مصدر. وقيل: مصدر مثل «غفران» ، وليس بشيء؛ لأن الفعل «سبح» بتشديد الباء، والمصدر: تسبيح، ولا يكاد يستعمل إلا مضافا منصوبا بإضمار فعله،

ص: 143

مثل: معاذ الله، وقد أجري علما على التسبيح، بمعنى: التنزيه على الشذوذ في قول الأعشى: [السريع]

قد قلت لمّا جاءني فخره

سبحان من علقمة الفاخر

وتصدير الكلام به اعتذار عن الاستفسار، والجهل بحقيقة الحال، ولذلك جعل مفتاح التوبة، فقال موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} وقال: ذو النون عليه السلام: {سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ} . وقد نزه الله ذاته في كثير من الآيات بنفسه تنزيها لائقا به، وجملة القول فيه: اسم موضوع موضع المصدر، وهو غير متمكن؛ لأنه لا يجري بوجوه الإعراب من رفع، وجر، ولا تدخل عليه الألف واللام، ولم يجر منه فعل، ولم ينصرف لأن في آخره زائدتين: الألف، والنون. ومعناه: التنزيه والبراءة لله عز وجل من كل نقص، فهو ذكر عظيم لله تعالى، ولا يصلح لغيره، وقد روى طلحة الخير بن عبيد الله أحد العشرة-رضي الله عنه: أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما معنى سبحان الله؟ فقال:

«تنزيه الله من كلّ سوء» . والعامل فيه على مذهب سيبويه الفعل الذي من معناه، لا من لفظه؛ إذ لم يجر من لفظه فعل، وذلك مثل: قعد القرفصاء، فالتقدير عنده: أنزه الله تنزيها، فوقع سبحان الله مكان قولك: تنزيها لله.

الإعراب: {أَتى:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {أَمْرُ:} فاعله، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. والجملة الفعلية ابتدائية لا محل لها.

{فَلا} الفاء: حرف عطف على قول من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، قال ابن هشام: هي للسببية المحضة، وأراها الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر. (لا): ناهية جازمة.

{تَسْتَعْجِلُوهُ:} مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، أو هي جواب لشرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك لا بد واقعا؛ فلا تستعجلوه.

{سُبْحانَهُ:} مفعول مطلق لفعل محذوف، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو من إضافة المصدر لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا، والجملة الفعلية الحاصلة منه، ومن فعله المحذوف مستأنفة، لا محل لها. {وَتَعالى:}

ماض، وفاعله يعود إلى الله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {عَمّا:}

جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو ب:«سبحان» ، أو بفعله المحذوف على التنازع، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:«عن» ، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط، محذوف؛ إذ التقدير:

عن الذي، أو عن شيء يشركونه مع الله، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب:«عن» ، التقدير: تعالى الله عن شركهم. تأمل، وتدبر.

ص: 144

{يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2)}

الشرح: {يُنَزِّلُ:} بضم الياء وتشديد الزاي، وقرئ بتخفيفها، وقرئ بتاء المضارعة مفتوحة، وتخفيف الزاي ورفع الملائكة، وقرئ «(تنزل)» والأصل تتنزل، فحذفت إحدى التاءين، وقرئ «(تنزّل)» بالبناء للمجهول، وقرئ «(ننزل)» {بِالرُّوحِ} أي: بالوحي والنبوة، أو بالقرآن، فإنه يحيي القلوب الميتة بالجهل، أو إنه يقوم في الدين مقام الروح في الجسد، ونظير الأول: قوله تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ} أي: الوحي، والنبوة؛ أي: يخص من يشاء بالنبوة، وعلى الاعتبارين في الكلام استعارة تصريحية بجامع: أنّ الروح بها إحياء البدن، والوحي والنبوة والقرآن به إحياء القلوب من الجهالات. وقيل: أي بالرحمة. وقال أبو عبيدة:

الروح هنا: جبريل عليه السلام، والباء بمعنى:«مع» ؛ أي: مع الروح. {مِنْ أَمْرِهِ} أي: بأمره، ف:{مِنْ} بمعنى: الباء، وهو كثير في كتاب الله تعالى، كما تأتي الباء بمعنى:«من» ، ويسمى مثل هذا ب:«التقارض» ، والتعاوض. {عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ} أي: على من يختاره الله للنبوة والرسالة. {أَنْ أَنْذِرُوا} أي: أعلموا من: نذرته بكذا إذا أعلمته. {أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاتَّقُونِ} أي: فخافون، وفي الآية التفات ظاهر واضح، وانظر الآية رقم [43] من سورة (الرعد).

بعد هذا انظر شرح: {الْمَلائِكَةَ} في الآية رقم [23] من سورة (الرعد). و {يَشاءُ} ماضيه شاء، فلم يرد له أمر، ولا ل:«أراد» فيما أعلم، فهما ناقصا التصرف، وأصل «شاء» شيء على فعل بكسر العين، بدليل شئت شيئا، وقد قلبت الياء ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها، وقد كثر حذف مفعوله، وحذف مفعول «أراد» حتى لا يكاد ينطق به إلا في الشيء المستغرب، مثل قوله تعالى:{لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا} وقال الشاعر الخريمي: [الطويل]

فلو شئت أن أبكي دما لبكيته

عليه ولكن ساحة الصّبر أوسع

وقيد بعضهم حذف مفعول هذين الفعلين بعد «لو» ، وليس كذلك. (اتقون): أمر من التقوى، وهي حفظ النفس من العذاب الأخروي بامتثال، أوامر الله تعالى، واجتناب نواهيه؛ لأن أصل المادة من الوقاية، وهي الحفظ والتحرز من المهالك في الدنيا والآخرة، وانظر ما وصف الله به المتقين في أول سورة (البقرة).

الإعراب: {يُنَزِّلُ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {اللهِ} . {الْمَلائِكَةَ:}

مفعول به، وانظر، أوجه القراءات في الشرح. {بِالرُّوحِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وأجيز تعليقهما بمحذوف حال من الملائكة. {مِنْ أَمْرِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من (الروح)، والهاء

ص: 145

في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {عَلى مَنْ:} متعلقان بالفعل {يُنَزِّلُ،} و {مِنْ} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب:{عَلى،} وجملة: {يَشاءُ} صلة {مِنْ،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: على الذي، أو على شخص يشاؤه. {مِنْ عِبادِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من المفعول المحذوف، والهاء في محل جر بالإضافة، {أَنْ:} مفسرة، وأجيز اعتبارها مصدرية، كما أجيز اعتبارها مخففة من الثقيلة. {أَنْذِرُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {لا:} نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» . {إِلهَ:} اسم لا مبني على الفتح في محل نصب، والخبر محذوف، تقديره: موجود. {إِلاّ:} حرف حصر، لا محل له.

{أَنَا:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع، وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: كونه بدلا من اسم {لا} على المحل؛ إذ محله الرفع على الابتداء، وثانيها: كونه بدلا من {لا} وما عملت فيه؛ لأنها مع ما بعدها في محل رفع بالابتداء، وثالثها: كونه بدلا من الضمير المستكن في الخبر المحذوف، وهو الأقوى، والجملة الاسمية:{لا إِلهَ إِلاّ أَنَا} في محل رفع خبر أن، وأن واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، وجملة:{أَنْذِرُوا..} . إلخ مفسرة ل: (الروح) على اعتبار {أَنْ} مفسرة، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول ما بعدها بمصدر في محل جر بدلا من (الروح)، أو في محل نصب بنزع الخافض، وعلى اعتبارها مخففة من الثقيلة، فاسمها ضمير الشأن محذوف، والجملة الفعلية في محل رفع خبرها، وتؤول مع اسمها وخبرها بمصدر محله مثل التقدير الأول. {فَاتَّقُونِ:} الفاء: الفصيحة. (اتقون): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله. والنون للوقاية. وياء المتكلم المحذوفة مفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط غير جازم؛ إذ التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا وواقعا فاتقون، وانظر الآية السابقة، وجملة:{يُنَزِّلُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها على جميع أوجه القراءات، ما عدا القراءة (ينزل) فإنه يجوز اعتبارها حالا أيضا من لفظ الجلالة، والرابط: رجوع الفاعل إليها كما رأيت. تأمل، وتدبر.

{خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ (3)}

الشرح: {خَلَقَ:} أنشأ وأوجد، والفرق بين خلق، وجعل الذي له مفعول واحد: أن الخلق فيه معنى التقدير: والجعل فيه معنى التضمين؛ ولذا عبر سبحانه في كثير من الآيات عن إحداث النور، والظلمات بالجعل، فقال:{وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ} تنبيها على أنهما لا يقومان بأنفسهما كما زعمت المجوس، بخلاف الخلق؛ لأن فيه معنى الإيجاد، والإنشاء، ولذا عبر سبحانه في كثير من الآيات عن إيجاد السموات والأرض بالخلق، وخصهما جلت قدرته بالذكر هنا، وفي كثير من الآيات؛ لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد، وجمع السموات دون

ص: 146

الأرض، وهي مثلهن؛ لأن طبقاتها مختلفة بالذات، متفاوتة بالصفات، والآثار والحركات، وقدمها لشرفها وعلو مكانها، وتقدم وجودها، ولأنها متعبد الملائكة، ولم يقع فيها معصية كما في الأرض. وأيضا؛ لأنها بمنزلة الذّكر، فنزول المطر من السماء على الأرض كنزول المني من الذكر في المرأة؛ لأن الأرض تنبت، وتخضر بالمطر. {تَعالى:} تنزه، وتعاظم، ومضارعه:

يتعالى، وليس له أمر، فهو ناقص التصرف، وأما «تعالوا» فهو بمعنى: أقبلوا.

الإعراب: {خَلَقَ:} ماض، والفاعل يعود إلى (الله). {السَّماواتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم. {وَالْأَرْضَ:} معطوف على ما قبله. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من {السَّماواتِ وَالْأَرْضَ،} وجملة: {خَلَقَ..} .

إلخ مستأنفة، لا محل لها. {تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ:} انظر الآية رقم [1] ففيها الكفاية.

{خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)}

الشرح: {خَلَقَ الْإِنْسانَ:} أوجده، وأنشأه. {مِنْ نُطْفَةٍ:} هي ماء الرجل، والمرأة الحاصل منهما عند الجماع، وجمعها: نطف، ونطاف، مثل: برمة، وبرم وبرام، والنطفة: أيضا الماء الصافي، قل، أو كثر. {فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ:} مخاصم بالباطل، ومجادل بالزور، والبهتان.

{مُبِينٌ} أي: بين الخصومة، حيث ينكر البعث، والحساب، والجزاء يوم القيامة. هذا؛ وقد قيل: إن الآية نزلت في أبيّ بن خلف، وكان ينكر البعث، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم، فقال له: تزعم أن الله يحيي هذا العظم بعد ما رمّ؟! فنزلت فيه هذه الآية، ونزل فيه أيضا الآية رقم [77] و [78] من سورة (يس)، والصحيح أن الآية هنا عامة في كل ما يقع من الخصومة في الدنيا، ويوم القيامة، وآيتي (يس) هي الخاصة بذلك الكافر المعاند. هذا؛ وانظر شرح:

{مُبِينٌ} وإعلاله في الآية رقم [1] من سورة (الحجر).

أما {الْإِنْسانَ} فإنه يطلق على الذكر، والأنثى من بني آدم، ومثله كلمة:«شخص» قال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ} ومعلوم أن الله تعالى لم يقصد الذكور خاصة، والقرينة الآيات الكثيرة، الدالة على أن المراد: الذكر، والأنثى، واللام في {الْإِنْسانَ} إنما هي لام الجنس التي تفيد الاستغراق، ولذا صح الاستثناء من الإنسان في سورة العصر. هذا؛ وإنسان العين: هو المثال الذي يرى فيها، وهو النقطة السوداء التي تبدو لامعة وسط السواد.

الإعراب: {خَلَقَ:} ماض، وفاعله مستتر تقديره:«هو» يعود إلى الله. {الْإِنْسانَ:} مفعول به.

{مِنْ نُطْفَةٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وتعليقهما بمحذوف حال من {الْإِنْسانَ} غير مستبعد، وجملة:{خَلَقَ الْإِنْسانَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَإِذا:} الفاء: اختلف في هذه الفاء، فقال المازني، والفارسي، وجماعة: هي زائدة للتأكيد؛ لأن إذا الفجائية فيها معنى الإتباع، ولذا وقعت

ص: 147

في جواب الشرط موقع الفاء، وهذا ما اختاره ابن جنّي. وقال مبرمان، وابن جني: هي عاطفة لجملة: (إذا) ومدخولها على الجملة قبلها، واختاره الشلوبين الصغير، وأيده أبو حيان بوقوع ثم موقعها في قوله تعالى:{ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} . وقال الزجاج: دخلت على حد دخولها في جواب الشرط. انتهى. همع الهوامع؛ أي: فهي للسببية المحضة، وبه قال ابن هشام في المغني.

(إذا): كلمة دالة على المفاجأة، وهي تختص بالجمل الاسمية، ولا تحتاج إلى جواب، ولا تقع في الابتداء، ومعناها: الحال، لا الاستقبال، نحو:«خرجت فإذا الأسد بالباب» وهي حرف عند الأخفش، وابن مالك، ويرجّحه:«خرجت فإذا إنّ زيدا بالباب» لأن «إنّ» لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. وظرف مكان عند المبرد وابن عصفور. وظرف زمان عند الزجاج والزمخشري، وزعم الأخير أنّ عاملها فعل مقدر مشتق من لفظ المفاجأة، ولا يعرف هذا لغير الزمخشري، وإنما ناصبها عندهم الخبر المذكور في نحو:«خرجت؛ فإذا زيد جالس» ، أو المقدر في نحو:«فإذا الأسد» أي: حاضر، وإذا قدرت: أنها الخبر فعاملها: مستقر، أو استقر، ولم يقع الخبر معها في القرآن إلا مصرحا به. انتهى مغني بتصرف. {هُوَ خَصِيمٌ:} مبتدأ وخبر. {مُبِينٌ:} صفة {خَصِيمٌ،} والجملة الاسمية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على اعتبارها ظرفا، وابتدائية لا محل لها، وهي معطوفة على ما قبلها، على اعتبار (إذا) حرفا، وانظر آية (الأعراف) رقم [107].

تنبيه: قال أبو البقاء: إن قيل: الفاء تدل على التعقيب، وكونه خصيما؛ لا يكون عقيب خلقه من نطفة. فجوابه من وجهين: أحدهما: أنه أشار إلى ما يؤول حاله إليه، فأجري المنتظر مجرى الواقع، وهو من باب التعبير بآخر الأمر عن أوله، كقوله تعالى حكاية عن قول الساقي:

{أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً} الآية رقم [36] من سورة (يوسف) عليه السلام، وقوله تعالى:{وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً} أي: سبب الرزق، وهو المطر، والثاني: إنه إشارة إلى سرعة نسيانهم مبدأ خلقهم،. انتهى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

{وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5)}

الشرح: قال الخازن-رحمه الله تعالى-: لما ذكر الله سبحانه وتعالى: أنه خلق السموات والأرض، ثم أتبعه بخلق الإنسان: ذكر بعده ما ينتفع به في سائر ضروراته، ولمّا كان أعظم ضرورات الإنسان إلى الأكل، واللباس؛ اللذين يقوم بهما بدن الإنسان؛ بدأ بذكر الحيوان المنتفع به في ذلك، وهو الأنعام، فقال:{وَالْأَنْعامَ خَلَقَها} وهي الإبل، والبقر، والغنم. انتهى.

ثم قال: ولمّا كانت منافع هذه الأنعام منها ضرورية، ومنها غير ضرورية، بدأ الله بذكر المنافع الضرورية، فقال تعالى:{لَكُمْ فِيها دِفْءٌ} وهو ما يستدفئ به من اللباس، والأكسية، ونحوها المتخذة من الأصواف، والأوبار، والأشعار الحاصلة من النّعم. وفي المختار: الدفء: نتاج

ص: 148

الإبل، وألبانها، وما ينتفع به منها، قال الله تعالى:{لَكُمْ فِيها دِفْءٌ} وفي الحديث «لنا من دفئهم ما سلّموا بالميثاق» . وهو أيضا: السخونة، اسم من دفئ الرجل من باب سلم، وطرب، وهو أيضا ما يدفئ، ورجل دفئ (بالقصر) ودفئان (بالمد) وامرأة دفأى ويوم دفيء بالمد، وبابه ظرف، وليلة دفيئة أيضا، وكذا الثوب والبيت، فظهر: أنّ للدفء ثلاثة معان 1 - ما يتحصل من الإبل من نتاج، ولبن، ومنافع 2 - السخونة، وهي ضد البرودة 3 - ما يتدفأ به من الثياب.

{وَمَنافِعُ} أي: ما ينتفع به من نسلها، ودرها، وركوبها، والحمل عليها. {وَمِنْها تَأْكُلُونَ} أي: من لحومها، وشحومها، وألبانها.

تنبيه: واحد (الأنعام): نعم، وهو يطلق على الإبل خاصة، فيكون الجمع من باب تغليب الإبل على البقر، والغنم. والأنعام تؤنث كما في هذه الآية، والتي بعدها، وتذكر كما في الآية رقم [66] الآتية، انظر شرحها هناك.

الإعراب: {وَالْأَنْعامَ:} معطوف على {الْإِنْسانَ،} أو هو منصوب على الاشتغال بفعل محذوف، يفسره ما بعده. {خَلَقَها:} ماض: والفاعل يعود إلى (الله). و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من (الأنعام) على الوجه الأول فيها، ولا محل لها؛ لأنها مفسرة على الوجه الثاني: في (الأنعام) وتكون الجملة المقدرة معطوفة على جملة: {خَلَقَ الْإِنْسانَ..} . إلخ لا محل لها مثلها. {لَكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، فتكون الجملة الاسمية:

{فِيها دِفْءٌ} في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الضمير فقط. هذا؛ وأجيز تعليق {لَكُمْ} بمحذوف خبر مقدم، و {دِفْءٌ} مبتدأ مؤخر، فيكون {فِيها} متعلقين بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف المقدر، وتعليقهما بمحذوف حال من {دِفْءٌ} غير مسلّم عند من لا يجيز مجيء الحال من المبتدأ.

(منافع): معطوف على ما قبله. {وَمِنْها:} الواو: حرف عطف. (منها): متعلقان بما بعدهما.

{تَأْكُلُونَ:} مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها.

{وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)}

الشرح: {وَلَكُمْ:} الخطاب للعرب خاصة، وإن كان يشمل جميع بني آدم؛ لأن العرب، ولا سيما في الجاهلية كانوا يعتمدون في معاشهم على الحيوانات، ولذا كانوا ينتجعون فيها مساقط الغيث، ويجوبون فيها الصحارى؛ طلبا للماء، والمرعى. {فِيها جَمالٌ:} زينة. {حِينَ تُرِيحُونَ} أي: تردونها من مراعيها إلى مراحها في العشي. {وَحِينَ تَسْرَحُونَ:} تخرجونها في الصباح، إلى المراعي، فإن أفنية البيوت تتزين بها في الوقتين، ويجل أهلها في أعين الناظرين إليها، وتقديم الإراحة؛ لأن الجمال فيها أظهر؛ لأنها تقبل ملأى البطون، حافلة الضروع، ثم

ص: 149

تأوي إلى الحظائر، فيزداد فرح أهلها بها، بخلاف تسريحها إلى المرعى، فإنها تخرج جائعة البطون، ضامرة الضروع، ثم تأخذ في التفرق، والانتشار إلى الرعي في البرية، فيظهر من هذا:

أن الجمال في الإراحة أكثر منه في التسريح، فاستحقت التقديم. هذا؛ وقرئ:«(حينا)» بالتنوين، وانظر شرح «الحين» في الآية رقم [25] من سورة (إبراهيم) عليه السلام.

تنبيه: الجمال يكون في الصورة، وتركيب الخلقة، ويكون في الأخلاق الباطنة، ويكون في الأفعال، فأما جمال الخلقة، فهو أمر يدركه البصر، ويلقيه إلى القلب متلائما، فتتعلق به النفس من غير معرفة بوجه ذلك، ولا نسبته لأحد من البشر، وأما جمال الأخلاق، فكونها على الصفات المحمودة من العلم، والحكمة، والعدل، والعفة، وكظم الغيظ، وإرادة الخير لكل أحد، وأما جمال الأفعال؛ فهو وجودها ملائمة لمصالح الخلق، وقاضية لجلب المنافع فيهم، وصرف الشر عنهم، وجمال الأنعام، والدواب من جمال الخلقة، وهو مرئي بالأبصار، موافق للبصائر، ومن جمالها: كثرتها، وقول الناس إذا رأوها: هذه نعم فلان. انتهى. قرطبي. نقلا عن السدي.

الإعراب: {وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ:} إعراب هذه الكلمات مثل إعراب: {لَكُمْ فِيها دِفْءٌ} والجملة الاسمية الحاصلة معطوفة على هذه أيضا. {حِينَ:} ظرف زمان متعلق بمحذوف صفة {جَمالٌ} . {تُرِيحُونَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {حِينَ} إليها، وعلى قراءة {حِينَ} بالتنوين فالجملة الفعلية صفة له، وما بعدها معطوف عليها، وإعرابه واضح، لا خفاء فيه، ومفعول الفعلين محذوف للاختصار.

{وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7)}

الشرح: {وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ:} (الأثقال) جمع: ثقل، وهو متاع المسافر، وما يحتاج إليه من آلات السفر. والأثقال: الأوزار، والسيئات؛ لأنها تثقل الإنسان، وتورث له المشقة، والعذاب الأليم في نار الجحيم، قال تعالى في حق الكافرين الداعين المؤمنين إلى الكفر:

{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ} . {إِلى بَلَدٍ} أي: غير بلدكم، وحمله على العموم أولى؛ وإن قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يريد من مكة إلى اليمن، وإلى الشام.

{لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ:} واصلين إلى ذلك البلد الذي تقصدونه. {إِلاّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} أي:

بالمشقة، والجهد، والعناء، والتعب. {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ} أي: بكم؛ حيث فتح لكم باب التوبة، والاعتذار، وكلفكم بالعبادات، والجهاد، فعرضكم لثواب الغزاة، والشهداء، وسخّر لكم الحيوانات؛ لتستعملوها في قضاء حوائجكم، ونقل أثقالكم من بلد إلى بلد. هذا؛ والرأفة:

ص: 150

أشد الرّحمة، و (رءوف) صيغة مبالغة، فالله أرأف بعباده من الوالدة بولدها، ومن رأفته أنه جعل النعيم الدائم جزاء على العمل القليل المنقطع، ومن رأفته: أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، ومن رأفته أشياء كثيرة يعسر حصرها، وعدّها، وهي معلومة عند ذوي الألباب. {رَحِيمٌ:} صيغة مبالغة، وانظر شرح البسملة في أول سورة (يوسف) عليه السلام، وانظر شرح:{الْأَنْفُسِ} في الآية رقم [53] منها أيضا.

هذا ويقرأ {بِشِقِّ} بكسر الشين وفتحها، وهما لغتان، مثل رق، ورق، وجص، وجص، ورطل ورطل، وقد رأيت شرحه، ويأتي بمعنى: النصف، يقال: أخذت شق الشاة وشقة الشاة، والشق أيضا: الناحية من الجبل، وهو أيضا الأخ الشقيق، يقال: هو أخي، وشق نفسي، وشق:

اسم كاهن من كهان العرب، والشق أيضا: الجانب. هذا؛ وقال الليث: «البلد» كل موضع من الأرض، عامر، أو غير عامر، خال، أو مسكون، والطائفة منه: بلد، والجمع: بلاد، زاد غيره: والمفازة تسمى: بلدة؛ لكونها مسكن الوحش، والجن، قال الأعشى:[البسيط]

وبلدة مثل ظهر التّرس موحشة

للجنّ بالليل في حافاتها زجل

وقال جران العود: [الرجز]

وبلدة ليس بها أنيس

إلاّ اليعافير وإلاّ العيس

تنبيه: لقد امتن الله على عباده بالأنعام عموما، وخص الإبل هنا بالذكر في حمل الأثقال على سائر الأنعام، فإن الغنم للسرح، والذبح، والبقر للحرث، والإبل للحمل، ولا سيما في الصحارى، والقفار. هذا؛ وكان الجمل يسمى سفينة الصحراء، ولكن في هذه الأيام لم يبق للإبل وزن في حمل الأثقال، وإنما صار ذلك للحديد، والنار، وكذلك الحرث لم يعد من عمل البقر، فقد قام الحديد، والنار مقامه في ذلك أيضا.

الإعراب: {وَتَحْمِلُ:} الواو: حرف عطف. (تحمل): مضارع، والفاعل مستتر تقديره:

«هي» يعود إلى الإبل المفهومة من (الأنعام). {أَثْقالَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {إِلى بَلَدٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {تَكُونُوا:}

مضارع ناقص مجزوم ب: {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون، والواو اسمه، والألف للتفريق.

{بالِغِيهِ:} خبره منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة:{لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ} في محل جر صفة {بَلَدٍ،} وجملة: {وَتَحْمِلُ..} . إلخ معطوفة على جملة:

{وَمِنْها تَأْكُلُونَ} فهي في محل نصب حال مثلها، أو هي مستأنفة، لا محل لها. {إِلاّ:}

حرف حصر. {بِشِقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في بالغيه؛ أي: شاقا على

ص: 151

الأنفس. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {رَبَّكُمْ:} اسم {إِنَّ،} والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لَرَؤُفٌ:} خبر {إِنَّ،} واللام هي المزحلقة. {رَحِيمٌ:} خبر ثان، والجملة الاسمية:{إِنَّ رَبَّكُمْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8)}

الشرح: {وَالْخَيْلَ:} اسم جمع لا واحد له من لفظه، ويجمع على: خيول، والخيل مؤنثة؛ لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها؛ إذا كانت لغير الآدميين. مثل: خيل، وغنم، وإبل، فالتأنيث لها لازم، وإذا قالوا: خيلان، وغنمان، وإبلان، فإنما يريدون قطيعين من الخيل، والغنم، والإبل، وسميت الخيل خيلا لاختيالها في مشيها؛ أي: فإنها تمشي مشية المختال؛ أي: المتكبر.

{وَالْبِغالَ:} جمع: بغل، ومؤنثه: بغلة، وهو حيوان معروف، مركب من الفرس والحمار، ولذلك كان له صلابة الحمار، وعظم الخيل، وهو لا نسل له، أبوه الحمار، وأمّه الفرس، وإن كان بالعكس فهو «النّغل» بالنون، وهو دون البغل في الجثة والعظم.

روى ابن عساكر في تاريخ دمشق عن عليّ بن أبي طالب-رضي الله عنه-أن البغال كانت تتناسل، فدعا عليها إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ لأنها كانت تسرع في نقل الحطب لنار المنجنيق، فقطع الله نسلها، والبغل شرس الطباع؛ لأنه وجد به الأعراق المتضادة، والأخلاق المتباينة، والعناصر المتباعدة، وكل عضو منه متوسط بين الفرس، والحمار. {وَالْحَمِيرَ:}

جمع: حمار، وهو معروف، يكون وحشيا، ويكون أهليا، وأنثاه أتان، ويقال: حمارة أيضا، ويجمع على: حمير: وحمر، وحمور، وحمرات، وكلّها للكثرة، ويجمع جمع قلة على أحمرة، قال الراعي النميري، أو القتّال الكلابي:[البسيط]

هنّ الحرائر لا ربّات أحمرة

سود المحاجر، لا يقرأن بالسّور

وحمير ورد في هذه الآية، وفي قوله تعالى:{إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} وحمر ورد في قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} والحمار الأهلي يوصف بالهداية إلى سلوك الطرقات التي مشى فيها، ولو مرّة واحدة، وبحدة السمع، وللناس في مدحه وذمه أقوال متباينة بحسب الأغراض، وقد أطال الدميري الكلام فيه.

{لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً} أي: خلق الخيل، والبغال، والحمير للركوب، والزينة مع المنافع الأخرى المستفادة منها، كحمل الأثقال، والتناسل. {وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ:} ذكر المفسرون من ذلك أنواع الحشرات، والهوام الموجودة في أسافل الأرض، والبر، والبحر، ممّا لم يره البشر،

ص: 152

ولم يسمعوا به. وقيل: ممّا أعده الله في الجنة لأهلها، وفي النار لأهلها، ممّا لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولا خطر على قلب بشر.

أقول: وخلق الله ممّا كانوا لا يعلمون السيارات، والطائرات، وغير ذلك مما نراه في هذه الأيام، وهو معدّ للركوب، وللزينة، بل لقد قضى ذلك على الاستفادة من جميع تلك الحيوانات في الحرث، والحمل، والركوب، كما هو مشاهد لكل إنسان، وخلق الله ذلك بتعليمه الإنسان صنع السيارات

إلخ، والجمال، والزينة المستفادان من الحيوانات؛ وإن كانا من متع الدنيا؛ فقد أذن الله لعباده فيهما، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الإبل عزّ لأهلها، والغنم بركة، والخيل في نواصيها الخير» . خرجه البرقاني، وابن ماجة في السنن.

قال الخازن-رحمه الله تعالى: احتج بهذه الآية من يرى تحريم لحوم الخيل، وهو قول ابن عباس-رضي الله عنهما-وتلا هذه الآية. وقال: هذه للركوب، وإليه ذهب الحكم، ومالك، وأبو حنيفة، رحمهم الله! واستدلوا أيضا بأن منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب، فلمّا لم يذكره الله تعالى؛ علمنا تحريم أكله، فلو كان أكل لحوم الخيل جائزا؛ لكان هذا المعنى أولى بالذكر؛ لأن الله سبحانه وتعالى خصّ الأنعام بالأكل حيث قال:{وَمِنْها تَأْكُلُونَ} وخصّ هذه بالركوب، فقال:{لِتَرْكَبُوها} فعلمنا: أنها مخلوقة للركوب، لا للأكل.

وذهب جماعة من أهل العلم إلى إباحة أكل لحوم الخيل، وهو قول الحسن، وشريح، وعطاء، وسعيد بن جبير، وإليه ذهب الإمام الشافعي-وأحمد، وإسحاق-رضي الله عنهم أجمعين-: واحتجوا على إباحة لحوم الخيل بما روي عن أسماء بنت أبي بكر الصديق-رضي الله عنهما-أنها قالت: نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا، فأكلناه. وفي رواية قالت: ذبحنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا، ونحن بالمدينة، فأكلناه. أخرجه البخاري، ومسلم.

وعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في الخيل. متفق عليه، وفي رواية قال: أكلنا زمن خيبر لحوم الخيل، وحمر الوحش، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي. هذه رواية البخاري، ومسلم، وفي رواية أبي داود قال:

(ذبحنا يوم خيبر الخيل، والبغال، والحمير، وكنا قد أصابتنا مخمصة، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال، والحمير، ولم ينهنا عن الخيل. وأجاب من أباح لحوم الخيل عن هذه الآية بأن ذكر الركوب والزينة، لا يدل على أن منفعتها مختصة بذلك، وإنما خصّ هاتان المنفعتان بالذكر؛ لأنهما معظم المقصود. قالوا: ولهذا سكت عن حمل الأثقال على الخيل، مع قوله في (الأنعام): {وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ} ولم يلزم من هذا التحريم حمل الأثقال على الخيل.

وقال البغوي: ليس المراد من الآية بيان التحليل، والتحريم، بل المراد منها تعريف الله عباده نعمه، وتنبيههم على كمال قدرته، وحكمته، والدليل الصحيح المعتمد عليه في إباحة لحوم

ص: 153

الخيل أن السنة مبينة للكتاب، ولما كان نص الآية يقتضي: أن الخيل، والبغال، والحمير مخلوقة للركوب، والزينة، وكان الأكل مسكوتا عنه؛ دار الأمر فيه على الإباحة، والتحريم، فوردت السنة بإباحة لحوم الخيل، وتحريم لحوم البغال، والحمير، فأخذنا بها جمعا بين النّصين. والله أعلم. انتهى بحروفه.

الإعراب: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ:} هذه الأسماء معطوفة على (الأنعام) أي: وخلق الخيل

إلخ، {لِتَرْكَبُوها:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، و (ها): مفعوله، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل (خلق) في الآية رقم [5] وقيل: في موضع نصب مفعول لأجله، ولا وجه له؛ لأنه لم يسمع مثله. (زينة):

مفعول به لفعل محذوف؛ أي: وجعلها زينة، أو هو مفعول مطلق لفعل محذوف؛ أي: ولتتزينوا بها زينة، ويجوز أن يكون مفعولا لأجله؛ أي: للزينة، ويقرأ بغير واو، وفيه الوجوه المذكورة، وفيه: وجهان آخران: أحدهما: أن يكون مصدرا في موضع الحال من الضمير في (تركبوا)، والثاني: أن يكون حالا من الهاء؛ أي: لتركبوها تزينا بها. انتهى. عكبري بتصرف. (يخلق):

مضارع، والفاعل يعود إلى الله. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: ويخلق الذي، أو شيئا لا تعلمونه، وجملة:{وَيَخْلُقُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الوجهين.

{وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9)}

الشرح: {وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ:} القصد: استقامة الطريق، يقال: طريق قصد، وقاصد:

إذا أدّاك إلى مطلوبك، وفي الكلام حذف؛ إذ الأصل: وعلى الله بيان قصد السبيل، وهو بيان طريق الهدى من الضلالة؛ أي: بواسطة الرسل، والبراهين، وانظر شرح {السَّبِيلِ} في الآية رقم [108] من سورة (يوسف) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

{وَمِنْها جائِرٌ} أي: ومن السبل سبيل معوج، وخارج عن الاستقامة، فالمستقيم من السبل هو دين الإسلام، والجائر منها دين اليهودية، والنصرانية، وسائر ملل الكفر، قال تعالى في الآية رقم [153] من سورة (الأنعام):{وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} انظر شرحها هناك، وخذ قول امرئ القيس:[الكامل]

ومن الطّريقة جائر وهدى

قصد السّبيل ومنه ذو دخل

ص: 154

هذا وقرئ: «(ومنكم جائر)» على الخطاب. {وَلَوْ شاءَ} أي: هدايتكم إلى الطريق المستقيم.

{لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ} أي: ولكنه لم يشأ هدايتكم، وانظر الآية رقم [27] من سورة (الرعد)، تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {وَعَلَى:} الواو: حرف استئناف. {(عَلَى اللهِ):} متعلقان بمحذوف خبر مقدم.

{قَصْدُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {السَّبِيلِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَمِنْها جائِرٌ} {جائِرٌ} صفة لموصوف محذوف؛ أي:

ومنها سبيل-جائر معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف.

(لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {شاءَ:} ماض، والفاعل يعود إلى {اللهِ،} والمفعول محذوف، انظر الشرح، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَهَداكُمْ:} اللام: واقعة في جواب (لو). (هداكم): ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {اللهِ،} والكاف مفعول به. {أَجْمَعِينَ:} تأكيد للضمير المنصوب منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء

إلخ، والجملة:{لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ} جواب (لو)، لا محل لها، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)}

الشرح: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً} أي: الله هو الذي ينزل من السحاب، أو من جانب السماء ماء، وهو من أعظم النعم على العباد، وانظر إعلال {السَّماءِ} وشرحه في الآية رقم [22] من سورة (الحجر). {لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ} أي: تشربونه، وهذا الماء لا يشرب منه مباشرة في الأكثر بل بعد تخزينه في الأرض، ثم يتفجر منه العيون والآبار، لقوله تعالى:

{فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ} وقوله: {فَأَسْكَنّاهُ فِي الْأَرْضِ} . {وَمِنْهُ شَجَرٌ} أي: ينبت بسببه الشجر، والمراد به هنا الكلأ الذي ترعاه الماشية. وقيل: المراد به ما ترعاه الماشية من أوراق الشجر؛ لأن الإبل ترعى كل الشجر. وقيل: كل ما ينبت من الأرض يقال له: شجر، قال الشاعر:[الرجز]

نعلفها اللّحم إذا عزّ الشّجر

والخيل في إطعامها اللّحم ضرر

{فِيهِ تُسِيمُونَ:} ترعون مواشيكم، يقال: أسمت الماشية: إذا خليتها ترعى، وسامت؛ إذا رعت حيث شاءت، فالفعل {تُسِيمُونَ} من الرباعي، و «سائمة» اسم مفعول، قال السيوطي: لم يأت اسم المفعول من أفعل على فاعل، إلا في حرف واحد، وهو قول العرب: أسمت الماشية من المرعي، فهي سائمة، ولم يقولوا: مسامة.

ص: 155

هذا والسّوم الرّعي بلا ثمن، وهو شرط لوجوب الزكاة في الإبل، والبقر، والغنم، كما هو معروف في الفقه الإسلامي.

بعد هذا، فأصل «ماء»: موه بفتح الميم والواو، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، فصار:«ماه» فلما اجتمعت الألف والهاء، وكلاهما خفي؛ قلبت الهاء همزة، ودليل ذلك: أن جمع ماء: أمواه، ومياه، وتصغيره: مويه، وأصل ياء مياه واو، لكنها قلبت ياء لانكسار ما قبلها، في جمع أعلت في مفرده، كما قالوا: دار، وديار، وقيمة، وقيم، ومثله قولهم: سوط، وسياط، وحوض، وحياض، وثوب، وثياب، وثور وثيرة، ويقال في تعريف الماء: هو جسم رقيق مائع، به حياة كل نام. وقيل في حده: جوهر سيّال به قوام الأرواح. بعد هذا خذ قول أبي ذؤيب الهذلي: [الطويل]

شربن بماء البحر، ثمّ ترفّعت

متى لجج خضر لهنّ نئيج

فهو يصف السحاب على اعتقاد العرب في الجاهلية، ومثلهم العصريون في هذا الزمن، من أن السحاب؛ أي: الغيوم تدنو من البحر الملح في أماكن مخصوصة، فتمتد منها خراطيم كخراطيم الفيلة، فتشرب بها من مائه، فيسمع لها عند ذلك صوت مزعج، ثم تصعد إلى الجو، وترتفع، فيلطف ذلك الماء، ويعذب بإذن الله تعالى في زمن صعودها، ثم تمطره حيث شاء الله العلي القدير، وأما عند أهل السنّة، فيقولون: إن أصله من الجنّة، يأتي به المولى المتعالي من السحاب من خروق فيها كخروق الغربال.

وأقول: إن ما ينزل من السماء من مطر، بعضه من ماء البحار المالحة الأرضية، وبعضه من خزائن القدرة، على أن الأول: لا ينبت، وإنما الإنبات والخصب في الثاني، وعلامة الأول:

أنه ينزل غزيرا، كأنما ينصب من أفواه قرب، وأما ما يقوله الدّهريون الملحدون: إن الطبيعة تمطر، فهو كفر صراح؛ أي: خالص.

الإعراب: {هُوَ الَّذِي:} مبتدأ، وخبر. {أَنْزَلَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {الَّذِي،} وهو العائد، {مِنَ السَّماءِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {السَّماءِ،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة؛ إذا تقدم عليها، صار حالا» {السَّماءِ:}

مفعول به، وجملة:{أَنْزَلَ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الاسمية:{هُوَ الَّذِي..} .

إلخ مستأنفة، لا محل لها. {لَكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وأجيز تعليقهما بمحذوف صفة {السَّماءِ،} وقول ثالث، متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْهُ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف على اعتبار {لَكُمْ} متعلقين به، وأجيز تعليقهما ب:{شَرابٌ} بعدهما، وقول ثالث: متعلقان بمحذوف خبر مقدم على الوجهين الأولين في: {لَكُمْ} . {شَرابٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية هذه مستأنفة، لا محل لها، وأما الجملة الاسمية:{لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ} فهي في محل نصب صفة {السَّماءِ،} والجملة الاسمية: {وَمِنْهُ شَجَرٌ:} معطوفة على ما قبلها على الوجهين

ص: 156

المعتبرين فيها. {فِيهِ:} متعلقان بما بعدهما. {تُسِيمُونَ:} مضارع مرفوع، والواو فاعله، ومفعوله محذوف؛ أي: أنعامكم، والجملة الفعلية في محل رفع صفة {شَجَرٌ} .

{يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)}

الشرح: لمّا ذكر الله في الآيات السابقة المنافع في الحيوان تفصيلا، وإجمالا؛ ذكر في هذه الآية المنافع في النباتات تفصيلا، وإجمالا، فبدأ بذكر الزرع، وهو الحب الذي يقتات به كالحنطة، والشعير، وما أشبههما؛ لأن به قوام بدن الإنسان، وثنى بذكر الزيتون؛ لما فيه من الأدم، والدهن، والبركة، وثلّث بذكر النخيل؛ لأن ثمرتها غذاء، وفاكهة، وختم بذكر الأعناب؛ لأنها شبه النخلة في المنفعة من التفكه، والتغذية، ثم ذكر سائر الثمار لينبه بذلك على عظيم قدرته، وجزيل نعمته على عباده. انتهى. خازن. وقد ذكر الله مثل ذلك في الآية رقم [141] من سورة (الأنعام)، وبيّن تفضيل بعضها على بعض في الأكل مع كونها تشرب بماء واحد في الآية رقم [4] من سورة (الرعد)، وما أحراك أن تنظر ما ذكرته بشأن النخلة في الآية رقم [24 - 25] من سورة (إبراهيم) على نبينا وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ:} ختم الله هذه الآية بالتفكر؛ لأن النظر في ذلك، يعني: إنبات النبات بالماء يحتاج إلى مزيد تأمل، واستعمال فكر، ألا ترى: أنّ الحبة الواحدة إذا وضعت في الأرض، ومرّ عليها مقدار من الزمن مع رطوبة الأرض، فإنها تنتفخ، وينشق أعلاها، فيصعد منها شجرة إلى الهواء، وأسفلها تغوص منه عروق في الأرض، ثم ينمو الأعلى ويقوى، وتخرج منه الأوراق، والأزهار، والأكمام، والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الطباع والطعوم والألوان والروائح، والأشكال والمنافع، ومن تفكر في ذلك؛ علم: أن من هذه أفعاله، وآثاره، لا يمكن أن يشبهه شيء في شيء من صفات الكمال، فضلا عن أن يشاركه أخس الأشياء في أخص صفاته التي هي الألوهية، واستحقاق العبادة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وختم الآية الثانية بالعقل؛ لأن العلويات أظهر دلالة على القدرة الباهرة، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة. وختم الثالثة بالتذكر؛ ليرى الناس: أن اختلاف المخلوقات في الطبائع، والهيئات، والمناظر ليس إلا بصنع صانع حكيم. انتهى. جمل من هنا وهناك. {وَما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ،} وآية (البقرة) رقم [164] فيها لفت النظر إلى جميع ما صنع الله في الأرض، والسماء، وانظر شرح التفكر في الآية رقم [3] من سورة (الرعد).

الإعراب: {يُنْبِتُ:} مضارع، وفاعله يعود إلى {اللهِ،} وقرئ «(ننبت)» فيكون الفاعل مستترا تقديره: «نحن» ، ويكون في الكلام التفات من الغيبة إلى التكلم، انظر الآية رقم [42] من سورة (الرعد). {لَكُمْ بِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الزَّرْعَ:} مفعول به، وما بعده معطوف عليه.

ص: 157

{وَمِنْ كُلِّ:} معطوفان على محل {الزَّرْعَ،} و (من) للتبعيض؛ أي: وبعض الثمرات؛ لأن كلها لا تكون إلا في الجنة، وجملة:{يُنْبِتُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {فِي:} حرف جر، {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر ب: «في» ، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ} تقدم على اسمها، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لَآيَةً:} اسم {إِنَّ} مؤخر، واللام لام الابتداء. {لِقَوْمٍ:} متعلقان بمحذوف صفة (آية). {يَتَفَكَّرُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل جر صفة قوم، والجملة الاسمية:{إِنَّ فِي ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)}

الشرح: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ:} انظر الآية رقم [33] من سورة (إبراهيم) عليه السلام، {مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ:} مذللات لمصالح العباد ومنافعهم بأمر الله وقضائه وحكمته الأبدية. {إِنَّ فِي ذلِكَ..} . إلخ: انظر ما ذكرته في الآية السابقة، وانظر:{تَعْقِلُونَ} في الآية رقم [2] من سورة (يوسف) عليه السلام.

الإعراب: {وَسَخَّرَ:} الواو: حرف عطف. (سخر): ماض وفاعله يعود إلى (الله).

{لَكُمُ:} متعلقان بما قبلهما. {اللَّيْلَ:} مفعول به، وما بعده معطوف عليه حيث قرئ بنصب كل الأسماء، و {مُسَخَّراتٌ:} حال مؤكدة منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. هذا؛ ويقرأ برفع «(الشمس)» وما بعده على الابتداء و {مُسَخَّراتٌ:} خبر عن الثلاثة، كما قرئ بنصب {(الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ)} بعطفهما على ما قبلهما، ورفع {وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ} على المبتدأ والخبر، وعلى قراءة الرفع فالجملة الاسمية بنوعيها في محل نصب حال من فاعل:(سخر) المستتر، والرابط: الضمير المجرور محلا بالإضافة. هذا؛ وقرئ برفع {مُسَخَّراتٌ} وحده على أنه خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هي مسخرات، وجملة:{وَسَخَّرَ..} . إلخ معطوفة على جملة:

{يُنْبِتُ..} . إلخ لا محل لها مثلها. {إِنَّ فِي ذلِكَ..} . إلخ انظر الآية السابقة، ففيها الكفاية.

{وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)}

الشرح: {وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ} أي: وسخر لكم ما خلق الله في الأرض من دواب، وأشجار، وأنهار، وبحار، وجبال

إلخ، {مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ} أي: في الخلقة، والهيئة،

ص: 158

والكيفية، واختلاف ألوان المخلوقات مع كثرتها؛ حتى لا يشبه بعضها بعضا من كل الوجوه. فيه دليل قاطع على كمال قدرة الله، ولذلك ختم الله الآية بطلب التذكر، والاعتبار، لعلهم يعتبرون.

بعد هذا انظر شرح: {لَآيَةً} في سورة (الحجر) رقم [1] أما (قوم) فهو اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل: رهط، ومعشر، وهو يطلق على الرجال دون النساء، بدليل قوله تعالى:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} وقال زهير بن أبي سلمى المزني: [الوافر]

وما أدري-وسوف إخال أدري-

أقوم آل حصن، أم نساء؟

وربما دخل فيه النساء على سبيل التبع للرجال، كما في إرسال الرسل لأقوامهم؛ إذ إنّ كل لفظ (قوم) في القرآن الكريم، إنما يراد به الرجال، والنساء جميعا.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون معطوفة على الليل

إلخ، فهي في محل نصب أيضا. {ذَرَأَ} ماض، وفاعله يعود إلى (الله). وقال أبو البقاء:(ما) منصوبة بفعل محذوف، تقديره: وخلق، أو وأنبت. {لَكُمْ فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مُخْتَلِفاً:} حال من (ما). {أَلْوانُهُ:} فاعل فيه، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{ذَرَأَ..} . إلخ صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: وخلق الذي، أو شيئا ذرأه

إلخ، {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً..}. إلخ: انظر الآية رقم [11] ففيها الإعراب واضح، إن شاء الله تعالى.

{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)}

الشرح: لمّا ذكر الله سبحانه وتعالى الدلائل، الدالة على قدرته، ووحدانيته من خلق السموات والأرض، وخلق الإنسان من نطفة، وخلق سائر الحيوان، والنبات، وتسخير الشمس، والقمر، والنجوم، وغير ذلك، وذكر إنعامه في ذلك على عباده؛ ذكر بعد ذلك إنعامه على عباده بتسخير البحر لهم، ومعنى تسخيره لهم: تذليله بحيث يتمكن الناس من الانتفاع به، إما بالركوب على ظهره، أو بالغوص فيه، أو الصيد منه، وبدأ بذكر الأكل؛ لأنه أعظم المقصود؛ لأن به قوام البدن، وفي ذكر الطّري مزيد فائدة دالة على كمال قدرة الله تعالى، وذلك أن السمك لو كان كله مالحا لما كان فيه فائدة للإنسان، ووصفه بالطري؛ لأنه أرطب اللحوم، فيسرع إليه الفساد، فيسارع من يصيده إلى أكله.

ص: 159

وثنى بالصيد من البحر، وإخراج الحلية منه، كاللؤلؤ، والمرجان، ونحوهما، وأسند لبس الحلية للرجال، وهي من زينة النساء؛ لأنهن من جملة الرجال، ولأنهن يتزين بها من أجلهم، وثلث بنعمة جريان السفن في البحار لما في ذلك من الفوائد العظيمة، والأرباح الجسيمة التي يجنيها ابن آدم من ذلك، وبيّن ذلك بقوله:{وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي: تطلبوا الأرباح بالتجارة، ثم عقب ذلك بطلب الشكر على إسداء هذه النعم لبني آدم.

هذا و (الحلية) بكسر الحاء، والجمع «حلى» بالقصر، وتضم الحاء وتكسر، وحلية السيف:

زينته، قال ابن فارس: ولا تجمع، وتحلت المرأة لبست الحلي، أو اتخذته، وحليتها بالتشديد ألبستها الحلي، أو اتخذته لها لتلبسه.

بعد هذا انظر إعلال {نَرى} في الآية رقم [27] من سورة (هود) عليه السلام، وشرح:

{الْفُلْكَ} في الآية رقم [37] منها، {مَواخِرَ فِيهِ:} جواري في البحر، تشقه بحيزومها، من:

المخر، وهو شق الماء، يقال: مخرت السفينة، تمخر، وتمخر مخرا، ومخورا: إذا جرت تشق الماء مع صوت، ومخر الأرض: شقها للزراعة، ومخرها بالماء: إذا حبس الماء فيها حتى تصير أريضة؛ أي: خليقة بجودة نبات الزرع. انتهى. قرطبي. وانظر «الشكر» في الآية رقم [7] و [37] من سورة (إبراهيم) عليه السلام، وانظر مثل هذا الترجي في الآية رقم [2] من سورة (الرعد).

الإعراب: {وَهُوَ:} الواو: حرف عطف، (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبره. {سَخَّرَ:} ماض، وفاعله يعود إلى الذي، وهو العائد، ومتعلقه محذوف، تقديره: لكم. {الْبَحْرَ:} مفعول به، وجملة:{سَخَّرَ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَهُوَ..} . إلخ معطوفة على مثلها في الآية رقم [10] لا محل لها مثلها. {لِتَأْكُلُوا:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {سَخَّرَ}. {مِنْهُ:} متعلقان بما قبلهما. {لَحْماً:} مفعول به.

{طَرِيًّا:} صفته. {وَتَسْتَخْرِجُوا:} معطوف على (تأكلوا) منصوب مثله. {مِنْهُ:} متعلقان بما قبلهما. {حِلْيَةً:} مفعول به. {تَلْبَسُونَها:} مضارع مرفوع، والواو فاعله، و (ها): مفعوله، والجملة الفعلية في محل نصب صفة {حِلْيَةً}. {وَتَرَى:} الواو: واو الاعتراض، (ترى):

مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» .

{الْفُلْكَ:} مفعول به. {مَواخِرَ:} حال من {الْفُلْكَ؛} لأن الفعل بصري. {فِيهِ:} متعلقان بمواخر، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر فيه. {وَلِتَبْتَغُوا:} معطوف على {لِتَأْكُلُوا،} وإعرابه مثله، وعليه جملة:{وَتَرَى الْفُلْكَ..} . إلخ معترضة لا محل لها. {مِنْ فَضْلِهِ:}

ص: 160

متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. (لعلكم): حرف مشبه بالفعل، والكاف في محل نصب اسمها. {تَشْكُرُونَ:} مضارع مرفوع.. إلخ، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعلّ)، والجملة الاسمية معطوفة على جملة:(تأكلوا، وتستخرجوا) فهي من جملة التعليل. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)}

الشرح: {وَأَلْقى:} وخلق، وجعل. {رَواسِيَ:} جبالا ثابتة. {تَمِيدَ:} تتحرك، وتضطرب، والميدان: الاضطراب يمينا وشمالا، ومادت الأغصان: تمايلت، وماد الرجل:

تبختر، وانظر الآية رقم [3] من سورة (الرعد) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. {وَسُبُلاً:} طرقا، وانظر الآية رقم [108] من سورة (يوسف) عليه السلام، {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي: إلى حيث تقصدون، فلا تضلون، ولا تتحيرون، أو لعلكم تهتدون إلى معرفة الله سبحانه وتعالى، فتعرفون:

أنه القادر المقتدر، والمنعم المتفضل. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

هذا وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-في تفسير {رَواسِيَ:} هي الجبال الشامخات من أوتاد الأرض، وهي سبعة عشر جبلا، منها: قاف، وأبو قبيس، والجودي، ولبنان، وطور سينين، وطور سينا. أخرجه ابن جرير، كما في «المبهمات» للسيوطي. انتهى. جمل من سورة (لقمان).

