المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الإسراء وهي مكية إلا ثلاث آيات، قوله عز وجل: {وَإِنْ - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٥

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة الإسراء وهي مكية إلا ثلاث آيات، قوله عز وجل: {وَإِنْ

‌سورة الإسراء

وهي مكية إلا ثلاث آيات، قوله عز وجل:{وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ..} . إلخ الآية رقم [73] وما بعدها، وقوله عز وجل:{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ..} . إلخ الآية رقم [80] وقال مقاتل:

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ..} . إلخ الآية رقم [107] وقال ابن مسعود-رضي الله عنه في (بني إسرائيل) و (الكهف) و (مريم): إنهن من العتاق الأول، وهن من تلادي. يريد: من قديم كسبه. وهي مائة وعشر آيات. وقيل: وإحدى عشرة آية، وخمسمائة وثلاث وثلاثون كلمة، وثلاثة آلاف، وأربعمائة وستون حرفا. انتهى. خازن.

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم

{سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)}

الشرح: {سُبْحانَ الَّذِي..} . إلخ: نزه الله نفسه عن كل النقائص، والمعايب التي يمكن أن يتصف بها بنو آدم، كما نزه نفسه عن العجز، والضعف، وغيرهما من الصفات التي يتصف بها الآدميون في كل وقت وحين. وانظر الآية رقم [1] من سورة (النحل) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

{أَسْرى:} فيه لغتان: سرى، وأسرى، وقرئ قوله تعالى:{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} بهمزة الوصل من الأول، وبقطعها من الثاني، وقد جمع حسان بن ثابت-رضي الله عنه-بين اللغتين في بيت واحد:[الكامل]

حيّ النّضيرة ربّة الخدر

أسرت إليّ ولم تكن تسري

و «سرى» و «أسرى» بمعنى واحد، وهو قول أبي عبيد، والثانية: لغة أهل الحجاز، وبها جاء القرآن الكريم هنا، وهما بمعنى: سار الليل عامته. وقيل: سرى لأول الليل، وأسرى لآخره، وهو قول الليث، وأما «سار» فهو مختص بالنهار، وليس مقلوبا من سرى، فهو بمعنى: مشى.

هذا؛ والسرى، والإسراء: السير في الليل، يقال: سرى، يسري، سرى، ومسرى، وسرية، وسراية، وأسرى إسراء. هذا؛ والسّرى يذكر، ويؤنث، ولم يحك اللحياني فيه إلا التأنيث، كأنهم جعلوه جمع: سرية.

ص: 290

{بِعَبْدِهِ:} المراد به: سيد الخلق، وحبيب الحق محمد صلى الله عليه وسلم بإجماع الأمة، والإضافة إضافة تشريف، وتعظيم، وتبجيل، وتفخيم وتكريم، وذكر العبودية مقام عظيم، ولو كان للنبي صلى الله عليه وسلم اسم أشرف منه؛ لسماه به في تلك الحالة العلية، وفي معناه أنشدوا:[السريع]

يا قوم قلبي عند زهراء

يعرفه السامع والرّائي

لا تدعني إلاّ بيا عبدها

فإنّه أشرف أسمائي

علما بأنه صلى الله عليه وسلم لم يذكر باسمه الصريح في القرآن إلا قليلا، ذكر باسم محمد في سورة (آل عمران) وسورة (الأحزاب)، وسورة (محمد)، وسورة (الفتح) وذكر باسم أحمد في سورة (الصف)، وذكر باسم طه في سورة (طه)، وذكر باسم ياسين في سورة (يس). هذا؛ والعبد:

الإنسان حرا كان، أو رقيقا، ويجمع على: عبيد، وعباد، وأعبد، وعبدان، وعبدة، وغير ذلك؛ قال القشيري: لمّا رفعه الله تعالى إلى حضرته السنية، وأرقاه فوق الكواكب العلوية؛ ألزمه اسم العبودية تواضعا للأمة.

{لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} أي: المسجد الذي حول الكعبة المشرفة، ومعنى الحرام:

المحرم فيه اللغو، والرفث، والإيذاء، وكل فعل قبيح، وعمل فاحش، وإن كان في غيره حراما، فهو أشد فيه حرمة، وكذلك محرم على الكفار، فلا يجوز أن يدخله كافر أبدا. وانظر الآية رقم [100] من سورة (المائدة) تجد ما يسرك. وانظر:{الْحَرامِ} في الآية رقم [116] من سورة (النحل). {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى:} بيت المقدس في فلسطين، سمي «أقصى» لبعده عن المسجد الحرام، أو؛ لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد، وأول من بناه آدم عليه السلام، بعد أن بنى الكعبة بأربعين سنة، فهو أول مسجد بني في الأرض بعد الكعبة. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [96] من سورة (آل عمران)، ففيها كبير فائدة.

{الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ} أي: بكثرة الأنهار، والأشجار، والثمار، أو سماه مباركا؛ لأنه مقرّ الأنبياء، ومهبط الملائكة، والوحي، وقبلة الأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، وفيه يكون الحشر يوم القيامة.

هذا؛ و «حول» ظرف مكان لا يتصرف، فهو ملازم للظرفية أبدا، يقال: قعد حوله، وحواله، وحوليه، وحواليه، ولا تقل: حواليه بكسر اللام، وقعد بحياله، وحياله؛ أي: بإزائه، وإزاءه.

{لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا} أي: من عجائب قدرتنا؛ أي: فقد رأى صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة الأنبياء، وصلى بهم، ووقف على مقاماتهم، وغير ذلك من المشاهدات. {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} أي: الله سميع لأقوال محمد صلى الله عليه وسلم ودعائه. {الْبَصِيرُ:} بأفعاله فيكرمه ويقربه على حسب ذلك. وقيل:

المعنى: السميع لما قالت له قريش حين أخبرهم بمسراه إلى بيت المقدس، وما شاهده من العجائب. وقيل: إنه هو السميع لأقوال خلقه، البصير بأعمالهم، فيجازي كل عامل بعمله، وحمله على العموم أولى. هذا؛ وقال أبو البقاء: وقيل: الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: إنه السميع لكلامنا، البصير لذاتنا. وهو قول انفرد به.

ص: 291

تنبيه: في الآية الكريمة التفات من الغيبة في قوله: {سُبْحانَ الَّذِي..} . إلخ إلى التكلم في قوله: إلى {الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ..} . إلخ ثم التفات ثان إلى الغيبة في قوله: {إِنَّهُ هُوَ..} . إلخ.

هذا؛ وقرئ: «(ليريه)» بياء المضارعة، فيكون في الآية أربعة التفاتات، الأول: من الغيبة إلى التكلم. والثاني: من التكلم إلى الغيبة. والثالث: من الغيبة في «ليريه» إلى التكلم في: {آياتِنا} والرابع: من التكلم إلى الغيبة في إعادة الضمير إلى الله تعالى، وهو الصحيح.

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشدّ الرّحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد:

مسجدي هذا؛ والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى». رواه مالك في موطئه، وفيه ما يدل على فضل هذه المساجد الثلاثة على سائر المساجد. وعن أبي الدرداء-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة بمسجدي هذا بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة» . رواه الطبراني.

تنبيه: لقد أطال المفسرون الكلام في حديث الإسراء والمعراج، وها أنا ذا أقتصر على الحديث الذي رواه البخاري برقم [3207] عن مالك بن صعصعة-رضي الله عنه-قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان-وذكر: يعني رجلا بين الرجلين-فأوتيت بطست من ذهب، ملئ حكمة، وإيمانا، فشق من النحر إلى مراقّ البطن، ثم غسل البطن بماء زمزم، ثم ملئ حكمة، وإيمانا، وأوتيت بدابة أبيض دون البغل، وفوق الحمار (البراق) فانطلقت مع جبريل عليه السلام؛ حتى أتينا السماء الدنيا، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قيل: محمد، قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، ولنعم المجيء جاء، فأتيت على آدم عليه السلام، فسلمت عليه، فقال: مرحبا بك من ابن، ونبي. فأتينا السماء الثانية، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: من معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، ولنعم المجيء جاء، فأتيت على يحيى، وعيسى، فسلمت عليهما، فقالا: مرحبا بك من أخ، ونبي.

فأتينا السماء الثالثة، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: من معك؟ قال: محمد، قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، ولنعم المجيء جاء، فأتيت على يوسف، فسلمت عليه، فقال: مرحبا بك من أخ، ونبي. فأتينا السماء الرابعة، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: من معك؟ قيل: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، ولنعم المجيء جاء، فأتيت على إدريس عليه السلام، فسلمت عليه، فقال: مرحبا بك من أخ ونبي.

فأتينا السماء الخامسة، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قيل: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، ولنعم المجيء جاء، فأتيت على هارون عليه السلام، فسلمت عليه، فقال: مرحبا بك من أخ، ونبي. فأتينا السماء السادسة، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل:

ص: 292

مرحبا به، ولنعم المجيء جاء، فأتيت على موسى، فسلمت عليه، فقال: مرحبا بك من أخ، ونبي.

فلما جاوزت؛ بكى، قيل: ما أبكاك؟ قال: يا رب هذا الغلام الذي بعث من بعدي، يدخل الجنة من أمته أفضل ما يدخل من أمتي. فأتينا السماء السابعة، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: من معك؟ قيل: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، ولنعم المجيء جاء، فأتيت على إبراهيم عليه السلام، فسلمت عليه، فقال: مرحبا بك من ابن، ونبي.

فرفع إليّ البيت المعمور، فسألت جبريل، فقال: هذا البيت المعمور، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك؛ إذا خرجوا؛ لم يعودوا آخر ما عليهم. ورفعت إليّ سدرة المنتهى، فإذا نبقها كأنه قلال هجر، وورقها كآذان الفيول، في أصلها أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران، فسألت جبريل، فقال: أما الباطنان؛ ففي الجنّة، وأما الظاهران فالفرات، والنيل.

ثم فرضت علي خمسون صلاة، فأقبلت حتى جئت موسى، فقال: ما صنعت؟ قلت:

فرضت علي خمسون صلاة، قال: أنا أعلم بالناس منك، عالجت بني إسرائيل أشدّ المعالجة، وإن أمتك لا تطيق، فارجع إلى ربك فاسأله (التخفيف) فرجعت فسألته، فجعلها أربعين، ثم مثله فجعلها ثلاثين، ثم مثله فجعل عشرين، ثم مثله فجعل عشرا، فأتيت موسى، فقال: مثله فجعلها خمسا، فأتيت موسى، فقال: ما صنعت؟ قلت: جعلها خمسا، فقال: مثله، قلت: سلمت، فنودي: إني قد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، وأجزي الحسنة عشرا». انتهى. وفي رواية، قال الله تعالى:«يا محمد! هي خمس صلوات في كل يوم وليلة، بكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة» ؛ أي: في الأجر، والثواب.

هذا؛ ولم يذكر في هذه الرواية مجيئه إلى بيت المقدس، وفي رواية ثانية: فركبته-أي:

البراق-حتى أتيت بيت المقدس، فربطت الدابة بالحلقة التي تربط فيها الأنبياء، وصليت فيه ركعتين إماما بالأنبياء، والملائكة، وأرواح المؤمنين.

وهنا يرد سؤال: كيف صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء في بيت المقدس؟ ثم وجدهم على مراتبهم في السموات، وسلموا عليه، ورحّبوا به، وكيف تصح الصلاة من الأنبياء بعد الموت، وهم في الدار الآخرة.

والجواب: أما صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء في بيت المقدس؛ فيحتمل أن الله تعالى جمعهم له ليصلي بهم، وليعرفوا فضله، وتقدمه عليهم، ثم إن الله سبحانه وتعالى أراه إياهم في السموات على مراتبهم، ليعرف هو مراتبهم، وفضلهم. وأما صلاة الأنبياء، وهم في الدار الآخرة، فهم في حكم الشهداء، بل هم أفضل منهم، وقد قال الله تعالى:{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ} فالأنبياء أحياء بعد الموت. وأما حكم صلاتهم، فيحتمل: أنها الذكر والدعاء، وذلك من أعمال الآخرة فإن الله تعالى قال:{دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ} . انتهى. خازن بتصرف كبير.

ص: 293

أقول: وكل ذلك بالأرواح لا بالأشباح، فإن أرواح الأنبياء غير أرواحنا، ولمكانة الرسول صلى الله عليه وسلم عند ربه كشف عنه الحجب حتى التقت روحه الشريفة بأرواح الأنبياء عليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام في الأرض، وفي السموات.

تنبيه: لقد قيل: إن إسراء الرسول صلى الله عليه وسلم كان مناما، وبالروح لا بالجسد، وهذا تردّه النصوص الصحيحة الصريحة: أنه كان يقظة، وبالجسد، والروح معا، ولو كان مناما لما كانت فيه آية، ولا معجزة، ولما قالت له أم هانئ بنت عمه-رضي الله عنها-لا تحدث الناس، فيكذبوك، ولا فضل أبو بكر-رضي الله عنه-بالتصديق، ولما أمكن قريشا التشنيع، والتكذيب، وقد كذبوه فيما أخبر به حتى ارتد أقوام كانوا آمنوا، فلو كان بالرؤيا؛ لم يستنكر، وقد سأله بعض القرشيين عن أمور رآها في مسراه، فأخبرهم بها على وجهها الصحيح، وإذا كان هناك من يشك في قدرة الله تعالى بسبب ذهاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، وعروجه إلى السماء، وعودته إلى بيته في ليلة واحدة، فلينظر إلى ما اخترع من طائرات نفاثة، وأقمار صناعية تجوب الفضاء ليلا نهارا، وتقطع المسافات البعيدة في مدّة قصيرة من الزمن.

وجملة القول: إن الإسراء قد ثبت بهذه الآية الكريمة، فمن أنكره كان كافرا بالإجماع، وأما المعراج فقد ثبت بالأحاديث الصحيحة، وآيات النجم تشير إليه، فمن أنكره كان فاسقا، بقي أن تعلم الوقت الذي حصلت فيه حادثة الإسراء، فالمعتمد: أنها حصلت قبل الهجرة بعام واحد، بعد وفاة خديجة-رضي الله عنها-التي كانت تواسيه بنفسها، وتنفس عنه كروبه، وهمومه.

الإعراب: {سُبْحانَ:} مفعول مطلق لفعل محذوف، كما رأيت في الشرح. وقال أبو عبيدة:

انتصب على النداء، كأنه قال: يا سبحان الله، يا سبحان الذي. ولم يقله غيره.. وهو مضاف، و {الَّذِي} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة من إضافة اسم المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو من إضافة اسم المصدر لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا. {أَسْرى} ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل يعود إلى الذي، وهو العائد، والجملة صلة الموصول، لا محل لها. {بِعَبْدِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة.

{لَيْلاً:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. {مِنَ الْمَسْجِدِ:} متعلقان به أيضا، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر؛ أي: حال كونه مبتدئا مسراه من المسجد. {الْحَرامِ:} صفة {الْمَسْجِدِ} . {إِلَى الْمَسْجِدِ:} متعلقان به، أو هما متعلقان بمحذوف حال أيضا؛ أي: منتهيا إلى المسجد. {الْأَقْصَى:} صفة {الْمَسْجِدِ} مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف.

{الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة ثانية. {بارَكْنا:} فعل، وفاعل.

{حَوْلَهُ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{بارَكْنا حَوْلَهُ} صلة الموصول، لا محل لها. {لِنُرِيَهُ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل

ص: 294

مستتر فيه وجوبا تقديره: «نحن» ، والهاء مفعول به، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بما قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: وذلك لنريه. {مِنْ آياتِنا:} متعلقان بما قبلهما، و (نا): في محل جر بالإضافة.

{إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {هُوَ:} فيه ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون توكيدا لاسم (إنّ) على المحل، والثاني: أن يكون ضمير فصل لا محل له من الإعراب، وعلى هذين الوجهين فالسميع خبر (إنّ)، والثالث: أن يكون مبتدأ، و {السَّمِيعُ} خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (إنّ). {الْبَصِيرُ:} خبر ثان ل: (إنّ)، أو للمبتدإ، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ هُوَ..} .

إلخ تعليلية، أو مستأنفة، لا محل لها.

{وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2)}

الشرح: {وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ} أي: أعطينا موسى التوراة. {وَجَعَلْناهُ هُدىً..} . إلخ: أي:

جعلنا الكتاب. وقيل: جعلنا موسى هاديا لبني إسرائيل من الضلال. {أَلاّ تَتَّخِذُوا} ويقرأ:

«(ألا يتخذوا)» . وانظر الإعراب يتضح لك المعنى. {مِنْ دُونِي وَكِيلاً} أي: ربا غيري، تكلون إليه أموركم، والوكيل: من يوكل إليه الأمر، ويعتمد عليه في المهمات وانظر الآية [54]. هذا؛ وقدّر القرطبي الكلام كما يلي: كرمنا محمدا صلى الله عليه وسلم بالإسراء، والمعراج، وأكرمنا موسى بالتوراة.

والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

هذا؛ و «بني» أصله: بنين، حذفت النون للإضافة، وهو جمع ابن مأخوذ من البناء؛ لأن الابن مبنى أبيه، ولذلك ينسب المصنوع إلى الصانع، و {إِسْرائِيلَ} هو نبي الله يعقوب على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، ومعناه بالعبريّة صفوة الله، أو عبد الله، ف:«إسرا» هو العبد، أو الصفوة، و «إيل» هو الله، ويعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وقد ولد في حياة جده إبراهيم، وهو النافلة التي امتن الله بها على إبراهيم بقوله:{وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً} ولقد وجدت في كثير من المراجع الموجودة عندي: أن يعقوب كان توأما مع أخ له اسمه عيصو في بطن واحد، فعند خروجهما من بطن أمهما تزاحما، وأراد كل منهما أن يخرج قبل صاحبه، فقال عيصو ليعقوب: إن لم تدعني أخرج قبلك، وإلا خرجت من جنبها، فتأخر يعقوب شفقة منه على أمّه؛ فلذا كان أبا الأنبياء، وعيصو أبا الجبّارين، وسمي يعقوب لذلك، والله أعلم بحقيقة ذلك.

الإعراب: {وَآتَيْنا:} فعل، وفاعل. {مُوسَى:} مفعوله الأول. {الْكِتابَ:} مفعوله الثاني، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{سُبْحانَ..} . إلخ، أو هي مستأنفة، لا محل لها. {وَجَعَلْناهُ هُدىً:} ماض، وفاعله ومفعولاه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها،

ص: 295

وعلامة نصب {هُدىً} فتحة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها. {لِبَنِي:} متعلقان ب: {هُدىً،} أو بمحذوف صفة له، وأجيز تعليقهما بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و (بني): مضاف، و {إِسْرائِيلَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة، أو للعلمية، والتركيب المزجي.

{أَلاّ:} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: اعتبار (أن) بمعنى: «أي» مفسرة لما تضمنه الكتاب من الأمر والنهي. والثاني: اعتبار (لا) زائدة، والتقدير: مخافة أن تتخذوا. والثالث: اعتبار «أن» زائدة.

وضعفه الجمل؛ لأن هذا ليس من مواضع زيادتها، وعلى هذا فالفعل {تَتَّخِذُوا} مجزوم بلا الناهية على الوجه الأول والثالث، ومنصوب على الوجه الثاني، وعلامة الجزم، أو النصب حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية على الوجه الأول: مفسرة لا محل لها، وفي محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: وقلنا لهم: لا تتخذوا. هذا؛ وعلى وجه النصب، وهو الثاني: فتؤوّل (أن) مع الفعل بمصدر في محل جر بالإضافة لمصدر محذوف يقع مفعولا لأجله، التقدير: مخافة اتخاذكم. هذا؛ ويقرأ: {أَلاّ تَتَّخِذُوا} على (أن) ناصبة، و (لا): نافية، والفعل منصوب ب:(أن)، و (أن) والفعل في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف؛ إذ التقدير: لئلا يتخذوا، والجار والمجرور بعد السبك يتعلقان بالفعل (جعلنا). {مِنْ دُونِي:} متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {وَكِيلاً:} مفعول به ثان، فيكون الجار والمجرور متعلقين بمحذوف مفعول أول.

هذا؛ وأجيز تعليقهما ب: {وَكِيلاً،} أو بمحذوف حال منه.

{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3)}

الشرح: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ:} المعنى: يا ذرية من حملنا مع نوح كونوا كما كان نوح عليه السلام في العبودية، والانقياد، وفي كثرة الشكر لله تعالى، يفعل الطاعات، ويجتنب المعاصى والسيئات. هذا؛ ويقرأ ذرية بتثليث الذال، مع تشديد الراء والياء. وانظر الآية رقم [23] من سورة (الرعد). {إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً} أي: إن نوحا عليه السلام كان كثير الشكر لله. وقيل في شكره:

إنه كان يسمي الله ويحمده في كل حالاته: من طعام، وشراب، ولباس، وكل حركاته، وسكناته.

وانظر شرح (الشكر) في الآية رقم [7 و 37] من سورة (إبراهيم) عليه السلام. وانظر قصة نوح مع قومه في سورة (هود) عليه السلام وفي سورة (الأعراف). وفي الآية إيماء إلى أن جميع المخلوقات بعد نوح من ذرية الذين نجوا معه في السفينة، وهو ممّا يؤيد: أن الطوفان عمّ الأرض كلها.

ص: 296

الإعراب: {ذُرِّيَّةَ:} فيه أوجه: أحدها هو منادى حذف منه أداة النداء؛ إذ الأصل: يا ذرية.

والثاني: هو مفعول ثان للفعل {تَتَّخِذُوا} . وقيل: العكس أيضا. والثالث: هو منصوب بفعل محذوف، تقديره: أعني، واعتبره الزمخشري منصوبا على الاختصاص، وليس هذا موضع الاختصاص، كما أجيز اعتباره بدلا من {وَكِيلاً،} فإعراب {ذُرِّيَّةَ} مرتبط بما قبله، ويختلف باختلاف القراءة في:{أَلاّ تَتَّخِذُوا} . تأمل، وتدبر. هذا؛ وقرئ شاذا برفعه على أنه بدل من واو الجماعة، أو خبر لمبتدإ محذوف، ويجوز جره في العربية على البدل من (بني إسرائيل)، ولم يقرأ به أحد، و {ذُرِّيَّةَ:} مضاف، و {مَنْ} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وهو يحتمل الإفراد والجمع، والجملة الفعلية بعده صلته، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: الذي حملناه، أو الذين حملناهم، وهو أقوى. تأمل. {مَعَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و {مَعَ:} مضاف، و {نُوحٍ:} مضاف إليه. {إِنَّهُ} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {كانَ} ماض ناقص، واسمه يعود إلى نوح عليه السلام. {عَبْداً} خبر {كانَ} . {شَكُوراً} صفة عبدا، وجملة:{كانَ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ) والجملة الاسمية: {إِنَّهُ..} . إلخ تعليل للأمر الذي رأيت تقديره في الشرح.

{وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4)}

الشرح: {وَقَضَيْنا إِلى..} . إلخ: أي: أعلمناهم، وأخبرناهم فيما آتيناهم من الكتاب:

أنهم سيفسدون. انتهى. خازن. وقال البيضاوي: أوحينا إليهم وحيا مقضيا مبتوتا. وقال قتادة: أي: حكمنا، فتكون {إِلى} بمعنى: على، والمراد: بالكتاب: التوراة، وقرئ:«(في الكتب)» وعلى تفسير (قضينا) بحكمنا يكون المراد {فِي الْكِتابِ:} اللوح المحفوظ. {لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ:} المراد في الأرض: أرض بيت المقدس، وما حوله، وإفسادهم في المرة الأولى هي مخالفة أحكام التوراة، وقتل زكريا عليه السلام، وحبس أرمياء حين أنذرهم سخط الله. قيل: وقتل شعياء النبي. وإفسادهم في المرة الثانية: قتل يحيى بن زكريا، وقصد قتل عيسى عليهم الصلاة والسّلام. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [15] من سورة (مريم) عليها السلام. {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً:} أراد بالعلو: التكبر عن طاعة الله تعالى، والاعتداء على حرمات الناس، وحقوقهم، وما يتعلق به من بغي، وطغيان.

بعد هذا خذ شرح «قضى» بمعانيه المختلفة: قال الشيخ أبو منصور-رحمه الله تعالى- القضاء يحتمل الحكم؛ أي: ليحكم ما قد علم أنه يكون كائنا، أو ليتم أمرا كان قد أراده، وما أراد كونه فهو مفعول لا محالة. انتهى. هذا؛ والمصدر: قضاء بالمد؛ لأن لام الفعل ياء؛ إذ أصل ماضيه «قضي» بفتح الياء، فقلبت ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها. ومصدره:«قضيا»

ص: 297

بالتحريك، كطلب طلبا، فتحركت الياء فيه أيضا، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فاجتمع ألفان، فأبدلت الثانية همزة، فصار قضاء-ممدودا-.

وجمع القضاء أقضية كعطاء وأعطية، وهو في الأصل إحكام الشيء، وإمضاؤه، والفراغ منه، ويكون أيضا بمعنى: الأمر، قال تعالى:{وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ..} . إلخ وبمعنى:

العلم، تقول: قضيت بكذا؛ أي: أعلمتك به، وبمعنى: الإتمام، قال تعالى:{فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} وبمعنى: الفعل، قال تعالى حكاية عن قول السحرة لفرعون:{فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ} وبمعنى: الإرادة، قال تعالى:{فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وبمعنى: الموت، كقوله تعالى حكاية عن قول أهل النار:{وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ} وبمعنى: الكتابة قال تعالى:

{وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا} أي: مكتوبا في اللوح المحفوظ. وبمعنى: الفصل، قال تعالى:{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} وبمعنى: الخلق، قال تعالى:{فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ} وبمعنى: بلوغ المراد، والأرب، قال تعالى:{فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها} وبمعنى:

وفيت الدين، كقولك: قضيت ديني. انتهى. قسطلاني شرح البخاري بتصرف، وأضيف: أنه يكون بمعنى: أوصينا كما في قوله تعالى: {وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} الآية رقم [66] من سورة (الحجر). وانظر ما ذكرته هناك في شرح (قضينا). وقد أتى:

قضى، وليقضوا بمعنى: ليزيلوا في الآية رقم [29] من سورة (الحج).

قال القرطبي-رحمه الله تعالى-فإذا كان القضاء يحتمل هذه المعاني، فلا يجوز إطلاق القول بأن المعاصي بقضاء الله؛ لأنه إن أريد به الأمر فلا خلاف أنه لا يجوز ذلك؛ لأن الله تعالى لم يأمر بها، فإنه لا يأمر بالفحشاء. وقال زكريا بن سلام: جاء رجل إلى الحسن، فقال:

إنه طلق امرأته ثلاثا، فقال: إنك قد عصيت ربك، وبانت منك، فقال الرجل: قضى الله ذلك عليّ، فقال الحسن: وكان فصيحا، ما قضى الله ذلك؛ أي: ما أمر الله به، وقرأ قوله تعالى:

{وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ} .

{وَلَتَعْلُنَّ:} أصل الفعل: (تعلو) معتل بالواو، فلما أسند إلى واو الجماعة صار:(تعلوون) فاتصلت به نون التوكيد الثقيلة لوقوعه جوابا لقسم مقدر، فصار:(لتعلووننّ) فاستثقلت الضمة على الواو، فحذفت، فالتقى ساكنان، واو العلة، وواو الجماعة، فحذفت واو العلة، فصار (لتعلوننّ) فحذفت نون الرفع لتوالي الأمثال. فصار:(لتعلونّ) فحذفت واو الجماعة لالتقاء الساكنين، وبقيت الضمة على اللام لتدل عليها، فصار (لتعلنّ) فأنت ترى أنه قد حذف منه حرفان: واو العلة، ونون الرفع، وضمير هو واو الجماعة، أما الفعل:{لَتُفْسِدُنَّ} فقد حذف منه حرف واحد، وهو نون الرفع، وواو الجماعة فقط؛ لأنّه صحيح الآخر، وإذا أسند الفعل المعتل الآخر بالياء لواو الجماعة، يحذف منه أيضا حرفان وضمير، أما إذا أسند الفعل المعتل

ص: 298

الآخر بالألف لواو الجماعة، فلا تحذف منه واو الجماعة، بل تبقى محركة بحركة مجانسة لها، مثل:«لتسعونّ، ولتخشونّ» ، ونحوهما.

الإعراب: {وَقَضَيْنا:} فعل، وفاعل. وانظر إعراب (حفظنا) في الآية رقم [17] من سورة (الحجر). {إِلى بَنِي:} متعلقان بالفعل قبلهما. {إِسْرائِيلَ:} مضاف إليه. وانظر الآية السابقة.

{فِي الْكِتابِ:} متعلقان بما قبلهما أيضا وأجيز تعليقهما بمحذوف حال من (نا)، وهو ضعيف، ولو قيل: متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف؛ لكان أقوى وأولى، وجملة:{وَقَضَيْنا..} .

إلخ معطوفة على جملة: (آتينا

) إلخ لا محل لها مثلها. اللام: واقعة في جواب قسم مقدر، التقدير: والله، أو هي واقعة في جواب (قضينا)؛ لأنه ضمن معنى القسم، ومنه قولهم: قضى الله لأفعلن. {لَتُفْسِدُنَّ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة المدلول عليها بالضمة فاعله، والنون للتوكيد حرف لا محل له، والمفعول محذوف، التقدير: لتفسدن الأديان، ونحوها. هذا؛ ويقرأ بالبناء للمجهول، فتكون الواو نائب فاعله، وهي المفعول، ويقرأ بفتح التاء وضم السين، فيكون لازما بمعنى: تفسد أموركم، والجملة الفعلية جواب القسم المقدر، والقسم، وجوابه كلام في محل نصب مفعول به ل (قضينا)، وإن كان جوابا ل:(قضينا) فلا محل لها. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بما قبلهما. {مَرَّتَيْنِ:} نائب مفعول مطلق، وبعضهم يعتبره ظرفا متعلقا بالفعل قبله، فهو منصوب على الاعتبارين، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{وَلَتَعْلُنَّ} معطوفة على ما قبلها، وإعرابها مثلها. {عُلُوًّا:} مفعول مطلق مبين لنوع الفعل. {كَبِيراً:} صفة له.

{فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5)}

الشرح: {فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما} أي: وقت أولى المرتين من فسادهم. {بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ:} هم أهل بابل في العراق، وكان ملكهم بختنصر. قاله ابن عباس-رضي الله عنهما. وقال قتادة: أرسل الله عليهم جالوت فقتلهم، فهو وقومه أولو بأس شديد. وقيل: اسم الملك سنحاريب من أهل نينوى. والمعتمد الأول. {فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ:} طافوا بين الديار يطلبونهم، ويقتلونهم ذاهبين، وجائين. هذا؛ وقرئ:«(فحاسوا)» بالحاء المهملة، قال أبو زيد:

الحوس، والجوس، والعوس، والهوس: الطواف بالليل. {وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً} أي: قضاء نافذا لا خلف فيه، فقد قتلوا كبار بني إسرائيل، وسبوا صغارهم، ونساءهم، وحرقوا التوراة، وخرّبوا بيت المقدس، وكان عدد ما سبوه سبعين ألفا، ومائة ألف. انظر الآية رقم [14] من سورة (مريم) عليها السلام.

ص: 299

ومعنى {أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ:} أصحاب قوة وبطش شديد في الحرب. هذا؛ و {أُولِي} بمعنى:

أصحاب. وانظر الآية رقم [19] من سورة (الرعد) أيضا، و «جاء» يكون لازما؛ إذا كان بمعنى:

حضر وأقبل كما في الآية الكريمة، ويكون متعديا؛ إذا كان بمعنى: وصل، وبلغ، كما في قوله تعالى:{إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ..} . إلخ.

الإعراب: {فَإِذا:} الفاء: حرف استئناف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {جاءَ:} ماض.

{وَعْدُ:} فاعله، وهو مضاف، و {أُولاهُما:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية، والجملة الفعلية في محل جر بالإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح. {بَعَثْنا:} فعل، وفاعل.

{عَلَيْكُمْ:} متعلقان بما قبلهما. {عِباداً:} مفعول به. {لَنا:} متعلقان بمحذوف صفة {عِباداً،} والإضافة لله ليست للتشريف هنا، كما في الآية رقم [1] وإنما هي بمعنى: مقهورين، وتحت سيطرتنا. {أُولِي:} صفة ثانية، أو هو حال من {عِباداً} بعد وصفه بما تقدم منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {أُولِي} مضاف، و {بَأْسٍ:}

مضاف إليه. {شَدِيدٍ:} صفة {بَأْسٍ،} وجملة: {بَعَثْنا..} . إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. {فَجاسُوا:} ماض، والواو فاعله والألف للتفريق، {خِلالَ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، و {خِلالَ:} مضاف، و {الدِّيارِ:} مضاف إليه، وجملة:

{فَجاسُوا..} . إلخ معطوفة على جواب (إذا)، لا محل لها أيضا. {وَكانَ:} ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر يعود إلى مصدر الجوس، أو إلى {وَعْدُ أُولاهُما}. {وَعْداً:} خبر كان. {مَفْعُولاً:}

صفة {وَعْداً،} وجملة: {وَكانَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

{ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6)}

الشرح: {ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} أي: الدولة والغلبة على من قتلكم، وسباكم، ونهب أموالكم، وذلك لمّا تبتم إلى الله، وأطعتموه، وتم ذلك بقتل داود جالوت، أو بقتل غيره على الخلاف فيمن قتلهم. {وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ:} قويناكم بالأموال، والأولاد؛ حتى عاد أمركم كما كان. {وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً:} أكثر عددا، وأوفر جندا.

هذا؛ و {الْكَرَّةَ:} في الأصل مصدر، يقال: كر، يكر، كرا، وكرة. والكر، والكرة:

الرجوع والرجعة. والمراد: به هنا: المرة من ذلك، والأموال: جمع: مال، قال ابن الأثير:

المال في الأصل يطلق على ما يملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى، ويملك

ص: 300

من الأعيان. وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها أكثر أموالهم. وقال الجوهري:

ذكر بعضهم: أن المال يؤنث، وأنشد لحسّان-رضي الله عنه:[البسيط]

المال تذري بأقوام ذوي حسب

وقد تسوّد غير السّيّد المال

وعن الفضل الضبي: المال عند العرب الصامت والناطق، فالصامت: الذهب، والفضة، والجواهر. والناطق: هو البعير، والبقرة، والشاة، فإذا قلت عن حضري: كثر ماله؛ فهو الصامت، وإذا قلت عن بدوي: كثر ماله؛ فالمراد: الناطق. والنشب: المال الثابت، كالضياع، ونحوها، فلا يقال للمنقول من المال المذكور آنفا، قال عمرو بن معديكرب الزبيدي-رضي الله عنه:[البسيط]

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب

هذا؛ والنفير: فعيل بمعنى: فاعل من نفر، ينفر: إذا خرج مع قومه للحرب، ونحوه، وهم اسم جمع مثل: نفر، ورهط. وقيل: هو جمع: نفر مثل: عبد، وعبيد. هذا؛ والنفير أيضا مصدر، يقال: نفرت الدابة، تنفر نفورا، ونفارا، ونفيرا من كذا، بمعنى: تباعدت. وانظر شرح: {ثُمَّ} في الآية رقم [53] من سورة (النحل). هذا؛ ولا تنس: أن الأفعال الثلاثة بمعنى: المضارع، وضعت موضع المستقبل لتحققه عبر عنها بالماضي، وهو مستعمل في القرآن الكريم بكثرة.

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {رَدَدْنا:} ماض، وفاعله. {لَكُمُ:} متعلقان بما قبلهما.

{الْكَرَّةَ:} مفعول به. {عَلَيْهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وأجيز تعليقهما بالكرة، أو بمحذوف حال منها، والجملة الفعلية معطوفة على جواب (إذا) وهو جملة:{بَعَثْنا..} . إلخ، والجملتان بعدها معطوفتان عليها، لا محل لهما مثلها. {نَفِيراً:} تمييز.

{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7)}

الشرح: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ} أي: العمل، وعملتم بطاعة الله تعالى. {أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} أي:

لها ثوابها، وجزاء إحسانها. {وَإِنْ أَسَأْتُمْ} أي: العمل، وعملتم بمعاصي الله تعالى. {فَلَها} أي: فعليها وبال إساءتها، فاللام الجارة بمعنى:«على» وهو مستعمل في الكلام العربي، نثره، وشعره، ثم هذا الكلام يحتمل أن يكون لبني إسرائيل في ذلك الوقت، ويكون على إرادة القول، ويحتمل أن يكون خطابا لليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يكون خطابا لمشركي قريش. تأمل.

{فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} أي: وعد عقوبة المرة الثانية من إفسادهم. {لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ} أي:

بعثنا عليكم عدوّا آخر، فيجعل وجوهكم حزينة، باديا عليها أثر المساءة، وقرئ:«(ليسوء)» ،

ص: 301

فالفاعل يعود إلى العدو، أو ل:(الله)، وقرئ:«(ليسوءنّ)» باللام المفتوحة، ونون التوكيد مثقلة ومخففة. {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ} أي: بيت المقدس. {كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: في المرة الأولى. {وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً} أي: وليهلكوا ما غلبوا عليه من ديار بني إسرائيل إهلاكا.

عن حذيفة-رضي الله عنه-قال: قلت: يا رسول الله! لقد كان بيت المقدس عند الله عظيما، جسيم الخطر، عظيم القدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هو من أجل البيوت، ابتناه الله لسليمان بن داود-عليهما السلام-من ذهب، وفضة، ودرّ، وياقوت، وزمرد، وذلك أن سليمان بن داود لما بناه؛ سخر الله له الجن، فأتوه بالذهب، والفضة من المعادن، وأتوه بالجواهر، والياقوت والزمرّد، وسخر الله له الجن، حتى بنوه من هذه الأصناف» .

قال حذيفة-رضي الله عنه-فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف أخذت هذه الأشياء من بيت المقدس؟ فقال: «إن بني إسرائيل لمّا عصوا الله، وقتلوا الأنبياء؛ سلط الله عليهم بختنصر، وهو من المجوس، وكان ملكه سبعمائة سنة، وهو قوله تعالى:{فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما..} . إلخ، فدخلوا بيت المقدس، وقتلوا الرجال، وسبوا النساء، والأطفال، وأخذوا الأموال، وجميع ما كان في بيت المقدس، من هذه الأصناف، فاحتملوها على سبعين ألفا، ومائة ألف عجلة حتى، أودعوها أرض بابل، فأقاموا يستخدمون بني إسرائيل، ويستملكونهم بالخزي، والعقاب والنكال مائة عام.

ثم إن الله عز وجل رحمهم، فأوحى إلى ملك من ملوك فارس أن يسير إلى المجوس في أرض بابل، وأن يستنقذ من في أيديهم من بني إسرائيل، فسار إليهم ذلك الملك حتى دخل أرض بابل، فاستنقذ من بقي من بني إسرائيل من أيدي المجوس، واستنقذ ذلك الحلي الذي كان في بيت المقدس، وردّه الله إليه، كما كان أول مرة. وقال لهم: يا بني إسرائيل! إن عدتم إلى المعاصي، عدنا عليكم بالسبي، والقتل، وهو قوله:{عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا} فلما رجعت بنو إسرائيل إلى بيت المقدس، عادوا إلى المعاصي، فسلط الله عليهم ملك الروم قيصر، وهو قوله:{فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ..} . إلخ فغزاهم في البر، والبحر، فسباهم، وقتلهم، وأخذ أموالهم ونساءهم، وأخذ جميع حلي بيت المقدس، واحتمله على سبعين ألفا، ومائة ألف عجلة حتى، أودعه في كنيسة الذهب، فهو فيها الآن حتى يأخذه المهدي، فيرده إلى بيت المقدس، وهو ألف سفينة، وسبعمائة سفينة يرسى بها على يافا حتى تنقل إلى بيت المقدس، وبها يجمع الله الأولين والآخرين». انتهى. قرطبي بحروفه. والله أعلم بالحقيقة.

الإعراب: {إِنْ:} حرف شرط جازم. {أَحْسَنْتُمْ:} ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والميم علامة جمع الذكور، والمفعول محذوف، انظر الشرح.

والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {أَحْسَنْتُمْ:}

ماض مبني على السكون في محل جزم جواب الشرط، والتاء فاعله، والجملة الفعلية لا محل

ص: 302

لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية. {لِأَنْفُسِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {إِنْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول لقول محذوف، أو هو مستأنف، انظر الشرح. {وَإِنْ أَسَأْتُمْ:} مثل سابقه. الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لها): متعلقان بمحذوف خبر مبتدأ محذوف، التقدير: فلها إساءتها، والجملة الاسمية هذه في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، و (إن) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله.

{فَإِذا:} الفاء: حرف استئناف. (إذا): انظر الآية رقم [5] وجملة: {جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} في محل جر بإضافة (إذا) إليها

إلخ. {لِيَسُوؤُا:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، وهو جواب (إذا)، انظر تقديره في الشرح، وجملة:{بَعَثْنا عَلَيْكُمْ..} . إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. {وُجُوهَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ} إعرابه مثل سابقه، ومعطوف عليه.

الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية. {دَخَلُوهُ:} ماض، وفاعله، ومفعوله. {أَوَّلَ:}

ظرف زمان متعلق بما قبله، و {أَوَّلَ:} مضاف، و {مَرَّةٍ} مضاف إليه، و (ما) والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف يقع مفعولا مطلقا، التقدير: ليدخلوا المسجد دخولا كائنا مثل دخولهم أول مرة، وهذا ليس مذهب سيبويه، وإنما مذهبه في مثل هذا التركيب أن يكون منصوبا على الحال من المصدر المضمر، المفهوم من الفعل المتقدم، وإنما أحوج سيبويه-رحمه الله تعالى-إلى هذا؛ لأن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه لا يجوز إلا في مواضع محصورة، وليس هذا منها.

{وَلِيُتَبِّرُوا:} إعرابه مثل سابقه، ومعطوف عليه بعد التأويل. {كَما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير:

ليتبروا الذي علوه، وما كناية عن البلاد والعباد من بني إسرائيل، انظر الشرح وأجيز اعتبار (ما) مصدرية، ظرفية، تؤوّل مع ما بعدها بمصدر في محل نصب على الظرفية الزمانية، يتعلق بالفعل (يتبروا) ويكون مفعوله محذوفا، وهو ضعيف. تأمل. {تَتْبِيراً:} مفعول مطلق. تأمل، وتدبر.

وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)}

الشرح: {عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ:} وهذا ممّا أخبروا به في كتابهم، و {عَسى} وعد من الله أن يكشف عنهم البلاء، وهي من الله واجبة. {وَإِنْ عُدْتُمْ:} إلى الكفر، وارتكاب المعاصي. {عُدْنا}

ص: 303

أي: مرة ثالثة إلى عقوبتكم، وقد عادوا بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، وقصد قتله، فعاد الله تعالى بتسليطه عليهم، فقتل بني قريظة وأجلى بني النضير، وضرب الجزية على الباقين منهم، هذا لهم في الدنيا.

{وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً} محبسا، لا يقدرون على الخروج منها، أبد الآبدين. وقيل: بساطا كما يبسط الحصير في الأرض. وقيل: محبسا، وسجنا. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

بعد هذا؛ والمراد ب: {رَبُّكُمْ} هنا: خالقكم، ورازقكم، ومحييكم، ومميتكم. هذا؛ والرب يطلق ويراد به: السيد، والمالك، ومنه قوله تعالى حكاية عن قول يوسف عليه السلام:{اِرْجِعْ إِلى رَبِّكَ..} . إلخ وقوله أيضا: {أَمّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً..} . إلخ. وقال الأعشى: [الكامل]

ربّي كريم لا يكدّر نعمة

وإذا تنوشد في المهارق أنشدا

كما يقال: رب الدار، ورب الأسرة؛ أي: مالكها، ومتولي شئونها. كما يراد به: المربي، والمصلح، يقال: ربّ فلان الضيعة يربّها: إذا أصلحها، والله سبحانه وتعالى مالك العالمين، ومربيهم، وموصلهم إلى كمالهم شيئا فشيئا، يجعل النطفة علقة، ثم يجعل العلقة مضغة، ثم يجعل المضغة عظاما، ثم يكسو العظام لحما، ثم يصوره، ويجعل فيه الروح، ثم يخرجه خلقا آخر، وهو صغير ضعيف، فلا يزال ينميه وينشيه حتى يجعله رجلا، أو امرأة كاملين. ولا يطلق الرب على غير الله تعالى إلا مقيدا بالإضافة، مثل قولك: رب الدار، ورب الناقة، ونحو ذلك. والرب:

المعبود بحق، وهو المراد منه تعالى عند الإطلاق، ولا يجمع إذا كان بهذا المعنى، ويجمع إذا كان معبودا بالباطل، قال تعالى حكاية عن قول يوسف عليه السلام لصاحبي السجن:{أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ} كما يجمع إذا كان بأحد المعاني السابقة، قال الشاعر:[الطويل]

هنيئا لأرباب البيوت بيوتهم

وللآكلين التمر مخمس مخمسا

وهو اسم فاعل بجميع معانيه، أصله: رابب، ثم خفف بحذف الألف، وإدغام أحد المثلين في الآخر. وانظر دركات النار في الآية رقم [44] من سورة (الحجر). هذا؛ و {حَصِيراً} إن كان اسم مكان؛ فهو جامد لا يلزم تذكيره، ولا تأنيثه، وإن كان بمعنى: حاصرا؛ أي: محيطا بهم، وفعيل بمعنى: فاعل يلزم مطابقته، فكان يقال: حصيرة، ولم يؤنث. إما؛ لأنه على النسب ك:«لابن» و «تامر» ، أو لحمله على فعيل بمعنى: مفعول، أو لأن تأنيث جهنم غير حقيقي، أو لتأويلها بمذكر كالسجن والحبس. انتهى. جمل. وينبغي أن تعلم أنه لم يرد لفظ {حَصِيراً} في غير هذا الموضع من القرآن الكريم.

الإعراب: {عَسى:} فعل ترج ناقص مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {رَبُّكُمْ:} اسم {عَسى،} والكاف في محل جر بالإضافة، والمصدر المؤول من:{أَنْ يَرْحَمَكُمْ} في محل نصب خبر {عَسى،} وهو يصرف إلى اسم الفاعل أيضا، فيكون التقدير: عسى ربكم راحما لكم، والجملة الفعلية هذه مستأنفة، لا محل لها. {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا} هو مثل:{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ}

ص: 304

و (إن) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. {وَجَعَلْنا:} فعل، وفاعل. {جَهَنَّمَ:} مفعول به.

{لِلْكافِرِينَ:} متعلقان ب: {حَصِيراً} بعدهما، أو بمحذوف حال من حصيرا كان صفة له

إلخ، وجملة:{وَجَعَلْنا..} . إلخ معطوفة على جملة: {عُدْنا} لا محل لها مثلها.

{إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9)}

الشرح: قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: لما ذكر الله الإسراء؛ ذكر ما قضى في بني إسرائيل، وعليهم، وكان ذلك دلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بين: أن القرآن الذي أنزله عليه يهدي الناس إلى الطريقة التي هي أعدل الطرق وأصوبها، أو يهدي إلى الحال التي هي أقوم الحالات، وأحسنها. انتهى. بتصرف كبير. {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ..}. إلخ: المراد بالأجر الكبير الجنة، وما فيها من نعيم لا ينفد وسعادة دائمة. هذا؛ ولا تنس: ما في الآية الكريمة من الاحتراس. انظره في الآية رقم [97] من سورة (النحل).

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {هذَا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب اسم {إِنَّ،} والهاء حرف تنبيه لا محل له. {الْقُرْآنَ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه. {يَهْدِي:} مضارع مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى القرآن، والمفعول محذوف، انظر الشرح، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ} .

{لِلَّتِي:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (التي): صفة لموصوف محذوف، انظر تقديره في الشرح، والجملة الاسمية:{هِيَ أَقْوَمُ} صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ} معطوفة على جملة: {يَهْدِي..} . إلخ فهي في محل رفع مثلها. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب صفة للمؤمنين، وجملة:{يَعْمَلُونَ الصّالِحاتِ} صلة الموصول، لا محل لها، ولا تنس: أنّ {الصّالِحاتِ} صفة لموصوف محذوف؛ إذ الأصل: الأعمال الصالحات، فهو منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {لَهُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {أَجْراً:} اسم {إِنَّ} مؤخر. {كَبِيراً:} صفة {أَجْراً} و {إِنَّ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير:

بأن لهم

إلخ، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو المصدر منصوب بنزع الخافض.

{وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10)}

الشرح: المراد بهذه الآية: الكافرون الذين لا يعترفون بالحياة الآخرة بعد الموت، فهؤلاء لهم عذاب أليم في النار، والمراد: ب: (الآخرة) الحياة الثانية التي تكون بعد الموت، ثم بعد الحساب،

ص: 305

والجزاء، ودخول الجنة والخلود فيها، أو دخول النار والخلود فيها، ومعنى {أَعْتَدْنا:} هيأنا لهم.

هذا؛ و (عذاب) اسم مصدر لا مصدر؛ لأن المصدر: «تعذيب» ؛ لأن الفعل عذّب يعذّب بتشديد الذال فيهما. وقيل: هو مصدر على حذف الزوائد، مثل: سلام، وعطاء، ونبات ل:«سلّم» ، و «أعطى» و «أنبت» ، و {أَلِيماً:} بمعنى: مؤلم، وموجع. هذا؛ والتذكير في الآيتين لا يمنع دخول النساء في الوعد، والوعيد: فالكلام من باب التغليب، أو هنّ ملحقات بالرجال في الجانبين.

الإعراب: {وَأَنَّ:} الواو: حرف عطف، (أن): حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسم (أنّ)، وجملة:{لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} صلة الموصول، لا محل لها. {أَعْتَدْنا:} فعل، وفاعل. {لَهُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بما بعدهما.

{عَذاباً:} مفعول به. {أَلِيماً:} صفته، وجملة:{أَعْتَدْنا..} . إلخ في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر معطوف على المصدر المؤول السابق. فيكون داخلا في حيز البشارة، وفي ذلك تأويلان: أحدهما: أن المؤمنين بشروا ببشارتين: أجر كبير لهم على أعمالهم الصالحات، وتعذيب أعدائهم المكذبين باليوم الآخر، وما يتعلق به، والثاني: أن الكافرين بشّروا بعذاب أليم، وذلك على سبيل التهكم، والاستهزاء على حدّ قوله تعالى:{وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 4] وعلى هذا فالعطف عطف مفرد على مفرد. هذا؛ وبعضهم يقدر فعلا قبل المصدر؛ أي: ويخبر أن الذين لا يؤمنون

إلخ، وعليه فالعطف عطف جملة فعلية على مثلها.

{وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11)}

الشرح: {وَيَدْعُ الْإِنْسانُ..} . إلخ: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: هو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما لا يحب أن يستجاب له: اللهم أهلكه، ونحوه. {دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ} أي:

كدعائه ربه أن يهب له العافية من جميع أنواع البلاء، فلو استجاب الله له دعاءه على نفسه بالشر؛ لهلك، لكن بفضله لا يستجيب له في ذلك، وما أحراك أن تنظر ما ذكرته في الآية رقم [11] من سورة (يونس) عليه السلام. وانظر الآية رقم [7] من سورة (الرّعد).

وقيل: نزلت الآية في النضر بن الحارث؛ الذي حدثتك عنه في الآية رقم [32] من سورة (الأنفال). وقيل: دفع عليه الصلاة والسلام أسيرا إلى زوجه سودة لتحرسه، فبات يئنّ، فرحمته لأنينه. فأرخت من كتافه، فلمّا نامت هرب، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«قطع الله يديك» . ثم ندم، فقال صلى الله عليه وسلم:«إنّي سألت الله تعالى أن يجعل دعائي على من لا يستحقّ من أهلي رحمة؛ لأنّي بشر أغضب، كما يغضب البشر» .

{وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً} أي: طبعه العجلة، يسارع إلى كل ما يخطر بباله، لا ينظر إلى عاقبته.

وقيل: أشار به إلى آدم عليه السلام حين نهض قبل أن تركّب فيه الروح على الكمال، قال ابن

ص: 306

عباس-رضي الله عنهما: لمّا انتهت النفخة-أي: الروح-إلى سرته؛ نظر إلى جسده، فذهب لينهض، فلم يقدر. وقال ابن مسعود-رضي الله عنه: لما دخلت الروح في عينيه؛ نظر إلى ثمار الجنة، فلمّا دخلت جوفه؛ اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تدخل الروح رجليه عجلان، إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول الله:{خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ} الآية رقم [37] من سورة (الأنبياء).

وقيل: المعنى: إنّ الإنسان يؤثر العاجل؛ وإن قلّ على الآجل وإن جلّ. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [1] من سورة (النحل) ففيها بحث جيد.

هذا؛ و «الإنسان» يطلق على الذكر، وعلى الأنثى من بني آدم، ومثلها كلمة:«شخص» : قال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ} ومعلوم: أنّ الله لم يقصد الذكور خاصة، والقرينة الآيات الكثيرة الدالة على أنّ المراد الذكر، والأنثى، واللام في {الْإِنْسانُ} إنّما هي لام الجنس التي تفيد الاستغراق؛ ولذا صح الاستثناء من الإنسان في سورة العصر. هذا؛ وإنسان العين هو المثال الذي يرى فيها، وهو النقطة السوداء التي تبدو لامعة وسط السواد. وانظر جمع «الإنسان» في الآية [60].

الإعراب: {وَيَدْعُ:} الواو: حرف استئناف. (يدعو): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل وهي محذوفة لالتقاء الساكنين. {الْإِنْسانُ:} فاعله. {بِالشَّرِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وأجيز تعليقهما بمحذوف حال من الإنسان. {دُعاءَهُ:} مفعول مطلق، وأصل الكلام: يدعو.. دعاء مثل دعائه، فأقيم المضاف إليه مقام المضاف بعد حذفه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {بِالْخَيْرِ:} متعلقان بالمصدر، والجملة الفعلية:

{وَيَدْعُ} إلخ مستأنفة، لا محل لها، وجملة:{وَكانَ..} . إلخ في محل نصب حال من الإنسان الأول، والرابط: الواو، وإعادة صاحب الحال بلفظه، وهي على تقدير «قد» قبلها.

{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12)}

الشرح: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ} أي: علامتين على وحدانيتنا، ووجودنا، وكمال علمنا، وقدرتنا، والآية فيهما إقبال كل واحد منهما من حيث لا يعلم، وإدباره من حيث لا يعلم، ونقصان أحدهما بزيادة الآخر، وبالعكس أيضا آية، وكذلك ضوء النهار وظلمة الليل، قال تعالى في سورة (النور) الآية رقم [44]:{يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ} .

{فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ} أي: جعلنا الليل ممحو الضوء، مطموسا، مظلما لا يستبان فيه شيء.

هذا؛ والمحو: الإزالة ومنه الآية رقم [39] من سورة (الرعد). {وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً} أي:

جعلنا شمسه مضيئة للأبصار فيكون المعنى: مبصرا فيها بالضوء؛ لأن النهار لا يبصر، بل يبصر

ص: 307

فيه، فهو من إسناد الحدث إلى زمانه، فهو مجاز عقلي، مثل: ليله قائم، ونهاره صائم. وقيل:

المراد بآية الليل وآية النهار: القمر، والشمس. وتقدير الكلام: جعلنا نيّري الليل والنهار آيتين، أو جعلنا الليل والنهار ذوي آيتين. {لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} أي: لتتوصلوا بضوء النهار إلى استبانة أعمالكم، والتصرف في معايشكم. هذا؛ ولم يذكر السكون في الليل اكتفاء بما ذكر في النهار، وقد قال تعالى في الآية رقم [67] من سورة (يونس) عليه السلام:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً} . {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ} أي: باختلاف الليل والنهار تعلمون ما تحتاجون إليه منه، ولولا ذلك؛ لما عرف أحد حساب الأوقات، ولتعطلت الأمور، ولو ترك الله الشمس، والقمر كما خلقهما؛ لم يعرف الليل من النهار، ولم يدر الصائم متى يفطر، ولم يعرف وقت الحج، ولا وقت الديون المؤجلة، وغير ذلك من المعاملات.

{وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً} أي: وكل شيء تفتقرون إليه من أمر دينكم، ودنياكم قد بيناه بيانا شافيا واضحا غير ملتبس، وهو مثل الآية رقم [89] من سورة (النحل). وانظر الآية [41] الآتية.

وانظر الآية رقم [5] من سورة (يونس) عليه السلام ففيها فضل زيادة. بعد هذا فالليل: واحد بمعنى: الجمع، واحدته: ليلة، مثل: تمر، وتمرة، وقد جمع على ليال، فزادوا فيه الياء على غير قياس، ونظيره: أهل، وأهال. والليل الشرعي: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق، وهو أحد قولين في اللغة، والقول الآخر: من غروبها إلى طلوعها. هذا؛ والنهار:

ضد الليل، وهو لا يجمع كما لا يجمع العذاب، والسراب، فإن جمعته قلت في الكثير: نهر بضمتين، كسحاب، وسحب. وأنشد ابن كيسان:[الرجز]

لولا الثريدان لمتنا بالضّمر

ثريد ليل وثريد بالنّهر

وفي القليل: أنهر، والنهار: من طلوع الشمس، أو من طلوع الفجر-على ما تقدم في نهاية الليل-إلى غروب الشمس، وقد يطلق عليهما اسم اليوم، كما ستعرفه في الآية التالية. هذا؛ والليل يطلق على الحبارى، أو على فرخها، وفرخ الكروان، والنهار يطلق على فرخ القطا. انتهى. قاموس. وقد ألغز بعضهم بقوله:[الوافر]

إذا شهر الصّيام إليك وافى

فكل ما شئت ليلا أو نهارا

الإعراب: {وَجَعَلْنَا:} الواو: حرف استئناف. (جعلنا): فعل، وفاعل. {اللَّيْلَ:} مفعول به أول. {وَالنَّهارَ:} معطوف عليه. {آيَتَيْنِ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، وجملة:{فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها. وكذلك جملة:

{وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً} معطوفة عليها أيضا. {لِتَبْتَغُوا:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف

ص: 308

للتفريق. {فَضْلاً:} مفعول به. {مِنْ رَبِّكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان ب:{فَضْلاً} أو بمحذوف صفة له، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل (جعلنا) الثاني. {وَلِتَعْلَمُوا:} مثل سابقه في إعرابه وتأويله، والجار والمجرور معطوفان على ما قبلهما. وقال الجمل: متعلقان بكلا الفعلين؛ أي: لتعلموا بتعاقبهما، واختلافهما. {عَدَدَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {السِّنِينَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {وَالْحِسابَ:} معطوف على ما قبله، واكتفى الفعل بمفعول واحد؛ لأنه من المعرفة، لا من العلم. {وَكُلَّ:} منصوب على الاشتغال بفعل محذوف، يفسره المذكور بعده.

وقيل: هو معطوف على (الحساب) وهو بعيد، و {وَكُلَّ} مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه، {فَصَّلْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية مفسرة لا محل لها على الاعتبار الأول:

في (كلّ)، وفي محل نصب صفة له على الاعتبار الثاني: فيه. {تَفْصِيلاً:} مفعول مطلق.

{وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13)}

الشرح: {وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ..} . إلخ: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: {طائِرَهُ} عمله، وما قدر عليه من خير، أو شر، وهو ملازمه أينما كان. وقال مجاهد: عمله، ورزقه، وما من مولود يولد إلا في عنقه ورقة فيها مكتوب شقي، أو سعيد. انتهى. وإنما خص العنق من بين سائر الأعضاء؛ لأنه موضع القلائد، والأطواق، والغل ممّا يزين، أو يشين، وذكر الطائر لما هو سبب الخير، والشر من قدر الله وعمل العبد على طريق الاستعارة؛ لأنهم كانوا يتيمّنون، ويتشاءمون بسنوح الطائر من جهة اليمين، أو من جهة الشمال على عادة الجاهلية.

{وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً:} هو كتاب طائره الذي كان في عنقه، وسجل فيه كل شيء عمله في الدنيا، من خير، أو شر. هذا؛ ويقرأ:«(ويخرج)» و «(يخرج)» و «(يخرج)» والمعتمد قراءته بالنون لموافقته {أَلْزَمْناهُ} . {يَلْقاهُ مَنْشُوراً} أي: يجده مفتوحا أمامه، ويكشف عنه الغطاء. هذا؛ ويقرأ بالبناء للمجهول، مع تخفيف القاف، وتشديدها، وهذا {الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها} . انظر الكهف رقم [49].

قال الحسن-رحمه الله تعالى-: بسطت لك يا بن آدم صحيفة، ووكّل بك ملكان، فهما عن يمينك، وشمالك، فأما الذي عن يمينك؛ فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك؛ فيحفظ عليك سيئاتك، حتى إذا مت؛ طويت عليك صحيفتك، وجعلت معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة. انتهى جمل، كيف لا وربنا يقول:{ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ؟!} .

ص: 309

الإعراب: {وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ} هو مثل: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً} {فِي عُنُقِهِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، أو بمحذوف حال من {طائِرَهُ}. {وَنُخْرِجُ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، {لَهُ:} متعلقان بما قبلهما. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق به أيضا، و {يَوْمَ} مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه. {كِتاباً:} مفعول به، وهو حال على بناء الفعل للمجهول، ورجوع نائب الفاعل إلى {طائِرَهُ}. {يَلْقاهُ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، والفاعل يعود إلى {(كُلَّ إِنسانٍ)،} والهاء مفعول به. {مَنْشُوراً:} حال من الضمير المنصوب، والجملة الفعلية في محل نصب صفة {كِتاباً} ويحتمل أن يكون (منشورا) صفة ثانية لكتاب، وجملة:{وَنُخْرِجُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها، وهي مستأنفة على بعض القراءات. تأمل.

{اِقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14)}

الشرح: {اِقْرَأْ كِتابَكَ} أي: يقال له ذلك، فيقرؤه كل واحد سواء أكان أميا، أو غير أمي، عربيا كان أم أعجميا، فيقرؤه بلسان فصيح، وعقل سليم. {كَفى بِنَفْسِكَ..}. إلخ: أي: محاسبا.

قال الحسن رحمه الله تعالى: عدل في حقك والله من جعلك حسيب نفسك. قيل: يقول العبد:

إنك لست بظلام للعبيد. فاجعلني أحاسب نفسي. فيقال له: {اِقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ..} . إلخ.

وقال بعض الصلحاء: هذا كتاب، لسانك قلمه، وريقك مداده، وأعضاؤك قرطاسه، أنت كنت المملي على حفظتك، ما زيد فيه، ولا نقص منه، ومتى أنكرت منه شيئا؛ يكون الشاهد منك عليك. هذا؛ ولم يؤنث {حَسِيباً؛} لأنه بمنزلة الشاهد، والقاضي والأمين، وهذه الأمور يتولاها الرجال، فكأنه قيل: كفى بنفسك رجلا حسيبا. ويجوز أن تؤوّل النفس بمعنى: الشخص، كما يقال: ثلاثة أنفس. وقيل: حسيب بمعنى: محاسب، كخليط، وجليس بمعنى: مخالط، ومجالس، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه. وانظر الآية رقم [49] من سورة (الكهف).

هذا؛ والمراد: ب: {الْيَوْمَ} في الآية يوم القيامة، وهو مقدار ألف سنة من أيام الدنيا، كما في الآية رقم [47] من سورة (الحج)، وأما اليوم في الدنيا فهو: الوقت من طلوع الشمس إلى غروبها، وهذا في العرف، وأما اليوم الشرعي، فهو من طلوع الفجر، إلى غروب الشمس، كما يطلق اليوم على الليل، والنهار معا، كما رأيت في الآية رقم [12] يراد به الوقت مطلقا، تقول: ذخرتك لهذا اليوم؛ أي: لهذا الوقت، والجمع: أيام، وأصله: أيوام، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، وجمع الجمع: أياويم، وأيام العرب: وقائعها، وحروبها، وأيام الله: نعمه، ونقمه، كما في الآية رقم [102] من سورة (يونس) عليه السلام والآية رقم [5] من سورة (إبراهيم) عليه السلام. ويقال:

فلان ابن الأيام؛ أي: العارف بأحوالها، ويقال: أنا ابن اليوم؛ أي: أعتبر حالي فيما أنا فيه.

ص: 310

الإعراب: {اِقْرَأْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {كِتابَكَ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، انظر تقديره في الشرح. {كَفى:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {بِنَفْسِكَ:} الباء: حرف جر صلة. (نفسك): فاعل كفى مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والكاف في محل جر بالإضافة. {الْيَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. وقيل: متعلق بمحذوف حال. {عَلَيْكَ:} متعلقان بما بعدهما. {حَسِيباً:}

تمييز. وقيل: حال من (نفسك)، والأول: أعرف في مثل ذلك، وجملة:{كَفى..} . إلخ في محل نصب حال من فاعل {اِقْرَأْ} المستتر؛ أي: اقرأ كتابك حال كونك مكتفيا بحساب نفسك.

أو هي مستأنفة، لا محل لها.

{مَنِ اِهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)}

الشرح: {مَنِ اهْتَدى} .. {عَلَيْها} أي: إن ثواب العمل الصالح مختص بفاعله، وعقاب الذنب مختص بفاعله أيضا، ولا يتعدى منه إلى غيره. انتهى. خازن، وملخصه: أن كل واحد إنما يحاسب عن نفسه لا عن غيره. وانظر الآية رقم [108] من سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. وانظر شرح (ضل) في الآية رقم [87] من سورة (النحل). {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى:} يعني: لا تؤاخذ نفس بإثم أخرى، ولا تحمل نفس حاملة حمل أخرى، ولا يؤاخذ أحد بذنب آخر، وذلك أن المشركين كانوا يقولون للمسلمين:{اِتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ} بمعنى: لنحمل يوم القيامة ما كتب عليكم من الذنوب، والسيئات، وأما قوله تعالى في سورة (العنكبوت) رقم [13]:{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ} فهذا في حق الضالين المضلين، فإنهم يحملون أثقال إضلالهم مع أثقال ضلالهم، وكل ذلك يعدّ من أوزارهم، ليس فيها شيء من أوزار غيرهم، انظر تفسيرها هناك؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

هذا؛ وأصل تزر: (توزر) لأن ماضيه: «وزر» ، فحذفت الواو لوقوعها ساكنة بين عدوتيها، وهما: الياء والكسرة في مضارع الغائب (يزر) وتحذف من مضارع المتكلم، والمخاطب قياسا عليه، ولا أمر له فيما يظهر، ومصدره: وزر بفتح الواو، وكسرها، وهو بمعنى: الإثم، والثقل أيضا. والوزر بفتح الواو، والزاي: الملجأ، والمستغاث. قال تعالى:{كَلاّ لا وَزَرَ} ومن المعنيين يؤخذ اسم وزير السلطان، فإنه يحمل ثقل دولته، ويلجأ إليه السلطان في المهمات، فيستشيره بذلك. ومعنى الآية: يتبرأ كل واحد من أوزار غيره، حتى إن الوالدة تلقى ولدها يوم القيامة، فتقول: يا بني! ألم يكن حجري لك وطاء؟ ألم يكن ثديي لك سقاء؟ ألم يكن بطني لك

ص: 311

وعاء؟ فيقول: بلى يا أمه! فتقول: يا بني! إن ذنوبي أثقلتني فاحمل عني منها ذنبا واحدا، فيقول: إليك عني يا أمّه! فإني بذنبي عنك اليوم مشغول.

خذ قوله تعالى في سورة (المعارج): {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ} وقوله جل ذكره في سورة (عبس):

{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} .

تنبيه: عن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الميّت يعذّب في قبره بما نيح عليه» . رواه البخاري، ومسلم، وابن ماجة، والنسائي إلا أنه قال «بالنّياحة عليه» فلا تعارض بين الآية والحديث، فإن الحديث محمول على ما إذا كان النوح من وصية الميت، وسنته، كما كانت الجاهلية تفعله، حتى قال طرفة بن العبد:[الطويل]

إذا متّ فانعيني بما أنا أهله

وشقّي عليّ الجيب يا ابنة معبد

وذهب جماعة من أهل العلم-منهم داود الظاهري-إلى الأخذ بظاهر الحديث، وأنه إنما يعذب بنوح النساء؛ لأنه أهمل النهي عنه قبل موته، فيعذب بتفريطه بذلك.

{وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً} أي: لم نترك الخلق سدى، بل أرسلنا الرسل، وفي هذا دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع، خلافا للمعتزلة القائلين بأن العقل يقبح، ويحسن، ويبيح، ويحظر، ونص الآية يعطي احتمال عدم مؤاخذة الذين لم تصلهم رسالة، وهم أهل الفترات؛ الذين لم يرسل إليهم رسل، ومنهم من كانوا قبل النبي. ومجمل القول فيهم: أنهم ثلاثة أقسام:

القسم الأول: من أدرك التوحيد، وعرف الله ببصيرته، فمنعه هذا التبصر عن عبادة غير الله تعالى، ومنهم من لم يدخل في شريعة كقس بن ساعدة الأيادي، وزيد بن عمرو بن نفيل، ومنهم من دخل في شريعة حق قائمة الرسم كتبّع، وورقة بن نوفل اللّذين تنصرا.

القسم الثاني: من غير، وبدل، وأشرك، ولم يوحد، وشرع لنفسه، وحلل، وحرم، وهم الأكثر من العرب، كعمرو بن لحي الخزاعي؛ الذي أدخل الأصنام إلى الكعبة، وأجبر الناس على عبادتها، وتقديسها.

القسم الثالث: وهم من لم يشرك، ولم يوحد، ولا دخل في شريعة نبي، ولا ابتكر لنفسه شريعة، ولا اخترع دينا، بل بقي مدة عمره على حين غفلة، وهم أهل الفترة حقيقة، ومنهم عبد المطلب، ووالدا النبي صلى الله عليه وسلم وانظر ما ذكرته في الآية رقم [134] من سورة (طه).

الإعراب: {مَنِ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {اِهْتَدى:}

ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، وهو في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود

ص: 312

إلى (من) تقديره: «هو» . {فَإِنَّما:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنما): كافة ومكفوفة.

{يَهْتَدِي:} مضارع مرفوع.. إلخ، والفاعل يعود إلى (من) أيضا. {لِنَفْسِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{فَإِنَّما..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: جملة الشرط. وقيل: جملة الجواب. وقيل: الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين. هذا؛ وإن اعتبرت (من) موصولة، فالجملة بعدها صلتها، وهي مبتدأ، وجملة:{فَإِنَّما يَهْتَدِي..} . إلخ خبرها، وزيدت الفاء في خبره لتحسين اللفظ، ولأن الموصول يشبه الشرط في العموم، وعلى الاعتبارين؛ فالجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. والجملة:

{وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها} مثلها في إعرابها، وهي معطوفة عليها، والجار والمجرور {عَلَيْها} متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال، وهو ضعيف.

{وَلا:} الواو: واو الحال. (لا): نافية. {تَزِرُ:} مضارع. {وازِرَةٌ:} فاعله. {وِزْرَ:}

مفعول به، وهو مضاف، و {أُخْرى:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل {يَضِلُّ} المستتر، والرابط: الضمير فقط، وهي مؤكدة لمعنى ما قبلها، والاستئناف ممكن. تأمل. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما):

نافية. {كُنّا:} ماض مبني على السكون، و (نا): اسمها. {مُعَذِّبِينَ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وفاعله مستتر فيه، ومفعوله محذوف، تقديره: أحدا.. {حَتّى:} حرف غاية وجر. {نَبْعَثَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد {حَتّى،} والفاعل مستتر تقديره: «نحن» . {رَسُولاً:} مفعول به، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان ب: {مُعَذِّبِينَ،} وجملة: {وَما كُنّا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها.

{وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16)}

الشرح: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها: في معنى {أَمَرْنا} قولان: فقال أكثر المفسرين: معناه: أمرهم بالطاعة، والأعمال الصالحة، وفعل الخير، فخالفوا ذلك الأمر، وفسقوا. والقول الثاني: أمرنا بمعنى: كثّرنا فسّاقها، يقال: أمر القوم إذا كثروا. وقال عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه: كنا نقول في الجاهلية للحيّ إذا كثروا: أمر أمر بني فلان. قال لبيد بن ربيعة الصحابي-رضي الله عنه: [المنسرح]

كلّ بني حرّة مصيرهم

قلّ وإن أكثروا في العدد

إن يغبطوا يهبطوا، وإن أمروا

يوما يصيروا للهلك والنّكد

ص: 313

وقرئ: «(أمّرنا)» بتشديد الميم؛ أي: سلطنا شرارها على ضعفائها، ففسقوا فيها وعصوا.

وقال أبو عثمان النهدي: جعلناهم أمراء مسلطين. وقرئ: «(أمِرنا)» وهو يحتمل التكثير والتأمير، وفي حديث هرقل من قول أبي سفيان:«لقد أمر أمر ابن أبي كبشة» ، وهو يحتمل العلو، والتأمير، ويحتمل الكثرة. هذا؛ والمترف: هو الذي أبطرته النعمة ورغد العيش. {فَفَسَقُوا فِيها} أي: خرجوا فيها عن طاعة الله إلى المعاصي، وتخصيص المترفين بالذكر؛ لأنهم أسرع إلى الحماقة، وأقدر على الفجور، ولأن غيرهم يتبعهم. انتهى. بيضاوي.

{فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} أي: وجب عليها العقاب الموعود للفاسقين، والمجرمين. {فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً} أي: أهلكناها إهلاك استئصال بإهلاك أهلها، وتخريب ديارهم، وإن كان فيها بعض الصالحين، فإن العذاب يعمّهم جميعا. انظر الآية رقم [61] من سورة (النحل) ففيها بحث جيد، وعن أمّ المؤمنين زينب بنت جحش: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا، يقول:«لا إله إلاّ الله، ويل للعرب من شرّ قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج، ومأجوج مثل هذه» . وحلّق بإصبعيه الإبهام، والتي تليها. قالت زينب: قلت يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث» . متفق عليه، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

هذا؛ وأصل الفسق: الخروج عن القصد، والفاسق في الشرع: الخارج عن أوامر الله تعالى بارتكاب المعاصي، وله ثلاث درجات: الأولى: التغابي، وهو أن يرتكب الكبيرة أحيانا مستقبحا إيّاها، والثانية: الانهماك، وهو أن يعتاد ارتكابها غير مبال بها. والثالثة: الجحود، وهو أن يرتكبها مستصوبا إيّاها؛ فإذا شارف هذا المقام، وتخطى خططه؛ خلع ربقة الإيمان من عنقه، ولابس الكفر، وما دام في درجة التغابي، أو الانهماك، فلا يسلب عنه اسم المؤمن لاتصافه بالتصديق؛ الذي هو مسمى الإيمان.

هذا؛ والقول يطلق على خمسة معان: أحدها: اللفظ الدال على معنى. الثاني: حديث النفس، ومنه قوله تعالى:{وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللهُ} . الثالث: الحركة والإمالة، يقال:

قالت النخلة؛ أي: مالت. الرابع: ما يشهد به الحال، كما في قوله تعالى:{قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ} .

الخامس: الاعتقاد، كما تقول: هذا قول المعتزلة، وهذا قول الأشاعرة؛ أي: ما يعتقدونه.

وانظر الكلام في الآية رقم [109] من سورة (المؤمنون).

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف {(إِذا أَرَدْنا):} انظر الآية رقم [5] والمصدر المؤول من: {أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} في محل نصب مفعول به. {أَمَرْنا:} فعل، وفاعل. وانظر إعراب:(حفظنا) في الآية رقم [17] من سورة (الحجر). {مُتْرَفِيها:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، وها: في محل جر بالإضافة، وجملة:{أَمَرْنا مُتْرَفِيها} جواب (إذا) لا محل لها. وقيل: الجملة صفة {قَرْيَةً،} والجواب

ص: 314

محذوف، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له، وجملة:{فَفَسَقُوا فِيها} معطوفة على جواب (إذا) لا محل لها أيضا، وجملة:{فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} معطوفة أيضا. وأيضا جملة:

{فَدَمَّرْناها} معطوفة أيضا. {تَدْمِيراً:} مفعول مطلق مؤكد للفعل.

{وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)}

الشرح: {وَكَمْ:} خبرية كناية عن عدد مبهم، وهي هنا بمعنى: كثير، والمعنى: أهلكنا كثيرا من القرون من بعد نوح، كعاد، وثمود، وغيرهم ممن لا يعلمه إلا الله تعالى، وإنما قال:

{مِنْ بَعْدِ نُوحٍ؛} لأنه أول رسول كذبه قومه، ولذا لم يقل: من بعد آدم. وانظر ما جرى لنوح عليه السلام مع قومه مع سورة (الأعراف) وسورة (هود) عليه السلام. {وَكَفى:} انظر شرحه في الآية رقم [65] الآتية وقدم {خَبِيراً} لتقدم متعلقه. وقال النسفي: خبيرا بذنوب عباده، وإن أخفوها في الصدور، بصيرا بها، وإن أرخوا عليها الستور. انتهى. وهما اسما مبالغة كما ترى. هذا؛ والآية فيها تهديد، وتخويف لكفار مكة.

هذا؛ و (ذنوب) جمع: ذنب، وهو يطلق على مخالفة الله فيما أمر، أو فيما نهى عنه، وهو على درجات: منها الصغائر، ومنها الكبائر، وتفصيلها معروف في محالّها. هذا؛ و (ذنوب) بضم الذال، وهو بفتحها بمعنى: النصيب. قال تعالى في سورة (الذاريات) رقم [59]{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} و «ذنوب» بفتحها الدلو العظيمة في الأصل. قال الراجز: [الرجز]

إنّا إذا شاربنا شريب

له ذنوب ولنا ذنوب

فإن أبى كان له القليب

هذا؛ و {الْقُرُونِ} جمع: قرن بفتح القاف، وسكون الراء وهو مائة سنة على الصحيح. وقيل:

ثمانون. وقيل: ثلاثون، ويقال: القرن في الناس أهل زمان واحد، وهو المراد في الآية الكريمة، ونحوها وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «خير القرون قرني

» إلخ ومنه قول الشاعر: [الطويل]

إذا ذهب القرن الذي أنت فيهمو

وخلّفت في قرن، فأنت غريب

وخذ قول لبيد بن ربيعة الصحابي-رضي الله عنه: [الطويل]

فإن أنت لم ينفعك علمك فانتسب

لعلّك تهديك القرون الأوائل

والقرن: بفتح القاف أيضا: الزيادة العظيمة؛ التي تنبت في رءوس بعض الحيوانات، ومنه:

اسكندر ذو القرنين. والقرن: الجبل الصغير، وذؤابة المرأة من الشعر. والقرن: من القوم سيدهم، ومن السيف حده، ونصله. وجمعه في كل ما تقدم: قرون. هذا؛ وهو بكسر القاف، وسكون الراء: الكفؤ في الشجاعة، والعلم، ونحوهما، والجمع على هذا: أقران.

ص: 315

الإعراب: {وَكَمْ:} الواو: حرف استئناف. (كم): مبنية على السكون في محل نصب مفعول به مقدم، وهي خبرية بمعنى: كثير. {أَهْلَكْنا:} فعل، وفاعل. {مِنَ الْقُرُونِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {مِنَ} بيان ل:(كم) وتمييز له، والتمييز في المعنى هو المجرور ب:{مِنَ،} وبما أنه معرفة والتمييز لا يكون معرفة جر بالحرف. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بمحذوف حال من {الْقُرُونِ،} و {بَعْدِ:}

مضاف، و {نُوحٍ:} مضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {وَكَفى بِرَبِّكَ} مثل:{كَفى بِنَفْسِكَ} في الآية رقم [14]{بِذُنُوبِ:} متعلقان بما بعدهما على التنازع، و (ذنوب) مضاف، و {عِبادِهِ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة. {خَبِيراً بَصِيراً:} كلاهما تمييز لنسبة (كفى)، وجملة:{وَكَفى..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.

{مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18)}

الشرح: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ} أي: الدار العاجلة، والمراد: بها: الدنيا. {عَجَّلْنا لَهُ فِيها:} أعطيناه طلبه وما يريده في هذه الدنيا من مال، وبنين، ومنصب، وجاه، ولكن هذا الإعطاء متوقف على مشيئتنا، وإرادتنا، فلا يجد كل متمن ما يتمناه، ولا كل واحد جميع ما يهواه. {ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها} أي: يحترق فيها. وفي المصباح: صلي بالنار، وصليها، صليا من باب: تعب: وجد حرها، والصّلاء وزان: كتاب: حر النار، وصليت اللحم، أصليه من باب: رمى: إذا شويته. {مَذْمُوماً مَدْحُوراً:} مطرودا من رحمة الله تعالى، وهذه صفة المنافقين الفاسقين، والمرائين المداحين، يلبسون الإسلام والطاعة لينالوا عاجل الدنيا من الغنائم وغيرها، فلا يقبل ذلك العمل منهم في الآخرة، ولا يعطون في الدنيا إلا ما قسم لهم، وقد ذكرت لك في الآية رقم [15] من سورة (هود) عليه السلام: أن هذه الآية تقيد تلك الآيات المطلقة. وانظر شرح: «شاء، وأراد» في الآية رقم [2] من سورة (النحل). وانظر دركات النار في الآية رقم [44] من سورة (الحجر).

الإعراب: {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {كانَ:} ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، واسمه مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {مَنْ} .

{يُرِيدُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {مَنْ}. {الْعاجِلَةَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {كانَ}. {عَجَّلْنا:} فعل، وفاعل. {الْعاجِلَةَ:} متعلقان بما قبلهما. {فِيها:} متعلقان فيه أيضا. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: الذي، أو شيئا نشاؤه. {لِمَنْ:} جار ومجرور بدل من {الْعاجِلَةَ} بدل بعض من كل، و (من) تحتمل الموصولة،

ص: 316

والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر باللام، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: للذي، أو لشخص نريده، وجملة:{عَجَّلْنا..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا. ب:«إذا» الفجائية، وخبر المبتدأ الذي هو {مَنْ} مختلف فيه، كما رأيت في الآية رقم [15] ويجوز اعتبار {مَنْ} موصولة كما في الآية المذكورة. {ثُمَّ:} حرف عطف. {جَعَلْنا:} فعل، وفاعل. {الْعاجِلَةَ:} متعلقان بما قبلهما. {جَهَنَّمَ:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{عَجَّلْنا..} . إلخ لا محل لها مثلها. {يَصْلاها:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {مَنْ} أيضا، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا باللام، أو من {جَهَنَّمَ}. {مَذْمُوماً:} حال من الفاعل المستتر، فهي حال متداخلة.

{مَدْحُوراً:} حال ثانية، والجملة الاسمية:{مَنْ كانَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19)}

الشرح: {وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ} أي: الدار الآخرة، وما فيها من النعيم المقيم. {وَسَعى لَها سَعْيَها} أي: عمل لها عملها من الطاعات فيأتي بما أمر به، وينتهي عما نهي عنه. {وَهُوَ مُؤْمِنٌ:} لأن الطاعات لا تقبل إلا من مؤمن، وهو احتراس، انظر الآية رقم [97] من سورة (النحل). {فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} أي: مقبولا عند الله تعالى، وعن بعض السلف الصالح: من لم يكن معه ثلاث؛ لم ينفعه عمله: إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب.

وقيل: مشكورا مضاعفا؛ أي: تضاعف لهم الحسنات إلى عشر وإلى سبعين، وإلى سبعمائة ضعف، وإلى أضعاف كثيرة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. هذا؛ وقد راعى لفظ (من) فيما تقدم، وراعى معناها في جمع اسم الإشارة.

الإعراب: {وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ:} انظر الآية السابقة، وجملة:{وَسَعى لَها} معطوفة عليها.

{سَعْيَها:} مفعول مطلق. وقيل: مفعول به، وهو ضعيف، وها: في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{وَهُوَ مُؤْمِنٌ} في محل نصب حال من فاعل (سعى) المستتر، والرابط:

الواو، والضمير، أو هي معترضة لا محل لها، وهو أجود؛ لأن الغرض منها الاحتراس، كما رأيت في الشرح. {فَأُولئِكَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له، وجملة:{كانَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية: {فَأُولئِكَ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه كما رأيت في الآية رقم [15]. هذا؛ وإن اعتبرت (من) موصولة فجملة:

ص: 317

{أَرادَ..} . إلخ صلتها، والجملة الاسمية (أولئك..) إلخ في محل رفع خبرها، وزيدت الفاء في الخبر لتحسين اللفظ، ولأن الموصول يشبه الشرط في العموم.

{كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20)}

الشرح: {كُلاًّ} أي: كل واحد من الفريقين المذكورين. {نُمِدُّ هؤُلاءِ:} من يريد العاجلة.

{وَهَؤُلاءِ:} من يريد الآخرة. {مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ} أي: نرزقهما جميعا، ثم يختلف الحال بهما في المآل. {وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} أي: ممنوعا عن عباده. والمراد: بالعطاء: العطاء في الدنيا؛ إذ لا حظ للكافر في الآخرة، كما قال في الآية رقم [16] هود عليه السلام:{أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النّارُ} هذا؛ و {عَطاءِ} اسم مصدر، انظر الآية رقم [10].

الإعراب: {كُلاًّ:} مفعول به مقدم. {نُمِدُّ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» .

{هؤُلاءِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل نصب بدلا من {كُلاًّ،} والهاء حرف تنبيه لا محل له. {وَهَؤُلاءِ:} معطوف على ما قبله. {مِنْ عَطاءِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {عَطاءِ} مضاف، و {رَبِّكَ:} مضاف إليه من إضافة اسم المصدر لفاعله، والكاف في محل جرّ بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة:{كُلاًّ نُمِدُّ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {كانَ:} ماض ناقص. {عَطاءِ:} اسمها، وهو مضاف، و {رَبِّكَ:} مضاف إليه.. إلخ. {مَحْظُوراً:} خبر {كانَ،} والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من {رَبِّكَ،} فلست مفندا، والرابط:

الواو، وإعادة لفظ {رَبِّكَ} .

{اُنْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21)}

الشرح: {اُنْظُرْ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل عاقل يتأتى منه النظر، والتبصر. {كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ:} بعض الناس، {عَلى بَعْضٍ} أي: في المال، والولد، والصحة، والجاه، وغير ذلك من أمور الدنيا. {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً:} إن التفاضل، والتفاوت في الآخرة أعظم منه في الدنيا؛ لأن التفاوت فيها بالجنة، ودرجاتها، أو بالنار، ودركاتها، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

روي: أن قوما من أشراف قريش فمن دونهم اجتمعوا بباب عمر-رضي الله عنه، فخرج الإذن لبلال، وصهيب، ونحوهما، فشق على أبي سفيان، ذلك، فقال سهيل بن عمرو: إنما، أوتينا من قبلنا، إنهم دعوا، ودعينا، يعني: إلى الإسلام، فأسرعوا، وأبطأنا، وهذا باب عمر، فكيف التفاوت في الآخرة؟ ولئن حسدتموهم على باب عمر؛ لما أعدّ الله لهم في الجنة أكثر. انتهى. نسفي.

ص: 318

الإعراب: {اُنْظُرْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب حال من (نا) تقدم على صاحبه وعامله، وهو معلق للفعل قبله عن العمل.

{فَضَّلْنا:} فعل، وفاعل. {بَعْضَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {عَلى بَعْضٍ:}

متعلقان بما قبلهما، وجملة:{كَيْفَ فَضَّلْنا..} . إلخ في محل نصب مفعول به، وجملة:{اُنْظُرْ..} .

إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَلَلْآخِرَةُ:} الواو: حرف عطف. اللام: لام الابتداء. (الآخرة):

مبتدأ. {أَكْبَرُ:} خبر المبتدأ، و {أَكْبَرُ:} مضاف، و {دَرَجاتٍ:} مضاف إليه. هذا؛ ويجوز اعتباره تمييزا، ويؤيده نصب ما بعده، فهو منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {أَكْبَرُ:} معطوف على ما قبله. {تَفْضِيلاً:} تمييز، والجملة الاسمية:

{وَلَلْآخِرَةُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وعطفها يخل بالمعنى. وقيل: هي في محل نصب حال.

{لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22)}

الشرح: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ} .. إلخ: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد: به أمته، أو كل أحد، وهو أولى. {فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} أي: فتصير مذموما من قبل الملائكة، والمؤمنين مخذولا من الله تعالى، ومفهومه: أن المؤمن الموحد يكون ممدوحا منصورا. دليله قوله تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} حيث ذكر الخذلان في مقابلة النصر.

قال الجمل: وحاصل ما ذكر في هذه الآيات من أنواع التكاليف خمسة وعشرون نوعا، بعضها أصلي، وبعضها فرعي، وقد ابتدئت بالأصلي في قوله:{لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ..} . إلخ وختمت به أيضا في قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ..} . إلخ الآية رقم [39]. انتهى نقلا عن شيخه، ثم قال: وفي زاده: لما بين الله: أنّ سعادة الآخرة منوطة بإرادتها، بأن يسعى سعيها، وبأن يكون مؤمنا؛ شرع في تفصيل هذه الأمور المجملة، فبدأ بشرح حقيقة الإيمان، وبيان ما هو العمدة فيه، وهو التوحيد، فقال:{لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ..} . إلخ، ثم ذكر عقبيه سائر الأعمال؛ التي يكون من عمل بها ساعيا في الآخرة. انتهى.

الإعراب: {لا:} ناهية. {تَجْعَلْ:} مضارع مجزوم ب: {لا} الناهية، والفاعل مستتر تقديره:

«أنت» . {مَعَ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، ومع مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {إِلهاً:} مفعول به. {آخَرَ:} صفة له. الفاء: للسببية. (تقعد): مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد الفاء السببية، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {مَذْمُوماً مَخْذُولاً:} حالان من فاعل تقعد المستتر، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير:

لا يكن منك جعل مع الله إلها آخر فقعود

إلخ، والجملة الفعلية:{لا تَجْعَلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. هذا؛ وعلى تفسير (تقعد) ب:«تصير» يكون فعلا ناقصا يرفع، وينصب.

ص: 319

{وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23)}

الشرح: {وَقَضى رَبُّكَ:} أمر وألزم وأوجب. وانظر الآية رقم [4] وقرئ: «(وصّى)» و «(أوصى أن لا تعبدوا إلا إياه)» . {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً:} أمر الله سبحانه بعبادته، وتوحيده، وجعل بر الوالدين مقرونا بذلك، كما قرن شكرهما بشكره، فقال:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} {إِمّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما:} أو كلاهما: خص حالة الكبر؛ لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بره لتغير الحال عليهما بالضعف، والكبر، فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر ممّا ألزمه من قبل؛ لأنهما في هذه الحالة قد صارا كلاّ عليه، فيحتاجان أن يلي منهما في الكبر ما كان يحتاج في صغره أن يليا منه، فذلك خصّ هذه الحالة بالذكر.

{فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ} أي: لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرم، وعن أبي رجاء العطارديّ قال: الأفّ: الكلام والقذع الرديء الخفي. وقال مجاهد: معناه: إذا رأيت منهما في حال الشيخوخة الغائط والبول الذي رأياه منك في الصغر، فلا تقذرهما، وتقول: أف. وقال بعضهم: معنى: {أُفٍّ:} الاحتقار، والاستقلال، أخذ من الأفف، وهو القليل، وروي من حديث عليّ-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو علم الله من العقوق شيئا أردأ من (أفّ) لذكره، فليعمل البارّ ما شاء أن يعمل؛ فلن يدخل النّار، وليعمل العاقّ ما شاء أن يعمل؛ فلن يدخل الجنّة» .

{وَلا تَنْهَرْهُما:} النهر: الزجر، والغلظة. {وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً} أي: لينا لطيفا، مثل:

يا أبتاه، ويا أماه من غير أن يسمّيهما، ويكنيهما. هذا؛ والمراد: بالوالدين: الأب، والأم، ففيه تغليب الأب على الأم. وأيضا في لفظ (الأبوين) تغليب، وفيه إشعار بتفضيل الأب على الأم، والذكر على الأنثى. هذا؛ ويقرأ:«(يبلغانّ)» بتشديد النون المكسورة، وقرئ:(أف) بقراءات كثيرة.

قال أبو البقاء العكبري-رحمه الله تعالى-فمن كسر؛ بناه على الأصل، ومن فتح؛ طلب التخفيف، مثل: رب، ومن ضم؛ أتبع، ومن نون؛ أراد التنكير، ومن لم ينون؛ أراد التعريف، ومن خفف الفاء؛ حذف أحد المثلين. وانظر شرح (أحد) في الآية رقم [32] من سورة (الكهف)، وشرح {كِلْتَا} في الآية التالية لها منها أيضا، وكذا شرح كلا.

الإعراب: {وَقَضى:} الواو: حرف استئناف. (قضى): ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {رَبُّكَ:} فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة. من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {أَلاّ:} (أن) حرف تفسير. (لا): ناهية. {تَعْبُدُوا:} مجزوم ب: (لا) الناهية، هذا؛ أو هي حرف مصدري ونصب، و (لا) نافية والفعل منصوب ب:(أن)،

ص: 320

وأجيز اعتبار (أن) مخففة من الثقيلة، والفعل مجزوم ب:(لا)، وعلامة النصب، أو الجزم حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. فعلى اعتبار (أن) مفسرة فالجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها تفسير ل:(قضى)، وعلى اعتبارها مخففة فالجملة في محل رفع خبرها، واسمها ضمير الشأن محذوف، وتؤوّل مع اسمها وخبرها بمصدر، كما تؤوّل على اعتبارها حرفا ناصبا بمصدر، والمصدر على التأويليين في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: قضى ربك بعدم عبادة غيره. {أَلاّ:} حرف حصر. {إِيّاهُ:} ضمير منفصل مبني على الضم في محل نصب مفعول به. {وَبِالْوالِدَيْنِ:} متعلقان بفعل محذوف التقدير: وأن تحسنوا بالوالدين، وهما في محل مفعول به، وعلامة الجر بالياء؛ لأنه مثنى.. إلخ، {إِحْساناً:}

مفعول مطلق، والمصدر المؤول من «أن تحسنوا» معطوف على سابقه.

{إِمّا:} أصلها: (إن ما) إن الشرطية مدغمة في (ما) الزائدة. {يَبْلُغَنَّ:} مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم فعل الشرط، وعلى قراءة «(يبلغانّ)» فهو مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والألف فاعله، والنون حرف لا محل له.

{عِنْدَكَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {الْكِبَرَ:}

مفعول به. {أَحَدُهُما:} فاعل على القراءة الأولى، وبدل من ألف الاثنين على القراءة الثانية.

وقيل: فاعل بفعل محذوف، وبعضهم يعتبر الألف حرفا دالا على التثنية، و {أَحَدُهُما} هو الفاعل، والمعتمد الأول: من الأوجه الثلاثة، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {أَوْ:} حرف عطف. {كِلاهُما:} معطوف على ما قبله مرفوع مثله، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة؛ لأنه ملحق بالمثنى، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية، وقل فيما يأتي مثل ذلك، وجملة:{يَبْلُغَنَّ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.

{فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا): ناهية. {تَقُلْ:} مضارع مجزوم ب: (لا)، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {لَهُما:} متعلقان به. {أُفٍّ:} اسم فعل مضارع مبني على الكسر. وانظر، أوجه القراءات. وقيل: هو اسم بمعنى: تبّا، أو قبحا، والمعتمد الأول، وفاعله مستتر تقديره:«أنا» ؛ لأنه بمعنى: أتضجر، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{فَلا تَقُلْ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له، وجملة:{وَلا تَنْهَرْهُما} معطوفة على جواب الشرط، {وَقُلْ:} الواو: حرف عطف. (قل): أمر وفاعله مستتر تقديره: «أنت» . {لَهُما:} متعلقان به. {قَوْلاً:} مفعول مطلق. {كَرِيماً:} صفة له، وجملة:{وَقُلْ..} . إلخ معطوفة على جواب الشرط أيضا.

ص: 321

{وَاِخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ اِرْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24)}

الشرح: {وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ:} تذلل للوالدين، وتواضع معهما تواضع الرعية للأمير، والعبيد للسادة. وضرب خفض الجناح، ونصبه مثلا لجناح الطائر حين ينتصب بجناحه للطيران، ففيه استعارة مكنية، فقد استعار الطائر للذل، ثم حذفه ودل عليه بشيء من لوازمه، وهو الجناح، وإثبات الجناح للذل يسمونه استعارة تخييلية، ومثله قول أبي ذؤيب الهذلي:[الكامل]

وإذا المنيّة أنشبت أظفارها

ألفيت كلّ تميمة لا تنفع

حيث أثبت الأظفار للمنية، وهي لا ترى، ولا تشاهد على طريقة الاستعارة التخييلية.

وأيضا قول لبيد-رضي الله عنه: [الكامل]

وغداة ريح قد كشفت وقرّة

إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها

فقد جعل للشمال يدا، وللقرة-أي: البرد-زماما على مثال ما رأيت. هذا؛ ويقرأ الذل بضم الذال وكسرها. هذا؛ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد: المؤمنون من أمته؛ إذ لم يكن له عليه السلام في ذلك الوقت أبوان. هذا؛ ولم يذكر الذل في قوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} وذكره هنا بحسب عظم الحق وتأكيده، وتنزيها له صلى الله عليه وسلم من الذل، انظر الآية [88] من سورة (الحجر).

{مِنَ الرَّحْمَةِ:} من فرط رحمتك، وشدة شفقتك عليهما لافتقارهما إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس، وهو الولد نفسه. {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما} أي: واسأل الله تعالى أن يرحمهما برحمته الباقية، ولا تكتف برحمتك، وشفقتك الفانيتين. {كَما رَبَّيانِي صَغِيراً:} خص التربية بالذكر ليتذكر العبد شفقة الأبوين وتعبهما في التربية، فيزيده ذلك إشفاقا لهما، وحنانا عليهما.

تنبيه: لقد بين الله في هاتين الآيتين مكانة الأبوين في الإسلام، وقد، أوصى ببرهما، ورحمتهما، والإشفاق عليهما، فنهى الولد عن أمرين، وأمره بثلاثة تجاه والديه، نهاه عن التضجر منهما، ونهرهما، وأمره بالتواضع لهما، والتذلل بين أيديهما، وأن يقول لهما قولا لينا لطيفا، وأن يدعو لهما بالرحمة، والمغفرة لذنوبهما، وأن يعفو الله عنهما، ويدخلهما فسيح جنته، وقد وردت أحاديث شريفة تأمر ببرّ الوالدين، ومثلها تنهى عن عقوقهما، أكتفي منها بما يلي:

عن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أمسى، وأصبح مرضيا لوالديه؛ أمسى، وأصبح؛ وله بابان مفتوحان إلى الجنة، وإن واحدا فواحدا، ومن أمسى وأصبح، مسخطا لوالديه؛ أمسى وأصبح، وله بابان مفتوحان إلى النار، وإن واحدا فواحدا» .

فقال رجل: يا رسول الله! وإن ظلماه. قال: «وإن ظلماه، وإن ظلماه، وإن ظلماه» .

ص: 322

وعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن أبي أخذ مالي. فقال: «ائتني بأبيك» . فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنّ الله عز وجل يقرئك السّلام، ويقول لك: إذا جاء الشيخ، فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه. فلما جاء فإذا هو شيخ يتوكأ على عصاه. قال له سيد الخلق وحبيب الحق:«ما بال ابنك يشكوك أتريد أن تأخذ ماله؟» . فقال: يا رسول الله! إنه كان ضعيفا؛ وأنا قوي، وكان فقيرا؛ وأنا غني، وكنت لا أمنعه شيئا من مالي. واليوم أنا ضعيف، وهو قوي، وأنا فقير، وهو غني، ويبخل علي بماله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إيه دعنا من هذا، أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك؟» . فقال الشيخ: والله يا رسول الله ما زال الله عز وجل يزيدنا بك يقينا، لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناي. قال:«قل وأنا أسمع» . قال قلت: [الكامل]

غذوتك مولودا ومنتك يافعا

تعلّ بما أجني عليك وتنهل

إذا ليلة نابتك بالسّقم لم أبت

لسقمك إلاّ ساهرا أتململ

كأنّي أنا المطروق دونك بالّذي

طرقت به دوني، وعيني تهمل

تخاف الرّدى نفسي عليك وإنّها

لتعلم أنّ الموت وقت مؤجّل

فلما بلغت السنّ والغاية التي

إليها مدى ما كنت منك أؤمّل

جعلت جزائي غلظة وفظاظة

كأنك أنت المنعم المتفضّل

فليتك إذ لم ترع حقّ أبوّتي

فعلت كما الجار المجاور يفعل

فأوليتني حقّ الجوار، ولم تكن

عليّ بمال دون مالك تبخل

وسمّيتني باسم المفنّد رأيه

وفي رأيك التفنيد لو كنت تعقل

فبكى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال: «ما من حجر، ولا مدر يسمع بهذا إلا بكى» . ثم أخذ بتلابيب الابن. وقال: «أنت، ومالك لأبيك» .

بعد هذا أما الإحسان إلى الوالدين؛ فيعرفه كل واحد من الناس بفطرته، وهو أن يقوم المرء بخدمتهما، وأن لا يرفع صوته عليهما، وأن لا يغلظ في الكلام لهما، وأن يسعى في تحصيل مطالبهما، والإنفاق عليهما بقدر سعته. نعم إن البر بالوالدين أمر عظيم حث عليه الشرع الشريف واستحسنه الذوق، والطبع، ولكنهما كما تعلم ليسا في الدرجة سواء، فإن الأم قد كابدت في سبيلك، وتعبت أكثر من تعب الوالد وجهاده أضعافا مضاعفة. لذا كانت جديرة ببر أعظم، وعطف أكبر، لذا جاء التنبيه عليها بقوله تعالى بعد أن أجمل الوصية بالوالدين:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ} سورة (لقمان) رقم [14]{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} سورة (الأحقاف): رقم [15].

ص: 323

الإعراب: {وَاخْفِضْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لَهُما:} متعلقان بما قبلهما.

{جَناحَ:} مفعول به، وهو مضاف، والذل مضاف إليه. {مِنَ الرَّحْمَةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما.

وأجيز تعليقهما بمحذوف حال من {جَناحَ الذُّلِّ،} وجملة: {وَاخْفِضْ..} . إلخ معطوفة على جملة: {فَلا تَقُلْ..} . إلخ (قل): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {رَبِّ:} منادى. وانظر تفصيله في الآية رقم [35] من سورة (إبراهيم) عليه السلام. {اِرْحَمْهُما:} فعل دعاء، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به، والميم والألف حرفان دالان على التثنية، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقُلْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها. {كَما:}

الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية. {رَبَّيانِي:} ماض، والألف فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به. {صَغِيراً:} حال من ياء المتكلم، و (ما) والفعل في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير:

ارحمهما رحمة كائنة مثل تربيتهما لي في حال صغري، وهذا ليس مذهب سيبويه، وإنما مذهبه في مثل هذا التركيب أن يكون منصوبا على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم، وإنما أحوج سيبويه إلى هذا؛ لأن حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه لا يجوز إلا في مواضع محصورة معينة، وهذا ليس منها. تأمل. هذا؛ وقيل: الكاف للتعليل، مثل قوله تعالى:{وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ} فيكون التقدير: ارحمهما لأجل تربيتهما لي.

{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوّابِينَ غَفُوراً (25)}

الشرح: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ} أي: من بر الوالدين، واعتقاد ما يجب لهما من التوقير وعدم عقوقهما. {إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ} أي: أبرارا صادقين في برهما وطاعتهما. وقيل:

قاصدين الصلاح والبر بعد تقصير في حقهما، أو فرط منكم في حال الغضب، أو عند حرج الصدر، وما لا يخلو منه البشر ممّا يؤدي إلى أذاهما، ثم أنبتم، واستغفرتم. {فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوّابِينَ} أي: للرجاعين، والتوابين. {غَفُوراً:} يغفر لهم ما فرط منهم في حق أبويهم من تقصير، أو إيذاء، فقد وعد الله بالغفران بشرط الصلاح.

قال سعيد بن المسيب-رحمه الله تعالى-الأواب: هو العبد يتوب، ثم يذنب، ثم يتوب، ثم يذنب. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: الأواب: هو الذي إذا ذكر خطاياه؛ استغفر منها. وقال عون العقيلي: الأوابون: هم الذين يصلون صلاة الضحى، يدل عليه ما روي عن زيد بن أرقم-رضي الله عنه-قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل قباء، وهم يصلون الضحى، فقال:«صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال» . أخرجه مسلم. يريد: ارتفاع الشمس وقت الضحى. وقيل: الأواب: الذي يصلي بين المغرب، والعشاء. هذا؛ وقد ذكر الحافظ المنذري أحاديث كثيرة ترغب في الصلاة بين هذين الوقتين.

ص: 324

الإعراب: {رَبُّكُمْ} مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {أَعْلَمُ:} خبره، وهو بمعنى: عالم، فاعله مستتر فيه. {بِما:} متعلقان به، وهما في محل نصب مفعول به. {فِي نُفُوسِكُمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {إِنْ:} حرف شرط جازم.

{تَكُونُوا:} فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، وهو ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {صالِحِينَ:} خبره منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَإِنَّهُ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنه): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {كانَ:} ماض ناقص، واسمه يعود إلى {رَبُّكُمْ}. {لِلْأَوّابِينَ:} متعلقان بما بعدهما. {غَفُوراً:} خبر كان، وجملة:

{كانَ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{فَإِنَّهُ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط، و {إِنْ} ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.

{وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَاِبْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26)}

الشرح: {وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ:} بعد أن أمر الله تعالى ببر الوالدين أمر بإيتاء القرابات حقوقهم من صلة الرحم، والمودة، والزيارة، وحسن المعاشرة، والمعاونة في الضراء، والمؤالفة في السراء، والمعاضدة، ونحو ذلك. هذا؛ وأبو حنيفة-رحمه الله تعالى-يلزم الموسر نفقة أقاربه المعسرين؛ لأنه يورث ذوي الأرحام بعضهم بعضا. وأما الشافعي-رحمه الله تعالى-فلا يلزم النفقة إلا إلى الفروع والأصول، ولا يرى توريث ذوي الأرحام. هذا؛ وقيل: إن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أمره ربه أن يؤتي أقاربه حقوقهم من بيت المال، ويكون خطابا للولاة، أو من قام مقامهم. وانظر الآية رقم [90] من سورة (النحل). {وَالْمِسْكِينَ:} هو الذي لا يقوم دخله بكفايته، وهو أحسن حالا من الفقير عند الشافعي، والعكس عند أبي حنيفة، وخذ تعريفه فيما يلي:

عن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المسكين الذي تردّه اللّقمة واللقمتان، والتمرة والتّمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له، فيتصدّق عليه، ولا يقوم فيسأل النّاس» . رواه البخاري ومسلم.

(ابن السبيل) أي: ابن الطريق المنقطع في سفره، ونفد ماله بأية طريقة كانت، فقد أمر الله الموسرين أن يعطوه ما يوصله بلده، ولو كان من أغنى الأغنياء في وطنه. {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} أي:

لا تسرف في إنفاق المال بغير حق.

قال الشافعي-رضي الله عنه-التبذير: إنفاق المال في غير حقه، ولا تبذير في عمل الخير.

وقيل: لو أنفق الإنسان ماله كله في الحق؛ لم يكن مبذرا، ولو أنفق درهما، أو مدا في باطل؛

ص: 325

كان مبذرا. والحق أن الآية رقم [29] الآتية، والآية رقم [67] من سورة (الفرقان) هما الدستور، والميزان للإنفاق.

هذا؛ وخص الله هذه الثلاثة بالذكر هنا من بين الأصناف الثمانية المذكورة في الآية رقم [60] من سورة (التوبة)؛ لأنه جلت قدرته أراد هاهنا بيان من يجب الإحسان إليه على كل من له مال، سواء أكان زكويا، أو لم يكن؟ وسواء أكان قبل الحول أم لم يكن؟ لأن المقصود هنا الشفقة العامة، وهؤلاء الثلاثة يجب الإحسان إليهم، وإن لم يكن للإنسان مال زائد، وإن لم يكن مالكا للنصاب، والفقير داخل في المسكين؛ لأن من أوصى للمساكين بشيء يصرف إلى الفقراء أيضا، وإذا نظرت إلى الباقين من الأصناف رأيتهم لا يجب صرف المال إليهم إلا على الذين وجبت الزكاة عليهم. وقدم القريب؛ لأن دفع حاجته واجب، سواء أكان في مخمصة، أو لم يكن، فلذلك قدم على من لا يجب دفع حاجته من غير مال الزكاة إلا إذا كان في شدة، وأما المسكين فحاجته ليست مختصة بموضع، فقدم على من حاجته مختصة بموضع دون موضع، وهو ابن السبيل. انتهى. جمل نقلا عن كرخي من سورة (الروم).

وينبغي أن تعلم أن {ذَا} بمعنى: صاحب، ويجمع جمع تكسير:(ذوين، وذوون) وتحذف نونهما للإضافة، ويجمع على غير لفظه (أولون، وأولين) وهو كثير مثل: أولو الألباب.

الإعراب: {وَآتِ:} الواو: حرف استئناف. (آت): أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {ذَا:} مفعول به أول منصوب، وعلامة نصبه الألف؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و {ذَا:} مضاف، و {الْقُرْبى} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {حَقَّهُ:} مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، أو فاعله. {وَالْمِسْكِينَ:} معطوف على المفعول الأول، و {وَابْنَ:} معطوف عليه أيضا، و (ابن): مضاف، و {السَّبِيلِ:} مضاف إليه وقد حذف المفعول الثاني: من كليهما، فإن التقدير: وآت المسكين حقه، وآت ابن السبيل حقه. وهذا مذكور في الآية رقم [38] من سورة (الروم)، وجملة:{وَآتِ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وعطفها على جملة:{فَلا تَقُلْ..} . إلخ لا بأس به، فتكون الآية:{رَبُّكُمْ..} . إلخ كلاما معترضا بين المتعاطفين، وجملة:{وَلا تُبَذِّرْ} معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. {تَبْذِيراً} مفعول مطلق. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27)}

الشرح: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ} أي: أمثالهم في الشر، والفساد؛ إذ التضييع، والإتلاف للأموال بغير حق شر، أو هم أصدقاء الشياطين، وأتباعهم؛ لأنهم يطيعونهم في

ص: 326

التبذير، والصرف في المعاصي، فقد كانوا ينحرون الإبل، ويقامرون بلحومها، ويبذلون أموالهم في حب السمعة، والشهرة، ويتباهون، ويتفاخرون في السخاء، والكرم، كما حصل لجد الفرزدق، ولمن باراه في ذلك. هذا؛ و (الإخوان) هنا جمع: أخ من غير النسب، ومنه قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} . {وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} أي: جاحدا فضل الله تعالى، مبالغا في الكفر، فلا ينبغي أن يطاع؛ لأنه يدعو إلى مثل عمله.

تنبيه: الإسراف، والتبذير يجريان في إنفاق المال في غير حق، وفي كل شيء خرج عن حد الطاعة، والقدرة، والحاجة من طعام، وشراب، ولباس وغير ذلك، فعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال لسعد بن أبي وقاص-رضي الله عنه-وهو يتوضأ: ما هذا السرف؟ فقال: أوفي الوضوء سرف؟ قال: نعم؛ وإن كنت على نهر جار.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الْمُبَذِّرِينَ:} اسم {إِنَّ} منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {كانُوا:}

ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {إِخْوانَ:} خبر (كان) وهو مضاف، و {الشَّياطِينِ} مضاف إليه، وجملة:{كانُوا..} . إلخ في محل رفع خبر {إِنَّ} والجملة الاسمية: {إِنَّ..} . إلخ تعليل للنهي، لا محل لها. {وَكانَ:} الواو: حرف عطف. (كان): ماض ناقص. {الشَّيْطانُ:}

اسم (كان). {لِرَبِّهِ:} متعلقان بما بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {كَفُوراً:} خبر (كان)، والجملة الفعلية:{وَكانَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها فهي في محل رفع مثلها، أو هي مستأنفة، لا محل لها، وهو الأقوى فيما يظهر. تأمل.

{وَإِمّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ اِبْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28)}

الشرح: في الآية الكريمة خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيها تأديب عجيب، وقول لطيف بديع؛ إذ المعنى: لا تعرض عن السائلين من ذوي القربى، والمساكين، وأبناء السبيل إعراض مستهين بهم عن ظهر الغنى، والقدرة، فتحرمهم، وإنما يجوز أن تعرض عنهم عند عجز يعرض، وفقر يعوق، وأنت من ذلك ترجو من الله-سبحانه، وتعالى-فتح أبواب الخير؛ لتتوصل به إلى مواساتهم، وإعطائهم، فإن لم تجد فقل لهم قولا لينا جميلا، وعدهم وعدا تطيب به نفوسهم، وادع لهم دعاء تنشرح به صدورهم، مثل: أغناكم الله ورزقنا الله وإياكم، وآية البقرة رقم [263] فيها هذا الأدب، والقول اللطيف البديع إذا ألح السائل بالسؤال، وهي:{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً} ولقد أحسن من قال: [البسيط]

إلاّ يكن ورق يوما أجود بها

للسّائلين فإنّي ليّن العود

لا يعدم السائلون الخير من خلقي

إمّا نوالي وإمّا حسن مردودي

ص: 327

قال الخازن رحمه الله تعالى: نزلت في مهجع، وبلال، وصهيب، وسالم، وخباب، كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحايين ما يحتاجون إليه، ولا يجد، فيعرض عنهم حياء منهم، ويمسك عن القول، ومعنى:{اِبْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها:} توقع مال، وانتظار رزق من الله يأتيك به. وانظر شرح «القول» في الآية [16].

الإعراب: {وَإِمّا:} هي (إن) الشرطية مدغمة في (لا) الزائدة. {تُعْرِضَنَّ:} مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم فعل الشرط، والنون حرف لا محل له، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {عَنْهُمُ:} متعلقان به. {اِبْتِغاءَ:} مفعول لأجله، وهو مضاف، و {رَحْمَةٍ:}

مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. {مِنْ رَبِّكَ:} متعلقان ب: {رَحْمَةٍ،} أو بمحذوف صفة له، وأجيز تعليقهما بالفعل بعدهما، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {تَرْجُوها:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، وها: مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الفاعل المستتر، والرابط: الضمير فقط، وأجيز اعتبارها صفة ل:{رَحْمَةٍ} والجملة الفعلية: {تُعْرِضَنَّ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.

{فَقُلْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قل): أمر، وفاعله: أنت. {لَهُمْ:} متعلقان به.

{قَوْلاً:} مفعول مطلق. {مَيْسُوراً:} صفة، وجملة:{فَقُلْ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.

{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29)}

الشرح: في الآية الكريمة مجاز عبر به سبحانه عن البخيل الذي لا يقدر من قلبه على إخراج شيء من ماله، فضرب له مثل الغل الذي يمنع من التصرف باليد، كما ضرب بسط اليد مثلا لذهاب المال، فإن قبض اليد بحبس ما فيها، وبسطها يذهب ما فيها، وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه تعليم لأمته إلى يوم القيامة.

فعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: (أتى صبيّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إنّ أمي تستكسيك درعا، ولم يكن له إلاّ قميصه، فقال للصّبيّ: «من ساعة إلى ساعة يظهر كذا، فعد إلينا وقتا آخر». فعاد إلى أمّه، فقالت له: قل له: إنّ أمي تستكسيك الدّرع الذي عليك، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم داره، ونزع قميصه، وأعطاه، وقعد عريانا، فأذّن بلال بالصلاة، وانتظره، فلم يخرج، فشغل قلوب أصحابه، فدخل عليه بعضهم، فرآه عريانا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية). انتهى. خازن.

وفي صحيح البخاري، ومسلم عن أبي هريرة-رضي الله عنه. قال: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل البخيل والمتصدق، كمثل رجلين عليهما جبّتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى ثديّهما

ص: 328

وتراقيهما، فجعل المتصدق كلّما تصدّق بصدقة؛ انبسطت عنه حتى تغشى أنامله، وتعفو أثره، وجعل البخيل كلما همّ بصدقة قلصت، وأخذت كلّ حلقة بمكانها. قال أبو هريرة-رضي الله عنه: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بإصبعيه هكذا في جيبه، فلو رأيته يوسّعها، ولا تتوسّع؛ أي: لعجبت. انتهى. قرطبي.

{وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ} أي: فتعطي كل ما عندك. {فَتَقْعُدَ مَلُوماً} أي: فقيرا ملوما عند الله وعند الناس بالإسراف، وسوء التدبير. {مَحْسُوراً} أي: منقطعا لا شيء عندك تنفقه. من: حسره السفر: إذا بلغ منه. وقيل: المعنى نادما على ما فرط منك متحسرا.

قال القرطبي: وفيه بعد؛ لأن اسم الفاعل من الحسرة: حسر، وحسران، ولا يقال: محسور.

والله أعلم بمراده. هذا؛ وانظر الآية رقم [67] من سورة (الفرقان) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية. {تَجْعَلْ:} مضارع مجزوم ب:

(لا) الناهية، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {يَدَكَ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، {مَغْلُولَةً:} مفعول به ثان. {إِلى عُنُقِكَ:} متعلقان ب: {مَغْلُولَةً،} والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَلا تَجْعَلْ..} . إلخ معطوفة على جملة: {فَقُلْ لَهُمْ..} . إلخ، أو هي مستأنفة، لا محل لها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية. {تَبْسُطْها:} مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية، والفاعل: أنت، و (ها): مفعول به، {كُلَّ:} نائب مفعول مطلق، و {كُلَّ:} مضاف، و {الْبَسْطِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {فَتَقْعُدَ:} الفاء: الفاء السببية. (تقعد):

مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد الفاء، وفاعله مستتر فيه. {مَلُوماً:} حال من الفاعل المستتر، وإن اعتبرت الفعل ناقصا بمعنى: تصير، فالمستتر اسمه و {مَلُوماً} خبره. {مَحْسُوراً:} حال ثانية، أو خبر ثان، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: لا يكن منك بسط ليدك فقعود ملوما محسورا. تأمل، وتدبر.

{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)}

الشرح: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ:} يوسع الرزق لمن يشاء الله التوسيع عليه، {وَيَقْدِرُ:} يضيق الرزق، ويقلله على من يشاء من عباده. {إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} أي: ذو خبرة بعباده، ومن الذي يصلحه التوسيع في الرزق، ومن يفسده ذلك، ومن الذي يصلحه الضيق، والإقتار في الرزق، ومن الذي يهلكه ذلك. {بَصِيراً:} هو ذو بصر، ومعرفة بتدبير عباده، وسياستهم، فمن العباد من لا يصلح له إلا الغنى، ولو أفقره؛ لفسد، ومنهم من لا يصلح له إلا الفقر، ولو أغناه، لفسد.

هذا؛ وفي الآية الكريمة استعارة تمثيلية لمنع الشحيح وإعطاء المبذر، فقد شبه حال البخيل في امتناعه من الإنفاق بحال من يده مغلولة إلى عنقه، فهو لا يقدر على التصرف في شيء، وشبه

ص: 329

حال المبذر بحال من يبسط يده كل البسط، فلا يبقى على شيء في كفه، ولا يدخر شيئا بنفعه في حال الحاجة، ليخلص إلى نتيجة مجدية، وهي: الاقتصاد في الإنفاق بين الإسراف والتقتير، وقد طابق في الاستعارة بين بسط اليد وقبضها من حيث المعنى؛ لأن جعل اليد مغلولة هو قبضها، وغلها أبلغ في القبض، وخذ قول أبي تمام في مدح المعتصم العباسي:[الطويل]

تعوّد بسط الكفّ حتى لو انّه

ثناها لقبض لم تطعه أنامله

هذا؛ و {كانَ} في القرآن الكريم تأتي على أوجه: بمعنى: الأزل، والأبد، وبمعنى: المضي المنقطع، وهو الأصل في معناها، وبمعنى: الحال، وبمعنى: الاستقبال، وبمعنى:«صار» وبمعنى: «ينبغي» وبمعنى: «حضر» أو «وجد» وترد للتأكيد، وهي الزائدة، وهي هنا بمعنى:

الاستمرار، فليست على بابها من المضي، وإن المعنى: كان، ولم يزل كائنا إلى يوم القيامة. وإلى أبد الآبدين في الدنيا، والآخرة. هذا؛ وقد قال بعض المفسرين: في الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {رَبَّكَ:} اسم إن، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {يَبْسُطُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {رَبَّكَ}. {الرِّزْقَ:} مفعول به. {لِمَنْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر باللام، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذا التقدير: للذي، أو لشخص يشاؤه، وجملة:{يَبْسُطُ الرِّزْقَ..} . إلخ في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية تعليل للأمر، والنهي السابقين، وجملة:{وَيَقْدِرُ} معطوفة على جملة: {يَبْسُطُ..} . إلخ فهي في محل رفع مثلها. وانظر مثل إعراب: {إِنَّهُ كانَ..} . إلخ في الآية رقم [3] والجار والمجرور: {بِعِبادِهِ} متعلقان بأحد الاسمين بعدهما على التنازع.

{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31)}

الشرح: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ:} خوف الفقر، والفاقة، وأملق الرجل؛ أي: لم يبق له إلا الملقات، وهي الحجارة العظام الملس. {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيّاكُمْ:} هذا؛ وقال تعالى في سورة (الأنعام): {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيّاهُمْ} والفرق بينهما: أن ما هنا نهي للموسرين عن قتل الأولاد خشية وقوع الفقر بهم، وأن ما هناك نهي للمعسرين الفقراء عن قتل الأولاد من أجل فقر نازل بهم. {إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً:} إثما كبيرا يستوجب الخلود في جهنم. هذا؛ ويقرأ:

{خِطْأً} بقراءات كثيرة.

تنبيه: قتل الأولاد كان عملا فاشيا عند العرب قبل الإسلام، ولكن يرد هنا سؤال، هل كان قتل الأولاد يقتصر على قتل البنات، أم يتعدى إلى الذكور؟ المشهور: أن عامتهم كانوا يكرهون

ص: 330

البنات. انظر ما ذكرته في الآيات الثلاث، رقم [57] وما بعدها من سورة (النحل) تجد ما يسرك، وأما قتل الذكور، فكان قليلا جدا، لا يقع إلا في حالات شدة المعيشة، والفقر المدقع؛ لأنهم كانوا يتكثّرون بالذكور، ويعتزّون بهم، كما هو معروف، ومشهور.

تنبيه: يكثر السؤال في هذه الأيام عن منع الحمل، بل وعن إسقاط الجنين باستعمال بعض العقاقير، والجواب يكون بعونه تعالى كما يلي: منع الحمل إذا كان على اتفاق بين الزوجين، ولسبب من الأسباب، كضعف الزوجة، وعجزها عن القيام بخدمة الأولاد، فهو من المباحات التي لا حرج فيها، وأما إذا كان هربا من نفقات الأولاد، وتكاليف الحياة، فهو مكروه كراهة شديدة، وهو يدخل تحت قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«العزل الوأد الخفيّ» . وإسقاط الجنين بعد التخلق مكروه كراهة شديدة، ما لم يكن هناك خطر على الزوجة، كما يحدث في بعض الحالات، فهو من المباحات، وأما إسقاطه بعد نفخ الروح فيه، فهو قتل نفس، ويدخل تحت الوعيد الشديد في قوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً} الآية رقم [93] من سورة (النساء).

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تَقْتُلُوا:} مضارع مجزوم ب: (لا) وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَوْلادَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {خَشْيَةَ:} مفعول لأجله، و {خَشْيَةَ:} مضاف، و {إِمْلاقٍ:}

مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، التقدير: خشيتكم الإملاق. وجملة:

{وَلا تَقْتُلُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها أيضا. {نَحْنُ:} ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع مبتدأ. {نَرْزُقُهُمْ:} مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«نحن» والهاء في محل نصب مفعول به.

{وَإِيّاكُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل نصب معطوف على الضمير المنصوب، وجملة:{نَرْزُقُهُمْ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{نَحْنُ..} . إلخ تعليل للنهي. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {قَتْلَهُمْ:} اسم {إِنَّ،} والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، التقدير: إن قتلكم إياهم. {كانَ:} ماض ناقص، واسمها يعود إلى قتلهم. {خِطْأً:} خبر {كانَ} . {كَبِيراً:} صفة {خِطْأً} والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ} والجملة الاسمية تعليل آخر للنهي، وفيها معنى التأكيد لما قبلها.

{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32)}

الشرح: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى:} نهي عن قربان جريمة الزنى، فضلا عن اقترافها، والقاعدة:

أن الأحكام إذا كانت نواهي، يقال فيها:{فَلا تَقْرَبُوها،} كما في هذه الآية، وقوله:{وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ} وهكذا. وإن كانت، أوامر، يقال فيها:{فَلا تَعْتَدُوها} أي: لا تتجاوزوها بأن

ص: 331

لا تفعلوا، وما هنا من قبيل الأول، والآية الأخرى من قبيل الثاني، فكلّ جاء على ما يليق به وهو أبلغ من: لا تأتوه؛ لأنه يفيد النهي عن مقدمات الزنى، كاللمس، والقبلة، والنظرة، والغمزة بالمنطوق، وعن الزنى بمفهوم الأولى. {إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً} أي: فعلة قبيحة زائدة على حد القبح. {وَساءَ سَبِيلاً} أي: بئس الطريق طريقة الزنى، وهو من الكبائر باتفاق جميع علماء المسلمين، لم تبحه شريعة من الشرائع، ولا ديانة من الديانات، وهو يشتمل على أنواع من المفاسد، منها: المعصية، وإيجاب الحد على نفسه، ومنها اختلاط الأنساب، فلا يعرف الرجل ولد من هو، وقد يلقى ولد الزنى في الطرقات، فلا يقوم أحد بتربيته، وذلك يوجب ضياع الأولاد، وانقطاع النسل، وهذا يسبب خراب العالم.

هذا؛ والزنى يكتب بالياء؛ لأنه مصدر زنى يزني، ويكتب بالألف على أنه اسم مقصور من الزناء بالمد، ويقول: هو زان بين الزنا، والزناء بالمد والقصر. قال الفرزدق:[الطويل]

أبا حاضر من يزن يعلم زناؤه

ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا

وقال الفراء: المقصور من زنى، والممدود من زانى، يقال: زاناها مزاناة، وزناء.

هذا؛ وقد وردت أحاديث كثيرة تشدد النكير على الزناة، والزواني، وتبشرهم بالعذاب الأليم والعقاب الشديد، فعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن

إلخ». الحديث. رواه البخاري، ومسلم، وعنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان سربال يسربله الله من يشاء؛ فإذا زنى العبد نزع منه سربال الإيمان، فإن تاب ردّ عليه» . رواه البيهقي وعن أبي قتادة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قعد على فراش مغيّبة قيّض الله له ثعبانا يوم القيامة» . رواه الطبراني.

وعن المقداد بن الأسود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «ما تقولون في الزّنى؟» قالوا: حرام حرّمه الله، ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال: «لأن يزني الرّجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره

إلخ». الحديث رواه أحمد، والطبراني، وهذا النكير يشمل الذكر، والأنثى على السواء، كما أنّ الترغيب في العفة والجزاء الحسن يشملهما، وخذ قول الشافعي-رضي الله عنه:[الكامل]

عفّوا تعفّ نساؤكم في المحرم

وتجنّبوا ما لا يليق بمسلم

إنّ الزّنى دين فإن أقرضته

كان الوفا من أهل بيتك فاعلم

يا هاتكا حرم الرجال وقاطعا

سبل المودّة عشت غير مكرّم

لو كنت حرّا من سلالة طاهر

ما كنت هتّاكا لحرمة مسلم

من يزن يزن به، ولو بجداره

إن كنت يا هذا لبيبا فافهم

ص: 332

الإعراب: {وَلا تَقْرَبُوا:} انظر: {وَلا تَقْتُلُوا} . {الزِّنى:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً} تعليل للنهي، لا محل لها. {وَساءَ:} الواو: حرف عطف. (ساء): فعل ماض جامد لإنشاء الذم، وفاعله ضمير مستتر فسره التمييز، وهو {سَبِيلاً،} والمخصوص بالذم محذوف، تقديره: ذلك الفعل، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. وقيل: هي في محل نصب مقول القول لقول محذوف معطوف على خبر {كانَ} التقدير: ومقولا فيه: {وَساءَ سَبِيلاً} . تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33)}

الشرح: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاّ بِالْحَقِّ:} نهي عن قتل النفس بغير حق، وقتلها بحق يكون بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، وقتل شخص عمدا معصوم بالإيمان، فعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأنّي رسول الله إلاّ بإحدى ثلاث: الثّيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه، المفارق للجماعة» . رواه الستة ما عدا ابن ماجة.