الإعراب: {وَأَلْقى:} الواو: حرف عطف. (ألقى): ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، وفاعله يعود إلى {الَّذِي،} والجملة الفعلية معطوفة على جملة: {سَخَّرَ..} . إلخ لا محل لها مثلها. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بما قبلهما. {رَواسِيَ:} مفعول به، وهو صفة لموصوف محذوف؛ أي: جبالا رواسي، والمصدر المؤول من:{أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} في محل جر بإضافته لمصدر محذوف يقع مفعولا لأجله، التقدير: كراهية ميدها بكم، وهذا عند البصريين، وهو عند الكوفيين، مجرور بحرف جر محذوف، التقدير: لئلا تميد بكم. {وَأَنْهاراً وَسُبُلاً} معطوفان على {رَواسِيَ،} وإعراب: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} مثل إعراب: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} في الآية السابقة، والجملة الاسمية مفيدة للتعليل، لا محلّ لها.

{وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)}

الشرح: {وَعَلاماتٍ} أي: وجعل في الأرض علامات يهتدي بها المسافرون من جبل، وسهل، وريح. {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} أي: يهتدون إلى مقاصدهم في الليل بالنجوم، والاهتداء بالنجوم في الليل يكون بالجدي، والفرقدين، وبنات نعش، والثريا، وسهيل لكثير من الناس، وهناك نجوم لا يهتدي بها إلا من كان عندهم علم بمطالعها، ومسارها. قيل: المعني بذلك كفار

ص: 161

قريش، والخطاب في الآية السابقة لجميع المخاطبين من بني آدم، والانتقال من الخطاب إلى الغيبة يسمى التفاتا، انظر الآية رقم [43] من سورة (الرعد) تجد ما يسرك. هذا؛ ويقرأ:«(بالنّجم)» بضم النون المشددة مع ضم الجيم وتسكينها للتخفيف، والله أعلم بمراده. وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَعَلاماتٍ:} معطوف على {رَواسِيَ} وقال أبو البقاء: مفعول به لفعل محذوف، التقدير: ووضع فيها علامات، منصوب مثله، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، الواو: حرف استئناف. (بالنجم): متعلقان بالفعل بعدهما، والتقديم للقافية، لا للاختصاص. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، وجملة:

{يَهْتَدُونَ} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها.

{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17)}

الشرح: في هذا الاستفهام إنكار شديد بعد إقامة الدلائل المتكاثرة على كمال قدرته، وتناهي حكمته، والتفرد بخلق ما عدد من مبدعاته في الآيات السابقة؛ لأن يساويه، ويستحق مشاركته ما لا يقدر على خلق شيء من ذلك، بل على إيجاد شيء ما، وكان حق الكلام:«أفمن لا يخلق كمن يخلق» لكنه عكس التشبيه تنبيها على أنهم بالإشراك بالله سبحانه وتعالى جعلوه من جنس المخلوقات العجزة شبيها بها.

والمراد ب: {(كَمَنْ لا يَخْلُقُ):} كلّ ما عبد من دون الله تعالى، مغلبا فيه أولو العلم على غير العاقلين، أو المراد بذلك الأصنام، وإجراؤها مجرى العقلاء؛ لأنهم سموها آلهة، ومن حق الإله أن يعلم ويعقل، أو عومل معاملة العقلاء للمشاكلة بينها، وبين من يخلق، أو للمبالغة في الإنكار، فكأنه قيل: إن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أهل العلم، فكيف بمن لا عنده علم البتة، ولا يعقل قطعا. وانظر الآية رقم [49] الآتية.

{أَفَلا تَذَكَّرُونَ} يعني: هذا القدر من الإنكار ظاهر غير خاف على أحد، فلا يحتاج فيه إلى دقيق الفكر، والنظر، بل مجرد التذكر فيه كفاية لمن يعلم، ويعقل، ويعتبر، {وَما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ} هذا وقد حذف من الفعل إحدى التاءين، فإنّ الأصل:«تتذكرون» وهذا الحذف كثير ومستعمل في القرآن الكريم، والكلام العربي، ولا تنس: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وهو عكس ما في الآية السابقة. تأمل.

بعد هذا فالهمزة في الكلمتين {أَفَمَنْ} {أَفَلا} للإنكار، وهي في نية التأخير عن الفاء؛ لأنها حرف عطف، وكذا تقدم على الواو، وثم تنبيها على أصالتها في التصدير، نحو قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ..} . إلخ وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ..} . إلخ وقوله:

{أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ..} . إلخ، وأخواتها تتأخر عن حروف العطف، كما هو قياس أجزاء

ص: 162

الجملة المعطوفة، نحو قوله تعالى:{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ} وقوله: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} هذا مذهب سيبويه والجمهور، وخالف جماعة، أولهم الزمخشري، فزعموا: أن الهمزة في الآيات المتقدمة في محلها الأصلي، وأن العطف على جملة مقدرة بينها وبين العاطف، فيقولون: التقدير في: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا..} . إلخ، {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً،} {أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ..} . إلخ: أمكثوا، فلم يسيروا في الأرض؟ أنهملكم فنضرب عنكم

إلخ؟ أتؤمنون في حياته، فإن مات، أو قتل

إلخ؟، ويضعفه ما فيه من التكلف، وأنه غير مطرد في جميع المواضع. انتهى. مغني اللبيب بتصرف.

الإعراب: {أَفَمَنْ} الهمزة: حرف استفهام، وتوبيخ، وتقريع. الفاء: حرف عطف. (من):

اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَخْلُقُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (من) والمفعول محذوف للتعميم، والجملة الفعلية صلة (من)، لا محل لها. {كَمَنْ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، {لا:} نافية. {يَخْلُقُ:} مثل سابقه، والجملة صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الاسمية معطوفة على جملة محذوفة على قول الزمخشري، ومن قال بقوله، والجملة الفعلية مستأنفة مع الجملة المقدرة المعطوفة عليها، ومعطوفة على ما قبلها على قول سيبويه وموافقيه. {أَفَلا} الهمزة: حرف استفهام، وتوبيخ، وتقريع. الفاء: مثل سابقتها. (لا):

نافية. {تَذَكَّرُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، وقل في الجملة الفعلية مثل الجملة الاسمية، والكلام على الاعتبارين في الفاء مستأنف لا محل له.

{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)}

الشرح: {وَإِنْ تَعُدُّوا..} . إلخ: انظر شرح هذه النعم في الآية رقم [34] من سورة (إبراهيم) عليه الصلاة والسلام. {إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ:} حيث يتجاوز عن تقصيركم في القيام بشكر هذه النعم، كما يجب عليكم، و (غفور) صيغة مبالغة. {رَحِيمٌ} أي: بكم حيث منحكم هذه النعم، ولم يقطعها عنكم بسبب التقصير في الطاعة، وبسبب اجتراحكم المعاصي، ولم يعاجلكم بالتوبة على جحودها، وكفرانها.

فائدة: «النّعمة» بكسر النون: واحدة النّعم، و «النّعمة» بفتح النون: التّنعّم، والترفه، ولذا قيل: كم ذي نعمة لا نعمة له؛ أي: كم ذي مال لا تنعم له.

الإعراب: {وَإِنْ تَعُدُّوا..} . إلخ: انظر الإعراب وافيا كافيا في الآية رقم [34] من سورة (إبراهيم) على نبينا وعليه ألف صلاة، وألف سلام. {إِنْ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهِ:}

اسمها. {لَغَفُورٌ:} خبرها، واللام هي المزحلقة. {رَحِيمٌ:} خبر ثان، والجملة الاسمية مستأنفة أيضا، لا محل لها.

ص: 163

{وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19)}

الشرح: {تُسِرُّونَ:} تخفون. {تُعْلِنُونَ:} تجهرون، والعلن، والإعلان، والعلانية:

الجهر، انظر الآية رقم [31] من سورة (إبراهيم) عليه الصلاة والسلام، قال الشاعر:[البسيط]

لا تظلموا مسورا فإنّه لكمو

من الّذين وفوا بالسّرّ والعلن

والمعنى: إن الله عليم بجميع أعمال العباد؛ ما يعملونه في السر، والخفاء، وما يفعلونه في الجهر، والعلانية. ففيه وعيد، وتهديد، فقد وصف الله نفسه بالعلم، فهو جدير باستحقاق العبادة، والتضرع، واللجوء إليه، بخلاف المعبودات الباطلة من حجر، ونحوه، فإنها لا تعلم شيئا، بل، ولا تبصر، ولا تعقل فكيف تستحق العبادة؟ هذا؛ والفعل يعلم من المعرفة لا من العلم اليقيني، انظر الآية رقم [42] من سورة (الرعد).

الإعراب: {وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. (الله): مبتدأ. {يَعْلَمُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (الله). {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة، أو مصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: يعلم الذي، أو شيئا تسرونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: يعلم سركم. وإعراب: {وَما تُعْلِنُونَ} لا يخفى عليك، وجملة:{يَعْلَمُ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:

{وَاللهُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)}

الشرح: المعنى: إن الآلهة التي يعبدونها من دون الله تعالى عاجزة لا تقدر أن تخلق شيئا في هذا الكون صغيرا كان، أو كبيرا، عظيما كان، أو حقيرا، بل إنها هي مخلوقة، وما كان بهذه المثابة، فكيف يكون إلها، وكيف يستحق العبادة. هذا؛ وعلى قراءة الأفعال بالياء يكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة، وعلى قراءة:«(تدعون)» فلا التفات، وإنما جمعت المعبودات الباطلة جمع مذكر سالما مع أنها من الجمادات؛ لأن الكفار يعاملونها معاملة من يعقل من سؤالهم لها حوائجهم، وتذللهم لها، والعرب تجمع ما لا يعقل جمع من يعقل؛ إذا أنزلوه منزلته، وإن كان خارجا عن الأصل، وهو كثير ومستعمل في القرآن الكريم، والكلام العربي. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف استئناف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {يَدْعُونَ:} مضارع مرفوع.. إلخ، والواو فاعله. {مِنْ دُونِ:} متعلقان

ص: 164

بمحذوف حال من الضمير المنصوب، و {دُونِ:} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف، التقدير: والذين يدعونهم. {لا:} نافية. {يَخْلُقُونَ:}

مضارع، وفاعله. {شَيْئاً:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر مبتدأ، والجملة الاسمية:{وَالَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة. {وَهُمْ} الواو: واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَخْلُقُونَ:} مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب من واو الجماعة، والرابط:

الواو، والضمير.

{أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ (21)}

الشرح: {أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ} أي: الأصنام، لا أرواح فيها، ولا تسمع، ولا تبصر؛ أي:

هي جمادات، فكيف تعبدونها، وأنتم أفضل منها بالحياة. {وَما يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ:}

ولا يعلمون وقت بعثهم، والإله ينبغي أن يكون عالما بالغيوب، مقدرا للثواب والعقاب، وفيه تنبيه على أن البعث من توابع التكليف، وانظر جمع ما لا يعقل في الآية السابقة، وقد قيل استدلالا بهذه الآية: إن الله يبعث الأصنام يوم القيامة، ولها أرواح فتتبرأ من عبادتهم، وهي في الدنيا جماد، لا تعلم متى تبعث.

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: تبعث الأصنام، وتركب فيها الأرواح، ومعها شياطينها، فيتبرءون من عبدتها، ثم يؤمر بالشياطين والمشركين إلى النار. وقيل: المعنى: ما يدري الكفار الذين عبدوا الأصنام متى يبعثون.

بعد هذا ف: {أَمُوتُ} جمع: ميت، وانظر الآية رقم [17] من سورة (إبراهيم) عليه السلام، وانظر شرح:{غَيْرُ} في الآية رقم [2] من سورة (الرعد)، و {يَشْعُرُونَ} من الشعور، وهو إدراك الشيء من وجه يدق، ويخفى، مشتق من الشعر لدقته، وسمي الشاعر شاعرا لفطنته، ودقة معرفته.

الإعراب: {أَمُوتُ:} خبر ثان للمبتدإ على التفسير الأول، وخبر لمبتدإ محذوف، التقدير:

هم أموات على التفسير الثاني. {غَيْرُ:} صفة {أَمُوتُ،} و {غَيْرُ} مضاف، و {أَحْياءٍ:} مضاف إليه. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): نافية. {يَشْعُرُونَ:} مضارع مرفوع، والواو فاعله.

{أَيّانَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب على الظرفية الزمانية متعلق بالفعل بعده، وهو معلق للفعل قبله عن العمل، والجملة الفعلية:{أَيّانَ يُبْعَثُونَ:} في محل نصب مفعول به للفعل قبله، وجملة:{وَما يَشْعُرُونَ..} . إلخ معطوفة على {أَمُوتُ} على الوجهين المعتبرين فيه، أو هي في محل نصب حال من الضمير المستتر ب:{أَمُوتُ،} وهو الأقوى.

ص: 165

{إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)}

الشرح: {إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ:} لما بيّن الله استحالة الإشراك به سبحانه بيّن أن الذي يستحق العبادة هو إله واحد، وهذه الأصنام متعددة، فكيف تستحق العبادة؟!.

{فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} أي: لا تقبل الوعظ، ولا ينجع فيها النصح.

{وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} أي: متكبرون عن اتباع الحق؛ لأن الحق إذا تبين كان تركه تكبرا، وفي الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب، كما في الآية رقم [17] وأعني بالغيبة في الآية السابقة، ثم في هذه الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة.

وللالتفات فوائد كثيرة: منها تطرية الكلام، وصيانة السمع عن الضجر، والملال لما جبلت عليه النفوس من حب التنقلات، والسآمة من الاستمرار على منوال واحد، هذه فوائده العامة، ويختص كل موضع بنكت، ولطائف باختلاف محله، كما هو مقرر في علم البديع، ووجهه حث السامع، وبعثه على الاستماع؛ حيث أقبل المتكلم عليه، وأعطاه فضل عنايته، وخصصه بالمواجهة.

الإعراب: {إِلهُكُمْ:} مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة. {إِلهٌ:} خبر المبتدأ.

{واحِدٌ:} صفته، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {فَالَّذِينَ:} الفاء: حرف استئناف وتفريع. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {لا:} نافية. {يُؤْمِنُونَ:}

مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {بِالْآخِرَةِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما. {قُلُوبُهُمْ:} مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة. {مُنْكِرَةٌ:} خبره؛ والجملة الاسمية في محل رفع خبر (الذين)، والجملة الاسمية هذه مستأنفة ومفرعة عما قبلها لا محل لها مثلها، والجملة الاسمية:{وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

{لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)}

الشرح: {لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ:} انظر الإعراب يتضح لك معناها. {يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ:} انظر الآية رقم [19]{لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} أي: يبغضهم، ويمقتهم، ويصرفهم عن التفكر في آياته، والتدبر في صنعه، كما ذكر الله ذلك في آية (الأعراف) رقم [146] وهو صفة تستوجب الذم، وتستلزم اللوم، وتسلب الفضائل، وتكسب الرذائل، وحسب المتكبر من هذه صفاته البغض والمقت عند الله، وعند الناس.

فعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده-رضي الله عنهم-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحشر المتكبّرون يوم القيامة أمثال الذّرّ في صور الرّجال، يغشاهم الذّلّ من كلّ مكان، يساقون إلى سجن

ص: 166

في جهنّم، يقال له: بولس، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار، طينة الخبال».

أخرجه النسائي، والترمذي. وعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:

«لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر

إلخ». رواه مسلم، والترمذي بطوله.

وأفحش أنواع الكبر وأقبحها الكبر على الله، كتكبر فرعون، وادعائه الربوبية، واستنكافه أن يكون عبدا لله. ويليه في القبح، والشناعة التكبر على الرسل، وعدم الانقياد لهم، ومخالفة ما جاءوا به كبرا وعنادا، وجهلا، كالذي حصل من كفار قريش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويلي هذين النوعين في السوء والمقت التكبر على عباد الله، وازدراؤهم، والترفع عليهم، والأنفة من مساواتهم.

الإعراب: {لا جَرَمَ} في إعراب هذا اللفظ أربعة أقوال:

أحدها: وهو مذهب سيبويه والخليل: أنها مركبة من (لا) النافية، و (جرم) وبنيتا على تركيبهما تركيب خمسة عشر، وصار معناهما معنى فعل، وهو (حقّ) فعلى هذا فالمصدر المؤول من {أَنَّ} واسمها وخبرها في محل رفع فاعل، فقوله تعالى:{لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النّارَ} أي: حقّ وثبت كون النار لهم، أو استقرارها لهم. هذا ما نقله السمين عن سيبويه، والخليل، ونقل مكي عنهما: أن {لا جَرَمَ} بمعنى: «حقّ» في موضع رفع بالابتداء، والمصدر المؤول من {أَنَّ} واسمها وخبرها في محل رفع خبر، فاختلف النقل عن سيبويه والخليل، رحم الله الجميع برحمته الواسعة، ورحمنا معهم.

الثاني: أنّ {لا جَرَمَ} بمنزلة «لا رجل» في كون {لا} نافية للجنس، و {جَرَمَ} اسمها مبني معها على الفتح، وهي واسمها في محل رفع بالابتداء، وما بعدهما خبر {لا} النافية، وصار معناها: لا محالة في أنهم في علم الله سرهم وعلانيتهم، وهذا الوجه عزاه مكي إلى الخليل أيضا، ونقله ابن هشام في المغني عن الفراء أيضا.

الوجه الثالث: أن {لا} نافية لكلام متقدم، رد الله به استكبارهم، بمعنى: لا ينفعهم استكبارهم، ثم أتى بعدها بجملة فعلية، وهي {جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ..} . إلخ، و {جَرَمَ} على هذا فعل ماض معناه: حقّ، وثبت، وفاعله مستتر، يعود على فعلهم المدلول عليه بسياق الكلام، و {أَنَّ} وما في حيزها في موضع المفعول به؛ لأن جرم يتعدى إذا أوّل بكسب كما قيل، وهو لازم إذا كان بمعنى: حق، وثبت و {أَنَّ} وما في حيزها في موضع الفاعل، والمعنى عليه أقوى، وعلى هذا الوجه فالوقف على {لا} ثم يبتدأ ب:{جَرَمَ} بخلاف ما تقدم. انتهى.

جمل، وهذا القول عزاه مكي للزجاج، ونقله ابن هشام في المغني عن قطرب.

الوجه الرابع: أن معنى {لا جَرَمَ} لا حدّ، ولا منع، ولا صدّ، ويكون {جَرَمَ} بمعنى:

القطع، تقول: جرمت كذا؛ أي: قطعته، فيكون {جَرَمَ} اسم {لا} مبني معها على الفتح، كما

ص: 167

تقدم، وخبرها {أَنَّ} وما في حيزها على حذف حرف الجر؛ أي: لا منع من علم الله، فيعود فيه الخلاف المشهور. انتهى. جمل. وهذا القول عزاه مكي للكسائي. وقال ابن هشام في المغني: وقال قوم: {لا} زائدة، و {جَرَمَ} وما بعدها فعل، وفاعل، كما قال قطرب، وردّه الفراء بأن {لا} لا تزاد في أول الكلام. انتهى.

{أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها {يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ} انظر الإعراب في الآية رقم [19] وجملة: {يَعْلَمُ..} . إلخ في محل رفع خبر {أَنَّ،} و {أَنَّ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر. انظر الإعراب المتقدم لترى محل هذا المصدر. {إِنَّهُ:}

حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {لا:} نافية. {يُحِبُّ:} مضارع، وفاعله يعود إلى (الله).

{الْمُسْتَكْبِرِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جمع مذكر سالم، وجملة:{لا يُحِبُّ..} . إلخ في محل رفع خبر إن، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)}

الشرح: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ} أي: لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة، وهم كفار مكة؛ الذين اقتسموا طرق مكة، ومداخلها، كما رأيت في الآية رقم [90] من سورة (الحجر)، أو هم المستهزءون، كما رأيت في الآية رقم [95] من سورة (الحجر) أيضا. {ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} أي:

على محمد صلى الله عليه وسلم. {قالُوا أَساطِيرُ..} . إلخ: أي: المنزل عليه أحاديث الأولين، وأخبارهم، وأكاذيبهم، وقصصهم، والأساطير: جمع أسطورة، وإسطارة بكسر الهمزة، فالأول: مثل أحدوثة، وأضحوكة وأعجوبة، وجمعها: أحاديث، وأضاحيك، وأعاجيب. وقيل: واحدها:

سطر-بفتح الطاء-وأسطار: جمع، و {أَساطِيرُ} جمع الجمع. هذا؛ وسطر الكتابة جمعه في القلة: أسطر، وفي الكثرة: سطور، مثل فلس، وأفلس، وفلوس. هذا؛ وقد قيل في معنى {أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ:} إنها الترهات، وهي عند العرب غامضة، ومسالك وعرة مشكلة، يقول قائلهم: أخذنا في الترهات، بمعنى: عدلنا عن الطريق الواضح، إلى الطريق المشكل، الذي لا يعرف، فجعلت الترهات مثلا لما لا يعرف، ولا يتضح من الأمور المشكلة الغامضة، التي لا أصل لها. هذا وقد قيل: إن القائل: المنزل أساطير

إلخ. هو النضر بن الحارث من بني عبد الدار، انظر الآية رقم [31] من سورة (الأنفال) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. وانظر الآية رقم [30] الآتية، ففيها بحث، ومقارنة بين الجوابين.

{الْأَوَّلِينَ:} جمع: أول، وفيه مسائل: الأولى: الصحيح أن أصله: «أوأل» بوزن أفعل، قلبت الهمزة الثانية واوا، ثم أدغمت في الأولى، بدليل قولهم في الجمع: أوائل. وقيل: أصله

ص: 168

«ووّل» بوزن فوعل، قلبت الواو الأولى: همزة، وإنما لم يجمع على أواول لاستثقالهم اجتماع الواوين بينهما ألف الجمع.

الثانية: الصحيح: أن أول لا يستلزم ثانيا، وإنما معناه ابتداء الشيء ثم قد يكون له ثان، وقد لا يكون، تقول: هذا أول مال اكتسبته، وقد لا تكتسب بعده شيئا، وقد تكتسب. وقيل: إنه يستلزم ثانيا، كما أن الآخر يقتضي أولا، فلو قال: إن كان أول ولد تلدينه ذكرا فأنت طالق، فولدت ذكرا، ولم تلد غيره، وقع الطلاق على الأول: دون الثاني.

الثالثة: لأول استعمالان: أحدهما: أن يكون صفة؛ أي: أفعل تفضيل بمعنى: الأسبق، فيعطى هذا حكم أفعل التفضيل، من منع الصرف، وعدم تأنيثه بالتاء، ودخول من عليه، نحو هذا، أوّل من هذين، ولقيته عاما أول. والثاني: أن يكون اسما مصروفا، نحو لقيته عاما أوّلا، ومنه قولهم: ما له أول، ولا آخر. قال أبو حيان: في محفوظي: أن هذا يؤنث بالتاء، ويصرف أيضا، فيقال: أوّلة، وآخرة بالتنوين. انتهى. جمع الجوامع.

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {قِيلَ:} ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل ضمير مستتر، تقديره:«هو» يعود إلى المصدر المفهوم من الفعل، أو هو محذوف يدل عليه المقام، التقدير: وإذا قيل قول. وقيل: الجار والمجرور {لَهُمْ:} في محل رفع نائب فاعل. وقيل: جملة: {ماذا أَنْزَلَ..} . إلخ: في محل رفع نائب فاعل، وهذا على قول من يجيز وقوع الجملة فاعلا، ويكون جاريا على القاعدة في بناء الفعل للمجهول:«يحذف الفاعل، ويقام المفعول به مقامه» . وهذا لا غبار عليه، انظر الشاهد رقم [793] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» ، والكلام عليه. {ماذا:} فيه اعتبارات. (ما):

اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. (ذا): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر. {أَنْزَلَ:} ماض. {رَبُّكُمْ:} فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: ما الذي أنزله ربكم؟ هذا؛ ويجوز اعتبار (ماذا) اسم استفهام مركبا، وفي إعرابه وجهان: اعتباره مفعولا مقدما للفعل بعده، واعتباره مبتدأ، والجملة الفعلية خبره، والرابط محذوف وهو مفعول الفعل المحذوف، وسواء أكانت الجملة اسمية أم فعلية على حسب الاعتبارات التي رأيتها، فهي في محل نصب مقول القول على الوجهين الأولين المعتبرين في نائب الفاعل، وهي في محل رفع نائب فاعل قيل على الاعتبار الأخير فيه، وجملة:{قِيلَ..} .

إلخ في محل جر بإضافة إذا إليها على القول المشهور المرجوح. {قالُوا:} ماض وفاعله.

ص: 169

{أَساطِيرُ:} خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: المنزل أساطير، وهذا على اعتبار {ماذا} مبتدأ بالإفراد، أو بالتركيب، وأما على اعتباره مفعولا مقدما، فيكون {أَساطِيرُ} مفعولا به لفعل محذوف موافقة، بين السؤال والجواب، كما في آية أخرى:{ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً} أي:

أنزل خيرا، وقد قال أبو البقاء: ويقرأ: «(أساطير)» بالنصب، ولم أجده لغيره، وعلى الاعتبارين فالجملة في محل نصب مقول القول، و {أَساطِيرُ:} مضاف، و {الْأَوَّلِينَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء، وجملة:{قالُوا..} . إلخ جواب إذا لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25)}

الشرح: {لِيَحْمِلُوا..} . إلخ: أي: قالوا ما ذكر في الآية السابقة إضلالا للناس فحملوا، أوزارهم، وذنوبهم كاملة، وإنما قال سبحانه {كامِلَةً؛} لأن البلاء الذي أصابهم في الدنيا وأعمال البر التي عملوها، لا تكفر عنهم شيئا من آثامهم وسيئاتهم بخلاف المؤمنين، فإن البلاء يطهرهم من الأوزار، والسيئات، وكذلك فعلهم الخير يمحوها، كما قال تعالى:{إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ} وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «وأتبع السّيّئة الحسنة تمحها» . {وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ} أي: ويحملون من ذنوب وسيئات الذين كانوا سببا في إضلالهم، وهو كقوله تعالى في سورة (العنكبوت):{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ} رقم [13]. {ساءَ ما يَزِرُونَ:}

بئس ما يحملونه، ففيه تهديد، ووعيد.

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» . أخرجه مسلم، انظر الآية رقم [13] من سورة (الحجر). {أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ} أي: بئس الوزر الذي يحملونه من دنياهم لآخرتهم.

هذا؛ و: «يزر» ماضيه وزر، والمصدر وزر بكسر الواو، وفتحها، وهو بمعنى: الإثم، والجمع، أوزار. هذا؛ والوزر بفتح الواو، والزاي الملجأ والمستغاث، قال تعالى:{كَلاّ لا وَزَرَ} .

هذا-وقد قال تعالى في سورة (الأنعام): {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ} الآية رقم [31] وحمل الذنوب بالمعنيين «الأوزار، والأثقال» . قيل به: إن الكافر إذا خرج من قبره يوم القيامة يستقبله أقبح شيء صورة، وأنتنه ريحا، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: لا! فيقول: أنا عملك الخبيث طالما ركبتني في الدنيا، فأنا اليوم أركبك حتى أخزيك على رءوس الخلائق! فيركبه،

ص: 170

ويتخطّى به الناس، حتى يقف بين يدي الله تعالى، وأقول: إن الفاسق، والفاجر المسلم ليس من ذلك ببعيد، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

و {يَوْمَ الْقِيامَةِ} هو اليوم الذي يقوم فيه الناس من قبورهم للحساب والجزاء، وكثر التعبير عنه بألفاظ كثيرة، مثل: القارعة، والحاقة، والطامة، والصاخة، ونحو ذلك، وأصل القيامة:

القوامة؛ لأنها من قام يقوم، قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة. هذا؛ وقوله سبحانه:{بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: على جهل منهم، وهذا يفيد: أن جهلهم لا يكون عذرا لهم، وهو يعني: أنه يجب على كل عاقل أن يبحث على الحقيقة؛ حتى يصل إليها؛ حتى لا يكون من الهالكين، وانظر شرح:

{بِغَيْرِ} في الآية رقم [2] من سورة (الرعد).

الإعراب: {لِيَحْمِلُوا:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل. وقيل: هي اللام العاقبة. وقيل: هي لام الأمر، والكلام للتهديد والوعيد، وعلامة النصب، أو الجزم حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، وعلى الجزم فالجملة مستأنفة، وعلى النصب ف:«أن» المضمرة، والفعل في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {قالُوا}. {أَوْزارَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة.

{كامِلَةً:} حال من: {أَوْزارَهُمْ} مؤكدة. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، و {يَوْمَ:}

مضاف، و {الْقِيامَةِ:} مضاف إليه. {وَمِنْ أَوْزارِ:} معطوفان على محل {أَوْزارَهُمْ،} و {وَمِنْ} للتبعيض. وقيل: من زائدة، فيكون {أَوْزارِ} مجرورا لفظا، منصوبا محلا، و {أَوْزارِ:} مضاف، و {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة. {يُضِلُّونَهُمْ:} مضارع، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {بِغَيْرِ:}

متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب، و (غير) مضاف، و {عِلْمٍ:} مضاف إليه. {أَلا:}

حرف تنبيه، واستفتاح يسترعي انتباه المخاطب لما يأتي بعده من كلام. {ساءَ:} فعل ماض جامد لإنشاء الذم، وفاعله ضمير مستتر فيه مفسر بما بعده. {ما:} نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب على التمييز، وجملة:{يَزِرُونَ:} في محل نصب صفة ما، والتقدير:«ساء» الشيء شيئا مزرى، ورابط الصفة محذوف، التقدير: يزرونه، والمخصوص بالذم محذوف أيضا، التقدير: هو حملهم. هذا؛ وأجاز أبو البقاء في غير هذا الموضع اعتبار الفعل (ساء) متصرفا من الإساءة، وله مفعول محذوف، كما أجاز اعتبار {ما} موصولة وموصوفة ومصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، وتقدير الكلام: ألا ساءهم الذي، أو شيء يزرونه، وعلى اعتبار {ما} مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل رفع فاعل، التقدير:

ساءهم وزرهم، والجملة الفعلية:{أَلا ساءَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

ص: 171

{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26)}

الشرح: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: من قبل كفار قريش، والمراد: نمرود بن كنعان الجبار، وكان أكبر ملوك الأرض في زمن إبراهيم على نبيّنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وكان من مكره: أنه بنى صرحا عظيما ببابل في العراق؛ ليصعد إلى السماء، ويقاتل أهلها في زعمه. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراع، فهبت ريح شديدة، فقصفته، وألقت رأسه في البحر، وخر عليهم الباقي، فأهلكهم، وهم تحته. {فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ} أي: أراد الله وقصد تخريب بنيانهم من قواعده، وأساسه. {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} أي: سقط عليهم السقف، فأهلكهم وأبادهم.

{وَأَتاهُمُ الْعَذابُ} أي: الهلاك. {مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ:} لا يحتسبون، ولا يتوقعون، وذلك:

أنهم لما اعتمدوا على قوة بنيانهم وشدته، كان ذلك البنيان سبب هلاكهم. هذا ويقرأ:

{السَّقْفُ} بضم السين المشددة مع ضم القاف وسكونها للتخفيف.

هذا وقيل: ما في الآية الكريمة تمثيل لإفساد ما أبرمه الكفار من هدم بناء دين الله، حيث شبه حالهم بحال قوم بنوا بنيانا، ودعموه، فانهدم ذلك البناء، وسقط السقف عليهم، ونحوه:

من حفر لأخيه جبا؛ وقع فيه منكبا. وهذا ما اختاره القاضي كالكشاف، فيكون عاما في جميع المبطلين الذين يحاولون إلحاق الضرر، والمكر بالمحقين. انتهى. جمل نقلا عن كرخي.

أقول: نص الآية يؤيد التفسير الأول، ويستعار للثاني استعارة على طريقة التشبيه، والتمثيل، والمشهور: أنّ النمرود مات بسبب بعوضة دخلت في أنفه؛ حتى وصلت إلى دماغه.

الإعراب: {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {مَكَرَ:} ماض.

{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل. {مِنْ قَبْلِهِمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، التقدير: الذين كانوا، أو خلقوا من قبلهم، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{قَدْ مَكَرَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، والحالية ضعيفة. {فَأَتَى اللهُ:} ماض وفاعله. {بُنْيانَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنَ الْقَواعِدِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{فَأَتَى اللهُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، وجملة:

{فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ} معطوفة عليها أيضا. {مِنْ فَوْقِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {السَّقْفُ،} وجملة: {وَأَتاهُمُ الْعَذابُ} معطوفة على ما قبلها أيضا. {مِنْ حَيْثُ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {حَيْثُ} مبني على الضم في محل جر، وجملة:

{لا يَشْعُرُونَ} في محل جر بإضافة {حَيْثُ} إليها.

ص: 172

{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27)}

الشرح: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ} أي: يذلهم، ويهينهم بالعذاب، والمراد بهم: الذين مكروا، وحل بهم ما رأيت من العذاب في الدنيا. وفيه إشعار بأن العذاب يحصل للمجرمين في الدنيا، والآخرة. {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ} أي: يقول الله يوم القيامة-على سبيل التقريع، والتأنيب-: أين شركائي في الألوهية على زعمكم؟! {الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} أي: كنتم تعادون، وتخالفون المؤمنين، وتخاصمونهم في شأنهم، فأحضروهم ليدفعوا عنكم ما نزل بكم من العذاب، والهوان. هذا؛ ويقرأ:«(تشاقون)» بكسر النون، فتكون للوقاية، وقد حذفت النون علامة الرفع وحذفت أيضا ياء المتكلم، وقد دلت كسرة النون عليها، وانظر الآية رقم [88] من سورة (هود) عليه السلام.

{قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما-أي: الملائكة. وقيل:

الأنبياء. وقيل: المؤمنون الذين كانوا يدعونهم إلى الإيمان، وعبادة الله تعالى فيخالفونهم، ويتكبرون عليهم. {إِنَّ الْخِزْيَ} أي: الذل، والهوان. {وَالسُّوءَ} أي: العذاب. {عَلَى الْكافِرِينَ} أي: الذين كفروا بالله وآياته، وإنما يقول المؤمنون هذا يوم القيامة لأن الكفار كانوا يستهزءون بهم في الدنيا، وينكرون عليهم أحوالهم، فإذا كان يوم القيامة ظهر أهل الحق، وأكرموا بأنواع الكرامات، وأهين أهل الباطل، وعذبوا بأنواع العذاب، فعند ذلك يقول المؤمنون هذا القول شماتة بالكافرين. والتعبير بالماضي لتحقق وقوعه.

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل بعده، و {يَوْمَ} مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه. {يُخْزِيهِمْ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى (الله)، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {أَيْنَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب على الظرفية المكانية متعلق بمحذوف خبر مقدم. {شُرَكائِيَ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَيَقُولُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع صفة، أو بدل من {شُرَكائِيَ}. {كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {تُشَاقُّونَ:}

مضارع مرفوع، والواو فاعله، وانظر الشرح، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان).

{فِيهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{كُنْتُمْ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها. {قالَ}

ص: 173

{الَّذِينَ:} ماض، وفاعله. {أُوتُوا:} ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والألف للتفريق. {الْعِلْمَ:} مفعول به ثان، وجملة:{أُوتُوا الْعِلْمَ} صلة الموصول، لا محل لها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الْخِزْيَ:} اسمها. {الْيَوْمَ:} ظرف زمان متعلق ب: {الْخِزْيَ؛} لأنه مصدر. {وَالسُّوءَ:} معطوف على {الْخِزْيَ} . {عَلَى الْكافِرِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ الْخِزْيَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ} مستأنفة، لا محل لها.

{الَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)}

الشرح: {الَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} أي: تقبض الملائكة أرواحهم، وهو ملك الموت، وأعوانه.

{ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ} أي: ظلموا أنفسهم بالكفر، والمعاصي، فعرّضوها بذلك للعذاب الأبدي في جهنم. {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ} أي: إنهم استسلموا، وانقادوا لأمر الله الذي نزل بهم. {ما كُنّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} أي: من كفر ومعصية. وهذا بحسب اعتقادهم، وزعمهم. {بَلى} أي: فتقول لهم الملائكة:

بلى كنتم تعملون السوء. {إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ} بالذي كنتم تعملونه، ويفهم من هذه الآية: أنه لا يخرج من الدنيا كافر، ومنافق؛ حتى ينقاد، ويستسلم، ويخضع، ويذل، وحينئذ فلا تنفعهم توبة، ولا إيمان، كما قال تعالى:{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا} وانظر الآية [87].

هذا ويقرأ الفعل: {تَتَوَفّاهُمُ} بالتاء، والياء. انظر الآية رقم [32] الآتية، وانظر شرح:

{الْمَلائِكَةُ} في الآية رقم [23] من سورة (الرعد)، وشرح:{النَّفْسَ} في الآية رقم [53] من سورة (يوسف) عليه السلام، والظلم في الآية رقم [23] من سورة (يونس) عليه السلام. {بَلى:} حرف جواب ك: «نعم» ، و «جير» و «أجل» و «إي» إلا أن بلى جواب لنفي متقدم؛ أي: إبطال، ونقض، وإبطال له، سواء دخله الاستفهام أم لا؟ فتكون إيجابا له، نحو قال القائل: ما قام زيد؟، فتقول: بلى؛ أي: قد قام، وقوله: أليس زيد قائما؟، فتقول: بلى أي: هو قائم، قال تعالى:

{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى} قال ابن عباس-رضي الله عنهما-لو قالوا: نعم؛ لكفروا.

تنبيه: قال الله تعالى في آية: {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها} وقال في آية أخرى: {قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} . وقال هنا: {الَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} والجمع بين هذه الآيات:

أن المتوفي في الحقيقة هو الله تعالى، فإذا حضر أجل العبد أمر الله ملك الموت بقبض روحه، ولملك الموت أعوان من الملائكة، فيأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده، فإذا وصلت إلى الحلقوم، تولى ملك الموت قبضها بنفسه. انتهى خازن في غير هذه الآية. ولنا كلام طويل في الآية رقم [11] من سورة (السجدة) كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.

ص: 174

الإعراب: {الَّذِينَ:} فيه وجوه: أحدها: الاتباع لما قبله على البدلية، أو على النعت، ثانيها: النصب على الذم بفعل محذوف، ثالثها: الرفع على الابتداء، والخبر محذوف، التقدير:

يقولون: ما كنا

إلخ، أو هو خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هم الذين

إلخ، وهو مبني على الفتح في محل جر على الأول، أو في محل نصب على الثاني، أو في محل رفع على الثالث. {تَتَوَفّاهُمُ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء مفعول به. {الْمَلائِكَةُ:} فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد الضمير المنصوب. {ظالِمِي:} حال من الضمير المنصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، وهو مضاف، و {أَنْفُسِهِمْ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {فَأَلْقَوُا:} الفاء: حرف عطف. (ألقوا): ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة التي هي فاعله، والألف للتفريق. {السَّلَمَ:} مفعول به، وجملة:{فَأَلْقَوُا السَّلَمَ} معطوفة على جملة الصلة لا محل لها.

{ما:} نافية. {كُنّا:} ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمه. {نَعْمَلُ:} مضارع:

وفاعله مستتر، تقديره:«نحن» . {مِنْ:} حرف جر صلة. {سُوءٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وجملة:

{نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كُنّا..} . إلخ في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: يقولون: ما كنا

إلخ، وهذه الجملة في محل رفع خبر {الَّذِينَ} على اعتباره مبتدأ، وفي محل نصب حال من واو الجماعة على الاعتبارات الأخرى في الموصول. {بَلى:} حرف جواب في محل نصب مقول قول محذوف؛ إذ هو من مقول الملائكة، أو من مقول الله عز وجل. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {عَلِيمٌ:}

خبرها. {بِما:} متعلقان ب: {عَلِيمٌ،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين: مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: عليم بالذي، أو بشيء كنتم تعملونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤوّل مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: عليم بعملكم. والجملة الاسمية: {إِنَّ اللهَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول للقول المحذوف.

{فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)}

الشرح: {فَادْخُلُوا..} . إلخ: أي: فيقال للكافرين المعاندين عند الموت: ادخلوا جهنم، كل صنف بابه المعد له. انظر الآية رقم [44] من سورة (الحجر) تجد ما يسرك. {خالِدِينَ فِيها:}

مقيمين لا تبرحون منها أبدا، وانظر شرح:(بئس) في الآية رقم [24] من سورة (الرعد)، وانظر «الكبر» في الآية رقم [23] والمراد: تكبروا عن الإيمان، وعن عبادة الله تعالى، وقد بيّن الله ذلك

ص: 175

في سورة (الصافات) بقوله: {إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ} هذا و «المثوى» في الأصل المنزل الذي تكون فيه الإقامة، والفرق بينه، وبين المأوى، فهو مكان الإقامة المنبئة عن المكث، وأما المأوى فهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان ولو موقتا.

الإعراب: {فَادْخُلُوا:} الفاء: حرف استئناف. (ادخلوا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب (امضوا) في الآية رقم [65] من سورة (الحجر). {أَبْوابَ:}

مفعول به، وانظر الآية رقم [14] و [23] من سورة (إبراهيم) عليه الصلاة والسلام، و {أَبْوابَ} مضاف، و {جَهَنَّمَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {خالِدِينَ:} حال من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وفاعله مستتر فيه.

{فِيها:} متعلقان ب: {خالِدِينَ،} وجملة: (ادخلوا

) إلخ في محل نصب مقول القول المحذوف. انظر الشرح، وجملة: (فيقال

ادخلوا

) إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَلَبِئْسَ:}

الفاء: حرف تفريع واستئناف. اللام: لام الابتداء، أو هي واقعة في جواب قسم محذوف.

{فَلَبِئْسَ} (بئس): ماض جامد دال على إنشاء الذم. {مَثْوَى:} فاعل بئس، وهو مضاف، و {الْمُتَكَبِّرِينَ} مضاف إليه مجرور. إلخ، والمخصوص بالذم محذوف، التقدير: هي جهنم، وجملة:{فَلَبِئْسَ مَثْوَى..} . إلخ جواب قسم محذوف، التقدير: أقسم بالله لبئس

إلخ، والقسم وجوابه كلام مفرّع عمّا قبله، ومستأنف لا محل له، وعلى اعتبارها ابتدائية لا محل لها أيضا.

{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30)}

الشرح: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا..} . إلخ: وذلك: أنّ أحياء العرب البعيدين عن مكة كانوا يبعثون إلى مكة أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإذا جاء الوافد سأل الذين كانوا يقعدون على طرق مكة من الكفار، فيقولون: هو ساحر، كاهن، شاعر، مجنون، كذاب. وانظر الآية رقم [24] وإذا لم تلقه خير لك، فيقول الوافد: أنا شر وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أدخل مكة، فألقاه، فيدخل مكة، فيرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسألهم عنه، فيخبرونه بصدقه، وأمانته، وأنه نبيّ مبعوث من الله عز وجل. ومعنى:{اِتَّقَوْا:} ابتعدوا عن الشرك، والكذب، وقول الزور. وانظر إعلاله وشرحه في الآية رقم [109] من سورة (يوسف) عليه السلام.

هذا ورفع {أَساطِيرُ} في قول المشركين، ونصب {خَيْراً} في قول المؤمنين، ليحصل الفرق بين الجوابين، وذلك: أنهم لما سألوا الكفار عن المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم عدلوا بالجواب عن السؤال، فقالوا: هو أساطير الأولين، وليس هو من الإنزال في شيء؛ لأنهم لم يعتقدوا كونه

ص: 176

منزلا، ولما سألوا المؤمنين عن المنزل عليه صلى الله عليه وسلم؛ لم يتلعثموا، وأطبقوا الجواب على السؤال بيّنا مكشوفا، موافقا للإنزال. انتهى. خازن بتصرف.

{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ} أي: للذين أتوا بالأعمال الصالحة الحسنة ثوابها حسنة مضاعفة، من الواحد إلى العشرة، إلى السبعمائة إلى أضعاف كثيرة، من رزق، وفتح، ونصر، وعزّ، وكرامة، وغير ذلك ممّا أنعم الله به على عباده في الدنيا، وما أعدّه الله لهم في الآخرة خير ممّا يحصل لهم في الدنيا، بدليل قوله تعالى:{وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} . {وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ:} وهي الجنة، وما فيها من النعيم المقيم، والخير العميم. بعد هذا انظر شرح:{وَلَدارُ} في الآية رقم [24] من سورة (الرعد)، وشرح:{وَلَنِعْمَ} فيها أيضا، والمراد بالآخرة: الحياة الثانية التي تكون بعد الموت، ثم بعد الحساب، والجزاء، ودخول الجنة والخلود فيها، أو دخول النار والخلود فيها، وانظر شرح:{خَيْرٌ} في الآية رقم [39] من سورة (يوسف) على نبينا وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

الإعراب: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً} انظر إعراب هذا الكلام في الآية رقم [24] هذا وقد قرأ زيد بن علي برفع «(خير)» والكلام مستأنف، وعطفه على الآية المذكورة فالمعنى لا يأباه. تأمل. {لِلَّذِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {أَحْسَنُوا:} ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها.

{فِي:} حرف جر. {هذِهِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل جر ب: {فِي،} والهاء حرف تنبيه لا محل لها، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما وأجيز تعليقهما بمحذوف حال من حسنة، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا.. إلخ. {الدُّنْيا:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {حَسَنَةٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها وأجيز اعتبارها بدلا من {خَيْراً،} أو تفسيرا له، وذلك:

أنّ الخير هو الوحي الذي أنزل الله تعالى فيه: من أحسن في الدنيا بالطاعة؛ فله حسنة في الدنيا، وحسنة في الآخرة. {وَلَدارُ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. اللام: واقعة في جواب القسم.

(دار): مبتدأ، وهو مضاف، و {الْآخِرَةِ:} مضاف إليه. {خَيْرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له، {وَلَنِعْمَ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور، متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. اللام: واقعة في جواب القسم. نعم: ماض جامد لإنشاء المدح. (دار): فاعل نعم، وهو مضاف، و {الْمُتَّقِينَ:} مضاف إليه مجرور.. إلخ، والجملة الفعلية جواب القسم المقدر، والكلام مثل سابقه، والمخصوص بالمدح محذوف، التقدير: هي الجنة. هذا وإن

ص: 177

اعتبرت اللام في الجملتين لام الابتداء؛ فالمعنى لا يأباه، وتكون الأولى مستأنفة، لا محل لها، والثانية معطوفة عليها.

{جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (31)}

الشرح: {جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها:} انظر الآية رقم [23] من سورة (الرعد)، وشرح الأنهار في الآية رقم [3] منها، وشرح:{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا} في الآية رقم [35] منها أيضا. {لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ} أي: للمتقين في جنات عدن ما يشتهون من مستلذات، وهذا لا يكون إلا في الجنة؛ لأن قوله تعالى:{لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ} لا يفيد الحصر، وذلك يدل على أن الإنسان لا يجد كل ما يريد في الدنيا. {كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ} أي: مثل هذا الجزاء العظيم يجزيه الله المتقين، الذين خافوا الله في الدنيا، ووقفوا عند حدوده.

بعد هذا: انظر شاء في الآية رقم [2] هذا والجزاء، والمجازاة: المكافأة على عمل ما، تكون في الخير، وتكون في الشر، فمن الأول: قوله تعالى: {هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ} ومن الثاني: قوله تعالى لإبليس وأتباعه: {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً} فقد أراد جزاء الشر، والجزاء من جنس العمل. هذا؛ والفعل «جزي يجزي» ينصب مفعولين. {اللهُ:} علم على الذات الواجب الوجود، المستحق لجميع المحامد، وهو اسم الله الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، وإنما تخلفت الإجابة في بعض الأحيان عند الدعاء به، لتخلف شروط الإجابة؛ التي أعظمها الحلال.

الإعراب: {جَنّاتُ:} فيه وجوه: الأول: خبر لمبتدإ محذوف، تقديره: هي جنات. الثاني:

مبتدأ خبره الجملة بعده، أو الخبر محذوف، التقدير: لهم جنات. هذا؛ وأجيز اعتباره المخصوص بالمدح، فحينئذ تجري فيه الاعتبارات الثلاث من كونه مبتدأ خبره الجملة الفعلية المتقدمة، أو مبتدأ خبره محذوف، أو خبر لمبتدإ محذوف. والثاني: أضعفها، والثالث:

أقواها، ويكون الكلام متصلا بما قبله، وعلى الاعتبارات: الأول: يكون الكلام مستأنفا منقطعا عما قبله، و {جَنّاتُ} مضاف، و {عَدْنٍ} مضاف إليه. {يَدْخُلُونَها:} مضارع مرفوع.. إلخ، والواو فاعله و (ها): مفعوله على التوسع في الكلام بإجراء اللازم مجرى المتعدي، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {جَنّاتُ عَدْنٍ} على جميع الوجوه المعتبرة فيها، ما عدا وجها واحدا تكون الجملة الفعلية خبرها، انظره فيما تقدم. هذا وقرئ في سورة (فاطر) رقم [33] بنصب جنات على الاشتغال على إضمار فعل يفسره المذكور. {تَجْرِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. {مِنْ تَحْتِهَا:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (ها): في محل جر

ص: 178

بالإضافة. {الْأَنْهارُ:} فاعل، والجملة الفعلية في محل نصب حال ثانية من {جَنّاتُ عَدْنٍ} أو في محل رفع خبر ثان لها، أو في محل نصب حال من الضمير المنصوب، فتكون حالا متداخلة في وجه، وغير متداخلة في وجه آخر. تأمل. {لَهُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فِيها:}

متعلقان بالفعل بعدهما. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير:

الذي، أو شيء يشاءونه فيها، والجملة الاسمية يجوز فيها ما جاز بسابقتها من اعتبارات.

{كَذلِكَ:} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف عامله ما بعده، التقدير: يجزي الله المتقين جزاء مثل ذلك الجزاء، وأجيز تعليق الجار والمجرور بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: الأمر كذلك، كما قيل: الكاف في محل نصب على الحال من ضمير المصدر، وهذا يعني اعتبارها اسما، والإعراب الأول: أعرف، وأشهر. واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {يَجْزِي:} مضارع مرفوع

إلخ. {اللهُ:} فاعله. {الْمُتَّقِينَ:}

مفعول به منصوب.. إلخ، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.

{الَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)}

الشرح: {الَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} أي: تقبض الملائكة أرواحهم، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [28] تجد ما يسرك. هذا؛ ويقرأ الفعل هنا، وهناك بالتاء، والياء، واختار الثاني: أبو عبيد لما روي عن ابن مسعود-رضي الله عنه: أنه قال: إن قريشا زعموا: أن الملائكة إناث.

فذكّروهم أنتم. {طَيِّبِينَ:} طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر، والمعاصي؛ لأنه في مقابلة:

{ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ} . انتهى. كشاف. وقال الخازن: وقيل: إن قوله: {طَيِّبِينَ} كلمة جامعة لكل معنى حسن، فيدخل فيه: أنهم أتوا بكل ما أمروا به من فعل الخيرات، والطاعات، واجتنبوا كل ما نهوا عنه من المكروهات والمحرّمات، مع الأخلاق الحسنة، والخصال الحميدة، والمباعدة من الأخلاق المذمومة، والخصال المكروهة القبيحة. انتهى. والأول: أولى، وأجمع مع الاختصار. {يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ:} قيل: إذا أشرف العبد المؤمن على الموت جاءه ملك، فقال: السّلام عليك يا ولي الله، الله يقرأ عليك السّلام، وبشّره بالجنة، وانظر الآية رقم [50 و 51] من سورة (الأنفال)، وما فيها من الأهوال مع المحال عليها برقم [93] من سورة (الأنعام).

{اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ:} تقول لهم هذا الملائكة الكرام، وهذا يحتمل أن يكون عند الموت، بشارة بالجنة، ويحتمل أن يكون ذلك في الآخرة بعد الحساب، والجزاء.

ص: 179

تنبيه: نصّ الآية يفيد: أن دخول الجنة بسبب الأعمال الصالحة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:«لن يدخل أحدا عمله الجنة» . قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: «ولا أنا إلاّ أن يتغمّدني الله بفضله، ورحمته، فسدّدوا، وقاربوا

إلخ». أخرجه البخاري عن أبي هريرة-رضي الله عنه، وقد قال تعالى في سورة (الأعراف) الآية رقم [43]:{وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ،} ومثلها في الزخرف رقم [72].

والجمع بين هذه الآيات والحديث الشريف بأن محمل آية الأعراف وآية الزخرف على أن منازل الجنة إنما تنال بالأعمال؛ لأن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال، وأن محمل الحديث على أصل دخول الجنة، فإن قيل: آية النحل التي الكلام فيها صريحة في أن دخول الجنة؛ أيضا بالأعمال، وأجيب بأنه لفظ مجمل بينه الحديث الشريف، والتقدير: ادخلوا منازل الجنة وقصورها بما كنتم تعملون، وليس المراد أصل الدخول، أو المراد: ادخلوها، بما كنتم تعملون مع رحمة الله لكم، وتفضله عليكم؛ لأن اقتسام منازل الجنة برحمته، وكذا أصل دخولها حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك، ولا يخلو شيء من مجازاته لعباده من رحمته وفضله، لا إله إلا هو له الملك، وله الحمد. انتهى. حاشية الشنواني على مختصر ابن أبي جمرة. وانظر ما ذكرته في آية الأعراف فإنه جيد أيضا، والله الموفق، والمعين، وبه أستعين.

الإعراب: {الَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ:} انظر الآية رقم [28] ففيها الكفاية؛ إذ الإعراب لا يتغير. {يَقُولُونَ:} مضارع مرفوع.. إلخ، والواو فاعله. {سَلامٌ:} مبتدأ، وساغ ذلك؛ لأنه بمعنى: الدعاء. {عَلَيْكُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {اُدْخُلُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق.

{الْجَنَّةَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله عند بعض النحاة، وفي مقدمتهم سيبويه، والمحققون وعلى رأسهم الأخفش ينصبونه على التوسع في الكلام، بإسقاط الخافض، لا على الظرفية، فهو منتصب انتصاب المفعول به على السعة، بإجراء اللازم مجرى المتعدي، ومثل ذلك قل في:

«دخلت المدينة، ونزلت البلد، وسكنت الشام» . {بِما:} متعلقان بالفعل قبلهما، وانظر تفصيل الإعراب في الآية رقم [28] فهو مثله بلا فارق، وجملة:{اُدْخُلُوا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{يَقُولُونَ..} . إلخ في محل نصب حال من الملائكة، أو في محل رفع خبر {الَّذِينَ} على اعتباره مبتدأ، ويكون الرابط محذوفا، التقدير: يقولون لهم

إلخ.

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)}

الشرح: {هَلْ يَنْظُرُونَ} إلى قوله تعالى: {رَبِّكَ} أي: ما ينتظر أهل مكة إلا أن

إلخ، وهم ما كانوا منتظرين الملائكة التي تنزل لقبض أرواحهم، وما كانوا منتظرين العذاب والهلاك

ص: 180

الذي يأمر به الله تعالى، ولكن لما كان ذلك يلحقهم لحوق المنتظر؛ شبهوا بالمنتظرين، وقرئ الفعل:{تَأْتِيَهُمُ} بالتاء والياء، وانظر ما ذكرته في الآية السابقة، {كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: فعلت الأمم السابقة مثل فعل قريش: من كفر، ومعاندة للرسل، ومخالفة أوامر الواحد القهار، فأهلكهم الله. {وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ} أي: بالهلاك، والدمار. {وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ:} حيث ارتكبوا الجرائم التي سببت هلاكهم، ودمارهم.

الإعراب: {هَلْ:} حرف استفهام معناه النفي. {يَنْظُرُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {إِلاّ:} حرف حصر. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {تَأْتِيَهُمُ:} مضارع منصوب ب: «أن» والهاء مفعول به. {الْمَلائِكَةُ:} فاعله، و «أن» المصدرية والمضارع في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية:{هَلْ يَنْظُرُونَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {أَوْ:}

حرف عطف. {يَأْتِيَ:} مضارع معطوف على ما قبله منصوب مثله. {أَمْرُ:} فاعله، وهو مضاف، و {رَبِّكَ:} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة. من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {كَذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة بمفعول مطلق محذوف عامله ما بعده. واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. هذا؛ وأجيز اعتبار الجار والمجرور متعلقين بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: شأنهم كشأن الذين من قبلهم.

والأول: أعرف، وأشهر. {فَعَلَ:} ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل. {مِنْ قَبْلِهِمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة، وتقدير الكلام: فعل الذين كانوا من قبلهم فعلا مشابها فعل كفار قريش، والجملة الفعلية هذه مستأنفة، لا محل لها. {وَما:} الواو: واو الحال. (ما): نافية. {ظَلَمَهُمُ:} ماض، والهاء مفعول به. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الاسم الموصول، والرابط: الواو، والضمير. الواو: حرف عطف. (لكن): حرف استدراك مهمل لا عمل له.

{كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {أَنْفُسَهُمْ:} مفعول به مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة. {يَظْلِمُونَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، ومتعلقه ومتعلق سابقه محذوف، انظر الشرح، وجملة:

«يظلمون أنفسهم» في محل نصب خبر كان، وجملة:{وَلكِنْ كانُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها.

{فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34)}

الشرح: المعنى فأصاب الأمم السابقة عقاب ما فعلوا من كفر، ومعاص، ونزل بهم جزاء استهزائهم ما نزل من أنواع العقاب، والانتقام، والعذاب المهين ما قص الله في قرآنه. هذا؛

ص: 181

و (حاق) لا يستعمل إلا في الشر، فلا يقال: حاقت به النعمة، بل حاقت به النقمة. قال تعالى:

{وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ،} وفي هذه الآية تهديد، وتحذير للمشركين من أهل مكة أن يفعلوا بنبيهم كما فعل من كان من قبلهم بأنبيائهم، فينزل بهم مثل ما نزل بهم، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {فَأَصابَهُمْ} الفاء: حرف عطف. (أصابهم): ماض، والهاء مفعول به.

{سَيِّئاتُ:} فاعله، وسيئات مضاف، و {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير:

سيئات الذي، أو شيء عملوه. هذا؛ وإن اعتبرت {ما} مصدرية؛ تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالإضافة، التقدير: سيئات عملهم، والجملة:{فَأَصابَهُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها. وقال الجمل نقلا عن السمين: معطوفة على جملة: {فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وما بينهما اعتراض. (حاق): ماض.

{فَأَصابَهُمْ:} متعلقان بما قبلهما، والميم علامة جمع الذكور. {ما:} موصولة، أو موصوفة، مبنية على السكون في محل رفع فاعل. {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق.

{بِهِ:} متعلقان بما بعدهما، وجملة:«يستهزءون به» في محل نصب خبر كان، وجملة:

{كانُوا..} . إلخ صلة {ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلا بالباء. هذا؛ وإن اعتبرت {ما} مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل رفع فاعل، التقدير: حاق بهم استهزاؤهم، والجملة الفعلية على جميع الاعتبارات معطوفة على ما قبلها.

{وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35)}

الشرح: قال الزمخشري في كشافه في تفسير الآية: هذا من جملة ما عدّد الله من أصناف كفرهم، وعنادهم من شركهم بالله، وإنكار وحدانيته، بعد قيام الحجج، وإنكار البعث، واستعجال العذاب استهزاء منهم به، وتكذيبهم الرسول، وشقاقهم، واستكبارهم عن قبول الحق، يعني: أنهم أشركوا بالله، وحرّموا ما أحلّ الله من البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، وغير ذلك، ثم نسبوا فعلهم إلى الله. وقالوا: لو شاء الله؛ لم نفعل، وهذا مذهب المجبرة بعينه. انتهى. بتصرف.

هذا وقول المشركين المذكور احتجاج بأن ما يفعلونه ليس باطلا، ولا مستقبحا، ولو كان كذلك؛ لما شاء الله صدوره عنهم، ولشاء خلافه ملجئا إليه، لا اعتذار؛ لأنهم لم يعتقدوا قبح

ص: 182

أعمالهم، وقولهم المذكور إنكار للنبوة أيضا، فمعناه: لو شاء الله منهم الإيمان؛ لحصل؛ جاءهم رسول، أم لم يجئ، ولو شاء منهم الكفر؛ لحصل جاءهم رسول، أم لم يجئ، وإذا كان كذلك؛ فالكل من الله، فلا فائدة في بعثة الرسل إلى الأمم.

{كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: فعلت الأمم السابقة مثل فعل قريش، من كفر، وإنكار للرسل، ومخالفة لأوامر الله الواحد القهار. {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ..}. إلخ أي: ما على الرسل إلا التبليغ، وليس إليهم هداية أحد، أو إضلاله، ولكن سنة الله في خلقه أن يبعث فيهم رسلا، قطعا للعذر، ومنعا للاحتجاج. هذا؛ وينبغي أن تعلم: أن الله تعالى قال في سورة (الأنعام) الآية رقم [148]{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا..} . إلخ حيث أخبر عما يقولونه في المستقبل قبل وقوعه، انظر شرح الآية هناك؛ تجد ما يسرك.

هذا و {شَيْءٍ} في اللغة عبارة عن كل شيء موجود، إما حسا كالأجسام، وإما حكما كالأقوال، نحو قلت: شيئا، وجمع الشيء: أشياء غير منصرف، واختلف في علته اختلافا كبيرا، والأقرب ما حكي عن الخليل-رحمه الله تعالى-: إن وزنه: شيئاء، وزان: حمراء، فاستثقل وجود همزتين في تقدير الاجتماع، فنقلت الأولى إلى أول الكلمة، فبقيت لفعاء، كما قلبوا أدؤرا، فقالوا: آدر وشبهه، وجمع الأشياء: أشايا. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

الإعراب: {وَقالَ:} الواو: حرف استئناف. (قال): ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، وجملة:{أَشْرَكُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول.

{لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وجملة:{شاءَ اللهُ} مع المفعول المحذوف لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {ما:} نافية. {عَبَدْنا:} فعل، وفاعل. {مِنْ دُونِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. وأجيز تعليقهما بمحذوف حال من (نا).

{مِنْ:} حرف جر صلة. {شَيْءٍ:} مفعول به منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وجملة:{ما عَبَدْنا..} . إلخ جواب {لَوْ،} لا محل لها، و {لَوْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {نَحْنُ:} ضمير منفصل مؤكد ل: (نا). {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): زائدة لتأكيد النفي. {آباؤُنا:} معطوف على (نا)، و (نا) في محل جر بالإضافة. الواو: حرف عطف.

(لا): نافية. {حَرَّمْنا:} فعل، وفاعل. {مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} مثل ما قبلهما بلا فارق، وجملة:

{وَلا حَرَّمْنا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} انظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية رقم [33]{فَهَلْ} الفاء: حرف استئناف. (هل): حرف استفهام، معناه النفي. {عَلَى الرُّسُلِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {إِلاَّ:} حرف حصر.

{الْبَلاغُ:} مبتدأ مؤخر. {الْمُبِينُ:} صفته، والجملة الاسمية مستأنفة استئنافا بيانيا لا محلّ لها.

ص: 183

{وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاِجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)}

الشرح: {وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً} أي: كما بعثنا فيكم محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا. {أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ} أي: تأمرهم الرسل بعبادة الله، واجتناب عبادة الأصنام، والأوثان. {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ:} وفقه للإيمان. {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} أي: ومن الأمم من وجبت عليه الضلالة بالقضاء السابق في الأزل حتى مات على الكفر والضلال، وفي هذه الآية أبين دليل على أن الهادي والمضل هو الله تعالى؛ لأنه المتصرف في عباده، فيهدي من يشاء، ويضل من يشاء، لا اعتراض لأحد عليه بما حكم به في سابق علمه. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [27] من سورة (الرعد) تجد ما يسرك. {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ:} يا معشر قريش. {فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أي: فسيروا في الأرض معتبرين متفكرين؛ لتعرفوا مآل من كذب الرسل، وهو خراب منازلهم بالعذاب والهلاك، ولتعرفوا: أن الهلاك نازل بكم إن أصررتم على الكفر، والتكذيب كما نزل بهم.

بعد هذا ف: «أمّة» بمعنى: جماعة، تكون واحدا إذا كان يقتدى به، كقوله تعالى:{إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ} وانظر الآية رقم [120] الآتية و «الأمة» الطريقة، والملة، والدين، كقوله تعالى حكاية عن قول المشركين:{إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ} وكل جنس من الحيوان أمة، كقوله تعالى:{وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ} و «الأمة» :

الحين، والوقت، كقوله تعالى:{وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي: بعد وقت وحين.

{اُعْبُدُوا:} العبادة هي غاية التذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال، وهو الله تعالى، ولذا يحرم السجود لغير الله تعالى. وقيل: العبودية أربعة: الوفاء بالعهود، والرضا بالموجود، والحفظ للحدود، والصبر على المفقود. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: «أنا والإنس والجنّ في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري» .

{الطّاغُوتَ:} هو الأصنام، أو الشيطان، أو الكاهن، أو كل من دعا إلى الضلال، وصدّ عن عبادة الله تعالى، مثل: كعب بن الأشرف اليهودي المنوّه به في الآية رقم [60] من سورة (النساء) وهو يطلق على المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، وقد يجمع على: طواغيت، واشتقاقه من: طغى، يطغى، أو من: طغا، يطغو، وقد طلب الله في غير ما آية الكفر بالطاغوت، وهو: عدم الرضا به.

ص: 184

بعد هذا فإني ألفت النظر إلى أنه تعالى قال هنا: {فَانْظُرُوا} بعد الأمر بالسير في الأرض وقال سبحانه في الآية رقم [11] من سورة (الأنعام): {ثُمَّ انْظُرُوا} والفرق بينهما: أن النظر هنا جعل مسببا عن السير. فكأنه قيل: سيروا؛ لأجل النظر، ولا تسيروا سير الغافلين. ومعنى السير هناك: إباحة السير في الأرض للتجارة، وغيرها، وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ونبه على ذلك ب (ثم)، التي هي للتراخي لتباعد ما بين الواجب والمباح. انتهى. من النسفي بتصرف كبير.

الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر. والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. هذا وبعضهم يعتبر الواو عاطفة، وبعضهم يعتبرها حرف استئناف. ويعتبر الجملة الآتية جوابا لقسم محذوف، ولا أسلمه أبدا؛ لأنه على هذا يكون قد حذف: واو القسم، والمقسم به، ويصير التقدير: وو الله أقسم، أو وأقسم والله.

اللام: واقعة في جواب القسم المحذوف وبعضهم يقول: موطئة للقسم، والموطئة معناها المؤذنة، وهذه اللام إنما تدخل على «إن» الشرطية، لتدل على القسم المتقدم على الشرط، وتكون الجملة الآتية جوابا للقسم المدلول عليه باللام، والمتقدم على الشرط حكما، كما في قوله تعالى:{لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ..} . إلخ الآية رقم [12] من سورة (الحشر)، افهم هذا واحفظه فإنه جيد. فإن قيل: ما ذكرته من إعراب يؤدي إلى حذف المقسم به، وبقاء حرف القسم، فالجواب أنه قد حذف المقسم به حذفا مطردا في أوائل السور مثل قوله تعالى:

{وَالضُّحى} {وَالسَّماءِ وَالطّارِقِ..} . إلخ فإن التقدير: ورب الضحى ورب السماء

إلخ. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {بَعَثْنا:} فعل، وفاعل. {فِي كُلِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من رسولا، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، و {كُلِّ:} مضاف، و {أُمَّةٍ:} مضاف إليه. {رَسُولاً:} مفعول به، وجملة:{بَعَثْنا..} . إلخ جواب القسم، لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. {أَنِ:} حرف تفسير. وقيل: مصدرية. {اُعْبُدُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب (امضوا) في الآية رقم [65] من سورة (الحجر). {اللهَ:} منصوب على التعظيم، وجملة:{اُعْبُدُوا اللهَ} تفسيرية لا محل لها؛ لأن {بَعَثْنا} فيه معنى القول دون حروفه، وعلى اعتبار {أَنِ} مصدرية تؤوّل مع الفعل بمصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بعبادة الله، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {بَعَثْنا،} وإعراب {وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ} واضح، والكلام على حذف مضاف؛ إذ التقدير: اجتنبوا عبادة الطاغوت. {فَمِنْهُمْ} الفاء:

حرف استئناف. (منهم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم. {مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. {هَدَى:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {اللهَ:} فاعله، والجملة الفعلية صلة {مَنْ،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: هداه الله، هذا الإعراب هو المتعارف عليه في مثل هذه

ص: 185

الجملة، وأرى أنّ مضمون الجار والمجرور مبتدأ، و {مَنْ} هي الخبر لأنّ {مَنْ} الجارة دالة على التبعيض؛ أي: فبعضهم الذي هداه الله، وجمع الضمير يؤيد ذلك، ولا استبعاد في وقوع الظرف بتأويل معناه مبتدأ، يرشدك إلى ذلك قوله تعالى في سورة (آل عمران):{مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ} فعطف (أكثرهم) على {فَمِنْهُمْ} ومقابلته به يؤيد أن معناه بعضهم، وخذ قول الحماسي:[الكامل]

منهم ليوث لا ترام، وبعضهم

ممّا قمشت، وضمّ حبل الحاطب

حيث قابل لفظة: «منهم» بما هو مبتدأ، أعني لفظة:«بعضهم» وهذا ممّا يدل على أنّ مضمون «منهم» مبتدأ. هذا؛ و «ليوث» جمع: ليث، وهو الأسد. لا ترام: لا تقصد بسوء. قمشت: جمعت من هنا، وهناك، والمراد: رذالة الناس، والقمش: الرديء من كل شيء، ولا يخفى عليك إعراب ما بعدها.

{فَسِيرُوا:} الفاء: حرف استئناف، أو هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير:

إن أردتم الاهتداء، والاستدلال على الطريقة المثلى؛ فسيروا

إلخ. (سيروا): أمر، والواو فاعله، والألف للتفريق. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.

{فَانْظُرُوا:} الفاء: حرف عطف. (انظروا): أمر، وفاعله، والألف للتفريق. {كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب خبر {كانَ،} تقدم عليها وعلى اسمها. {كانَ:}

ماض ناقص. {عاقِبَةُ:} اسم {كانَ،} وهو مضاف، و {الْمُكَذِّبِينَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{كَيْفَ كانَ..} . إلخ في محل نصب مفعول به للفعل قبله، والمعلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام، وجملة:{فَانْظُرُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. هذا؛ وأجيز اعتبار {كانَ} تامة، فاعلها {عاقِبَةُ،} فتكون {كَيْفَ} في محل نصب حال من {عاقِبَةُ،} والعامل فيها {كانَ،} ولم تؤنث {كانَ؛} لأن عاقبة مؤنث مجازي.

{إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37)}

الشرح: {إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ:} هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، والمعنى: إن تحرص يا محمد على هداية هؤلاء، وإيمانهم، فالهداية بيد الله لا بيدك، فإن الله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء إضلاله. {وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ} أي: مانعين يمنعونهم من العذاب. هذا؛ ويقرأ: {لا يَهْدِي} بالبناء للفاعل، ومعناه واضح، ويقرأ بالبناء للمفعول على معنى: من أضله الله لم يهده هاد، على حدّ قوله تعالى:{مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ،} وقرئ: {يُضِلُّ} بضم الياء من الرباعي،

ص: 186

وبفتحها من الثلاثي. هذا؛ والحرص مذموم إذا كان على الدنيا، فإنه بمعنى: الطمع الشديد والبخل الشديد، وأما الحرص على الإيمان، والطاعات؛ فهو مقام عظيم عند الله تعالى، والحرص: المحافظة الشديدة على الشيء، والخوف عليه أن يضيع، أو يتلف.

الإعراب: {إِنْ:} حرف شرط جازم. {تَحْرِصْ:} مضارع فعل الشرط، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {عَلى هُداهُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{تَحْرِصْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف، تقديره: لا تقدر على ذلك، و {إِنْ} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {فَإِنَّ} الفاء: حرف تعليل. (إن): حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسم (إنّ). {لا:} نافية.

{يَهْدِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، والفاعل مستتر يعود إلى {اللهَ} .

{مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة، مبنية على السكون في محل نصب مفعول به.

{يُضِلُّ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهَ،} والجملة الفعلية صلة {مَنْ،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: يضله، وجملة:{لا يَهْدِي..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ) والجملة الاسمية: {فَإِنَّ اللهَ..} . إلخ تعليلية لا محل لها. {وَما:} الواو: حرف استئناف.

{وَما:} نافية. {لَهُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَنْ:} حرف جر صلة. {ناصِرِينَ:}

مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه واو مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بالياء التي جلبها حرف الجر الزائد، وإن اعتبرت (ما) حجازية فالإعراب لا خفاء فيه، والجملة الاسمية:{وَما لَهُمْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38)}

الشرح: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ:} حلفوا به، وسمي الحلف قسما؛ لأنه يكون عند انقسام الناس إلى مصدق، ومكذب، وهو رباعي كما ترى، فهمزته تثبت في الماضي، والأمر، وتحذف في المضارع مع ضم حرف المضارعة، كما رأيت في الآية رقم [2] من سورة (الرعد) وأما «قسم» الثلاثي، فإنه بمعنى: جزأ، وفرق، فمضارعه بفتح حرف المضارعة، وهمزته في الأمر وصل.

{جَهْدَ أَيْمانِهِمْ:} غاية اجتهادهم فيها، وذلك: أنهم كانوا يقسمون بآلهتهم، وآبائهم، فإذا كان الأمر عظيما؛ أقسموا بالله، و (الجهد) بفتح الجيم المشقة، وبضمها الطاقة، وقرئ بهما قوله تعالى:{وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاّ جُهْدَهُمْ} .

هذا و {أَيْمانِهِمْ} جمع يمين، والأصل فيه الحلف بالله، أو باسم من أسمائه، أو بصفة من صفاته، وإن كان المشركون يحلفون بآلهتهم، والجاهلون من المسلمين يحلفون في هذه الأيام

ص: 187

بغير ذلك، واليمين أيضا: اليد اليمنى، وتجمع أيضا على أيمان-بفتح الهمزة-كما في قوله تعالى:{أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} وهو كثير في القرآن الكريم، أما الإيمان-بكسر الهمزة-فهو:

التصديق بالله، ورسله، وكتبه، وبوجود الملائكة، واليوم الآخر، وما فيه، والقضاء، والقدر خيره، وشره من الله تعالى. هذا؛ والإيمان الصحيح: هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان، والعمل بالأركان، وانظر زيادة الإيمان ونقصه في الآية رقم [2] من سورة (الأنفال).

{لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ:} وهذا الإنكار للبعث تكرر ذكره في القرآن عن المشركين.

{بَلى:} هذا ردّ على المشركين المنكرين للبعث، والحساب، والجزاء؛ أي: بلى ليبعثنهم، {وَعْداً عَلَيْهِ} أي: وعد الله بالبعث وعدا صادقا، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [33] من سورة (الرعد). {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ:} أنهم يبعثون إما لعدم علمهم بأنه من واجب الحكمة التي جرت عادته بمراعاتها، وإما لقصر نظرهم على المألوف، فيتوهّمون امتناعه.

تنبيه: ذكر في سبب نزول الآية: أن رجلا من المسلمين، كان له على رجل من المشركين دين، فأتاه يتقاضاه، فكان مما تكلم به المسلم: والذي أرجوه بعد الموت، فقال المشرك: إنك لتزعم: أنك تبعث بعد الموت، وأقسم بالله: أنه لا يبعث الله من يموت، فنزلت الآية الكريمة، قاله أبو العالية.

الإعراب: {وَأَقْسَمُوا:} الواو: حرف عطف. (أقسموا): ماض، وفاعله، والألف للتفريق.

{بِاللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {جَهْدَ:} مفعول مطلق عامله (أقسموا)، وهو من معناه، وجوز اعتباره حالا من واو الجماعة بمعنى: جاهدين، و {جَهْدَ:} مضاف، و {أَيْمانِهِمْ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَأَقْسَمُوا بِاللهِ..} . إلخ معطوفة على قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا..} . إلخ لا محل لها مثلها. {لا:} نافية. {يَبْعَثُ اللهُ:} مضارع، وفاعله. {مَنْ:}

اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، وجملة:{يَمُوتُ} صلة {مَنْ،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط رجوع الفاعل إليها، وجملة:{لا يَبْعَثُ..} . إلخ جواب القسم لا محل لها. {بَلى:} حرف جواب. {وَعْداً:} مفعول مطلق لفعل محذوف.

{عَلَيْهِ:} متعلقان ب {وَعْداً،} أو بمحذوف صفة له. {حَقًّا:} مفعول مطلق لفعل محذوف أيضا، وهما مصدران مؤكدان للجملة المقدرة بعد {بَلى،} كما رأيت في الشرح. هذا؛ وقرئ برفعهما على اعتبار (وعد) خبرا لمبتدإ محذوف، و (حقّ) صفة له. {وَلكِنَّ:} الواو: حرف عطف.

وقيل: واو الحال، ولا وجه له. (لكنّ): حرف مشبه بالفعل. {أَكْثَرَ:} اسم (لكنّ)، وهو مضاف، و {النّاسِ:} مضاف إليه، وجملة:{لا يَعْلَمُونَ} مع المفعول المحذوف في محل رفع خبر (لكنّ)، والكلام {بَلى..}. إلخ في محل نصب مقول لقول محذوف؛ إذ التقدير: فقال الله تعالى: بلى

إلخ. تأمل، وتدبر.

ص: 188

{لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39)}

الشرح: {لِيُبَيِّنَ..} . إلخ: أي: يبعث الله الناس يوم القيامة؛ ليبين لهم الذي يختلفون فيه من أمر البعث، والحساب، والجزاء، ويظهر لهم الحق؛ الذي لا خلف فيه حينئذ. {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: بالله ورسوله، وأقسموا أن لا بعث بعد الموت. {أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ:} فيما يدعونه، ويفترونه، وفيه إشارة إلى السبب الداعي إلى البعث، المقضي له من حيث الحكمة، وهي التمييز بين الحق، والباطل، والمحق والمبطل بالثواب والعقاب. هذا؛ والفعل {وَلِيَعْلَمَ} من المعرفة، لا من العلم اليقيني، انظر الآية رقم [42] من سورة (الرعد)، وانظر شرح الكفر في الآية رقم [37] من سورة (يوسف) عليه السلام.

الإعراب: {لِيُبَيِّنَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر يعود إلى (الله)، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل المقدر بعد {بَلى}. {لَهُمُ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به، وجملة:{يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} صلة الموصول، والعائد الضمير المجرور ب:(في). (ليعلم): مثل {لِيُبَيِّنَ} في إعرابه، وتقديره، وتأويله. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، وجملة:{كَفَرُوا} صلة له. {أَنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه. والألف للتفريق. {كاذِبِينَ:} خبر كان منصوب

إلخ، وجملة:{كانُوا كاذِبِينَ} في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسدّ مفعول (يعلم)؛ لأنه من المعرفة، كما رأيت.

{إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)}

الشرح: أعلم الله في هذه الآية الخلق سهولة البعث عليه؛ إذ المعنى: إذا أردنا أن نبعث من يموت؛ فلا تعب علينا، ولا نصب في إحيائهم، وبعثهم، ولا في غير ذلك ممّا نحدثه. وفي الآية دليل قاطع على أن الله تعالى مريد لجميع الحوادث، كلها: خيرها، وشرها، نفعها، وضرها، والدليل على ذلك: أن من يرى في سلطانه ما يكرهه، ولا يريده فلأحد شيئين: إما لكونه جاهلا لا يدري، وإما لكونه مغلوبا لا يطيق، ولا يجوز ذلك في وصفه سبحانه، وقد قام الدليل على أنه سبحانه خالق لأفعال العباد، ويستحيل أن يكون فاعلا لشيء؛ وهو غير مريد له؛ لأن أكثر أفعالنا يحصل على خلاف مقصودنا، وإرادتنا، فلو لم يكن الحق سبحانه مريدا لها لكانت تلك الأفعال تحصل من غير قصد، وهذا قول الطبيعيين، وقد أجمع الموحدون على خلافه، وفساده. انتهى. قرطبي بتصرف.

ص: 189

وفي الآية الكريمة تمثيل لسرعة الإيجاد عند تعلق الإرادة الإلهية، وليس هناك أمر حقيقة، ولا كاف، ولا نون، وإلا لو كان هناك أمر لاعترض بأن يقال: إن كان الخطاب للشيء حال عدمه، فلا يعقل؛ لأن خطاب المعدوم لا يعقل، وإن كان بعد وجوده ففيه تحصيل الحاصل، وإنما المراد من التمثيل تصوير سرعة الحدوث، والإيجاد بما لا يتجاوز أمده النطق بلفظه:«كن» وما أسهلها!.

بعد هذا خذ ما يلي، عن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يقول الله تبارك وتعالى: يشتمني ابن آدم، وما ينبغي له أن يشتمني، ويكذّبني وما ينبغي له أن يكذّبني، أما شتمه إيّاي، فيقول: إنّ لي ولدا، وأمّا تكذيبه إيّاي، فقوله: ليس يعيدني كما بدأني» . وفي رواية:

«كذّبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، أما تكذيبه إياي، فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته، وأمّا شتمه إياي، فقوله: اتّخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد» . رواه البخاري.

هذا والإرادة: نزوع النفس، وميلها إلى الفعل بحيث يحملها عليه، ويقال للقوة التي هي مبدأ النزوع، والأول: مع الفعل، والثاني: قبله، وكلا المعنيين غير متصوّر اتصاف الباري تعالى به؛ ولذا اختلف في معنى إرادته، فقيل: إرادته لأفعاله أنه غير ساه، ولا مكره، ولأفعال غيره أمره بها، فعلى هذا لم تكن المعاصي بإرادته. وقيل: علمه باشتمال الأمر على النظام الأكمل، والوجه الأصلح. وهذا الأخير هو المقبول؛ لأن الله لا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر.

الإعراب: {إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {قَوْلُنا:} مبتدأ، و (نا): في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {لِشَيْءٍ:} متعلقان بالقول. {إِذا:} ظرف زمان مبني على السكون في محل نصب متعلق ب: {قَوْلُنا} أيضا. {أَرَدْناهُ:} فعل ماض، وفاعله ومفعوله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها، والمصدر المؤول من:{أَنْ نَقُولَ لَهُ} في محل رفع خبر المبتدأ، وهو نفس المبتدأ، وساغ ذلك لاختلاف متعلقهما على حد قوله تعالى:{وَالسّابِقُونَ السّابِقُونَ} وقال أبو النجم: [الرجز]

أنا أبو النّجم وشعري شعري

لله درّي ما يجنّ صدري

{كُنْ:} أمر تام؛ لأنه بمعنى: احدث، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {فَيَكُونُ:} الفاء: حرف عطف. (يكون): مضارع تام مرفوع، وفاعله يعود إلى شيء، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة تفصح عنه الفاء، وينسحب عليه الكلام؛ أي: فنقول ذلك، فيكون، كقوله تعالى:{وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ،} وإما جواب لشرط محذوف؛ أي: فإذا قلنا ذلك؛ فهو يكون. انتهى. جمل. وهذا يفيد: أن الفاء الفصيحة. وقال غيره: الجملة الفعلية في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هو يكون،

ص: 190

والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. هذا؛ ويقرأ الفعل «(يكون)» بالنصب عطفا على {نَقُولَ،} وليست الفاء للسببية؛ لأن لفظ {كُنْ} أمر، ومعناه الخبر عن قدرة الله تعالى؛ إذ ليس ثمّ مأمور بأن يفعل شيئا. أفاده مكي بن أبي طالب القيسي.

{وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41)}

الشرح: {وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا:} هم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه المهاجرون، ظلمهم كفار قريش، فهاجر بعضهم إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وأكثرهم هاجر إلى المدينة هجرة واحدة. أو المراد: المستضعفون، المحبوسون، المعذبون في مكة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم: بلال، وعمار، وصهيب، وخباب، وعابس، وأبو جندل بن سهيل-رضي الله عنهم أجمعين-ومعنى {فِي اللهِ} لله، ولوجهه ف:{فِي} بمعنى: اللام، وهو مستعمل لغة.

{لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً:} المراد بالحسنة: نزولهم المدينة، أو هي: العزة، والكرامة، والنصر على الأعداء، أو هي: ما أغدقه الله عليهم من خيرات الدنيا. روي: أن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء، يقول له:(خذ هذا بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله تعالى في الدنيا، وما ادّخر لك في الآخرة أفضل). {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} أي: أعظم، وأفضل، وأشرف مما أعطاهم في الدنيا. {لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} أي: لو كان الكفار يعلمون أن أجر الآخرة أكبر مما هم فيه من نعيم الدنيا؛ لرغبوا فيه، وآمنوا بالله ورسوله.

وقيل: الضمير راجع إلى المهاجرين، ويكون المعنى: لو كانوا يعلمون ما أعد الله لهم في الآخرة؛ لزادوا في الجد، والاجتهاد، والصبر على ما أصابهم من أذى المشركين.

بعد هذا؛ فالهجرة: ترك الأوطان، والأهل، والقرابة في الله، كما حصل للمسلمين الأولين، كما رأيت. هذا؛ وقد أطلق الله اسم الهجرة على الجهاد في سبيل الله تعالى في الآية رقم [89] من سورة (النساء)، وهناك هجرة أخرى، وهي «هجرة» جميع المعاصي والابتعاد عنها، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» . هذا و «المبوّأ» المنزل الملزوم، ومنه بوّأه الله منزلا؛ أي: ألزمه إياه، وأسكنه فيه، وانظر الآية رقم [87] من سورة (يونس) عليه السلام.

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف استئناف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وأجاز أبو البقاء أن يكون في موضع نصب بفعل محذوف يفسره المذكور، وهو ضعيف؛ لأن الاشتغال لا وجه له هنا، وجملة:{هاجَرُوا فِي اللهِ} صلة الموصول، لا محل لها. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بالفعل قبلهما أيضا: وتعليقهما بمحذوف حال من واو الجماعة لا بأس

ص: 191

به. {ما:} مصدرية. {ظُلِمُوا:} ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، وما والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بإضافة {بَعْدِ} إليه، التقدير: من بعد ظلمهم.

{لَنُبَوِّئَنَّهُمْ:} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف. (نبوئنهم): مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به أول. {فِي الدُّنْيا:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من حسنة، كان صفة له، فلما قدم عليه؛ صار حالا، على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها؛ صار حالا» {حَسَنَةً:} مفعول به ثان، وجملة:{لَنُبَوِّئَنَّهُمْ:} جواب القسم المقدر، والقسم وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَالَّذِينَ هاجَرُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

هذا؛ ووقوع الجملة القسمية خبرا للمبتدإ قاله ابن مالك، ومنعه ثعلب، ومثل الآية الكريمة الآية رقم [7] من سورة (العنكبوت)، ومثل ذلك قول الشاعر، وهو الشاهد [765] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الكامل]

جشأت فقلت اللّذ خشيت ليأتين

وإذا أتاك فلات حين مناص

انظر هذا الشاهد وما ذكرته تبعا له، وما نقلته عن ابن هشام أيضا. {وَلَأَجْرُ:} الواو:

حرف استئناف. اللام: لام الابتداء: وقيل: الواو، واو الحال. (أجر): مبتدأ: وهو مضاف، و (الآخرة) مضاف إليه. {أَكْبَرُ:} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، وعلى اعتبار الواو، واو الحال فهي في محل نصب حال من الضمير المنصوب، وهذا لا يصح إلا إذا كانت واو الجماعة عائدة عليه. {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{يَعْلَمُونَ} مع المفعول المحذوف في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كانُوا يَعْلَمُونَ} لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب {لَوْ} محذوف. انظر الاعتبارين في الشرح، و {لَوْ} ومدخولها تذييل للكلام السابق، فهو كلام مستأنف لا محل له.

{الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)}

الشرح: {الَّذِينَ صَبَرُوا:} على الشدائد كأذى الكفرة، ومفارقة الأهل، والوطن، وعلى الجهاد، وبذل الأنفس، والأموال في سبيل الله، وانظر الآية رقم [22] من سورة (الرعد). {وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ:} يفوضون أمورهم إليه وحده.

قال بعضهم: ذكر الله الصبر والتوكل في هذه الآية، وهما مبدأ السلوك إلى الله تعالى ومنتهاه، أما الصبر، فهو: قهر النفس، وحبسها على أعمال البر، وسائر الطاعات، واحتمال الأذى من الخلق، والصبر عن الشهوات المباحات، والمحرّمات، والصبر على المصائب، وأما

ص: 192

التوكل؛ فهو: الانقطاع عن الخلق بالكلية، والتوجه إلى الحق تعالى بالكلية. فالأول: مبدأ السلوك إلى الله تعالى، والثاني: هو آخر الطريق، ومنتهاه، والتوكل: تفويض الرجل الأمر إلى من يملك أمره، ويقدر على نفعه وضره. وقالوا: المتوكل من إن دهمه أمر، لم يحاول دفعه عن نفسه بما هو معصية لله، فعلى هذا إذا وقع الإنسان في محنة، ثم سأل غيره خلاصه منها، لم يخرج عن حد التوكل؛ لأنه لم يحاول دفع ما نزل به عن نفسه بمعصية الله، وإنما هو من تعاطي الأسباب في دفع المحنة.

الإعراب: {الَّذِينَ:} بدل من سابقه. وقيل: هو بدل من الضمير المنصوب. وقيل: هو خبر مبتدأ محذوف. وقيل: منصوب بفعل محذوف، وجملة:{صَبَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول. {وَعَلى رَبِّهِمْ:} متعلقان بما بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية:«يتوكلون على ربهم» معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها، والظاهر والله أعلم: أن المعنى على المضي، والتعبير بصيغة المضارع لاستحضار صورة توكلهم البديعة؛ حتى كأن السامع يشاهدها.

{وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43)}

الشرح: {وَما أَرْسَلْنا:} إلى قوله تعالى: {إِلَيْهِمْ:} هذا رد لقول قريش حيث أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وقالوا: الله أعظم وأجل من أن يكون رسوله بشرا، فهلا بعث ملكا إلينا، وانظر الآية رقم [109] من سورة (يوسف) عليه السلام، ففيها كبير فائدة، والمعنى هنا، وهناك أن سنة الله عز وجل جارية من أول مبدأ الخلق أنه لم يبعث إلا رسولا من البشر، فهذه عادة مستمرة، وسنة جارية قديمة. {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} أي: أهل الكتاب، وهم علماء اليهود، والنصارى، وإنما أمرهم الله بسؤال أهل الكتاب؛ لأن كفار مكة كانوا أميين، ويعتقدون: أنّ أهل الكتاب أهل علم، وقد أرسل الله إليهم رسلا منهم، مثل: موسى، وعيسى، وغيرهما من الرسل، وكانوا بشرا مثلهم. {إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ذلك.

وفي الآية الكريمة دليل على أنه تعالى لم يرسل امرأة، ولا ملكا، ولا جنّيّا للدعوة العامة، وفي آية (يوسف) زيادة {مِنْ أَهْلِ الْقُرى} والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه، وينبغي أن تعلم: أن الآية الكريمة إنما أمرت كفار قريش الأميين أن يسألوا أهل العلم من اليهود، والنصارى عما هم جاهلون به، فالأحرى بالجاهلين من المسلمين أن يسألوا علماء المسلمين عن أمور دينهم، وعمّا هم جاهلون به من أمر الدنيا والآخرة، فخصوص السبب لا يمنع التعميم في كل زمان ومكان، ولولا ذلك لما كنا مكلفين بالجهاد وغير ذلك مما هو من واجبات الدين.

ص: 193

بعد هذا فالفعل: {لا تَعْلَمُونَ} بمعنى: لا تعرفون، انظر الآية رقم [42] من سورة (الرعد).

هذا؛ وأصل {كُنْتُمْ:} «كوتنم» ، فقل في إعلاله: تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فالتقى ساكنان: الألف وسكون النون فحذفت الألف، فصار:«كنتم» بفتح الكاف، ثم أبدلت الفتحة ضمة لتدل على الواو المحذوفة، فصار {كُنْتُمْ،} وهناك إعلال آخر، وهو أن تقول:

أصل الفعل: كون، فلما اتصل بضمير رفع متحرك نقل إلى باب فعل، فصار:(كونت) ثم نقلت حركة الواو إلى الكاف قبلها، فصار (كونت) فالتقى ساكنان: العين المعتلة، ولام الفعل، فحذفت العين، وهي الواو لالتقائهما، فصار «كنت» وهكذا قل في إعلال كل أجوف واوي مسند إلى ضمير رفع متحرك، مثل قال، وقام، ونحوها، وانظر (نا) في الآية [23] من سورة (الحجر).

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف، أو حرف عطف. (ما): نافية. {أَرْسَلْنا:} فعل، وفاعل، وانظر إعراب (حفظنا) في الآية رقم [17] من سورة (الحجر). {مِنْ قَبْلِكَ:} متعلقان بما قبلهما. وقيل: بمحذوف حال، والكاف في محل جر بالإضافة، {إِلاّ:} حرف حصر.

{رِجالاً:} مفعول به. {نُوحِي:} مضارع مرفوع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . هذا؛ ويقرأ:

«(يوحى)» فهو مبني للمجهول مرفوع أيضا، وعلامة الرفع في الأول: مقدرة على الياء، وفي الثاني:

مقدرة على الألف. {إِلَيْهِمْ:} متعلقان بالفعل {نُوحِي،} ومتعلقان بنائب فاعل على قراءة «(يوحى)» والجملة الفعلية على الاعتبارين صفة رجالا، وجملة:{وَما أَرْسَلْنا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، أو هي معطوفة على ما قبلها، والأول: أقوى. {فَسْئَلُوا:} الفاء: هي الفصيحة، وانظر الآية رقم [1] (اسألوا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَهْلَ:} مفعول به، وهو مضاف، والذكر مضاف إليه، وجملة:{فَسْئَلُوا..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط غير جازم، التقدير: (وإذا كنتم جاهلين فاسألوا

) إلخ وهذا الكلام مستأنف، أو معطوف على ما قبله لا محل له على الاعتبارين. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {إِلاّ:} نافية. {تَعْلَمُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان) وجملة:{كُنْتُمْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، والجملة الشرطية تذييل للكلام السابق، ومؤكدة له لا محل لها.

{بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)}

الشرح: {بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ} أي: بالحجج الدامغة، والبراهين الساطعة، والمراد بها:

المعجزات التي أيد الله بها رسله، و (الزبر): الكتب، جمع: زبور، وهو الكتاب المقصور على

ص: 194

الحكم، والمواعظ، من: زبرت الشيء: إذا حبسته. وقيل: (الزبور): المواعظ، والزواجر، من: وعظته إذا زجرته، وانظر أوجه الإعراب يتضح لك المعنى. {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ:}

الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد ب:{الذِّكْرَ} القرآن، وإنما سماه الله ذكرا؛ لأن فيه مواعظ، وتنبيها للغافلين، وانظر الآية رقم [9] من سورة (الحجر) ففيها ما يسرك، ويثلج صدرك.

{لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} أي: ما أجمل إليك من أحكام القرآن، وبيان الكتاب يطلب من السنة، والمبيّن لذلك المجمل هو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ أي: ما فيه من الأحكام، والوعد بقوله، وفعله.

وكذلك مبين لما أجمله الله في كتابه من أحكام الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وخاب الذين يقولون: لا نأخذ إلا بما في القرآن، وكيف يفهمون القرآن، ويعملون بتعاليمه، ويقومون بالتكاليف الإلهية إذا لم يأخذوا بالأحاديث النبوية، وخاب الذين يأخذون برواية بعض الصحابة، ويرفضون رواية الكثيرين منهم، فمثلهم كمثل من يؤمن ببعض الكتاب، ويكفر ببعضه. وانظر:

{لِتُبَيِّنَ} في الآية رقم [45] من سورة (إبراهيم) عليه السلام، وانظر الآية [89] الآتية. {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي: فيما أنزل إليهم فيعملون به، وانظر مثل هذا الترجي في الآية [2] من سورة (الرعد) وانظر «التفكر» في الآية رقم [3] منها أيضا، وانظر شرح:{النّاسِ} في الآية رقم [38] من سورة (يوسف) على نبينا، وعليه، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ألف صلاة، وألف سلام.

الإعراب: {بِالْبَيِّناتِ:} متعلقان بالفعل {أَرْسَلْنا،} أو بمحذوف صفة {رِجالاً} أي: رجالا ملتبسين بالبينات، أو بالفعل {نُوحِي،} أو ب: {لا تَعْلَمُونَ} على أن الشرط في معنى التبكيت والإلزام، كقولك: إن كنت عملت لك فأعطني حقي، أو بفعل محذوف يقع جوابا لسؤال مقدر، كأنه قيل: بم أرسلوا؟ قيل: أرسلوا بالبينات. انتهى. جمل بتصرف كبير. وعلى الاعتبارات الثلاثة الأول: فالجملة: {فَسْئَلُوا أَهْلَ..} . إلخ معترضة لا محل لها والتعليق بفعل محذوف هو قول ابن هشام في المغني، وأضيف: أنه أجيز أيضا تعليقهما بمحذوف حال من الضمير في:

{إِلَيْهِمْ} . {وَالزُّبُرِ:} معطوف على ما قبله. (أنزلنا): فعل، وفاعل. {إِلَيْكَ:} متعلقان بما قبلهما. {الذِّكْرَ:} مفعول به. {لِتُبَيِّنَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر، تقديره:«أنت» و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل: أنزلنا. {لِلنّاسِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية:{نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} صلة {ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط: رجوع نائب الفاعل إليها، وجملة:

{وَأَنْزَلْنا..} . إلخ معطوفة على جملة: {وَما أَرْسَلْنا..} . إلخ لا محل لها مثلها. {وَلَعَلَّهُمْ:} الواو:

حرف عطف. (لعلهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه، وجملة:{يَتَفَكَّرُونَ} في محل رفع خبر لعل، والجملة الاسمية معطوفة على {لِتُبَيِّنَ،} فهي مفيدة للتعليل أيضا.

ص: 195

{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45)}

الشرح: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ} أي: المكرات السيئات، وهم الذين احتالوا لهلاك الأنبياء، أو الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وراموا صدّ أصحابه عن الإيمان بالإضافة لما فعلوا بهم من إيذاء، وسخرية. هذا؛ والمكر: تدبير الأمر في خفية، وهو أيضا: احتيال، وخداع.

{أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ:} كما خسف بقارون. وخسف المكان: ذهب في الأرض، وبابه:

جلس، وخسف الله به الأرض من باب: ضرب؛ أي: غاب فيها، ومنه قوله تعالى:{فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ} وخسوف القمر: ذهاب ضوئه. هذا؛ والخسف: النقصان، والخسف: الذلة، والمهانة، والحقارة، قال الشاعر:[البسيط]

ولا يقيم على ضيم يراد به

إلاّ الأذلاّن: عير الحيّ والوتد

هذا على الخسف مربوط برمّته

وذا يشجّ فلا يرثي له أحد

{أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} أي: من جهة لا تخطر ببالهم، ولم يحتسبوها، كما فعل الله بقوم لوط وغيرهم، وقد أهلك القرشيون في غزوة بدر، ولم تكن في حسابهم، وانظر:{يَشْعُرُونَ} في الآية رقم [21]، ولا تنس: أن الكلام في: {أَفَأَمِنَ} مثله في: {أَفَمَنْ،} {أَفَلا} في الآية [17].

الإعراب: {أَفَأَمِنَ} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. الفاء: حرف عطف، أو حرف استئناف. (أمن): ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، وجملة:

{مَكَرُوا..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها. {السَّيِّئاتِ:} صفة لمفعول مطلق؛ أي: مكروا المكرات السيئات، أو هو مفعول به على تضمين مكروا عملوا، أو فعلوا، وعلى هذين الوجهين، فالمصدر المؤول من:{أَنْ يَخْسِفَ اللهُ} في محل نصب مفعول ب: (أمن)، أو هو منصوب ب:(أمن)؛ أي: أمنوا العقوبات السيئات، وعلى الأول: فالمصدر المؤول من: {أَنْ يَخْسِفَ اللهُ} بدل من السيئات. {بِهِمُ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الْأَرْضَ:} مفعول به. {أَوْ:}

حرف عطف. {يَأْتِيَهُمُ:} معطوف على {يَخْسِفَ} منصوب مثله، والهاء في محل نصب مفعول به. {الْعَذابُ:} فاعل. {مِنْ حَيْثُ:} متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال، و {حَيْثُ} مبني على الضم في محل جر. {لا:} نافية. {يَشْعُرُونَ:} مضارع مرفوع، والواو فاعله، وجملة:{لا يَشْعُرُونَ} في محل جر بإضافة {حَيْثُ} إليها، وجملة:{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة، أو هي معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: ألم يتفكروا فأمن الذين مكروا السيئات.

ص: 196

{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)}

الشرح: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} أي: يهلكهم في أسفارهم، أو في ليلهم، أو نهارهم، وفي جميع أحوالهم. {فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ:} الله، ولا يفوتونه، ولا يهربون من عقابه وانتقامه.

الإعراب: {أَوْ:} حرف عطف. {يَأْخُذَهُمْ:} معطوف على {يَخْسِفَ} منصوب مثله، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} والهاء مفعول به. {فِي تَقَلُّبِهِمْ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {فَما:} الفاء: حرف عطف. (ما): نافية حجازية تعمل عمل «ليس» . {يَأْخُذَهُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع اسم (ما). {بِمُعْجِزِينَ} الباء: حرف جر صلة. (معجزين): خبر (ما) مجرور لفظا، منصوب محلا، وإن اعتبرت (ما) مهملة؛ فيكون {يَأْخُذَهُمْ} مبتدأ، والباء زائدة في خبره، والجملة الاسمية مفرّعة عما قبلها، واعتبار الفاء فصيحة، والجملة الاسمية جوابا لشرط مقدر جيد لا بأس به، ويكون التقدير: وإذا كان ذلك ممكنا، وليس متعذرا فما هم بمعجزين الله. تأمل، وتدبر.

{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47)}

الشرح: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ} أي: على مخافة بأن يهلك قوما غيرهم، فيتخوفوا، فيأتيهم العذاب، وهم متخوفون. وقال الضحاك: المعنى: يأخذ طائفة، ويدع طائفة، فتخاف الباقية أن ينزل بها ما نزل بصاحبتها. وقال ابن عباس، ومجاهد-رضي الله عنهما: أي: على تنقص من أموالهم، ومواشيهم، وزروعهم، بل: وأنفسهم؛ حتى أهلكهم كلهم، هذا؛ وتخوّنه الدّهر، وتخوّفه بالفاء والنون بمعنى، يقال: تخوّنني فلان حقي إذا تنقصه، قال لبيد:[الوافر]

عذافرة تقمّص بالرّدافى

تخوّنها نزولي وارتحالي

أي: تنقص لحمها، وشحمها كثرة الأسفار، وما أحراك أن تنظر ما ذكرته في الآية رقم [13] من سورة (الرعد). وقال الليث بن سعد:{عَلى تَخَوُّفٍ:} على عجل. وقيل غير ذلك. {لَرَؤُفٌ:}

انظر الآية رقم [7]، ولا تنس: أن في الكلام التفاتا من الغيبة إلى الخطاب. انظر الآية رقم [22] ومعنى رأفته سبحانه وتعالى هنا: عدم المعاجلة بالعقاب، بل يمهل، ولكنه لا يهمل.

الإعراب: {أَوْ:} حرف عطف. {يَأْخُذَهُمْ:} معطوف على ما قبله، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} والهاء مفعول به. {عَلى تَخَوُّفٍ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب، أو من الفاعل المستتر. {فَإِنَّ:} الفاء: حرف استئناف. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {رَبَّكُمْ:} اسم (إنّ)، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لَرَؤُفٌ:} خبر

ص: 197

(إنّ)، واللام هي المزحلقة. {رَحِيمٌ:} خبر ثان، والجملة الاسمية:{فَإِنَّ رَبَّكُمْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48)}

الشرح: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ:} المراد: أهل مكة، ويقرأ الفعل بالتاء على الخطاب لجميع الناس، والفعل بصري، والمعنى: أو لم ينظروا بعين البصيرة إلى صنع الله، فيعتبروا، وتظهر لهم قدرة الله، فيخافوا منه، ويعبدوه، والمراد ب:{شَيْءٍ:} ماله جسم قائم، له ظل، من شجرة، أو جبل، ونحو ذلك. {يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ} أي: يميل من جانب إلى جانب، ويكون أول النهار على حال، فيتقلص، ثم يعود في آخر النهار إلى حالة أخرى، فدورانه وميلانه من موضع إلى موضع سجوده، ومنه قيل للظل بالعشي: فيء؛ لأنه يفيء من المغرب إلى المشرق؛ أي: يرجع، ومنه قوله تعالى:{حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما} واختلف في الفيء، فقيل: هو مطلق الظل، سواء أكان قبل الزوال، أو بعده، وهو ما توحيه الآية.

وقيل: ما كان قبل الزوال فهو ظل فقط، وما كان بعده فهو ظل وفيء. وقيل: بل يختصّ الظلّ بما قبل الزوال، والفيء بعده، فالفيء لا يكون إلا في العشي، وهو ما انصرفت عنه الشمس، والظل ما يكون في الغداة، وهو ما لم تنله الشمس، وفي «القاموس»: الظل: الفيء، والجمع:

ظلال، وأظلال، وظلول، وظلّ الليل: سواده. {وَهُمْ داخِرُونَ:} خاضعون، صاغرون؛ إذ الدخور: الصغار، والذل. وانظر الآية رقم [16] من سورة (الرعد) هذا وقد قرئ:«(تتفيأ)» بالتاء، و (الشمائل) جمع: شمال على غير قياس؛ إذ القياس: أشمل، كذراع، وأذرع.

تنبيه: في إفراد {الْيَمِينِ} وجمع الشمال أجوبة: أحدها أن الابتداء يقع من اليمين، وهو شيء واحد، فلذلك وحد اليمين، ثم ينتقص شيئا فشيئا، وحالا بعد حال، فهو بمعنى: الجمع، فصدق على كل حال لفظة «الشمال» فتعدد بعدد الحالات. الثاني: قال الزمخشري: واليمين بمعنى: الأيمان، يعني: أنه مفرد قائم مقام الجمع، وحينئذ فهما في المعنى جمعان، كقوله تعالى:{وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} أي: الأدبار. الثالث: قال الفراء: كأنه إذا وحد ذهب إلى واحد من ذوات الظلال، وإذا جمع ذهب إلى كلها؛ لأن قوله تعالى:{ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ} لفظه واحد، ومعناه الجمع، فعبر عن أحدهما بلفظ الواحد، كقوله تعالى:{وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ} وقوله جل شأنه: {خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ} . انتهى. جمل نقلا عن كرخي.

تنبيه: والجمع في قوله: {تَدَّخِرُونَ} فيه قولان: أحدهما: أنّ من جملة ما خلق الله فيه من يعقل، فيكون في الكلام تغليب؛ أي: تغليب العقلاء على غيرهم، وهذا على اعتبار {تَدَّخِرُونَ}

ص: 198

عائدا إلى {ما خَلَقَ اللهُ} . والثاني: لما وصف الله الظلال بالطاعة، والانقياد لأمره، وذلك صفة من يعقل؛ عبّر عنها بلفظ من يعقل، وجاز جمعها بالواو، والنون، وهو جمع العقلاء، وهذا على اعتباره عائدا إلى {ظِلالُهُ} تأمل.

الإعراب: {أَوَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. الواو: حرف استئناف، أو حرف عطف حسب ما رأيت في الآية رقم [17] (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَرَوْا:} مضارع مجزوم ب: (لم)، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {إِلى ما:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، و {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب:{إِلى} والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: إلى الذي، أو شيء خلقه الله.

{مِنْ شَيْءٍ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب المحذوف، و {مِنْ} بيان لما أبهم في {ما}. {يَتَفَيَّؤُا:} مضارع. {ظِلالُهُ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جر صفة {شَيْءٍ}. {عَنِ الْيَمِينِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {ظِلالُهُ}. هذا؛ وأجيز اعتبار {عَنِ} اسما بمعنى: جانب، فيكون ظرف مكان متعلقا بالفعل قبله، ويكون مضافا و {الْيَمِينِ:} مضاف إليه. {وَالشَّمائِلِ:} معطوف على {الْيَمِينِ} .

{سُجَّداً:} حال من {ظِلالُهُ} . {اللهُ:} متعلقان بسجدا، والجملة الاسمية:{وَهُمْ داخِرُونَ} في محل نصب حال من الضمير المستتر في {سُجَّداً،} فهي حال متداخلة، أو هي معطوفة على {سُجَّداً،} فتكون حالا ثانية.

{وَلِلّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49)}

الشرح: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ}

{مِنْ دابَّةٍ:} قال العلماء: السجود على نوعين: سجود طاعة، وعبادة، كسجود المسلم لله عز وجل. وسجود انقياد، وخضوع، كسجود الظلال، والجمادات، وسائر الحيوانات، ولفظ «الدابة» اسم لكل حيوان يدب على وجه الأرض، من إنسان، وحيوان، ووحش، وهوام، وغير ذلك؛ فلذا يطلق لفظ دابة على الذكر، والأنثى ممّا ذكر. وفي العرف يطلق لفظ الدابة على ذوات الأربع من الحيوان. وانظر الآية رقم [56] من سورة (هود) عليه السلام. {وَالْمَلائِكَةُ:} خصوا بالذكر كما خص جبريل بالذكر بعد ذكر الملائكة للتشريف، والتعظيم. {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ:} عن عبادة ربهم، وهذا ردّ على كفار قريش حيث زعموا: أن الملائكة بنات الله. وانظر شرح الملائكة في الآية رقم [25] من سورة (الرعد). وانظر «الكبر» في الآية رقم [23] وانظر شرح {السَّماواتِ} و {الْأَرْضِ} في الآية رقم [3].

ص: 199

تنبيه: الأصل أن تكون «من» للعاقل، و «ما» لغير العاقل، وقد يعكس هذا فتستعمل «من» لغير العاقل كما في قوله تعالى:{وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ..} . إلخ الآية رقم [45] من سورة (النور)، وتستعمل «ما» للعاقل كما في قوله تعالى:{فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ} الآية رقم [3] من سورة (النساء) وهذا من باب التقارض، وذلك قليل، وأكثر ما تكون (ما) للعاقل إذا اقترن العاقل بغير العاقل كما في الآية الكريمة في حكم واحد، وقوله سبحانه:

{يُسَبِّحُ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} فإن كل ما في السموات والأرض ممن يعقل، وما لا يعقل قد اقترنا في حكم واحد، وهو: السجود والتسبيح، كما قال تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} ويكون في الكلام تغليب، كما تستعمل في المبهم أمره كقولك، وقد رأيت سبحا من بعد:(انظر إلى ما أرى) و «من» و «ما» تكونان بلفظ واحد للمفرد، والمثنى والجمع، والمذكر، والمؤنث، وانظر الآية [67] من سورة (الإسراء).

تنبيه: ملخص ما تقدم: أنّ «من» تستعمل لغير العاقل في ثلاث مسائل:

1 -

أن ينزل غير العاقل منزلة العاقل، وذلك كقوله تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ} فدعاء الأصنام؛ التي لا تستجيب الدعاء نزلها منزلة العاقل؛ إذ لا ينادى إلا العقلاء.

2 -

أن يندمج غير العاقل مع العاقل في حكم واحد كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} الآية رقم [17]، وقوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ..} . إلخ الآية رقم [18] من سورة (الحج).

3 -

أن يقترن غير العاقل بالعاقل في عموم مفصل، كما في آية النور المذكورة آنفا؛ إذ الدابة تعم أصناف من يدب على وجه الأرض، وقد فصلها على ثلاثة أنواع.

وتستعمل «ما» للعاقل في ثلاث مسائل أيضا:

1 -

إذا اقترن العاقل بغير العاقل في حكم واحد، وهو كثير كالآية التي نحن بصدد شرحها، وقوله تعالى في سورة (طه):{لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى} .

2 -

إذا نزل العاقل منزلة غير العاقل، كقوله تعالى في سورة (النساء):{فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ،} وقوله تعالى: {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} وهو كثير.

3 -

تستعمل «ما» في المبهم أمره كقولك، وقد رأيت شبحا من بعيد «انظر إلى ما أرى» .

الإعراب: {وَلِلّهِ:} الواو: حرف استئناف. (لله): متعلقان بالفعل بعدهما، والتقديم يفيد الاختصاص. {يَسْجُدُ:} مضارع. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل، {فِي السَّماواتِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {وَما فِي الْأَرْضِ:} مثل ما قبله. {مِنْ دابَّةٍ:}

ص: 200

متعلقان بمحذوف حال من (ما) و {مِنْ} بيان لما أبهم في: (ما). {وَالْمَلائِكَةُ:} معطوف على ما، عطف خاص على عام. {وَهُمْ:} الواو: واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لا:} نافية. {يَسْتَكْبِرُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من (الملائكة)، والرابط:

الواو، والضمير.

{يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)}

الشرح: {يَخافُونَ رَبَّهُمْ} أي: الملائكة يخافون الله تعالى. {مِنْ فَوْقِهِمْ} أي: يخافون أن ينزل عليه عذابا من فوقهم، أو يخافونه، وهو فوقهم بالقهر، والاستعلاء، فهم تحت التسخير، والتذليل بما علاهم من الاقتدار، والقهر الذي لا يقدر أحد على الخروج منه، ولا ينفك عنه، وهذا يعني أن لا فوقية معلومة، قال تعالى:{وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ،} {وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ:}

وفي سورة (التحريم): {لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ} فهم مطبوعون على الطاعة، والامتثال لأوامر الله تعالى، ولا عصيان أبدا، وفي الآية الكريمة دليل على أن الملائكة مكلفون، مدارون بين الخوف، والرجاء.

عن أبي ذر الغفاري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّي أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطّت السّماء، وحقّ لها أن تئطّ، ما فيها موضع أربع أصابع إلاّ وملك واضع جبهته ساجدا لله

إلخ». أخرجه الترمذي، وقال: عن أبي ذر موقوفا. وفي القاموس: أطّ الرّحل، ونحوه، يئطّ أطيطا: صوّت، والإبل أنّت تعبا، أو حنينا، والأطّاط: الصّيّاح.

تنبيه: يسن السجود عند تلاوة الآيات الثلاث من قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا} إلى قوله:

{وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ} للقارئ، والمستمع، فهي من الآيات الأربع عشرة التي يسن السجود لتلاوتها، واستماعها، في الصلاة، وخارجها، والدليل على ذلك سجود النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن، فيقرأ سورة فيها سجدة، فيسجد، ونسجد معه حتّى ما يجد بعضنا موضعا لمكان جبهته في غير وقت صلاة» . متفق عليه، وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة، فسجد اعتزل الشيطان يبكي، ويقول: يا ويلتا أمر ابن آدم بالسجود، فسجد، فله الجنّة، وأمرت بالسجود، فأبيت، فلي النّار» . رواه مسلم. والله أعلم، وأجل، وأكرم. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [58] من سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام.

الإعراب: {يَخافُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {رَبَّهُمْ:} مفعول به. {مِنْ فَوْقِهِمْ:} متعلقان بمحذوف حال من {رَبَّهُمْ،} أو هما متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء فيهما في

ص: 201

محل جر بالإضافة، وجملة:{يَخافُونَ..} . إلخ في محل نصب حال ثانية من (الملائكة) والرابط:

الضمير فقط، أو هي حال من واو الجماعة، فتكون حالا متداخلة، أو هي بدل من جملة:{لا يَسْتَكْبِرُونَ} لأن من خاف الله لا يستكبر عن عبادته. (يفعلون): فعل، وفاعل. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {يُؤْمَرُونَ:} مضارع مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية صلة {ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: الذي، أو شيئا يؤمرون به، وجملة:{وَيَفْعَلُونَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، على جميع الاعتبارات فيها.

{وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اِثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيّايَ فَارْهَبُونِ (51)}

الشرح: {وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ:} قال الخازن رحمه الله تعالى: لما أخبر الله عز وجل في الآية المتقدمة: أن كل ما في السموات والأرض خاضعون له، منقادون لأمره، عابدون له، وأنهم في ملكه، وتحت قدرته، وقبضته؛ نهى في هذه الآية عن الشرك، وعن اتخاذ إلهين اثنين. {إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ} أي: لأن الإلهين لا يكونان إلا متساويين في الوجود، والقدم، وصفات الكمال، والقدرة، والإرادة، فصارت الاثنينية منافية للإلهية، وقد تقرر هذا في غير ما آية، قال تعالى في سورة (البقرة):{وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ} وانظر شرح: {الْواحِدُ} في الآية رقم [39] من سورة (يوسف) عليه السلام.

{فَإِيّايَ فَارْهَبُونِ} أي: فخافوني، والرّهب: خوف من حزن، واضطراب، وإنما نقل الكلام من الغيبة إلى الحضور، وهو من طريق الالتفات؛ لأنه أبلغ في الترهيب من قوله: فإياه فارهبوا، فهو من بديع الكلام، وبليغه. وفي تقديم الضمير حصر، فالمعنى: لا يرهب الخلق إلا منه، ولا يرجون إلا كرمه، وفضله، وإحسانه. ولا تنس: أن في الآية التالية التفاتا آخر إلى الغيبة.

وانظر الالتفات في الآية رقم [22].

الإعراب: {وَقالَ اللهُ:} ماض، وفاعله. {لا:} ناهية. {تَتَّخِذُوا:} مضارع مجزوم ب: {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالَ اللهُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{إِلهَيْنِ:} مفعول به. {اِثْنَيْنِ:} توكيد لما قبله. وقيل: هو صفة لما قبله. منصوب مثله، وعلامة النصب الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنهما مثنى، والنون بدل من التنوين في الاسم المفرد، وعلى هذا فالفعل متعدّ لواحد فقط، ويكون بمعنى: لا تعبدوا

إلخ، ويجوز أن يكون متعديا لاثنين كأصله، والثاني: محذوفا؛ أي: لا تتخذوا إلهين اثنين معبودا. هذا؛ وأجيز اعتبار {اِثْنَيْنِ:} مفعولا أولا، و {إِلهَيْنِ} هو المفعول الثاني، والجمهور على التوكيد. تأمل.

ص: 202

{إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {هُوَ:} مبتدأ. {إِلهٌ:} خبره. {واحِدٌ:} صفته، والجملة الاسمية تعليل للنهي، لا محل لها. {فَإِيّايَ:} الفاء: هي الفصيحة. وانظر الآية رقم [1](إياي): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل نصب مفعول به مقدم لفعل محذوف، التقدير: فإياي ارهبوا، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم؛ إذ التقدير: وإذا كان ذلك هو الواقع والصحيح فإياي ارهبوا. {فَارْهَبُونِ:} الفاء: حرف عطف. (ارهبون): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على المقدرة قبلها، لا محل لها مثلها. وقيل: مفسرة لها، وليس بشيء؛ لأن الفاء تمنع التفسير.

هذا؛ وإن اعتبرت الضمير (إياي) مفعولا مقدما للفعل المذكور بعده، واعتبرت الفاء زائدة، فهو وجه صحيح لا غبار عليه، ولا حذف، ولا تقدير، والله أعلم، وإليه المرجع والمصير.

{وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (52)}

الشرح: {وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي: ولله ملك السموات والأرض وما فيهما خلقا وعبيدا وملكا. {وَلَهُ الدِّينُ واصِباً} أي: له العبادة، والطاعة، وإخلاص العمل دائما ثابتا، والواصب الدائم، قال تعالى:{وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ} قال ابن قتيبة: ليس من أحد يدان، ويطاع إلا انقطع ذلك لسبب في حال الحياة، أو بالموت إلا الحق سبحانه وتعالى، فإن طاعته واجبة أبدا؛ لأنه المنعم على عباده المالك لهم، فكانت طاعته واجبة ثابتة أبدا. هذا؛ وقيل: الوصب: التعب، والإعياء؛ أي: تجب طاعة الله؛ وإن تعب فيها العبد. {أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ:} هذا الاستفهام بمعنى: التعجب والإنكار؛ إذ المعنى كيف تتقون غيره، وتخافون سواه، وهو المالك لما ذكر، والمتصرف فيه؟! وانظر شرح {الدِّينُ} في الآية رقم [40] من سورة (يوسف) عليه السلام، وشرح (غير) في الآية رقم [2] من سورة (الرعد).

الإعراب: (له): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. {فِي السَّماواتِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية:{وَلَهُ ما فِي..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، والجملة الاسمية:

{وَلَهُ الدِّينُ} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {واصِباً:} حال من الضمير المستتر في متعلق الجار والمجرور، أعني: الخبر المحذوف. وقيل: حال من المبتدأ، وهو {الدِّينُ} وهذا لا يسوغ إلى على اعتباره فاعلا بالظرف على مذهب الأخفش، ومن يوافقه على عدم اشتراط الاعتماد على النفي، أو شبهه لعمله، وأما اعتباره مبتدأ؛ فلا يصح مجيء الحال منه؛ لأن الحال تبين هيئة فاعل، أو مفعول. وانظر الشاهد [133] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» ، إعراب شواهد مغني اللبيب. {أَفَغَيْرَ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. الفاء: حرف عطف

ص: 203

على محذوف، التقدير: أبعد ما تقرر من توحيد الله، وبعد ما عرفتم: أن كل ما سواه محتاج إليه؛ فتتقون غيره. (غير): مفعول به مقدم، وغير مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {تَتَّقُونَ:}

مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، أو معطوفة على جملة محذوفة حسب ما رأيت في الآية رقم [17].

{وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53)}

الشرح: {وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} أي: أيّ شيء وصل إليكم من نعم: صحة جسم، وسعة رزق، وولد، وإيمان، وراحة بال؛ فهو من الله وحده، فيجب عليكم أن تشكروه على هذه النعم. {ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ:} الفقر، أو المرض، أو البلاء بأنواعه. {فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ:}

تتضرعون، وتضجون بالدعاء. و «الجؤار»: رفع الصوت بالدعاء، والاستغاثة، و «الجؤار» صوت البقر، مثل الخوار، قال الأعشى يصف بقرة وحشية:[الطويل]

فطافت ثلاثا بين يوم وليلة

وكان النكير أن تطيف وتجأرا

هذا؛ و {ثُمَّ} حرف عطف يقتضي ثلاثة أمور: التشريك في الحكم، والترتيب، والمهلة، وفي كل منها خلاف مذكور في مغني اللبيب، وقد تلحقها تاء التأنيث الساكنة، كما تلحق «ربّ» و «لا» العاملة عمل «ليس» فيقال: ثمّت، وربّت، ولات، والأكثر تحريك التاء معهن بالفتح.

هذا؛ و «ثمّ» هذه غير «ثمّ» بفتح الثاء، فإنها اسم يشار به إلى المكان البعيد، نحو قوله تعالى:

{وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ} وهي ظرف لا يتصرف، ولا يتقدمه حرف التنبيه، ولا يتصل به كاف الخطاب، وقد تتصل به التاء المربوطة، فيقال: ثمّة.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {بِكُمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {مِنْ نِعْمَةٍ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في متعلق الجار والمجرور، و (من) بيان لما أبهم في (ما). {فَمِنَ:} الفاء:

حرف صلة لتحسين اللفظ، ودخلت الفاء في خبر المبتدأ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم.

(من الله): متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. هذا؛ وأجيز اعتبار (ما) شرطية مبتدأ، وفعل شرطها محذوف، التقدير: وأيّ: شيء بكم، أو اتصل بكم، والجار والمجرور بكم متعلقان بالفعل المقدر. وقال ابن هشام في «مغني اللبيب»: التقدير: وما يكن بكم من نعمة؛ فمن الله، وهذا يعني: أن الفعل «يكن» تاما بمعنى: وما يوجد بكم. {مِنْ نِعْمَةٍ:} متعلقان بمحذوف حال من فاعل الفعل المقدر والمستتر، والفاء: واقعة في جواب الشرط، وعليه فالجار والمجرور:(من الله) متعلقان بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فهو من الله، أو فهي من الله، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، وخبر المبتدأ الذي هو (ما) مختلف فيه: هل هو جملة

ص: 204

الشرط، أو جملة الجواب، أو هو الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين، والجملة الاسمية مستأنفة. {ثُمَّ:} حرف عطف. {إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {مَسَّكُمُ الضُّرُّ:} ماض، ومفعوله وفاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة إذا إليها على المشهور المرجوح. الفاء: واقعة في جواب {إِذا} . إليه: متعلقان بالفعل بعدهما. {تَجْئَرُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية جواب إذا لا محل لها، وإذا ومدخولها كلام معطوف على الجملة الاسمية لا محل له مثلها.

{ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)}

الشرح: {ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ} أي: ما تقدّم من المرض، ونحوه. {إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} أي: طائفة منكم يضيفون كشف الضر إلى العوائد، والأسباب، ولا يضيفونه إلى الله تعالى، فهذا من جملة شركهم، وجحودهم فضل الله عليهم، وهذا بعد دعائهم، وتضرعهم إلى الله، عز وجل. وهذا المعنى مكرر في القرآن، وقد تقدم في (الأنعام) الآية رقم [63] وفي سورة (يونس) الآية رقم [12] وغير ذلك كثير. هذا؛ و (الفريق) الطائفة من الناس، و (الفريق): أكثر من الفرقة، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه، ك:«رهط ومعشر»

إلخ.

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {إِذا:} انظر الآية السابقة. (كشف): ماض، والفاعل يعود إلى (الله). {الضُّرَّ:} مفعول به. {عَنْكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على المشهور المرجوح. {إِذا:} فجائية. وانظر الآية رقم [4].

{فَرِيقٌ:} مبتدأ. {مِنْكُمْ:} متعلقان بمحذوف صفة {فَرِيقٌ} . {بِرَبِّهِمْ:} متعلقان بالفعل بعدهما.

{يُشْرِكُونَ:} مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{فَرِيقٌ..} . إلخ في محل جر بإضافة {إِذا} إليها، وهذا على اعتبار (إذا) الفجائية ظرفا، والجملة الاسمية جواب إذا الشرطية وإذا الفجائية واقعة في جواب {إِذا} الشرطية كما إذا وقعت الفاء في جوابها، و {إِذا} ومدخولها معطوف على مثله في الآية السابقة لا محل له مثله، وفي الآية دليل على أن «إذا» الشرطية لا تكون معمولة لجوابها؛ لأن ما بعد «إذا» الفجائية لا يعمل فيما قبلها. هذا؛ واعتبر أبو البقاء؛ {إِذا} الثانية شرطية، وهو سهو منه. تأمل.

{لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)}

الشرح: {لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ} أي: أشركوا بالله؛ ليجحدوا نعمة الله التي أنعم بها عليهم من كشف الضر، والبلاء. {فَتَمَتَّعُوا:} لفظه أمر، ومعناه: التهديد، والوعيد، والمعنى:

ص: 205

فاسرحوا في هذه الدنيا، وامرحوا إلى انتهاء آجالكم. {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ:} تهديد بعد تهديد، والمراد تغليظ الوعيد، وقرئ الفعل بالياء. هذا؛ وانظر الكفر في الآية رقم [37] من سورة (يوسف) عليه السلام. وانظر «التمتع» في الآية رقم [30] من سورة (إبراهيم) عليه السلام، ولا تنس: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.

الإعراب: {لِيَكْفُرُوا:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل. وقيل: لام العاقبة، وعلامة نصبه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {يُشْرِكُونَ} على اعتبار اللام للتعليل، ومتعلقان بفعل محذوف على اعتبار اللام للعاقبة، التقدير: آل أمرهم للكفر. وقيل: اللام لام الأمر، فالفعل مجزوم، لا منصوب، فتكون الجملة مستأنفة، لا محل لها، {بِما:} متعلقان بما قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: بالذي، أو بشيء آتيناهموه. {فَتَمَتَّعُوا:} الفاء: هي الفصيحة. (تمتعوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: فقل لهم يا محمد: تمتعوا. وهذه الجملة لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط غير جازم، التقدير، وإذا كان هذا حالهم، وعملهم؛ فقل لهم: تمتعوا. هذا؛ ويقرأ الفعل «(فتمتّعوا)» بالبناء للمجهول والماضي، عطفا على {لِيَكْفُرُوا} وهذا على اعتبار اللام للأمر.

{فَسَوْفَ:} الفاء: حرف استئناف. (سوف): حرف استقبال. {تَعْلَمُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله والمفعول محذوف، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.

تنبيه: هذه الآية متفقة في المعنى والإعراب بل وبالحروف أيضا مع الآية رقم [66] من سورة (العنكبوت) ومع الآية رقم [34] من سورة (الروم)، وقد أطلت الكلام على الآيتين المذكورتين، كما ستعرفه إن شاء الله تعالى.

{وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)}

الشرح: {وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمّا رَزَقْناهُمْ:} هذا نوع آخر من جهالة كفار قريش، ومن على شاكلتهم من العرب، وهو أنهم كانوا يجعلون للأصنام التي لا تضر، ولا تنفع قسما كبيرا من زروعهم، وثمارهم، ومواشيهم يتقربون به إليها، والواو في:{لا يَعْلَمُونَ} عائدة على المشركين. وقيل: عائدة للأوثان، وجمع بواو الجماعة، إجراء له مجرى من يعقل. انظر ما ذكرته في الآية رقم [20] وانظر الإعراب يتضح لك المعنى، وهذا الجعل للأصنام بيّنه ربنا أحسن بيان في سورة (الأنعام) الآية رقم [136] وما بعدها.

ص: 206

{تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ:} أقسم الله بنفسه على نفسه: أنه يسألهم يوم القيامة عما كانوا يكذبون في الدنيا من قولهم: إن هذه الحجارة آلهة، وإن لها نصيبا من أموالهم، وفي الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب، انظر الآية رقم [22]، وانظر سؤال الكافرين في الآية رقم [92 و 93] من سورة (الحجر).

الإعراب: {وَيَجْعَلُونَ:} الواو: حرف استئناف. (يجعلون): مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {لِما:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة والمصدرية. {لا:} نافية.

{يَعْلَمُونَ:} مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية صلة (ما) والعائد واو الجماعة، التقدير:

ويجعلون لآلهتهم التي لا علم لها؛ لأنها جماد، أو التقدير: التي لا يعلمونها، فيعتقدون فيها جهالات مثل أنها تنفعهم، وتشفع لهم، فيكون العائد محذوفا، وتكون الواو عائدة على المشركين، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر باللام، ويكون التقدير: يجعلون لعدم علمهم. {نَصِيباً:} مفعول (يجعلون). {مِمّا:} متعلقان بمحذوف صفة {نَصِيباً،} و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب:(من). {لَيَرْزُقَنَّهُمُ:} ماض، وفاعله، ومفعوله الأول، والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: من الذي، أو من شيء رزقناهم إياه، ويجوز اعتبار (ما) مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب:(من)، التقدير: نصيبا كائنا من رزقنا لهم، وجملة:{وَيَجْعَلُونَ..} . إلخ مستأنفة، قال الجمل: لعله عطف على ما سبق بحسب المعنى؛ أي: يفعلون ما يفعلون من الجؤار إلى الله تعالى عند مسّ الضرّ، ومن الإشراك به عند كشفه، ويجعلون

إلخ. {تَاللهِ:} متعلقان بفعل محذوف تقديره: أقسم. {لَتُسْئَلُنَّ:} اللام: واقعة في جواب القسم. (تسألن): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة المدلول عليها بالضمة فاعله، والنون للتوكيد حرف لا محل له، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. هذا؛ وإعراب:

{عَمّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} مثل إعراب: {بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الآية رقم [28] بلا فارق.

{وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57)}

الشرح: {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَناتِ:} المراد: قبيلة خزاعة وكنانة، فإنّهم قالوا: الملائكة بنات الله، وإنما أطلقوا لفظ البنات على الملائكة لاستتارهم عن العيون كالنساء التي تحتجب عن أعين الناظرين، أو لدخول التاء المربوطة التي هي علامة التأنيث على لفظ الملائكة. {سُبْحانَهُ:}

نزه الله نفسه عن الولد، والبنات. وانظر الآية رقم [1] فالبحث فيها جيد. {وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ} أي: ويجعلون لأنفسهم البنين الذكور ويأنفون من البنات، فيخصون أنفسهم بالأفضل، قال

ص: 207

تعالى في سورة (الصافات) موبخا، ومؤنبا لهم:{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ..} . إلخ الآية رقم [149] وما بعدها. وانظر الإسراء رقم [40].

الإعراب: (يجعلون): مضارع مرفوع، والواو فاعله. {لِلّهِ:} متعلقان بما قبلهما.

{الْبَناتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وعليه فالجملة القسمية معترضة بين الجملتين المتعاطفتين. {سُبْحانَهُ:} مفعول مطلق لفعل محذوف، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو من إضافته لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا، والجملة الحاصلة منه، ومن فعله المحذوف معترضة لا محل لها.

{وَلَهُمْ:} الواو: حرف استئناف. (لهم): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: ولهم الذي، أو شيء يشتهونه، والجملة الاسمية هذه مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط:

الواو، والضمير، أو هي معطوفة على الجملة الفعلية قبلها، وعليهما فالجملة التنزيهية معترضة لا محل لها.

هذا ويجوز اعتبار {ما} معطوفة على {الْبَناتِ،} فيكون الجار والمجرور (لهم) متعلقين بالفعل بعدهما، وهما في محل نصب مفعول به على أن (يجعلون) بمعنى: يختارون، وهو وإن أفضى إلى أن يكون ضمير الفاعل والمفعول لشيء واحد، لكنه لا يبعد تجويزه في المعطوف، مع أنه مقرر في القواعد النحوية: أن اتحاد الفاعل والمفعول لا يجوز في غير باب «ظنّ» وأخواتها، وما ألحق بها من فقد، وعدم، سواء تعدّى الفعل إلى ضميره بنفسه، أو بحرف الجر، فلا يجوز: أن زيد ضربه؛ أي: ضرب نفسه، ولا زيد مرّ به؛ أي: مرّ بنفسه، ويجوز زيد ظنه قائما، وزيد فقده، وعدمه؛ أي: ظن نفسه قائما، وفقد نفسه، وعدمها. انتهى. جمل وبيضاوي بتصرف كبير مني، وأجاز ابن هشام في المغني عطف (لهم) على {لِلّهِ،} وقدّر الكلام:

ولأنفسهم ما يشتهون.

{وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)}

الشرح: {وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى:} البشارة: عبارة عن الخبر السار الذي يظهر على بشرة الوجه أثر الفرح به، ولمّا كان ذلك الفرح والسرور يوجبان تغير بشرة الوجه؛ كان كذلك الحزن والغم يظهر أثره على الوجه، وهو الكمودة التي تعلو الوجه عند حصول الغم والحزن، فثبت بهذا: أن البشارة لفظ مشترك بين الخبر السار، والخبر المحزن، فصح قوله تعالى:{وَإِذا}

ص: 208

{بُشِّرَ..} . إلخ ولكن قد تستعمل البشارة بالشر وبما يسوء على سبيل التهكم، والاستهزاء، كما في قوله تعالى:{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} . {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} أي: صار وجهه، ودام النهار كله مسودا من الكآبة، والحياء من الناس، والمقت الذي حصل له من تلك البشارة. {وَهُوَ كَظِيمٌ:}

مملوء غيظا، وحزنا. وانظر زيادة على ذلك في الآية رقم [84] من سورة (يوسف) على نبينا، وعليه أعظم صلاة، وأزكى سلام. وانظر شرح:{أَحَدُهُمْ} في الآية رقم [81] من سورة (هود) عليه السلام. وانظر شرح (ظلوا) في الآية رقم [14] من سورة (الحجر).

الإعراب: (إذا): انظر الآية رقم [53]{بُشِّرَ:} ماض مبني للمجهول. {أَحَدُهُمْ:} نائب فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة. {بِالْأُنْثى:} متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح. {ظَلَّ:} ماض ناقص. {وَجْهُهُ:} اسم {ظَلَّ،} والهاء في محل جر بالإضافة.

{مُسْوَدًّا:} خبر ظل، وجملة:{ظَلَّ..} . إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. وقال الجمل: الجملة حال من الواو في يجعلون، وينقصه أن إذا للاستقبال، والجملة الاسمية:{وَهُوَ كَظِيمٌ} في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا بالإضافة، والرابط: الواو، والضمير.

{يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59)}

الشرح: {يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ:} يستخفي منهم، وذلك: أن العرب كانوا في الجاهلية إذا قربت ولادة زوجة أحدهم؛ توارى من القوم إلى أن يعلم ما ولد له، فإن كان ولدا؛ ابتهج، وسرّ بذلك، وظهر، وإن كانت أنثى؛ حزن، ولم يظهر أياما؛ حتّى يفكر ما يصنع بها.

{مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ:} يختفي من قبح الذي بشر به، وهو ولادة الأنثى. {أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ:} على هوان وذلة، وذكّر الضمير؛ لأنه عائد إلى ما بشر به في قوله تعالى:{وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ} ومعنى إمساكه: إبقاؤه حيا. {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ:} يخفي الذي بشر به في التراب، والدّسّ: إخفاء الشيء في الشيء. {أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ} أي: بئس ما يصنعون ويقضون حيث جعلوا لله ما يكرهون، ويجعلون لأنفسهم ما يحبون، قال تعالى في سورة (النجم) موبخا لهم:

{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى} أي: جائرة، وكاذبة.

تنبيه: قال أهل التفسير: إنّ مضر، وخزاعة، وتميما كانوا يدفنون البنات أحياء، والسبب في ذلك: إما خوف الفقر، وكثرة العيال، ولزوم النفقة، أو الحميّة. فيخافون عليهن من الأسر، ونحوه، أو طمع غير الأكفاء فيهنّ حتى نتج عن ذلك نقص في الإناث في بعض القبائل. ولذا

ص: 209

اضطر الواحد منهم إلى الزواج من قبيلة أخرى بمهر كبير جدا؛ فكان الرجل منهم في الجاهلية؛ إذا ولدت له بنت، وأراد أن يستحييها؛ تركها حتى إذا كبرت ألبسها جبّة من صوف، أو شعر، وجعلها ترعى الإبل والغنم في البادية، وإذا أراد أن يقتلها؛ تركها حتى إذا صارت سداسيّة، قال لأمّها زيّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها، ويكون قد حفر لها حفرة في الصحراء، فإذا بلغ بها تلك الحفرة، قال لها: انظري إلى هذه البئر، فإذا نظرت إليها دفعها من خلفها في تلك البئر، ثم يهيل عليها التراب، وكان صعصعة بن ناجية عم الفرزدق الشاعر؛ إذا أحس بشيء من ذلك؛ وجه إلى والد البنت إبلا يستحييها بذلك، فقال الفرزدق يفتخر بذلك:[المتقارب]

وعمّي الّذي منع الوائدات

وأحيا الوئيد فلم يوأد

وجملة القول: أن العرب جميعا كانوا في الجاهلية يكرهون البنات، ويتبرمون من الأخوات، ويحزنون عند ولادة الأنثى، ويعاملونها معاملة لا ترضي المولى، وخطب إلى عقيل بن علّفة ابنته الجرباء، فقال:[الرجز]

إني وإن سيق إليّ المهر

ألف وعبدان وخور عشر

أحبّ أصهاري إليّ القبر

الخور: جمع: خوارة، وهي الناقة الغزيرة اللّبن. وقال عبد الله بن طاهر:[الطويل]

لكلّ أبي بنت يراعي شئونها

ثلاثة أصهار إذا حمد الصّهر

فبعل يداريها، وخدر يكنّها

وقبر يواريها وخيرهم القبر

فلما جاء الإسلام؛ دفع عن البنت هذا الاستهتار، وحماها من الاضطهاد، ورفع لها الشأن، والعماد، ومنحها من الحقوق والواجبات ما لم تحلم به أنثى في ديانة من الديانات، فحرّم وأدها، وملكها ميراثها، وأعطاها حق الإعراب عن رأيها، وجعلها مسئولة أمام الله عن عملها، تثاب على عمل الخير، وتعاقب على عمل الشر، قال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} الآية رقم [97] الآتية.

بل ذهب الإسلام في رعاية البنت مذهبا فريدا، وسلك في كفالة الأخت مسلكا عظيما؛ حيث جعل لمن أنفق عليهنّ، وقام بتربيتهن، وصبر على رعايتهن حتى يمتن، أو يتزوجن ثواب المجاهدين الصادقين وأجر الصائمين القائمين، فعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه، قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان له ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، أو بنتان، أو أختان، فأحسن صحبتهنّ، واتّقى الله فيهنّ فله الجنة» . رواه الترمذي. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال:

ص: 210

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له أنثى، فلم يئدها، ولم يهنها، ولم يؤثر ولده الذكور عليها أدخله الله الجنّة» . رواه أبو داود.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كنّ له ثلاث بنات، فصبر على لأوائهنّ، وضرّائهنّ، وسرّائهنّ؛ أدخله الله الجنة برحمته إيّاهنّ» . فقال رجل: واثنتان يا رسول الله؟! قال: «واثنتان» . قال رجل: يا رسول الله! وواحدة؟ قال: «وواحدة» . رواه الحاكم، وهذا قليل من كثير، أوصى به النبي الكريم عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم.

خاتمة: لا تزال آثار الجاهلية فاشية في كثير من بيوت المسلمين، فهناك رجال مسلمون يكرهون ذرية البنات، هؤلاء الذين يكرهون ولادة البنت، كما غفلوا كل الغفلة عن الرضا بقضاء الله وقدره، وعن الحكمة الإلهية التي تتجلى في قوله تعالى:{يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً} بلغ بأعداء الأنثى ولو كانت من بناتهم أنهم يؤثرون أخاها بما يملكون، ويحرمونها ممّا يتركون عن طريق تسجيل أملاكهم إلى الذكور خاصة.

ما أتعسه، وما أشد عذابه! كيف لم يجد من الأعمال التي يختم بها حياته إلا أن يظلم ابنته؟! وما ذنبها في أنها خلقت أنثى؟ وما أحقها برحمته وعطفه إن كان ممّن لهم ضمير يؤنب، أو دين يرشد! وما هي إلا خطوة واحدة إلى الدار الآخرة حتى يرى سوء ما عمل من هذا التفريق بين الأولاد، وحتى يرى من صنوف البلاء، وحتى يقول:{يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ} . وخذ ما يلي إن كنت ممّن يعقلون.

عن النعمان بن بشير-رضي الله عنهما: أن أمه عمرة بنت رواحة سألت زوجها بعض الموهبة من ماله لابنها النعمان، فلما أجابها قالت: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما وهبت لابني، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! إن ابنة رواحة أعجبها أن أشهدك على الذي وهبت لابنها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكلّ ولدك نحلت مثله؟ قال: لا، قال: إذا لا أشهد على جور! اتّقوا الله واعدلوا بين أولادكم» .

فلم يكن بشير، ولا زوجته يتوقعان: أن الرسول سينكر عملهما، وظنّ بشير: أنه مالك يتصرف في ماله كيف شاء، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن: أنه لا يجوز له أن يحابي بعض ولده بشيء من ماله؛ لأن ذلك يزرع الضغينة في قلوبهم، ويورث العداوة في أعقابهم. وقد شاهدنا ذلك في واقعنا، وحاضرنا نحن معشر المسلمين.

الإعراب: {يَتَوارى:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {أَحَدُهُمْ} والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المستتر في {كَظِيمٌ،} والرابط: الضمير فقط. {مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ:} كلاهما متعلقان بالفعل قبلهما، وساغ ذلك لاختلاف معنى الحرفين، فإن الأول: للابتداء، والثاني: للعلة. و {سُوءِ} مضاف، و {ما:} اسم

ص: 211

موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة. {بُشِّرَ:} ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى {أَحَدُهُمْ} أيضا. {بِهِ:} متعلقان بالفعل بشر، والجملة الفعلية صلة {ما،} لا محل لها. {أَيُمْسِكُهُ:} الهمزة: حرف استفهام. (يمسكه): مضارع، والفاعل يعود إلى {أَحَدُهُمْ،} والهاء مفعول به. {عَلى هُونٍ:} متعلقان بما قبلهما، وأجيز تعليقهما بمحذوف حال من الضمير، {أَمْ:} حرف عطف. {يَدُسُّهُ:} مضارع، وفاعله مستتر فيه، والهاء مفعول به.

{فِي التُّرابِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملتان {أَيُمْسِكُهُ..} . إلخ في محل نصب مفعول به لمحذوف واقع حالا من فاعل يتوارى، وتقدير الكلام: يتوارى ناظرا، أو متفكرا: أيمسكه على هون

إلخ. انتهى. جمل نقلا عن السمين. هذا؛ وإعراب {أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ} مثل إعراب:

{أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ} في الآية رقم [25] بلا فارق بينهما، والجملة مستأنفة، لا محل لها.

{لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)}

الشرح: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ:} صفة السوء، وهي الحاجة إلى الولد الذكر، وكراهتهم الإناث، ووأدهن؛ خشية الفقر والجوع. {وَلِلّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى} أي: الصفة العليا المقدسة، وهي الوجوب الذاتي، والغنى المطلق، والجود الفائق، والنزاهة عن صفات المخلوقين، وأنّ له جميع صفات الجلال، والكمال من العلم، والقدرة، والبقاء السرمدي، وغير ذلك من الصفات التي وصف الله بها نفسه. {الْعَزِيزُ:} القوي الغالب، الممتنع في كبريائه، وجلاله، وعظمته. {الْحَكِيمُ:} في جميع أفعاله، وتصرفاته.

هذا والسوء بضم السين بمعنى: المكروه والشر والبلاء والضرر، وهي بفتح السين بمعنى:

الفساد والرداءة. وانظر الآية رقم [6] من سورة (إبراهيم) عليه السلام.

تنبيه: لقد أضاف الله عز وجل المثل هنا إلى نفسه، وقد قال في الآية رقم [74] الآتية:

{فَلا تَضْرِبُوا لِلّهِ الْأَمْثالَ..} . إلخ والجواب: أن المنهي عنه ضرب الأمثال التي توجب الأشباه، والنقائص، والمثل الأعلى وصفه بما لا شبيه له، ولا نظير، جلّ، وتعالى عمّا يقول الظالمون، والجاحدون علوا كبيرا. انتهى. قرطبي.

الإعراب: {لِلَّذِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وجملة:{لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} صلة الموصول، لا محل لها. {مَثَلُ:} مبتدأ مؤخر، و {مَثَلُ:} مضاف، و {السَّوْءِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. (لله): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْمَثَلُ:} مبتدأ مؤخر. {الْأَعْلى:} صفة المثل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ:} خبران للمبتدإ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

ص: 212

{وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61)}

الشرح: {وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النّاسَ بِظُلْمِهِمْ} أي: بكفرهم، ومعاصيهم، وافترائهم عليه المفتريات، فيعاجلهم بالعقوبة، والهلاك. {ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ} أي: على الأرض، فالضمير يعود إلى غير مذكور، لكن دل عليه لفظ «الدابة» فإن «الدابة» لا تدب إلا على الأرض، والمعنى المراد من {دَابَّةٍ} كافرة. وقيل: المعنى: أنه لو أهلك الآباء بكفرهم؛ لانقطع النسل، ولم توجد الأبناء، فلم يبق على وجه الأرض أحد. هذا؛ وقد قال الله في آخر سورة (فاطر):{وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ،} وانظر الآية رقم [58] من سورة (الكهف). {وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ} أي: يمهلهم كرما، وفضلا، وحلما. {إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى:} هو وقت انتهاء آجالهم، وانقضاء أعمارهم.

{فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ:} يعني: إذا حل وقت عذابهم، وهلاكهم. {لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ:} يعني: فلا يمهلون، ولا يؤخّرون قدر ساعة، ولا أقل من ساعة، فالسين زائدة بالفعلين كما هو واضح، وإنما ذكرت الساعة؛ لأنها أقل أسماء الأوقات في العرف، وهذا يرد عليهم حين سألوا نزول العذاب، فأخبرهم الله تعالى: أن لهم وقتا، فإذا جاء ذلك الوقت، وهو وقت إهلاكهم؛ فلا يؤخرون عنه، ولا يقدمون. هذا؛ ويمكن أن يراد به أجل الموت لكل إنسان. هذا؛ وكثيرا ما يطلق اسم الساعة على القيامة، وإطلاقها على القيامة؛ لأنها تفجأ الناس بغتة في ساعة، لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى. وقيل: سميت القيامة ساعة لسرعة الحساب فيها؛ لأن حساب الخلائق يوم القيامة يكون في ساعة، أو أقل من ذلك. ولا تنس: أن ساعة كل إنسان، وقيامته، وقت مقدّمات الموت، وما فيه من أهوال؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من مات؛ فقد قامت قيامته» . وينبغي أن تعلم أن قوله تعالى: {فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ..} . إلخ قد ذكر بحروفه في الأعراف رقم [34]، وذكر بحروفه في سورة (يونس) على نبينا وعليه ألف صلاة، وألف سلام برقم [49]، ولم يقترن جواب (إذا) بالفاء في الأعراف وفي هذه السورة؛ لتقدم الفاء عليها، واقترن جوابها بالفاء في سورة (يونس) لعدم تقدم الفاء عليها. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

تنبيه: في الآية الكريمة بيان: أن الله لو عاجل المذنبين بالعقاب؛ لأهلكهم، وأهلك الناس جميعا معهم، قال عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-وقرأ هذه الآية: لو آخذ الله الخلائق بذنوب المذنبين؛ لأصاب العذاب جميع الخلائق حتى الجعلان في جحرها، ولأمسك الأمطار من السماء، والنبات من الأرض، فمات الدواب، ولكن الله يأخذ بالعفو، والفضل، كما قال:

{وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} الآية رقم [30] من سورة (الشورى)، فإن قيل: كيف يعم بالهلاك مع

ص: 213

أن فيهم مؤمنا ليس بظالم؟! قيل: يجعل هلاك الظالم انتقاما، وجزاء، وهلاك المؤمن معوّضا بثواب الآخرة. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا أراد الله بقوم عذابا؛ أصاب العذاب من كان فيهم، ثمّ بعثوا على نيّاتهم» . انتهى. قرطبي. ولا تنس: ما قالت زينب-رضي الله عنها-يا رسول الله! أنهلك وفينا الصّالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث» . وانظر ما ذكرته في الآية رقم [16] من سورة (الرعد)، والآية رقم [16] من سورة (الإسراء).

الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف، (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.

{يُؤاخِذُ:} مضارع. {اللهُ:} فاعله. {النّاسَ:} مفعوله. {بِظُلْمِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله، وجملة:{يُؤاخِذُ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {ما:} نافية. {تَرَكَ:} ماض، وفاعله يعود إلى الله، {عَلَيْها:} متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال من {دَابَّةٍ..} . إلخ.

{مِنْ:} حرف جر صلة. {دَابَّةٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وجملة:{ما تَرَكَ..} . إلخ جواب لو، لا محل لها، ولو ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف. (لكن):

حرف استدراك مهمل لا عمل له. {يُؤَخِّرُهُمْ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} والهاء مفعول به. {إِلى أَجَلٍ:} متعلقان بما قبلهما. {مُسَمًّى:} صفة {أَجَلٍ} مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها، وإعلاله مثل إعلال (هدى) في الآية رقم [111] من سورة (يوسف) عليه السلام، وجملة:{وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ..} . إلخ معطوفة على جواب لو، لا محل لها مثله. {فَإِذا:} الفاء: حرف تفريع واستئناف. (إذا): انظر الآية رقم [53]. {جاءَ:} ماض. {أَجَلُهُمْ:} فاعل والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها. {لا:} نافية. {يَسْتَأْخِرُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {ساعَةً:} ظرف زمان متعلق بما قبله، والجملة الفعلية جواب (إذا) لا محل لها. {وَلا يَسْتَقْدِمُونَ:} إعرابه مثل إعراب سابقه، ومتعلقه محذوف لدلالة الأول عليه، والجملة الفعلية معطوفة على سابقتها لا محل لها مثلها، و (إذا) ومدخولها كلام مفرع عمّا قبله لا محل له؛ لأنه مستأنف.

{وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)}

الشرح: {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ ما يَكْرَهُونَ} أي: يجعل مشركو العرب لله ما يكرهون لأنفسهم من البنات، وأراذل الأموال، ويجعلون لأنفسهم ما يحبون من البنين، وكرائم الأموال. {وَتَصِفُ}

ص: 214

أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى أي: ويدعون كذبا، وافتراء: أن لهم الجزاء الحسن، والعاقبة المحمودة عند الله تعالى، كقول بعضهم:{وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى} وهذا على فرض وجود البعث في زعمه. هذا؛ وقرئ «(الكذب)» بضم الكاف والذال والباء جمع: كذوب، مثل: رسول ورسل، وصبور وصبر، وشكور وشكر، وانظر رقم [116] {لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النّارَ:} رد لما يدعونه، وإثبات لضده، وعكسه. {وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ:} مقدّمون إلى النار، والفارط: هو الذي يتقدم إلى الماء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«وأنا فرطكم على الحوض» . وقال القطامي: [البسيط]

فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا

كما تعجّل فرّاط لورّاد

والفرّاط: المتقدمون في طلب الماء، والورّاد المتأخرون. هذا؛ ويقرأ:«(مفرطون)» بكسر الراء وتخفيفها، ومعناه مسرفون في الذنوب والمعاصي، كما قرئ بتشديد الراء مفتوحة من فرطته في طلب الماء، وبتشديدها مكسورة؛ أي: مضيعون أمر الله، فيكون للمبالغة، وانظر الآية رقم [45] من سورة (طه) ففيها مزيد فائدة. وانظر شرح «اللسان» في الآية رقم [4] من سورة (إبراهيم) عليه السلام.

الإعراب: {وَيَجْعَلُونَ:} الواو: حرف استئناف. (يجعلون): مضارع مرفوع.. إلخ، والواو فاعله. {لِلّهِ:} متعلقان بما قبلهما. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: الذي، أو شيئا يكرهونه، والجملة الفعلية:{وَيَجْعَلُونَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وعطفها على ما قبلها غير مستبعد. (تصف): مضارع. {أَلْسِنَتُهُمُ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة. {الْكَذِبَ:} مفعول به، والمصدر المؤول من (أنّ) واسمها وخبرها في محل نصب بدل من {الْكَذِبَ} بدل كل من كل، أو في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير:

بأن

إلخ والمعتمد الأول. هذا؛ وعلى القراءة الثانية ف: {الْكَذِبَ} صفة لما قبله، ويكون المصدر المؤول في محل نصب مفعول به، وجملة:{وَتَصِفُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها.

{لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النّارَ} انظر الآية رقم [23] ففيها الكفاية. (أنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {مُفْرَطُونَ:} خبر (أنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر معطوف على المصدر المؤول قبله على جميع الاعتبارات فيه.

{تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63)}

الشرح: {تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا..} . إلخ: المعنى: كما أرسلناك إلى هذه الأمة؛ لقد أرسلنا رسلا إلى أمم من قبلك، فكان شأنهم مع رسلهم التكذيب. ففيه تعزية، وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. {فَزَيَّنَ لَهُمُ}

ص: 215

الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ أي: الخبيثة من الكفر والتكذيب، وتحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله.