{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً} أي: بغير سبب يوجب القتل. {فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ:} للذي يلي أمره بعد وفاته، وهو الوارث لماله، فهو يرث دمه أيضا. قال تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} وقال جل ذكره: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ} فيقتضي ذلك إثبات القود لسائر الورثة. {سُلْطاناً} أي: تسليطا، إن شاء قتل، وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية. وانظر الآية رقم [99] من سورة (النحل).

{فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ:} فيه ثلاثة أقوال: لا يقتل غير قاتله، لا يقتل بدل وليه اثنين، لا يمثل بالقاتل إذا تمكن الولي من قتله، وقد كان العرب في الجاهلية يفعلون الأمور الثلاثة، ولا تزال آثار الجاهلية فاشية في هذا الزمن، وعلى الأكثر عند أعراب البادية. {إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً:} الضمير إما للمقتول، فإنه منصور في الدنيا بثبوت القصاص بقتل قاتله، وفي الآخرة بالثواب العظيم، وإما لوليه، فإن الله نصره حيث، أوجب القصاص له، وأمر الولاة بمعونته بالوصول إلى حقه.

قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: فإن قيل: وكم من ولي مخذول لا يصل إلى حقه، قلنا:

المعونة تكون بظهور الحجة تارة، واستيفائها أخرى، وبمجموعهما ثالثة، فأيها كان؛ فهو نصر

ص: 333

من الله تعالى. انتهى. هذا؛ ويقرأ: «(فلا تسرف)» بالخطاب إلى الولي، وقرئ:«(فلا تسرفوا)» بالخطاب لأولياء المقتول، أو للحكام، وعلى هاتين القراءتين يكون في الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب، انظر الآية رقم [22] من سورة (النحل).

هذا؛ وقد وردت أحاديث شريفة كثيرة تحذر من قتل النفس بغير حق، وتتوعد بالعقاب الشديد، والعذاب الأليم من اقتراف جريمة القتل، وذلك إلى جانب الآيات القرآنية الكثيرة المعروفة، فعن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة-رضي الله عنهما-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لو أنّ أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن؛ لأكبّهم الله في النار» . رواه الترمذي. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة؛ لقي الله مكتوبا بين عينيه: آيس من رحمة الله» . رواه ابن ماجة، والأصبهاني. وعن أبي سعيد رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج عنق من النار يتكلّم، يقول: وكّلت اليوم بثلاثة:

بكلّ جبّار عنيد، ومن جعل مع الله إلها آخر، ومن قتل نفسا بغير حقّ، فينطوي عليهم، فيقذفهم في حمراء جهنّم». رواه أحمد.

ولم يبح الإسلام دماء غير المسلمين، بل حفظها، ونهى عن الاعتداء عليها بغير حق، بل وشدد النبي صلى الله عليه وسلم النكير على من ينتهك حرمتها، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنّة، وإنّ ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما» . رواه البخاري. وعن أبي بكرة-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قتل معاهدا في غير كنهه حرّم الله عليه الجنة» . رواه أبو داود، والنسائي، ومعنى:

في غير كنهه: في غير وقته الذي يجوز قتله فيه حين لا عهد له. وما ذكرته قليل من كثير.

الإعراب: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ:} انظر الآية [31]{الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة {النَّفْسَ،} والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: التي حرمها الله. {إِلاّ} حرف حصر. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بالفعل {(لا تَقْتُلُوا)} أو هما متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، التقدير: إلا ملتبسين بالحق، وجملة:{وَلا تَقْتُلُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها. {وَمَنْ:} الواو: واو الاعتراض. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {قُتِلَ:} ماض مبني للمجهول مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، ونائب الفاعل يعود إلى (من). {مَظْلُوماً:} حال من نائب الفاعل. {فَقَدْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.

(قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {جَعَلْنا:} فعل، وفاعل. {لِوَلِيِّهِ:} متعلقان بما قبلهما. {سُلْطاناً:} مفعول به، وقيل: مفعول به أول، والثاني: قوله: {لِوَلِيِّهِ} ولو قيل: الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال؛ لكان أجود، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه كما رأيت في الآية رقم [15]. هذا؛ وإن

ص: 334

اعتبرت (من) اسما موصولا فالجملة بعدها صلتها، وهي مبتدأ، والخبر جملة:{فَقَدْ جَعَلْنا..} .

إلخ وزيدت الفاء في الخبر لتحسين اللفظ، ولأن الموصول يشبه الشرط في العموم. {فَلا:}

الفاء: هي الفصيحة. (لا): ناهية. {يُسْرِفْ:} مضارع مجزوم بها، والفاعل يعود إلى الولي.

{فِي الْقَتْلِ:} متعلقان به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم؛ إذ التقدير:

وإذا كان ذلك حاصلا للولي؛ فلا يسرف، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً} لا محل لها؛ لأنها تعليل للنهي، والكلام {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً..} . إلخ معترض بين المتعاطفين.

{وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34)}

الشرح: {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ} أي: فضلا عن أن تتصرفوا فيه بالأكل والاستيلاء عليه. وانظر الآية [32]. {إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ:} إلا بالطريقة التي هي أحسن، وهي صلاحه وتثميره، وتحصيل الربح له، وهذا إذا كان القيم على مال اليتيم غنيا غير محتاج إليه، فلو كان الوصي، أو القيم فقيرا، فله أن يأكل بالمعروف. قال تعالى:{وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} .

{حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ:} فقد اختلف في الأشد على أقوال كثيرة، والمراد: بالأشد في هذه الآية وأمثالها هو ابتداء بلوغ الحلم مع إيناس الرشد، وهو قوله تعالى:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ} هذا؛ وتخصيص اليتيم بالذكر بالنهي عن أكل ماله، مع أن حال البالغ وماله كذلك؛ لأن طمع الطامعين فيه أكثر لضعفه، ولعظم إثمه، ولأن البالغ يستطيع الدفاع عن ماله ما أمكنه؛ لذا فقد عد الرسول صلى الله عليه وسلم أكل مال اليتيم من السبع الموبقات. وخذ ما يلي: فعن أبي هريرة رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسول الله! وما هنّ؟ قال: «الشّرك بالله، والسّحر، وقتل النّفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ، وأكل الرّبا، وأكل مال اليتيم، والتّولّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» . رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي. وعن أبي برزة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم تأجّج أفواههم نارا» . فقيل من هم يا رسول الله؟! قال: «ألم تر أنّ الله عز وجل يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً» }. رواه أبو يعلى، وهذه الآية هي رقم [10] من سورة (النساء)، انظرها، ففيها بحث جيد يسرّك.

{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} أي: بما عاهدكم الله به من تكاليفه، وأوامره، ونواهيه، أو ما عاهدتموه عليه، وقطعتموه على أنفسكم من نذر، ونحوه، أو عاهدتم أحدا من الناس. وانظر الآية رقم [22] من سورة (الرعد) تجد ما يسرك. {إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً} أي: مطلوبا يطلب من المعاهد أن لا يضيعه، ويفي به، أو مسئولا عنه، يسأل الناقض للعهد، ويعاقب عليه، أو يسأل

ص: 335

العهد نفسه لم نكثت؟ تقريعا وتوبيخا للناكث على حدّ قوله تعالى في سورة (التكوير): {وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} وذلك على طريق الاستعارة بالكناية بأن يشبه العهد بمن نكث عهده، ونسبة السؤال إليه تخييل. انتهى. جمل.

وأما {الْيَتِيمِ} فهو من فقد أباه، أو أمه، أو فقدهما معا، وقد يغلب أن يكون المراد: من فقد معيله من بني آدم، والأم من الحيوانات والطيور، وهناك يتيم العقل، والأدب، والتربية، والخلق، والدين. وهو أسوأ حالا من الأول، وإن كان قد بلغ من العمر الخمسين، والستين، ويملك من الأموال الملايين، ورحم الله من قال:[البسيط]

ليس اليتيم الذي قد مات والده

إنّ اليتيم يتيم العلم والأدب

وخذ قول الآخر: [الكامل]

ليس اليتيم من انتهى أبواه من

همّ الحياة وخلّفاه ذليلا

إنّ اليتيم هو الذي تلقى له

أمّا تخلّت، أو أبا مشغولا

هذا؛ وقد وردت أحاديث شريفة كثيرة توصي باليتيم، وتحث على الإحسان إليه، سأعرض لها في مناسبة أخرى تأتي بعد إن شاء الله تعالى.

الإعراب: {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ:} انظر: {وَلا تَقْتُلُوا..} . إلخ في الآية [31]{إِلاّ:} حرف حصر. {بِالَّتِي:} متعلقان بمحذوف حال مستثنى من عموم الأحوال؛ أي: لا تقربوه في حال من الأحوال، إلا بحال إصلاحه، وتثميره، ويجوز تعليقهما بالفعل قبلهما، والجملة الاسمية:{هِيَ أَحْسَنُ} صلة الموصول، لا محل لها. {حَتّى:} حرف غاية وجر. {يَبْلُغَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد {حَتّى} والفاعل يعود إلى {الْيَتِيمِ} . {أَشُدَّهُ:} مفعول به، و (ها): في محل جر بالإضافة، و «أن» المضمرة في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{وَلا تَقْتُلُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها. {وَأَوْفُوا:}

أمر مبني على حذف النون.. إلخ والواو فاعله، والألف للتفريق. {بِالْعَهْدِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، والجملة الاسمية:{إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً} تعليل للأمر، وإعرابها ظاهر إن شاء الله تعالى وقد تقدم مثلها، ومتعلق:{مَسْؤُلاً} محذوف، التقدير: مسئولا عنه، وتقديره مقدما أولى؛ ليجري فيه إعراب الآية الآتية برقم [36].

{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35)}

الشرح: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ:} إذا كلتم؛ أي: أتموا الكيل للناس إذا كلتم لهم، وأعطوهم حقوقهم كاملة. {وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ} أي: بالميزان السوي صغيرا كان، أو كبيرا. قيل:

ص: 336

هو رومي. وقيل: سريانيّ عرّب، والأصح: أنه عربي مأخوذ من القسط، وهو العدل. قال تعالى في سورة (الأنعام):{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ} . {ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي:

أجمل وأسلم عاقبة، ومآلا، فهو من: آل، يؤول بمعنى: رجع، يرجع. وانظر شرح:{خَيْرٌ} في الآية رقم [39] من سورة (يوسف) عليه السلام، وإعلال {الْمُسْتَقِيمِ} مثل إعلال (مقيم) في الآية رقم [40] من سورة (إبراهيم) عليه السلام.

تنبيه: اعلم: أن التفاوت الحاصل بسبب نقصان الكيل، والميزان وقت الإعطاء، وزيادتهما وقت الأخذ شيء قليل، والوعيد المذكور في سورة (المطففين) وغيرها شديد عظيم، فوجب الاحتراز عنه، وإنما عظم الوعيد فيه؛ لأن جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات، والبيع، والشراء، فالشارع الحكيم بالغ في المنع في التطفيف، والنقصان سعيا وحرصا على صحة المعاملات، ولا تنس: أن الله أهلك قوم شعيب بسبب هذه الجريمة مقرونة بالشرك، وعبادة غير الله تعالى. هذا؛ وأضيف: أن الله جلت قدرته قد قال في سورة (الأنعام) بعد الأمر بإيفاء الكيل والميزان: {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها} وذلك لأن إيفاء الحق عسير، فكأنه تعالى يقول:

عليكم بما في وسعكم، وطاقتكم، وما عداه غير مؤاخذين به، وخذ ما يلي:

قال الحسن-رحمه الله تعالى-: ذكر لنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقدر رجل على حرام، ثم يدعه، ليس لديه إلاّ مخافة الله تعالى؛ إلاّ أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك» . انتهى. قرطبي.

فعن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والوزن: «إنّكم قد ولّيتم أمرا، فيه هلكت الأمم السالفة قبلكم» . رواه الترمذي، وفي حديث آخر مشهور:«ولم ينقصوا المكيال، والميزان، إلاّ أخذوا بالسّنين، وشدّة المئونة، وجور السلطان عليهم» .

الإعراب: {وَأَوْفُوا:} أمر مبني على حذف النون.. إلخ. وانظر إعراب: (امضوا) في الآية رقم [65] من سورة (الحجر)، والواو فاعله، والألف للتفريق.

{الْكَيْلَ:} مفعول به. {إِذا:} ظرف زمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل قبله، وهو أولى من اعتبارها شرطية محذوفة الجواب. {كِلْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها، وجملة:{وَأَوْفُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها. وأيضا جملة:

{وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ} معطوفة عليها. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {خَيْرٌ:} خبر المبتدأ. {وَأَحْسَنُ:}

معطوف عليه. {تَأْوِيلاً:} تمييز لأحدهما على التنازع، والجملة الاسمية:{ذلِكَ..} . إلخ تعليل للأمر، لا محل لها.

ص: 337

{وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36)}

الشرح: {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي: لا تتبع ما لا تعلم، ولا يعنيك. قال قتادة- رحمه الله تعالى-: لا تقل: رأيت؛ وأنت لم تر، وسمعت؛ وأنت لم تسمع، وعلمت؛ وأنت لم تعلم. وأصل (القفو): البهت، والقذف بالباطل، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«نحن بنو النضر بن كنانة، لا نقفو أمّنا، ولا ننتفي من أبينا» . أي: لا نسبّ أمنا. وقال الكميت: [الوافر]

فلا أرمي البريء بغير ذنب

ولا أقفو الحواصن إن قفينا

وبالجملة فهذه الآية تنهى عن قول الزور، والقذف، وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة، والرديئة.

فعن شكل بن حميد-رضي الله عنه-قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا نبي الله علمني تعويذا أتعوذ به. قال: فأخذ بيدي، ثم قال: قل: «أعوذ بك من شرّ سمعي، وشرّ بصري، وشرّ فؤادي، وشرّ لساني، وشرّ قلبي، وشرّ منيّي» . قال: فحفظتها. أخرجه أبو داود، والنسائي، والترمذي. وقال: حديث حسن غريب. ولا تنس: أن النهي موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد: به أمته بلا شك.

{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً} أي: كل هذه الأعضاء تسأل يوم القيامة، فالفؤاد يسأل عما افتكر فيه، واعتقده، والسمع عما سمع، والبصر عما رأى. وقيل: يسأل الإنسان عما حواه سمعه، وبصره، وفؤاده، والأول: أبلغ في الحجة، وأشد في التقريع، والخزي، والذل. قال تعالى:{حَتّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} . هذا؛ وقد جمع سبحانه وتعالى هذه الأعضاء بأولئك، وهو يغلب في العقلاء، فأجريت مجراهم؛ لأنها مسئولة عن أحوالها، شاهدة على صاحبها، وحكى الزجاج: أن العرب تعبر عما يعقل، وعما لا يعقل ب:«أولئك» ، وأنشد هو والطبري قول جرير:[الكامل]

ذمّ المنازل بعد منزلة اللّوى

والعيش بعد أولئك الأيام

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية. {تَقْفُ:} مضارع مجزوم بلا، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الواو، والضمة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {لَيْسَ:} ماض ناقص. {لَكَ:} متعلقان بمحذوف خبر ليس مقدم. {بِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من علم. {عِلْمٌ:} اسم ليس مؤخر، وجملة:{لَيْسَ..} . إلخ صلة (ما)، أو

ص: 338

صفتها، والعائد، أو الرابط: هو الضمير المجرور محلا بالباء، وجملة:{وَلا تَقْفُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {السَّمْعَ:} اسمها. {وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ:}

معطوفان على السمع. {كُلُّ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل جر بالإضافة، والكاف حرف خطاب لا محل له. {كانَ:} ماض ناقص، واسمه يعود إلى كل واحد من البشر، أو إلى كل واحد من الجوارح المذكورة، أو إلى المكلف، انظر الشرح. {عَنْهُ:} متعلقان بما بعدهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني. وقيل: متعلقان بنائب فاعله، وهو مردود؛ لأن الفاعل، ونائبه لا يتقدمان، لذا فنائب الفاعل ضمير مستتر تقديره:

«هو» يعود إلى ما عاد إليه المضمر في {كانَ} وهو المفعول الأول، وهذا كله فحوى كلام ابن هشام في مغنيه. {مَسْؤُلاً:} خبر {كانَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{كُلُّ أُولئِكَ..} . إلخ في محل رفع خبر {إِنَّ،} والرابط: اسم الإشارة العائد إلى السمع، والبصر، والفؤاد، والجملة الاسمية:{إِنَّ..} . إلخ تعليل للنهي، لا محل لها.

{وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37)}

الشرح: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} أي: ذا مرح، وهو الخيلاء، والكبر، والبطر، وقرئ {مَرَحاً:} بفتح الراء وكسرها، والأول: أبلغ، فإن قولك: جاء زيد ركضا، أبلغ من قولك: جاء زيد راكضا. {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ} أي: لن تقطعها بكبرك حتى تبلغ آخرها. {وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً} أي: لا تقدر أن تطاول الجبال، وتساويها بكبرك.

والمعنى أن الإنسان لا ينال بكبره وبطره شيئا، كمن يريد خرق الأرض، ومطاولة الجبال، لا يحصل على شيء. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

تنبيه: في الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد: به أمته على مثال ما تقدم، وفيها نهي عن الكبر، والتكبر، والخيلاء، وقد نهى الله عنه في كثير من الآيات القرآنية، وبين: أنه يكون سببا في صرف العبد المتكبر عن قبول الحق، واتباع الهدى. قال تعالى:{سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} . والرسول صلى الله عليه وسلم شدد النكير على المتكبرين، وتوعدهم بالعقاب الشديد، والعذاب الأليم، فعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من تعظّم في نفسه، أو اختال في مشيته لقي الله تبارك وتعالى، وهو عليه غضبان» . رواه الطبراني في الكبير. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يمشي في حلّة، تعجبه نفسه، مرجّل رأسه، يختال في مشيته؛ إذ خسف الله به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة» .

رواه الشيخان. وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تواضع لله درجة؛ يرفعه الله درجة حتى يجعله في أعلى علّيّين، ومن تكبّر على الله درجة؛ يضعه الله درجة حتى

ص: 339

يجعله في أسفل سافلين، ولو أنّ أحدكم يعمل في صخرة صمّاء، ليس عليها باب، ولا كوّة؛ لخرج ما غيّبه للنّاس كائنا ما كان». رواه ابن ماجة وابن حبان. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله جل وعلا: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار» . رواه ابن ماجة، وخذ قول الشاعر:[الطويل]

تواضع تكن كالنجم لاح لناظر

على صفحات الماء وهو رفيع

ولا تك كالدّخان يعلو بنفسه

إلى طبقات الجوّ، وهو وضيع

وخذ قول الآخر: [الطويل]

ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا

فكم تحتها قوم هم منك أرفع

وإن كنت في عزّ وحرز ومنعة

فكم مات من قوم هم منك أمنع

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية. {تَمْشِ:} مضارع مجزوم ب: (لا)، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر وجوبا تقديره:«أنت» . {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بما قبلهما. {مَرَحاً:} نائب مفعول مطلق، أو هو حال من الفاعل المستتر على حذف المضاف، التقدير: ذا مرح. وقال أبو البقاء: مفعول لأجله، وليس بالقوي، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {إِنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {لَنْ:} حرف ناصب. {تَخْرِقَ:} مضارع منصوب ب: {لَنْ،} والفاعل تقديره:

«أنت» . {الْأَرْضِ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة:{وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {طُولاً:} تمييز محول عن الفاعل، التقدير: ولن يبلغ طولك الجبال، أو هو محول عن المفعول مثل:{وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً} فيكون التقدير: ولن تبلغ طول الجبال، وهو أولى، وأجاز أبو البقاء اعتباره حالا من الفاعل، أو المفعول، ومفعولا مطلقا من معنى {تَبْلُغَ} والأول: أولى. والجملة الاسمية: {إِنَّكَ..} . إلخ تعليل للنهي، لا محل لها.

{كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38)}

الشرح: {كُلُّ ذلِكَ:} إشارة إلى الخصال الخمس والعشرين المذكورة فيما تقدم، واسم الإشارة:{ذلِكَ} يصلح للواحد، والجمع، والمذكر، والمؤنث. {كانَ سَيِّئُهُ:} المراد منه:

المنهي عنه فيما تقدم، وأما المأمور به، فلا يكون سيئا. هذا؛ وقرئ «(سيئة)» والقراءتان سبعيتان.

{مَكْرُوهاً:} مبغوضا محرما معاقبا عليه، والمراد: به المنهيات، وعلى قراءة:«(سيئة)» يكون قد راعى فيه معنى {كُلُّ} وفي: {مَكْرُوهاً} يكون راعى لفظها. وهو التذكير.

ص: 340

الإعراب: {كُلُّ:} مبتدأ. وهو مضاف، و {ذلِكَ} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {كانَ:} ماض ناقص. {سَيِّئُهُ:}

اسم كان، والهاء في محل جر بالإضافة، {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق ب: {مَكْرُوهاً،} و {عِنْدَ:}

مضاف، و {رَبِّكَ:} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {مَكْرُوهاً:} خبر {كانَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{كُلُّ ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. هذا؛ وعلى قراءة:«(سيئة)» بالنصب فهو خبر كان، واسمها ضمير مستتر يعود إلى {كُلُّ ذلِكَ،} ويكون {مَكْرُوهاً} بدلا من (سيئة) أو صفة لها محمولة على المعنى، فإنها بمعنى: سيئا؛ ويجوز أن ينتصب على الحال من اسم {كانَ} المستتر، أو من الضمير المستتر في الظرف، على أنه متعلق بمحذوف صفة (سيئة).

{ذلِكَ مِمّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39)}

الشرح: {ذلِكَ مِمّا..} . إلخ: الإشارة إلى هذه الآداب، والقصص، والأحكام التي تضمنتها هذه الآيات المتقدمة؛ التي نزل بها جبريل الأمين-عليه السلام-على قلب سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، والأحكام المذكورة شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان، والملل، لا تقبل النسخ والإبطال، فكانت محكمة وحكمة بهذا الاعتبار، وكرر سبحانه:{وَلا تَجْعَلْ مَعَ..} . إلخ للتنبيه على أنّ التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه، فإنّ من لا إيمان له بالله لا يقبل منه عمله، ومن قصد بفعله، أو تركه غير الله ضاع سعيه، وخاب أمله. و {مَلُوماً:} تلوم نفسك على اتخاذك إلها غير الله، وهذا في الآخرة.

وانظر الآية رقم [29]. {مَدْحُوراً:} مطرودا، ومبعدا من رحمة الله. وانظر الآية رقم [18].

هذا؛ وقد قال الخازن: والفرق بين المذموم والملوم، أما كونه مذموما: فمعناه: أن يذكر له أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح، ومنكر، فهذا معنى كونه مذموما، يقال له: لم فعلت هذا الفعل القبيح؟ وما الذي حملك عليه؟ وهذا هو اللوم. والفرق بين المخذول، والمدحور: أن المخذول هو الضعيف الذي لا ناصر له، والمدحور هو المبعد المطرود عن كل خير. انتهى.

الإعراب: {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و (من) للتبعيض، فهي تفيد: أن الموحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السورة قليل من كثير، وهو الواقع، والحق. {أَوْحى:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {إِلَيْكَ:} متعلقان به. {رَبُّكَ:} فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: من

ص: 341

الذي، أوحاه

إلخ، واعتبار (ما) موصوفة ضعيف هنا. {مِنَ الْحِكْمَةِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب المحذوف، وأجيز اعتبارهما متعلقين بمحذوف خبر ثان للمبتدإ، ومتعلقين بالفعل، أوحى، وبدلا من {مِمّا} والأول: هو الذي أعتمده، والجملة الاسمية:

{ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، أو هي معترضة بين المتعاطفات، وهو أولى. {وَلا:}

الواو: حرف عطف. (لا): ناهية. {تَجْعَلْ:} مضارع مجزوم ب: (لا) والفاعل تقديره: «أنت» .

{مَعَ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، و (مع) مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {إِلهاً:} مفعول به.

{آخَرَ:} صفة إلها. وقيل: {مَعَ} متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني: ل: (تجعل) و {إِلهاً} هو المفعول الأول: وهو ضعيف. {فَتُلْقى:} الفاء: للسببية في جواب النهي. (تلقى): مضارع مبني للمجهول منصوب ب: «أن» مضمرة بعد الفاء، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، ونائب الفاعل مستتر فيه تقديره:«أنت» . {فِي جَهَنَّمَ:} متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {مَلُوماً مَدْحُوراً} حالان من نائب الفاعل المستتر، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: لا يكن منك جعل لله شريكا في العبادة فإلقاء لك في جهنم، وجملة:{وَلا تَجْعَلْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها.

{أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاِتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40)}

الشرح: {أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ..} . إلخ: توبيخ، وتقريع لمشركي العرب؛ إذ المعنى:

أفخصكم الله بأفضل الأولاد، وهم البنون، فجعل لكم الصفوة، ولنفسه ما ليس بصفوة؟! لأنهم كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، مع علمهم بأن الله منزه عن النقص، وموصوف بالكمال الذي لا نهاية له، وهو دليل واضح على شدة جهلهم؛ ولذا قال جل شأنه:{إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} أي: تفترون على الله الكذب، وهو جرم كبير، وذنب عظيم. وانظر الآية رقم [57] من سورة (النحل) وما بعدها؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {أَفَأَصْفاكُمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وتوبيخ، وتقريع. الفاء: حرف عطف، أو حرف استئناف. (أصفاكم): ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والكاف مفعول به، والميم علامة جمع الذكور. {رَبُّكُمْ:} فاعل، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {بِالْبَنِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة جره الياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:

{أَفَأَصْفاكُمْ..} . إلخ معطوفة على جملة محذوفة؛ إذ التقدير: أفضلكم، فأصفاكم. أو هي مستأنفة، انظر سورة (النحل) [17] {وَاتَّخَذَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {رَبُّكُمْ،} وهو ينصب

ص: 342

مفعولين، الأول:{إِناثاً،} والثاني: محذوف، تقديره: أولادا. {مِنَ الْمَلائِكَةِ:} متعلقان بمحذوف حال من {إِناثاً،} كان صفة، فلما قدم عليه صار حالا. وقال الجمل نقلا عن السمين: هما المفعول الثاني: قدم على الأول، والأول: أقوى، وجملة:{وَاتَّخَذَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، أو هي في محل نصب حال من {رَبُّكُمْ،} والرابط: الواو، والضمير.

ويجب تقدير «قد» قبلها. {إِنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. اللام: هي المزحلقة.

(تقولون): مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، {قَوْلاً:} مفعول مطلق. {عَظِيماً:} صفة له، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ) والجملة الاسمية:{إِنَّكُمْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاّ نُفُوراً (41)}

الشرح: {وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ} أي: كررنا، والمفعول محذوف؛ أي: كررنا أمثاله ومواعظه، وقصصه، وأخباره، وأوامره تارة من جهة المقدمات العقلية، وتارة من جهة الترغيب والترهيب، وتارة بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين. أو المعنى: بينا في هذا القرآن ما يحتاجه الناس في دنياهم من العقائد، والأحكام، والمواعظ، والحلال والحرام، والقصص، والوعد، والوعيد، والمحكم، والمتشابه، والحدود، والأمثال، وغير ذلك، كما قال بعضهم ذاكرا ما اشتمل عليه القرآن الكريم. [الطويل]

حلال حرام محكم متشابه

بشير نذير قصّة عظة مثل

هذا؛ وفي (الأنعام) وغيرها {نُصَرِّفُ الْآياتِ} . {لِيَذَّكَّرُوا:} ليتعظوا، وقرئ بالتخفيف هنا وفي سورة (الفرقان) بمعنى: الذكر. {وَما يَزِيدُهُمْ} أي: التصريف، والتذكير. {إِلاّ نُفُوراً:}

إلا تباعدا عن الحق، وغفلة عن النظر، والاعتبار، وذلك؛ لأنهم اعتقدوا في القرآن: أنه حيلة، أو سحر، أو كهانة، أو شعر.

هذا؛ وزاد، يزيد ضدّ: نقص، ينقص، يكون لازما، كقولك: زاد المال درهما، ويكون متعديا لمفعولين كما في الآية الكريمة، وقولك: زاد الله خالدا خيرا، بمعنى: جزاه الله خيرا، وأما قولك: زاد المال درهما والبر مدّا، فدرهما، ومدّا: تمييز، ومثله قل في نقص، فمن المتعدي لمفعولين قوله تعالى:{ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً} .

الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره: أقسم.

هذا؛ وبعضهم يعتبر الواو عاطفة، وبعضهم يعتبرها حرف استئناف. ويعتبران الجملة الآتية جوابا لقسم محذوف، ولا أسلمه أبدا؛ لأنه على هذا يكون قد حذف واو القسم، والمقسم به،

ص: 343

ويصير التقدير: وو الله أقسم، أو وأقسم والله. اللام: واقعة في جواب القسم المحذوف، وبعضهم يقول: موطئة للقسم، والموطئة معناها: المؤذنة، وهذه اللام إنما تدخل على «إن» الشرطية لتدل على القسم المتقدم على الشرط، وتكون الجملة الآتية جوابا للقسم المدلول عليه باللام، والمتقدم على الشرط حكما، كما في قوله تعالى:{لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ..} . إلخ الآية رقم [12] من سورة (الحشر)، افهم هذا؛ واحفظه فإنه جيد.

فإن قيل: ما ذكرته من إعراب يؤدي إلى حذف المقسم به، وبقاء حرف القسم. فالجواب:

أنه قد حذف المقسم به حذفا مطردا في أوائل السور، مثل قوله تعالى:{وَالشَّمْسِ،} {وَالسَّماءِ وَالطّارِقِ} فإن التقدير: ورب الشمس، ورب السماء. الدليل على ذلك التصريح به في قوله تعالى:

{فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ..} . إلخ الآية رقم [23] من سورة (الذاريات) وحذف المقسم به ظاهر في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها} الآية رقم [71] من سورة (مريم). وأظهر في قوله تعالى:

{وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} الآية رقم [73] من سورة (المائدة)، فالواو في الآيتين حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف بلا ريب.

(قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {صَرَّفْنا:} فعل، وفاعل. وانظر إعراب (حفظنا) في الآية رقم [17] من سورة (الحجر)، والمفعول محذوف، انظر الشرح، والجملة الفعلية:{صَرَّفْنا..} . إلخ جواب القسم، والقسم وجوابه كلام مستأنف، لا محل له. {فِي:} حرف جر. {هذَا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر ب: {فِي،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {الْقُرْآنِ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه، وبعضهم يعتبره صفة له. {لِيَذَّكَّرُوا:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {وَما:}

الواو: واو الحال. (ما): نافية. {يَزِيدُهُمْ:} مضارع، والفاعل يعود إلى التصريف، أو إلى التذكير المفهومين من الفعلين السابقين، والهاء مفعول به أول. {إِلاّ:} حرف حصر. {نُفُوراً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

{قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42)}

الشرح: {قُلْ:} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين. {لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ:} لو كان مع الله جلت قدرته آلهة كما تزعمون، وتفترون. {إِذاً لابْتَغَوْا..}. إلخ: أي:

لطلب الآلهة طريقا يسلكونها إلى الله ليقهروه، ويزيلوا ملكه، كما يفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض، أو ليتقربوا، ويتوددوا إليه، أو ليتعرفوا عليه، والتعارف بين الملوك سنّة متبعة.

ص: 344

بعد هذا انظر شرح العرش في الآية رقم [2] من سورة (الرعد) و (ذي) بمعنى: صاحب، وجمعه من غير لفظه على الأكثر، وهو (أولو، وأولي) ويجمع على: (ذوين، وذوون) وهو قليل. هذا؛ وإنما جمعت المعبودات الباطلة بواو الجماعة التي لجماعة المذكرين العاقلين مع أنها جمادات؛ لأن الكفار يعاملونها معاملة من يعقل، من سؤالهم لها حوائجهم، وتذللهم لها، والعرب تجمع ما لا يعقل؛ جمع من يعقل؛ إذا نزلوه منزلته، وإن كان خارجا عن الأصل، وهو كثير ومستعمل في القرآن الكريم، والكلام العربي.

أما (السبيل) فهو الطريق يذكر، ويؤنث بلفظ واحد، فمن التذكير قوله تعالى:{وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} ومن التأنيث قوله تعالى: {قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ} والجمع على التأنيث: سبول، وعلى التذكير: سبل بضمتين، وقد تسكن الباء، كما في رسل، وعسر، ويسر. قال: عيسى بن عمر: كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم وأوسطه ساكن، فمن العرب من يخففه، ومنهم من يثقله، وذلك مثل: رحم، وحلم، وأسد

إلخ هذا؛ وإعلال (ابتغوا) مثل إعلال (ألقوا) في الآية رقم [87] من سورة (النحل).

الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {كانَ:} ماض ناقص. {مَعَهُ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر {كانَ} مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة. {آلِهَةٌ:} اسمها مؤخر. هذا؛ وإن اعتبرت {كانَ} تامة فالمعنى لا يأباه، ويكون الظرف متعلقا بها، وآلهة فاعلها، والجملة الفعلية على الاعتبارين لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {كَما:} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما):

مصدرية. {يَقُولُونَ:} مضارع مرفوع، والواو فاعله، و (ما) والفعل في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بما تعلق به الظرف. قاله الحوفي، أو هما متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف، التقدير: كونا مشابها لما تقولون، وهذا ليس مذهب سيبويه

إلخ.

وانظر الآية رقم [24]{إِذاً:} حرف جواب، وجزاء. {لابْتَغَوْا:} اللام: واقعة في جواب (لو).

(ابتغوا): ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة التي هي فاعله، والألف للتفريق. {إِلى ذِي:} متعلقان بالفعل قبلهما، وأجيز تعليقهما بمحذوف حال من سبيلا، كان صفة له.. إلخ، وعلامة الجر الياء؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و (ذي) مضاف، و {الْعَرْشِ:} مضاف إليه. {سَبِيلاً:} مفعول به، وجملة:{إِذاً لابْتَغَوْا} إلخ جواب {لَوْ،} لا محل لها، و {لَوْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43)}

الشرح: نزه الله نفسه في هذه الآية تنزيها يليق به، وقدس ذاته العلية، عما لا يليق به، ومجد عظمته تمجيدا يليق بكبريائه. وانظر شرح:{سبحانه وتعالى} في الآية رقم [1] من سورة (النحل).

ص: 345

الإعراب: {سُبْحانَهُ:} مفعول مطلق لفعل محذوف، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو من إضافته لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا، والجملة الفعلية الحاصلة منه، ومن فعله المحذوف مستأنفة، لا محل لها. {وَتَعالى:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (الله)، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {عَمّا:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو ب:(سبحان) أو بفعله المحذوف على التنازع، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:(عن)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: عن الذي، أو عن شيء يقولونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب:(عن)، التقدير:

تعالى الله عن قولهم. {عُلُوًّا:} مفعول مطلق. {كَبِيراً:} صفته. هذا؛ و {عُلُوًّا} وضع موضع تعاليا؛ لأنه مصدر الفعل: (تعالى) ويجوز أن يقع مصدر موقع آخر من معناه.

تنبيه: يقرأ الفعل {يَقُولُونَ} في هذه الآية وسابقتها بالياء والتاء، وبالياء في الأولى، والتاء في الثانية فالقراءات ثلاث كلها سبعية، وعلى الأخيرة يكون في الكلام التفات، انظره في الآية [22] من سورة (النحل).

{تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)}

الشرح: {تُسَبِّحُ لَهُ:} لله عز وجل. {السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} أي: الملائكة، والإنس والجن. {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} أي: ما من شيء في الدنيا إلا يسبح الله ويقدسه، واختلف في هذا العموم، فقالت فرقة: المراد به تسبيح دلالة، وكل محدث يشهد على نفسه بأن الله عز وجل خالق قادر. وقالت فرقة أخرى: هذا التسبيح حقيقة، وكل شيء على العموم يسبح تسبيحا لا يسمعه البشر، ولا يفقهه، وهذا هو المعتمد، ويستدل به بقول الله تعالى في سورة (ص):

{وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوّابٌ (17) إِنّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ} وقوله جل ذكره في سورة (البقرة)[74]: {وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ} وقوله تعالى شأنه في سورة (مريم):

{وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً} .

فعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: ما من صباح، ولا رواح إلا تنادي بقاع الأرض بعضها بعضا: يا جارة هل مرّ بك اليوم عبد فصلّى لله، أو ذكر الله عليك؟ فمن قائلة: لا، ومن قائلة: نعم، فإذا قالت: نعم رأت لها بذلك فضلا عليها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يسمع صوت المؤذّن جنّ، ولا إنس، ولا شجر، ولا حجر، ولا مدر، ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة» .

رواه ابن ماجة، ومالك من حديث أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه. وخبر حنين الجذع أيضا

ص: 346

مشهور في هذا الباب، خرجه البخاري في مواضع من كتابه، وإذا ثبت ذلك في جماد واحد؛ جاز في جميع الجمادات، ولا استحالة في شيء من ذلك، فكل شيء يسبّح للعموم، ولو كان ذلك التسبيح تسبيح دلالة حال كما يقول البعض، فأي: تخصيص لتسبيح الجبال مع داود عليه السلام؟ وإنما ذلك تسبيح المقال بخلق الحياة والإنطاق بالتسبيح كما تقدم. انتهى. قرطبي بتصرف كبير. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

{وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ:} لا تفهمون. والفقه: الفهم، والعلم بالشيء، والفقه: العلم بالأحكام الشرعية مستمد من أدلتها التفصيلية، وهو المراد بقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدّين» . والفقه: الحذق، والفطنة، وفقه: يفقه من باب: علم: كان فقيها، وفقه، يفقه من باب: ظرف صار فقيها. هذا؛ وخص سبحانه {تَفْقَهُونَ} بالذكر دون «تعلمون» لما في الفقه من معنى الزيادة على العلم؛ لأنه التصرف في المعلوم بعد علمه، واستنباط الأحكام منه.

{حَلِيماً:} حيث لم يعجّل بعقاب العاصين، والمجرمين، والفاسدين المفسدين. و (الحليم) من أسماء الله الحسنى، ومعناه: هو الذي لا يستفزه عصيان العاصين، ولا يستثيره جحود الجاحدين. والحلم (بكسر الحاء، وسكون اللام) وهو: الأناة، والروية في الأمور، والتؤدة، والعقل. ومقابله: السفه، والطيش، والجهل الذي أحدثك عنه في الآية رقم [63] من سورة (الأنبياء). والحلم من خير ما يتصف به مؤمن. قال الشاعر الحكيم:[الطويل]

فيا ربّ هب لي منك حلما فإنني

أرى الحلم، لا يندم عليه حليم

كيف لا وقد وصف الله به خليله إبراهيم وكثيرا من أنبيائه عليهم جميعا ألف تحية، وسلام.

{غَفُوراً} أي: يغفر ذنوب المذنبين، إن هم تابوا، وأنابوا إليه، وهو صيغة مبالغة.

هذا؛ وقد حثنا الرسول صلى الله عليه وسلم على كثرة التسبيح لله تعالى، وذكر لنا أحاديث ترغبنا به، وصيغا مفضلة على غيرها لما فيها من المعاني القوية الكثيرة، وخذ نبذة من ذلك: فعن أبي هريرة رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللّسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرّحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» . رواه الستة ما عدا أبا داود. وعن سمرة بن جندب-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحبّ الكلام إلى الله أربع:

سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا يضرّك بأيّهنّ بدأت». رواه مسلم، وابن ماجة، والنسائي.

وعن جويرية أمّ المؤمنين-رضي الله عنها-أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها، ثمّ رجع بعد أن أضحى، وهي جالسة، فقال:«ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟!» . قالت: نعم، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرّات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهنّ:

ص: 347

سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضاء نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته». رواه الستة ما عدا البخاري. وفي كتاب «الترغيب والترهيب» للحافظ المنذري الكثير، والكثير من ذلك.

الإعراب: {تُسَبِّحُ:} مضارع. {لَهُ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {السَّماواتُ:} فاعل. {السَّبْعُ:}

صفة له. {وَالْأَرْضُ:} معطوف على ما قبله. {وَمَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع معطوف على ما قبله. {فِيهِنَّ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والنون حرف دال على جماعة الإناث، وجملة:{تُسَبِّحُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَإِنْ:} الواو: واو الحال.

(إن): حرف نفي بمعنى: «ما» . {مَنْ:} حرف جر صلة. {شَيْءٍ:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {إِلاّ:} حرف حصر. {يُسَبِّحُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى شيء، والجملة الفعلية في محل رفع خبره.

{بِحَمْدِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، التقدير: يسبح ملتبسا بحمده، والهاء في محل جر بالإضافة. والجملة الاسمية:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ..} . إلخ في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا باللام، والرابط: الواو، والضمير المجرور محلا بالإضافة. هذا؛ وإن اعتبرتها مستأنفة فلست مفندا. {وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف. وقيل: واو الحال، ولا وجه له. (لكن):

حرف استدراك مهمل لا عمل له. {تَفْقَهُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله.

{تَسْبِيحَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها، والجملة الاسمية:

{إِنَّهُ كانَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وإعرابها واضح إن شاء الله تعالى.

{وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45)}

الشرح: {وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ}

{حِجاباً:} يحجبهم عن فهم ما تقرأه عليهم. {مَسْتُوراً:} ذا ستر كقوله تعالى: {كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} وقولهم: «سيل مفعم» ، أو مستورا بحجاب آخر، لا يفهمون، ولا يفهمون: أنهم لا يفهمون، وهذا هو الجهل المركب المطبق. هذا؛ وقيل: معناه مستورا عن أعين الناس فلا يرونك؛ لما روي عن أسماء بنت أبي بكر-رضي الله عنهما-قالت: لما نزلت سورة: {تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ} أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب، ولها ولولة، وفي يدها فهر، وهي تقول:[مجزوء الرجز]

مذمّما عصينا

وأمره أبينا ودينه قلينا

والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد، ومعه أبو بكر-رضي الله عنهما-فلما رآها أبو بكر. قال:

يا رسول الله! لقد أقبلت، وأنا أخاف أن تسمعك ما يؤذيك، فإنها امرأة بذيّة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

«إنها لن تراني!» . وقرأ قرآنا فاعتصم به، فوقفت على أبي بكر، ولم تره، فقالت: يا أبا بكر! إن

ص: 348

صاحبك هجاني. فقال: لا ورب هذا البيت ما هجاك! ولا ينطق بالشعر، ولا يقوله. فقالت:

إنك لمصدق، وولّت، وهي تقول: قد علمت قريش أني ابنة سيدها، وقد جئت بهذا الحجر لأرضخ به رأسه، فقال الصدّيق-رضي الله عنه: يا رسول الله! أما رأتك؟! قال: «لا، ما زال ملك بيني وبينها، يسترني حتى ذهبت» .

هذا؛ واعتصامه صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم ثابت، ومشهور، ففي ليلة الهجرة أمر ابن عمه عليا رضي الله عنه-أن ينام في فراشه، وخرج عليه الصلاة والسلام من بين صفوف المحاصرين بيته، وهو يقرأ الآيات من صدر سورة (يس)، فأعمى الله أبصارهم عنه، وأخذ حفنة من تراب في يده ونثرها على رءوسهم، فلم يبق منهم رجل، إلا وقد وضع على رأسه ترابا، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب، وتركهم في طغيانهم يعمهون.