والمزين في الحقيقة هو الله تعالى، هذا مذهب أهل السنّة، وإنما جعل الشيطان آلة بإلقاء الوسوسة في قلوبهم، وليس له قدرة أن يضل، أو يهدي أحدا، وإنما له الوسوسة فقط، فمن أراد الله شقاوته؛ سلطه عليه حتى يقبل وسوسته. {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ:} ناصرهم في الدنيا، وعبر باليوم عن زمانها، أو فهو وليهم حين كان يزين لهم، أو يوم القيامة على أنه حكاية حال ماضية، أو آتية. هذا؛ والولي: القرين، والصاحب، وهو أيضا الذي يتولى شئون غيره. والنصير المعين، والمساعد، والفرق بينهما أن الولي قد يضعف عن النصرة والمعاونة، والنصير قد يكون أجنبيا عن المنصور، فبينهما عموم، وخصوص من وجه. {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} أي: في الآخرة.

قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ} الآية رقم [4] من سورة (النمل): فإن قلت: كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته، وقد أسنده إلى الشيطان في قوله:{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ} قلت: بين الإسنادين فرق، وذلك أن إسناده إلى الشيطان حقيقة، وإسناده إلى الله عز وجل مجاز، وله طريقان في علم البيان: أحدهما أنه من المجاز الذي يسمى استعارة. والثاني: أن يكون من المجاز الحكمي، فالطريق الأول:

أنه لما متعهم بطول العمر، وسعة الرزق، وجعلوا إنعام الله بذلك عليهم، وإحسانه إليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم، وبطرهم، وإيثارهم الراحة والترفّه، ونفارهم عمّا يلزمهم فيه من التكاليف الصعبة، والمشاق المتعبة؛ فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم، وإليه أشارت الملائكة-صلوات الله وسلامه عليهم-في قولهم:{وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتّى نَسُوا الذِّكْرَ} .

والطريق الثاني: أن إمهاله الشيطان، وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين، فأسند إليه؛ لأن المجاز الحكمي يصححه بعض الملابسات. وقيل: هي أعمال الخير التي وجب عليهم أن يعملوها، زينها لهم فعمهوا عنها وضلّوا. ويعزى إلى الحسن. انتهى. كشاف. وهذا مبني على مذهبه في الاعتزال، وأن العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية.

الإعراب: {تَاللهِ:} متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. {لَقَدْ:} اللام: واقعة في جواب القسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَرْسَلْنا:} ماض، وفاعله، {إِلى أُمَمٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ قَبْلِكَ:} متعلقان بمحذوف صفة أمم، والكاف في محل جر بالإضافة، والمفعول محذوف، تقديره: رسلا، والجملة:{لَقَدْ أَرْسَلْنا..} . إلخ جواب القسم، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. {فَزَيَّنَ:} الفاء: حرف عطف. (زين):

ماض. {لَهُمُ:} متعلقان بما قبلهما. {الشَّيْطانُ:} فاعله. {أَعْمالَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{فَزَيَّنَ..} . إلخ معطوفة على جواب القسم لا محل لها مثلها.

{فَهُوَ:} الفاء: حرف عطف. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ.

ص: 216

{وَلِيُّهُمُ:} خبره، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {الْيَوْمَ:} ظرف زمان متعلق ب: (ولي)، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية قبلها، لا محل لها مثلها. (لهم): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر.

{أَلِيمٌ:} صفة عذاب، والجملة الاسمية معطوفة أيضا، لا محل لها.

{وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)}

الشرح: {وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ} أي: القرآن. {إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} أي: في أمر الدين، والأحكام، فتبين الهدى من الضلال، والحق من الباطل، والحلال من الحرام، وأحوال المعاد، وأحكام الأفعال. {وَهُدىً وَرَحْمَةً} أي: رشد وبيان، وهداية من الضلالة، ونعمة شاملة لمن قرأ القرآن، وانتفع به. وانظر إعلال:(هدى) في الآية رقم [111] من سورة (يوسف) عليه السلام. {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ:} خصهم بالذكر؛ لأنهم هم المنتفعون بالقرآن، والعاملون بتعاليمه، والمهتدون بهديه. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [44]، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {أَنْزَلْنا:} ماض، و (نا) فاعله، {عَلَيْكَ:} متعلقان بما قبلهما. {الْكِتابَ:} مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.

{إِلاّ:} حرف حصر. {لِتُبَيِّنَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، ويقال: متعلقان بمحذوف حال مستثنى من عموم الأحوال؛ أي:

ما أنزلنا عليك الكتاب في حال من الأحوال إلا في حال التبيين. {لَهُمُ:} متعلقان بالفعل قبلهما.

{الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به، وجملة:{اِخْتَلَفُوا فِيهِ} صلة الموصول، لا محل لها. {وَهُدىً وَرَحْمَةً:} مفعولان لأجله، وهما في المعنى معطوفان على محل {لِتُبَيِّنَ} أي: للتبيين، وللهدى، وللرحمة. {لِقَوْمٍ:} متعلقان بما قبلهما على التنازع، أو بمحذوف صفة لأحدهما، وجملة:{يُؤْمِنُونَ} مع المتعلق المحذوف في محل جر صفة (قوم).

{وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)}

الشرح: {وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً:} انظر الآية رقم [10]{فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ} أي: بالنبات والزروع بسبب هطول المطر عليها. {بَعْدَ مَوْتِها:} بعد يبسها وجدبها. {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً:} دلالة واضحة على قدرة الله، ودلالة أيضا على بعث الناس من قبورهم بعد فنائهم. {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}

ص: 217

أي: سماع إنصاف، وتدبر، وتفكر؛ لأن سماع القلوب هو النافع لاسماع الآذان، فمن سمع آيات القرآن بقلبه، وتدبرها، وتفكر فيها؛ انتفع، ومن لم يسمع بقلبه؛ لم ينتفع بالآيات {فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} .

هذا و «يسمعون» من الأفعال الصوتية، إن تعلق بالأصوات، تعدى إلى مفعول واحد، وإن تعلق بالذوات تعدى إلى اثنين، والثاني منهما: جملة فعلية، مصدرة بمضارع من الأفعال الصوتية مثل قولك: سمعت فلانا يقول كذا، وهذا اختيار الفارسي، واختار ابن مالك، ومن تبعه أن تكون الجملة الفعلية في محل نصب حال؛ إن كان المتقدم معرفة، وصفة؛ إن كان نكرة، مثل قولك: سمعت رجلا يقول كذا. وانظر شرح: {لِقَوْمٍ} في الآية رقم [31].

الإعراب: {وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. (الله): مبتدأ. {أَنْزَلَ:} ماض، وفاعله يعود إلى (الله)، وهو العائد. {مِنَ السَّماءِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {السَّماءِ،} كان صفة له، فلما قدم عليه؛ صار حالا. {السَّماءِ:} مفعول به، وجملة:{أَنْزَلَ..} .

إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَاللهُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

(أحيا): ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (الله). {بِهِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما. {الْأَرْضَ:} مفعول به. {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، أو بمحذوف حال من {الْأَرْضَ} و {بَعْدَ:} مضاف، و {مَوْتِها:} مضاف إليه، و (ها) في محل جر بالإضافة، وجملة:{فَأَحْيا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {إِنَّ:}

حرف مشبه بالفعل. {فِي ذلِكَ:} متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ} مقدم، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لَآيَةً:} اللام: لام الابتداء. (آية): اسم {إِنَّ} مؤخر. {لِقَوْمٍ:}

متعلقان بمحذوف صفة (آية)، وجملة:{يَسْمَعُونَ} في محل جر صفة (قوم)، والجملة الاسمية:

{إِنَّ فِي..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشّارِبِينَ (66)}

الشرح: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً} أي: في خلق الأنعام، والتفكر فيها لدلالة على قدرة الله تعالى. وانظر شرح {الْأَنْعامِ} في الآية رقم [5]. {نُسْقِيكُمْ مِمّا فِي بُطُونِهِ:} الضمير يعود إلى (الأنعام) وإنما ذكّره، ووحّده هنا مراعاة للفظه، وأنثه في الآية رقم [5] وفي سورة (المؤمنون) الآية رقم [21] للمعنى، فإن الأنعام اسم جمع؛ ولذلك عده سيبويه في المفردات المبنية على «أفعال» كأخلاق، وكقولهم: ثوب أكياش. ومن قال: إنه جمع «نعم» جعل الضمير للبعض، فإن اللبن لبعضها، دون جميعها، أو لواحده، أو له على المعنى، فإن المراد به الجنس. هذا؛ ويقرأ

ص: 218

الفعل بضم النون وفتحها، فالأول: من الرباعي، والثاني: من الثلاثي، وقرئ شاذّا بالتاء، والياء. وانظر شرح:(يسقي) في الآية رقم [41] من سورة (يوسف) على نبينا، وعليه ألف ألف صلاة، وألف ألف سلام. وانظر شرح دم في الآية رقم [18] منها.

{مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً:} فإنه يخلق من بعض أجزاء الدم المتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث، وهي الأشياء المأكولة، المنهضمة بعض الانهضام في الكرش، فعن ابن عباس-رضي الله عنهما: إن البهيمة إذا اعتلفت، وانطبخ العلف في كرشها؛ كان أسفله فرثا، وأوسطه لبنا، وأعلاه دما، والكبد مسلط على هذه الأصناف، فتقسم الدم، وتميزه، وتجريه في العروق، وتجري اللبن في الضرع، ويبقى الفرث كما هو في الكرش:{حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ} .

ولعله إن صح؛ فالمراد: أن أوسطه يكوّن مادة اللبن، وأعلاه مادة الدم الذي يغذي البدن؛ لأنهما لا يتكونان في الكرش، بل الكبد يجذب صفاوة الطعام المنهضم في الكرش، ويبقى ثفله، وهو الفرث، ثم يمسكها ريثما يهضمها هضما ثانيا، فيحدث أخلاط أربعة: معها مائية، فتميز القوة المميزة تلك المائية بما زاد على قدر الحاجة من المرتين، وتدفعها إلى الكلية، والمرارة، والطحال، ثم يوزع الباقي على الأعضاء بحسبها، فيجري إلى كلّ حقّه على ما يليق به بتقدير العليم الحكيم، ثم إن كان الحيوان أنثى؛ زاد أخلاطها على قدر غذائها، لاستيلاء البرودة، والرطوبة على مزاجها، فيندفع الزائد أولا إلى الرحم لأجل الجنين، فإذا انفصل؛ انصب ذلك الزائد، أو بعضه إلى الضروع، فيبيض بمجاورة لحومها الغددية البيض، فيصير لبنا.

ومن تدبّر صنع الله تعالى، في إحداث الأخلاط، والألبان، وإعداد مقارّها ومجاريها، والأسباب المولدة لها، والقوى المتصرفة فيها كلّ وقت على ما يليق به؛ اضطر إلى الإقرار بكمال حكمته، وتناهي رحمته. انتهى. بيضاوي.

{خالِصاً} أي: من حمرة الدم، وقذارة الفرث، وقد جمعهما وعاء واحد، أو هو مصفى عما يصحبه من الأجزاء الكثيفة بتضييق مخرجه. وقيل: معناه خالصا بياضه. {سائِغاً لِلشّارِبِينَ:} سهل المرور في حلوق شاربيه، ولذيذا هينا، لا يغص به من شربه. وقيل: إنه لم يشرق أحد باللبن.

الإعراب: {وَإِنَّ:} الواو: حرف استئناف. (إن): حرف مشبه بالفعل. {لَكُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فِي الْأَنْعامِ:} متعلقان بمحذوف خبر ثان، أو بالخبر المحذوف، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر فيه. {لَعِبْرَةً:} اللام: لام الابتداء. (عبرة): اسم (إنّ) مؤخر، والجملة الاسمية:{وَإِنَّ لَكُمْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {نُسْقِيكُمْ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والكاف مفعول به أول. {مِمّا:} متعلقان بالفعل قبلهما. {فِي بُطُونِهِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنْ بَيْنِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من

ص: 219

{لَبَناً،} كان صفة له، فلما قدم عليه؛ صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» و {بَيْنِ:} مضاف، و {فَرْثٍ:} مضاف إليه. (دم): معطوف على ما قبله. {لَبَناً:} مفعول به ثان. {خالِصاً:} صفة له. {سائِغاً:} صفة ثانية. {لِلشّارِبِينَ:} متعلقان ب: {سائِغاً} مجرور، وعلامة جره الياء

إلخ، والجملة الفعلية:{نُسْقِيكُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من كاف الخطاب المجرورة محلا باللام، أو من {الْأَنْعامِ} والرابط: الضمير فقط على الاعتبارين، أو هي مستأنفة، لا محل لها. وقيل: مفسرة ل: (عبرة).

{وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)}

الشرح: {وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ} أي: ولكم أيضا عبرة فيما نسقيكم ونرزقكم من ثمرات النخيل، والأعناب. {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} أي: تتخذون من ثمرات النخيل والأعناب خمرا يسكر، ورزقا حسنا: أي: كالتمر، والزبيب، والخل، والدبس. {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي: يستعملون عقولهم، ويتأملون فيما خلق الله في هذا الكون الفسيح الأرجاء. وانظر شرح:{لِقَوْمٍ} في الآية رقم [13].

تنبيه: لقد كثر الكلام في هذه الآية، واضطربت كلمة العلماء فيها اضطرابا كثيرا، وأرجح أنّ الآية نزلت في معرض الامتنان، وهي منسوخة بما نزل بعدها من آيات بشأن الخمر، والسبب في ذلك أنها مكية بلا خلاف، وما نزل بعدها بشأن الخمر كله مدني، انظر ما ذكرته في الآية رقم [219] من سورة (البقرة)، تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَمِنْ ثَمَراتِ:} في تعليق الجار والمجرور أربعة أوجه: أحدها: أنهما متعلقان بمحذوف، تقديره: ونسقيكم من ثمرات النخيل، والأعناب؛ أي: من عصيرها، وحذف لدلالة ما قبله عليه، الثاني: كونهما متعلقين بالفعل بعدهما، ومنه تكرير للظرف، وتوكيد له، وقد اختلف في مرجع الضمير في {مِنْهُ} على أقوال كثيرة. الثالث: أنهما معطوفان على قوله:

{فِي الْأَنْعامِ} الرابع: أنهما متعلقان بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: ومن ثمرات النخيل، والأعناب ثمر. انتهى. جمل باختصار كبير. هذا؛ وعلقهما أبو البقاء بفعل محذوف، تقديره: وخلق لكم، أو وجعل، و {ثَمَراتِ:} مضاف، و {النَّخِيلِ:} مضاف إليه. {وَالْأَعْنابِ:}

معطوف على ما قبله. {تَتَّخِذُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {مِنْهُ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان ب:{سَكَراً} بعدهما؛ لأنه مصدر. {سَكَراً:} مفعول به.

{وَرِزْقاً:} معطوف على سكرا. {حَسَناً:} صفة له، وجملة:{تَتَّخِذُونَ..} . إلخ مستأنفة على

ص: 220

اعتبار الجار والمجرور متعلقين بفعل محذوف، أو على تعليقهما بالفعل نفسه، وصفة للمبتدإ المقدر على وجه رأيته، وصفة لمفعول محذوف على قول أبي البقاء. {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} انظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية رقم [65].

{وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمّا يَعْرِشُونَ (68)}

الشرح: لمّا ذكر الله جلت قدرته عجائب صنعته الدالة على وحدانيته، من: إخراجه اللبن، من بين فرث ودم، وإخراج السكر، والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب؛ ذكر في هذه الآية، ولاحقتها إخراج العسل الذي جعله شفاء للناس من دابة ضعيفة، هي النحلة. والخطاب في هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو يعم كل فرد من الناس، ممن له عقل يستدل به على كمال قدرة الله، ووحدانيته. وأصل الوحي: الإشارة السريعة، والوحي: الكتاب المنزل على الرسول المرسل لقومه مثل: موسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين، والوحي أيضا: الكتابة، والرسالة، والإلهام، والكلام الخفي، وكل ما ألقيته إلى غيرك، وتسخير الطير لما خلق له إلهام، والوحي إلى النحل، وتسخيرها لما خلقها الله له إلهام أيضا؛ حيث تبني بيوتها على شكل هندسيّ يعجز عنه العقل البشري، ولها تنظيم في حياتها يدهش الألباب، ومن اقتنى النحل، ولاحظ تصرفاته؛ أدرك: أن ذلك من تدبير العليم الحكيم، ولما امتاز هذا الحيوان الضعيف بهذه الخواص العجيبة، الدالة على مزيد الذكاء والفطنة، دلّ ذلك على الإلهام الإلهي، فكان ذلك شبيها بالوحي، فلذا قال جل ذكره:{وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ..} . إلخ. انتهى. خازن بتصرف كبير.

قال الزجاج: يجوز أن يقال: سمي هذا الحيوان نحلا؛ لأن الله تعالى نحل الناس العسل الذي يخرج من بطونها، بمعنى: أعطاهم إياه. وقال غيره: النحل يذكر، ويؤنث، وهي مؤنثة في لغة أهل الحجاز، وكذا أنثها الله تعالى، وكذا يؤنث كل جمع جنس ليس بينه وبين واحده إلا الهاء، مثل تمر وتمرة، ونعم ونعمة {أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ..}. إلخ: وذلك أن النحل منه وحشي، وهو الذي يسكن الجبال والشجر، ويأوي إلى الكهوف، ومنه أهلي، وهو الذي يأوي إلى البيوت، ويربيه الناس عندهم، وقد جرت العادة أن الناس يبنون للنحل الأماكن التي تأوي إليها، ولا سيما في هذا العصر حيث يربى النحل تربية فنية، وذلك للمنافع التي تستفاد منه، بعد هذا يقرأ {النَّحْلِ} بسكون الحاء، وفتحها، ويقرأ {يَعْرِشُونَ} بكسر الراء وضمها.

ولا تنس: أنه قد ورد النهي عن قتل النحل، فعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: «الهدهد، والصّرد، والنّملة، والنّحلة» . أخرجه أبو داود، وهذا إذا لم يكن واحد منهن مؤذيا، وإلا فقتل المؤذي حلال، كما سأذكره في سورة (النّمل) إن شاء الله تعالى.

ص: 221

الإعراب: {وَأَوْحى:} الواو: حرف استئناف، أو هي حرف عطف. (أوحى): ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {رَبُّكَ:} فاعل، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {إِلَى النَّحْلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {أَنِ:} حرف تفسير. {اِتَّخِذِي:} أمر مبني على حذف النون، والياء فاعله. وانظر إعراب:(امضوا) في الآية رقم [65] من سورة (الحجر). {مِنَ الْجِبالِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من بيوتا كان صفة له

إلخ، انظر الآية رقم [66] {بُيُوتاً:} مفعول به، وجملة:

{اِتَّخِذِي..} . إلخ مفسرة لا محل لها. هذا؛ وبعضهم يعتبر {أَنِ} مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بأن، والجار والمجرور متعلقان بالفعل، أوحى، وهذه الجملة مستأنفة، لا محل لها. {وَمِنَ الشَّجَرِ:} معطوفان على ما قبلهما، وحذف مثل {بُيُوتاً،} اكتفاء به. (مما): معطوفان أيضا على ما قبلهما. و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب:(من)، والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: من الذي، أو من شيء يعرشونه.

{ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)}

الشرح: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ:} من كل ثمرة تشتهيها، والمراد: زهور الأشجار على اختلاف أنواعها. {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ} أي: الطرق التي ألهمك الله أن تسلكيها، وتدخلي فيها لأجل طلب الأشجار والنباتات التي تأكلين منها. {ذُلُلاً:} جمع ذلول، وهو المنقاد الخاضع لما يراد منه، والمراد: السبل، بمعنى: أنها مسهلة لك، لا يتوعر عليك مكان تسلكينه، أو المراد: هي مذللة؛ أي: مسخرة مطيعة لمن يملكها، لا تستعصي عليه.

{يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ:} المراد به: العسل ما بين أبيض، وأحمر، وأصفر، وغير ذلك على حسب ما تأكل من النباتات، والأزهار، والورود وهو يختلف حسب فصول السنة. وقيل: يختلف باختلاف سنها، ثم يستحيل في بطونها عسلا بقدرة الله تعالى، ثم يخرج من أفواهها يسيل كاللعاب. {فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ:} إما بنفسه كما في الأمراض البلغمية، أو مع غيره كما في سائر الأمراض؛ إذ قلما يكون دواء معجون، إلا والعسل داخل فيه، قال ابن مسعود-رضي الله عنه: العسل شفاء من كلّ داء، والقرآن شفاء لما في الصدور. وفي رواية عنه: عليكم بالشفاءين: القرآن، والعسل. وروى نافع أن ابن عمر-رضي الله عنهما، ما كانت تخرج به قرحة، ولا شيء إلا لطخ الموضع بالعسل، ويقرأ:{يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ} .

ص: 222

فعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فقال: إنّ أخي استطلق بطنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اسقه عسلا» . فسقاه، ثمّ جاءه، فقال: إني سقيته عسلا، فلم يزده إلاّ استطلاقا، فقال له ثلاث مرات، ثمّ جاء الرابعة، فقال:«اسقه عسلا» . فقال: لقد سقيته، فلم يزده إلاّ استطلاقا! فقال عليه الصلاة والسلام:«صدق الله، وكذب بطن أخيك» .

فسقاه فبرأ. متفق عليه.

هذا؛ وقال مجاهد: المراد: القرآن؛ لأنه شفاء من أمراض الشرك، والجهالة، والضلالة، وهو هدى للناس، ورحمة. والقول الأول أصح لأن الضمير يجب أن يعود إلى أقرب مذكور، وهو {شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ} هذا؛ ومن بدع الروافض أن المراد بالنحل عليّ وبنوه-رضي الله عنهم أجمعين-، وعن بعضهم أن رجلا قال عند المهدي: إنما النحل بنو هاشم يخرج من بطونهم العلم، فقال بعض من حضر: جعل الله طعامك مما يخرج من بطونهم، فضحك المهدي، وحدّث به المنصور، فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهم. انتهى. نسفي.

{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: فيعتبرون، فإنّ من تدبر اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة، والأفعال العجيبة حق التدبر؛ علم قطعا: أنه لا بد من قادر حكيم يلهمها ذلك، ويحملها عليه، وهي تأكل الحامض، والمر، والحلو، والمالح، والحشائش الضارة، فيجعله الله عسلا حلوا، وشفاء، وفي هذا أكبر دليل على كمال قدرة الله تعالى. وأخيرا انظر {يَتَفَكَّرُونَ} في الآية رقم [3] من سورة (الرعد).

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {كُلِي:} أمر مبني على حذف النون، وياء المخاطبة فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {مِنْ كُلِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به؛ لأن {مِنْ} للتبعيض، و {كُلِّ:} مضاف، و {الثَّمَراتِ:} مضاف إليه. {فَاسْلُكِي:}

الفاء: حرف عطف. (اسلكي): مثل سابقه في إعرابه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

{سُبُلَ:} مفعول به، و {سُبُلَ:} مضاف، و {رَبِّكِ:} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {ذُلُلاً:} حال من ياء المخاطبة، أو من سبل، انظر الشرح. {يَخْرُجُ:} مضارع. {مِنْ بُطُونِها:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (ها): في محل جر بالإضافة، {شَرابٌ:} فاعل {يَخْرُجُ} . {مُخْتَلِفٌ:} صفة له. {أَلْوانُهُ:} فاعل ب: {مُخْتَلِفٌ} والهاء في محل جرّ بالإضافة. وجملة: {يَخْرُجُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{فِيهِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {شِفاءٌ:} مبتدأ مؤخر. {لِلنّاسِ:} متعلقان ب: {شِفاءٌ؛} لأنه مصدر، أو هما متعلقان بمحذوف صفة له، والجملة الاسمية في محل رفع صفة ثانية ل:

{شَرابٌ،} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم. هذا؛ وإعراب: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} مثل إعراب: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} في الآية رقم [65]. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

ص: 223

{وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)}

الشرح: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ} أي: أوجدكم من العدم، وأخرجكم إلى الوجود، ولم تكونوا شيئا.

{ثُمَّ يَتَوَفّاكُمْ} أي: يميتكم بقبض أرواحكم بآجال مختلفة، صبيانا، أو شبانا، أو كهولا، كما هو مشاهد لكل إنسان. {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أي: أخسّه، وأردئه، وهو سن الهرم، والشيخوخة الذي يشابه الطفولية في نقصان العقل، وضعف الحواس. {لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً:}

فيصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولية في النسيان، وسوء الفهم، وضعف الحواس، والعجز.

فعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهمّ إنّي أعوذ بك من العجز، والكسل، والجبن، والهرم، والبخل. وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات» . متفق عليه، وفي حديث سعد بن أبي وقاص-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم:«وأعوذ بك أن أردّ إلى أرذل العمر» . الحديث أخرجه البخاري.

هذا-وقد قال ابن عباس-رضي الله عنهما-ليس هذا في المسلمين؛ لأن المسلم لا يزداد في طول العمر والبقاء إلا كرامة عند الله، وعقلا، ومعرفة. وقال عكرمة-رضي الله عنه: من قرأ القرآن؛ لم يردّ إلى أرذل العمر حتى لا يعلم بعد علم شيئا. وقال ابن عباس في قوله تعالى:

{ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ} يريد الكافر، ثم استثنى المؤمنين، فقال تعالى:{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ} سورة (التين). هذا؛ وانظر نص الآية رقم [5] من سورة (الحج).

أقول: فمن المشاهد أن هناك أناسا ردّوا إلى أرذل العمر، وقد حفظ الله عليهم عقولهم وقواهم وحواسهم وتصرفاتهم، وهم في الأغلب من أهل التقى والإيمان الذين حاسبوا أنفسهم على ما يعملون، وراقبوا ربهم في كل ما يصنعون، فلم تشغلهم الفانية عن الباقية، بل امتثلوا، أوامر الله في كل ما أمر، وفي كل ما زجر عنه، وتتبعوا خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم، فاهتدوا بهديه، وساروا على نهجه، واقتدوا بأعماله، وتخلقوا بأخلاقه:{لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً} .

الإعراب: {وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. (الله): مبتدأ. {خَلَقَكُمْ:} ماض، وفاعله يعود إلى (الله)، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {ثُمَّ:} حرف عطف. {يَتَوَفّاكُمْ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (الله)، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {وَمِنْكُمْ مَنْ:} انظر إعراب {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ} في الآية رقم [36] ففيه الكفاية لذوي الدراية. {يُرَدُّ:} مضارع مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود

ص: 224

إلى {مَنْ} . {إِلى أَرْذَلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {أَرْذَلِ:} مضاف، و {الْعُمُرِ:} مضاف إليه.

{لِكَيْ لا:} اللام: حرف تعليل وجر. (كي): حرف ناصب. {لا:} نافية. {يَعْلَمَ:} مضارع منصوب ب: (كي)، والفاعل يعود إلى {مَنْ}. {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، و {بَعْدَ:}

مضاف، و {عِلْمٍ:} مضاف إليه. {شَيْئاً:} مفعول به، واكتفى {يَعْلَمَ} بمفعول واحد؛ لأنه بمعنى: يعرف وقيل: تنازعه الفعل، والمصدر، ولا أرى له وجها قويا، انظر الآية رقم [42] من سورة (الرعد)، و (كي) والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {يُرَدُّ،} التقدير: يرد إلى أرذل العمر لعدم علمه بعد علم شيئا، وجملة:{يُرَدُّ..} .

إلخ صلة {مَنْ،} أو صفتها، والجملة الاسمية:{وَمِنْكُمْ..} . إلخ معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، لا محل لها مثلها. وعند التأمل يظهر لك: أن العطف على جملة محذوفة، مفرعة عما قبلها؛ إذ التقدير: فمنكم من يبقى محتفظا بقوة جسمه وعقله، ومنكم من

{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:} اسمها. {عَلِيمٌ قَدِيرٌ:} خبران لها. والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها.

{وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (71)}

الشرح: {وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} أي: جعل بعضكم أغنياء، وبعضكم فقراء، وهذا التفضيل ليس مقصورا على المال والرزق، بل يكون أيضا من الخلق، والخلق، والعقل، والصحة، والسقم، والحسن، والقبح، والعلم، والجهل، وغير ذلك، فهم متفاوتون في ذلك كله، وهذا مما اقتضته الحكمة الإلهية، والقدرة، فعن ابن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم

إلخ» الحديث. {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} أي: من العبيد حتى يستووا فيه، هم وعبيدهم، والمعنى: هم لا يرضون أن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقهم سواء، وقد جعلوا مخلوقات الله من حجارة وأخشاب شركاء لله في ملكه وسلطانه، والمراد ما عبدوه من دون الله. {فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ} أي: هم متساوون في أن الله يرزق الجميع من بحر كرمه وجوده وإحسانه، وأنّ المالك لا يرزق المملوك، بل الرازق للمالك والمملوك هو الله تعالى.

{أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ} أي: ينكرون فضل الله وإحسانه، فيه إنكار على المشركين حيث جحدوا نعمته وعبدوا غيره، أو هم يجحدون البراهين الساطعة، والحجج الدامغة بعد ما أنعم الله عليهم ببيانها، وإيضاحها على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الإعراب: (الله): مبتدأ. {فَضَّلَ:} ماض، وفاعله يعود إلى (الله). {بَعْضَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ:} كلاهما متعلقان بالفعل {فَضَّلَ} والجملة

ص: 225

الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على مثلها في الآية السابقة، لا محل لها مثلها. {فَمَا:} الفاء: حرف تفريع واستئناف. (ما): نافية حجازية تعمل عمل «ليس» .

{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع اسم (ما). {فُضِّلُوا:} ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، التقدير: على غيرهم، والجملة صلة الموصول، لا محل لها. {بِرَادِّي:} الباء: حرف جر صلة. (رادّي): خبر ما مجرور لفظا، منصوب محلا، وعلامة الجر اللفظي، أو النصب المحلي الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، و {بِرَادِّي:} مضاف، و {رِزْقِهِمْ:} مضاف إليه من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، والهاء في محل جر بالإضافة وفاعله مستتر فيه. {عَلى ما:}

متعلقان ب: (رادّي)، و {فَمَا:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر. {مَلَكَتْ:}

ماض، والتاء للتأنيث، {أَيْمانُهُمْ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة {فَمَا،} والعائد محذوف؛ إذ التقدير: ملكته أيمانهم، والجملة الاسمية:{فَمَا الَّذِينَ..} . إلخ مفرعة ومستأنفة، لا محل لها. {فَهُمْ:} الفاء: حرف عطف، وسبب. (هم): مبتدأ. {فِيهِ:}

متعلقان بما بعدهما. {سَواءٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على المنفي؛ أي: لم يردوه عليهم ردا بحيث يشركونهم فيه. وقال أبو البقاء: الجملة من المبتدأ والخبر هنا واقعة موقع الفعل والفاعل، والتقدير: فما الذين فضّلوا برادّي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فيستووا فيه. وهذا الفعل منصوب على جواب النفي، ويجوز أن يكون مرفوعا عطفا على موضع {بِرَادِّي؛} أي: فما الذين فضلوا يردون فما يستوون. {أَفَبِنِعْمَةِ:} الهمزة: حرف استفهام، وتوبيخ، وتقريع. الفاء: حرف استئناف، أو هي عاطفة على محذوف؛ أي: أيشركون به، فيجحدون نعمته؟ (بنعمة): متعلقان بما بعدهما، وهذا لا يصح إلا على تضمين الفعل معنى يكفرون؛ لأن {يَجْحَدُونَ} متعد بنفسه، و (نعمة): مضاف، و {اللهُ:} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله، والجملة:{أَفَبِنِعْمَةِ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)}

الشرح: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً} أي: خلق حواء من آدم. وقيل: المعنى: خلق لكم أزواجا من جنسكم، ونوعكم، وعلى خلقتكم، وهو أولى؛ لأنه أعم، ومشاهد لكل إنسان، وتخصيصه بآدم، وحواء، ليس فيه دليل، وقد أحسن الجلال حيث قال: فخلق حواء من ضلع آدم، وسائر النساء من نطف الرجال، والنساء. {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ:} أولادا ذكورا، وإناثا. {وَحَفَدَةً:} جمع: حافد، وأما حفيد فجمعه: حفداء، وهم أولاد الأولاد.

ص: 226

وقيل: هم الأصهار. وقيل: هم الأعوان والأنصار. وقيل: هم الخدم، والحشم. وقيل: هم الربائب أولاد الزوجات، والمعتمد الأول، وهو ما قاله الأزهري، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو ظاهر نصّ القرآن الكريم، حيث جعل الحفدة، والبنين من النساء.

وقال ابن العربي: الأظهر عندي في قوله تعالى: {بَنِينَ وَحَفَدَةً} أن البنين أولاد الرجل لصلبه، والحفدة أولاد ولده، وليس في قوة اللفظ أكثر من هذا. هذا؛ والحافد: المسرع في الخدمة، المسارع إلى الطاعة ومنه قولك في الدّعاء:«وإليك نسعى ونحفد» أي: نسرع إلى طاعتك.

تنبيه: الحفدة الذين يكون الاعتزاز بهم هم أبناء الأبناء، بخلاف أبناء البنات؛ لأن أبناء الأبناء هم عصبة الجد، بخلاف أبناء البنات فإنّهم أرحام، وينسب للفرزدق قوله:[الطويل]

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهنّ أبناء الرّجال الأباعد

{وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ} أي: النعم التي أنعم الله عليكم بها من أنواع الثمار، والحبوب، والأنعام، والأشربة المستطابة الحلال من ذلك كله. {أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ} أي: بالأصنام يؤمّلون أن تنفعهم، أو الباطل هو ما يحرمونه من الحلال، كالبحيرة، والسائبة ونحو ذلك، وما يحلونه من الحرام، وهو أكل الميتة، ونحو ذلك مما يزينه الشيطان لهم. {وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ:}

يجحدون نعم الله عليهم، ويضيفونها إلى الأصنام؛ التي لا تضر، ولا تنفع.

هذا؛ و «باطل» بمعنى: فاسد، وهو ضد الحق، والبطلان عبارة عن عدم الشيء، إما بعدم ذاته، أو بعدم فائدته، ونفعه. هذا؛ وبطل من باب: دخل، والبطل-بفتحتين: الشجاع. والبطل -بضم فسكون-: الباطل والكذب، والبطالة التعطل والتفرغ عن العمل، ويجمع باطل على أباطيل شذوذا، كما شذ: أحاديث، وأعاريض، وأفاظيع في جمع حديث، وعريض، وفظيع.

هذا؛ وأزواج جمع: زوج، وهو يطلق على الذكر، والأنثى، والقرينة تبين الذكر من الأنثى، وقد يقال للمرأة زوجة، والكلام في:{أَفَبِالْباطِلِ} مثله في: {أَفَمَنْ} و {أَفَلا} في الآية رقم [17]، ولا تنس: الالتفات من الخطاب إلى الغيبة. وانظر الآية رقم [22].

الإعراب: (الله): مبتدأ. {جَعَلَ:} ماض، وفاعله يعود إلى (الله). {لَكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ أَنْفُسِكُمْ:} متعلقان به أيضا، أو هما متعلقان بمحذوف حال من أزواجا على مثال ما رأيت في الآية رقم [66] {أَزْواجاً:} مفعول به، وجملة:{جَعَلَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَاللهُ} إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا، وجملة:

{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ} معطوفة على ما قبلها، وإعرابها كإعرابها. {وَحَفَدَةً:}

معطوف على ما قبله. (رزقكم): ماض، والكاف مفعول به أول، والفاعل يعود إلى (الله). {مِنَ الطَّيِّباتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والمفعول الثاني: محذوف، التقدير: رزقكم من الطيبات ما تشتهون، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {أَفَبِالْباطِلِ:} الهمزة:

ص: 227

حرف استفهام، وإنكار، وتوبيخ. الفاء: حرف استئناف، أو هي عاطفة على محذوف، التقدير:

أي: أيكفرون بالله الذي هذا شأنه، فيؤمنون. (بالباطل): متعلقان بما بعدهما، والكلام مستأنف على الاعتبارين. (بنعمة): متعلقان بما بعدهما، و (نعمة): مضاف، و {اللهُ} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله. {هُمْ:} مبتدأ، وجملة:{يَكْفُرُونَ} مع المتعلق في محل رفع خبره، والجملة الاسمية:{هُمْ يَكْفُرُونَ} معطوفة على ما قبلها، فلا محل لها مثلها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من واو الجماعة، فلست مفندا، ويكون الرابط: الواو، والضمير.

تنبيه: ذكر سبحانه هنا {هُمْ} وفي سورة (العنكبوت) الآية رقم [67] بدونها؛ لأن ما هنا اتصل بقوله: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً} وهو بالخطاب، ثم انتقل إلى الغيبة، فقال:

{أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ..} . إلخ فلو ترك {هُمْ} لالتبست الغيبة بالخطاب بأن تبدل الياء تاء. انتهى.

جمل نقلا عن كرخي.

هذا، ولاحظ معي: أن الآيات الثلاث صدّرت بذكر لفظ الجلالة للتعظيم، والتشريف، وإن كان حق العربية أن تصدر الثانية والثالثة بالضمير «هو» ، وفي ذلك وجه بلاغي يدرك بأدنى تأمل، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73)}

الشرح: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ..} . إلخ: أي: الكفار والمشركون يعبدون الأصنام وغيرها من الجمادات، وهي لا تقدر على إنزال المطر الذي في السموات خزائنه، ولا تقدر على إخراج النبات الذي في الأرض معدنه، لا قليلا، ولا كثيرا، {وَلا يَسْتَطِيعُونَ} أي: ولا يقدرون على أي: شيء من نفع، أو ضر. وانظر جمع ما لا يعقل في الآية رقم [20]، وشرح {السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} في الآية رقم [3]، وشرح {شَيْئاً} في الآية رقم [35]، وشرح «العبادة» في الآية رقم [36]، وشرح لفظ الجلالة في الآية رقم [31].

الإعراب: {وَيَعْبُدُونَ:} الواو: حرف عطف. (يعبدون): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله. {مِنْ دُونِ:} متعلقان بما قبلهما. وقيل:

متعلقان بمحذوف حال، و {يَعْبُدُونَ:} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {لا:} نافية. {يَمْلِكُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {ما،} وهو العائد. {لَهُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {رِزْقاً:} مفعول به. {مِنَ السَّماواتِ:}

متعلقان ب: {رِزْقاً،} أو بمحذوف صفة له. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله. {شَيْئاً:} مفعول به ل: {رِزْقاً؛} لأنه اسم مصدر يعمل عمله، أو هو بدل منه، أو هو نائب مفعول مطلق، على

ص: 228

معنى: لا يملك لهم ملكا؛ أي: شيئا، والأول: هو قول الكوفيين، والثاني: هو قول البصريين، وقد وافق الكوفيين من البصريين أبو علي الفارسي، وجملة:{لا يَمْلِكُ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{وَلا يَسْتَطِيعُونَ} مع المفعول المحذوف معطوفة عليها، وقد راعى في الجملة الأولى لفظ {ما} فوحّد الضمير، وراعى في الثانية معناها، وجوّز رجوع الضمير إلى الكفار، وجملة: {(يَعْبُدُونَ

)} إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها.

{فَلا تَضْرِبُوا لِلّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74)}

الشرح: {فَلا تَضْرِبُوا لِلّهِ الْأَمْثالَ} أي: لا تشبهوا الله بخلقه، فإنه لا مثل له، ولا شبيه، ولا شريك له من خلقه؛ لأن الخلق كلهم عبيده، وفي ملكه، فكيف يشبّه الخالق بالمخلوق، أو الرازق بالمرزوق، أو القادر بالعاجز. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [60] تجد ما يسرك. {إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ} ما أنتم عليه من ضرب الأمثال له، ويعلم فساد ما تقولون عليه من الأقيسة. {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي: خطأ ما تضربون من الأمثال، ولو علمتموه؛ لما اجترأتم عليه، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

هذا؛ والفعل {يَعْلَمُ} و {تَعْلَمُونَ} من المعرفة لا من العلم اليقيني، والفرق بينهما: أن المعرفة تكتفي بمفعول واحد، قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته:[الرجز]

لعلم عرفان وظنّ تهمه

تعدية لواحد ملتزمه

بخلافه من العلم اليقيني، فإنه ينصب مفعولين، أصلهما مبتدأ وخبر. وأيضا فالمعرفة تستدعي سبق جهل، وأنّ متعلقها الذوات دون النسب، بخلاف العلم، فإن متعلقه المعاني، والنسب، وتفصيل ذلك: أنك إذا قلت: عرفت زيدا؛ فالمعنى: أنك عرفت ذاته، ولم ترد أنك عرفت وصفا من أوصافه، فإذا أردت هذا المعنى؛ لم يتجاوز مفعولا واحدا؛ لأن العلم، والمعرفة يتناول الشيء نفسه، ولم يقصد إلى غير ذلك، وإذا قلت: علمت زيدا قائما؛ لم يكن المقصود: أن العلم تناول نفس زيد فحسب، وإنّما المعنى: أن العلم تناول كون زيد موصوفا بهذه الصفة.

الإعراب: {فَلا:} الفاء: حرف استئناف. (لا): ناهية. {تَضْرِبُوا:} مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {لِلّهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الْأَمْثالَ:} مفعول به. {إِنَّ:}

حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {يَعْلَمُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (الله)، والمفعول محذوف كما رأيت، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ} والجملة الاسمية تعليل للنهي، لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ:} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها. وقيل: في محل نصب حال.

ص: 229

{ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75)}

الشرح: قال الخازن-رحمه الله تعالى-: لما نهاهم الله سبحانه وتعالى عن ضرب الأمثال، لقلة علمهم؛ ضرب هو سبحانه وتعالى لنفسه مثلا، فقال تعالى: مثلكم في إشراككم بالله الأوثان، كمثل من سوّى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف، وبين حرّ كريم مالك قادر، قد رزقه الله مالا، فهو يتصرف فيه، وينفق منه كيف يشاء، فصريح العقل يشهد بأنه لا تجوز التسوية بينهما في التعظيم، والإجلال، فلمّا لم تجز التسوية بينهما مع استوائهما في الخلقة، والصورة البشرية، فكيف يجوز للعاقل أن يسوي بين الله عز وجل الخالق القادر على الرزق والإفضال، وبين الأصنام؛ التي لا تملك، ولا تقدر على شيء البتة. انتهى.

وقال عطاء: العبد المملوك هو أبو جهل، {وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقاً حَسَناً} هو أبو بكر الصديق-رضي الله عنه، والمعتمد القول الأول، وهو الذي يقتضيه نص الآيات. هذا؛ ومعنى:{ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً:} بيّن شبها. وقال سبحانه: {هَلْ يَسْتَوُونَ،} ولم يقل: هل يستويان؛ لأن (من) اسم مبهم يصلح للواحد، والاثنين، والجمع، والمذكر، والمؤنث، ويكون المعنى هل يستوي الأحرار، والعبيد، وكذلك لا يستوي المطيعون، والعاصون.

{الْحَمْدُ لِلّهِ:} حمد الله نفسه؛ لأنه المستحق لجميع المحامد؛ لأنه المنعم المتفضل على عباده، دون ما يعبدون؛ إذ لا نعمة للأصنام عليهم، ولا معروف فتحمد عليه، وإنما الحمد الكامل لله. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ} أي: المشركون. {لا يَعْلَمُونَ:} أن الحمد لله وحده. وقيل: أراد أكثر الناس لا يعلمون، وذلك: أن أكثرهم المشركون، وقد صرح سبحانه في غير ما آية: أن أكثر الناس لا يعلمون. وانظر الآية رقم [101] الآتية.

الإعراب: {ضَرَبَ اللهُ:} ماض، وفاعله. {مَثَلاً:} مفعول به. {عَبْداً:} بدل منه.

{مَمْلُوكاً:} صفة {عَبْداً} . {مَثَلاً:} نافية. {يَقْدِرُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {عَبْداً} .

{عَلى شَيْءٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب صفة ثانية ل:{عَبْداً،} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم. {وَمَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب معطوفة على {عَبْداً} .

{رَزَقْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به أول. {مِنّا:} متعلقان بما قبلهما. {رِزْقاً:} مفعول به ثان. {حَسَناً:} صفة له، وجملة:{رَزَقْناهُ..} . إلخ صلة (من)، أو صفتها، وجملة:

{ضَرَبَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَهُوَ:} الفاء: حرف تفريع، وسبب. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {يُنْفِقُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (من) أيضا.

ص: 230

{مِنْهُ:} متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به؛ لأن (من) دالة على التبعيض.

{سِرًّا:} مفعول مطلق؛ إذ التقدير: إنفاق سر، أو هو حال بمعنى: مسرا. {وَجَهْراً:} معطوف على ما قبله، وجملة:{يُنْفِقُ مِنْهُ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{فَهُوَ يُنْفِقُ..} . إلخ مستأنفة ومفرعة عما قبلها، لا محل لها. {هَلْ:} حرف استفهام معناه التوبيخ، والإنكار. {يَسْتَوُونَ:} مضارع مرفوع.. إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها {الْحَمْدُ:} مبتدأ. {اللهُ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة أيضا.

{بَلْ:} حرف عطف وإضراب. {أَكْثَرُهُمْ:} مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:

{لا يَعْلَمُونَ} مع المفعول المحذوف في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)}

الشرح: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ:} وهذا مثل آخر ضربه الله لنفسه ولما يعبدون من الأوثان. {أَحَدُهُما أَبْكَمُ:} أخرس لا يفهم، ولا يفهم غيره. {لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ:} من الصنائع والتدابير لعجزه التام، ونقصانه الكامل. {وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ} أي: ثقيل على من يلي أمره، ويعوله. {أَيْنَما يُوَجِّهْهُ} أي: حيثما يرسله، ويصرفه في طلب حاجة، أو كفاية مهمّ. {لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} أي: لا يأت بنجح؛ لأنه أخرس عاجز، لا يحسن الكلام، ولا يفهم. {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ} أي: الموصوف بالصفات المذمومة، من البكم، وعدم القدرة، والضعف. {وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} أي: من هو سليم الحواس، كريم الطباع، نفاع، ذو كفايات، ذو رشد، يأمر الناس بالعدل والخير. {وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: على سيرة صالحة، ودين قويم، فيجب أن يكون الآمر بالعدل عالما قادرا، مستقيما في نفسه؛ حتى يتمكن من الأمر بالعدل. والجواب:

لا يستويان!.

وهذا مثل ثان ضربه الله لنفسه، ولما يفيض على عباده من إنعامه، ويشملهم به من آثار رحمته، وألطافه، وللأصنام التي هي أموات جمادات لا تضر، ولا تنفع، ولا تسمع، ولا تنطق، ولا تعقل، وهي كلّ على عابديها؛ لأنها تحتاج إلى كلفة الحمل، والنقل، والخدمة. وقيل:

كلا المثلين للمؤمن، والكافر. وقيل غير ذلك، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

هذا؛ وجمع أبكم: بكم، مثل أعمى، وعمي، وأصم، وصمّ، قال تعالى:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} . المولى: يطلق، ويراد به المعبود بحق، كما يطلق على السيد، والعبد،

ص: 231

والحليف، وابن العم، والنصير، والصاحب الصدوق. وانظر شرح:{أَحَدٌ} في الآية رقم [81] من سورة (هود) عليه السلام. وانظر شرح: {أَتى} في الآية رقم [1] وشرح: {شَيْءٍ} في الآية رقم [35] وإعلال مستقيم مثل إعلال {مُقِيمَ} في الآية رقم [40] من سورة (إبراهيم) عليه الصلاة والسلام، والصراط هو الطريق الذي يسلكه الإنسان يكون ماديا، ويكون معنويا. هذا؛ وحذف مقابل {أَحَدُهُما أَبْكَمُ} للدلالة عليه بقوله:{وَمَنْ يَأْمُرُ} إذ التقدير: والآخر ناطق خفيف على مولاه، أينما يوجهه؛ يأت بخير.

الإعراب: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً:} ماض، وفاعله، ومفعول به {رَجُلَيْنِ:} بدل من مثلا، منصوب مثله وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {أَحَدُهُما:} مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {أَبْكَمُ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب صفة {رَجُلَيْنِ}. {مَثَلاً:} نافية. {يَقْدِرُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {أَحَدُهُما}. {عَلى شَيْءٍ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر ثان وقيل: صفة {أَبْكَمُ} . {وَهُوَ:} الواو: حرف عطف. {(هُوَ كَلٌّ):} مبتدأ، وخبر. {عَلى مَوْلاهُ:} متعلقان ب {كَلٌّ،} أو بمحذوف صفة له، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية {(هُوَ

)} إلخ معطوفة على الجملة الاسمية السابقة، فهي في محل رفع مثلها. وقيل:

في محل نصب حال. {أَيْنَما:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل نصب على الظرفية المكانية، متعلق بفعل شرطه. وقيل: متعلق بالجواب. {يُوَجِّهْهُ:} مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى مولاه، والهاء مفعول به. هذا؛ ويقرأ:«(يوجّه)» بالبناء للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى {أَبْكَمُ} أيضا، والجملة الفعلية ابتدائية على تعليق الظرف به، وفي محل جر بإضافة {أَيْنَما} إليها على اعتباره متعلقا بالجواب. {مَثَلاً:} نافية. {يَأْتِ:} مضارع جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى {أَبْكَمُ} أيضا. {بِخَيْرٍ:} متعلقان به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية، والجملة الشرطية:

{أَيْنَما..} . إلخ في محل رفع خبر ثان للمبتدإ (هو). {هَلْ:} حرف استفهام. {يَسْتَوِي} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، والفاعل يعود إلى {أَحَدُهُما}. {هُوَ:}

ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع توكيد للضمير المستتر. {وَمَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع معطوف على الضمير المستتر، وجملة:{يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ:} صلة (من) أو صفتها، والعائد، أو الرابط: رجوع الفاعل إليها. {وَهُوَ:} الواو: واو الحال. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {عَلى صِراطٍ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {مُسْتَقِيمٍ:} صفة، وجملة:{وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ..} . إلخ في محل

ص: 232

نصب حال من فاعل {يَأْمُرُ} المستتر، والرابط: الواو، والضمير. وقيل: معطوف على جملة الصلة، والمعتمد الأول، وجملة:{هَلْ يَسْتَوِي..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَلِلّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السّاعَةِ إِلاّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)}

الشرح: {وَلِلّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي: يعلم سبحانه ما غاب عن العباد فيهما.

والمعنى: أن علمه سبحانه نافذ في جميع الأشياء. خفيّها وجليّها، حاضرها، ومعدومها، لا يخفى عليه شيء في الأرض، ولا في السماء. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما {غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:} خزائنهما. وانظر الآية رقم [3]. {وَما أَمْرُ السّاعَةِ} أي: وما أمر قيام القيامة في سرعته، وسهولته. {إِلاّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ} أي: كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها. {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} أي: أسرع من لمح البصر؛ لأن لمح البصر يحتاج إلى زمان، وحركة، قال الزجاج: لم يرد أن القيامة تأتي في لمح البصر، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها؛ أي: يقول للشيء: كن فيكون. انتهى.

أقول: قول الزجاج هو الحق؛ لأن للساعة علامات صغرى، وقد ظهرت، وعلامات كبرى ستظهر متوالية، وقد ذكرت ذلك كله في الآية رقم [187] من سورة (الأعراف)، و (أو) ليست للشك هنا، وإنما هي للتمثيل بأيهما أراد الممثل، مثل قولك: جالس محمدا، أو محمودا؛ أي: فأنت مخير بذلك. وقيل: هي بمنزلة: «بل» . وانظر شرح الساعة في الآية رقم [85] من سورة (الحجر).

{إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: قادر مقتدر، فيقدر أن يحيي الخلائق دفعة واحدة، كما قدر على إحيائهم متدرجا، لا يعجزه شيء في الأرض، ولا في السماء، وهو السميع العليم.

الإعراب: {وَلِلّهِ:} الواو: حرف استئناف. (لله): متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والتقديم يفيد الاختصاص. {غَيْبُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {السَّماواتِ:} مضاف إليه.

{وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {وَما:} الواو:

حرف عطف. (ما): نافية، {أَمْرُ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {السّاعَةِ:} مضاف إليه. {إِلاّ:}

حرف حصر. {كَلَمْحِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، وإن اعتبرت الكاف اسما بمعنى:«مثل» فهي الخبر، وتكون مضاف و (لمح): مضاف إليه، و (لمح): مضاف، و {الْبَصَرِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية:{وَما أَمْرُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، والجملة الاسمية:{هُوَ أَقْرَبُ:} معطوفة أيضا، والمفضل عليه محذوف، انظر الشرح. {إِنَّ:}

حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {عَلى كُلِّ:} متعلقان ب: {قَدِيرٌ} بعدهما، و {كُلِّ:} مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه. {قَدِيرٌ:} خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية:

{إِنَّ اللهَ..} . إلخ تعليلية، أو مستأنفة، لا محل لها أيضا.

ص: 233

{وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)}

الشرح: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} أي: جهالا، لا تعرفون شيئا من أمور دينكم، ودنياكم، وتدبير معايشكم. {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ} أي:

أعطاكم الله هذه الحواس لتستفيدوا بها، فجعل لكم السمع لتسمعوا به نصوص الكتاب والسنة، وهي الدلائل السمعية؛ لتستدلوا بها على ما يصلحكم في أمر دينكم، وجعل لكم الأبصار؛ لتبصروا بها عجائب مصنوعاته، وغرائب مخلوقاته، فتستدلوا به على وحدانيته، وجعل لكم الأفئدة؛ لتعقلوا بها، وتفهموا معاني الأشياء، التي جعلها دلائل وحدانيته. انتهى. خازن.

تنبيه: وحّد السمع دون القلوب، والأبصار؛ لأمن اللبس، ولأنه في الأصل مصدر، يقال:

سمعت الشيء، سماعا وسمعا، والمصدر لا يجمع؛ لأنه اسم جنس يقع على القليل والكثير، فلا يحتاج فيه إلى تثنية، أو جمع. وقيل: وحّد السمع؛ لأن مدركاته نوع واحد، وهو الصوت، ومدركات القلب والبصر مختلفة، والأفئدة جمع فؤاد، وهو القلب.

هذا؛ ونص الآية وظاهرها يدلّ على أنّ الحواس الثلاث خلقت بعد الإخراج من البطون، وقد قال العلماء الأفذاذ: إنّ تقديم الإخراج، وتأخير ذكر الحواس لا يدلّ على أنّ خلقها كان بعد الإخراج؛ لأن الواو لمطلق الجمع، ولا توجب الترتيب؛ ولأن العرب تقدم، وتؤخر في كلامها، وخذ قول الأحوص:[الوافر]

ألا يا نخلة من ذات عرق

عليك ورحمة الله السّلام

فقد عطف المقدم على متبوعه، قال ابن هشام في مغنيه: وهو مما اختصت به الواو. وانظر الشاهد [667] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» . {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: كي تعرفوا ما أنعم الله به عليكم طورا بعد طور، فتشكروه على تلك النعم، انظر الشكر في الآية رقم [7] و [39] من سورة (إبراهيم) عليه الصلاة، والسّلام.

هذا؛ والترجي في هذه الآية وأمثالها، إنما هو بحسب عقول البشر؛ لأن الله تعالى لا يحصل منه ترج، ورجاء لعباده. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا!.

هذا؛ و {أُمَّهاتِكُمْ:} جمع أم، والقياس أن يكون جمعها:(أمات) قال الزمخشري:

والهاء مزيدة في: أمات، كما زيدت في أراق، فقيل: أهراق، وشذت زيادتها في الواحدة في قول قصي الجد الرابع للنبي صلى الله عليه وسلم:[الرجز]

أمّهتي خندف والياس أبي

عند تناديهم بهال وهب

ص: 234

وقال ابن عصفور في الممتع: أما أمّهة، فمنهم من يجعل الهاء زائدة فيه، ومنهم من يجعلها أصلية، فالذي يجعلها زائدة يستدل على ذلك بأنها في معنى الأم، وأورد بيت قصي، إلا أن الفرق بين أمّهة وأم: أن أمّهة تقع في الغالب على من يعقل، وقد تستعمل فيما لا يعقل، وذلك قليل جدا، نحو قول السفاح بن بكير:[السريع]

قوّال معروف وفعّاله

عقّار مثنى أمّهات الرّباع

وأم يقع في الغالب على ما لا يعقل، وقد يقع على العاقل، نحو قول جرير:[الوافر]

لقد ولد الأخيطل أمّ سوء

على باب استها صلب وشام

ومما يدل أيضا على زيادة الهاء في «أمهة» قولهم: أم بينة الأمومة-بغير هاء-ولو كانت أصلية لثبتت في المصدر، والذي يجعلها أصلية يستدلّ على ذلك بما حكاه صاحب العين من قولهم:

تأمّهت أمّا، فتأمّهت: تفعّلت بمنزلة: تنبهت مع أن زيادة الهاء قليلة جدا، فمهما أمكن جعلها أصلية، كان ذلك أولى فيها، والصحيح: أنها زائدة؛ لأن الأمومة حكاها أئمة اللغة، وأما تأمّهت فانفرد بها صاحب العين، وكثيرا ما يأتي في كتاب العين ما لا ينبغي أن يؤخذ به، لكثرة اضطرابه، وخلله. انتهى. بعد هذا؛ والأم تعم من ولدتك، أو ولدت من ولدك، وإن علت: ويقرأ (أمها) بضم الهمزة وفتح الميم، وهي قراءة العامة، ويقرأ بكسر الهمزة وفتح الميم، وبكسرهما معا.

الإعراب: {وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. (الله): مبتدأ. {أَخْرَجَكُمْ:} ماض، والفاعل يعود إلى (الله)، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {مِنْ بُطُونِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {بُطُونِ:} مضاف، و {أُمَّهاتِكُمْ:} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة. {لا:} نافية. {تَعْلَمُونَ:}

مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {شَيْئاً:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الضمير فقط. (جعل): ماض، والفاعل يعود إلى (الله).

{لَكُمُ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {السَّمْعَ:} مفعول به. {وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ:} معطوفان على {السَّمْعَ،} وجملة: {وَجَعَلَ لَكُمُ..} . إلخ معطوفة على جملة: {أَخْرَجَكُمْ..} . إلخ فهي في محل رفع مثلها، وهذا على اعتبار الواو لا تقتضي ترتيبا. وقيل: الجملة مستأنفة، لا محل لها.

{لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف في محل نصب اسمها، وجملة:{تَشْكُرُونَ:} في محل رفع خبر (لعلّ). والجملة الاسمية: {لَعَلَّكُمْ..} . إلخ تعليل لتلك النعم لا محل لها.

{أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)}

الشرح: {أَلَمْ يَرَوْا:} ألم ينظر الكفار {إِلَى الطَّيْرِ:} نظر تبصر واعتبار. {مُسَخَّراتٍ:}

ص: 235

مذللات لأمر الله تعالى. وقيل: مذللات لمنافعكم. {فِي جَوِّ السَّماءِ:} الجو: الفضاء الواسع بين السماء والأرض. وهو الهواء، وأضافه إلى السماء لارتفاعه عن الأرض. {ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ:} يعني: في حال قبض أجنحتها، وبسطها، واصطفافها في الهواء. وفي هذا حث على الاستدلال بها على أنّ لها مسخرا سخّرها، ومذلّلا ذلّلها، وممسكا أمسكها في حال طيرانها ووقوفها في الهواء. {إِنَّ فِي ذلِكَ..}. إلخ: خص المؤمنين بالذكر؛ لأنهم هم المنتفعون بالآيات دون غيرهم.

الإعراب: {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وتقرير. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم.

{يَرَوْا:} مضارع مجزوم ب: (لم)، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {إِلَى الطَّيْرِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به. {مُسَخَّراتٍ:} حال من {الطَّيْرِ} منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {فِي جَوِّ:} متعلقان ب: {مُسَخَّراتٍ؛} لأنه اسم مفعول، و {جَوِّ:}

مضاف، و {السَّماءِ:} مضاف إليه. {ما:} نافية. {يُمْسِكُهُنَّ:} مضارع، والهاء في محل نصب مفعول به، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {إِلاَّ:} حرف حصر. {اللهُ:} فاعل، وجملة:{ما يُمْسِكُهُنَّ..} . إلخ: في محل نصب حال ثانية من الطير، أو من الضمير المستتر في مسخرات، فتكون حالا متداخلة، والجملة الفعلية:{أَلَمْ يَرَوْا..} . إلخ: مستأنفة، لا محل لها.

هذا؛ وإعراب: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ:} مثل إعراب: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} في الآية رقم [65] تأمل، وتدبر.

{وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80)}

الشرح: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ:} التي هي من الحجر، والمدر. {سَكَناً:} مسكنا تسكنونه، وتهدأ جوارحكم فيه من الحركة، وقد تتحرك فيه، وتسكن في غيره، وعدّ سبحانه هذا في جملة النعم، فإنه لو شاء خلق العبد مضطربا أبدا كالأفلاك؛ لكان ذلك كما خلق وأراد، ولو خلقه ساكنا كالأرض؛ لكان كما خلق، وأراد، والسكن: مصدر يوصف به الواحد والجمع.

{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً:} يعني: الخيام، والقباب، والأخبية، والفساطيط، المتخذة من الأدم، والأنطاع. {تَسْتَخِفُّونَها:} يخف عليكم حملها. {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} أي: في يوم سيركم، ورحيلكم في أسفاركم. {وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ} أي: وتخف عليكم في إقامتكم، وحضركم.

وقد بينت الآية الكريمة: أن المساكن على قسمين: أحدهما ما لا يمكن نقله من مكان إلى مكان آخر، وهي البيوت المتخذة من الحجارة، والخشب، ونحوهما، والقسم الثاني: ما يمكن نقله من مكان إلى مكان آخر، وهي الخيام، والفساطيط المتّخذة من جلود الأنعام.

ص: 236

{وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها} أي: الأنعام، فالصوف للغنم، والوبر للإبل، والشعر للماعز. {أَثاثاً} أي: تتخذون ممّا ذكر أثاثا، والأثاث متاع البيت الكبير، وأصله من: أثّ إذا كثر، وتكاثف وقيل: الأثاث: ما يلبس، ويفترش في البيوت. وهو المعتمد، قال الشاعر:[الوافر]

أهاجتك الظعائن يوم بانوا

بذي الزّيّ الجميل من الأثاث

{وَمَتاعاً:} انتفاعا، وتلذذا، وتمتع، واستمتع بكذا: انتفع به، والمتعة: الانتفاع، والتلذذ بالشيء. وأمتعه الله، ومتّعه بكذا بمعنى واحد، ومتاع الغرور: أي: ما يغرّ، ويخدع، ولا يغرّ إلا ضعفاء النفوس والإيمان. وخاب الفسقة الذين يقولون: إنّ متاع الغرور هو ما تحمله المرأة في أيام حيضها من خرق، فمن أين أتوا بهذا التفسير الذي لا يقرّه ذوق فضلا عن عدم وجوده في كتب اللّغة. وقال الخليل: الأثاث، والمتاع واحد، وجمع بينهما لاختلاف اللفظ، فإن قلت: لا بد من فرق بينهما؛ حتى يصح العطف؛ لأنه يقتضي المغايرة، فالجواب: أن الأثاث ما كثر من آلات البيت وحوائجه، فيدخل فيه جميع أصناف المال، والمتاع ما ينتفع به في البيت خاصة، فظهر الفرق بين اللفظين.

{إِلى حِينٍ} أي: إلى حين يبلى ذلك الأثاث. وقيل: إلى حين الموت. وانظر شرح «الحين» في الآية رقم [25] من سورة (إبراهيم) عليه السلام. هذا؛ ويقرأ {(ظَعْنِكُمْ)} بسكون العين، وفتحها كالشّعر والشّعر. هذا؛ والظعينة: المرأة؛ لأن زوجها يظعن بها؛ أي: يرتحل، ويقال: الظعينة في الأصل: الهودج فيه امرأة، أم لا، ثم سميت به المرأة ما دامت فيه، ثم سميت به، وإن كانت في بيتها، والظعينة فعيلة بمعنى: مفعولة، وجمعها: ظعن-بضم فسكون-وظعن-بضمتين- وظعائن، وجمع الجمع: أظعان، وظعنات بضمتين، قال زهير بن أبي سلمى:[الطويل]

تبصّر خليلي، هل ترى من ظعائن

تحمّلن بالعلياء من فوق جرثم

الإعراب: {وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. (الله): مبتدأ. {جَعَلَ:} ماض، وفاعله يعود إلى (الله). {لَكُمْ:} متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني: تقدّم على الأول.

{مِنْ بُيُوتِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {سَكَناً،} والكاف في محل جر بالإضافة. {سَكَناً:} مفعول به، وجملة:{جَعَلَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَاللهُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وجملة:{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً:} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها، وأحد الجارين مفعوله الثاني، والآخر حال كما في الجملة السابقة. {تَسْتَخِفُّونَها:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب صفة {بُيُوتاً}. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، و {يَوْمَ:} مضاف، و {ظَعْنِكُمْ:} مضاف إليه، والكاف في محل جر

ص: 237

بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله. {وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ:} معطوف على ما قبله، وهو مثله في إعرابه. {وَمِنْ أَصْوافِها:} معطوفان على {مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ} . {وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها:} معطوفان على ما قبلهما، و (ها): في محل جر بالإضافة. {أَثاثاً:} معطوف على {بُيُوتاً} . (متاعا):

معطوف على ما قبله. {إِلى حِينٍ:} متعلقان ب: (متاعا)، أو بمحذوف صفة له.

{وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)}

الشرح: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمّا خَلَقَ} أي: من الشجر، والجبال، والأبنية. {ظِلالاً:}

تستظلون به من حر الشمس، ويقيكم البرد أيضا. {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً:} جمع كن، وهو ما يستكن فيه الإنسان من شدة الحر والبرد، والمراد: ما يوجد في الجبال من الكهوف، والبيوت المنحوتة فيها، كالغيران، ونحوها انظر (أكنة) في الآية [46] من سورة (الإسراء). {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} أي: ثيابا من الصوف، والكتان، والقطن، وغيرها تحفظكم من الحر؛ أي: والبرد، فاكتفى بذكر الحر عنه. {وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ:}

المراد: الدروع، وسائر ما يلبس للوقاية من ضربات السيوف والرماح، والبأس شدة الحرب هنا.

وقد استعاره لبيد-رضي الله عنه-للإسلام؛ الذي وفقه الله إليه بقوله: [البسيط]

الحمد لله إذ لم يأتني أجلي

حتّى اكتسيت من الإسلام سربالا

{كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} أي: يتم نعمه عليكم كإتمام النعم الكثيرة التي تقدم ذكرها.

{لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} أي: تؤمنون، وتستسلمون، وتنقادون إلى معرفة الله، وعبادته، وطاعته شكرا على نعمه، وقرئ شاذا بفتح التاء، ومعناه: تسلمون من الجراح بلبس الدروع، أو تسلمون من العذاب. وقرئ:«(تتمّ)» ورفع: (نعمته). وانظر مثل هذا الترجي في الآية رقم [78]، وانظر:{جَعَلَ} و {خَلَقَ} في الآية رقم [3]، وانظر (سرابيل) في الآية رقم [50] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وشفيعنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

الإعراب: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ:} انظر الآية السابقة. {مِمّا:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {ظِلالاً،} كان صفة له

إلخ، انظر الآية رقم [66] و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب:(من)، وجملة:{خَلَقَ:}

صلة (ما)، أو صفتها، والفاعل يعود إلى (الله)، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: من الذي، أو من شيء خلقه. {ظِلالاً:} مفعول به، وإعراب:{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً}

ص: 238

مثلها بلا فارق. {لَكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف مفعول به ثان تقدم على المفعول الأول، وقل مثل ذلك في كل ما تقدم. {سَرابِيلَ:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع أيضا. {تَقِيكُمُ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى {سَرابِيلَ،} والكاف مفعول به أول. {الْحَرَّ:}

مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل نصب صفة {سَرابِيلَ،} {وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ:}

لا خفاء في إعرابه، وهو معطوف على ما قبله. {كَذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، التقدير: يتم نعمته عليكم إتماما كائنا مثل إتمام النعم المذكورة فيما تقدم، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {يُتِمُّ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (الله). {نِعْمَتَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله. {عَلَيْكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف في محل نصب اسمها، وجملة:{تُسْلِمُونَ:} في محل رفع خبر (لعلّ)، والجملة الاسمية تعليل لإتمام النعمة، والكلام {كَذلِكَ..} . إلخ مستأنف لا محل له.

{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82)}

الشرح: المعنى: فإن أعرضوا عن النظر في تلك النعم الكثيرة، ولم يستدلوا بها على قدرة الله تعالى، ولم يؤمنوا به سبحانه؛ فلا يهمك ذلك، وليس عليك إلا التبليغ، وأما الهداية فهي لله وحده. وانظر مثل ذلك في الآية رقم [35]. هذا؛ والتولي، والإعراض، والإدبار عن الشيء، يكون بالجسم، ويستعمل في الإعراض عن الأمور والاعتقادات اتساعا، ومجازا. هذا؛ وتولى الشيء: باشره بنفسه، ومنه قول عبيد الله بن قيس الرقيات في مصعب بن الزبير-رضي الله عنهما:[الطويل]

تولّى قتال المارقين بنفسه

وقد أسلماه مبعد وحميم

الإعراب: {فَإِنْ:} الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {تَوَلَّوْا:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة في محل جزم فعل الشرط، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، انظر الشرح، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وعلى هذا في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة. وقيل:{تَوَلَّوْا:} مضارع أصله: تتولوا فحذفت إحدى التاءين، وعليه فلا التفات في الكلام. تأمل. وعليه فعلامة الجزم حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة. والأول: أقوى معنى، تأمل، وجواب الشرط محذوف، التقدير: فلا لومك عليك، ونحوه، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. {فَإِنَّما:} الفاء: حرف تعليل. (إنما): كافة ومكفوفة. {عَلَيْكَ:} متعلقان

ص: 239

بمحذوف خبر مقدم. {الْبَلاغُ:} مبتدأ مؤخر. {الْمُبِينُ:} صفة البلاغ، والجملة الاسمية لا محل لها؛ لأنها تعليلية. تأمل.

{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83)}

الشرح: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها:} لقد اختلف في هذه النعمة، فقيل: هي محمد صلى الله عليه وسلم وإنكار هذه النعمة عدم تصديقه والإيمان به. وقيل: هي ما عدّد الله في هذه السورة من نعم، وإنكارها. قولهم: ورثناها عن آبائنا، أو قولهم: هي بشفاعة آلهتنا. وقيل: غير ذلك.

{وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ} أي: الجاحدون نعم الله تعالى عنادا، وبطرا، وذكر الأكثر إما لأن بعضهم لم يعرف الحق لنقصان عقله، أو لتقصيره في النظر، أو لم تقم عليه الحجة؛ لأنه لم يبلغ حد التكليف، أو؛ لأنه يقام مقام الكل، كما في قوله تعالى:{أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} . هذا؛ وانظر: {الْكافِرُونَ} في الآية رقم [37] من سورة (يوسف) عليه السلام. وانظر شرح: {ثُمَّ} في الآية رقم [35].

الإعراب: {يَعْرِفُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {نِعْمَتَ:} مفعول به، وهو مضاف. و {اللهِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، وهذا على اعتبار {تَوَلَّوْا} ماضيا، والرابط: الضمير فقط، وهي مستأنفة على اعتباره مضارعا. {ثُمَّ:} حرف عطف. {يُنْكِرُونَها:} مضارع، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. {وَأَكْثَرُهُمُ:} الواو: واو الحال.

(أكثرهم): مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة. {الْكافِرُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم

إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)}

الشرح: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} أي: واذكر يوم نبعث من كل أمة شهيدا يشهد عليهم بالإيمان، أو بالكفر، فهو مثل قوله تعالى من سورة (النساء) رقم [41]:{فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} انظرها هناك تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، والمراد: رسول كل أمة يشهد يوم القيامة على أمته بالإيمان، أو بالكفر، وهو أعدل شاهد عليها. {ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي: في الاعتذار، والكلام كما في قوله تعالى في سورة (المرسلات). {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} وانظر ما ذكرته في الآية رقم [92] من سورة (الحجر). وقيل: لا يؤذن لهم بالرجوع إلى دار الدنيا ليتوبوا، ويؤمنوا. {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي: لا يكلفون أن يرضوا ربهم؛ لأن

ص: 240

الآخرة ليست بدار تكليف، ولا يرجعون إلى الدنيا، فيتوبون. هذا؛ والاستعتاب طلب العتاب، والمعتبة هي الغلظة والموجدة التي يجدها الإنسان في نفسه على غيره، والرجل إنما يطلب العتاب من خصمه ليزيل ما في نفسه عليه من الموجدة والغضب، ويرجع إلى الرضا عنه، وإذا لم يطلب العتاب من خصمه دلّ ذلك على أنه ثابت على غضبه عليه، قال النابغة الذبياني:[الطويل]

فإن كنت مظلوما، فعبدا ظلمته

وإن كنت ذا عتبى، فمثلك يعتب

وانظر ما ذكرته في الآية رقم [57] من سورة (الروم)، ففيها فضل بيان.

الإعراب: {وَيَوْمَ:} الواو: حرف استئناف. (يوم): ظرف زمان متعلق بفعل محذوف، التقدير: اذكر يوم، أو هو مفعول به، وهو الأقوى. {نَبْعَثُ:} مضارع، وفاعله مستتر تقديره:

«نحن» . {مِنْ كُلِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {شَهِيداً..} .

إلخ، و {كُلِّ:} مضاف، و {أُمَّةٍ:} مضاف إليه. {شَهِيداً:} مفعول به، وجملة:{نَبْعَثُ..} .

إلخ في محل جر بإضافة يوم إليها. {ثُمَّ:} حرف عطف. {لا:} نافية. {يُؤْذَنُ:} مضارع مبني للمجهول. {لِلَّذِينَ:} متعلقان بنائب فاعله، وجملة:{كَفَرُوا:} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{لا يُؤْذَنُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية مهملة. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُسْتَعْتَبُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر أيضا.

{وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)}

الشرح: {وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: ظلموا أنفسهم بالكفر، والمعاصي. {الْعَذابَ} أي:

عذاب النار. {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} أي: العذاب. {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} أي: يؤخرون، ولا يمهلون.

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف عطف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {رَأَى:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل. {ظَلَمُوا:} ماض، وفاعله والألف للتفريق. {الْعَذابَ:} مفعول به، وجملة:{ظَلَمُوا} مع المفعول المحذوف صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{رَأَى..} . إلخ في محل جر بإضافة إذا إليها على المشهور المرجوح. {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب (إذا). (لا): نافية.

{يُخَفَّفُ:} مضارع مبني للمجهول، ونائب فاعله يعود إلى العذاب، {عَنْهُمْ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:{فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} جواب (إذا) لا محل لها، ونقل الجمل عن السمين وجوب

ص: 241

تقدير مبتدأ محذوف؛ أي: فهو لا يخفف لأجل أن تكون الجملة اسمية، ويصح اقترانها بالفاء؛ لأن المضارعية لا يصح قرنها بها. انتهى. والسبب في ذلك؛ لأنها تصلح لأن تكون جوابا، وإذا كان الشرط جازما، يظهر الجزم على آخر المضارع. تأمل. وجملة:{فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ..} .

إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، أو هو مستأنف، لا محل له. {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} إعراب هذه الجملة مثل إعراب:{وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} بلا فارق، والجملة الاسمية معطوفة على جواب (إذا) لا محل لها مثله.

{وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86)}

الشرح: {وَإِذا رَأَى..} . إلخ: أي: إذا رأى الكافرون المشركون أصنامهم التي عبدوها في الدنيا من دون الله تعالى، وذلك أن الله يبعث تلك الأصنام والمعبودين، فيتبعهم المشركون حتى يوردوهم النار، فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى يوم القيامة: «من كان يعبد شيئا فليتّبعه، فيتّبع من كان يعبد القمر القمر، ويتّبع من كان يعبد الطواغيت الطّواغيت» .

خرجه مسلم. وفي رواية أخرى للترمذي من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «فيمثّل لصاحب الصّليب صليبه، ولصاحب التّصاوير تصاويره، ولصاحب النار ناره، فيتّبعون ما كانوا يعبدون» . هذا؛ والتعبير بالماضي عن المستقبل، إنما هو لتحقق وقوعه. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [21] من سورة (إبراهيم) صلّى الله على نبينا، وعليه وسلم. {قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ..}. إلخ: أي: يقول المشركون: هؤلاء آلهتنا الذين كنا نعبدهم ونقدسهم من دونك يا الله. {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ..} . إلخ أي: رد المعبودون على عابديهم، وأجابوهم بأنكم كاذبون في تسميتنا آلهة، وما دعوناكم إلى عبادتنا، وهو كقوله تعالى في سورة (مريم):{كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} الآية رقم [83]، وانظر رد الشيطان على أتباعه في الآية رقم [22] من سورة (إبراهيم) على نبينا وعليه ألف صلاة، وأزكى سلام.

تنبيه: الأصنام التي عبدوها جمادات لا تنطق، فلا يبعد أن يبعثها الله تعالى، ويعيدها في الآخرة، ويخلق فيها الحياة، والنطق، والعقل، ويراها الكفار الذين عبدوها. وهي في غاية الذلة، والمهانة، والحقارة. فيزدادون بذلك غما، وحسرة، وندامة، والله على كل شيء قدير.

هذا؛ وأطلق الله على الأصنام اسم الشركاء لأمرين: أحدهما: أن المشركين يشركونها مع الله في العبادة، والتعظيم، والتقديس، وثانيهما: أنهم يشركونها معهم في الأموال، والأنعام، والزروع، انظر الآية رقم [138] من سورة (الأنعام) وما بعدها.

الإعراب: {وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ} انظر الآية السابقة. {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {رَبَّنا:} منادى حذف منه أداة النداء، و (نا): في محل جر بالإضافة من

ص: 242

إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {هؤُلاءِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {شُرَكاؤُنَا:} خبر المبتدأ، و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية مع الجملة الندائية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} .

إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله لا محل له مثله.

{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع صفة شركاؤنا. {كُنّا:} ماض ناقص مبني على السكون. و (نا): اسمه. {نَدْعُوا:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» والجملة الفعلية في محل نصب خبر كنا، وجملة:

{كُنّا..} . إلخ صلة الموصول، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: الذين كنا ندعوهم. {مِنْ دُونِكَ:}

متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب المحذوف، والكاف في محل جر بالإضافة.

{فَأَلْقَوْا:} الفاء: حرف استئناف. (ألقوا): ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة التي هي فاعله، والألف للتفريق. {إِلَيْهِمُ:} متعلقان بما قبلهما. و {الْقَوْلَ:} مفعول به. {إِنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه. {لَكاذِبُونَ:}

خبر إن مرفوع

إلخ، واللام هي المزحلقة، والجملة الاسمية:{إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ} في محل نصب مقول القول للمصدر، وجملة:{فَأَلْقَوْا..} . إلخ مستأنفة؛ لأنها بمنزلة جواب لسؤال مقدر، فكأنّ سائلا سأل: ما كان جواب الشركاء؟ قيل: {فَأَلْقَوْا..} . إلخ.

{وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87)}

الشرح: {وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} أي: استسلم المشركون لأمر الله، وانقادوا لحكمه بعد الاستكبار في الدنيا. وقيل: استسلم العابد، والمعبود لحكم الله تعالى. {وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} أي: غاب عنهم ما كانوا يفترون، ويكذبون من أن الأصنام تنصرهم، وتشفع لهم، وذلك بعد أن كذبوهم، وتبرءوا منهم. وانظر استسلام الكافرين عند الموت في الآية رقم [28] والتعبير بالماضي عن المستقبل هو كما في الآية السابقة.

هذا؛ و {يَوْمَئِذٍ:} ظرف زمان، وتنوين (إذ) فيه عوض عن جملة محذوفة، تضاف (إذ) إليها في الأصل، فإن الأصل:«يوم إذا يرى المشركون شركاءهم، ويحصل ما بينهم من المخاطبة» ، فحذفت الجملة الفعلية، وعوض عنها التنوين، وكسرت (إذ) لالتقاء الساكنين، كما كسرت في:

صه، ومه عند تنوينهما، ومثل ذلك قل في: حينئذ، وساعتئذ، ونحوهما، و (ضلّ) معناه هنا:

غاب، كما رأيت، وأكثر استعماله في القرآن الكريم بمعنى: كفر وخرج عن جادة الحق والصواب، وهو ضد «اهتدى» و «استقام» ، وضل الشيء: ضاع، وهلك، وضل: أخطأ، ولولا هذا المعنى لكفر أولاد يعقوب بقولهم لأبيهم:{تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} وقولهم

ص: 243

في غيبته: {إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وضلّ: تحيّر، وهو أقرب ما يفسر به قوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم:

{وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى} .

هذا؛ وأصل (ألقوا) قبل دخول واو الجماعة (ألقي) فقل في إعلاله: تحركت الياء، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فلما اتصلت به واو الجماعة صار (ألقاوا) فالتقى ساكنان: ألف العلة وواو الجماعة، وحرف العلة أولى بالحذف من الضمير، فحذف حرف العلة، وبقيت الفتحة على القاف دليلا على الألف المحذوفة. ويقال في إعلاله أيضا: ردّت الألف لأصلها عند اتصاله بواو الجماعة، فصار:(ألقيوا) فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصارت ألفا، فالتقى ساكنان: ألف العلة

إلخ، كما يقال أيضا: ردّت الألف لأصلها عند اتصاله بواو الجماعة، فصار (ألقيوا) فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان: ياء العلة، وواو الجماعة، فحذفت ياء العلة

إلخ، وما ذكرته يجري في إعلال كل فعل ناقص، اتصل به واو الجماعة، مثل نجا، ورمى، وسعى، ودعا، وغزا

إلخ، تنبه لذلك، واحفظه.

هذا؛ وإذا ولي الواو ساكن مثل {رَأَوُا الْعَذابَ،} ونحوه تحرك الواو بالضمة، ولم تحرك بالكسرة لأن الكسرة لا تناسبها. وقيل: حركت بالضم دون غيره، ليفرق بين الواو الأصلية وبين واو الجماعة في نحو قولك:(لو اجتهدت لنجحت) وقيل: ضمت؛ لأن الضمة هنا أخف من الكسرة؛ لأنها من جنس الواو. وقيل: حركت بحركة الياء المحذوفة. وقيل: غير ذلك.

الإعراب: {وَأَلْقَوْا:} الواو: حرف عطف. (ألقوا): انظر إعرابه في الآية السابقة. {إِلَى اللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {يَوْمَئِذٍ:} ظرف زمان متعلق بما قبله أيضا، وإذ ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وحرك بالكسر لالتقاء الساكنين. وانظر ما ذكرته في الشرح. {السَّلَمَ:} مفعول به، وجملة:{وَأَلْقَوْا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. (ضل): ماض. {عَنْهُمْ:} متعلقان به. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأول، والثاني: مبنية على السكون في محل رفع فاعل، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: ضل عنهم الذي، أو شيء كانوا يفترونه، وعلى اعتبار {ما} مصدرية تؤوّل مع ما بعدها بمصدر في محل رفع فاعل، التقدير:

ضلّ عنهم افتراؤهم، والجملة الفعلية هذه معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. هذا؛ و {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه، وجملة:{يَفْتَرُونَ} في محل نصب خبر كان.

{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88)}

الشرح: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ} أي: أضافوا إلى كفرهم منعهم الناس عن الدخول في الإسلام، والإيمان بالله، ورسوله، انظر شرح (المقتسمين) في الآية رقم [90] من

ص: 244

سورة (الحجر). {زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ..} . إلخ: وهذه الزيادة بسبب صدهم الناس عن الإسلام بالإضافة لما يستحقونه من العذاب على كفرهم الأصلي، وقد اختلفوا في هذه الزيادة ما هي؟.

فقال عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه: عقارب لها أنياب كأمثال النخل الطوال. وقال سعيد بن جبير-رضي الله عنه-حيات كالبخت، وعقارب أمثال البغال، تلسع إحداهن اللسعة، فيجد صاحبها ألمها أربعين خريفا. وقال ابن عباس، ومقاتل-رضي الله عنهما: خمسة أنهار من صفر مذاب كالنار تسيل، يعذبون فيها ثلاثة على مقدار الليل، واثنان على مقدار النهار.

وقيل: إنهم يخرجون من حر النار إلى برد الزمهرير، فيبادرون من شدة الزمهرير إلى النار مستغيثين بها. وقيل: يضاعف لهم العذاب، ضعفا بسبب كفرهم، وضعفا بسبب صدّهم الناس عن سبيل الله. انتهى. خازن. وإفسادهم: هو صدّهم النّاس عن الإسلام.

الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {كَفَرُوا:} ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {زِدْناهُمْ:} ماض، وفاعله، ومفعوله الأول. {عَذاباً:} مفعول به ثان. {فَوْقَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صفة {عَذاباً،} و {فَوْقَ:} مضاف، و {الْعَذابِ:} مضاف إليه، وجملة:

{زِدْناهُمْ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. هذا؛ وأجيز اعتبار {الَّذِينَ} بدلا من واو الجماعة، كما أجيز اعتباره منصوبا بفعل محذوف، التقدير: أذم. واعتباره خبرا لمبتدإ محذوف وجوبا، التقدير: هم الذين. وعلى الوجوه الثلاثة فجملة: {زِدْناهُمْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، والوجه الأول: هو المعتمد، والواضح.

{بِما:} الباء: حرف جر. (ما): مصدرية. {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{يُفْسِدُونَ} في محل نصب خبر {كانُوا} و (ما) وما بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالباء. والجار والمجرور متعلقان بالفعل {زِدْناهُمْ،} التقدير: زدناهم

بسبب إفسادهم. هذا؛ واعتبار (ما) موصولة، أو موصوفة ضعيف معنى. تأمل، وتدبر.

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)}

الشرح: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ..} . إلخ انظر الآية رقم [84] وفي هذا تكرير لزيادة التهديد، وشدة التحذير من ذلك اليوم على وجه، يزيد على ما أفهمته الآية السابقة، وهو أنّ الشهادة تقع على الأمم لا لهم، وتكون بحضرتهم. {وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ} أي: جئنا بك يا محمد شهيدا على قومك الذين كذبوك، وعادوك، وأخرجوك من بلدك مكة. والتعبير بالماضي عن المستقبل

ص: 245

لتحقق وقوعه، وقد ذكرته كثيرا. {وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ..}. إلخ: أي: ونزلنا عليك القرآن مبينا، وموضحا لكل شيء تحتاجه من أمور الدين والدنيا، وهو مثل الآية رقم [12] من سورة (الإسراء). {وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ} أي: رشدا وبيانا، وهداية من الضلالة، ونعمة شاملة لمن قرأ القرآن، وانتفع به. وخص المسلمين بالذكر؛ لأنهم هم الذين ينتفعون بالقرآن وتعاليمه. وانظر الآية رقم [111] من سورة (يوسف) عليه السلام؛ تجد ما يسرك.

هذا؛ والتبيان مصدر، ولم يجئ من المصادر على هذه الزنة إلا لفظان: هذا؛ والتلقاء، وهو في الأسماء كثير، نحو التمثال، والتمساح.

هذا؛ وقد قال تعالى في هذه الآية: {وَنَزَّلْنا} وقال في كثير من الآيات: {أَنْزَلْنا} وهو يفيد أن القرآن نزل مفرقا في ثلاث وعشرين سنة على حسب الوقائع، ومقتضيات الأحوال، على ما نرى عليه أهل الشعر، والخطابة، وهذا ممّا يريبهم، كما حكى سبحانه وتعالى ذلك عنهم:

{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً} فبين سبحانه الحكمة من ذلك بقوله:

{كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً} .

تنبيه: اعتبار القرآن تبيانا لكل شيء، إما في نفسه كما هو مشاهد وموجود في كثير من الآيات، وإما بإحالته على السّنّة؛ أي: على الأحاديث الشريفة لقوله تعالى: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وانظر ما ذكرته في الآية رقم [44] و [64]، أو بإحالته على الإجماع، كما قال تعالى:{وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ..} .

إلخ، أو على القياس، كما قال تعالى:{فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ} والاعتبار: النظر، والاستدلال، اللذان يحصل بهما القياس، فهذه أربعة طرق، لا يخرج شيء من أحكام الشريعة عنها، وكلها مذكورة في القرآن، فكان تبيانا لكل شيء، فاندفع ما قيل: كيف قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ} ونحن نجد كثيرا من أحكام الشريعة لم يعلم من القرآن نصّا، كعدد ركعات الصلوات، ومدة المسح والحيض، ومقدار حد الشرب، ونصاب السرقة، وغير ذلك، ومن ثمّ اختلف الأئمة في كثير من الأحكام. انتهى. جمل نقلا من كرخي، بتصرف كبير مني.

الإعراب: {وَيَوْمَ:} الواو: حرف استئناف. (يوم): ظرف زمان متعلق بفعل محذوف، التقدير: اذكر يوم، أو هو مفعول به. {نَبْعَثُ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {فِي كُلِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {كُلِّ:} مضاف، و {أُمَّةٍ:} مضاف إليه. {شَهِيداً:} مفعول به.

{عَلَيْهِمْ:} متعلقان ب: {شَهِيداً} . {مِنْ أَنْفُسِهِمْ:} متعلقان بمحذوف صفة {شَهِيداً،} والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{نَبْعَثُ..} . إلخ في محل جر بإضافة (يوم) إليها. (جئنا): فعل، وفاعل. {بِكَ:} متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به. {شَهِيداً:} حال من الكاف. {عَلى:} حرف جر. {هؤُلاءِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل جر بعلى، والهاء

ص: 246

حرف تنبيه لا محل له، والجار والمجرور متعلقان ب:{شَهِيداً،} أو بمحذوف صفة له، وجملة:

{وَجِئْنا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها، والكلام:{وَيَوْمَ نَبْعَثُ..} . إلخ كله مستأنف. {وَنَزَّلْنا:} الواو: حرف استئناف. (نزلنا): فعل، وفاعل. {عَلَيْكَ:} متعلقان بما قبلهما. {الْكِتابَ:} مفعول به. {اِجْتَبَيْنا:} حال من الكتاب، أو هو مفعول لأجله، وهو أقوى.

{لِكُلِّ:} متعلقان ب: {اِجْتَبَيْنا؛} لأنه مصدر، و (كل): مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه. {وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى:} هذه الأسماء معطوفة على {اِجْتَبَيْنا،} فهي مثله حالا. {لِلْمُسْلِمِينَ:} متعلقان بأحد الأسماء الثلاثة، أو بمحذوف صفة لواحد منها، وذلك على التنازع، وجملة:{وَنَزَّلْنا..} .

إلخ: مستأنفة. واعتبارها معطوفة على ما قبلها يخل بالمعنى؛ لأن التنزيل حصل في الدنيا، وأما البعث وما بعده لا يحصلان إلا في الآخرة. تأمل، وتدبر.

{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)}

الشرح: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} أي: بالتسوية في الحقوق فيما بينكم، وترك الظلم، وإيصال كل ذي حق إلى حقّه. انتهى. نسفي. وهذا أحسن ما قيل في تفسيره من أقوال كثيرة.

هذا؛ وفسره البيضاوي بالتوسط وبالاعتدال في الأمور اعتقادا كالتوحيد المتوسط بين التعطيل والتشريك، والقول بالكسب المتوسط بين محض الجبر، والقدر، وعملا كالتعبد بأداء العبادات الواجبات المتوسط بين البطالة، والترهب، وخلقا كالجود المتوسط بين البخل، والتبذير.

{وَالْإِحْسانِ} أي: إلى من أساء إليكم عملا بقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ} وقيل في تفسير العدل والإحسان: فالأول: المفروض من العبادات، والثاني:

المندوب منها؛ لأن الفرض لا بد أن يقع فيه نقص، أو تفريط، فيجبره الندب، ويعضده قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنّ أوّل ما افترض الله على الناس من دينهم الصلاة، وآخر ما يبقى الصلاة، وأوّل ما يحاسب به الصّلاة، ويقول الله: انظروا في صلاة عبدي، فإن كانت تامّة؛ كتبت تامّة، وإن كانت ناقصة؛ يقول: انظروا هل لعبدي من تطوّع؟ فإن وجد له تطوّع؛ تمّت الفريضة من التطوع، ثم قال: انظروا هل زكاته تامة؟ فإن كانت تامة؛ كتبت تامة، وإن كانت ناقصة؛ قال: انظروا هل له صدقة؟ فإن كانت له صدقة؛ تمّت له زكاته» . رواه أبو يعلى عن أنس-رضي الله عنه.

هذا؛ وفسر الإحسان بالإخلاص، وهو مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام:

«الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» . والإحسان يفسر بحبّ الخير للناس كما يحبّه المرء لنفسه، ويكره لهم ما يكرهه لنفسه، فإن كان أحدهم مؤمنا؛ يحبّ أن يزداد أخوه إيمانا، وطاعة لربه، وإن كان أحدهم كافرا؛ يحبّ أن يكون أخاه في الإسلام مؤمنا مثله.

ص: 247

{وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى:} إعطاء ذوي القرابات شيئا من المال، إن كان المرء في سعة، وهم محتاجون، فإن لم يكن أحدهما، أو كلاهما؛ فدعاء حسن، وتودد، وزيارة، ومثله قوله تعالى في سورة (الإسراء):{وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ} الآية رقم [26]، وينبغي أن تعلم أن {ذِي} بمعنى:

صاحب، ويجمع جمع تكسير (ذوين وذوون) وتحذف نونهما للإضافة، ويجمع على غير لفظه (أولون وأولين) وهو كثير مثل أولو الألباب، ونحوه.

{وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ} أي: الزنى، ويدخل تحته ما قبح من الأقوال والأفعال، والأخلاق المذمومة جميعها، و {وَالْمُنْكَرِ:} هو ما استقبحه الشرع والعقل، والفطرة السليمة، وهو يعم جميع الرذائل والمعاصي والدناءات على اختلاف أنواعها، وتفاوت مراتبها، وتباين درجاتها، والمعروف بعكسه، وقد شرحتهما في غير ما آية.

{وَالْبَغْيِ:} هو الظلم والاعتداء على حق غيرك، وعواقبه ذميمة. ومآل الباغي وخيم، وعقباه أليمة، ولو أن له جنودا بعدد الحصى والرمل والتراب، ورحم الله من يقول:[البسيط]

لا يأمن الدهر ذو بغي ولو ملكا

جنوده ضاق عنها السّهل والجبل

وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تمكر، ولا تعن ماكرا، ولا تبغ، ولا تعن باغيا، ولا تنكث، ولا تعن ناكثا» . وقال تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ} وقال: {يا أَيُّهَا النّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ} وقال: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ} وقال أبو بكر الصديق-رضي الله عنه:

(ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه)، وتلا الآيات الثلاث. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أسرع الخير صلة الرّحم، وأعجل الشّرّ البغي، واليمين الفاجرة» . وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-أنه قال:

«لو بغى جبل على جبل لدكّ الباغي» ورحم الله من يقول: [البسيط]

يا صاحب البغي، إنّ البغي مصرعة

فاربع فخير مقال المرء أعدله

فلو بغى جبل يوما على جبل

لاندكّ منه أعاليه وأسفله

وكان المأمون العباسي يتمثل بهذين البيتين في أخيه الأمين حين ابتدأ بالبغي عليه، قال الشاعر الحكيم:[مجزوء الكامل]

والبغي يصرع أهله

والظّلم من مرتعه وخيم

هذا؛ وانظر أنواع الظلم في رسالة: (الحج والحجاج في هذا الزّمن) وأقبح أنواع الظلم أن يظلم الإنسان نفسه بارتكاب المعاصي، والسيئات، فيسبب لها الخلود في جهنم.

{يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي: إنما أمركم بما أمركم به، ونهاكم عما نهاكم عنه في هذه الآية؛ لكي تتعظوا، وتتذكروا. فتعملوا بما فيه رضا الله تعالى، قال ابن مسعود-رضي الله عنه: إن أجمع آية في القرآن لخير وشرّ هذه الآية، وكانت هذه الآية سببا لإسلام عثمان بن

ص: 248

مظعون-رضي الله عنه، ولو لم يكن في القرآن غير هذه الآية؛ لصدق عليه أنه تبيان لكلّ شيء، وهدى ورحمة للعالمين.

قال عكرمة: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على الوليد بن المغيرة: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ..} . إلخ فقال: يا ابن أخي أعد عليّ، فأعادها عليه، فقال: والله إنّ له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وأعلاه لمورق-أو لمثمر-وما هو بقول بشر! وذكر الغزنوي أنّ عثمان بن مظعون هو القارئ. انتهى. قرطبي. وانظر مثل هذا الترجي في الآية رقم [78].

تنبيه: يروى: أن الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز-رضي الله عنه-قد أمر بتلاوة هذه الآية بدلا من القذف الذي كان يعقب خطبة الجمعة بالإمام علي بن أبي طالب-رضي الله عنه، وكرم الله وجهه. وفي الآية الكريمة من البلاغة ما فيها، مثل الإيجاز الموفي بالمعنى، والتقسيم، والطباق اللفظي، والمقابلة، وحسن النسق، وتآلف الألفاظ، والمعاني، والمساواة بينهما، وكل ذلك يظهر بأدنى تأمل، {فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ} .

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {يَأْمُرُ:} مضارع، وفاعله يعود إلى (الله)، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ}. {بِالْعَدْلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما.

{وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ:} معطوفان على العدل، و (إيتاء) مضاف، و {ذِي} مضاف إليه، مجرور وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، وهذه الإضافة من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف و {ذِي:} مضاف، و {الْقُرْبى:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، وجملة:{وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{يَعِظُكُمْ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (الله)، والكاف في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل ينهى المستتر، والرابط: الضمير، ويجوز اعتبار الجملة مستأنفة، لا محل لها. وانظر إعراب مثل {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ومحلها في الآية رقم [81].

{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91)}

الشرح: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ:} قال القرطبي: لفظ عام لجميع ما يعقد باللسان، ويلتزمه الإنسان من بيع، أو صلة، أو مواثقة في أمر موافق للديانة، وهذه الآية مضمون قوله:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ..} . إلخ؛ لأن المعنى فيها: افعلوا كذا واتركوا كذا، فعطف على ذلك التقدير. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [22] من سورة (الرّعد). تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. {إِذا عاهَدْتُمْ}

ص: 249

أي: الله، أو الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أي مخلوق من الناس. فحذف المفعول للتعميم. {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ} أي: العهود والمواثيق التي تعطونها الناس، وتقطعونها على أنفسكم. وقيل: المراد بالأيمان:

جمع اليمين، وهو الحلف بالله والقسم به، وهو يشمل النذور التي ينذرها المسلم لله تعالى. {بَعْدَ تَوْكِيدِها:} تشديدها، وتغليظها. هذا؛ ويقال: تأكيدها بإبدال الواو همزة، وهما لغتان في الاستعمال سواء مثل:«ورّخت الكتاب، وأرّخته» .

{وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً:} شاهدا. ويقال: حافظا. ويقال: ضامنا. وفي الكلام استعارة، أو مجاز مرسل. {إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ:} من نقض العهد والوفاء به. هذا؛ وانظر شرح لفظ الجلالة في الآية رقم [31]، وشرح (الأيمان) في الآية رقم [38]، والفعل:{يَعْلَمُ} من المعرفة، انظر الآية رقم [74].

الإعراب: {وَأَوْفُوا:} الواو: حرف استئناف، أو حرف عطف. انظر الشرح. (أوفوا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:(امضوا) في الآية رقم [65] من سورة (الحجر). {بِعَهْدِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، و (عهد): مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {إِذا:} ظرف زمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل قبله. {عاهَدْتُمْ:} فعل، وفاعل. وانظر إعراب (حفظنا) في الآية رقم [17] من سورة (الحجر)، والمفعول محذوف، انظر الشرح، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا:} إليها، وجملة:{وَأَوْفُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، أو هي معطوفة على كلام مقدر انظر الشرح. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية. {تَنْقُضُوا:} مضارع مجزوم ب: (لا)، وعلامة جزمه حذف النون

إلخ. والواو فاعله، والألف للتفريق. {الْأَيْمانَ:} مفعول به.

{بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، و {بَعْدَ:} مضاف، و {تَوْكِيدِها:} مضاف إليه، و (ها): في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، وجملة:{وَلا تَنْقُضُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {وَقَدْ:} الواو: واو الحال. (قد):

حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {جَعَلْتُمُ:} فعل، وفاعل. {اللهِ:} منصوب على التعظيم. {عَلَيْكُمْ:} متعلقان ب: {كَفِيلاً} بعدهما. {كَفِيلاً:} مفعول به ثان، أو هو حال من لفظ الجلالة، وجملة:{وَقَدْ جَعَلْتُمُ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط:

الواو والضمير. {الْأَيْمانَ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهِ:} اسمها. {يَعْلَمُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (الله). {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: يعلم الذي، أو شيئا تفعلونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: يعلم فعلكم. والجملة الفعلية في محل رفع خبر {الْأَيْمانَ،} والجملة الاسمية تعليل للنهي، أو هي مستأنفة، لا محل لها.

ص: 250

{وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)}

الشرح: {وَلا تَكُونُوا} أي: ناقضي العهد، أو في نقضه. {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} أي: من بعد إبرامه، وإحكامه، قال الكلبي، ومقاتل-رحمهما الله تعالى-: هذه امرأة من قريش، يقال لها: ريطة بنت عمرو بن سعد بن كعب بن زيد مناة بن تميم، وكانت خرقاء حمقاء، بها وسوسة، وكانت قد اتخذت مغزلا قدر ذراع، وصنارة مثل الإصبع، وفلكة عظيمة على قدرها، وكانت تغزل الغزل من الصوف، أو الشعر، أو الوبر، وتأمر جواريها بالغزل، فكن يغزلن من الغداة إلى نصف النهار، فإذا انتصف النهار أمرتهن بنقض جميع ما غزلن، فكان هذا من دأبها. والمعنى: أن هذه المرأة لم تكف عن العمل، ولا حين عملت كفت عن النقض، فكذلك من نقض العهد، لا تركه، ولا حين عاهد وفى به. انتهى. خازن.

{أَنْكاثاً:} جمع نكث، والنّكث والنقض بمعنى، المفعول بكسر النون، والمصدر:

النّكث بفتح النون، ومعنى {أَنْكاثاً} جعل الغزل طاقات. {تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} أي:

تتخذون العهود، والمواثيق التي تبرمونها مع غيركم خداعا، وخيانة، وغشّا، ولفّا، ودورانا، ومكرا. هذا؛ والدخل، والدّخن، والدّغل بمعنى: واحد تقريبا.

{أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ:} والمعنى: لا تنقضوا ما أبرمتم من العهود، من أجل أن تكون قبيلة أقوى شكيمة من القبيلة التي عاهدتموها، قال مجاهد-رحمه الله تعالى-: وذلك: أنهم كانوا يحالفون الحلفاء فإذا وجدوا قوما أكثر من ذلك، وأعز؛ نقضوا حلف هؤلاء، وحالفوا الأكثر. {إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ} أي: يختبركم بما أمركم به من الوفاء بالعهد، وهو أعلم بكم.

وقيل: الخطاب للمسلمين، والمعنى: إنما يختبركم بكون قريش أقوى منكم لينظر أتتمسكون بما عاهدتم الله ورسوله، أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم، وتنفرون من قلة المؤمنين، وفقرهم.

{وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ..} . إلخ: أي: في الدنيا من مصدّق بالبعث، والحساب، ومكذّب بذلك، فحينئذ يثبت المصدق الطائع، ويعاقب المكذب المسيء المخالف.

بعد هذا انظر شرح: {أُمَّةٌ} في الآية رقم [36] وشرح (يبين) في الآية رقم [44] وشرح {الْقِيامَةِ} في الآية رقم [25] وإعلال كنتم في الآية [43].