أما (بين) فهو ظرف مكان بمعنى: وسط بسكون السين، تقول: جلس بين القوم، كما تقول: جلس وسط القوم. هذا؛ و (البين): الفراق والبعاد، وهو أيضا: الوصل، فهو من الأضداد، كالجون يطلق على الأسود والأبيض، ومن استعماله بمعنى: الوصل ما قرئ به في سورة (الأنعام) الآية رقم [94]: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} حيث قرئ برفعه، ومن استعماله بمعنى:

الفراق والبعاد قول كعب بن زهير-رضي الله عنه-في قصيدة البردة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم: [البسيط]

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا

إلاّ أغنّ غضيض الطّرف مكحول

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف. (إذا): انظر الآية رقم [5]. {قَرَأْتَ} فعل، وفاعل. {الْقُرْآنَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة إذا إليها.. إلخ. {جَعَلْنا:}

فعل، وفاعل. {بَيْنَكَ:} ظرف مكان متعلق بما قبله. وقيل: متعلق بمحذوف مفعول ثان، ولا وجه له، والكاف في محل جر بالإضافة. {وَبَيْنَ:} معطوف على ما قبله، وهو مضاف، و {الَّذِينَ} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة، وجملة:{لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} صلة الموصول، لا محل لها. {حِجاباً:} مفعول به. {مَسْتُوراً:} صفة له، وجملة:{جَعَلْنا..} .

إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.

{وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46)}

الشرح: {وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً:} أغطية، جمع: كنان، وهو: الوعاء المحيط بالشيء، وهو غير «الكن» بكسر الكاف، فإنه يجمع على: أكنان، انظر الآية رقم [81] من سورة (النحل).

وانظر الفقه ومعانيه في الآية رقم [44]. {وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً:} الوقر: الصمم في الأذن، وهو بفتح

ص: 349

الواو. والوقر بكسر الواو: حمل البغل، والحمار. والوقار: الحلم، والرزانة، والتعقل، وهو أيضا: العظمة، والهيبة، والمهابة. وفي هذا دليل على أن الله تعالى يقلب القلوب، فيشرح بعضها للهدى، والإيمان، فتقبله، ويجعل بعضها في أكنة، فلا تفقه كلاما، ولا تؤمن به، ولا تقبله. {وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ} أي: قلت: لا إله إلا الله، وأنت تتلو القرآن. {وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً} أي: أعرضوا هربا من استماع التوحيد، وهو مثل قولهم في سورة (ص):

{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ} هذا؛ و {نُفُوراً} جمع: نافر، فهو مثل: شهود، وشاهد، وقعود، وقاعد. وانظر إعلال مثل:{وَلَّوْا} في الآية رقم [87] من سورة (النحل).

الإعراب: {وَجَعَلْنا:} فعل، وفاعل. {عَلى قُلُوبِهِمْ:} متعلقان بما قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف مفعول ثان، ولا وجه له، ولو قيل: متعلقان بمحذوف حال من {أَكِنَّةً} لسلّم، والهاء في محل جر بالإضافة. {أَكِنَّةً:} مفعول به، والمصدر المؤول من:{أَنْ يَفْقَهُوهُ} في محل جر بحرف جر محذوف، و «لا» مقدرة؛ إذ التقدير: لئلا يفقهوه، والجار والمجرور متعلقان بالفعل (جعلنا) وهذا عند الكوفيين، وهو عند البصريين على حذف مضاف، التقدير: كراهية فهمهم، فالمحذوف مفعول لأجله. وانظر الشاهد [48] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» ، وجملة:

{وَجَعَلْنا..} . إلخ معطوفة على جواب (إذا) في الآية السابقة لا محل لها مثلها. {وَفِي آذانِهِمْ:}

معطوفان على: {عَلى قُلُوبِهِمْ} . {وَقْراً:} معطوف على {أَكِنَّةً} وإن قدرت: {وَجَعَلْنا} قبلهما؛ وضح لك ذلك. {وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ} انظر مثله في الآية السابقة. {وَحْدَهُ:} حال من {رَبَّكَ،} وإن كان معرفة لفظا، فهو في قوة النكرة؛ لأنه بمعنى: منفردا. {وَلَّوْا:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، التي هي فاعله، والألف للتفريق. {عَلى أَدْبارِهِمْ:} متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم في الكل حرف دال على جماعة الذكور. {نُفُوراً:} مفعول لأجله، أو هو حال، ويجوز أن يكون مفعولا مطلقا عامله:{وَلَّوْا} لتقاربهما في المعنى، وجملة:{وَلَّوْا..} . إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام معطوف على مثله في الآية السابقة، لا محل له مثله.

{نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47)}

الشرح: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ} أي: بسببه، ولأجله. أو المعنى: نحن أعلم بالحال، أو الطريقة التي يستمعون القرآن بها، فهم يستمعون القرآن هازئين لا جادين، والواجب أن يستمعوه جادين لينتفعوا به، ويهتدوا بهديه. {إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى} أي: نحن أعلم

ص: 350

بغرضهم من الاستماع حين هم مستمعون إليك، وحين هم نجوى يتناجون؛ أي: يتحادثون سرا في شأنك، يقول بعضهم: هو مجنون. وبعضهم يقول: هو كاهن. وبعضهم يقول: هو ساحر.

وبعضهم يقول: هو شاعر. وانظر الكلام على الآية رقم [25] من سورة (الأنعام) تجد أنّ المغزى واحد. وانظر شرح {النَّجْوى} في الآية رقم [62] من سورة (طه).

{إِذْ يَقُولُ الظّالِمُونَ:} أبو جهل والوليد بن المغيرة وأمثالهما، {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً} أي: مطبوبا قد خبله السحر، فاختلط عليه أمره. وقال مجاهد: معناه: مخدوعا، مثل قوله تعالى:{فَأَنّى تُسْحَرُونَ} أي: من أين تخدعون؟ وقال أبو عبيدة: معناه: أن له سحرا؛ أي: رئة، فهو لا يستغني عن الطعام، والشراب. قال امرؤ القيس:[الوافر]

أرانا موضعين لأمر غيب

ونسحر بالطعام وبالشراب

أي: نغذّى، ونعلّل، وموضعين: مسرعين. وتقول العرب للجبان: قد انتفخ سحره. وفي الحديث عن عائشة-رضي الله عنها: أنها قالت: «من هذه التي تساميني من أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد توفي رسول الله بين سحري ونحري» تريد: أنه صلى الله عليه وسلم توفي وهو مستند إلى صدرها، وما يحاذي سحرها، وهو الرئة. وانظر (السّحر) في الآية رقم [57] من سورة (طه).

الإعراب: {نَحْنُ أَعْلَمُ:} مبتدأ، وخبر. {بِما:} متعلقان ب: {أَعْلَمُ} . {يَسْتَمِعُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والمفعول به محذوف، انظر الشرح. {بِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من (ما)، أو هما متعلقان بالفعل قبلهما، وهو أقوى معنى، وجملة:{يَسْتَمِعُونَ} صلة الموصول، لا محل لها. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بأعلم، وجملة:{يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {وَإِذْ:} معطوف على ما قبله. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {نَجْوى:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية في محل جر بإضافة (إذ) إليها. {إِذْ:} بدل من سابقه، أو هو متعلق باذكر محذوفا، والجملة الفعلية:{يَقُولُ الظّالِمُونَ} في محل جر بإضافة إذ إليها، والجملة الاسمية:{نَحْنُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِنْ} حرف نفي بمعنى: «ما» . {تَتَّبِعُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ والواو فاعله. {إِلاّ:} حرف حصر. {رَجُلاً:} مفعول به. {مَسْحُوراً:} صفة له، والجملة الفعلية:{إِنْ تَتَّبِعُونَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول.

{اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48)}

الشرح: {اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ:} مثّلوك تارة بالساحر وتارة بالشاعر، وتارة بالمجنون، وأخرى بالكاهن. {فَضَلُّوا} أي: في أمثلتهم، وحاروا. أو ضلوا عن طريق الحق. {فَلا يَسْتَطِيعُونَ}

ص: 351

سَبِيلاً أي: حيلة في صدّ الناس عنك. أو لا يجدون طريقا إلى الهدى، والرشاد. والخطاب في ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وحده. هذا؛ وتعاد الآية بحروفها كاملة في الآية رقم [9] من سورة (الفرقان).

الإعراب: {اُنْظُرْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» وهو معلق عن العمل بسبب الاستفهام. {كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب حال عامله ما بعده.

{ضَرَبُوا:} ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لَكَ:} متعلقان بما قبلهما، {الْأَمْثالَ:} مفعول به، وجملة:{كَيْفَ..} . إلخ في محل نصب مفعول به ل: {اُنْظُرْ،} المعلق عن العمل لفظا، التقدير: انظر كيفية ضرب الأمثال لك، وجملة:{اُنْظُرْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وجملة:{فَضَلُّوا..} . مع المعلق بها معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مثلها، وكذلك جملة:{فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} معطوفة عليها، فهي في محل نصب مثلها، والفاء في الجملتين حرف عطف، وسبب.

{وَقالُوا أَإِذا كُنّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49)}

الشرح: {وَقالُوا أَإِذا..} . إلخ: أي: قالوا، وهم يتناجون لما سمعوا القرآن، وسمعوا ذكر البعث، والنشر، والحساب، والجزاء. والمراد: بالاستفهام: الجحود، والإنكار من أن يعادوا مرة ثانية بعد الموت. وقال ابن عباس: الرفات: الغبار. وقال مجاهد: هو التراب. والرفات:

الأجزاء المتفتتة من كل شيء تكسر، كالفتات، والحطام، والرضاض، فلذا يقال فيه: هو اسم مفرد لأجزاء ذلك الشيء المفتت. هذا؛ ويقرأ {أَإِذا} {أَإِنّا} بقراءات كثيرة، فجملتها تسعة، وكلها سبعية. وقولهم هذا تعجب منهم، واستبعاد للبعث بعد الموت، وفناء الجسد، وشاعرهم هو الذي يقول:[الوافر]

ألا من بلّغ الرحمن عنّي

بأنّي تارك شهر الصّيام

أيوعدنا ابن كبشة أن سنحيا

وكيف حياة أصداء وهام؟

أتترك أن تردّ الموت عني

وتحييني إذا بليت عظامي

فهو يقصد بابن كبشة النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو كبشة كنية زوج حليمة مرضعته صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يطلقون عليه ذلك تحقيرا له صلى الله عليه وسلم. ولكنهم لم يتأملوا: أنهم كانوا قبل ذلك ترابا، فخلقهم الله، وأظهرهم إلى الوجود، وهم ظنوا: أن البعث، والإعادة يكونان في الدنيا، وهم لم يروا أحدا رجع إلى الدنيا ممن تقدمهم.

الإعراب: {وَقالُوا:} الواو: حرف عطف. (قالوا): فعل، وفاعل، والألف للتفريق، {أَإِذا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري: (إذا) ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه،

ص: 352

منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب، وهذا عند سيبويه.

{كُنّا:} ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمها. {عِظاماً:} خبرها. {وَرُفاتاً:} معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة إذا إليها على القول المشهور المرجوح، وجواب (إذا) محذوف دل عليه الجملة الآتية، التقدير: (أإذا كنا

نبعث)، ولا يجوز أن يعمل فيها مبعوثون لأن ما بعد إنّ لا يعمل فيما قبلها، وينبغي أن تعلم أن (إذا) هنا ظرف مجرد عن الشرطية، فإن تقدير الكلام: (أنبعث إذا

إلخ) وهذا قول غير سيبويه. والكلام في محل نصب مقول القول. {أَإِنّا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. (إنّا): حرف مشبه بالفعل، و (نا):

اسمها. {لَمَبْعُوثُونَ:} اللام: هي المزحلقة. (مبعوثون): خبر إن مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {خَلْقاً:}

مفعول مطلق، عامله من لفظ (مبعوثون) وهو بمعنى: بعثا، فيكون التقدير: نبعث بعثا، أو هو حال على تقديره: مخلوقين. {جَدِيداً:} صفة له، والجملة الاسمية:{أَإِنّا} إلخ مؤكدة لما قبلها، والاستفهام فيها مبالغة في الإنكار، وبدون الاستفهام فيها حصل الإنكار بالأولى، وهذه مرتبطة فيها، فالإنكار بالأولى إنكار فيها أيضا، وجملة:{وَقالُوا..} . إلخ معطوفة على جملة:

{ضَرَبُوا لَكَ..} . إلخ فهي مثلها في محل نصب، والاستئناف ممكن.

{قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51)}

الشرح: {قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً} أي: قل لهم يا محمد: كونوا على جهة التعجيز حجارة، أو حديدا في الشدة، والقوة. وقال علي بن عيسى: معناه: أنكم لو كنتم حجارة، أو حديدا؛ لم تفوتوا الله عز وجل إذا أرادكم، إلا أنه خرج مخرج الأمر؛ لأنه أبلغ في الإلزام.

{أَوْ خَلْقاً مِمّا يَكْبُرُ} أي: يعظم. {فِي صُدُورِكُمْ:} قال مجاهد: يعني السموات والأرض والجبال؛ لأنها أعظم المخلوقات. وقيل: يعني به الموت؛ لأنه لا شيء في نفس ابن آدم أكبر من الموت، ومعناه: لو كنتم الموت بعينه لأميتنكم، ولأبعثنكم. {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا} أي: من يبعثنا بعد الموت. {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ:} خلقكم. {أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: فمن قدر على الإنشاء؛ قدر على الإعادة.

{فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ} أي: يحركونها إذا قلت لهم ذلك مستهزءين بما تقول، يقال:

نغض رأسه، ينغض، وينغض نغضا، ونغوضا؛ أي: تحرك، وأنغض رأسه؛ أي: حركه كالمتعجب من الشيء.

ص: 353

هذا؛ ونقل الأزهري: أن ثلاثة أحرف جاءت بلغة قريش، وهي قوله تعالى:{فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ} أي: يحركونها. وقوله تعالى في سورة (الأنفال) رقم [57]: {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} أي: نكل بهم من وراءهم. وقوله تعالى في سورة (النساء) رقم [85]: {وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً} أي: مقتدرا.

{وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ} أي: البعث، والقيامة، والحساب، والجزاء

إلخ. {قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} أي: هو قريب؛ لأن «عسى» في حق الله تعالى واجبة التحقيق، نظيره قوله تعالى:

{وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} وقوله جل ذكره: {لَعَلَّ السّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً،} وكل ما هو آت قريب. وانظر القول في الآية رقم [16].

الإعراب: {قُلِ:} أمر، وفاعله مستتر، تقديره:«أنت» . {كُونُوا:} أمر ناقص مبني على حذف النون، والواو اسمه، والألف للتفريق. {حِجارَةً:} خبره. {حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً:} معطوفان على حجارة، والجملة الفعلية:{كُونُوا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلِ..} .

إلخ مستأنفة، لا محل لها. {مِمّا:} متعلقان بمحذوف صفة {خَلْقاً} . {يَكْبُرُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (ما)، وهو العائد. {فِي صُدُورِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{يَكْبُرُ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها. {فَسَيَقُولُونَ:} الفاء:

حرف استئناف. السين: حرف استقبال. (يقولون): مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، {مَنْ:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُعِيدُنا:} مضارع، و (نا):

مفعول به، والفاعل يعود إلى {مَنْ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{مَنْ يُعِيدُنا} في محل نصب مقول القول، وجملة:{فَسَيَقُولُونَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {قُلِ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون، وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه مبتدأ، وخبره محذوف، التقدير: الذي فطركم يعيدكم.

الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف، التقدير: معيدكم الذي فطركم. الثالث: أنه فاعل بفعل محذوف، التقدير: يعيدكم الذي فطركم. انتهى. جمل نقلا عن السمين.

{فَطَرَكُمْ:} ماض، والكاف مفعول به، والفاعل يعود إلى {الَّذِي،} وهو العائد. {أَوَّلَ:}

ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، و {أَوَّلَ:} مضاف، و {مَرَّةٍ:} مضاف إليه، والجملة الفعلية:

{فَطَرَكُمْ} إلخ صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{الَّذِي..} . إلخ على جميع الوجوه المعتبرة في إعرابه في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلِ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{فَسَيُنْغِضُونَ:} مثل: {فَسَيَقُولُونَ} . {إِلَيْكَ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {رُؤُسَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة:{فَسَيُنْغِضُونَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {مَتى:}

اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب على الظرفية الزمانية متعلق بمحذوف خبر مقدم.

ص: 354

{هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَيَقُولُونَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{عَسى:} فعل ماض وترج مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والمصدر المؤول من:{أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} في محل رفع فاعل عسى على تمامه، وفي محل نصب خبره على نقصانه، فيكون اسمه مستترا تقديره:«هو» ، والتمام أقوى، وأتمّ معنى، وجملة:{عَسى..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلِ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {قَرِيباً:} خبر {يَكُونَ} . وقيل: هو ظرف زمان متعلق بمحذوف خبر، واسمه يعود إلى البعث المفهوم ممّا تقدم. تأمل، وتدبر.

وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً (52)}

الشرح: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} أي: يوم يناديكم للخروج من القبور، ونحوها على لسان إسرافيل عليه السلام، فيقول: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. قال تعالى في سورة (ق):{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ} . {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} أي: فتخرجون من القبور بأمره. وقيل: تخرجون مقرّين بأنه خالقكم، وباعثكم، ويحمدونه، ولكن لا ينفعهم الحمد. وقيل: هذا الخطاب للمؤمنين فإنهم يبعثون حامدين ربهم، فيقولون: سبحانك اللهم وبحمدك. أو المعنى: منقادين لأمره انقياد الطائعين الحامدين على البعث. {وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً} أي: تظنون: أن إقامتكم في القبور. -وقيل: في الدنيا-قليلة جدا، وذلك لأن الإنسان لو مكث في الدنيا، أو في القبر ألوفا من السنين عد ذلك قليلا بالنسبة لمدة القيامة، والخلود في الآخرة. قال قتادة: المعنى: أن الدنيا تحاقرت في أعينهم، وقلّت حين رأوا القيامة، وما فيها. انتهى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بفعل محذوف، تقديره: اذكر، أو هو بدل من {قَرِيباً} على اعتباره ظرفا. {يَدْعُوكُمْ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل يعود إلى {الَّذِي،} والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها، والجملة الفعلية:{فَتَسْتَجِيبُونَ} معطوفة عليها، فهي في محل جر مثلها. {بِحَمْدِهِ:}

متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة؛ أي: حال كونكم حامدين لله على كمال قدرته، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَتَظُنُّونَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله، وهو معلق عن العمل لفظا بسبب النفي بعده. {إِنْ:} نافية بمعنى: «ما» . {لَبِثْتُمْ:}

فعل، وفاعل. {إِلاّ:} حرف حصر. {قَلِيلاً:} صفة مفعول مطلق محذوف؛ أي: إلا لبثا قليلا،

ص: 355

أو صفة ظرف محذوف؛ أي: إلا زمانا قليلا، وجملة:{إِنْ لَبِثْتُمْ..} . إلخ في محل نصب مفعول به للفعل (تظنون) المعلق عن العمل لفظا، وجملة:{وَتَظُنُّونَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر أيضا. هذا؛ وجوز أبو البقاء اعتبارها حالا من واو الجماعة، وقدر الكلام: «وأنتم تظنون

» إلخ؛ لأن المضارع المثبت لا يقترن بالواو إذا وقع حالا.

{وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53)}

الشرح: {وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ:} وذلك: أن المشركين كانوا يؤذون المسلمين، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية، يأمر بها المسلمين أن يقولوا للكافرين التي هي أحسن؛ أي: لا يكافئوهم على سفههم، بل يقولون لهم: يهديكم الله، وكان هذا قبل الإذن بالقتال والجهاد. وقيل: نزلت في عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-وذلك: أنه شتمه بعض الكفار، فأمره الله بالعفو. وقيل: أمر الله تعالى في هذه الآية المؤمنين فيما بينهم خاصة بحسن الأدب، وإلانة القول، وخفض الجناح، واطّراح نزغات الشيطان. انتهى. خازن، وقرطبي بتصرف.

{إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} أي: بالفساد، وإلقاء العداوة، والإغواء. هذا؛ والنزغ، والنخس، والنسغ، والنفر، والهمز، والوسوسة ألفاظ مترادفة، وأصل النزغ: الفساد، ومنه قوله تعالى حكاية عن قول يوسف عليه السلام:{مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} أي: أفسد. فقد شبه سبحانه وتعالى وسوسة الشيطان، وإغواءه للناس بنخس السائق دابته بشيء؛ لتسير. هذا؛ وانظر شرح {الشَّيْطانَ} في الاستعاذة أول سورة (يوسف) عليه السلام، {إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً} أي: عدوا ظاهر العداوة.

بعد هذا انظر شرح (عبده) في الآية رقم [1] و (القول) في الآية رقم [16] وشرح (الإنسان) في الآية رقم [11] وانظر إعلال (مبين) ومعناه في الآية رقم [1] من سورة (الحجر). أما (عدو) فهو ضد الصديق؛ وهو على فعول بمعنى: فاعل، مثل: صبور، وشكور، وما كان على هذا الوزن يستوي فيه المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، إلا لفظا واحدا جاء نادرا.

قالوا: هذه عدوة الله. قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} وقال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاّ رَبَّ الْعالَمِينَ} والجمع: أعداء، وأعاد، وعدات، وعدى. وقيل: أعاد، جمع أعداء، فيكون جمع الجمع، وفي القاموس المحيط: والعدا بالضم والكسر اسم الجمع. وانظر شرح (بين) في الآية [45] هذا؛ وفي الآية الكريمة استعارة تبعية حيث شبه الإغراء على الفساد بالنزغ، واستعير النزغ للإغراء، ثم اشتق منه:{يَنْزَغُ} . والله أعلم، وأجل، وأكرم.

ص: 356

الإعراب: {وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا} إعراب هذا التركيب مثل إعراب: {قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا} في الآية رقم [31] من سورة (إبراهيم) عليه السلام بلا فارق بينهما. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الاسمية:{هِيَ أَحْسَنُ} صلة الموصول، لا محل لها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الشَّيْطانَ:} اسمها. {يَنْزَغُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {الشَّيْطانَ،} {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ..} . إلخ تعليل للأمر لا محل لها، وجملة:{إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ..} . إلخ توكيد لسابقتها لا محل لها مثلها. وقال الجمل: علة لقوله: {إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} والجار والمجرور {لِلْإِنْسانِ} متعلقان ب: {عَدُوًّا} بعدهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال منه كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا.

{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54)}

الشرح: ما في الآية الكريمة خطاب للمشركين، والمعنى: إن يشأ يوفقكم للإسلام، فيرحمكم، أو يميتكم على الشرك؛ فيعذبكم. قاله ابن جريج. وقيل: الخطاب للمؤمنين، والمعنى: إن يشأ يرحمكم بأن يحفظكم من كفار مكة، أو إن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم. قاله الكلبي. والأول: أقوى. {وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} أي: ما وكلناك في منعهم من الكفر، ولا جعلنا إليك إيمانهم. وقيل: ما جعلناك كفيلا لهم، تؤخذ بهم. وانظر الآية رقم [2] وإنما أرسلناك مبشرا، ونذيرا، فدارهم، ومر أصحابك بالتحمّل منهم.

هذا؛ وفي الآية الكريمة انتقال من خطاب الجماعة إلى خطاب المفرد، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ويسمى هذا التفاتا.

الإعراب: {رَبُّكُمْ:} مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {أَعْلَمُ:} خبره. وهو بمعنى: عالم، وليس على بابه من التفضيل، وفاعله مستتر فيه. {رَبُّكُمْ:} متعلقان ب: {أَعْلَمُ،} والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {إِنْ:}

حرف شرط جازم. {يَشَأْ:} مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى {رَبُّكُمْ،} ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.

{يَرْحَمْكُمْ:} مضارع جواب الشرط، والفاعل يعود إلى ربكم، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية، و {إِنْ} ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له، و {إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} معطوف عليه، وهو مثله في الإعراب. {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {أَرْسَلْناكَ:} فعل، وفاعل، ومفعول

ص: 357

به. {عَلَيْهِمْ:} متعلقان بما بعدهما. {وَكِيلاً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.

{وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55)}

الشرح: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي: إن علمه سبحانه وتعالى غير مقصور عليكم، بل علمه يتعلق بجميع الموجودات، والمعدومات، ومتعلق بجميع ذات الأرضين والسموات، ويعلم حال كل أحد، ويعلم ما يليق به من المصالح، والمفاسد. وقيل: معناه: أنه عالم بأحوالهم، واختلاف صورهم، وأخلاقهم، ومللهم، وأديانهم. {وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ} أي: فقد اتخذ الله إبراهيم خليلا، وكلم موسى تكليما، وقال لعيسى: كن فكان، وآتى سليمان ملكا عظيما، لا ينبغي لأحد من بعده، وآتى داود زبورا، وقد ذكر الله هذا التفضيل في قوله:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ} الآية رقم [253] من سورة (البقرة)، وتفضيل بعض الأنبياء على بعض يكون بتفاوت الفضائل النفسانية التي وهبها الله لكل واحد، ولهذا اشتهر منهم أولو العزم، الذين تحملوا المتاعب والمصاعب، فما وهنوا، وما استكانوا لما أصابهم في سبيل الله، وكان محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة الأنبياء الذين اتصفوا بكامل الصفات، وقد ذكرت لك ذلك مرارا.

هذا؛ و (الزبور) كتاب أنزله الله على داود عليه السلام، وهو مائة وخمسون سورة، ليس فيها حكم، ولا حلال، ولا حرام، ولا فرائض، ولا حدود، ولا أحكام، بل فيها تسبيح، وتقديس، وتحميد، وثناء على الله عز وجل، ومواعظ، وحكم. وتعريفه مرّة، وتنكيره أخرى، إما؛ لأنه في الأصل فعول بمعنى: المفعول كالحلوب، أو مصدر بمعناه كالقبول، وإما لأن المراد إيتاء داود زبورا من الزبر، فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.

بقي أن تعرف لم خص داود في هذه الآية بالذكر دون غيره من الأنبياء؟ وذلك من وجوه:

أحدها: أن الله تعالى ذكر: أنه فضل بعض النبيين على بعض، ثم قال:{وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً} وذلك أن الله أعطى داود مع النبوة الملك، فلم يذكره بالملك، وذكر ما أتاه من الكتاب، تنبيها على أنّ الفضل المذكور في هذه الآية المراد به العلم، لا الملك والمال، «اللهم لك الحمد على ما أنعمت». والوجه الثاني: أن الله سبحانه وتعالى كتب له في الزبور: أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وأن أمته خير الأمم؛ فلهذا خصه بالذكر. الثالث: زعمت اليهود أن لا نبي بعد موسى، ولا كتاب بعد التوراة، فكذبهم الله بقوله:{وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً} . انتهى. خازن بتصرف.

هذا؛ وكان داود على نبينا، وعليه، وعلى جميع الأنبياء، والمرسلين ألف تحية، وألف صلاة يخرج إلى البرية، فيقوم، ويقرأ الزبور، وتقوم علماء بني إسرائيل خلفه، ويقوم الناس

ص: 358

خلف العلماء، وتقوم الجن خلف الناس، والشياطين خلف الجن، وتجيء الدواب التي في الجبال، فيقمن بين يديه، وترفرف الطيور على رءوس الناس، وهم يستمعون لقراءة داود، ويتعجبون منها لجمالها، فلما قارف الذنب؛ زال عنه ذلك. وقيل له: كان ذلك أنس الطاعة، وهذا ذل المعصية. انتهى. خازن في سورة (النساء). هذا؛ وأضيف: أن داود عليه السلام كان حسن الصوت، وفي الآخرة يقرأ القرآن في الجنة، يجتمع عليه أهل الجنة، فيستمعون لقراءته، فلا يكون شيء ألذ عندهم من الاستماع إليه. وانظر ما أذكره في سورة (الأنبياء).

الإعراب: {وَرَبُّكَ:} الواو: حرف استئناف. (ربك): مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {أَعْلَمُ:} خبره، وفاعله مستتر فيه. {بِمَنْ:}

متعلقان به. وقيل: متعلقان بفعل محذوف، تقديره: يعلم. قاله الفارسي، ولا وجه له. {فِي السَّماواتِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية:{وَرَبُّكَ..} . إلخ مستأنفة، وعطفها على ما قبلها، لا بأس به، ولا محل لها على الاعتبارين. {وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ} انظر الإعراب في الآية رقم [41] تفصيلا، وجملة، و {بَعْضَ:}

مضاف، و {النَّبِيِّينَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة الجر الياء.. إلخ {عَلى بَعْضٍ:} متعلقان بالفعل {فَضَّلْنا،} والجملة القسمية مستأنفة، لا محل لها، وجملة:{وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً} معطوفة على جواب القسم لا محل لها مثله.

{قُلِ اُدْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56)}

الشرح: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ:} وذلك لما ابتليت قريش بالقحط الشديد؛ حتى أكلوا الجيف، والحشرات، فاستغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليدعو الله لهم، فأنزل الله هذه الآية الكريمة، والمراد: من زعمتم أنهم آلهة من ملائكة، وعزير، وعيسى، وأصنام، وشمس، وقمر

إلخ.

{فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ:} كالمرض، والجوع، والفقر، والقحط، ونحو ذلك؛ أي:

لا يقدرون على دفع شيء من ذلك. {وَلا تَحْوِيلاً} أي: لا يقدرون على تحويل شيء ممّا نزل بكم إلى غيركم، ولا تحويل الحال من العسر إلى اليسر

إلخ.

«زعم» : قال الشيخ مصطفى الغلاييني-رحمه الله تعالى-: الغالب في: «زعم» أن تستعمل للظن الفاسد، وهو حكاية قول، يكون مظنة الكذب، فيقال فيما يشك فيه، أو فيما يعتقد كذبه، ولذلك يقولون:«زعموا» مطية الكذب؛ أي: إن هذه الكلمة مركب للكذب، ومن عادة العرب أن من قال كلاما، وكان عندهم كاذبا. قالوا: زعم فلان؛ ولهذا جاء في القرآن الكريم في كل موضع ذمّ القائلون به، وقد يراد الزعم بمعنى: القول مجردا عن معنى الظن الراجح، أو الفاسد، أو المشكوك فيه، فإن كانت زعم بمعنى: تأمّر، وترأس، أو بمعنى: كفل به تعدت إلى

ص: 359

واحد بحرف الجر، تقول: زعم على القوم فهو زعيم؛ أي: تأمر عليهم، وترأسهم، وزعم بفلان، وبالمال؛ أي: كفله، وضمنه، وتقول: زعم اللبن؛ أي: أخذ يطيب، فهو لازم. انتهى.

وقال الأشموني: وإن كانت بمعنى: سمن، أو هزل؛ فهي لازمة.

بعد هذا أقول: إن زعم من الأفعال التي تنصب مفعولين أصلهما مبتدأ، وخبر إن كان من أفعال الرجحان، والأكثر أن يسد مسدهما: أن، واسمها، وخبرها مخففة من الثقيلة، أو غيرها، نحو قوله تعالى:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ..} . إلخ، وانظر شواهد ذلك في كتابنا:«فتح رب البرية» . والقليل أن تنصب مفعولين صريحين، وهو ناقص التصرف، يأتي منه ماض، ومضارع، ولا يأتي منه أمر.

الإعراب: {قُلِ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والمخاطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

{اُدْعُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به. {زَعَمْتُمْ:} فعل، وفاعل، والمفعول مصدر سد مسد المفعولين محذوف مؤول من:«أنهم آلهة» . {مِنْ دُونِهِ:} متعلقان بمحذوف صفة: «آلهة» المقدر، وقول الجمل: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: قل: ادعوا الذين من دون الله زعمتم أنهم شركاء، لا أراه قويّا، ومعناه غير واضح. تأمل. وقيل: متعلقان بمحذوف حال، ولا وجه له قطعا، وجملة:{زَعَمْتُمْ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها، والعائد الضمير في المقدر المحذوف، وجملة:{اُدْعُوا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلِ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَلا:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر. (لا): نافية.

{يَمْلِكُونَ:} مضارع مرفوع. إلخ، والواو فاعله. {كَشْفَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الضُّرِّ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. {عَنْكُمْ:} متعلقان بالمصدر، وهو أقوى من تعليقهما بالفعل. الواو: حرف عطف. (لا): زائدة لتأكيد النفي.

{تَحْوِيلاً:} معطوف على {كَشْفَ،} ومفعوله محذوف؛ إذ التقدير: ولا تحويله عنكم، أو إلى غيركم، وجملة:{فَلا يَمْلِكُونَ..} . إلخ في محل جزم جواب لشرط مقدر؛ إذ التقدير: وإن تدعوهم؛ فلا يملكون

إلخ، والشرط المقدر ومدخوله في محل نصب مقول القول أيضا.

وقيل: جملة: {فَلا يَمْلِكُونَ..} . إلخ مستأنفة، ولا وجه له.

{أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57)}

الشرح: {أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ:} الإشارة إلى الذين عبدوهم من دون الله، والمعنى: أولئك الذين يعبدونهم، ويتخذونهم آلهة من دون الله. {يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} أي: يطلبون إلى الله القرب، والتقرب بالإيمان والعمل الصالح. {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} أي: يتنافسون في القربة. أو المعنى:

ص: 360

ينظرون أيهم أقرب إلى الله، فيتوسلون به إليه. هذا؛ وأعطى الجلال هذا المعنى: أي: يبتغيها الذي هو أقرب إليه، فكيف بغيره؟ قال الجمل معلقا: أي: أقرب إلى مناجاته، وهم الملائكة، وبغير الأقرب كعيسى، وعزير، ومريم.. إلخ. انتهى.

{وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} أي: يؤملون، ويرغبون في رحمة الله، و {وَيَخافُونَ عَذابَهُ} أي: يوم القيامة، {إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ..}. إلخ. أي: مخوفا لا أمان لأحد منه، فينبغي أن لا يأمنه أحد، لذا كان الصحابة رضوان الله عليهم شديدي الخوف من عذاب الله، وما يروى عن كرام الصحابة، أبي بكر، وعمر، وعلي، وغيرهم-رضوان الله عليهم-من أقوال وعبارات تدل على أنهم كانوا شديدي الحذر من عذاب الله. قال سهل بن عبد الله: الرجاء، والخوف زمانان على الإنسان، فإذا استويا استقامت أحواله، وإن رجح أحدهما بطل الآخر، كيف لا، وعذاب الله يحذره الرسل، والملائكة، وكل أحد؟

كيف لا؛ وقد قال الله في حق الرسل، وذرياتهم:{إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ} هذا؛ وقد قال ابن عباس-رضي الله عنهما:

المراد بالمشار إليهم: عيسى، وأمه، وعزير، والملائكة، والشمس، والقمر، والنجوم. وقال عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه: نزلت هذه الآية في نفر من العرب، كانوا يعبدون نفرا من الجن، فأسلم أولئك الجن، ولم يعلم الناس بذلك، فتمسكوا بعبادتهم، فعيرهم الله بهذه الآية. انتهى. خازن، وقرطبي بتصرف.

هذا؛ والمراد: بواو الجماعة في قوله: {يَدْعُونَ} العابدون، وفيما بعده: المعبودون، أما الضمير في قوله:{رَبِّهِمُ} فإنه يعود إلى العابدين، أو إلى المعبودين، أو إليهم جميعا. بعد هذا انظر شرح:{رَبُّكُمْ} في الآية رقم [8] وشرح: (عذاب) في الآية رقم [10]، وشرح (الخوف) في الآية رقم [13] من سورة (الرعد). هذا؛ و (يرجون): يطمعون، واصل الرجاء: الأمل في الشيء، والطماعية فيه، وقد يأتي بمعنى: الخوف. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا} ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي في صفة عسّال؛ أي: الذي يقطف عسل النحل: [الطويل]

إذا لسعته الدّبر لم يرج لسعها

وخالفها في بيت نوب عواسل

وما في الآية الكريمة بمعنى: يطمعون كما قدمت، ومنه قول سوّار بن المضرّب السعدي.

أحد بني سعد تميم، وكان قد هرب من الحجاج حين فرض البعث مع المهلب بن أبي صفرة لقتال الخوارج:[الطويل]

أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي

وقومي تميم، والفلاة ورائيا

وقال بعض العلماء: لا يقع الرجاء بمعنى: الخوف إلا مع الجحد؛ أي: النفي، كقوله تعالى:

{ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلّهِ وَقاراً} وقال بعضهم: بل يقع في كل موضع دل عليه المعنى، وهو المعتمد.

ص: 361

الإعراب: {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع بدلا من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه، والجملة بعده صلته، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: يدعونهم. {يَبْتَغُونَ:} مضارع مرفوع. إلخ، والواو فاعله. {إِلى رَبِّهِمُ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {الْوَسِيلَةَ:} مفعول به، وجملة:

{يَبْتَغُونَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ. هذا؛ وأجيز اعتبار الموصول خبرا للمبتدإ، فتكون الجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المنصوب المحذوف الذي رأيت تقديره، والرابط:

الضمير فقط. {أَيُّهُمْ:} اسم موصول مبني على الضم في محل رفع بدل من واو الجماعة، والهاء في محل جر بالإضافة. {أَقْرَبُ:} خبر مبتدأ محذوف، التقدير: هو أقرب، والجملة الاسمية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد الضمير المحذوف، وهذا الحذف مع إضافة (أي) للضمير هما اللذان، أوجبا بناء «أيّ». قال ابن مالك رحمه الله في ألفيته:[الرجز]

أيّ كما وأعربت ما لم تضف

وصدر وصلها ضمير انحذف

هذا؛ وأجاز أبو البقاء اعتبار: {أَيُّهُمْ} اسم استفهام مبتدأ و (أقرب) خبره، والجملة الاسمية في محل نصب مفعول به ل:{يَدْعُونَ} والأول: أقوى معنى وأتم سبكا. وانظر ما أذكره في الآية رقم [68] من سورة (مريم)، وعلى قول أبي البقاء فالجملة الاسمية في محل نصب لفعل محذوف معلق عن العمل بسبب الاستفهام، أو للفعل يدعون، وهو غير مسلم له على الاعتبارين.

وجملة: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} معطوفة على جملة: {يَبْتَغُونَ..} . إلخ على الوجهين المعتبرين فيها، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله. وأيضا جملة:{وَيَخافُونَ عَذابَهُ} معطوفة عليها، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله أيضا. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {عَذابَ:} اسمها، وهو مضاف، و {رَبِّكَ} مضاف إليه، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {كانَ:} ماض ناقص، واسمه يعود إلى {عَذابَ رَبِّكَ}. {مَحْذُوراً:} خبر {كانَ،} وجملة: {كانَ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل لخوف العذاب.

{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58)}

الشرح: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ نَحْنُ مُهْلِكُوها:} إما بالموت، أو بالاستئصال، والعذاب. قال مقاتل-رحمه الله تعالى-: أما الصالحة فبالموت، وأما الطالحة فبالعذاب. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا ظهر الزنى والربا في قرية؛ آذن الله في هلاكها. {أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً}

ص: 362

شَدِيداً: بالقتل، وأنواع العذاب. إذا كفروا، وعصوا، كالذي حصل لقوم ثمود، وعاد، وأمثالهم. {كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً} أي: مكتوبا مثبتا، والمراد: بالكتاب: اللوح المحفوظ.

فعن عبادة بن الصامت-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ أوّل ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب القدر، وما هو كائن إلى يوم القيامة إلى الأبد» . أخرجه الترمذي.

هذا؛ ويوم القيامة هو اليوم الذي يقوم فيه الناس من قبورهم للحساب، والجزاء. وأصل القيامة: القوامة؛ لأنها من: قام، يقوم، قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة قبلها.

الإعراب: {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. (إن): حرف نفي بمعنى: (ما). {مِنْ:} حرف جر صلة. {قَرْيَةٍ:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {إِلاّ:} حرف حصر. {نَحْنُ:} ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع مبتدأ. {مُهْلِكُوها:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، وها: في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {قَبْلَ:} ظرف زمان متعلق ب: {مُهْلِكُوها} و {قَبْلَ:}

مضاف، و {يَوْمِ:} مضاف إليه، و {يَوْمِ:} مضاف، و {الْقِيامَةِ:} مضاف إليه. {أَوْ:} حرف عطف. {مُعَذِّبُوها:} معطوف على {مُهْلِكُوها} وهو مثله في إعرابه. {عَذاباً:} مفعول مطلق عامله ما قبله. {شَدِيداً:} صفة له. {كانَ} ماض ناقص. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع اسم {كانَ} واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {فِي الْكِتابِ:}

متعلقان بما بعدهما. {مَسْطُوراً:} خبر {كانَ،} وجملة: {كانَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاّ تَخْوِيفاً (59)}

الشرح: {وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ..} . إلخ: أي: التي سألها كفار قريش، وطلبوها من الرسول صلى الله عليه وسلم. {إِلاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} أي: الأمم السابقة طلبوا المعجزات من أنبيائهم فأعطوها، فلم يؤمنوا بها، فأهلكهم الله، وكذلك كفار قريش لو أعطوا ما سألوا، وإذا لم يؤمنوا؛ أهلكهم الله، كما أهلك من كان قبلهم. {وَآتَيْنا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً} أي: معجزة واضحة، تدل على صدق نبي الله صالح، عليه السلام. أو المعنى: يبصرها كفار قريش، ويرونها؛ لأن آثار إهلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم، وهم يبصرونها في ذهابهم، وإيابهم إلى بلاد الشام للتجارة، وغيرها.

ص: 363

{فَظَلَمُوا بِها} أي: جحدوا: أنها من عند الله، أو ظلموا أنفسهم بتكذيبها، فعاجلهم الله بالعقوبة، وما أحراك أن تنظر قصة قوم ثمود في سورة (الأعراف)، وفي سورة (هود) عليه السلام. {وَما نُرْسِلُ..}. إلخ: أي: ما نرسل بالآيات المقترحة إلا تخويفا، وتهديدا من نزول العذاب، فإن لم يخافوا؛ وقع عليهم. وقيل: معناه: وما نرسل بالدلالات، والعبر إلا إنذارا بنزول العذاب في الدنيا، أو بعذاب الآخرة، ولا تنس: أن الله لا يمنعه مانع ممّا يريد، وإنما المعنى المبالغة في أنه لا يفعل، فكأنه قد منع منه. وانظر ما يلي:

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: سأل أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وفضة، وأن ينحّي عنهم الجبال؛ ليزرعوا، وأن يفجّر لهم في أرضهم العيون، والأنهار

إلخ فأوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم: إن شئت أن أستأني بهم؛ فعلت، وإن شئت أن، أوتيهم ما سألوا؛ فعلت، فإن لم يؤمنوا؛ أهلكتهم، كما أهلكت من كان قبلهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

«لا بل تستأني بهم» ، فأنزل الله عز وجل الآية الكريمة. انتهى. خازن.