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تَكُونُوا:} مضارع ناقص مجزوم ب: (لا)، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو اسمه، والألف

ص: 251

للتفريق. {كَالَّتِي:} متعلقان بمحذوف خبر {تَكُونُوا} . هذا؛ وإن اعتبرت الكاف اسما بمعنى:

مثل فهي الخبر، وتكون مضافة، و (التي) اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة.

{نَقَضَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى (التي). {غَزْلَها:} مفعول به، و (ها):

في محل جر بالإضافة. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:

{غَزْلَها،} و {بَعْدِ:} مضاف، و {قُوَّةٍ:} مضاف إليه، {أَنْكاثاً:} حال من {غَزْلَها،} أو هو مفعول به ثان على تضمين {نَقَضَتْ} معنى: صيرت، وجوز الزجاج فيه وجها ثالثا، وهو النصب على المصدرية؛ لأن معنى {نَقَضَتْ} نكثت، فهو مطابق لعامله في المعنى. وقيل: منصوب بفعل محذوف، التقدير: فجعلته أنكاثا، وجملة:{نَقَضَتْ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{وَلا تَكُونُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: (أوفوا

) إلخ لا محل لها مثلها.

{تَتَّخِذُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {أَيْمانَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {دَخَلاً:} مفعول به ثان. وقال مكي: مفعول لأجله، وليس بالقوي. تأمل.

{بَيْنَكُمْ:} ظرف مكان متعلق ب: {دَخَلاً،} أو بمحذوف صفة له، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{تَتَّخِذُونَ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، أو من الضمير المستتر في متعلق {كَالَّتِي} واعتبارها خبرا ثانيا للفعل الناقص أجود. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {تَكُونَ:} مضارع منصوب ب: {أَنْ} . {أُمَّةٌ:} فاعل {تَكُونَ} على تمامه، واسمه على نقصانه. {هِيَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {أَرْبى:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف. {مِنْ أُمَّةٍ:} متعلقان ب {أَرْبى؛} لأنه صيغة تفضيل. والجملة الاسمية: {هِيَ..} . إلخ في محل رفع صفة {أُمَّةٌ،} أو هي في محل نصب خبر تكون على نقصانه. هذا؛ والكوفيون يجوزون اعتبار {هِيَ} فصلا، فيكون (أربى) صفة {أُمَّةٌ،} أو خبر {تَكُونَ،} والبصريون لا يجوزونه؛ لأن ما قبله نكرة، ولو كان معرفة؛ لجاز بالاتفاق، والمصدر المؤول من:{أَنْ تَكُونَ..} . إلخ في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: لكون أمة

إلخ، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {تَتَّخِذُونَ}. وهو عند البصريين على تقدير:

مضاف، واقع مفعولا لأجله، التقدير: مخافة أن تكون

إلخ، وعند الكوفيين، التقدير:

لئلا تكون

إلخ. {إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {يَبْلُوكُمُ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو، والكاف مفعول به. {اللهُ:} فاعله. {بِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية:{إِنَّما..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَلَيُبَيِّنَنَّ:} الواو: حرف عطف. اللام: واقعة في جواب قسم محذوف. (يبينن): مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد التي هي حرف لا محل له، والفاعل يعود إلى (الله). {لَكُمْ:} متعلقان بما قبلهما. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق به أيضا، وأجيز تعليقه بمحذوف حال، و {يَوْمَ} مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه. {إِنَّما:} مفعول به، وهي تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، كما في الآية السابقة واللاحقة، وباقي

ص: 252

الإعراب واضح إن شاء الله تعالى، وقد مرّ معنا كثير مثله، وجملة:{وَلَيُبَيِّنَنَّ..} . إلخ جواب قسم محذوف، والقسم المحذوف، وجوابه كلام معطوف على الجملة قبله، لا محل له مثلها.

{وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)}

الشرح: {وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً} أي: على ملة واحدة، ودين واحد، وهو الإسلام. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [118] من سورة (هود) عليه السلام، فإنه جيد جدا.

{وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ} إضلاله، وذلك بخذلانه إيّاه عدلا منه. {وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ} هدايته بتوفيقه إياه فضلا منه، وتكرما. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [29] من سورة (الرّعد)، ففيها القول الفصل. {وَلَتُسْئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: في الدنيا سؤال تبكيت، وتأنيب، ومجازاة.

فيجازي المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته، أو يغفر له. وانظر سؤال الكافرين في الآية رقم [92] من سورة (الحجر).

بعد هذا انظر شرح: {شاءَ} في الآية رقم [2] وأما (لتسألنّ) فأصله: (تسألون) فلمّا اتصلت به نون التوكيد؛ صار (لتسألوننّ) فحذفت نون الرفع لتوالي الأمثال، فصار (لتسألونّ) ثم حذفت واو الجماعة لالتقاء الساكنين، وبقيت الضمة على اللام لتدل على الواو المحذوفة، فصار (لتسألنّ).

الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {شاءَ اللهُ:} ماض، وفاعله، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:

لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَجَعَلَكُمْ:} اللام: واقعة في جواب (لو). (جعلكم أمة):

ماض ومفعولاه، والفاعل يعود إلى:{اللهُ،} والجملة الفعلية جواب (لو)، لا محل لها، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل لها. {واحِدَةً:} صفة {أُمَّةً} . {وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف. (لكن): حرف استدراك مهمل لا عمل له. {يُضِلُّ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (الله).

{مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: يضل الذي، أو شخصا يشاء الله إضلاله، والجملة الفعلية معطوفة على جواب (لو)، لا محل لها أيضا، وجملة:

{وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ} معطوفة لا محل لها أيضا. {وَلَتُسْئَلُنَّ:} الواو: حرف استئناف. اللام: واقعة في جواب قسم محذوف. (تسألن): مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة المدلول عليها بالضمة نائب فاعله، والنون حرف لا محل له، والجملة الفعلية جواب القسم المحذوف لا محل لها، والقسم، وجوابه كلام مستأنف، لا محل له. {عَمّا:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، و (ما) تحتمل

ص: 253

الموصولة والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:(عن)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير عن الذي، أو عن شيء كنتم تعملونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤوّل مع ما بعدها بمصدر في محل جر ب:(عن) التقدير: عن عملكم. {كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه، وجملة:

{تَعْمَلُونَ} في محل نصب خبر (كان). تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94)}

الشرح: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ:} انظر شرح هذه الكلمات في الآية السابقة، وهذا تصريح بالنهي عنه بعد التضمين تأكيدا، ومبالغة في قبح المنهي، قال المفسرون: وهذا في نهي الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، نهاهم عن نقض عهده؛ لأن الوعيد الذي بعده، وهو: قوله سبحانه وتعالى: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها} لا يليق بنقض عهد غيره.

{فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها:} مثل يذكر لكل من وقع في بلاء، ومحنة بعد عافية، ونعمة، أو سقط في ورطة بعد سلامة. تقول العرب لكل واقع في بلاء بعد عافية: زلت قدمه. قال الشاعر: [الطويل]

سيمنع منك السّبق إن كنت سابقا

وتقتل إن زلّت بك القدمان

وقال زهير بن أبي سلمى: [الطويل]

تداركتما عبسا وقد ثلّ عرشها

وذبيان قد زلّت بأقدامها النّعل

ولا ريب: أنه استعارة للمستقيم الحال يقع في شرّ عظيم، ويسقط فيه، والمراد: أقدام كثيرة، وإنما وحّد ونكر للدلالة على: أنّ زلل قدم واحدة عظيم، فكيف بأقدام كثيرة؟!

{وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} أي: تذوقوا العذاب في الدنيا بسبب كفركم، ومنعكم الناس من الدخول في دين الإسلام. {وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} أي: في الآخرة. هذا؛ والذوق يكون محسوسا، ومعنى، وقد يوضع موضع الابتلاء، والاختبار، تقول: اركب هذا الفرس فذقه؛ أي: اختبره. وانظر فلانا، فذق ما عنده، قال الشماخ يصف فرسا:[الطويل]

فذاق، فأعطته من اللّين جانبا

كفى ولها أن يغرق السّهم حاجز

وقد يعبّر بالذوق عمّا يطرأ على النفس، وإن لم يكن مطعوما؛ لإحساسها به كإحساسها بذوق المطعوم، قال عمر بن أبي ربيعة المخزومي:[الطويل]

فذق هجرها إن كنت تزعم أنّها

فساد ألا يا ربّما كذب الزّعم

ص: 254

وتقول: ذقت ما عند فلان؛ أي: خبرته، وذقت القوس: إذا جذبت وترها لتنظر ما شدّتها؟ وأذاقه الله وبال أمره؛ أي: عقوبة كفره، ومعاصيه، قال طفيل بن سعد الغنوي:[الطويل]

فذوقوا كما ذقنا غداة محجّر

من الغيظ في أكبادنا والتّحوّب

وتذوقته: أي: ذقته شيئا بعد شيء، وأمر مستذاق: أي: مجرب معلوم، قال الشاعر:[الوافر]

وعهد الغانيات كعهد قين

ونت عند الجعائل مستذاق

وأصله من: الذوق بالفم، و (ذوقوا) في كثير من الآيات أمر للإهانة، وفيه استعارة تبعية تخييلة وفي (العذاب) استعارة مكنية، حيث شبه العذاب بشيء يدرك بحاسة الأكل، وشبه الذوق بصورة ما يذاق، وأثبت للذوق تخييلا.

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف استئناف. (لا): ناهية جازمة. {تَتَّخِذُوا:} مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية

إلخ والواو فاعله. {أَيْمانَكُمْ:} مفعول به أول. {دَخَلاً:} مفعول به ثان.

{بَيْنَكُمْ:} ظرف مكان متعلق ب: {دَخَلاً،} أو بمحذوف صفة له، والجملة الفعلية:{وَلا تَتَّخِذُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، أو هي معطوفة على ما قبلها، والتكرير للتوكيد.

{فَتَزِلَّ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد الفاء السببية. {قَدَمٌ:} فاعل. {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، و {بَعْدَ:} مضاف، و {ثُبُوتِها:} مضاف إليه، و (ها): في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: لا يكن منكم اتخاذ

فزلّ قدم

إلخ.

(تذوقوا): مضارع معطوف على (تزل) منصوب مثله، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله.

{السُّوءَ:} مفعول به. {بِما:} الباء: حرف جر. (ما): مصدرية. {صَدَدْتُمْ:} فعل، وفاعل، والمفعول محذوف، و (ما) والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، التقدير: بصدكم الناس، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {عَنْ سَبِيلِ:} متعلقان بما قبلهما، و {سَبِيلِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {وَلَكُمْ:} الواو: واو الحال. (لكم): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر. {عَظِيمٌ:} صفته، والجملة الاسمية في محل نصب حال من تاء الفاعل، والرابط: الواو، والضمير. وإن اعتبرتها مستأنفة فلا محل لها.

{وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)}

الشرح: {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ..} . إلخ: أي: ولا تنقضوا عهودكم، وتطلبوا بنقضها عوضا من الدنيا قليلا، ولكن، أوفوا بها. هذا؛ وإنما كان عرض الدنيا قليلا؛ وإن كثر؛ لأنه ممّا

ص: 255

يزول، فهو على التحقيق قليل: وقد فسرت ذلك الآية التالية؛ حيث بينت الفرق بين حال الدنيا، وحال الآخرة بأنّ هذه تنفد، وتزول، وما عند الله من مواهب فضله، ونعيم جنته ثابت لا يزول لمن وفى بالعهد، وثبت على العقد. ولقد أحسن من قال:[الكامل]

المال ينفد حلّه وحرامه

يوما، وتبقى في غد آثامه

ليس التقيّ بمتّق لإلهه

حتّى يطيب شرابه وطعامه

وقال آخر: [الوافر]

هب الدنيا تساق إليك عفوا

أليس مصير ذاك إلى انتقال؟

وما دنياك إلاّ مثل فيء

أظلّك، ثمّ آذن بالزّوال

{إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ..} . إلخ: أي: أنّ الذي عند الله من الثواب لكم على الوفاء بالعهد خير وأفضل من حطام الدنيا العاجل. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ:} الفرق بين عرض الدنيا، وحطامها الزائل، وثواب الآخرة الباقي الدائم. هذا؛ وانظر (عهد الله) في الآية رقم [20] من سورة (الرعد). وانظر شرح:{خَيْرٌ} في الآية رقم [39] من سورة (يوسف) على نبينا، وحبيبنا، وعليه، وعلى جميع الأنبياء، والمرسلين ألف صلاة، وألف سلام.

قيل: نزلت الآية وما بعدها في امرئ القيس بن عابس الكندي، وخصمه عبدان بن أسوع، اختصما في أرض، فأراد امرؤ القيس أن يحلف، فلما سمع هذه الآية؛ نكل، وأقرّ له بحقه.

وهذا يعني: أن الآيتين مدنيتان. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

وعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحبّ دنياه أضرّ بآخرته، ومن أحبّ آخرته أضرّ بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى» .

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية. {تَشْتَرُوا:} مضارع مجزوم ب: (لا)، وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بِعَهْدِ:} متعلقان بما قبلهما، و (عهد) مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {ثَمَناً:} مفعول به. {قَلِيلاً:} صفته، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {إِنَّما:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل. (ما):

اسم موصول مبني على السكون في محل نصب اسمها. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة (ما)، و {عِنْدَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {هُوَ:} مبتدأ. {خَيْرٌ:} خبره. {لَكُمْ:}

متعلقان ب: {خَيْرٌ} والجملة الاسمية: {هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} في محل رفع خبر (إنّ)، وجملة:

{إِنَّما..} . إلخ تعليل للنهي، لا محل لها. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [43] وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه؛ إذ التقدير: إن كنتم تعلمون ذلك؛ فلا تشتروا

إلخ، أو فلا تنقضوا.. إلخ.

ص: 256

{ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96)}

الشرح: {ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ} أي: من متاع الدنيا ولذاتها يفنى ويذهب. {وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ} أي: من ثواب الآخرة، ونعيم الجنة. {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا} أي: على السرّاء والضرّاء، وعلى الوفاء بالعهد، وعلى الطاعات على اختلاف أنواعها، وعن المعاصي على تفاوت مراتبها ودرجاتها، وعلى أذى الكفار. وانظر «الصبر» في الآية رقم [115] من سورة (هود) عليه السلام.

وانظر (نا) في الآية رقم [23] من سورة (الحجر)، ويقرأ الفعل بالياء. {بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} أي: من الطاعات، من واجبات، ومندوبات. هذا؛ وقد قال الزمخشري: إنّ كلّ ما فاؤه نون، وعينه فاء يدل على معنى الخروج، والذهاب مثل: نفق، ونفخ، ونفذ، ونفد

إلخ.

هذا؛ وإعلال {باقٍ} مثل إعلال {ناجٍ} في الآية رقم [42] من سورة (يوسف) عليه السلام.

الإعراب: {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {عِنْدَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، والكاف في محل جر بالإضافة. {يَنْفَدُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {ما،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية تعليل للخبرية، والجملة الاسمية بعدها معطوفة عليها. {باقٍ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين. {وَلَنَجْزِيَنَّ:} الواو: حرف استئناف. اللام: واقعة في جواب قسم محذوف. (نجزين): مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، أو هو. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به أول، وجملة:{صَبَرُوا} صلة الموصول. {أَجْرَهُمْ:} مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة. {بِأَحْسَنِ:} متعلقان بالفعل نجزين. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، وانظر تفصيل الإعراب في الآية رقم [93] ففيها الكفاية، وجملة:{وَلَنَجْزِيَنَّ..} . إلخ جواب القسم المحذوف، والقسم المحذوف وجوابه كلام مستأنف، لا محل له.

{مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97)}

الشرح: {مَنْ عَمِلَ صالِحاً..} . إلخ: يخبرنا الله جلت حكمته بهذه الآية: أنه يثيب العاملين أعمالا صالحة بحياة طيبة في الدنيا، فإنه إن كان موسرا؛ فالأمر واضح، وإن كان معسرا فيطيب عيشه بالقناعة، والرضا بالقسمة، وتوقع الأجر العظيم في الآخرة، بخلاف الكافر، والمنافق،

ص: 257

فإنه إن كان معسرا؛ فظاهر، وإن كان موسرا؛ لم يدعه الحرص، وخوف الفوات أن يهنأ بعيشه، فيعلم من هذا أنّ عيش المؤمن في الدنيا، وإن كان فقيرا أطيب من عيش الكافر، وإن كان غنيا؛ لأن المؤمن لما علم: أنّ رزقه من عند الله، وذلك بتقديره، وتدبيره، وعرف: أنّ الله محسن كريم متفضل، لا يفعل إلا الصواب، فكان راضيا عن الله، راضيا بما قدّره الله له، فاستراحت نفسه من الكدّ والحرص، فطاب عيشه بذلك، وأما الكافر، أو الجاهل بهذه الأصول-وإن كان مسلما-لحريص على طلب الرزق، فيكون أبدا في حزن، وتعب، وعناء، وحرص، وكد، ولا ينال من الرزق إلا ما قدّر له، فظهر بهذا: أن عيش المؤمن القنوع أطيب من عيش غيره.

هذا؛ وقال السدي: الحياة الطيبة إنما تحصل في القبر؛ لأن المؤمن يستريح بالموت من نكد الدنيا، وتعبها. وقال قتادة، ومجاهد: المراد بالحياة الطيبة: الجنة. وروي عن الحسن: أنه قال: لا تطيب لأحد الحياة إلا في الجنة؛ لأنها حياة بلا موت، وغنى بلا فقر، وصحة بلا سقم، وملك بلا هلك، وسعادة بلا شقاوة، فثبت بهذا: أن الحياة الطيبة لا تكون إلا في الجنة، ولقوله في سياق الآية:{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ..} . إلخ لأن ذلك الجزاء إنما يكون في الجنة. انتهى.

خازن. وينبغي أن تعلم: أنه قد روعي لفظ (من) بإعادة الضمير مفردا بقوله: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ} وروعي معناها بإعادة الضمير جمعا بقولهم: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ..} . إلخ. وانظر رقم [94] من سورة (الأنبياء).

تنبيه: ذكر الله في الآية الكريمة قبول الأعمال الصالحة من العاملين ذكورا، وإناثا، ووعدهم عليها الحياة الطيبة، والجزاء الحسن في الآخرة، وهو ممّا يستدل به على أنّ الذّكر، والأنثى من بني آدم في المسئولية، والتكليف سواء، وفي الإثابة، والعقاب على سواء أيضا، كيف لا وقد قال تعالى في سورة (آل عمران) رقم [195]:{فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى} ووصف النساء، والرجال بعشر صفات في الآية رقم [35] من سورة (الأحزاب). وأما ما نشاهده في كثير من الآيات من تخصيص الذّكور بالذّكر، مثل (المؤمنين) و (المتقين) و (الفاسقين) و (الظالمين)

إلخ؛ فإنما هو من باب التغليب، أو إنّ الإناث ملحقة بالذكور إلحاقا، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

تنبيه: لقد شرط الله الإيمان لقبول الأعمال الصالحة؛ لأن العمل الصالح بدون إيمان بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم لا يغني فتيلا، وذكر الإيمان مع العمل الصالح يسمّى في علم البديع: احتراسا، فلولا شرط الإيمان؛ لفهم: أنّ كل عمل صالح مقبول، وأنّ كل عامل خيرا يدخل الجنة. وانظر أعمال الكافرين وجزاءهم في الآية رقم [15] من سورة (هود) عليه السلام. وانظر احتراسا آخر في الآية رقم [29] من سورة (الرعد). وانظر الإيمان في الآية [38].

الإعراب: {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {عَمِلَ:} ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى {مَنْ،} تقديره: «هو» .

ص: 258

{صالِحاً:} مفعول به. {مِنْ ذَكَرٍ:} متعلقان بمحذوف حال من فاعل {عَمِلَ} المستتر، و {مَنْ} بيان لما أبهم في {مَنْ}. {أَوْ:} حرف عطف. {أُنْثى:} معطوف على {ذَكَرٍ} مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية:{وَهُوَ مُؤْمِنٌ} في محل نصب حال ثانية من فاعل {عَمِلَ} المستتر، والرابط: الواو، والضمير. {فَلَنُحْيِيَنَّهُ:}

الفاء: واقعة في جواب الشرط. اللام: واقعة في جواب قسم محذوف. (نحيينه): مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، والفاعل مستتر تقديره:

«نحن» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها، والقسم المقدر، وجوابه في محل جزم جواب الشرط. {حَياةً:} مفعول مطلق. {طَيِّبَةً:} صفة، وخبر المبتدأ الذي هو {مَنْ} مختلف فيه، فقيل: جملة الشرط. وقيل: جملة الجواب. وقيل: الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين. هذا؛ وإن اعتبرت {مَنْ} موصولة؛ فجملة:{عَمِلَ صالِحاً..} . إلخ صلتها، وخبرها الجملة القسمية التي رأيت تقديرها، واقترنت الفاء بالخبر؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، وجملة:{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، والجملة الاسمية:{مَنْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98)}

الشرح: {فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويدخل فيه غيره من أمته؛ لأنه لمّا كان غير محتاج إلى الاستعاذة، وقد أمر بها فغيره أولى بذلك، ولمّا كان الشيطان ساعيا في إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم، وكانت الاستعاذة بالله مانعة من ذلك، لهذا السبب أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالاستعاذة عند القراءة؛ حتى تكون مصونة من وساوس الشيطان.

هذا؛ وظاهر اللفظ يدلّ على أنّ الاستعاذة بعد القراءة، وإليه ذهب جماعة من الصحابة، والتابعين. ومذهب الأكثرين من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الأئمة، وفقهاء الأمصار:

أنّ الاستعاذة مقدمة على القراءة. قالوا: ومعنى الآية: إذا أردت أن تقرأ القرآن؛ فاستعذ بالله.

مثله قوله جل وعز: {إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ..} . إلخ، ومثله من الكلام إذا أردت أن تأكل؛ فقل: بسم الله، وإذا أردت أن تسافر؛ فتأهب، والجمهور على أنّ الأمر للاستحباب. وفيه دليل على أنّ المصلي يستعيذ في كلّ ركعة، ومذهب عطاء: أنه تجب الاستعاذة عند قراءة القرآن في الصّلاة وغيرها.

فعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه، قال: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أعوذ بالسّميع العليم من الشّيطان الرجيم؛ فقال: «قل أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم؛ هكذا أقرأنيه جبريل عن القلم عن اللّوح المحفوظ» .

ص: 259

الإعراب: {فَإِذا:} الفاء: حرف استئناف. (إذا): انظر الآية [85]{قَرَأْتَ:} فعل، وفاعل.

{الْقُرْآنَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح.

{فَاسْتَعِذْ:} الفاء: واقعة في جواب (إذا). (استعذ): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {بِاللهِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنَ الشَّيْطانِ:} متعلقان به أيضا. {الرَّجِيمِ:} صفة {الشَّيْطانِ} وجملة:

{فَاسْتَعِذْ بِاللهِ..} . إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.

{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)}

الشرح: {إِنَّهُ} أي: الشيطان. {لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ:} تسلط وولاية. {عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي: على أولياء الله تعالى المؤمنين به، والمتوكلين عليه، فإنهم لا يطيعون، أوامره، ولا يقبلون وساوسه إلا فيما يحتقرون على ندور وغفلة، ولذلك أمروا بالاستعاذة، فذكر السلطنة بعد الأمر بالاستعاذة لا يوهم أن له قدرة وولاية على الذين آمنوا، ولذا قال سفيان:

ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر، وبالجملة كما قال المحققون: لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوّة على طاعة إلا بتوفيق الله تعالى.

بعد هذا انظر التوكل في الآية رقم [42] وانظر ما قال إبليس اللعين، وما رد عليه رب العالمين في الآية [39 - 43] من سورة (الحجر). هذا؛ و {سُلْطانٌ} من معانيه: الحجة، والبرهان. قال بعض المفسرين المحققين: سميت الحجة سلطانا؛ لأن صاحب الحجة يقهر من لا حجة معه، كالسلطان يقهر غيره. وقال الزجاج: السلطان هو الحجة، وسمي السلطان سلطانا؛ لأنه حجة الله في أرضه.

هذا؛ وجمعه بمعنى الحاكم والمالك: سلاطين، ولا يجمع إذا كان بمعنى: الحجة والبرهان.

الإعراب: {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {لَيْسَ:} ماض ناقص. {لَهُ:}

متعلقان بمحذوف خبر ليس تقدم على اسمها. {سُلْطانٌ:} اسمها مؤخر. {عَلَى الَّذِينَ:} متعلقان ب: {سُلْطانٌ،} أو بمحذوف صلة له، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول.

وجملة: {لَيْسَ لَهُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ..} . إلخ تعليل للأمر لا محل لها. {وَعَلى:} الواو: حرف عطف. {(عَلى رَبِّهِمْ):} متعلقان بما بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {يَتَوَكَّلُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ. والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها.

{إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)}

الشرح: {إِنَّما سُلْطانُهُ:} تسلطه، وولايته. {عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ:} يحبونه، ويطيعون، أوامره. {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} أي: بالله يشركون معه غيره في العبادة. وقيل: يعود الضمير

ص: 260

إلى الشيطان، والمعنى والذين هم بسبب الشيطان مشركون، وذلك بوسوسته، وإغوائه، وإضلاله، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {سُلْطانُهُ:} مبتدأ. والهاء: في محل جر بالإضافة.

{عَلَى الَّذِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {يَتَوَلَّوْنَهُ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. (الذين): معطوف على سابقه، فهو مبني على الفتح في محل جر مثله. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {بِهِ:} متعلقان بما بعدهما. {مُشْرِكُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} صلة الموصول، والجملة الاسمية:{إِنَّما سُلْطانُهُ..} .

إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101)}

الشرح: {وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ:} وهذا التبديل يكون بالنسخ حيث يجعل الله الآية الناسخة مكان الآية المنسوخة لفظا، أو حكما. {وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ} أي: الله أعلم بما ينزل من الناسخ، وبما هو أصلح لخلقه، فلعل ما يكون مصلحة في وقت، يصير مفسدة في وقت بعده فينسخه، وما لا يكون فيه مصلحة حينئذ، يكون مصلحة الآن، فيثبته مكانه، وهذا نوع توبيخ، وتقريع للكفار على قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم، كما حكى الله عنه:{قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ} أي:

مختلق ومتقوّل على الله. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ:} حكمة الله في أحكامه من ناسخ ومنسوخ، ولا يميزون الخطأ من الصواب. هذا؛ وذكر الأكثر: إما لأنّ بعضهم لم يعرف الحق لنقصان عقله، أو لتقصير في النظر، أو لم تقم عليه الحجة؛ لأنه لم يبلغ حد التكليف، أو؛ لأنه يقام مقام الكل.

تنبيه: نزلت الآية الكريمة حين قال المشركون من أهل مكة: إن محمدا يسخر بأصحابه، يأمرهم اليوم بأمر، وينهاهم عنه غدا، ما هو إلا مفتر يتقوله من تلقاء نفسه، وإن أردت بيان النسخ وشرحه انظر الآية رقم [106] من سورة (البقرة). هذا؛ وانظر شرح:{آيَةً} في الآية رقم [1] من سورة (الحجر)، وإعلال {مُفْتَرٍ} مثل إعلال {ناجٍ} في الآية رقم [42] من سورة (يوسف) عليه السلام، ولا تنس: أنّ {أَعْلَمُ} ليس على بابه، وإنما هو بمعنى: عالم؛ لأنه تعالى لا يشركه أحد في علم، ولا في قدرة.

ص: 261

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف. (إذا): انظر مثلها في الآية رقم [85]. {بَدَّلْنا:}

فعل، وفاعل. {آيَةً:} مفعول به أول. {مَكانَ:} مفعول به ثان، وهو مضاف، و {آيَةً} مضاف إليه، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على القول المشهور المرجوح. {وَاللهُ أَعْلَمُ:} مبتدأ، وخبر. {بِما:} متعلقان ب: {أَعْلَمُ} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة فهي مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: أعلم بالذي، أو بشيء ينزله. والجملة الاسمية:{وَاللهُ أَعْلَمُ..} . إلخ معترضة بين شرط (إذا) وجوابها، وأجيز اعتبارها في محل نصب حال من (نا)، والرابط: الواو فقط، والأول: أقوى. {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {إِنَّما:} كافة، ومكفوفة.

{أَنْتَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {مُفْتَرٍ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.

{بَلْ:} حرف انتقال. {أَكْثَرُهُمْ:} مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{لا يَعْلَمُونَ} مع المفعول المحذوف في محل رفع خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، وعطفها على ما قبلها يخل بالمعنى؛ لأنها ليست من مقول المشركين. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102)}

الشرح: {قُلْ} أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين. {نَزَّلَهُ} أي: القرآن ناسخه ومنسوخه. {رُوحُ الْقُدُسِ} أي: جبريل عليه الصلاة والسلام، والمعنى: الروح المقدسة، أضيف إلى القدس، وهو الطهر، كما يقال: حاتم الجود، وطلحة الخير. هذا؛ ويقرأ {الْقُدُسِ} بضم الدال وسكونها. وانظر (الرسل) في الآية رقم [38] من سورة (الرعد).

{لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: ليثبت بالقرآن قلوب المؤمنين، فيزدادوا إيمانا، ويقينا، واطمئنانا {وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ} انظر الآية رقم [89] ففيها الكفاية. وانظر (نزلنا) في الآية [89] أيضا. وانظر شرح (الحق) في الآية رقم [120] من سورة (هود) عليه السلام.

الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر، تقديره:«أنت» . {نَزَّلَهُ:} ماض، والهاء في محل نصب مفعول به. {رُوحُ:} فاعله. و {رُوحُ:} مضاف، و {الْقُدُسِ:} مضاف إليه. {مِنْ رَبِّكَ:}

متعلقان بالفعل قبلهما. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب؛ أي: ملتبسا بالحق، وجملة:{نَزَّلَهُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {لِيُثَبِّتَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى

ص: 262

{رُوحُ الْقُدُسِ} . {الَّذِينَ:} مفعول به، وجملة:{آمَنُوا:} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {نَزَّلَهُ}. (هدى): معطوف على محل: {لِيُثَبِّتَ} أي: فهو مفعول لأجله منصوب، أو هو معطوف على لفظ المصدر المنسبك من «أن» والمضارع، فهو مجرور، وأجاز أبو البقاء اعتباره خبرا لمبتدإ محذوف أي: وهو هدى، فهو مرفوع، وعليه: فالجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الواو، والضمير، والفتحة، أو الكسرة، أو الضمة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والثابتة دليل عليها، وليست عينها. {وَبُشْرى:}

معطوف على سابقه على جميع الاعتبارات فيه. {لِلْمُسْلِمِينَ:} متعلقان بأحد الاسمين السابقين، أو بمحذوف صفة لأحدهما، وذلك على التنازع. وانظر مثله في الآية رقم [89].

{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)}

الشرح: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ:} وذلك: أن كفار مكة قالوا: إنما يتعلم محمد هذه القصص، وهذه الأخبار من إنسان آخر، وهو آدمي مثله، وليس هو من عند الله، كما يزعم، فردّ الله عليهم بهذه الآية، واختلفوا في ذلك البشر: من هو؟ فقيل: هو جبر الرومي غلام عامر بن الحضرمي. وقيل: كان عبدان لعبيد الله بن مسلمة، يقال لأحدهما: يسار، ويقال للآخر: جبر، كانا يصنعان السيوف بمكة، وكانا يقرآن التوراة، والإنجيل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر عليهما، ويسمع ما يقرءانه. وقيل: هو عائش كان مملوكا لحويطب بن عبد العزى، كان نصرانيا، وقد أسلم، وحسن إسلامه. وقيل: هو عدّاس غلام عتبة بن ربيعة.

والحاصل: أن المشركين اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يتعلم ما يسمعهم إياه من غيره، ثم هو يضيفها لنفسه، ويزعم أنه وحي من الله عز وجل، فردّ الله عليهم بقوله:{لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} أي: لغة الشخص الذي يميلون ويشيرون إليه أعجمية. هذا؛ والإلحاد: الميل، يقال: لحد، وألحد؛ أي: مال عن القصد، وقرئ:«(يلحدون)» بفتح الياء والحاء، والأعجمي:

هو الذي لا يفصح في كلامه، والعرب تسمي كلّ من لا يعرف لغتهم، ولا يتكلم بكلامهم أعجميا. وقال الفراء: الأعجم الذي في لسانه عجمة، وإن كان عربيا. انتهى. ومنه سمي زياد الأعجم؛ لأنه كان في لسانه عجمة مع كونه من العرب، والأعجمي، والعجمي: الذي أصله من العجم، فهو منسوب إليهم. هذا؛ والأعرابي: هو الذي يسكن البادية، والعربي: هو الذي يسكن الأمصار من بلاد العرب، وهو منسوب إلى العرب، وجمع الأول: الأعراب كما في الآية رقم [90] من سورة (التوبة) وما بعدها، وجمع الثاني: العرب.

ص: 263

{وَهذا} أي: القرآن الكريم المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. {لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} أي: بين الفصاحة، والبلاغة: فكيف يأتي به أعجمي لا يحسن العربية، ولا يتكلّم بها، وأنتم يا معشر قريش، فرسان البلاغة والفصاحة، وقد عجزتم عن إتيان سورة من مثله مع كونه قد تحدّاكم مرارا. ولا يعزب عن بالك أن الله جلّت قدرته قد أطلق كلمة لسان على القرآن بكامله، كما أطلقه العرب على كلمة السوء، وعلى القصيدة من الشعر، انظر ما ذكرته في الآية رقم [4] من سورة (إبراهيم) عليه السلام، ففيها فضل بيان. وانظر إعلال {مُبِينٌ} ومعناه في الآية رقم [1] من سورة (الحجر).

هذا؛ و {بَشَرٌ} يطلق على الإنسان ذكرا، أو أنثى، مفردا، أو جمعا، مثل كلمة: الفلك، تطلق على المفرد، والجمع، وسمي بنو آدم بشرا لبدو بشرتهم، وهي ظاهر الجلد، بخلاف أكثر المخلوقات، فإنّها مكسوة بالشعر، أو بالصوف، أو بالريش. هذا؛ و (بشر) يطلق على المفرد كما في قوله تعالى:{فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا} الآية رقم [16] من سورة (مريم)، ولذا ثني في قوله تعالى:{فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا} الآية رقم [48] من سورة (المؤمنون)، ويطلق على الجمع، كما في قوله تعالى:{فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً} الآية رقم [25] من سورة (مريم) أيضا.

الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، التقدير: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره أقسم. اللام: واقعة في جواب القسم.

وانظر ما ذكرته في الآية رقم [10] من سورة (الحجر) ففيها فضل بيان. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {نَعْلَمُ:} مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«نحن» . {أَنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {يَقُولُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {إِنَّما:}

كافة ومكفوفة. {يُعَلِّمُهُ:} مضارع، والهاء مفعول به، {بَشَرٌ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{يَقُولُونَ..} . إلخ في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) اسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعول {نَعْلَمُ،} وجملة: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ..} .

إلخ جواب القسم المقدر، والقسم وجوابه كلام مستأنف، لا محل له. {لِسانُ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {الَّذِي} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة. {يُلْحِدُونَ:}

مضارع، وفاعله. {إِلَيْهِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها.

{أَعْجَمِيٌّ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{لِسانُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَهذا:} الواو: حرف عطف. (هذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء: حرف تنبيه لا محل له. {لِسانُ:} خبر المبتدأ. {عَرَبِيٌّ مُبِينٌ:} صفتان له، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

ص: 264

{إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104)}

الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ} أي: لا يصدقون بآيات القرآن المنزلة من عند الله على الرسول صلى الله عليه وسلم. {لا يَهْدِيهِمُ اللهُ:} لا يوفقهم للإيمان، أو لا يدلهم على طريق النجاة، والفلاح المؤدي إلى الجنة. {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} أي: في الآخرة، هددهم على كفرهم بالقرآن، بعد ما أماط شبهتهم، وردّ طعنهم فيه في الآية السابقة، ثم قلب الأمر عليهم بالآية اللاحقة.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها، وجملة:{لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ} صلة الموصول، لا محل لها. {لا:} نافية.

{يَهْدِيهِمُ:} مضارع مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والهاء: مفعول به.

{اللهِ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة، أو ابتدائية لا محل لها. {وَلَهُمْ:} الواو: حرف عطف. (لهم): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر. {أَلِيمٌ:} صفته، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها، واعتبارها حالا من الضمير المنصوب غير مستبعد.

{إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105)}

الشرح: {إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ} أي: يختلق الكذب، ويصطنعه، بل ويمتهنه. {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ:} هو مثل الآية السابقة. {وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ} أي: الكاذبون على الحقيقة، أو الكاملون في الكذب، المولعون به؛ لأن تكذيب آيات القرآن، والطعن فيها بهذه الخرافات أعظم الكذب، أو هم الذين عادتهم الكذب لا يصرفهم عنه خلق، ولا دين، ولا مروءة، وقد أخبر الله تعالى عن حالهم بقوله:{إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ..} . إلخ ثم وصفهم بقوله: {هُمُ الْكاذِبُونَ} ليدل على أنّ الكذب نعت لازم لهم، كقول الرجل لغيره: كذبت، وأنت كاذب؛ أي: كذبت في هذا القول، ومن عادتك الكذب

قال الخازن-رحمه الله تعالى-وفي الآية دليل على أنّ الكذب من أفحش الذنوب الكبار؛ لأن الكاذب المفتري هو الذي لا يؤمن بآيات الله. روى البغوي، بإسناد الثعلبي عن عبد الله بن جراد، قال: قلت: يا رسول الله! المؤمن يزني؟ قال: «قد يكون ذلك» . قلت: المؤمن يسرق؟ قال: «قد يكون ذلك» . قلت: المؤمن يكذب؟ قال: «لا، قال الله تعالى: {إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ..}. إلخ» . انتهى.

أقول، وجاء في كتاب الترغيب، والترهيب ما يلي: عن صفوان بن سليم-رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله! أيكون المؤمن جبانا؟ قال: «نعم» . قيل له: أيكون المؤمن بخيلا؟ قال

ص: 265

«نعم» . قيل له: أيكون المؤمن كذّابا؟ قال: «لا» . رواه مالك هكذا مرسلا. هذا؛ والأحاديث المنفّرة من الكذب، والمرغبة في الصدق كثيرة مشهورة، أكتفي منها بما يلي: عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصّدق، فإنّ الصدق يهدي إلى البرّ، والبرّ يهدي إلى الجنّة، وما يزال الرجل يصدق، ويتحرّى الصّدق؛ حتى يكتب عند الله صدّيقا، وإيّاكم والكذب، فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وما يزال العبد يكذب ويتحرّى الكذب؛ حتّى يكتب عند الله كذّابا» . رواه البخاري، ومسلم. كيف لا؟ والرسول صلى الله عليه وسلم جعل الكذب صفة من صفات النفاق. هذا؛ وانظر الصدق، وماله في حديث كعب بن مالك-رضي الله عنه-في الآية [119] من سورة (التوبة)، ولا تنس: أنه قد ورد الترغيب في الصدق، والترهيب من الكذب في الشعر العربي أكتفي بقول الشاعر هنا:[البسيط]

لا يكذب المرء إلاّ من مهانته

أو فعله السّوء أو من قلّة الأدب

لبعض جيفة كلب خير رائحة

من كذبة المرء في جدّ وفي لعب

الإعراب: {إِنَّما:} كافة ومكفوفة، وهي مفيدة للحصر. {يَفْتَرِي:} مضارع مرفوع

إلخ. {الْكَذِبَ:} مفعول به. {الَّذِينَ:} فاعله، وجملة:{لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ} صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الفعلية:{إِنَّما يَفْتَرِي..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. الواو:

حرف عطف. (أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {هُمُ:} ضمير منفصل لا محل له. {الْكاذِبُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ. هذا؛ وإن اعتبرت {هُمُ} مبتدأ ثانيا، و {الْكاذِبُونَ} خبره؛ فتكون الجملة الاسمية في محل رفع خبر (أولئك) والجملة الاسمية:{وَأُولئِكَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين. تأمل، وتدبر.

{مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106)}

الشرح: {مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ} أي: من كفر من بعد إيمانه، ورجع عن الإسلام، فعليه غضب الله، قال الكلبي: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن خطل، وقيس بن الوليد بن المغيرة، كفروا بعد إيمانهم. انتهى. قرطبي.

وهؤلاء هم الذين شرحت صدورهم بالكفر، فاستحقوا غضب الله في الدنيا، وفي الآخرة؛ حيث اعتقدوه، وطابت نفوسهم به.

ص: 266

{إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ} أي: على الافتراء، أو كلمة الكفر. {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ} أي: لم تتغير عقيدته، وقلبه ثابت على الإيمان، والمراد: به عمار بن ياسر-رضي الله عنهما-فقد روي: أن قريشا أكرهوا عمارا، وأبويه ياسرا، وسمية على الارتداد عن الإسلام، فربطوا سمية بين بعيرين، ثم جاء أبو جهل الخبيث، فجعل يسبها، ويرفث، ثم طعن فرجها بحربة خرجت من فمها، فقتلها-رضي الله عنها، وأرضاها، وقتلوا ياسرا-رضي الله عنه، وهما أول قتيلين شهيدين في الإسلام، وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مكرها، فقيل: يا رسول الله! إن عمارا كفر، فقال:«كلا، إن عمارا ملئ إيمانا من فرقه، إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه» .

وأتى عمار-رضي الله عنه-يبكي، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه. وقال:«مالك؟» . قال:

يا رسول الله نلت منك، وقلت: كذا، وكذا! فقال:«كيف وجدت قلبك» . قال: مطمئنا بالإيمان، قال:«لا حرج عليك، وإن عادوا لك؛ فعد لهم بما قلت» .

وفيه دليل على جواز التكلم بالكفر عند الإكراه، وإن كان الأفضل أن يتجنب عنه إعزازا للدين، كما فعله أبو عمار-رضي الله عنهم. وقد روي: أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين مسلمين، فقال لأحدهما ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: فماذا تقول فيّ؟ قال: أنت أيضا، فخلاه. وقال للآخر، ما تقول: في محمد؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فما تقول فيّ؟ قال: أنا أصم، فأعاد عليه ثلاثا، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أما الأول؛ فقد أخذ برخصة الله، وأما الثاني؛ فقد صدع بالحق، فهنيئا له. انتهى. بيضاوي بتصرف.

قال العلماء: أول من أظهر الإسلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة: أبو بكر، وخباب، وصهيب، وبلال، وعمار، وأبوه ياسر، وأمه سمية-رضي الله عنهم أجمعين-فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله من أذى المشركين بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر-رضي الله عنه؛ فمنعه قومه، وعشيرته، وأخذ الآخرون، وألبسوا أدراع الحديد، وأجلسوا في حر الشمس بمكة، فأما بلال-رضي الله عنه، فكانوا يعذبونه، وهو يقول: أحد أحد؛ حتى اشتراه أبو بكر، وأعتقه، وقتل ياسر، وسمية كما تقدم. وقال خباب: لقد، أوقدوا لي نارا، ما أطفأها إلا ودك ظهري. وأجمعوا على أنّ من أكره على الكفر، لا يجوز له أن يتلفظ بكلمته تصريحا، بل يأتي بالمعاريض، وبما يوهم أنه كفر، فلو أكره على التصريح يباح له ذلك بشرط طمأنينة القلب على الإيمان، غير معتقد ما يقوله من كلمة الكفر، ولو صبر؛ حتى قتل؛ كان أفضل؛ لأن ياسرا، وسمية قتلا، ولم يتلفظا بكلمة الكفر، ولأن بلالا صبر على العذاب، ولم يلم على ذلك.

قال العلماء: من الأفعال ما يتصور الإكراه عليها، كشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير والميتة، ونحوها، فمن أكره بالسيف، أو القتل على أن يشرب الخمر، أو يأكل الميتة، أو لحم الخنزير، أو نحوها؛ جاز ذلك له، لقوله تعالى:{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ،} وقد بيّن الله حكم الضرورة في الآية رقم [145] من سورة (الأنعام)، والآية رقم [3] من سورة (المائدة)، والآية

ص: 267

رقم [173] من سورة (البقرة) أحسن بيان، ومن الأفعال، ما لا يتصور الإكراه عليه كالزنا؛ لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد، وذلك يمنع انتشار الآلة، فلا يتصور الإكراه فيه.

واختلف العلماء في طلاق المكره، فقال الشافعي، وأكثر العلماء، لا يقع طلاق المكره.

وقال أبو حنيفة، يقع. وهذا الاختلاف ناشئ من تأويل الحديث:«لا طلاق في إغلاق» فالشافعي ومن معه فسروا الإغلاق بالإكراه، وأبو حنيفة فسره بالغضب الشديد الذي يغيب فيه وعي الرجل، وصوابه، وعقله رحم الله الجميع رحمة واسعة، ورحمنا معهم بفضله، وكرمه، ومنّه.

الإعراب: {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع بدلا من: {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} وما بينهما اعتراض، أو من (أولئك) أو من الضمير المستتر في {الْكاذِبُونَ،} أو هو منصوب على الذم بفعل محذوف، أو هو مبتدأ، خبره محذوف، دل عليه قوله:{فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} وعليه يجوز اعتبار {مَنْ} موصولا، وشرطا، فعلى الثاني: تكون الفاء واقعة في جواب الشرط، وعلى الأول: تكون الفاء زائدة لتحسين اللفظ، وجاز ذلك؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم. {كَفَرَ:} ماض، وهو في محل جزم فعل الشرط على الاعتبار الثاني: في (من) والفاعل يعود إلى {مَنْ} . {بِاللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان به أيضا، أو هما متعلقان بمحذوف حال من فاعل {كَفَرَ:} المستتر و {بَعْدِ:} مضاف، و {إِيمانِهِ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية المحذوفة التي رأيت تقديرها خبر {مَنْ،} أو في محل جزم جوابها على الاعتبار الثاني فيها، وخبرها جملتا الشرط والجواب على ما هو الراجح عند المعاصرين، وعليه تكون الجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {إِلاّ:} أداة استثناء. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب على الاستثناء المتصل على المعتمد. {أُكْرِهَ:} ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى {مَنْ،} والجملة الفعلية صلتها لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ} في محل نصب حال من نائب الفاعل المستتر، والرابط: الواو، والضمير. {بِالْإِيمانِ:} متعلقان ب: {مُطْمَئِنٌّ} . {وَلكِنْ:} الواو:

حرف عطف. (لكن): حرف استدراك مهمل لا عمل له. {مَنْ:} اسم موصول مبتدأ، وجملة:

{شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً:} صلة الموصول، لا محل لها، والعائد رجوع الفاعل إليه. {فَعَلَيْهِمْ:}

الفاء: زائدة لتحسين اللفظ.. إلخ. (عليهم): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {غَضَبٌ:} مبتدأ مؤخر. {مِنَ اللهِ:} متعلقان بمحذوف صفة غضب، أو هما متعلقان به؛ لأنه مصدر، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية بعدها معطوفة عليها، فهي في محل رفع مثلها. هذا؛ وأجيز اعتبار {مَنْ} شرطية، ولكن متى جعلت شرطية؛ فلا بد من إضمار مبتدأ قبلها؛ لأنه لا يليها الجمل الشرطية ولذا قيل:(لكن): مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن.

قاله الشيخ، وإنما لم تقع الشرطية بعد (لكن)؛ لأن الاستدراك لا يقع في الشروط، وكذا قيل:

وهو ممنوع. انتهى. جمل نقلا عن السمين. والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الاسمية

ص: 268

السابقة، وهو ممّا يضعف البدلية في {مَنْ} ويرجح اعتبارها مبتدأ. ولا يعزب عن بالك: أنه قد روعي لفظ {مَنْ} في رجوع الفاعل إليها، وروعي معناها في:(عليهم) و (لهم) وهو الجمع.

تأمّل.

{ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اِسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107)}

الشرح: {ذلِكَ:} الإشارة إلى غضب الله الذي استحقوه. وقيل: الإشارة إلى الكفر بعد الإيمان. {بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ:} اختاروا العاجلة الفانية على الآجلة الباقية وفضلوها عليها. {وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ} أي: لا يرشدهم إلى الإيمان، ولا يوفقهم للعمل به، وهذا يرجع إلى علمه الأزلي بأنهم لو تركوا، وشأنهم لما اختاروا غير الكفر. هذا؛ وقد وصف الله تعالى في هذه الآية وغيرها الحياة التي يحياها بنو آدم بالدنيا لدناءتها وحقارتها، وأنها لا تساوي عنده جناح بعوضة، ورحم الله من قال:[الكامل]

يا خاطب الدّنيا الدّنيّة إنّها

شرك الرّدى وقرارة الأكدار

دار متى ما أضحكت في يومها

أبكت غدا تبّا لها من دار

وانظر شرح الآخرة في الآية رقم [30]، وشرح:{الْقَوْمَ} في الآية رقم [13]، و {الْكافِرِينَ} جمع: كافر، والكفر: ستر الحق بالجحود، والإنكار، وكفر فلان النعمة، يكفرها، كفرا، وكفورا، وكفرانا: إذا جحدها، وسترها، وأخفاها، وكفر الشيء: غطاه، وستره، وسمي الكافر كافرا؛ لأنه يغطي نعم الله بجحدها، وعبادته غيره، وسمي الزارع كافرا؛ لأنه يلقي البذر في الأرض، ويغطيه ويستره بالتراب، قال تعالى في تشبيه حال الدنيا {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَباتُهُ} وسمي الليل كافرا؛ لأنه يستر كل شيء بظلمته. قال لبيد بن ربيعة الصحابي-رضي الله عنه-في معلقته:[الكامل]

حتّى إذا ألقت يدا في كافر

وأجنّ عورات الثّغور ظلامها

الإعراب: {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {بِأَنَّهُمُ:} الباء: حرف جر. (أنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها، والميم علامة جمع الذكور. {اِسْتَحَبُّوا:} ماض، والواو فاعله والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أنّ). {الْحَياةَ} مفعول به. {الدُّنْيا:} صفة لها منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {عَلَى الْآخِرَةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. (أن): حرف مشبه بالفعل.

ص: 269

{اللهَ:} اسمها. {لا:} نافية. {يَهْدِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، والفاعل يعود إلى (الله). {الْقَوْمَ:} مفعول به. {الْكافِرِينَ:} صفة القوم منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء

إلخ، وجملة:{لا يَهْدِي..} . إلخ في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر معطوف على سابقه.

{أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108)}

الشرح: {أُولئِكَ:} الإشارة إلى الذين اختاروا الفانية على الباقية. {طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ:} فلا يفهمون المواعظ. {وَسَمْعِهِمْ:} فلا يسمعون كلام الله سماع تعقل، وتدبر.

{وَأَبْصارِهِمْ:} فلا يبصرون آيات الله في السموات، وفي الأرض. {وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ:}

الكاملون في الغفلة عما يراد بهم؛ إذ أغفلتهم الدنيا عن تدبر العواقب. وانظر توحيد السمع وجمع غيره في الآية رقم [78] هذا؛ ومعنى {طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ:} ختم عليها؛ إذ الطبع في الأصل: الختم، وهو التأثير في الطين، ونحوه، فاستعير هنا لعدم فهم القلوب ما يلقى عليها، والطبع: السّجيّة والخلق الذي جبل عليه الإنسان، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبره، وجملة:

{طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها، وإعراب:{وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ} مثل إعراب: {وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ} في الآية رقم [105].

{لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109)}

الشرح: {لا جَرَمَ..} . إلخ: ردّ لما يدعونه، وإثبات لعكسه، وضدّه. {هُمُ الْخاسِرُونَ} أي: أن الإنسان إنما يعمل في الدنيا ليربح في الآخرة، فإذا دخل النار بان خسرانه، وظهر غبنه؛ لأنّه ضيع رأس ماله، وهو الإيمان، ومن ضيع رأس ماله فهو خاسر، وأيّ خسران أعظم من خسارة الجنة، والحرمان من نعيمها، الذي لا ينقطع؟! هذا؛ وقد قيل في تفسير الخسران: إنه جعل لكل واحد من بني آدم منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإذا كان يوم القيامة، جعل الله للمؤمنين منازل الكفار التي في الجنة، وجعل للكفار منازل المؤمنين التي في النار، فذلك هو الخسران المبين، فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تعالى جعل لكلّ إنسان مسكنا في الجنّة، ومسكنا في النّار، فأمّا المؤمنون؛ فيأخذون منازلهم، ويرثون منازل

ص: 270

الكفّار، ويجعل الكفار في منازلهم في النّار». أخرجه ابن ماجة، وهذا تأويل قوله تعالى في سورة (المؤمنون):{أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ} .

الإعراب: {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ:} انظر الآية رقم [23] ففيها الكفاية. {فِي الْآخِرَةِ:} متعلقان ب: {الْخاسِرُونَ،} والجملة الاسمية: {هُمُ الْخاسِرُونَ} في محل رفع خبر (أنّ). تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)}

الشرح: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا..} . إلخ: قال القرطبي: هذا كلّه في عمّار بن ياسر-رضي الله عنه. انتهى. والمراد: بالفتنة ما رأيته في الآية رقم [106] حيث عذبه المشركون؛ حتى نطق بكلمة الكفر. وقال قتادة: نزلت في قوم خرجوا مهاجرين إلى المدينة بعد أن فتنهم المشركون، وقد تقدّم ذكرهم في هذه السورة؛ أي: في الآية رقم [41]. وقال الخازن:

نزلت هذه الآية في عياش بن أبي ربيعة، وكان أخا أبي جهل من الرضاعة. وقيل: كان أخاه لأمّه، وفي أبي جندل بن سهيل، والوليد بن الوليد بن المغيرة، وسلمة بن هشام، وعبد الله بن أسد الثقفي، فتنهم المشركون، وعذّبوهم، فأعطوهم بعض ما أرادوا؛ ليسلموا من شرهم، ثم إنّهم هاجروا بعد ذلك، وجاهدوا.

هذا؛ وقرأ ابن عامر: «(فتنوا)» بالبناء للمعلوم، فيكون المعنى: من بعد ما عذبوا المؤمنين، كالحضرمي أكره مولاه جبرا حتى ارتدّ عن الإسلام، ثمّ أسلما، وهاجرا إلى المدينة. بعد هذا انظر الهجرة في الآية رقم [41].

وقال البيضاوي: و {ثُمَّ} لتباعد حال هؤلاء عن حال أولئك؛ أي: حال المؤمنين المهاجرين، وحال المطبوع على قلوبهم، وسمعهم، وأبصارهم من الكافرين، والمجرمين، والفاسقين من المسلمين.

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {رَبَّكَ:} اسم {إِنَّ} والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وخبر {إِنَّ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه قوله: {لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} و {إِنَّ رَبَّكَ} الثانية واسمها تأكيد للأولى، واسمها، فكأنه قيل: ثم إن ربك، إن ربك لغفور رحيم، وحينئذ يجوز في الجار والمجرور {لِلَّذِينَ} وجهان: أن يتعلقا بالخبرين على التنازع، أو بمحذوف على سبيل البيان، كأنه قيل: الغفران، والرحمة للذين هاجروا. الثاني: أنّ الخبر هو نفس الجار بعدها، كما تقول: إن زيدا لك؛ أي: هو لك لا عليك، بمعنى: هو ناصرهم، لا خاذلهم. قال معناه

ص: 271

الزمخشري. والثاني: أنّ خبر الأولى مستغنى عنه بخبر الثانية، يعني: أنه محذوف لفظا لدلالة ما بعده عليه. انتهى. جمل نقلا عن السمين.

أقول: وهذا يسمى: الحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، وإن اعتبرت:{لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} خبر {إِنَّ} الأولى وما بينهما اعتراض، وحذف خبر الثانية لفظا، فيكون من حذف الثاني لدلالة الأول عليه. تأمّل. وانظر مبحث الحذف في كتابنا:«فتح القريب المجيب» الشاهد رقم [1049] وما بعده. {هاجَرُوا:} ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق.

وانظر إعراب: {دَخَلُوا} في الآية رقم [52] من سورة (الحجر)، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {ما:} مصدرية. {فُتِنُوا:} ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعله، وما والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بإضافة {بَعْدِ} إليه، التقدير: من بعد فتنتهم، وجملة:{جاهَدُوا وَصَبَرُوا} معطوفتان على جملة الصلة لا محل لهما مثلها، والجملة الاسمية:{إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا..} . إلخ معطوفة على الكلام السابق، لا محل لها أيضا، وجملة:{إِنَّ رَبَّكَ..} . إلخ الثانية مؤكدة للأولى. {مِنْ بَعْدِها:} متعلقان بما بعدهما على التنازع أيضا، و (ها): في محل جر بالإضافة، وهي عائدة على:«الفتنة» . وقيل: عائدة على الهجرة، والجهاد، والصبر. {لَغَفُورٌ:} اللام: هي المزحلقة. (غفور): خبر (إنّ) الأولى، أو الثانية حسب ما رأيت سابقا. {رَحِيمٌ:} خبر ثان.

هذا؛ ومثلها في جميع وجوه الإعراب الآية رقم [119] الآتية.

{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)}

الشرح: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها} أي: اذكر يوم تأتي كل نفس تخاصم وتحاج عن نفسها. أي: فهي تشتغل بالمجادلة، لا تتفرغ إلى غيرها، والمراد بالنفس الأولى:

الروح، وبالثانية: الذات؛ أي: البدن، وبالثالثة: الروح، والبدن. وقيل: معنى هذه المجادلة:

الاعتذار بما لا يقبل، كقولهم:{وَاللهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ،} ونحو ذلك من الاعتذارات. {وَتُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ} أي: جزاء ما عملت في الدنيا من خير، أو شر. {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ:}

لا ينقصون من جزاء أعمالهم شيئا، بل يوفون ذلك كاملا من غير زيادة، أو نقصان، وواو الجماعة عائدة على معنى النفس الثالثة؛ فلذا جمع مذكرا، وانظر شرح النفس في الآية رقم [53] من سورة (يوسف) عليه السلام. وانظر شرح:{أَتى} في الآية رقم [1].

تنبيه: روي: أن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-قال لكعب الأحبار: يا كعب! خوّفنا هيّجنا حدّثنا نبّهنا! فقال له كعب: يا أمير المؤمنين! والذي نفسي بيده لو وافيت يوم القيامة بمثل

ص: 272

عمل سبعين نبيا، لأتت عليك تارات لا يهمّك إلا نفسك، وإنّ لجهنم زفرة، لا يبقى ملك مقرّب، ولا نبيّ منتخب، إلا وقع جاثيا على ركبتيه؛ حتى إنّ إبراهيم الخليل ليدلي بالخلة، فيقول: يا رب! أنا خليلك إبراهيم، لا أسألك اليوم إلا نفسي. قال: يا كعب! أين تجد ذلك في كتاب الله؟ قال: قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ..} . إلخ.

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-في هذه الآية: ما تزال الخصومة بالناس يوم القيامة حتى تخاصم الروح الجسد، فتقول الروح: رب لم تكن لي يد أبطش بها، ولا رجل أمشي بها، ولا عين أبصر بها، ولا أذن أسمع بها، ولا عقل أعقل به، حتى جئت، فدخلت في هذا الجسد، فضعّف عليه أنواع العذاب ونجّني! فيقول الجسد: رب أنت خلقتني بيدك، فكنت كالخشبة، ليس لي يد أبطش بها، ولا قدم أسعى به، ولا بصر أبصر به، ولا سمع أسمع به، فجاء هذا كشعاع النور، فيه نطق لساني، وبه أبصرت عيني، وبه مشت رجلي، وبه سمعت أذني، فضعّف عليه أنواع العذاب ونجّني منه! قال: فيضرب الله لهما مثلا أعمى، ومقعدا دخلا بستانا فيه ثمار، فالأعمى لا يبصر الثمرة، والمقعد لا ينالها، فنادى المقعد الأعمى: ايتني فاحملني آكل وأطعمك. فدنا منه، فحمله، فأصابوا من الثمرة، فعلى من يكون العذاب؟ قال:

عليكما جميعا العذاب. ذكره الثعلبي. انتهى. قرطبي، وخازن. وفي النفس من هذه القصة شيء؛ لذا أقول: والله أعلم، وأجل، وأكرم.

الإعراب: {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بفعل محذوف، تقديره: اذكر. وقيل: مفعول به لهذا المحذوف. هذا؛ وقيل: متعلق ب: {رَحِيمٌ} . {تَأْتِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء. {كُلُّ:} فاعل، وهو مضاف، و {نَفْسٍ:} مضاف إليه، وجملة:{تَأْتِي..} .

إلخ: في محل جر بإضافة يوم إليها. {تُجادِلُ:} مضارع والفاعل يعود إلى {نَفْسٍ} . {عَنْ نَفْسِها:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (ها): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب حال من كل نفس، والرابط: الضمير فقط. (توفى): مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ.

{كُلُّ:} نائب فاعله وهو المفعول الأول، و {كُلُّ:} مضاف، و {نَفْسٍ:} مضاف إليه.

{ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: الذي، أو شيئا عملته، وعلى اعتبارها مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به ثان، التقدير: عملها، وجملة:{وَتُوَفّى..} . إلخ معطوفة على جملة: {تُجادِلُ..} .

إلخ، فهي في محل نصب حال مثلها. {وَهُمْ:} الواو: واو الحال. (هم): مبتدأ. {لا:}

نافية. {يُظْلَمُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} في محل نصب حال من {كُلُّ نَفْسٍ،} والرابط: الواو، والضمير.

ص: 273

{وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112)}

الشرح: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً} أي: جعل الله القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم، فأبطرتهم النعمة، فكفروا، وتولوا، فأنزل الله بهم نقمته، فيجوز أن يراد قرية مقدرة؛ أي: على سبيل الفرض والتقدير، هذه صفتها، وأن تكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها فضربها الله مثلا لمكة، إنذارا من مثل عاقبتها، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد دعا على مشركي مكة.

وقال: «اللهمّ اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف» . فابتلوا بالقحط؛ حتى أكلوا الجيف، والحشرات.

{كانَتْ آمِنَةً} أي: ذات أمن، لا يخاف أهلها من مداهمة عدوّ عليهم. {مُطْمَئِنَّةً:}

قارة بأهلها لا ينتقلون عنها كما كان العرب ينتقلون من مكان إلى مكان طلبا للماء والكلأ.

{يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ} أي: يحمل إليها الرزق من جميع النواحي، من البر والبحر، كقوله تعالى:{يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ} وذلك بدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو قوله:

{وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ} {فَكَفَرَتْ} أي: القرية، والمراد: أهلها جحدوا نعم الله عليهم.

{بِأَنْعُمِ اللهِ:} جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع، أو هو جمع نعم كبؤس، وأبؤس، والمراد: جميع النعم؛ التي أنعم الله بها على أهل مكة، وانظر الآية رقم [121] الآتية لتعرف أنه جمع قلة. وقيل: هذا الكفران هو: تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم.

{فَأَذاقَهَا اللهُ} أي: أذاق أهلها. {لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ:} فقد استعار الإذاقة لإدراك أثر الضرر، واللباس لما غشيهم، واشتمل عليهم من الجوع، والخوف، وأوقع الإذاقة عليه بالنظر إلى المستعار له كقول كثير:[الكامل]

غمر الرّداء إذا تبسّم ضاحكا

غلقت لضحكته رقاب المال

فإنه استعار الرداء للمعروف؛ لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء، لما يلقى عليه، وأضاف إليه الغمر الذي هو وصف المعروف، والنوال، لا وصف الرداء، نظرا إلى المستعار له، وقد ينظر إلى المستعار، كقول الشاعر:[الوافر]

ينازعني ردائي عبد عمرو

رويدك يا أخا عمرو بن بكر

لي الشّطر الذي ملكت يميني

ودونك فاعتجر منه بشطر

ص: 274

استعار الرداء لسيفه، ثم قال: فاعتجر نظرا إلى المستعار. انتهى بيضاوي. {بِما كانُوا يَصْنَعُونَ:} هو أبلغ من «يعملون» من حيث: إنّ الصنع عمل الإنسان بعد تدرّب فيه، وتروّ، وتحري إجادة، ولذلك ذم به خواص اليهود في الآية رقم [63] من سورة (المائدة)، بينما ذم عوامهم ب:(يعملون) في الآية السابقة لها.

تنبيه: قال مقاتل-رحمه الله تعالى-وأكثر المفسرين أن هذه الآية نزلت بالمدينة، وهو صحيح؛ لأن الله تعالى وصف القرية بستّ صفات كانت موجودة في أهل مكة، فضربها الله مثلا لأهل المدينة، يحذرهم أن يصنعوا مثل صنيعهم، فيصيبهم مثل ما أصابهم من الجوع، والخوف، ويشهد لصحته أن الخوف المذكور في هذه الآية في قوله:{فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} كان من البعوث والسرايا، التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم يبعثها في قول جميع المفسرين؛ لأنه عليه السلام لم يؤمر بالقتال لما هاجر إلى المدينة، فكان يبعث البعوث، والسرايا إلى حول مكة، يخوفهم بذلك وهو بالمدينة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه. انتهى.

الإعراب: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً:} ماض، وفاعله، ومفعوله. {قَرْيَةً:} بدل من {مَثَلاً:}

{كانَتْ:} ماض ناقص، واسمها يعود إلى القرية، {آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً:} خبران ل:

{كانَتْ،} وجملة: {كانَتْ..} . إلخ في محل نصب صفة {قَرْيَةً} . {يَأْتِيها:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، و (ها): مفعول به. {رِزْقُها:} فاعل، و (ها): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب خبر ثالث ل:{كانَتْ،} أو هي في محل نصب حال من الضمير المستتر في: {مُطْمَئِنَّةً} . {رَغَداً:} حال من رزقها. {مِنْ كُلِّ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، و {كُلِّ:} مضاف، و {مَكانٍ:} مضاف إليه، وجملة:{وَضَرَبَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. (كفرت): ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى قرية، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{كانَتْ..} . إلخ فهي في محل نصب صفة مثلها. {بِأَنْعُمِ:}

متعلقان بما قبلهما، و (أنعم): مضاف، و {اللهُ:} مضاف إليه. (أذاقها): ماض، وها: مفعول به أول. {اللهُ:} فاعله. {لِباسَ:} مفعول به ثان، وهو مضاف، و {الْجُوعِ:} مضاف إليه.

{وَالْخَوْفِ:} معطوف على الجوع، ويقرأ بنصبه عطفا على {لِباسَ،} {بِما:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. وانظر تفصيل مثله في الآية رقم [93 و 87] وجملة:{فَأَذاقَهَا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب أيضا.

{وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113)}

الشرح: {وَلَقَدْ جاءَهُمْ} أي: أهل مكة. {رَسُولٌ مِنْهُمْ:} هو محمد صلى الله عليه وسلم، يعرفون نسبه، ويعرفونه قبل النبوة بالصدق، والأمانة، والشيم الكريمة، والخلال الحميدة. {فَكَذَّبُوهُ:} رفضوا دعوته. {فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ} أي: الجوع، والخوف. وقيل: القتل يوم بدر. {وَهُمْ ظالِمُونَ}

ص: 275

أنفسهم بالكفر الذي هو أعظم الذنوب. بعد هذا انظر شرح: {رَسُولٌ} في الآية رقم [38] من سورة (الرعد)، وشرح العذاب في الآية رقم [25] منها أيضا.

الإعراب: {وَلَقَدْ:} انظر الآية رقم [103]{جاءَهُمْ:} ماض، ومفعوله. {رَسُولٌ:} فاعله.

{مِنْهُمْ:} متعلقان ب: {رَسُولٌ} أو بمحذوف صفة له، وجملة: {(لَقَدْ

)} إلخ جواب القسم المقدر لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف، لا محل له، وجملة:{فَكَذَّبُوهُ:} معطوفة على جملة جواب القسم لا محل لها. وأيضا جملة: {فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ} معطوفة أيضا، والجملة الاسمية:

{وَهُمْ ظالِمُونَ} في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الواو، والضمير. تأمل.

{فَكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاُشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ (114)}

الشرح: {فَكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللهُ:} في المخاطبين بهذا قولان: أحدهما: أنهم المسلمون، وهو قول جمهور المفسرين، والثاني: أنهم هم المشركون من أهل مكة، قال الكلبي: لما اشتد الجوع بأهل مكة؛ كلم رؤساؤهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنك إنما عاديت الرجال، فما بال النساء، والصبيان؟ فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس أن يحملوا الطعام إليهم، حكاه الواحدي وغيره. والقول الأول: هو الصحيح. انتهى. خازن. {حَلالاً طَيِّباً:} من الغنائم وغيرها، قال ابن عباس-رضي الله عنهما-يا معشر المسلمين كلوا ممّا رزقكم يريد الغنائم.

{وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ} أي: التي أنعم بها عليكم، انظر الآية رقم [7] ورقم [34] من سورة (إبراهيم) عليه السلام. وانظر العبادة في الآية [36].

الإعراب: {فَكُلُوا:} الفاء: حرف استئناف. وقيل: هي الفصيحة. (كلوا): أمر مبني على حذف النون، وهو للإباحة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِمّا:} متعلقان بالفعل قبلهما وهما مفعوله، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية ضعيفة هنا، فهي مبنية على السكون في محل جر ب (من)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، وهو المفعول الثاني؛ إذ التقدير: من الذي، أو من شيء رزقكم الله إياه. {حَلالاً:}

حال من المفعول الثاني: المقدر، وكلام الجمل يشعر باعتبار (ما) مصدرية تسبك مع ما بعدها بمصدر و {حَلالاً:} حال من ذلك المصدر؛ إذا قدر الكلام كما يلي: كلوا من رزق الله حال كونه حلالا طيبا، وذروا ما تفترون من تحريم البحائر، ونحوها، ويكون قد أهمل المفعول الثاني ل:(رزق)، فإنه ينصب مفعولين، وقد قررته كثيرا فيما مضى. {طَيِّباً:} حال ثانية على الاعتبارين، وجملة:{فَكُلُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وقد حصل في الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب، انظره في الآية رقم [22] (اشكروا): أمر، وهو للوجوب. {نِعْمَتَ:}

ص: 276

مفعول به، وهو مضاف، و {اللهُ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها {إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ} انظر إعراب:{إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ:} في الآية رقم [43] فهو مثله، ولا تنس: أنّ {إِيّاهُ} ضمير منفصل مبني على الضم في محل نصب مفعول به مقدم للفعل بعده، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه؛ إذ التقدير: إن كنتم إياه تعبدون؛ فاشكروا نعمته جلّت قدرته، وتعالت حكمته.

{إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)}

الشرح: هذه الآية مذكورة بحروفها كاملة في الآية رقم [173] من سورة (البقرة)، وهي هناك مشروحة شرحا وافيا، ومعربة إعرابا كاملا، انظرها، وقد حذوت حذو القرطبي، والخازن رحمهما الله تعالى، فإنهما لم يذكرا فيها شيئا هنا، وأحالا على الآية المذكورة، كما: أنّ آية الأنعام رقم [145] تضمنت أكثر أحكامها، انظرها أيضا، والله ولي التوفيق.

{وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116)}

الشرح: {وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ:} هذا نهي للكفار الذين كانوا يحرمون، ويحلّلون من غير استناد إلى كتاب، أو سنّة؛ أي: لا تقولوا الكذب على الله تعالى لأجل كلام تنطق به ألسنتكم من غير دليل، ولا حجة تعتمدونها. {هذا حَلالٌ:} إشارة إلى ما كانوا يحلونه من ميتة بطون الأنعام. {وَهذا حَرامٌ:} إشارة إلى ما كانوا يحرمونه من البحيرة، والسائبة، ونحو ذلك. {لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ} أي: لا تقولوا: إن الله أمرنا بكذا، ونهانا عن كذا، فتكذبوا على الله، وتفتروا عليه. {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} أي: لا ينجون من العذاب.

وقيل: لا يفوزون بخير لأن الفلاح هو الفوز بالخير والنجاح. هذا؛ ويقرأ (الكذب) الأول:

بضم الكاف، والذال، والباء، ويقرأ بفتح الكاف وكسر الذال مع فتح الباء وكسرها. وانظر الآية رقم [62].

هذا؛ والحلال: ضد الحرام، وهو ما أبيح تناوله، وأكله إن كان يؤكل، ولم يضر بالبدن ضررا بينا، أما الحرام، والمحرم: فهو في الأصل كلّ ممنوع، قال تعالى:{وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ} فالحرمات كل ممنوع منك، ممّا بينك وبين غيرك، قولهم: لفلان بي حرمة؛ أي: أنا ممتنع من مكروهه، وحرمة الرجل محظورة به عن غيره، وقوله تعالى:{وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} فالمحروم هو: الممنوع من المال، والتلذذ به، والإحرام بالحج، والعمرة هو: المنع من أمور

ص: 277

معروفة في الفقه الإسلامي، والشهر الحرام، والمسجد الحرام المحرم فيهما أشياء معروفة، قد تكون مباحة في غيرهما.

تنبيه: إذا أردت أن تعرف ما كان الجاهليون يفعلونه من تحريم، وتحليل حسب ما تزينه لهم نفوسهم، وما كان يأمرهم به شياطينهم، فانظر سورة (الأنعام) الآية رقم [136] وما بعدها.

وانظر الآية رقم [103] من سورة (المائدة)، والله يتولاني، وإياك بعنايته، ورعايته.

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تَقُولُوا:} مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق.

{لِما:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأول، والثاني: مبنية على السكون في محل جر باللام، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: للذي، أو لشيء تصفه ألسنتكم، وعليه فالكذب مفعول ل:{تَقُولُوا،} وعلى اعتبارها مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر باللام، وعليه يكون {الْكَذِبَ} مفعولا. ل:{تَصِفُ،} ويكون التقدير: ولا تقولوا: هذا حلال وهذا حرام لوصفكم الكذب. هذا؛ وعلى قراءته بضم الكاف، والذال، والباء فهو صفة: الألسنة، وعلى قراءته بالجر، فهو بدل من (ما) على جميع الاعتبارات فيها، وعلى قراءته بفتح الباء فيه وجهان:

أحدهما: ما تقدم، والثاني: اعتباره منصوبا بفعل محذوف، تقديره: أعني. والجملة الاسمية:

{هذا حَلالٌ} في محل نصب مقول القول على اعتبار: {الْكَذِبَ} منصوبا ب: {تَصِفُ} وعلى قراءته بالرفع والجر، هي بدل من الكذب على اعتباره منصوبا ب:{تَقُولُوا؛} لأن قولهم {هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ} نفس الكذب. {لِتَفْتَرُوا:} مضارع منصوب ب: «أن» المضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون.. إلخ، والواو فاعله، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور بدل من الجار والمجرور:{لِما تَصِفُ..} . إلخ {عَلَى اللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {الْكَذِبَ:} مفعول به، وجملة:{وَلا تَقُولُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: (كلوا

) إلخ لا محل لها مثلها، فيكون ما بينهما كلاما معترضا لا محل له. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل.

{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها، وجملة:{يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ} صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{لا يُفْلِحُونَ} في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية:

{إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ تعليل للنهي، لا محل لها.

{مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117)}

الشرح: {مَتاعٌ قَلِيلٌ} أي: ما يفترون لأجله، أو ما هم فيه منفعة قليلة تنقطع، وقد اعتبره الله قليلا لقصر مدته، أو في جنب ما أعدّ الله للمؤمنين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما الدّنيا في الآخرة إلا مثل

ص: 278

ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمّ، فلينظر بم يرجع؟». وانظر:{ثَمَناً قَلِيلاً} في الآية رقم [95]{وَمَتاعاً} في الآية رقم [80]. {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ:} في الآخرة بسبب افترائهم على الله الكذب.

الإعراب: {مَتاعٌ:} خبر لمبتدإ محذوف، انظر الشرح، أو هو مبتدأ خبره محذوف التقدير:

لهم متاع. {قَلِيلٌ:} صفة {مَتاعٌ} والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {وَلَهُمْ:} الواو: حرف عطف. (لهم): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر. {أَلِيمٌ:} صفة، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)}

الشرح: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا:} هم اليهود، سموا بذلك لمّا تابوا من عبادة العجل، من هاد بمعنى: تاب، ورجع، ومنه قوله تعالى حكاية عن قولهم:{إِنّا هُدْنا إِلَيْكَ} أو سموا بذلك نسبة إلى يهودا بن يعقوب، وهو أكبر أولاده. {حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} أي: ما ذكره الله في الآية رقم [146] من سورة (الأنعام). {وَما ظَلَمْناهُمْ:} بتحريم ما حرمنا عليهم. {وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي: إنما حرمنا عليهم ما حرمنا بسبب كفرهم، وبغيهم، وظلمهم أنفسهم، كما بيّن الله ذلك في الآية رقم [160] وما بعدها من سورة (النساء)، بعد هذا انظر (نا) في الآية رقم [23] من سورة (الحجر). هذا؛ ومعنى {قَصَصْنا:} ذكرنا فيما مضى، وأخبرناك به، ومنه قوله تعالى:{ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} . والقصص: تتبع الأثر، يقال: خرج فلان يقصّ أثر فلان؛ أي: يتبعه ليعرف أين ذهب؟ ومنه قوله تعالى: {وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أي:

اتبعي أثره، والقصص: مصدر قولهم: قص فلان الحديث قصّا، وقصصا.

الإعراب: {وَعَلَى:} الواو: حرف استئناف. {(عَلَى الَّذِينَ):} متعلقان بالفعل {حَرَّمْنا،} وجملة: {هادُوا} صلة الموصول، لا محل لها. {حَرَّمْنا:} فعل، وفاعل. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: الذي قصصناه. {عَلَيْكَ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ قَبْلُ:} متعلقان بأحد الفعلين قبلهما، وبني قبل على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى، وجملة:{وَعَلَى الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. هذا؛ وانظر إعراب:

{وَما ظَلَمْناهُمْ..} . إلخ في الآية رقم [33] والجملة الأولى في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، أو هي معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، والجملة الثانية:

{وَلكِنْ..} . إلخ معطوفة عليها على الاعتبارين فيها.

ص: 279

{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)}

قال الخازن رحمه الله تعالى: المقصود من هذه الآية بيان فضل الله، وكرمه، وسعة مغفرته، ورحمته؛ لأن السوء لفظ جامع لكل فعل قبيح، فيدخل تحته الكفر، وسائر المعاصي، وكل ما لا ينبغي، وكلّ من عمل السوء إنما يفعله بجهالة؛ لأن العاقل لا يرضى بفعل القبيح، فمن صدر عنه فعل قبيح من كفر، أو معصية، فإنما يصدر عنه بسبب جهله، إما لجهله بقدر ما يترتب عليه من العقاب، أو لجهله بقدر من يعصيه، فثبت بهذا: أن فعل السوء، إنما يفعل بجهالة، ثمّ إنّ الله تعالى وعد من عمل سوءا بجهالة ثم تاب، وأصلح العمل في المستقبل أن يتوب عليه، ويرحمه. انتهى بحروفه.

هذا؛ وللتوبة المقبولة شروط يجب توافرها، فإن كانت من حقّ الله تعالى؛ فشروطها ثلاثة:

الاستغفار باللسان، والندم بالجنان، والإقلاع بالأركان، وإن كانت من حق العباد يجب رد الحقوق لأصحابها بحسب الإمكان، فإن لم يرد الحقوق لأصحابها لا تقبل توبته وإن تاب ألف توبة! وانظر الآية رقم [114] من سورة (هود) إن أردت الزيادة. {وَأَصْلَحُوا} أي: العمل. {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها:} من بعد التوبة النصوح؛ التي تتوافر فيها الشروط المذكورة. {لَغَفُورٌ} أي:

يغفر عمل السوء لمن تاب، وأناب إليه. {رَحِيمٌ:} بعباده جميعا، فهما صيغتا مبالغة.

بعد هذا؛ وعمل السوء هو الذي يسوء صاحبه، ويغمّه عند مجازاته به في الدنيا، والآخرة.

وانظر الآية رقم [6] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {رَبَّكَ:} اسم {إِنَّ،} والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.

{لِلَّذِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ،} دل عليه خبر {إِنَّ} الآتي. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [110] فهذه مثلها في جميع وجوه الإعراب، وجملة:{عَمِلُوا السُّوءَ} صلة الموصول، لا محل لها. {بِجَهالَةٍ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة؛ أي: عملوا السوء جاهلين غير عارفين بالله تعالى، وبعقابه، والجملة الاسمية:{إِنَّ رَبَّكَ..} . إلخ معطوفة على الجملة الاسمية: {مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} فيكون ما بينهما اعتراضا. {ثُمَّ:} حرف عطف {تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا} الجملتان معطوفتان على جملة الصلة لا محل لهما مثلها، والجملة الاسمية:

{إِنَّ رَبَّكَ..} . إلخ الثانية مؤكدة للأولى. {مِنْ بَعْدِها:} متعلقان بما بعدهما على التنازع أيضا.

تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

ص: 280

{إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)}

الشرح: {إِنَّ إِبْراهِيمَ:} انظر شرح {إِبْراهِيمَ} ونسبه

إلخ في الآية رقم [35] من السورة المسماة باسمه. {أُمَّةً:} انظر الآية رقم [36] وإنما أطلق على {إِبْراهِيمَ} عليه السلام لفظ {أُمَّةً؛} لأنه اجتمع فيه من صفات الكمال، وصفات الخير، والأخلاق الحميدة ما اجتمع في أمة كاملة، ومنه قول أبي نواس:[السريع]

ليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

ثم للمفسرين في هذه اللفظة أقوال: أحدها: قول ابن مسعود-رضي الله عنه: الأمة:

معلم الخير. الثاني: قال مجاهد: إنه كان مؤمنا وحده، والناس كلهم كفار، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل:«يبعثه الله أمة وحده» . وإنما قال فيه هذه المقالة؛ لأنه كان قد فارق الجاهلية، وما كانوا عليه من عبادة الأصنام. الثالث: قال قتادة: ليس من أهل دين، إلا وهم يتولونه، ويرضونه. وقيل غير ذلك. {قانِتاً لِلّهِ:} مطيعا خاضعا لله، قائما بأوامره، منتهيا عن نواهيه. {حَنِيفاً} أي: مائلا عن كل دين باطل إلى دين الحق، قال الشاعر:[الوافر]

ولكنّا خلقنا إذ خلقنا

حنيفا ديننا عن كلّ دين

هذا؛ والحنف: الميل في القدمين. «وما كان من المشركين:» تعريض باليهود، والنصارى، ومشركي العرب، فإنهم ينتسبون إلى إبراهيم، ويدعون اتباعه، والاقتداء به، وهم مشركون. وهو سبب ربط الآية بما قبلها.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {إِبْراهِيمَ:} اسمها. {كانَ:} ماض ناقص، واسمه يعود إلى {إِبْراهِيمَ}. {أُمَّةً:} خبر كان. {قانِتاً:} خبر ثان. {لِلّهِ:} متعلقان ب: {قانِتاً} لأنه اسم فاعل، وفاعله مستتر فيه. {حَنِيفاً:} خبر ثالث، وجملة:{كانَ..} . إلخ في محل رفع خبر {إِنَّ،} وجملة: {إِنَّ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَلَمْ:} الواو: واو الحال. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَكُ:} مضارع ناقص مجزوم ب: (لم)، وعلامة جزمه السكون على النون المحذوفة للتخفيف، واسمه مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {إِبْراهِيمَ} . {مِنَ الْمُشْرِكِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر {يَكُ} وجملة: {وَلَمْ يَكُ..} . إلخ في محل نصب حال من اسم كان المستتر، والرابط: الواو، والضمير، أو هي معترضة كما ستقف عليه في الآية التالية.

{شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اِجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)}

الشرح: {شاكِراً:} انظر شرح (الشكر) في الآية رقم [7] و [37] من سورة (إبراهيم) عليه السلام. {لِأَنْعُمِهِ:} انظر الآية رقم [112]. وقال البيضاوي: ذكر بلفظ القلة للتنبيه على أنه

ص: 281

كان لا يخل بشكر النعم القليلة، فكيف بالكثيرة. {اِجْتَباهُ:} اختاره لنبوته، واصطفاه لخلته.

{وَهَداهُ:} وفقه، وثبته، وسدّد خطاه. {إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ:} هو دين التوحيد، دين الإسلام؛ لأنه لا اعوجاج فيه. وانظر إعلال:{مُقِيمَ} في الآية رقم [40] من سورة (إبراهيم) عليه السلام، فإعلال {مُسْتَقِيمٍ} مثله.

الإعراب: {شاكِراً:} خبر رابع ل: {كانَ،} أو هو حال من اسم {يَكُ} المستتر، فتكون حالا متداخلة، أو متعددة، وعلى اعتباره خبرا ل:{كانَ} فتكون جملة: {وَلَمْ يَكُ..} .

إلخ معترضة في وجه كما رأيت. {لِأَنْعُمِهِ:} متعلقان ب: {شاكِراً؛} لأنه اسم فاعل، وفاعله مستتر فيه، والهاء في محل جر بالإضافة. {اِجْتَباهُ:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (الله)، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية أجاز فيها أبو البقاء اعتبارها حالا؛ أي: من الضمير المجرور بالإضافة، وتكون:«قد» مقدرة قبلها، واعتبارها خبرا ثانيا ل:{إِنَّ،} واعتبارها مستأنفة. هذا؛ وأجيز اعتبارها خبرا خامسا ل: {كانَ} وجملة:

{وَهَداهُ:} معطوفة عليها. {إِلى صِراطٍ:} متعلقان بالفعل (هداه)، وقول الجمل: يجوز تعلقه بأحد الفعلين على التنازع لا أراه قويا.

{وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ (122)}

الشرح: {وَآتَيْناهُ:} أعطيناه، ومنحناه. {فِي الدُّنْيا حَسَنَةً:} هي النبوة، والخلّة. وقيل:

هي لسان الصدق، والثناء عليه، وهو الذي طلبه في دعائه في الآية رقم [84] من سورة (الشعراء){وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} وهو القبول العام عند جميع الأمم، فإن الله حببه إلى جميع خلقه، فكل أهل الأديان يتولونه: المسلمون، واليهود، والنصارى، ومشركو العرب، وغيرهم.

وقيل: هو قول المصلي في التشهد: (اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم

إلخ). وقيل: إنه آتاه أولادا أبرارا على الكبر. وانظر شرح {الدُّنْيا} في الآية رقم [107].

{وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ} أي: في أعلى مقامات الصالحين في الجنة. وقيل: معناه: وإنه في الآخرة لمع الصالحين يعني: الأنبياء في الجنة، فتكون:(من) بمعنى: مع. وانظر شرح {الْآخِرَةِ} في الآية [30] هذا؛ وفي الآية التفات من الغيبة في الآية السابقة إلى التكلم في هذه.

انظر الالتفات في الآية رقم [22] وانظر (نا) في الآية رقم [23] من سورة (الحجر)، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [101] من سورة (يوسف) على نبينا وعليه ألف صلاة، وألف سلام بشأن الصالحين.

الإعراب: {وَآتَيْناهُ:} الواو: حرف عطف. (آتيناه): ماض، وفاعله، ومفعوله الأول. {فِي الدُّنْيا:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {حَسَنَةً،} كان صفة له،

ص: 282

فلما قدم عليه صار حالا، على القاعدة التي رأيتها في الآية [66] {حَسَنَةً:} مفعول به ثان، والجملة معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محل لها، وهو أولى بسبب الالتفات.

{وَإِنَّهُ:} الواو: واو الحال. (إنه): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {فِي الْآخِرَةِ:} متعلقان ب: {الصّالِحِينَ} بعدهما. {لَمِنَ:} اللام: هي المزحلقة. (من الصالحين): متعلقان بمحذوف خبر (إنّ) والجملة الاسمية: {وَإِنَّهُ..} . إلخ في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط:

الواو، والضمير.

{ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اِتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)}

الشرح: {ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، و {ثُمَّ} إما لتعظيمه، والتنبيه على أنّ أجلّ ما أوتي إبراهيم اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ملّته، أو لتراخي أيامه. {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً} أي: في التوحيد، والدعوة إليه بالرفق، وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى، والمجادلة مع كل أحد على حسب فهمه. انتهى. بيضاوي. وقيل: أمر الله النبي عليه الصلاة والسلام باتباع إبراهيم عليه السلام في جميع ملته إلا ما أمر بتركه، والصحيح الاتباع في عقائد الشرع دون الفروع لقوله تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً} . {وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ:} بالله، بل كان من الموحدين المخلصين من صغره إلى كبره.

تنبيه: في هذه الآية دليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول، ولا نقص في حق الفاضل في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، أفضل الأنبياء جميعا عليهم السلام، وقد أمر بالاقتداء بهم، قال الله له:

{أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ،} وقال هنا: {ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ} كيف لا؟ والرسول أفضل من جبريل بكثير، وهو بمنزلة المعلم له! ولا تنس: أخيرا: أن الله تعالى لمّا وصف إبراهيم-عليه الصلاة والسلام-بتلك الصفات العالية، والخصال المجيدة، والشيم الحميدة، أمر حبيبنا، وشفيعنا باتباعه، والاقتداء به، فيا نعم المقتدي، والمقتدى به! وانظر تعليم الخضر لموسى في الآية [67] من سورة (الكهف) وما بعدها.

بعد هذا انظر شرح الوحي في الآية رقم [68] و (الملة): الطريقة، والديانة، وهي بكسر الميم، وبفتح الميم: الرّماد الحار. وانظر شرح الباقي في الآية رقم [120] وشرح: {ثُمَّ} في الآية رقم [53] والله ولي التوفيق.

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {أَوْحَيْنا:} فعل، وفاعل. {إِلَيْكَ:} متعلقان بما قبلهما.

{أَنِ:} حرف تفسير. {اِتَّبِعْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {مِلَّةَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {إِبْراهِيمَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {حَنِيفاً:} حال من إبراهيم، وقال مكي: حال من فاعل اتبع

ص: 283

المستتر، ولا يحسن أن يكون حالا من {إِبْراهِيمَ؛} لأنه مضاف إليه، ولا وجه له؛ لأن شرط مجيء الحال من المضاف إليه أن يكون المضاف كالجزء من المضاف إليه من حيث صحة الاستغناء بالثاني عن الأول، وهذا الشرط متوفر؛ إذ يصح أن يقال: أن اتبع إبراهيم حنيفا، وخذ قول ابن مالك رحمه تعالى في ألفيته:[الرجز]

ولا تجز حالا من المضاف له

إلاّ إذا اقتضى المضاف عمله

أو كان جزء ماله أضيفا

أو مثل جزئه فلا تحيفا

والجملة الفعلية مفسرة لا محل لها. هذا؛ وبعضهم يعتبر {أَنِ} مصدرية تؤوّل بمصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بأن

إلخ، والأول: أقوى وهو المعتمد، وجملة:

{أَوْحَيْنا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {وَما:} الواو: واو الحال. (ما):

نافية. {كانَ:} ماض ناقص، واسمه يعود إلى {إِبْراهِيمَ}. {مِنَ الْمُشْرِكِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر كان، وجملة:{كانَ..} . إلخ في محل نصب حال من إبراهيم أيضا، والرابط: الواو، ورجوع الضمير إليه. هذا؛ والاستئناف ممكن. تأمل.

{إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)}

الشرح: {إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} أي: فرض تعظيم يوم السبت على الذين اختلفوا فيه، وهم اليهود، روى الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس-رضي الله عنهم أجمعين-قال: قال أمرهم موسى عليه السلام بتعظيم يوم الجمعة، فقال: تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوما، فاعبدوه في يوم الجمعة، ولا تعملوا فيه شيئا من صنعتكم، وستة أيام لصنعتكم، فأبوا عليه. وقالوا: لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله فيه من الخلق، وهو يوم السبت، ففرض ذلك اليوم عليهم، وشدد عليهم فيه، ثم جاءهم عيسى عليه السلام أيضا بيوم الجمعة، فقالت النصارى: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا، يعنون اليهود فاتخذوا الأحد، فاعطى الله عز وجل الجمعة لهذه الأمة، فقبلوها، فبورك لهم فيها. انتهى خازن.

عن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة؛ بيد أنّهم أوتوا الكتاب من قبلنا، فاختلفوا فيه، وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي فرض عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فهم لنا فيه تبع، فغدا لليهود، وبعد غد للنصارى» . متفق عليه.

هذا؛ وقال قتادة: الذي اختلف فيه اليهود، استحله بعضهم، وحرمه بعضهم، فعلى هذا القول يكون معنى قوله:{إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ} أي: وبال السبت، ولعنته على الذين اختلفوا

ص: 284

فيه، وهم اليهود، فأحلّه بعضهم، فاصطادوا فيه، فلعنوا، ومسخوا قردة، وخنازير في زمن داود عليه السلام، وقد تقدمت القصة في تفسير سورة (الأعراف) الآية رقم [163] وما بعدها، والقول الأول: أقرب إلى الصحة. انتهى. خازن. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ..} . إلخ: أي: الذين اختلفوا في أمر السبت، فيحكم الله بينهم يوم القيامة، فيجازي المحقين بالثواب، والمبطلين بالعقاب.

قال القرطبي: ووجه الاتصال بما قبله: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باتباع الحق، وحذّر الله الأمة من الاختلاف، فيشدد عليهم، كما شدد على اليهود. انتهى. وقال البيضاوي: وذكرهم هاهنا لتهديد المشركين، كذكر القرية التي كفرت بأنعم الله. انتهى.

الإعراب: {إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {جُعِلَ:} ماض مبني للمجهول. {السَّبْتُ:} نائب فاعله. {عَلَى الَّذِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما مفعوله الثاني، وجملة:{اِخْتَلَفُوا فِيهِ} صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{إِنَّما جُعِلَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَإِنَّ:}

الواو: واو الحال. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {رَبَّكَ:} اسم (إنّ)، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لَيَحْكُمُ:} اللام: هي المزحلقة.

(يحكم): مضارع، والفاعل يعود إلى {رَبَّكَ}. {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق به أيضا، و {يَوْمَ} مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه. {فِيما:} متعلقان به أيضا، أو هما متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب:(في)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور ب (في)، {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {فِيهِ:} متعلقان بالفعل بعدهما، وجملة:«يختلفون فيه» في محل نصب خبر (كان).

{اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)}

الشرح: {اُدْعُ:} هذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو يشمل كلّ داع إلى خير، وطاعة، وعبادة لله، وكل ناه عن منكر. {سَبِيلِ رَبِّكَ:} دينه الذي اصطفاه للناس جميعا، وهو دين الإسلام الذي بعث فيه حبيبه، ونبيّه عليه أفضل صلاة، وأتم تسليم. {بِالْحِكْمَةِ:} وهي المقالة المحكمة الصحيحة، وهي الدليل الموضح للحق، المزيل للشبهة. وقال أبو بكر بن دريد: الحكمة: كل كلمة وعظتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح. {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ:} هي الترغيب والترهيب بالخطابات المقنعة، والعبر النافعة. والأولى لدعوة خواصّ الأمة، الطالبين للحقائق.

والثانية لدعوة عوامّهم. {وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة

ص: 285

من الرفق، واللين، من غير فظاظة، ولا تعنيف، وإيثار ذلك على غيره، فإنه أنفع في تسكين حنق المعاندين، وتهدئة شغبهم، وضجيجهم.

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ} أي: عالم. {بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ:} حاد عن الصراط المستقيم، وأعرض عن الدين القويم. {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ:} الذين هدوا إلى الصراط المستقيم. ومحصّله:

أن عليك يا محمد البلاغ، ودعوة الناس إلى دين الله وتوحيده، وأما حصول الهداية، والضلال، والمجازاة عليهما؛ فليس ذلك إليك، بل الله أعلم بالفريقين، وهو المجازي للناس أجمعين.

قال القرطبي: هذه الآية نزلت بمكة في وقت الأمر بمهادنة قريش، وأمره أن يدعو إلى دين الله، وشرعه بتلطف ولين دون مخاشنة، وتعنيف، وهكذا ينبغي أن يعظ المسلمون إلى يوم القيامة، فهي محكمة في حقّ العصاة من الموحّدين، ومنسوخة بالقتال في حقّ الكافرين. انتهى.

الإعراب: {اُدْعُ:} أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الواو، والضمة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» والمفعول محذوف، التقدير: الناس

{إِلى سَبِيلِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، و {سَبِيلِ:} مضاف، و {رَبِّكَ:} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه

{بِالْحِكْمَةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو بمحذوف حال من فاعل {اُدْعُ} المستتر؛ أي: ملتبسا بها. {وَالْمَوْعِظَةِ:} معطوف على ما قبله. {الْحَسَنَةِ:} صفة لها، والجملة الفعلية:{اُدْعُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَجادِلْهُمْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {بِالَّتِي:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الاسمية:{هِيَ أَحْسَنُ} صلة الموصول، لا محل لها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {رَبِّكَ:} اسمها، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية:{هُوَ أَعْلَمُ} في محل رفع خبر إن. {بِمَنْ:} متعلقان ب: {أَعْلَمُ،} و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بالباء، وجملة:{ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} صلة من، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: رجوع الفاعل إليها، والجملة الاسمية:{وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها، والجملة الاسمية:{إِنَّ رَبَّكَ..} . إلخ تعليل للأمر، لا محل لها.

{وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ (126)}

الشرح: لقد ذكرت لك في مقدمة السورة: أن الآية وما بعدها إنما نزلت في المدينة بعد الهجرة، فقد روى الدّارقطنيّ عن ابن عباس-رضي الله عنهما، قال: لما انصرف المشركون عن قتلى أحد؛ انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى منظرا ساءه، رأى حمزة-رضي الله عنه-قد شقّ بطنه، واصطلم أنفه، وجدعت أذناه، فقال: «لولا أن يحزن النساء، أو تكون سنة بعدي لتركته

ص: 286

حتى يبعثه الله من بطون السباع والطير! لأمثلن مكانه بسبعين رجلا منهم». فأنزل الله الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بل نصبر» . وأمسك عما أراد، وكفّر عن يمينه. انتهى. قرطبي بتصرف.

وأما معنى الآية وتفسيرها: فقد سمى الفعل الأول: {عاقَبْتُمْ} باسم الثاني للمشاكلة في الكلام. فهو عكس قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ} حيث سمى الثاني، وهو بمعنى:

جازاهم بلفظ الأول للمشاكلة، والمزاوجة في الكلام، والمعنى: إن فعل بكم أحد سوءا من قتل، أو مثله، أو ظلم بأخذ مال، ونحوه وتمكنتم منه، فقابلوه بمثله، ولا تزيدوا عليه، فهو كقوله تعالى:{وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} أمر الله برعاية العدل، والإنصاف في هذه الآية في باب استيفاء الحقوق، فإن استيفاء الزيادة ظلم، والظلم لا يجوز في عدل الله، وشرعه، ورحمته، وما يذكر إلا أولو الألباب.

الإعراب: {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {عاقَبْتُمْ:} ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والميم علامة الذكور، والمفعول محذوف، التقدير: عاقبتم المؤذي، أو المضر، ونحوه، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَعاقِبُوا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.

(عاقبوا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله. {بِمِثْلِ:} متعلقان بما قبلهما. {ما:}

اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة. {عُوقِبْتُمْ:} ماض مبني للمجهول، والتاء نائب فاعله. {بِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{فَعاقِبُوا..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. {وَلَئِنْ:} الواو:

حرف عطف. اللام: موطئة لقسم محذوف. (إن صبرتم): مثل سابقه. {لَهُوَ:} اللام: واقعة في جواب القسم المحذوف (هو خير): مبتدأ، وخبر. {لِلصّابِرِينَ:} متعلقان ب {خَيْرٌ،} والجملة الاسمية: {لَهُوَ خَيْرٌ..} . إلخ جواب القسم المقدر، وحذف جواب الشرط، لدلالة جواب القسم عليه، قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته:[الرجز]

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخّرت فهو ملتزم

والكلام: {وَلَئِنْ..} . إلخ معطوف على ما قبله، لا محل له مثله.

{وَاِصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ (127)}

الشرح: {وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاّ بِاللهِ:} هذا أمر من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وإعلام له: أنّ صبره لا يكون إلا بتوفيق الله ومعونته. {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي: على الكافرين؛ الذين ناصبوك العداء،

ص: 287

وفعلوا ما فعلوا بأصحابك في حرب أحد. وقيل: المعنى: لا تحزن على قتلى أحد، وما فعل بهم، فإنهم أفضوا إلى رحمة الله، ورضوانه. {وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ} أي: لا تغتمّ يا محمد، ولا يضيقنّ صدرك بسبب مكرهم، فإن الله مذلهم، وخاذلهم، وناصرك عليهم.

هذا؛ وقرئ: (ضيق) بفتح الضاد وكسرها، وهما لغتان كالقول والقيل، ويجوز أن يكون بالفتح مخففا من المشدد، مثل تخفيف: هين، ولين، ونحوهما. وقال الفراء: الضّيق: ما ضاق عنه صدرك، والضّيق: ما يكون في الذي يتسع، ويضيق، مثل الدار، والثوب. هذا؛ والمكر تدبير الأمر في الخفاء. وانظر شرح:{تَكُ} وإعلاله في الآية رقم [109] من سورة (هود) عليه السلام، وانظر الآية رقم [70] من سورة (النّمل) حيث تجد الآية بحروفها كاملة.

الإعراب: {وَاصْبِرْ:} الواو: حرف عطف. (اصبر): أمر، وفاعله: أنت، ومتعلقه محذوف للتعميم، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {وَما:} الواو: واو الحال. (ما): نافية. {صَبْرُكَ:} مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {إِلاّ:} حرف حصر. {بِاللهِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الفاعل المستتر، والرابط: الواو، والضمير. {وَلا:} الواو: حرف عطف.

(لا): ناهية جازمة. {تَحْزَنْ:} مضارع مجزوم ب: (لا)، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» .

{عَلَيْهِمْ:} متعلقان به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {وَلا:}

الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تَكُ:} مضارع ناقص مجزوم ب: (لا)، وعلامة جزمه السكون على النون المحذوفة للتخفيف، واسمه ضمير مستتر تقديره:«أنت» . {فِي ضَيْقٍ:}

متعلقان بمحذوف خبر {تَكُ} . {مِمّا:} (من): حرف جر. (ما): مصدرية، تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب:(من)، التقدير: من مكرهم، والجار والمجرور متعلقان ب {ضَيْقٍ} أو بمحذوف صفة له. هذا؛ واعتبار (ما) موصولة، أو موصوفة فيه ضعف لا يخفى، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

{إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اِتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)}

الشرح: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ} أي: بالنصر والمعونة، والتأييد والتوفيق لصالح الأعمال، هذا؛ ومعيّة الله على نوعين: عامة، وخاصة، فالأولى لكل الناس، وهي معية بالعلم، والقدرة، والثانية للمؤمنين المتقين، والمحسنين، وهو ما تقدم، قال تعالى:{إِنَّ اللهَ مَعَ الصّابِرِينَ} .

{اِتَّقَوْا} أي: خافوا الله، فعملوا بأوامره، واجتنبوا نواهيه. وانظر مثله في الآية رقم [109] من سورة (يوسف) عليه السلام. {وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} أي: الذين أحسنوا العمل من صلاة،

ص: 288

وغيرها، وكذلك أحسنوا إلى غيرهم بالعفو عنهم، والتجاوز عن سيئاتهم، والنصح معهم في بيعهم، وشرائهم، وأخذهم، وعطائهم، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {مَعَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر {إِنَّ،} و {مَعَ:} مضاف، و {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة. {اِتَّقَوْا:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة؛ التي هي فاعله، والألف للتفريق، والمفعول محذوف انظر الشرح، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {وَالَّذِينَ:} معطوف على سابقه. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {مُحْسِنُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ..} . إلخ تعليل للأمر والنهي في الآية السابقة. تأمل، وتدبر، والله أعلم، وأجل، وأكرم.

انتهت سورة (النحل) -بعونه تعالى-تفسيرا وإعرابا، والله الموفق، والمعين، وبه نستعين.

والحمد لله رب العالمين.

**

ص: 289