هذا؛ ولم يعطهم سبحانه وتعالى ما سألوا، ولم يستأصلهم كما استأصل الأمم السابقة؛ لعلمه الأزلي: أن فيهم من يؤمن، أو يخرج من أصلاب الكافرين منهم من يؤمن، وهو فحوى قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إني أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله» ولعلمه الأزلي، وقضائه الأبدي: أن هذا الدين سينتشر في شرق الدنيا، وغربها، وأن حملة لوائه يكونون ممن يؤمن منهم، وقد تحقق هذا في أقل من ثلاثين سنة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال عليه الصلاة والسلام:«إذا أراد الله بأمّة شرا؛ أهلكها قبل نبيّها، وإذا أراد بأمة خيرا أهلك نبيّها قبلها» . والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {مَنَعَنا:} ماض، و (نا): مفعول به، والمصدر المؤول من:{أَنْ نُرْسِلَ} في محل نصب مفعول به ثان، أو في محل جر بحرف جر محذوف على الخلاف بين سيبويه، والخليل وقد تقدم معنا كثير من ذلك. {بِالْآياتِ:} الباء:

حرف جر صلة. (الآيات): مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. هذا؛ وأجيز اعتبار الباء أصلية، على أنّ الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من المفعول المحذوف، التقدير: وما منعنا أن نرسل النبي حالة كونه مؤيدا بالآيات. {إِلاّ:} حرف حصر، والمصدر المؤول من:{أَنْ كَذَّبَ} في محل رفع فاعل للفعل: (منع) التقدير: وما منعنا من إرسال الرسول مؤيدا بالمعجزات إلا تكذيب الأولين بها. وانظر مثل ذلك في الآية رقم [94] الآتية. {بِهَا:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الْأَوَّلُونَ:}

فاعل كذب مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ، والجملة الفعلية:{وَما مَنَعَنا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَآتَيْنا:} الواو: حرف عطف. (آتينا): فعل، وفاعل. {ثَمُودَ:} مفعول به أول.

{النّاقَةَ:} مفعول به ثان. {مُبْصِرَةً:} حال من الناقة، وجملة:{وَآتَيْنا..} . إلخ معطوفة على ما

ص: 364

قبلها، وإن اعتبرتها حالا من (نا) فلست مفندا، ويلزم تقدير «قد» قبلها، ويكون الرابط: الواو، والضمير، وجملة:{فَظَلَمُوا بِها} معطوفة عليها. {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية.

{نُرْسِلَ بِالْآياتِ} مثل سابقه. {إِلاّ:} حرف حصر. {تَخْوِيفاً:} مفعول لأجله، وأجيز اعتباره حالا، إما من الفاعل؛ أي: مخوفين، أو من المفعول؛ أي: مخوفا بها، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، وإن اعتبرتها حالا من نا فلست مفندا، والرابط: الواو، والضمير، وتكون حالا متداخلة من وجه واحد، وهو اعتبار الأولى حالا.

{وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاّ طُغْياناً كَبِيراً (60)}

الشرح: {وَإِذْ قُلْنا لَكَ} أي: واذكر يا محمد إذ قلنا لك. {إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنّاسِ} أي: قدرته محيطة بهم، فهم في قبضته، وقدرته، لا يقدرون على الخروج من مشيئته، وإذا كان الأمر كذلك، فهم لا يقدرون على أمر من الأمور إلا بقضائه وقدره، وهو حافظك، ومانعك منهم، فلا تهبهم، وامض لما أمرك من التبليغ للرسالة، فهو ينصرك، ويقويك على ذلك. انتهى. خازن.

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: الناس هنا: أهل مكة، وإحاطته بهم: إهلاكه إياهم؛ أي: إن الله سيهلكهم. وذكره بلفظ الماضي لتحقق وقوعه، وعنى بهذا الإهلاك الموعود ما جرى يوم بدر، ويوم الفتح.

{وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنّاسِ:} قال الخازن: الأكثرون من المفسرين على أنّ المراد منها ما رأى: النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج من العجائب والآيات. قال ابن عباس-رضي الله عنهما-هي رؤيا عين، أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وهي ليلة أسري به إلى بيت المقدس، وكانت الفتنة ارتداد قوم كانوا أسلموا حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أسري به، انظر ما ذكرته في أول السورة ففيه الكفاية، وعليه فالمراد بالرؤيا بالألف: الرؤية بالتاء، وهي البصرية، ولو كانت منامية لما ارتدّ أحد؛ لأن أحدا لا يستنكر، بل، ولا يستغرب ما يذكر له من رؤيا المنام. هذا؛ وكتابة البصرية بالألف قليل، والكثير في كتابة الحلمية بالألف.

وقيل: المراد بهذه الرؤيا ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية: أنه دخل مكة هو، وأصحابه فعجل المسير إلى مكة قبل الأجل، فصدّه المشركون، ورجع إلى المدينة، فكان رجوعه في ذلك العام بعد ما أخبر: أنه يدخلها فتنة لبعضهم، ثم دخل مكة في العام المقبل، وأنزل الله عز وجل:

{لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ..} . إلخ.

وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه: أن ولد الحكم بن أميّة يتداولون منبره، كما يتداول الصبيان الكرة، فساءه ذلك، وهذا ضعيف جدا.

ص: 365

{وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} يعني: شجرة الزقوم؛ التي وصفها الله تعالى في سورة (الصافات) من الآية رقم [62] وما بعدها، والعرب تقول لكل طعام كريه: طعام ملعون، والفتنة فيها: أن أبا جهل قال: ابن أبي كبشة-يعني: النبي صلى الله عليه وسلم-توعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يزعم: أنه تنبت فيها شجرة، وتعلمون: أن النار تحرق الشجر، وما نعرف الزقوم إلا التمر، والزبد، ثم قال:

يا جارية! تعالي فزقمينا. فأتت بتمر، وزبد، فقال: يا قوم! تزقموا، فإن هذا ما يخوفكم به محمد، فأنزل الله حين عجبوا أن يكون في النار شجر:{إِنّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظّالِمِينَ..} . إلخ فقد استغربوا من ذلك، ونسبوا لله العجز عن خلق شجرة في النار، وهو قادر على أكثر منه. ويقويه: أن النعامة تبتلع الجمر، والحديد المحمّى بالنار، ولا يحرقها، وإن طير السمندل يتّخذ من وبره مناديل، فإذا اتسخت؛ ألقيت في النار، فيزول وسخها، وتبقى بحالها. والمراد: بلعن الشجرة: لعن آكليها؛ لأنه لم يجر في القرآن لعن هذه الشجرة، ولكن الله لعن الكفار، وهم آكلوها.

{وَنُخَوِّفُهُمْ} أي: بالزقوم وغيرها. {فَما يَزِيدُهُمْ} أي: التخويف. {إِلاّ طُغْياناً كَبِيراً} أي:

تمردا، وعتوا عظيما. هذا؛ والطغيان: مجاوزة الحد، يقال: طغا، يطغى، ويطغو طغيانا، وطغوانا جاوز الحد، وكل مجاوز حده في العصيان طاغ، وكل مسرف في الظلم، والمعاصي طاغ، وطغى البحر: هاجت أمواجه، وطغى السيل: جاء بماء كثير. قال تعالى: {إِنّا لَمّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ} .

هذا؛ و (الناس) اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل: قوم، ورهط

إلخ، واحده:

«إنسان» من غير لفظه، وهو يطلق على الإنس، والجن، ولكن غلب استعماله في الإنس. قال تعالى:{مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ} وأصله: الأناس، حذفت منه الهمزة تخفيفا على غير قياس، وحذفها مع لام التعريف كاللازم، لا يكاد يقال: الأناس، وقد نطق القرآن الكريم بهذا الأصل، ولكن بدون لام التعريف. قال تعالى:{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} الآية رقم [71] الآتية. وقيل: إن أصله النّوس، ولم يحذف منه شيء، وإنما قلبت الواو ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها. وانظر شرح {الْإِنْسانُ} في الآية رقم [11] فإنه جيد.

الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف استئناف. (إذ): ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بفعل محذوف، تقديره: اذكر، وابن هشام في مغنيه يعتبره مفعولا به للفعل المحذوف المقدر بما رأيت. {قُلْنا:} فعل، وفاعل. {لَكَ:} متعلقان به. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {رَبَّكَ:} اسمها، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {أَحاطَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {رَبَّكَ}. {بِالنّاسِ:} متعلقان به، وهما في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية في محل نصب

ص: 366

مقول القول، وجملة:{قُلْنا..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذ) إليها، وجملة: واذكر إذ

إلخ المقدرة مستأنفة، لا محل لها. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): نافية. {جَعَلْنَا:} فعل، وفاعل. {الرُّؤْيَا:} مفعول به أول منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر.

{الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة ل: {الرُّؤْيَا} . {أَرَيْناكَ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير:

التي أريناكها. {إِلاّ:} حرف حصر. {فِتْنَةً:} مفعول به ثان ل {جَعَلْنَا} . {لِلنّاسِ:} متعلقان بمحذوف صفة {فِتْنَةً،} والجملة الفعلية: {وَما جَعَلْنَا..} . إلخ معطوفة على جملة: {قُلْنا..} . إلخ فهي في محل جر مثلها، والعطف أقوى من الاستئناف. {وَالشَّجَرَةَ:} معطوف على {الرُّؤْيَا} .

{الْمَلْعُونَةَ:} صفة. {فِي الْقُرْآنِ:} متعلقان ب: {الْمَلْعُونَةَ} . وقيل: متعلقان بمحذوف حال، ولا وجه له، ونائب الفاعل مستتر تقديره:«هي» . هذا؛ ويقرأ شاذا برفع «(الشجرة)» على اعتبارها مبتدأ، والخبر محذوف، تقديره: كذلك، وتكون الجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{وَنُخَوِّفُهُمْ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به، ومتعلقه محذوف؛ إذ التقدير: نخوفهم بالشجرة وغيرها، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {فَما:} الفاء: حرف عطف. (ما): نافية. {يَزِيدُهُمْ:} مضارع، والهاء مفعول به أول، والفاعل مستتر، تقديره:«هو» يعود إلى مصدر الفعل السابق؛ أي: التخويف. إلا: حرف حصر. {طُغْياناً:} مفعول به ثان.

{كَبِيراً:} صفة له، وجملة:{فَما يَزِيدُهُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61)}

الشرح: ما أحراك أن تنظر خلق آدم عليه السلام، وما جرى له مع إبليس-لعنه الله تعالى- في سورة (الحجر) الآية رقم [26] وما بعدها. هذا؛ وقد قال القرطبي: تقدّم ذكر كون الشيطان عدو الإنسان، فانجرّ الكلام إلى ذكر آدم، والمعنى: اذكر بتمادي هؤلاء المشركين، وعتوهم على ربهم قصة إبليس حين عصى ربه، وأبى السجود. وقال ما قال. انتهى. هذا؛ وآدم: اسم علم أعجمي مشتق من الأدمة بمعنى: الأسوة، أو من أديم الأرض؛ أي: من وجهها، وترابها، أو من الأدمة بمعنى: الألفة، وأصله أأدم بهمزتين، قلبت الثانية مدّا مجانسا لحركة الأولى، كما قلبت في إيمان، فإنّ أصله إئمان، وكما قلبت في أومن، فإن أصله: أأأمن بثلاث همزات، فاستثقلوا اجتماع ثلاث همزات، فحذفوا الثانية طلبا للتخفيف فبقي: أأمن بهمزتين، الأولى مضمومة، والثانية ساكنة، فقلبت الساكنة واوا لسكونها، وانضمام ما قبلها، فصار أومن، ومثل آدم في إعلاله: آمن، وما جرى مجراه.

ص: 367

الإعراب: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ:} انظر الآية السابقة. {اُسْجُدُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لِآدَمَ:} متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة، وجملة:{اُسْجُدُوا لِآدَمَ} في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَإِذْ قُلْنا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها في الآية السابقة. {فَسَجَدُوا:}

الفاء: حرف عطف. (سجدوا): ماض، والواو فاعله. {إِلاّ:} أداة استثناء. {إِبْلِيسَ:} مستثنى ب: {إِلاّ،} ورأيت الخلاف فيه، هل هو متصل، أو منقطع؟ وجملة:{فَسَجَدُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: {قُلْنا..} . إلخ فهي في محل جر مثلها. {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى إبليس.

{أَأَسْجُدُ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. (أسجد): مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» .

لمن: متعلقان بالفعل قبلهما، و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر باللام، وجملة:{خَلَقْتَ} صلة (من)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: للذي، أو لشخص خلقته. {طِيناً:} منصوب بنزع الخافض؛ إذ التقدير: من طين.

وقيل: هو حال من (من)، أو من العائد المحذوف، وجاز وقوعه حالا وهو جامد؛ لدلالته على الأصالة، كأنه قال: متأصلا من طين. وقال الزجاج وتبعه ابن عطية: منصوب على التمييز، ولا يظهر ذلك؛ إذ لم يتقدم إبهام ذات، ولا نسبة. وجملة:{أَأَسْجُدُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاّ قَلِيلاً (62)}

الشرح: {قالَ أَرَأَيْتَكَ} أي: أخبرني. قال الجمل: استعمال «أرأيت» في الإخبار مجاز؛ أي:

أخبرني عن هذه الحالة العجيبة. ووجه المجاز: أنه لما كان العلم بالشيء سببا للإخبار عنه، والأبصار به طريقا إلى الإحاطة به علما، وإلى صحة الإخبار عنه؛ استعملت الصيغة التي لطلب العلم أو لطلب الإبصار في طلب الخبر، لاشتراكهما في الطلب. انتهى. بتصرف من سورة (الأنعام).

{هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} أي: فضلته عليّ بأمري بالسجود له. والتقدير: لم فضلته وقد خلقتني من نار، وخلقته من طين؟ ولم يجبه الله عن هذا السؤال إهمالا له، وتحقيرا؛ حيث اعترض على مولاه ب:(لم)؟ انظر الإعراب. {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ} أي: أمهلتني، وهو جواب قسم محذوف، وفي سورة (الأعراف) و (الحجر) وسورة (ص) طلب الإنظار، والإمهال طلبا، فأعطي ما طلب فتنة، وابتلاء. {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ:} لأستولين عليهم، أو لأقودنهم حيث شئت. وقيل: معناه: لأستأصلنهم بالإغواء والإضلال. {إِلاّ قَلِيلاً} منهم، لا أقدر عليهم؛ لاعتصامهم بحبلك المتين، واتباعهم لسنن الأنبياء والمرسلين، وهم المذكورون في الآية [65]

ص: 368

الآتية. وما أحراك أن تنظر الآية رقم [118 - 119] من سورة (النساء)، فإنك تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. هذا؛ والفعل المضارع مأخوذ من: احتنك الجراد الزرع: إذا أكله كله، أو من قولهم:

حنكت الفرس، أحنكه، وأحنكه حنكا: إذا جعلت في فيه الرسن. والأول: قريب من هذا لأن الجراد يأتي على الزرع بالحنك. وانظر شرح: (ذرية) في الآية رقم [23] من سورة (الرعد).

الإعراب: {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى {إِبْلِيسَ،} تقديره: «هو» . {أَرَأَيْتَكَ:} الهمزة:

حرف استفهام. (رأيتك): ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والكاف حرف خطاب لا محل له. {هذَا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب مفعول به أول، والهاء حرف تنبيه لا محل له. الذي: اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة اسم الإشارة، أو بدل منه، والجملة الفعلية بعده صلة له، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: كرمته علي، والمفعول الثاني:

محذوف، التقدير: لم كرمته علي؟ هذا؛ وقيل: الكاف هي المفعول الأول، واسم الإشارة مبتدأ، وقبله استفهام مقدر: «أي: أهذا

» إلخ؟ والموصول مع صلته خبره، والجملة الاسمية هي المفعول الثاني، والمعتمد الأول. والجملة الفعلية:{أَرَأَيْتَكَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {لَئِنْ} اللام: موطئة لقسم محذوف، التقدير:

وحقك، أو أقسم بك. (إن): حرف شرط جازم. {أَخَّرْتَنِ:} ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة، وقرئ بإثباتها مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {إِلى يَوْمِ} متعلقان بما قبلهما، و {يَوْمِ:} مضاف، و {الْقِيامَةِ:} مضاف إليه. {لَأَحْتَنِكَنَّ:} اللام: واقعة في جواب القسم. (أحتنكن): مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والفاعل تقديره:«أنا» ، والنون حرف دال على التوكيد لا محل له. {ذُرِّيَّتَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِلاّ:} أداة استثناء. {قَلِيلاً:} مستثنى ب: {إِلاّ،} ومتعلقه محذوف، تقديره:

منهم، وجملة:{لَأَحْتَنِكَنَّ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب القسم المقدر، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه؛ على القاعدة:«إذا اجتمع شرط، وقسم؛ فالجواب للسابق منهما» . قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته: [الرجز]

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخّرت فهو ملتزم

والكلام: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ..} . إلخ مستأنف، لا محل له، وهو من مقول إبليس. تأمل.

{قالَ اِذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63)}

الشرح: {قالَ:} اذهب: هذا أمر إهانة؛ أي: امض لشأنك، فقد أمهلناك، وأنظرناك.

{فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ..} . إلخ: أي: من أطاعك من ذرية آدم، فمآلك، ومآلهم جهنم

ص: 369

تحترقون بها جميعا. فغلب المخاطبين على الغائب. أو الخطاب للتابعين، فيكون من باب الالتفات. ومعنى:{مَوْفُوراً:} وافرا كاملا. هذا؛ وانظر دركات النار في الآية رقم [44] من سورة (الحجر). هذا؛ وقد أمر الله الشيطان في الآية وما بعدها بأوامر خمسة، القصد منها التهديد، والاستدراج؛ لا التكليف؛ لأنها كلها معاص، والله لا يأمر بها.

الإعراب: {قالَ:} ماض، وفاعله مستتر تقديره:«هو» يعود إلى (الله). {اِذْهَبْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَمَنْ:} الفاء: حرف مفيد للتعليل، أو هي حرف استئناف، (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {تَبِعَكَ:} ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من)، والكاف مفعول به. {مِنْهُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، و (من) بيان لما أبهم في (ما). {فَإِنَّ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنّ):

حرف مشبه بالفعل. {جَهَنَّمَ:} اسمها. {جَزاؤُكُمْ} خبر (إنّ)، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {جَزاءً:} مفعول مطلق، عامله المصدر قبله. وقيل:

عامله محذوف، تقديره: تجازون جزاء. وقيل: هو حال موطئة. وقيل: هو تمييز. {مَوْفُوراً:} صفة {جَزاءً،} وهو بمعنى: وافرا، كما رأيت، والجملة:{فَإِنَّ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط.

هذا؛ وإن اعتبرت جواب الشرط محذوفا، تقديره: فلا خير فيهم؛ فتكون الجملة الاسمية تعليلا للنفي المقدر، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه كما رأيت في الآية رقم [15]. هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا؛ فالكلام على ذلك مستوفى في الآية المذكورة، والجملة الاسمية:

{فَمَنْ..} . إلخ تعليل للأمر، أو هي مستأنفة، وهي من مقول الله تعالى على الاعتبارين. تأمل.

{وَاِسْتَفْزِزْ مَنِ اِسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً (64)}

الشرح: {وَاسْتَفْزِزْ:} استزل، أو استخف، واستفزه الخوف؛ أي: استخفه، وهو كغيره أمر تعجيز. {مَنِ اسْتَطَعْتَ:} أن تستفزه، وأن تضله. {بِصَوْتِكَ:} صوته كل داع يدعو إلى معصية الله تعالى. قاله ابن عباس-رضي الله عنهما. وقال مجاهد-رحمه الله تعالى-: الغناء، والمزامير، واللهو صوته. {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} أي: اجمع عليهم مكايدك، وحبائلك، واحثثهم على الإغواء. وقيل: معناه: استعن عليهم بركبان جندك، ومشاتهم. يقال: إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس، فكل من قاتل، أو مشى في معصية الله فهو من جنود إبليس. هذا؛ والإجلاب: السوق بجلبة من السائق، والجلب، والجلبة: الأصوات. هذا؛ ويقرأ: (رجلك) بكسر الجيم وسكونها، فهو جمع: راجل، مثل صحب، وصاحب.

ص: 370

{وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ} أي: بحملهم على كسب الأموال، وجمعها من الحرام، وإنفاقها في غير طاعة الله تعالى، وبالحث على التوصل إلى الولد بالسبب المحرم، أو الإشراك فيه بتسميته عبد العزى، ونحوه، أو بالتضليل عن طريق الهدى، أو إهمال الولد بدون تربية؛ حتى يتعود الأفعال القبيحة، والصفات الذميمة. هذا؛ ومشاركة الشيطان للإنسان في ماله، وولده تكون بترك التسمية عند الأكل، والشرب، واللباس، والجماع، وسائر التصرفات، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وخذ ما يلي:

فعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله تعالى عند دخوله، وعند طعامه قال الشّيطان: لا مبيت لكم، ولا عشاء. وإذا دخل، فلم يذكر الله عند دخوله قال الشّيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال الشيطان: أدركتم المبيت، والعشاء» . رواه الخمسة إلا البخاري.

وعن سلمان الفارسي-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: «من سرّه ألاّ يجد الشيطان عنده طعاما، ولا مقيلا، ولا مبيتا، فليسلّم إذا دخل بيته، وليسمّ على طعامه» . رواه الطبراني. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أنّ أحدكم إذا أتى أهله قال: اللهمّ جنّبني الشّيطان، وجنّب الشّيطان ما رزقتني، فإن كان بينهما ولد؛ لم يضرّه الشيطان، ولم يسلّط عليه» . ويروى هذا الحديث بروايات مختلفة من طرق متعددة، والمرأة فيما ذكر كالرجل من أنها مطالبة بالتسمية في كل شيء. وقيل: إن الشيطان يعتمد على ذكر الرجل وقت الجماع، فإذا لم يقل: بسم الله أصاب معه امرأته، وأنزل في فرجها كما ينزل الرجل، وهو معنى قول مجاهد: إن الذي يجامع، ولا يسمي يلتفّ الشيطان على إحليله، فيجامع معه. وروي من حديث عائشة رضي الله عنها. قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ فيكم مغرّبين» . قلت: يا رسول الله! وما المغرّبون؟ قال: «الّذين شارك فيهم الجنّ» . انظر رقم [51] من سورة (الكهف)، وفي الخبر: أن إبليس-لعنه الله تعالى-قال: يا رب بعثت أنبياء، وأنزلت كتبا، فما قراءتي؟ قال: الشعر. قال:

فما كتابي؟ قال: الوشم. قال: ومن رسلي؟ قال: الكهنة. قال: أي: شيء مطعمي؟ قال: ما لم يذكر عليه اسمي. قال: فما شرابي؟ قال: كل مسكر. قال: وأين مسكني؟ قال: الحمامات.

قال: وأين مجلسي. قال: في الأسواق. قال: وما حبائلي؟ قال: النساء. قال: وما أذاني؟ قال: المزمار. وانظر الآية رقم [97 - 98] من سورة (المؤمنون) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

{وَعِدْهُمْ} أي: المواعيد الباطلة كشفاعة الأصنام، وقل لهم: لا جنة، ولا نار، ولا بعث بعد الموت، ولا حساب، ولا جزاء. {وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً:} الغرور تزيين الخطأ بما يوهم الصواب، وتزيين الباطل بما يظن أنه حق، ومثله الآية رقم [120] من سورة (النساء).

تنبيه: في الآية الكريمة ما يدل على تحريم المزامير، والغناء، واللهو. وما كان من صوت الشيطان، أو فعله، وما يستحسنه؛ فواجب التنزه عنه. وروى نافع: أن ابن عمر-رضي الله عنهما-

ص: 371

سمع صوت زمارة، فوضع إصبعيه في أذنيه، وعدل راحلته عن الطريق، وهو يقول: يا نافع! أتسمع؟ فأقول: نعم، فمضى؛ حتى قلت له: لا، فوضع يديه، وأعاد راحلته إلى الطريق. وقال:

رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت زمارة راع، فصنع مثل هذا. قال علماؤنا: إذا كان هذا فعلهم في حق صوت لا يخرج عن الاعتدال، فكيف بغناء أهل هذا الزمان وزمرهم!. انتهى. قرطبي.

الإعراب: {وَاسْتَفْزِزْ:} أمر، وفاعله، مستتر، تقديره:«أنت» . {مَنِ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {اِسْتَطَعْتَ:} فعل، وفاعل، والمفعول محذوف، انظر تقديره في الشرح، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد الضمير المتصل في المفعول المقدر. {مِنْهُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير العائد على (من)، و (من) بيان لما أبهم في (من) هذا؛ وقال أبو البقاء:(من) استفهام في موضع نصب ب: {اِسْتَطَعْتَ،} ولا يؤيده المعنى. تأمل. {بِصَوْتِكَ:} متعلقان بالفعل (استفزز) وجملة: {وَاسْتَفْزِزْ..} . إلخ معطوفة على جملة: {اِذْهَبْ..} . إلخ فهي في محل نصب مقول القول مثلها، وجملة:{وَأَجْلِبْ..} . إلخ معطوفة أيضا، والجار والمجرور {عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ} متعلقان بما قبلهما. {وَرَجِلِكَ:} معطوف على ما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَشارِكْهُمْ} إلخ معطوفة أيضا. {وَعِدْهُمْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» والهاء مفعول به، والميم في الكل حرف دال على جماعة الذكور، والجملة معطوفة أيضا. {وَما:} الواو: واو الحال. (ما): نافية. {يَعِدُهُمُ:} مضارع، والهاء مفعول به أول. {الشَّيْطانُ:} فاعل. {إِلاّ:} حرف حصر. {غُرُوراً:} مفعول به ثان على التوسع، أو هو نعت مصدر محذوف، التقدير: إلا وعدا غرورا، أو هو مفعول لأجله؛ أي: ما يعدهم المواعيد الكاذبة إلا لأجل الغرور. وجملة: {وَما يَعِدُهُمُ..} . إلخ معترضة لبيان مواعيده الباطلة بين الجمل التي خاطب الله بها الشيطان، أو هي في محل نصب حال، والأول: أقوى.

{إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)}

الشرح: {إِنَّ عِبادِي..} . إلخ: أي: إن عبادي المؤمنين المخلصين لا تسلط لك عليهم إلا بالوسوسة من غير أن تلقيهم في ذنب يضيق عنه عفوي، وهؤلاء خاصة الله الذين هداهم، واجتباهم من عباده. {وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} أي: حافظا لعباده المؤمنين من وساوس الشياطين، فهو سبحانه يحفظهم من كيدهم، ويعصمهم من إغوائهم، وإضلالهم. وفي الآية دليل على أنّ المعصوم من عصمه الله، وأن الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه عن مواقع الضلال، ولهذا قال المحققون: لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعته إلا بقوته.

فائدة: ذكر اليافعي عن الشاذلي: أن ممّا يعين على دفع وسوسة الشيطان: أنك عند وسوسته لك تضع يدك اليمنى على جانب صدرك الأيسر بحذاء القلب: وتقول: سبحان الملك

ص: 372

القدوس الخلاق الفعال سبع مرات، ثم تقرأ قوله تعالى:{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ} .

بعد هذا فالإضافة في قوله: {عِبادِي} إضافة تشريف، وتكريم، خصهم الله بالذكر، وشرفهم بالإضافة تنويها بشأنهم، وتنبيها على أنهم المقيمون لحقوق العبودية. وانظر شرح (عبده) في الآية رقم [1]، وانظر شرح {سُلْطانٌ} في الآية رقم [99] من سورة (النحل)، وشرح (ربك) في الآية رقم [8] وشرح:{وَكِيلاً} في الآية رقم [2]. هذا؛ {وَكَفى} فهو هنا بمعنى: اكتف، فالباء زائدة عند الجمهور في الفاعل، وهو لازم لا ينصب المفعول به، ومثله مضارعه، كما في قوله تعالى:

{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ،} وأما إذا كان بمعنى: جزى، وأغنى؛ فيكون متعديا لمفعول واحد، وإذا كان بمعنى: وقى، فإنه يكون متعديا لمفعولين، كما في قوله تعالى:{وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ} .

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {عِبادِي:} اسمها منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {لَيْسَ:} ماض ناقص. {لَكَ:} متعلقان بمحذوف خبر {لَيْسَ} مقدم. {عَلَيْهِمْ:}

متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، وبعضهم يعتبرهما متعلقين بمحذوف حال من {سُلْطانٌ،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا

إلخ. {سُلْطانٌ:} اسم {لَيْسَ} مؤخر، وجملة:{لَيْسَ..} . إلخ في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ عِبادِي..} . إلخ مستأنفة، أو تعليلية. لا محل لها. {وَكَفى:} الواو: حرف استئناف. (كفى): ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. الباء: حرف جر صلة. (ربك): فاعل كفى مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَكِيلاً:} تمييز. وقيل: حال من (ربك)، والأول: أعرف في مثل ذلك، وجملة:{وَكَفى..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. وإن اعتبرتها في محل نصب حال من كاف الخطاب؛ فلست مفندا.

{رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66)}

الشرح: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ} أي: يسوق، ويجري، ومنه قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً،} وقال رويشد بن كثير الطائي: [البسيط]

يا أيها الرّاكب المزجي مطيّته

سائل بني أسد ما هذه الصّوت؟

ومنه: {وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ} أي: يزجيها كل واحد؛ بمعنى: يدفعها، لرداءتها.

ص: 373

وإزجاء الفلك: سوقها بالريح اللينة. وقد كان هذا في الزمن الغابر، أما اليوم فسوقها بالبخار والنار. هذا؛ والفلك بضم الفاء وسكون اللام يطلق على المفرد، والجمع، والمذكر، والمؤنث. قال تعالى:{فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} فأفرد، وذكر. وقال تعالى:{وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ} فأنث، ويحتمل الإفراد، والجمع. وقال جل شأنه:{حَتّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} فجمع، وكأنه يذهب بها إذا كانت واحدة إلى المركب، فتذكر، وإلى السفينة فتؤنث، وقد ألغز الشاعر فيها، فقال:[الطويل]

مكسّحة تجري ومكفوفة ترى

وفي بطنها حمل على ظهرها يعلو

فإن عطشت عاشت وعاش جنينها

وإن شربت ماتت وفارقها الحمل

ولا تنس: أن أول من اخترع الفلك-وهي السفينة-نوح عليه الصلاة والسلام، ومن تصميمها وشكلها أخذت البشرية تصنع السفن، وتتطور جيلا بعد جيل، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في العصر الحاضر. هذا؛ والفلك: بفتحتين مدار النجوم، ويجمع على: فلك بضم الفاء وسكون اللام وضمها أيضا وعلى: أفلاك أيضا، والفلك من كل شيء: مستداره ومعظمه، والفلكي منسوب إلى علم الفلك. و {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي: تطلبوا الرزق، والأرباح بالتجارة التي تنقل من بلاد إلى بلاد بواسطة السفن التي تمخر عباب البحار. {إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً:} حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه، وسهل عليكم ما تعسر من أسبابه. وانظر شرح {الرَّحِيمِ} في البسملة أول سورة (يوسف) عليه السلام، وشرح {كانَ} في الآية [30].

الإعراب: {رَبُّكُمُ:} مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. والميم علامة جمع الذكور. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ. {يُزْجِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى الذي، وهو العائد، والجملة الفعلية صلته لا محل لها. {لَكُمُ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الْفُلْكَ:} مفعول به. {فِي الْبَحْرِ:}

متعلقان بالفعل {يُزْجِي} أيضا. {لِتَبْتَغُوا:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {يُزْجِي}. {مِنْ فَضْلِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. وقيل:{مِنْ} زائدة و {فَضْلِهِ:} مفعول به، والأول: أقوى. {إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً:} تقدم إعراب مثل هذه الجملة في الآية رقم [3] وغيرها، والجملة الاسمية تعليل آخر لقوله:{يُزْجِي،} والجملة الاسمية: {رَبُّكُمُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

ص: 374

{وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاّ إِيّاهُ فَلَمّا نَجّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67)}

الشرح: {وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ:} الضر في الأصل: كل ما ينوب الإنسان في هذه الدنيا من فقر، ومرض، وفقد نفس، وخوف

إلخ، والمراد: به هنا: خوف الغرق في البحر، والإمساك عن الجري، واضطراب البحر، وتموجه. {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ:} ذهب عن بالكم، وخواطركم كل من تدعون في حوادثكم من الأصنام وغيرها. {إِلاّ إِيّاهُ} أي: إلا الله وحده، فإنكم لا تذكرون سواه في الشدائد، والملمات؛ لأنه القادر على نجاتكم، وإعانتكم، وغيره لا يقدر.

{فَلَمّا نَجّاكُمْ} أي: أجاب دعاءكم، وأنقذكم من هول البحر، وشدته. {أَعْرَضْتُمْ} أي: عن الإيمان، والإخلاص، والطاعة، وكفرتم النعمة. {وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً:} المراد به هنا: الكافر.

وقيل: المعنى: وطبع الإنسان جحودا للنعم إلا من عصمه الله، ووفقه للشكر، فالمراد جنس الإنسان.

هذا؛ ولقد تكرر معنى الآية في كثير من السور، فينبغي التنبه له. وانظر شرح {الْإِنْسانُ} في الآية رقم [11]، وانظر:{ضَلَّ} في الآية رقم [87] من سورة (النحل)، وشرح {الْكافِرِينَ} في الآية رقم [107] منها. وانظر شرح (البحر) في الآية رقم [70] الآتية، ولقد استعمل (من) وهي للعاقل لغير العاقل، وهي الأصنام؛ لأن الكفار يعاملونها معاملة العاقل: من سؤالهم لها حوائجهم، وتذللهم لها، وتقديسها، وتعظيمها. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [49] من سورة (النحل) تجد ما يسرك ويثلج صدرك.

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه صالح لغير ذلك مبني على السكون في محل نصب. {مَسَّكُمُ:} ماض، والكاف مفعول به. {الضُّرُّ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح. {فِي الْبَحْرِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضر. وقيل من البحر. {ضَلَّ:} ماض. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل، والجملة بعدها صلتها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: ضل الذي تدعونه من دون الله، والجملة الفعلية: جواب (إذا) لا محل لها. إلا: أداة استثناء. {إِيّاهُ:} ضمير منفصل مبني على الضم في محل نصب على الاستثناء المتصل، أو المنقطع، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. {فَلَمّا:} الفاء: حرف عطف. (لمّا): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف بمعنى: حين عند ابن السراج، والفارسي، وابن جني، وجماعة، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وصوب ابن هشام

ص: 375

الأول. والمشهور الثاني. {نَجّاكُمْ:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والكاف مفعول به، والفاعل يعود إلى (الله). {إِلَى الْبَرِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وقدر الجلال الكلام:

«فلما نجاكم من الغرق، وأوصلكم إلى البر» وعليه فالجار والمجرور: {إِلَى الْبَرِّ} متعلقان بالفعل المحذوف، وهو ما صرح به الجمل، والجملة الفعلية ابتدائية لا محل لها على القول بحرفية (لما)، وهي في محل جر بإضافة (لمّا) إليها على القول بظرفيتها. {أَعْرَضْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية جواب لمّا، لا محل لها، ولمّا ومدخولها معطوف على (إذا) ومدخولها، أو هو كلام مستأنف، لا محل له على الوجهين، وجملة:{وَكانَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68)}

الشرح: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ:} المعنى: لا تأمنوا عقاب الله، وانتقامه، فإن من يقدر على إهلاككم بالغرق يقدر أن يهلككم في البر بأحد أمرين: إما خسف ناحية من الأرض بكم، وإما إرسال ريح شديدة ترميكم بالحصباء، وهي صغار الحصى، أو إرسال حجارة من السماء عليكم، كما أرسلت على قوم لوط عليه السلام. هذا؛ والخسف: انهيار الأرض بالشيء. وخسف المكان: ذهب في الأرض، وبابه جلس، وخسف الله به الأرض من باب ضرب؛ أي: غاب به فيها، وخسوف القمر: ذهاب ضوئه. هذا؛ والخسف: النقصان، والخسف: الذلة، والمهانة والحقارة. قال الشاعر:[البسيط]

ولا يقيم على ضيم يراد به

إلاّ الأذلاّن عير الحيّ والوتد

هذا على الخسف مربوط برمّته

وذا يشجّ فلا يرثي له أحد

وجانب البر: ناحية من الأرض. {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً} أي: حافظا ونصيرا يمنعكم من عقاب الله وانتقامه.

الإعراب: {أَفَأَمِنْتُمْ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري تعجبي فيه معنى التهديد. الفاء:

حرف عطف، أو استئناف. (أمنتم): فعل، وفاعل. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب.

{يَخْسِفَ:} مضارع منصوب ب: {أَنْ،} والفاعل يعود إلى (الله). بكم: متعلقان بالفعل قبلهما.

وقيل: متعلقان بمحذوف حال من {جانِبَ الْبَرِّ،} والتقدير: مصحوبا بكم، والأول: أقوى معنى. {جانِبَ:} مفعول به. وقيل: ظرف مكان، والأول: أقوى، و {جانِبَ:} مضاف، و {الْبَرِّ:} مضاف إليه، و {أَنْ} والفعل {يَخْسِفَ} في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، وجملة:{أَفَأَمِنْتُمْ..} . إلخ معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: أنجوتم من الغرق، فأمنتم

ص: 376

إلخ، والكلام كله مستأنف. {يُرْسِلَ:} معطوف على يخسف منصوب مثله، والفاعل يعود إلى (الله). {عَلَيْكُمْ:} متعلقان بما قبلهما. {حاصِباً:} مفعول به. {ثُمَّ:} حرف عطف.

لا: نافية. {تَجِدُوا:} معطوف على ما قبله منصوب أيضا، وعلامة نصبه حذف النون.. إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لَكُمْ:} متعلقان بما بعدهما، انظر المعنى في الشرح.

{وَكِيلاً:} مفعول به.

{أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69)}

الشرح: {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى:} الخطاب للمشركين الذين يلجئون إلى الله في الشدائد عند اضطراب البحر، وهيجانه، ثم يعرضون عنه تعالى إذا نجاهم منه، ومن كل شدة، وبلاء، والمعنى: هل أمنتم أن ترجعوا إلى البحر مرة ثانية بسبب ضرورة تلجئكم إليه؟ {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ} أي: رياحا شديدة تقصف؛ أي: تكسر كل شيء من شجر، وغيره. {فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ:} فيهلككم في البحر بسبب كفركم، وجحودكم نعم الله تعالى. {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ..}. إلخ: أي: إنا نفعل بكم ما نفعل من الهلاك، وغيره، ثم لا تجدون أحدا يطالبنا بما فعلنا بكم انتصارا لكم، ولا يستطيع أحد أن ينكر علينا ما نفعله بكم.

هذا؛ والأفعال الخمسة: (يخسف، يرسل، يعيد، فيرسل، فيغرقكم) تقرأ بالياء كما رأيت، ولا التفات حينئذ، وتقرأ أيضا بالنون، فيكون في الكلام التفات من الغيبة إلى التكلم، والقراءتان سبعيتان، انظر الالتفات في الآية [22] من سورة (النحل).

تنبيه: الريح في الأصل: الهواء المسخر بين السماء والأرض، وهو جسم متحرك لطيف.

ممتنع بلطفه من القبض عليه، يظهر للمس بحركته، ويخفى عن البصر بلطفه، وأصله الرّوح، قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، والجمع: أرواح، ورياح، وأصل رياح: رواح، فعل فيه كما فعل بأصل «ريح» والأكثر في الريح التأنيث، كما في قوله تعالى:{جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ} وقد تذكّر على معنى الهواء.

والرياح الأصول أربع: إحداها الشّمال، وتأتي من ناحية الشام، وهي شمال من استقبل مطلع الشمس، وهذه الريح حارة في الصيف باردة في الشتاء، والثانية: الجنوب، وهي مقابلتها؛ أي: تأتي من جهة يمين من استقبل مطلع الشمس، وهي الريح اليمانية، والثالثة:

الصبا بفتح الصاد، وتأتي من مطلع الشمس، وتسمى القبول أيضا، والرابعة: الدبور، وتأتي من مغرب الشمس، وما أتى منها من بين تلك الجهات، يقال لها: النكباء، ثم إن خرجت من بين الجنوب والشرق. قيل لها: أزيب، بفتح الهمزة وسكون الزاي، وفتح الياء. وإن خرجت من بين

ص: 377

الشمال، والغرب؛ قيل لها: جربيا، بكسر الجيم، وسكون الراء وكسر الباء، وإن خرجت من بين الشمال، والشرق؛ قيل لها: صابية. وإن خرجت من بين الجنوب والغرب. قيل لها: هيف، بفتح الهاء وسكون الياء، وقد جمع الثمانية النواجي بقوله:[الطويل]

صبا ودبور والجنوب وشمأل

بشرق وغرب والتّيمّن والضّدّ

ومن بينها النكباء أزيب جربيا

وصابية، والهيف خاتمة العدّ

هذا؛ وأضيف: أن ريح الصّبا نصر الله بها نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق، حيث فعلت بقريش العجائب، فارتدوا على أعقابهم خاسئين، كما ستقف عليه في سورة (الأحزاب) إن شاء الله تعالى، وأنّ ريح الدبور أهلك بها قوم عاد. ونبيّهم هود عليه السلام، كما رأيت في سورة (الأعراف)، وسورة (هود) عليه السلام. قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور» .

هذا، ولا تنس: أن الريح تفسر بالدولة والقوة. قال تعالى: {وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي: دولتكم، وقوتكم، شبهت في نفوذ أمرها، وتمشيه بالريح، وهبوبها، يقال: هبت رياح بني فلان: إذا دالت لهم الدولة، ونفذ أمرهم، وتقول: الريح لفلان: إذا كان غالبا في الأمر، قال الشاعر:[الوافر]

إذا هبّت رياحك فاغتنمها

فإنّ لكلّ خافقة سكون

ولا تغفل عن الإحسان فيها

فما تدري السكون متى يكون؟

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الرّيح من روح الله تعالى، تأتي بالرّحمة، وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها؛ فلا تسبّوها، واسألوا الله من خيرها، واستعيذوا بالله من شرّها» . رواه الشافعي بطوله، وأخرجه أبو داود في المسند عنه. وعن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-قال:«إن الرياح ثمان: أربع منها عذاب، وهي القاصف، والعاصف، والصرصر، والعقيم، وأربع منها رحمة، وهي الناشرات، والمبشرات، والمرسلات، والذاريات» .

الإعراب: {أَمْ:} حرف عطف. {أَمِنْتُمْ:} فعل، وفاعل. {أَنْ:} حرف ناصب.

{يُعِيدَكُمْ:} مضارع منصوب ب: {أَنْ،} والفاعل يعود إلى (الله)، والكاف مفعول به، و (أن) والمضارع في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به. {فِيهِ:} متعلقان بما قبلهما. {تارَةً:} نائب مفعول مطلق، وبعضهم يعتبره ظرفا متعلقا بالفعل قبله. {أُخْرى:} صفة: {تارَةً} منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {فَيُرْسِلَ:} معطوف على ما قبله منصوب مثله، والفاعل يعود إلى (الله). {عَلَيْكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {قاصِفاً:} مفعول به. {مِنَ الرِّيحِ:}

متعلقان ب: {قاصِفاً} . {فَيُغْرِقَكُمْ:} مضارع معطوف على ما قبله منصوب أيضا، والفاعل يعود إلى (الله)، والكاف مفعول به. {بِما:} الباء: حرف جر. (ما): مصدرية. {كَفَرْتُمْ:} فعل،

ص: 378

وفاعل، و (ما) والفعل في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، واعتبار (ما) موصولة ضعيف معنى. {ثُمَّ:} حرف عطف. {لا:} نافية. {تَجِدُوا:}

معطوف على ما قبله أيضا منصوب، وعلامة نصبه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لَكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما مفعوله الأول. {عَلَيْنا بِهِ:} كلاهما متعلق ب {تَبِيعاً} بعدهما، وأجيز تعليق (به) بمحذوف حال من تبيعا. {تَبِيعاً:} مفعول به ثان.

{وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70)}

الشرح: {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: هو أنهم يأكلون بالأيدي، وغيرهم يأكل بفيه من الأرض. وقيل: بالعقل. وقيل: بالنطق، والتمييز، والخط، والفهم. وقيل: باعتدال القامة، وحسن الصورة. وقيل: بتسليطهم على جميع ما في الأرض، وتسخيره لهم. وقيل: غير ذلك. {وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ} أي: على الإبل، والخيل، والبغال، والحمير، وهذا في الزمن الماضي، وأما في هذا الزمن فالحمل بواسطة الطائرات، والسيارات.

{وَالْبَحْرِ} أي: وحملناهم في البحر على السفن، وهذا من مؤكدات التكريم؛ لأن الله سبحانه وتعالى سخر لهم هذه الأشياء؛ لينتفعوا بها، ويستعينوا بها على مصالحهم.

{وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ} أي: لذيذ المطاعم، والمشارب، وجعل رزق غيرهم ممّا لا يخفى.

{وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً:} وينبغي أن تعلم: أن الله تعالى قال في أول الآية: {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ} وقال في آخرها: {وَفَضَّلْناهُمْ} ولا بد من الفرق بين التكريم، والتفضيل، وإلا؛ لزم التكرار، والأقرب أن يقال: إن الله تعالى كرم الإنسان على سائر الحيوان بأمور خلقية ذاتية طبيعية، مثل: العقل، والنطق، والخط، وحسن الصورة، ثم إنه سبحانه وتعالى عرفه بواسطة العقل والفهم اكتساب العقائد الصحيحة، والأخلاق الفاضلة، فالأول: هو التكريم، والثاني: هو التفضيل.

هذا؛ ويفيد قوله: {وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ..} . إلخ أن الله فضل بني آدم على كثير ممن خلق، لا على الكل، فقال قوم: فضلوا على جميع الخلق لا على الملائكة، وهذا مذهب المعتزلة.

وقال الكلبي: فضلوا على الخلائق كلهم إلا على طائفة من الملائكة، مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، وأشباههم، والقول الفصل في هذه المسألة أن خواص البشر، وهم الرسل أفضل من خواص الملائكة، وهم جبريل وميكائيل وبقية العشرة المقربين، وخواص الملائكة أفضل من عوام البشر، وعوام البشر أفضل من عوام الملائكة.

هذا؛ والبر بفتح الباء: الأرض اليابسة غير البحر، وهو بضم الباء: حب القمح وبكسرها: عمل الخير مطلقا. و (البحر): الماء الكثير، أو الملح، والجمع: بحور، وبحار، وأبحر. هذا؛ وقد ثبت

ص: 379

جغرافيا أن مساحة البحر تعدل ثلاثة أضعاف مساحة البر، وروي: أن أنواع المخلوقات وأجناسها الموجودة في أعماق البحر أكثر ممّا يوجد على سطح الأرض. والله أعلم، وأجل، وأكرم.

الإعراب: {وَلَقَدْ كَرَّمْنا:} انظر إعراب مثله في الآية رقم [41]. {بَنِي:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {بَنِي:} مضاف، و {آدَمَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {وَحَمَلْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به. وانظر إعراب (حفظنا) في الآية رقم [17] من سورة (الحجر). {فِي الْبَرِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب. {وَالْبَحْرِ:} معطوف على ما قبله، وجملة:

{وَحَمَلْناهُمْ..} . إلخ معطوفة على الجملة الفعلية الواقعة جوابا للقسم، وكذلك الجملتان:{وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ} معطوفتان عليها، لا محل لهما مثلها. {مِمَّنْ:} متعلقان بكثير، أو بمحذوف صفة له، و (من): تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بمن، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: من الذي، أو من شيء خلقناه. {تَفْضِيلاً:} مفعول مطلق. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71)}

الشرح: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} أي: بنبيهم الذي اتبعوه في الدنيا، والإمام: من يؤتم به؛ أي: يقتدى به، فيقال: هاتوا متبعي إبراهيم، عليه السلام. هاتوا متبعي موسى، عليه السلام. هاتوا متبعي الشيطان. هاتوا متبعي الأصنام، فيقوم أهل الحق، فيأخذون كتبهم بأيمانهم، ويقوم أهل الباطل، فيأخذون كتبهم بشمالهم. وقيل: يدعون بكتابهم الذي أنزل عليهم. وقيل: بكتاب أعمالهم. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-بإمام زمانهم الذي دعاهم في الدنيا، إما إلى هدى، وإما إلى ضلال. فيكون المراد بالإمام: من ائتمّوا به في دنياهم، وفوضوا إليه أمورهم وأحكام معايشهم، وقلدوه في شئون دنياهم، وآخرتهم.

وقال محمد بن كعب: {بِإِمامِهِمْ} أي: بأمهاتهم، وإمام جمع آمّ، أو جمع أم، كخف وخفاف. والحكمة في ذلك: إجلال عيسى، عليه السلام، وإظهار شرف الحسن، والحسين رضي الله عنهما-وأن لا يفتضح أولاد الزنى، وهذا أضعف ما ذكرته من الأقوال؛ لما روي عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جمع الله الأوّلين، والآخرين يوم القيامة، يرفع لكلّ غادر لواء، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان» . أخرجه البخاري، ومسلم، فقوله:«هذه غدرة فلان بن فلان» . دليل على أنّ الناس يدعون في الآخرة بأسمائهم، وأسماء

ص: 380

آبائهم. انتهى. وعن أبي الدرداء-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم، وأسماء آبائكم؛ فحسّنوا أسماءكم» . رواه أبو داود، وابن حبان.

{فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ:} قال القرطبي: هذا يقوي قول من قال: (بإمامهم): بكتابهم، ويقويه أيضا قوله تعالى:{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ} وقوله تعالى: {وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا} فأولئك: الإشارة إلى كل أناس. {يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أي:

لا ينقصون من أجورهم أدنى شيء، وذكر أصحاب اليمين يدل على أنّ من أوتي كتابه بشماله إذا اطلع على ما فيه غشيهم من الخجل والحيرة ما يحبس ألسنتهم عن القراءة، ولذا لم يذكرهم، مع أن الآية التالية تشعر بذلك، وتشير إليه. هذا؛ والفتيل: هو الخيط الذي في شق نوى التمرة، يضرب به المثل في الحقارة. وقيل: هو ما يحدث بفتل الأصابع من الوسخ، كما يضرب المثل بالقطمير، وهو القشرة التي تحيط بالنواة. والنقير: هو النقرة في ظهر النواة، تنبت منها النخلة، والثلاثة مذكورة في القرآن الكريم. هذا؛ وانظر شرح:{يَوْمَ} في الآية رقم [14] وشرح:

{أُناسٍ} في الآية [60] وشرح: (كتاب) في الآية رقم [1] من سورة (الحجر).

الإعراب: {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بفعل محذوف، تقديره اذكر، أو هو مفعول به لهذا المقدر، أو هو متعلق بفعل محذوف دل عليه:{وَلا يُظْلَمُونَ} وذكر أبو البقاء، أوجها أخر، فيها بعد، وغرابة. {نَدْعُوا:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . كل: مفعول به. هذا؛ ويقرأ: «(يدعى كل)» بالبناء للمجهول ورفع (كلّ) على أنه نائب فاعله، و {كُلَّ:} مضاف، و {أُناسٍ:} مضاف إليه. {بِإِمامِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{كُلَّ أُناسٍ} والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{نَدْعُوا..} . إلخ في محل جر بإضافة يوم إليها. {فَمَنْ:} الفاء: حرف استئناف. من:

اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أُوتِيَ:} ماض مبني للمجهول مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، ونائب الفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى (من)، وهو المفعول الأول. {كِتابَهُ:} مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة. {بِيَمِينِهِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، وقد راعى لفظ (من) هنا، وراعى معناها فيما يلي. {فَأُولئِكَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له، وجملة:{يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ:} في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: جملة الشرط. وقيل: جملة الجواب. وقيل: الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين.

هذا؛ وإن اعتبرت: (من) اسما موصولا، فهي مبتدأ، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والجملة الاسمية:{فَأُولئِكَ..} . إلخ خبرها، وزيدت الفاء في خبرها لتحسين اللفظ، ولأن الموصول

ص: 381

يشبه الشرط في العموم. {وَلا:} الواو: حرف عطف. لا: نافية. {يُظْلَمُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، وهو المفعول به في الأصل. {فَتِيلاً:} صفة مفعول مطلق محذوف، التقدير: ظلما فتيلا، كما تقول: لا أظلم قليلا، ولا كثيرا. وقيل: ضمن الفعل معنى لا يتعدى لاثنين، فانتصب {فَتِيلاً} على أنه مفعول ثان، التقدير: ولا ينقصون فتيلا، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها فهي في محل رفع مثلها.

{وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72)}

الشرح: {وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى:} المراد عمى القلب، والبصيرة، لا عمى البصر، والمعنى: من كان في هذه الدنيا أعمى عن هذه النعم التي قد عددها الله في هذه الآيات المتقدمة، ولا يتفكر فيها. {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى} أي: لا يرى طريق النجاة، ولا يهتدي إليه، فهو كقوله تعالى:{وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى} وقوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ} الآية [97] الآتية. {وَأَضَلُّ سَبِيلاً} أي: أخطأ طريقا عن الهدى، والنجاة، وهذا لا ينفي: أنه يقرأ كتاب أعماله الذي يعطاه، بل يقرؤه كما رأيت في الآية رقم [14] ولكن لا يقرؤه قراءة سرور، وإنما يقرؤه، ويغتمّ بقراءته، ويقول:{يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ} وانظر الآية رقم [46] من سورة (الحج) ففيها كبير فائدة.

الإعراب: {وَمَنْ:} الواو: حرف عطف. (من): اسم شرط جازم. {كانَ:} ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط. في هذه: متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والهاء حرف تنبيه، لا محل له. {أَعْمى:} اسم {كانَ} مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. الفاء: واقعة في جواب الشرط، والجملة الاسمية: (هو

) إلخ في محل جزم جواب الشرط. {فِي الْآخِرَةِ:} متعلقان ب: {أَعْمى} بعدهما. وانظر بقية الإعراب في الآية السابقة، فهي مثلها في كل ما ذكر. هذا؛ والضمير الواقع في الجواب هو الرابط بالمبتدإ على اعتبار:

(من) موصولة، أو شرطية. {وَأَضَلُّ:} معطوف على {أَعْمى} مرفوع مثله. {سَبِيلاً:} تمييز، والجملة الاسمية:{وَمَنْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73)}

الشرح: {وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي..} . إلخ: قيل في سبب نزولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستلم الحجر الأسود، فمنعته قريش، وقالوا: لا ندعك حتى تلم بآلهتنا، وتمسها، فحدث نفسه:

ما عليّ أن أفعل ذلك، والله يعلم: أني كاره بعد أن يدعوني أستلم الحجر. وقيل: طلبوا منه أن يذكر آلهتهم بخير، ويثني عليها حتى يسلموا، ويتبعوه، فحدث نفسه، فأنزل الله هذه الآية.

ص: 382

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: قدم وفد ثقيف على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال. قال: «وما هن؟» . قالوا: لا ننحني في الصلاة، ولانكسر أصنامنا بأيدينا، وأن تمتعنا باللات سنة من غير أن نعبدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا خير في دين لا ركوع فيه، ولا سجود، وأما أن لا تكسروا أصنامكم بأيديكم، فذاك لكم، وأما الطاغية يعني: اللات، والعزى؛ فإني غير ممتعكم بها» . قالوا: يا رسول الله! إنا نحب أن تسمع العرب: أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا، فإن خشيت أن تقول العرب: أعطيتهم ما لم تعطنا؛ فقل: الله أمرني بذلك، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فطمع القوم في سكوته أن يعطيهم ذلك، فأنزل الله الآية. انتهى خازن.

أقول: وهذا يناقض ما ذكرته في مقدمة السورة: أن الآية وما بعدها ممّا نزل في المدينة.

ومعنى الآية: هموا، وأرادوا أن يصرفوك عن الذي أنزلناه إليك من القرآن، والهدى، والنور؛ لتفتري، وتختلق علينا ما لم نقله لك، ولو فعلت ما طلبوا منك؛ لاتخذوك صديقا لهم، ووالوك، وصافوك.

بعد هذا؛ أما كاد يكاد فهو فعل يدل على مقاربة الفعل بعده؛ ولذا لم تدخل عليه «أن» ؛ لأنه يخلص الفعل للاستقبال، وإذا دخل عليها حرف النفي؛ دل على: أنّ الفعل بعدها وقع، كما في قوله تعالى:{فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ} وإذا لم يدخل عليها حرف النفي؛ لم يكن الفعل بعدها واقعا، ولكنه قارب الوقوع. والفعل منهما واوي العين، ف «كاد» أصله: كود بكسر الواو كخوف، فتحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، و «يكاد» وزنه يكود، كيعلم، نقلت فتحة الواو إلى الساكن قبلها؛ لأن الحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، ثم يقال:

تحركت الواو بحسب الأصل، وانفتح ما قبلها الآن، فقلبت ألفا فصار: يكاد بوزن يخاف، ومصدره الكود، كالخوف، وهذا في كاد الناقصة، وأما كاد التامة، فهي يائية العين المفتوحة في الماضي، كباع، ومصدره الكيد كالبيع؛ ولذا جاء المضارع في القرآن مختلفا، فمن الأول: قوله تعالى: {يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ} ومن الثاني: قوله تعالى: {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} ومعنى الأول:

المقاربة، ومعنى الثاني: المكر، والأول: ناقص التصرف، ويحتاج إلى مرفوع، ومنصوب، والثاني: تام التصرف، ويكتفي بالفاعل، وينصب المفعول به.

فائدة: قد تأتي «كاد» بمعنى: أراد. قاله محب الدين الخطيب، شارح شواهد «الكشاف» ، وجعل منه قول الأفوه الأودي:[البسيط]

والبيت لا يبتنى إلاّ بأعمدة

ولا عماد إذا لم ترس أوتاد

فإن تجمّع أوتاد وأعمدة

وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا

أي: الذي أرادوا، ومنه قول الآخر:[الكامل]

كدنا وكدت، وتلك خير إرادة

لو عاد من زمن الصّبابة ما مضى

ص: 383

أي: أردنا، وأردت، دليله:«تلك خير إرادة» .

تنبيه: شاع على الألسن أن نفي (كاد) إثبات، وإثباتها نفي، ولذا ألغز المعري بقوله:[الطويل]

أنحويّ هذا العصر ما هي لفظة

جرت في لساني جرهم وثمود

إذا استعملت في صورة الجحد أثبتت

وإن أثبتت قامت مقام جحود

فأجابه الشيخ جمال الدين بن مالك صاحب الألفية بقوله: [الطويل]

نعم هي كاد المرء أن يرد الحمى

فتأتي لإثبات بنفي ورود

وفي عكسها ما كاد أن يرد الحمى

فخذ نظمها، فالعلم غير بعيد

وقد اتفقت كلمة النحاة على أنّ (كاد) كسائر الأفعال، وكلامهم متقارب المعنى في هذا الشأن ومتشابه، انظر الشاهد [1127] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» والأشموني، وغيرهما، وها أنا ذا أسوق لك ما ذكره السيوطي-رحمه الله تعالى-في كتابه:(همع الهوامع) لتكون على بصيرة من أمرك.

قال-رحمه الله تعالى-والتحقيق أنها كسائر الأفعال نفيها نفي، وإثباتها إثبات إلا أنّ معناها المقاربة، لا وقوع الفعل، فنفيها نفي لمقاربة الفعل، ويلزم منه نفي الفعل ضرورة أن من لم يقارب الفعل؛ لم يقع منه الفعل، وإثباتها إثبات لمقاربة الفعل، ولا يلزم من مقاربته وقوعه، فقولك:(كاد زيد يقوم) معناه: قارب القيام، ولم يقم، ومنه قوله تعالى:{يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ} أي: يقارب الإضاءة إلا أنه لم يضيء، وقولك:(لم يكد زيد يقوم) معناه لم يقارب القيام، فضلا عن أن يصدر منه، ومنه قوله تعالى:{إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها} أي: لم يقارب أن يراها، فضلا عن أن يرى، وقوله تعالى:{وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ} أي: لا يقارب إساغته، فضلا عن أن يسيغه. وعلى هذا الزجاجي، وغيره، وذهب قوم منهم ابن جنيّ إلى أن نفيها يدل على وقوع الفعل ببطء، لآية:{وَما كادُوا يَفْعَلُونَ} فإنهم فعلوا بعد بطء، والجواب:

أنها محمولة على وقتين؛ أي: فذبحوها بعد تكرار الأمر عليهم بذبحها، وما كادوا يذبحونها قبل ذلك، ولا قاربوا الذبح، بل أنكروا أشد الإنكار بدليل قولهم:{أَتَتَّخِذُنا هُزُواً} .

وقال ابن هشام في مغنيه: فالجواب: أنه إخبار عن حالهم في أول الأمر، فإنهم كانوا أولا بعداء عن ذبحها بدليل ما يتلى علينا من تعنتهم، وتكرار سؤالهم. انتهى. وقوله مشابه لقول السيوطي المتقدم.

الإعراب: {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. (إن): حرف مشبه بالفعل، مخفف من الثقيلة، مهمل لا عمل له. {كادُوا:} ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق.

اللام: هي الفارقة بين النفي والإثبات. (يفتنونك): مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله،

ص: 384

والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كاد)، وجملة:{وَإِنْ كادُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {عَنِ الَّذِي:} متعلقان بما قبلهما. {أَوْحَيْنا:} فعل، وفاعل والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: عن الذي، أوحيناه. {إِلَيْكَ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {لِتَفْتَرِيَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:(يفتنونك). {عَلَيْنا:} متعلقان بما قبلهما. {غَيْرَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَإِذاً:} الواو: حرف عطف. (إذا): حرف جواب وجزاء.

{لاتَّخَذُوكَ:} ماض، وفاعله، ومفعوله الأول. {خَلِيلاً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{لَيَفْتِنُونَكَ..} . إلخ، فهي في محل نصب مثلها. هذا؛ وقدر الجلال: لو فعلت ذلك لاتخذوك

إلخ. قال الجمل معلقا: إذا حرف جواب وجزاء يقدر بلو الشرطية كما فعل الشارح، وعبارة السمين:(إذا) حرف جواب وجزاء، ولهذا تقع أداة الشرط موقعها، وقوله:{لاتَّخَذُوكَ} جواب قسم محذوف، تقديره: والله لاتخذوك.

هذا؛ وقال ابن هشام في مغنيه: والأكثر أن تكون جوابا ل: «إن» ، أو «لو» مقدرتين، أو ظاهرتين، فالأول: كقول كثير عزة: [الطويل]

لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها

وأمكنني منها إذا لا أقيلها

هذا هو الشاهد رقم [19] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» ، وقول قريط بن أنيف:[البسيط]

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي

بنو اللّقيطة من ذهل بن شيبانا

إذا لقام بنصري معشر خشن

عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا

هذا هو الشاهد رقم [20] من الكتاب المذكور. هذا؛ وقال الفراء: حيث جاءت بعدها اللام، فقبلها لو مقدرة، إن لم تكن ظاهرة، وهذا هو القول الفصل. تأمل، وتدبر.

{وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74)}

الشرح: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ} أي: ولولا تثبيتنا إياك على الحق بحفظنا، ورعايتنا لك. {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ..}. إلخ: أي: لقاربت أن تميل إلى اتباع مرادهم، والمعنى: أنك كنت على صدد الركون إليهم لقوة خداعهم، وشدة احتيالهم، لكم أدركتك عنايتنا، فمنعت أن تقرب من الركون لما يريدون، فضلا عن أن تركن إليهم، وهو صريح في أنه صلى الله عليه وسلم ما همّ بإجابتهم مع قوة الداعي إليها، ودليل على أنّ العصمة بتوفيق الله، وحفظه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعد ذلك:«اللهمّ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» . وانظر مبحث (كاد) في الآية السابقة. هذا؛ وفي ركن، يركن ثلاث لغات: من باب تعب، ومن باب قعد، ومن باب فتح.

ص: 385

الإعراب: {وَلَوْلا:} الواو: حرف استئناف. (لولا): حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {ثَبَّتْناكَ:} ماض، وفاعله، ومفعوله و {أَنْ} والفعل في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ، والخبر محذوف وجوبا، التقدير: ولولا تثبيتنا موجود، والجملة الاسمية ابتدائية، وحالة محل شرط (لولا)، لا محل لها. {لَقَدْ:} اللام: واقعة في جواب (لولا). (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {كِدْتَ:} ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه، وجملة:{تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} في محل نصب خبر (كاد)، والجملة الفعلية جواب (لولا)، لا محل لها. {شَيْئاً:} نائب مفعول مطلق. {قَلِيلاً:} صفة له، و (لولا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.

{إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75)}

الشرح: المعنى. لو ركنت إليهم؛ لأذقناك مثلي عذاب الحياة في الدنيا، ومثلي عذاب الممات في الآخرة. قاله ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما. وهذا في غاية الوعيد، وإنما ضوعف العذاب على فرض ميل الرسول صلى الله عليه وسلم لما يريده المشركون؛ لأنه كلّما كان مقام العبد أعلى؛ كان عذابه عند المخالفة أعظم، انظر الآية رقم [37] من سورة (التوبة). {ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً:}

يدفع عنك العذاب.

بعد هذا انظر استعارة الذوق في الآية رقم [94] من سورة (النّحل)، وإعلال:{تَجِدُ} مثل إعلال {تَزِرُ} في الآية رقم [15] هذا؛ و «ضعف» بكسر الضاد، وسكون العين: مثل الشيء، وضعفاه: مثلاه، وأضعافه: أمثاله. هذا الأصل في «الضعف» ثم استعمل في المثل وما زاد، وليس للزيادة حد، فيقال: هذا ضعف هذا هو أي: مثله، أو مثلاه، أو ثلاثة أمثاله، وهكذا؛ لأن الضعف في الأصل زيادة غير محصورة، ألا ترى إلى قوله تعالى:{فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ} لم يرد به مثلا، ولا مثلين، وأولى الأشياء به أن يجعل عشرة أمثاله، كقوله تعالى:{مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها} فأقل الضعف محصور، وهو المثل، وأكثره غير محصور. هذا؛ ويقال: أضعفت الشيء، وضعّفته، وضاعفته، فمعناه: ضممت إليه مثله فصاعدا. وقال بعضهم:

ضاعفت أبلغ من ضعّفت، ولذا قرأ أكثرهم قوله تعالى:{يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ} {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها} .

الإعراب: {إِذاً:} حرف جواب، وجزاء مهمل لا عمل له، وهو قائم مقام «لو» .

{لَأَذَقْناكَ:} اللام: واقعة في جواب (لو) المقدرة. (أذقناك): فعل، وفاعل، ومفعول به أول.

{ضِعْفَ:} مفعول به ثان، وهو على حذف المضاف، انظر الشرح، و {ضِعْفَ:} مضاف، و {الْحَياةِ:} مضاف إليه، والجملة:{لَأَذَقْناكَ..} . إلخ جواب «لو» ، انظر التقدير في الشرح.

{ضِعْفَ:} معطوف على ما قبله، و (ضعف): مضاف، و {الْمَماتِ:} مضاف إليه. {ثُمَّ:}

ص: 386

حرف عطف. {لا:} نافية. {تَجِدُ:} مضارع، والفاعل تقديره:«أنت» . {لَكَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما مفعوله الأول. {عَلَيْنا:} متعلقان بما بعدهما. {نَصِيراً:} مفعول به ثان، وجملة:{لا تَجِدُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاّ قَلِيلاً (76)}

الشرح: قيل: إن هذه الآية مدنية حسبما رأيت في أول السورة. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: حسدت اليهود مقام النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، فقالوا: إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام فإن كنت نبيا فالحق بها، فإن خرجت إليها؛ صدقناك، وآمنا بك، فوقع ذلك في قلبه؛ لما يحب من إسلامهم، فرحل من المدينة على مرحلة فأنزل الله هذه الآية، فرجع. وقيل: إن الآية مكية. قال مجاهد، وقتادة: نزلت في همّ أهل مكة بإخراجه، ولو أخرجوه لما أمهلوا، ولكن الله أمره بالهجرة، فخرج. وهذا أصح؛ لأن السورة مكية، ولأن ما قبلها خبر عن أهل مكة، ولم يجر لليهود ذكر. انتهى. قرطبي.

بعد هذا انظر شرح (كاد) في الآية رقم [73]{لَيَسْتَفِزُّونَكَ:} ليخرجونك. وقيل: ليزعجونك بمعاداتهم. والاستفزاز: الاستخفاف، انظر الآية رقم [64]. {مِنَ الْأَرْضِ:} أرض المدينة، أو أرض مكة. {وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ:} لا يقيمون. {خِلافَكَ:} بعدك، وقرئ:«(خلفك)» وهما بمعنى:

واحد. قال الشاعر: [الكامل]

عفت الدّيار خلافهم فكأنّما

بسط الشواطب بينهنّ حصيرا

يقال: شطبت المرأة الجريد إذا شقته؛ لتعمل منه الحصر، فهو يصف ديار الأحباب بعدهم غير مكنوسة كأنها بسط فيها سعف النخل

{إِلاّ قَلِيلاً:} فيه، وجهان: أحدهما: أن المدة التي لبثوها بعده ما بين إخراجهم له من مكة إلى قتلهم يوم بدر قليلة، وهذا قول من ذكر: أنهم قريش.

الثاني: أنها المدة ما بين ذلك وقتل بني قريظة، وجلاء بني النضير. وهذا قول من ذكر: أنهم اليهود. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه، والمعنى: ولو خرجت لا يبقون بعد خروجك إلا قليلا.

الإعراب: {وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ} انظر الآية رقم [73] ففيها الكفاية.

{لِيُخْرِجُوكَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والكاف مفعول به، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْها:} متعلقان بما قبلهما. {وَإِذاً:}

الواو: حرف عطف. إذن: حرف جواب وجزاء، وهي مقدرة ب «لو» كما رأيت في الآية رقم [73] {لا:} نافية. {يَلْبَثُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {خِلافَكَ:} ظرف مكان

ص: 387

متعلق بما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {إِلاّ:} حرف حصر. {قَلِيلاً:} صفة لمصدر محذوف، أو لزمان محذوف، التقدير: إلا لبثا قليلا، أو إلا زمانا قليلا، والجملة الفعلية:{لا يَلْبَثُونَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب ل: «لو» المقدرة، و «لو» المقدرة، ومدخولها معطوف على جملة:{كادُوا..} . إلخ هذا؛ ويقرأ شاذا بنصب: «(لا يلبثوا)» على اعتبار (إذا) عاملة كما في آية النساء رقم [53]. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم. وتبقى الجملة على اعتبار الفعل منصوبا معطوفة على جملة:{كادُوا..} . إلخ.

{سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)}

الشرح: {سُنَّةَ مَنْ..} . إلخ: المعنى: أنّ كل قوم أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم، فسنة الله أن يهلكهم، وألا يعذبهم ما دام نبيهم بينهم، فالسنة لله، وإضافتها للرسل لأنها من أجلهم، ويدل عليه:{وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً} أي: تغييرا، أو تبديلا. وانظر شرح السنة في الآية رقم [13] من سورة (الحجر). وانظر شرح الرسل في الآية رقم [38] من سورة (الرعد)، ومثل هذه الآية في معناها ومغزاها قوله تعالى في الآية رقم [62] من سورة (الأحزاب)، وهاكها:

{سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً} .

الإعراب: {سُنَّةَ:} مفعول مطلق لفعل محذوف؛ أي: سن الله ذلك سنة. وقال الفراء:

منصوب بنزع الخافض، وأصل الكلام: يعذبون كسنة من قد أرسلنا، فلما سقط الخافض عمل الفعل فيه. وقيل: هو مفعول به بفعل محذوف، تقديره: اتبع سنة، و {سُنَّةَ:} مضاف، و {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: سنة الذين قد أرسلناهم. {قَبْلَكَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {مِنْ رُسُلِنا:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب المحذوف، و {مَنْ} بيان لما أبهم في {مَنْ} و (نا): في محل جر بالإضافة. {وَلا:}

الواو: حرف عطف. لا: نافية. {تَجِدُ:} مضارع، والفاعل تقديره:«أنت» . {لِسُنَّتِنا:}

متعلقان بما بعدهما، و (نا): في محل جر بالإضافة. {تَحْوِيلاً:} مفعول به، وجملة:{وَلا تَجِدُ..} . إلخ معطوفة على الجملة المقدرة، واعتبارها حالا من (نا)، أو من الكاف أقوى معنى، والرابط على الاعتبارين هو: الواو، والضمير.

{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78)}

الشرح: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أي: لزوالها، ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت، فصلى بي الظهر» . وقيل: لغروبها، وأصل التركيب

ص: 388

للانتقال، ومنه الدلك، فإن الدالك لا تستقر يده، وكذا كل ما تركب من الدال واللام: دلج، ودلف، ودلع، ودله. وقيل: الدلوك من الدلك؛ لأن الناظر إلى الشمس يدلك عينيه ليدفع شعاعها، واللام للتأقيت، مثلها: لثلاث خلون. انتهى. بيضاوي، وهذا يعني: أن اللام بمعنى:

«عند» أو «بعد» .

القائل: إن الدلوك هو الزوال ابن عباس، وابن عمر-رضي الله عنهما-والقائل: إنه الغروب ابن مسعود-رضي الله عنه، وهو قول النخعي، ومقاتل، والضحاك، والسدي. {إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ} أي: ظهور ظلمته. وقال ابن عباس: بدو الليل، وهذا يتناول المغرب، والعشاء.

{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} أي: صلاة الفجر سمى الله الصلاة قرآنا؛ لأنها لا تجوز إلا بقرآن، كما سميت: ركوعا، وسجودا؛ لأنها لا تصح بدونهما. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [110] الآتية.

{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً} أي: يشهده ملائكة الليل، وملائكة النهار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تفضل صلاة الجمع (الجماعة) صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءا، وتجتمع ملائكة الليل، وملائكة النهار في صلاة الفجر» .

ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً} فيا خيبة المهملين لصلاة الفجر، والعشاء في الجماعة، كيف لا؟ وهما أثقل صلاة على المنافقين. وانظر الآية رقم [12] من سورة (الرعد) تجد ما يسرك إن كنت من أهل الإيمان، وتجد ما يسوؤك إن كنت من أهل النفاق. وانظر شرح:{أَقِمِ الصَّلاةَ} في الآية رقم [114] من سورة (هود) عليه السلام، وشرح القرآن في الآية رقم [1] من سورة (الحجر).

الإعراب: {أَقِمِ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {الصَّلاةَ:} مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {لِدُلُوكِ:} متعلقان بما قبلهما، و (دلوك): مضاف، و {الشَّمْسِ:}

مضاف إليه. {إِلى غَسَقِ:} متعلقان بالفعل {أَقِمِ،} أو هما متعلقان بمحذوف حال من {الصَّلاةَ؛} أي: ممتدة إلى غسق، وهو مضاف، و {اللَّيْلِ:} مضاف إليه. {قُرْآنَ:} فيه ثلاثة، أوجه:

أحدها: عطفه على {الصَّلاةَ} والثاني: نصبه على الإغراء بفعل محذوف؛ أي: الزم قرآن، والثالث: نصبه بفعل محذوف؛ أي: أقم قرآن، وهو مضاف، و {الْفَجْرِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً} تعليل للأمر، والإعراب واضح إن شاء الله تعالى.

{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79)}

الشرح: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ:} الضمير يعود إلى (القرآن)، أو إلى {اللَّيْلِ} والتهجد: من الهجود، وهو من الأضداد، يقال: هجد: نام، وهجد: سهر على الضد. قال الشاعر: [الوافر]

ألا زارت وأهل منى هجود

وليت خيالها بمنى يعود

ص: 389

أي: نيام، وهجد، وتهجد بمعنى: واحد، وهجدته: أي: أنمته، وهجدته: أي: أيقظته، والتهجد: التيقظ بعد رقدة، فصار اسما للصلاة، لأنه ينتبه لها، فالتهجد: القيام إلى الصلاة من النوم. انتهى. قرطبي. وهو ما في كتب اللغة. {نافِلَةً لَكَ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى:

فريضة زائدة على الصلوات الخمس. وقيل: معناه: كرامة. وقيل: عطية لك. هذا؛ والنافلة:

العطية بدون مقابل، كأنها مغنم، ومن هذا قوله سبحانه وتعالى ممتنا على إبراهيم-عليه الصلاة والسلام:{وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً} والنفل: الزيادة، ومنه: نفل الصلاة، والصوم، والحج، والصدقة: الذي يفعله المسلم زيادة على المكتوبات، وجمع النافلة: نافلات، ونوافل، والأنفال: الغنائم التي يكسبها المسلمون من أعدائهم بالحرب، كما في سورة (الأنفال).

{عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ..} . إلخ: اتفق المفسرون على أنّ كلمة «عسى» من الله تدخل فيما هو قطعي الوقوع؛ لأن لفظ عسى يفيد الإطماع، ومن أطمع إنسانا في شيء، ثم حرمه، كان عارا عليه، والله أكرم من أن يطمع أحدا، ثم لا يعطيه ما أطمعه فيه. هذا؛ وقد أجمع المفسرون على أنّ المراد بالمقام المحمود الشفاعة، لأنه أطمعه فيه الأولون، والآخرون، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«هو المقام الّذي أشفع فيه لأمّتي» . رواه الترمذي. وعنه أيضا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ لكلّ نبيّ دعوة مستجابة، وإنّي اختبأت دعوتي شفاعة لأمّتي، فهي نائلة منكم، إن شاء الله، من مات لا يشرك بالله شيئا» . متفق عليه. هذا؛ وحديث الشفاعة مشهور مسطور في أمهات كتب الحديث.

تنبيه: قد رأيت أن التهجد قد صار اسما للصلاة بعد النوم، وأما الصلاة في الليل قبل النوم فلا تسمى تهجدا، وإنما تسمى: قيام الليل، وعليه فمن نام بعد المغرب؛ فصلاته كلها تسمى تهجدا سواء أكانت فرضا، أو نفلا. هذا؛ وقد كانت صلاة الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى جميع الأمة في ابتداء الإسلام، ثم نسخ الوجوب على الأمة بالصلوات الخمس، وبقي على الاستحباب والتطوع، وبقي الوجوب ثابتا في حقه صلى الله عليه وسلم، لما روي عن عائشة-رضي الله عنها:

أن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: «ثلاث هنّ عليّ فريضة وهي سنّة لكم: الوتر، والسّواك، وقيام اللّيل» .

وقيل: إن الوجوب صار منسوخا في حقه؛ كما في حق الأمة، فصار قيام الليل نافلة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: نافلة لك، ولم يقل: عليك.

هذا؛ وقد ورد أحاديث كثيرة شهيرة ترغب في قيام الليل، أذكر منها ما يلي: عن أبي مالك الأشعري-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدّها الله لمن أطعم الطعام، وأفشى السّلام، وصلّى في اللّيل، والناس نيام» . رواه ابن حبان.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كلّ عقدة: عليك ليل طويل، فارقد، فإن استيقظ،

ص: 390

فذكر الله؛ انحلّت عقدة، فإن توضّأ؛ انحلّت عقدة، فإن صلّى؛ انحلت عقدة، فأصبح نشيطا طيب النّفس، وإلاّ أصبح خبيث النفس كسلان». متفق عليه.

وعنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله يبغض كلّ جعظريّ جوّاظ، صخّاب في الأسواق، جيفة باللّيل، حمار بالنّهار، عالم بأمر الدّنيا، جاهل بأمر الآخرة» . رواه ابن حبان في صحيحه. هذا؛ والجعظريّ: الشديد الغليظ، والجوّاظ: الأكول، والصّخّاب: الصّيّاح.

وانظر ما ذكرته في الآية رقم [64] من سورة (الفرقان) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، والله الموفق، والمعين، وبه استعين.

الإعراب: {وَمِنَ:} الواو: حرف عطف. {(مِنَ اللَّيْلِ):} متعلقان بالفعل بعدهما، أو هما متعلقان بفعل محذوف، تقديره: قم، فعلى الأول: الفاء زائدة، وعلى الثاني: عاطفة جملة: (تهجد) على المقدرة، والكلام معطوف على جملة:{أَقِمِ الصَّلاةَ} لا محل لها مثلها. {بِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {نافِلَةً:} فيه أوجه: أحدها: هو مفعول به للفعل قبله وهذا على تضمين (تهجد) معنى فعل متعد. والثاني: هو مفعول مطلق، والمعنى: فتنفل نافلة، والنافلة مصدر كالعاقبة، والعافية، والثالث: هو حال، والمعنى: فصلّ حال كون الصلاة نافلة. {لَكَ:} متعلقان ب: {نافِلَةً} أو بمحذوف صفة له. {عَسى:} البت في إعرابه يتوقف على إعراب: {مَقاماً} فإن فيه أربعة أوجه:

أحدها هو ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والثاني: هو مفعول مطلق، عامله ما قبله؛ لأنه في معنى يقيمك، فهو مثل:«قعد جلوسا» . الثالث: هو حال؛ أي: يبعثك ذا مقام محمود. الرابع: هو مفعول مطلق مؤكد لعامله المحذوف؛ أي: فتقوم مقاما؛ أي: هو مصدر ميمي، و {عَسى} على الأوجه الثلاثة دون الرابع يتعين فيها أن تكون تامة، ويكون فاعلها المصدر المؤول من:{أَنْ يَبْعَثَكَ،} ولا يجوز أن تكون ناقصة على أن يكون المصدر المؤول خبرا مقدما، و {رَبُّكَ} اسما مؤخرا، للفصل بأجنبي بين صلة الموصول، ومعمولها، فإن {مَقاماً} على الأوجه الثلاثة الأول: منصوب ب:

{يَبْعَثَكَ} وهو صلة ل: {أَنْ،} فإذا جعلت {رَبُّكَ} اسمها كان أجنبيا من الصلة، فلا يفصل به، وإذا جعلته فاعلا لم يكن أجنبيا، فلا يبالى بالفصل به، وأما على الوجه الرابع، فيجوز أن تكون {عَسى} التامة، والناقصة بالتقديم والتأخير لعدم المحظور المذكور؛ لأن {مَقاماً} معمول لغير الصلة، وهذا من محاسن صناعة النحو. انتهى. بتصرف من الجمل نقلا عن السمين؛ علما بأن ابن هشام لم يجوز إلا التمام. {مَحْمُوداً:} صفة مقاما، وجملة:{عَسى..} . إلخ تعليل لطلب التهجد.

{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاِجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80)}

الشرح: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي..} . إلخ: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: معناه: أدخلني مدخل صدق المدينة، وأخرجني مخرج صدق من مكة. نزلت حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة،

ص: 391

ومن المعلوم: أن إدخاله المدينة بعد إخراجه من مكة، وإنما قدمه عليه اهتماما بشأنه، ولأنه هو المقصود له. هذا؛ وقيل: المعنى: أدخلني في القبر مدخل صدق، وأخرجني منه يوم القيامة مخرج صدق، واستحسنه قائله ليتصل بالكلام السابق، كأنه لما وعده ذلك أمره أن يدعو لينجز له ما وعده. وقيل: معناه: أخرجني من مكة آمنا من المشركين، وأدخلني مكة ظاهرا عليها بالفتح المبين. وقيل: أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوة مدخل صدق، وأخرجني من الدنيا، -وقد قمت بما وجب علي من حق النبوة-مخرج صدق. وقيل: معناه: ادخلني في طاعتك مدخل صدق، وأخرجني من المناهي مخرج صدق. وقيل: غير ذلك، والمعتمد الأول. هذا؛ و {مُدْخَلَ} بضم الميم من الرباعي، وبفتحها من الثلاثي، فعلى الأول: هو مصدر على صورة اسم المفعول، وكثيرا ما يرد المصدر كذلك، نحو قوله تعالى:{بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها} ويحتمل أن يكون اسم مكان، وعلى الثاني: هو اسم مكان، ويحتمل أن يكون مصدرا أيضا.

{وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً} أي: حجة بينة. وقيل: ملكا قويا تنصرني به على من عاداني، أو عزّا ظاهرا، أقيم به دينك، فوعده الله تعالى: لينزعن ملك فارس، والروم، وغيرهما، ويجعله له، وأجاب دعاءه. وقال له:{وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ} وقال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} .

بعد هذا انظر شرح (ربكم) في الآية رقم [8] وشرح (سلطان) في الآية رقم [99] من سورة (النحل)، أما (لدن) فهي بمعنى: عند، وفيها إحدى عشرة لغة، أفصحها: إثبات النون ساكنة، وهي لغة القرآن الكريم، وهي بجميع لغاتها، معناها: أول غاية زمان، أو مكان، وقلما تفارقها «من» الجارة لها، فإذا أضيفت إلى الجملة تمحضت للزمان؛ لأن ظروف المكان لا يضاف منها إلى الجملة إلا «حيث» ويجوز تصدير الجملة بحرف مصدري لمّا لم يتمحض «لدن» في الأصل للزمان، وإذا أضيفت للضمير وجب إثبات النون؛ لأنه لا يقال: لده، ولا لدك.

الإعراب: {وَقُلْ:} الواو: حرف عطف. (قل): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» .

{رَبِّ:} منادى حذف منه أداة النداء. وانظر بقية الإعراب في الآية رقم [35] من سورة (إبراهيم) عليه السلام، {أَدْخِلْنِي:} فعل دعاء، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والنون للوقاية، ويا المتكلم مفعول به. {مُدْخَلَ:} هو مفعول مطلق، أو هو ظرف مكان متعلق بالفعل قبله انظر الشرح، وهو مضاف، و {صِدْقٍ:} مضاف إليه، من إضافة الموصوف لصفته، وجملة:{وَأَخْرِجْنِي..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، وهي مثلها في إعرابها، والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقُلْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {وَاجْعَلْ:} أمر، وفاعله:

أنت. {لِي:} متعلقان به، وهما في محل نصب مفعول به ثان له. {مِنْ لَدُنْكَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {سُلْطاناً} كان صفة له، فلما قدم عليه صار

ص: 392

حالا

إلخ، و (لدن) مبني على السكون في محل جر، والكاف في محل جر بالإضافة.

{سُلْطاناً:} مفعول به أول. {نَصِيراً:} صفة له، وجملة:{وَاجْعَلْ لِي..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا.

{وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81)}

الشرح: {وَقُلْ:} هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {جاءَ الْحَقُّ} أي: الإسلام، والقرآن. {وَزَهَقَ الْباطِلُ:} ذهب، وهلك الباطل بجميع أنواعه وصنوفه، من: زهقت روحه: إذا خرجت بصعوبة، كما في قوله تعالى:{وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ} والفعل من باب: فتح، وقد يأتي من باب:

فرح. {إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً} أي: مضمحلا غير ثابت، وذلك: أن الباطل؛ وإن كان له دولة، وصولة في وقت من الأوقات؛ فهو سريع الذهاب والزوال.

فعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بعود في يده، ويقول:{جاءَ الْحَقُّ..} . إلخ، {جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ} . متفق عليه، يقال: إنها كانت مثبتة بالرصاص، وأنه كلما طعن منها صنما في وجهه خر لقفاه، أو في قفاه خر لوجهه، ويقرأ الآية، ثم أمر بها، فكسرت.

وكان قد بقي منها صنم خزاعة فوق الكعبة، وكان من قوارير صفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه:«يا علي! ارم به» . فصعد، فرمى به، فكسره، وقد حقق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده.

تنبيه: في الآية الكريمة فن من فنون البلاغة يسمى فن التذييل، وهو أن يذيل الناظم، والناثر كلامه بعد تمامه، وحسن السكوت عليه بجملة تحقق ما قبلها من الكلام، وتزيده توكيدا وتجري منه مجرى المثل لزيادة التحقيق، فالجملة الأخيرة هي التذييل الذي خرج مخرج المثل السائر، ومن شواهده في النظم قول الحطيئة:[الطويل]

تزور امرأ يعطي على الحمد ماله

ومن يعط أثمان المحامد يحمد

فالشطر الثاني: من البيت مثل من الأمثال السائرة، وهذا التذييل نوع من أنواع الإطناب التي تذكر في مبحث المعاني، انظر كتاب القواعد بشرحنا وتحقيقنا، والله الموفق، والمعين، وبه أستعين.

بعد هذا بالإضافة لما رأيت من تفسير الباطل انظر الآية رقم [72] من سورة (النحل). وانظر القول في الآية رقم [16] وشرح {جاءَ} في الآية رقم [5] أما {الْحَقُّ} فهو ضد الباطل. قال الراغب: أصل «الحق» المطابقة، والموافقة كمطابقة رجل الباب في حقّه لدورانه على الاستقامة، و «الحق» يقال لموجد الشيء بحسب ما تقتضيه الحكمة، ولذلك قيل في الله تعالى:

ص: 393

هو الحق، وللموجود بحسب مقتضى الحكمة؛ ولذلك يقال: فعل الله كله حق، نحو الموت والحساب

إلخ، وللاعتقاد في الشيء المطابق لما عليه ذلك الشيء في نفسه، نحو اعتقاد زيد في الجنة حق، وللفعل، والقول الواقعين بحسب ما يجب، وقدّر ما يجب في الوقت الذي يجب، نحو: قولك حق. ورأيك حق، ويقال: أحققت ذا؛ أي: أثبته حقا، أو حكمت بكونه حقا. انتهى. بغدادي. وانظر:{كانَ} في الآية رقم [30].

الإعراب: {وَقُلْ:} الواو: حرف عطف. (قل): أمر، وفاعله: أنت. وجملة: {جاءَ الْحَقُّ} في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَزَهَقَ الْباطِلُ} معطوفة عليها، والجملة الاسمية:{إِنَّ الْباطِلَ..} . إلخ تعليلية، وهي في محل نصب مقول القول، وإعرابها واضح إن شاء الله تعالى، وجملة:{وَقُلْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظّالِمِينَ إِلاّ خَساراً (82)}

الشرح: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ} أي: بيان من الضلالة، والجهالة، يتبين به المختلف فيه، ويتضح المشكل، وهو شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها. وقيل: هو شفاء للأمراض الباطنة، والظاهرة، فالأولى: الاعتقادات الباطلة، والثانية: الأخلاق المذمومة، وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية، فلأن التبرك بقراءته يدفع كثيرا من الأمراض، يدل عليه ما روي من قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد الخدري في فاتحة الكتاب التي قرأها على اللديغ:«وما يدريك أنّها رقية؟» . وعن أبي أمامة-رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ينفع بإذن الله تعالى من البرص، والجنون، والجذام، والبطن، والسّل، والحمّى، والنّفس أن تكتب بزعفران، أو بمشق (المغرة) أعوذ بكلمات الله التامّة، وأسمائه كلّها عامّة، من شرّ السّامّة والغامّة، ومن شرّ العين اللاّمّة، ومن شرّ حاسد إذا حسد، ومن أبي فروة وما ولد» . وهي كنية إبليس.

{وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ:} فيه بالإضافة لما ذكر: تفريج الكروب، وتطهير العيوب، وتكفير الذنوب مع ما تفضل الله به من الثواب في تلاوته، كما روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفا من كتاب الله، فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، بل ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» .

{وَلا يَزِيدُ الظّالِمِينَ إِلاّ خَساراً:} لأن الظالم لا ينتفع به، فكان خسارة له، والمؤمن ينتفع به فكان رحمة له. قال قتادة-رحمه الله تعالى: لم يجالس القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة، أو نقصان، قضاه الله الذي قضى شفاء ورحمة للمؤمنين، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا، ونظير هذه الآية قوله تعالى:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} الآية رقم [44] من سورة (فصلت).

ص: 394

الإعراب: {وَنُنَزِّلُ:} الواو: حرف استئناف. (ننزل): مضارع، والفاعل مستتر تقديره:

«نحن» . {مِنَ الْقُرْآنِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: حال، ولا وجه له. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الاسمية:{هُوَ شِفاءٌ} صلة الموصول، لا محل لها. {وَرَحْمَةٌ:} معطوف على {شِفاءٌ،} وقرئ بالنصب عطفا على الموصول. {لِلْمُؤْمِنِينَ:} متعلقان ب: (رحمة) أو بمحذوف صفة لها، أو هما متعلقان ب:

{شِفاءٌ} على التنازع، وجملة:{وَنُنَزِّلُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {يَزِيدُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {الْقُرْآنِ}. {الظّالِمِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {إِلاّ:} حرف حصر. {خَساراً:} مفعول به ثان، وجملة:{وَلا يَزِيدُ..} .

إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، واعتبارها حالا من القرآن ممكن، وعليه فالرابط:

الواو، ورجوع الفاعل إليه.

{وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83)}

الشرح: {وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ} أي: بالصحة، والمال، والولد ونحو ذلك من منصب

إلخ. {أَعْرَضَ} أي: عن ذكرنا، ودعائنا، وطاعتنا. {وَنَأى بِجانِبِهِ} أي: تباعد منا. وقيل: تكبر، وتعظم. وانظر الآية رقم [9] من سورة (الحج) .. {وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ} أي: المرض، والفقر، والضر، ونحو ذلك. {كانَ يَؤُساً} أي: قانطا من رحمتنا، والمراد: ب: {الْإِنْسانِ} الكافر، والفاجر، والملحد الذي لا يزيده القرآن إلا خسارا.

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف. (إذا): انظر الآية رقم [67] وجملة: {أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ} في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح، وجملة:{أَعْرَضَ} مع المتعلق المحذوف جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له، وجملة:

{وَنَأى بِجانِبِهِ} معطوفة على جواب (إذا) لا محل لها مثلها. {مَسَّهُ الشَّرُّ:} ماض، ومفعوله، وفاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها

إلخ. {كانَ:} ماض ناقص، واسمه يعود إلى {الْإِنْسانِ}. {يَؤُساً:} خبر {كانَ،} وجملة: {كانَ..} . إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله لا محل له مثله.

{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84)}

الشرح: {قُلْ كُلٌّ} أي: كل واحد من الناس. {يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ:} على طريقته، ومذهبه الذي جبل عليه، أو هو يعمل على حسب جوهر نفسه، فإن كانت نفسه طيبة طاهرة؛

ص: 395

صدرت عنه أفعال جميلة، وأخلاق كريمة عالية، وإن كانت نفسه خبيثة؛ صدرت عنه أفعال خبيثة فاسدة رديئة. هذا؛ وقد فسرت الشاكلة بالطبيعة، والعادة، والدين، وفسر الشكل بالمثل، والنظير، كقوله تعالى:{وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ} .

{فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ..} . إلخ: أي: أوضح طريقا، وأحسن مذهبا، واتباعا للحق. وانظر شرح (ربكم) في الآية رقم [8] وشرح {سَبِيلاً} في الآية رقم [42] و {أَعْلَمُ} ليس على بابه، بل هو بمعنى: عالم.

الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {كُلٌّ:} مبتدأ. {يَعْمَلُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى كل واحد. {عَلى شاكِلَتِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{كُلٌّ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَرَبُّكُمْ:} الفاء: حرف عطف.

(ربكم): مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.

{أَعْلَمُ:} خبره. {بِمَنْ:} متعلقان ب: {أَعْلَمُ} و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بالباء. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ.

{أَهْدى:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، وفاعله، وفاعل {أَعْلَمُ} ضمير مستتر وجوبا تقديره:«هو» . {سَبِيلاً:} تمييز، والجملة الاسمية:{هُوَ..} . إلخ صلة (من)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير، والجملة الاسمية:{فَرَبُّكُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. وإن اعتبرتها مستأنفة فلا محل لها.

{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً (85)}

الشرح: {وَيَسْئَلُونَكَ:} أرجئ الكلام على السائلين إلى الآية رقم [23] من سورة (الكهف).

{عَنِ الرُّوحِ:} لقد اختلف في الروح هنا، فقيل: المراد: جبريل عليه السلام. وقيل: ملك عظيم الخلق، والشّكل. وقيل: جند من جنود الله، والمعتمد: أن المراد: الروح التي يكون بها حياة الجسد، فقد سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية الروح، ومسلكها في بدن الإنسان، وكيفية امتزاجها بالجسم، واتصال الحياة بها، وهذا شيء لا يعلمه إلا الله عز وجل. انظر ما ذكرته في الآية رقم [53] من سورة (يوسف) عليه السلام عن الروح، والنفس، والعقل، ولا تنس: أن الروح يطلق على القرآن الكريم؛ لأن به حياة القلوب. قال تعالى: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا} الآية [52] من سورة (الشورى). وهذا يفيد أيضا: أن الروح تذكر، وتؤنث.

{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي: من علم ربي الذي استأثر به، ولم يطلع عليه أحدا من خلقه؛ ليعرف الإنسان عجزه عن علم حقيقة نفسه مع العلم بوجودها في جسده. {وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ}

ص: 396

قَلِيلاً أي: مهما تعلمتم؛ فعلمكم بجانب علم الله تعالى قليل، بل هو طفيف لا قيمة له، والمراد: بذلك العالم كله. روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال لليهود ذلك. قالوا: نحن مختصون بهذا الخطاب؟ فقال: «بل نحن، وأنتم» . فقالوا: ما أعجب شأنك! ساعة تقول: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} الآية [268] من سورة (البقرة) وساعة تقول: هذا فنزل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ} الآية رقم [27] من سورة (لقمان). وما قالوه دليل على سوء فهمهم؛ لأن الحكمة الإنسانية أن يعلم العبد من الخير، والحق ما تسعه الطاقة البشرية، بل ما ينتظم به معاشه، ومعاده، وهو بالإضافة إلى معلومات الله التي لا نهاية لها قليل، ينال به خير الدارين، وهو بالإضافة إليه كثير. انتهى. بيضاوي بتصرف. وأخيرا أقول: إن السؤال في هذه الآية سؤال تعنت، وامتحان، بخلافه في أول سورة (الأنفال)، فإنه سؤال استفهام، واستفتاء.

الإعراب: {وَيَسْئَلُونَكَ:} الواو: حرف عطف. (يسألونك): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله، والكاف مفعول به. {عَنِ الرُّوحِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني؛ لأن الفعل:«سأل» تارة يكون لاقتضاء معنى في نفس المسئول، فيتعدى للثاني ب:«عن» كهذه الآية، وقد يكون لاقتضاء مال، ونحوه، فيتعدى لاثنين صريحين، نحو: سألت زيدا مالا، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة؛ إذ التقدير:

سألوك كثيرا، ويسألونك عن الروح، والكلام كله مستأنف، لا محل له. {قُلِ:} أمر، وفاعله:

أنت. {الرُّوحِ:} مبتدأ. {مِنْ أَمْرِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و {أَمْرِ:} مضاف، و {رَبِّي:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم

إلخ، والإضافة من إضافة المصدر لفاعله، والياء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:

{الرُّوحِ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلِ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {أُوتِيتُمْ:} ماض مبني للمجهول مبني على السكون، والتاء نائب فاعله، وهو المفعول الأول. {مِنَ الْعِلْمِ:} متعلقان بما قبلهما. إلا:

حرف حصر. {قَلِيلاً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية مستأنفة، وهي في محل نصب مقول القول، وفي الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب، وقرئ «(وما، أوتوا)» فلا يكون التفات في الكلام. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86)}

الشرح: معنى الآية: إن شئنا ذهبنا بالقرآن الذي أوحيناه إليك، ومحوناه من الصدور والمصاحف، فلم نترك له أثرا، وبقيت كما كنت ما تدري ما الكتاب، ثم لا تجد بعد ذهابنا به من يتوكل علينا باسترداده عليك مسطورا محفوظا.

ص: 397

الإعراب: {وَلَئِنْ شِئْنا:} إعراب هذه الجملة مثل إعراب: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ} في الآية رقم [62] بلا فارق. {لَنَذْهَبَنَّ:} اللام: واقعة في جواب القسم. (نذهبن): مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، والفاعل مستتر وجوبا تقديره:«نحن» .

{بِالَّذِي} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف؛ إذ التقدير:

بالذي أوحيناه إليك، وجملة:{لَنَذْهَبَنَّ..} . إلخ جواب القسم. وانظر بقية الكلام في الآية رقم [62]. {ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ..} . إلخ إعراب هذا الكلام مثل إعراب: {ثُمَّ لا تَجِدُوا..} . إلخ في الآية رقم [69] بلا فارق بينهما، والجملة الفعلية هنا معطوفة على جواب القسم لا محل لها مثله، مع ملاحظة أن الفعل هنا مرفوع، وهناك منصوب.

{إِلاّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87)}

الشرح: {إِلاّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ:} المعنى: إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك بعد أخذه منك.

أو المعنى: لكن رحمة ربك تركته غير مذهوب به. وهذا امتنان من الله ببقاء القرآن مسطورا، أو محفوظا في الصدور. {إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً:} إذ جعلك سيد ولد آدم، وأعطاك المقام المحمود، وختم بك النبيين، وأنزل عليك يا محمد هذا الكتاب المبين.

تنبيه: المراد بذهاب القرآن: محو ما في المصاحف، وإذهاب ما في الصدور. قال عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة، وأن هذا القرآن كأنه قد نزع منكم، تصبحون وما معكم منه شيء. فقال رجل: كيف يكون ذلك يا أبا عبد الرحمن، وقد ثبتناه في قلوبنا، وأثبتناه في مصاحفنا، نعلمه أبناءنا، ويعلمه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: يسرى به في ليلة، فيذهب بما في المصاحف، وما في القلوب، فتصبح الناس كالبهائم، ثم قرأ:{وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ..} . إلخ. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث نزل، له دوي كدويّ النّحل، فيقول الله: ما بالك؟ فيقول: يا رب منك خرجت، وإليك أعود، أتلى، فلا يعمل بي.

وقد جاء معنى ما تقدم مرفوعا من حديث عبد الله بن عمرو، وحذيفة-رضي الله عنهما.

قال حذيفة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، فيسرى على كتاب الله تعالى في ليلة، فلا يبقى منه في الأرض آية، وتبقى طوائف من الناس، الشيخ الكبير، والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: «لا إله إلا الله» وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة». قال له صلة بن زفر العبسي: ما تغني عنهم «لا إله إلا الله» وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، ثم رددها ثلاثا، كلّ ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم

ص: 398

أقبل عليه، فقال:«يا صلة تنجيهم من النار ثلاثا» . خرجه ابن ماجة في السنن. انتهى قرطبي.

والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {إِلاّ:} أداة استثناء. {رَحْمَةً:} مستثنى، وهل الاستثناء متصل، أو منقطع؟ انظر الشرح. {مِنْ رَبِّكَ:} متعلقان ب: {رَحْمَةً} أو بمحذوف صفة لها، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه

{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل.

{فَضْلَهُ:} اسم {إِنَّ،} والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {كانَ:}

ماض ناقص، واسمه مستتر فيه. {عَلَيْكَ:} متعلقان بما بعدهما. {كَبِيراً:} خبر {كانَ،} وجملة: {كانَ..} . إلخ في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية تعليلية، أو مستأنفة، لا محل لها. هذا؛ وقد قال أبو البقاء:{إِلاّ رَحْمَةً} هو مفعول له، والتقدير: حفظناه عليك للرحمة. ويجوز أن يكون مصدرا، تقديره: لكن رحمناك رحمة. انتهى. والمعنى لا يأبى الاعتبارين. تأمل.

{قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88)}

الشرح: نزلت الآية الكريمة حين قال المشركون ما ذكره الله عنهم: {لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا} فكذبهم الله عز وجل، فالقرآن معجز في النظم، والتأليف، والإخبار عن الغيوب، وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة، لا يشبه كلام الخلق؛ لأنه كلام الخالق، وهو غير مخلوق، ولو كان مخلوقا لأتوا بمثله. انتهى. خازن.

أقول: وفي الآية دليل قاطع على عجز الإنس، والجن عن الإتيان بمثل هذا القرآن، كيف لا؟ ولو قدروا لأتوا بمثله مع تطاول الأعوام، والسنين، وكيف يأتون بمثله، وقد تحداهم أن يأتوا بسورة واحدة من مثله، ولو بالاستعانة بأصنامهم، وآلهتهم التي يدعونها من دون الله، بعد هذا انظر ما ذكرته في الآية رقم [38] من سورة (يونس) عليه السلام تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، والله الموفق.

هذا؛ و {الْإِنْسُ} البشر، الواحد: إنسي بكسر الهمزة فيهما، وجمع الإنسي: أناس كما في الآية رقم [71] وأناسيّ. قال تعالى: {وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً} الآية رقم [49] من سورة (الفرقان) ويقال أيضا: أناسية، مثل:

صيارفة، وصياقلة. هذا؛ وسمي بنو آدم إنسا لظهورهم، وأنهم يؤنسون؛ أي: يبصرون، كما سمي الجن جنا؛ لاجتنانهم؛ أي: لاختفائهم عن أعين البشر، وسمي بنو آدم بشرا لبدو بشرتهم، كما رأيت في الآية رقم [103] من سورة (النحل). وانظر شرح (الإنسان) في الآية رقم [11].

ص: 399

الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لَئِنِ:} اللام: موطئة للقسم، (إن):

حرف شرط جازم. {اِجْتَمَعَتِ:} ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والتاء للتأنيث حرف لا محل له. {الْإِنْسُ:} فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {وَالْجِنُّ:} معطوف على ما قبله. {عَلى:} حرف جر. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {يَأْتُوا:} مضارع منصوب ب: {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، و {أَنْ} والمضارع في تأويل مصدر في محل جر ب:{عَلى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة؛ أي: متعاونين، متظاهرين، وهو ضعيف معنى. تأمل. {بِمِثْلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (مثل) مضاف، و {هذَا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة. والهاء حرف تنبيه لا محل له.

{الْقُرْآنِ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه. {لا:} نافية. {يَأْتُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {بِمِثْلِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{لا يَأْتُونَ..} . إلخ جواب القسم المقدر لا محل لها، وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه انظر الآية رقم [62] والكلام:{لَئِنِ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:

{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَلَوْ:} الواو: واو الحال. (لو): وصلية. {كانَ:} ماض ناقص. {بَعْضُهُمْ:} اسم {كانَ،} والهاء في محل جر بالإضافة. {لِبَعْضٍ:} متعلقان بما بعدهما.

{ظَهِيراً:} خبر كان، والجملة:{وَلَوْ كانَ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير. هذا؛ وإن اعتبرت (لو) شرطية امتناعية، فجملة:{كانَ..} . إلخ شرطها، وجوابها محذوف دل عليه ما قبله، التقدير: ولو كان

إلخ لا يأتون بمثله.

{وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النّاسِ إِلاّ كُفُوراً (89)}

الشرح: {وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ:} هو مثل الآية رقم [41] بلا فارق بينهما. {فَأَبى أَكْثَرُ النّاسِ إِلاّ كُفُوراً:} إلا جحودا ودفعا للحق. قيل: المراد أهل مكة، والأولى أن يكون المراد كل من كفر بالقرآن. وانظر شرح «الناس» في الآية رقم [60]، و (أبى) من الإباء، وهو الامتناع، أو أشده، وإباء الله قضاؤه ألا يكون الأمر، أو عدم قضائه أن يكون. قال تعالى:

{وَيَأْبَى اللهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} هذا؛ ويكون الفعل متعديا إذا كان بمعنى: كره، ولازما إن كان بمعنى: امتنع، وهذا الفعل يتضمن النفي والإيجاب؛ لأنه بمعنى: لا يقبل إلا

إلخ.

الإعراب: {وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ} انظر الآية رقم [41] ففيها الكفاية. {مِنْ كُلِّ:}

متعلقان بمحذوف صفة لمحذوف يقع مفعولا به، التقدير: صرفنا

مثلا من جنس كل مثل.

هذا؛ وقيل: {مِنْ} زائدة و {كُلِّ} مفعول به، وهو جائز على مذهب الكوفيين والأخفش؛ الذين

ص: 400

يجيزون زيادة «من» في الإثبات، والكلام:{وَلَقَدْ..} . إلخ مستأنف، لا محل له. {فَأَبى:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {أَكْثَرُ:} فاعله، وهو مضاف، و {النّاسِ:} مضاف إليه. {إِلاّ:} حرف حصر. {كُفُوراً:} مفعول به، والجملة:{فَأَبى..} . إلخ معطوفة على جملة: {وَلَقَدْ صَرَّفْنا..} . إلخ، لا محل لها مثلها.

{وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90)}

الشرح: لمّا تبين إعجاز القرآن، فلم يقدر كفار قريش على معارضته بعد أن تحدّاهم الله بأن يأتوا بمثله، بل بعشر سور، بل بسورة واحدة من مثله، وانضم إليه معجزات أخر، كانشقاق القمر، ونحوه، وغلبوا، وقهروا أخذوا يتغالون باقتراح الآيات، والمعجزات، فطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم ما ذكر الله في هذه الآيات ما تراه ظاهرا لا يحتاج إلى شرح وبيان، وذلك أنهم قالوا: يا محمد! إنك تعلم أنه ليس أحد أضيق بلادا، ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك، فيسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، ويبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا فيها الأنهار والينابيع كما في بلاد الشام، والعراق، وغيرهما، وطلبهم هذا تعنت.

{لَنْ نُؤْمِنَ:} لن نقر، ونعترف بنبوتك، ورسالتك. وانظر الإيمان في الآية رقم [38] من سورة (النحل). {حَتّى تَفْجُرَ:} يقرأ الفعل بالتشديد، والتخفيف قراءتان سبعيتان. هذا؛ وفجر الماء: فتح له منفذا، أو طريقا، فجرى. {مِنَ الْأَرْضِ:} المراد: أرض مكة، وما جاورها. {يَنْبُوعاً:} عين لا ينضب ماؤها؛ أي: لا يغور، ولا يقل، والجمع: الينابيع. وانظر القول في الآية رقم [16].

الإعراب: {وَقالُوا:} الواو: حرف عطف. (قالوا): ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لَنْ:} حرف ناصب. {نُؤْمِنَ:} مضارع منصوب ب: {لَنْ،} والفاعل مستتر تقديره: «نحن» . {لَكَ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {حَتّى:} حرف غاية وجر. {تَفْجُرَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد {حَتّى،} والفاعل مستتر تقديره: «أنت» . {لَنا:} متعلقان بما قبلهما. {مِنَ الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {يَنْبُوعاً} بعدهما، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا. {يَنْبُوعاً:} مفعول به، و «أن» المضمرة والفعل {تَفْجُرَ} في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{لَنْ نُؤْمِنَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.

{أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91)}

الشرح: هذا الاقتراح الثاني الذي اقترحوه على النبي صلى الله عليه وسلم، هو أن يكون له بستان فيه من أنواع الأشجار شجر النخيل، والعنب، وعيون الماء، والأنهار جارية وسط هذا البستان، وهي

ص: 401

غزيرة المياه. وانظر شرح النخل، والنخيل في الآية رقم [24] من سورة (إبراهيم)، وهما بمعنى:

واحد. المفرد: نخلة، ونخيلة، وعنب: اسم جنس جمعي، مثل: تمر، ويفرق بينه وبين واحده بالتاء، وهي عنبة، وتمرة، وجمع عنب: أعناب، و {خِلالَها:} وسطها. هذا؛ و (تفجّر) هنا بالتشديد لا غير.

الإعراب: {أَوْ:} حرف عطف. {تَكُونَ:} معطوف على (تفجر)، فهو منصوب مثله، وهو ناقص. {لَكَ:} متعلقان بمحذوف خبره تقدم على اسمه. {جَنَّةٌ:} اسمه مؤخر. {مِنْ نَخِيلٍ:} متعلقان بمحذوف صفة {جَنَّةٌ} . {وَعِنَبٍ:} معطوف على ما قبله. {فَتُفَجِّرَ:}

مضارع معطوف على ما قبله بالفاء، فهو منصوب أيضا، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» .

{الْأَنْهارَ:} مفعول به. {خِلالَها:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله. وقيل: متعلق بمحذوف حال من {الْأَنْهارَ،} وهو ضعيف معنى. وها: في محل جر بالإضافة. {تَفْجِيراً:} مفعول مطلق مؤكد للفعل قبله.

{أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92)}

الشرح: في هذه الآية اقتراحان ممّا اقترحوه على النبي صلى الله عليه وسلم، أولهما: إسقاط السماء عليهم قطعة قطعة، والثاني: إتيان الملائكة، ونزولهم يشهدون بأنّ محمدا نبي، ورسول.

هذا؛ وانظر إعلال {السَّماءَ} في الآية رقم [22] من سورة (الحجر)، وشرح {السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} في الآية رقم [3] من سورة (النّحل)، وشرح (زعم) في الآية رقم [56] و {كِسَفاً} يقرأ بفتح السين، وسكونها. قال الأخفش: من قرأ بالسكون جعله واحدا، ومن قرأه بالفتح جعله جمعا. وقال المهدوي: ومن أسكن السين جاز أن يكون جمع: كسفة، وجاز أن يكون مصدرا، من: كسفت الشيء: إذا غطيته، فكأنهم قالوا: أسقطها طبقا علينا. انتهى. قرطبي، وسترى مزيدا لهذا في الآية رقم [187] من سورة (الشعراء) إن شاء الله. وانظر شرح (الملائكة) في الآية رقم [23] من سورة (الرعد). {قَبِيلاً:} معاينة، كفيلا، شهيدا، أقوال. وقال مجاهد: هو جمع: قبيلة؛ أي: بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة؛ أي: جماعة جماعة، و {كَما زَعَمْتَ} المراد به: ما هددهم به في الآية رقم [9] من سورة (سبأ){إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ} . والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {أَوْ:} حرف عطف. {تُسْقِطَ:} معطوف على ما قبله، فهو منصوب أيضا، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {السَّماءَ:} مفعول به. {كَما:} الكاف: حرف تشبيه وجر.

(ما): مصدرية. {زَعَمْتَ:} فعل، وفاعل، وهو متعد لمفعول واحد، وهو محذوف لفهمه من المقام. {عَلَيْنا:} متعلقان بالفعل {تُسْقِطَ} . {كِسَفاً:} حال من {السَّماءَ،} و (ما) والفعل

ص: 402

بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف يقع مفعولا مطلقا، التقدير: تسقط السماء إسقاطا كائنا مثل زعمك الذي تدعيه. وانظر مذهب سيبويه في ذلك في الآية رقم [24]{تَأْتِيَ:} معطوف أيضا على ما قبله، منصوب أيضا، والفاعل أنت. {بِاللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَالْمَلائِكَةِ:} معطوف على ما قبله. {قَبِيلاً:}

حال من (الله) على الأقوال الثلاثة فيه، وحال من الملائكة على قول مجاهد الأخير.

{أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاّ بَشَراً رَسُولاً (93)}

الشرح: في هذه الآية اقتراحان آخران ممّا اقترحوه على النبي صلى الله عليه وسلم. أولهما: أن يكون له بيت من ذهب، والثاني: عروجه، وصعوده في السماء. وازداد عتوهم، فطلبوا شيئا آخر في ذلك الرقي، والصعود، وهو إنزال كتاب لكل واحد يقرؤه، كما قال تعالى:{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً} وقد علم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بما ذكر في قوله: {قُلْ سُبْحانَ..} . إلخ.

ومعناه إنما أنا بشر لا أقدر على شيء ممّا سألتموني، وليس لي أن أتخيّر على ربي، ولم تكن الرسل قبلي يأتون أممهم بكل ما يريدونه، ويبغونه، وسبيلي سبيلهم، وكانوا يقتصرون على ما آتاهم الله من آياته الدالة على صحة نبوتهم، فإذا أقاموا عليهم الحجة لم يجب لقومهم أن يقترحوا غيرها، ولو وجب على الله أن يأتيهم بكل ما يقترحونه من الآيات لوجب عليه أن يأتيهم بما يختارونه من الرسل، ولوجب لكل إنسان أن يقول: لا أومن حتى أوتي بآية خلاف ما طلب غيري، وهذا يؤول إلى أن يكون التدبير إلى الناس، وإنما التدبير إلى الله تعالى. انتهى. قرطبي بحروفه.

بعد هذا ف: {زُخْرُفٍ} هو الذهب، وهو أصل الزينة، والرقي: الصعود؛ وأصله: رقوي، فقلبت الواو ياء وادغمت الياء في الياء. وانظر شرح (كتابا) في الآية رقم [1] من سورة (الحجر). وانظر شرح «سبحان» في الآية رقم [1] من سورة (النحل)، وشرح (بشرا) في الآية رقم [103] منها أيضا. وشرح الرسول في الآية رقم [38] من سورة (الرعد).

الإعراب: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} انظر الآية رقم [91]، (أو): حرف عطف. {تَرْقى:}

معطوف على ما قبله منصوب أيضا، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {فِي السَّماءِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَلَنْ:} الواو: حرف استئناف. لن:

حرف ناصب. {نُؤْمِنَ:} مضارع منصوب ب: (لن)، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {لِرُقِيِّكَ:} متعلقان بما قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {حَتّى:} حرف غاية وجر. {تُنَزِّلَ:} مضارع منصوب ب: «أن»

ص: 403

مضمرة بعد {حَتّى،} والفاعل مستتر تقديره: «أنت» . {عَلَيْنا} متعلقان بما قبلهما. {كِتاباً:}

مفعول به. {نَقْرَؤُهُ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب صفة {كِتاباً،} وأجيز اعتبارها حالا مقدرة من (نا)، و «أن» المضمرة، والفعل {تُنَزِّلَ} في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى} والجار والمجرور متعلقان بما قبلهما.

{قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {سُبْحانَ:} مفعول مطلق لفعل محذوف، و {سُبْحانَ} مضاف، و {رَبِّي} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم

إلخ، والإضافة من إضافة المصدر لفاعله، أو لمفعوله، والياء في محل جر بالإضافة. {هَلْ:} حرف استفهام بمعنى: النفي. {كُنْتُ:} ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {إِلاّ:} حرف حصر. {بَشَراً:} خبر كان. {رَسُولاً:} صفة له. ويجوز أن يكون {رَسُولاً} هو الخبر، وبشرا حال مقدمة عليه، والكلام:{سُبْحانَ رَبِّي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَما مَنَعَ النّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (94)}

الشرح: المعنى: وما منع الكافرين من الإيمان بالله ورسوله وقت مجيء الهدى إليهم إلا شبهة تلجلجت في صدورهم، وهي إنكارهم أن يرسل الله رسولا من البشر، فكانوا يستغربون إرسال الرسل من البشر، ويطلبون ملائكة من السماء، وهو ما أفادته الآية التالية، والمراد:

بالهدى: الإسلام، أو القرآن، أو محمد صلى الله عليه وسلم.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {مَنَعَ:} ماض. {النّاسَ:} مفعول به. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {يُؤْمِنُوا:} مضارع منصوب ب: {أَنْ،} وعلامة نصبه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، وأن والمضارع في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به ثان، أو في محل جر بحرف جر بحرف جر محذوف على الخلاف بين سيبويه، والخليل. {إِذْ:}

ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل: {يُؤْمِنُوا،} وعلقه الجمل بالفعل {مَنَعَ} . {جاءَهُمُ:} ماض، والهاء مفعول به. {الْهُدى:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، وجملة:{جاءَهُمُ الْهُدى} في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها.

{إِلاّ:} حرف حصر. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {قالُوا:} ماض مبني على الضم في محل نصب ب: «أن» ، والواو فاعله، والألف للتفريق، وأن والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل رفع فاعل ل: - {مَنَعَ} التقدير: وما منع الناس من الإيمان وقت مجيء الهدى لهم إلا قولهم

إلخ. وانظر مثل ذلك في الآية رقم [59]. {أَبَعَثَ:} الهمزة: حرف استفهام.

إنكاري. {(بَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً):} ماض، وفاعله، ومفعوله. {رَسُولاً:} هو مثل الآية السابقة،

ص: 404

وجملة: {أَبَعَثَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة:{وَما مَنَعَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. وقيل: هي من مقول الرسول صلى الله عليه وسلم.

{قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95)}

الشرح: في هذه الآية رد لشبهة الكافرين الذين يستنكرون أن يكون الرسول بشرا، فأعلمهم الله تعالى: أن الملك إنما يرسل إلى الملائكة؛ إذ لو أرسل ملكا إلى البشر؛ لما استطاعوا أن يروه على الهيئة التي خلق عليها، وإنما أقدر الأنبياء على ذلك، وخلق فيهم ما يقدرون به، ليكون ذلك آية لهم ومعجزة، وقد تقدم نظير ذلك في سورة (الأنعام) رقم [8 و 9] وسيأتي مثله في سورة (الفرقان) إن شاء الله تعالى.

الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {كانَ:} ماض ناقص. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بمحذوف خبر {كانَ} مقدم. {مَلائِكَةٌ:}

اسمها مؤخر. هذا؛ وأجيز اعتبار: {كانَ} تامة فيكون الملائكة فاعله، و {فِي الْأَرْضِ} متعلقان بالفعل {يَمْشُونَ}. {يَمْشُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {مُطْمَئِنِّينَ:} حال من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.

وجملة: {يَمْشُونَ..} . إلخ في محل رفع صفة ملائكة، وجملة:{كانَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَنَزَّلْنا:} اللام واقعة في جواب {لَوْ} . (نزلنا):

فعل، وفاعل. {عَلَيْهِمْ:} متعلقان بما قبلهما. {مِنَ السَّماءِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {مَلَكاً} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . {مَلَكاً:} مفعول به. {رَسُولاً:} انظر الآيتين السابقتين فهو مثلهما، وجملة:{لَنَزَّلْنا..} . إلخ جواب (لو)، لا محل لها، ولو ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ لَوْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96)}

الشرح: يروى: أن كفار قريش قالوا حين سمعوا قوله: {هَلْ كُنْتُ إِلاّ بَشَراً رَسُولاً:} فمن يشهد لك أنك رسول الله، فنزلت هذه الآية. والمعنى: أكتفي بالله شهيدا بأني عبده، ورسوله؛ حيث أجرى المعجزة على وفق دعواي، وعلى أني بلغت ما أرسلت به إليكم، وأنكم عاندتم، وكذبتم، وأعتقد بأن الله عليم خبير بصير بأحوال عباده المنذرين والمنذرين، وأنّه تعالى يجازيهم على أعمالهم. وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، ووعيد للكفار.

ص: 405

بعد هذا انظر (القول) في الآية رقم [16] و (كفى) في الآية رقم [65] و (بين) في الآية رقم [45] و {كانَ} في الآية رقم [30] وعباده في الآية رقم [1] وانظر: {خَبِيراً بَصِيراً} في الآية رقم [17].

الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {كَفى:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {بِاللهِ:} الباء: حرف جر صلة. (الله): فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {شَهِيداً:}

تمييز، ويقال: حال أيضا. {بَيْنِي:} ظرف مكان متعلق ب: {شَهِيداً} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {وَبَيْنَكُمْ:} معطوف على ما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{كَفى..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {كانَ:} ماض ناقص، واسمه يعود إلى (الله).

{بِعِبادِهِ:} متعلقان بما بعدهما على التنازع. {خَبِيراً بَصِيراً:} خبران ل: {كانَ} وجملة:

{كانَ..} . إلخ في محل رفع خبر إن، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ كانَ..} . إلخ تعليلية، وهي في محل نصب مقول القول أيضا.

{وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97)}

الشرح: {وَمَنْ يَهْدِ اللهُ}

{مِنْ دُونِهِ:} فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو: أنّ الذين حكم الله لهم بالإيمان، والهداية؛ وجب أن يصيروا مؤمنين، ومن سبق لهم حكم الله بالضلال والجهل استحال أن يرجعوا عن ذلك. وانظر الآية رقم [27] من سورة (الرعد). {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ:}

فعن أنس بن مالك-رضي الله عنه: أن رجلا قال: يا رسول الله! قال الله: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ} أيحشر الكافر على وجهه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أليس الذي أمشاه على الرّجلين في الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» . قال قتادة؟! حين بلغه: بلى وعزة ربنا. رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحشر النّاس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفا مشاة، وصنفا ركبانا، وصنفا على وجوههم. قيل: يا رسول، وكيف يمشون على وجوههم. قال: إنّ الّذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم، أما وإنّهم يتّقون بوجوههم كلّ حدب وشوك» . أخرجه الترمذي. وانظر الآية رقم [102] من سورة (طه).

ص: 406

{عُمْياً:} لا يبصرون. {وَبُكْماً:} لا ينطقون. {وَصُمًّا:} لا يسمعون، وهذا لا يتعارض مع قوله تعالى:{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النّارَ..} . إلخ وقوله جل شأنه: {وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً} وقوله تبارك اسمه: {إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} فقد قيل فيه أوجه: أحدها: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: معناه {عُمْياً:} لا يبصرون ما يسرهم.

{وَبُكْماً:} لا ينطقون بحجة. {وَصُمًّا:} لا يسمعون ما يسرهم. الثاني: قيل: معناه: يحشرون على ما وصفهم الله تعالى، ثم تعاد إليهم هذه الأشياء. الوجه الثالث: قيل: هذا معناه حين يقال لهم: {اِخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ} فيصيرون عند ذلك {عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا،} لا يبصرون، ولا ينطقون، ولا يسمعون. {مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ:} مستقرهم، ومقامهم. {كُلَّما خَبَتْ} أي:

سكن لهيبها وهدأت من غير أن يوجد فيها نقصان في إيلام الكفار؛ لأن الله تعالى يقول: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} . {زِدْناهُمْ سَعِيراً:} نارا تتلهب. وقيل: وقودا لتحرقهم، وتبدل جلودهم، كما قال تعالى:{كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ} . والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

بعد هذا ف: {الْمُهْتَدِ} يقرأ بحذف الياء وإثباتها. هذا؛ وقد راعى لفظ (من) في الجملة الأولى، فأفرد الضمير، وراعى معناها في الجملة الثانية في قوله:{فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ} فجمع الضمير. وانظر شرح (دون) في الآية رقم [15] من سورة (الكهف)، وشرح:{وَلِيًّا} في الآية رقم [17] منها، وإعلال {تَجِدَ} مثل إعلال {تَزِرُ} في الآية رقم [15] وانظر شرح {الْقِيامَةِ} في الآية رقم [58] {وَبُكْماً:} جمع: أبكم، انظر الآية رقم [76] من سورة (النحل). {وَصُمًّا:}

جمع أصم، وهو الذي لا يسمع. وانظر:«مأوى» و {مَثْوَى} في الآية رقم [29] من سورة (النحل). وانظر «زاد يزيد» في الآية رقم [41]. هذا؛ وأصل {خَبَتْ} «خبوت» بوزن: قعد؛ لأن الفعل واوي اللام، تقول: خبا يخبو، فتحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فالتقى ساكنان: الألف وتاء التأنيث، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين. هذا؛ وفي الآية التفات من الغيبة إلى التكلم، انظر الآية [22] من سورة (النحل).

الإعراب: (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، أو هو مفعول به مقدم؛ لأن فعل الشرط متعد، ولم يستوف مفعوله. {يَهْدِ:} مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، ومفعوله محذوف على اعتبار (من) مبتدأ. {اللهُ:} فاعله. {فَهُوَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.

هو: ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الْمُهْتَدِ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة، أو الثابتة حسبما رأيت، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها، لأنها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ

ص: 407

الذي هو من مختلف فيه كما رأيت في الآية [15] والجملة الاسمية: {(مَنْ

)} إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول، أو هي مستأنفة، لا محل لها على اعتبارها من كلام الله تعالى، وعلى الأول: فهي من مقول الرسول صلى الله عليه وسلم، والجملة الاسمية:{وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ} معطوفة عليها، وإعرابها مثلها فلا خفاء فيه. {مِنْ دُونِهِ:} متعلقان ب: {أَوْلِياءَ،} أو بمحذوف صفة له، والمفعول الثاني: ل: {تَجِدَ} محذوف، تقديره: يهدونه.

{وَنَحْشُرُهُمْ:} الواو: حرف استئناف. (نحشرهم): مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، و {يَوْمَ:} مضاف، و {الْقِيامَةِ:} مضاف إليه. {عَلى وُجُوهِهِمْ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب، التقدير: ماشين على وجوههم، والهاء في محل جر بالإضافة. {عُمْياً:} حال أخرى، إما بدل من الأولى وإما حال من الضمير المستقر في الجار والمجرور قبله، وما بعده معطوف عليه. {مَأْواهُمْ:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء في محل جر بالإضافة. {جَهَنَّمُ:} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، أو هي حال من الضمير المنصوب، أو المجرور {كُلَّما} (كلّ): ظرفية متعلقة بجوابها؛ إذ هي تحتاج إلى جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه. (ما): مصدرية توقيتية. {خَبَتْ:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة؛ والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى {جَهَنَّمُ} و (ما) والفعل {خَبَتْ} في تأويل مصدر في محل جر بإضافة (كل) إليه، التقدير: كل وقت خبت جهنم. وهذا التقدير، وهذه الإضافة هما اللذان سببا الظرفية ل (كل). وقيل:(ما) نكرة موصوفة، والجملة الفعلية بعدها صفة لها، وهي بمعنى: وقت أيضا. {زِدْناهُمْ:} ماض، وفاعله، ومفعوله الأول. {سَعِيراً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية:{زِدْناهُمْ سَعِيراً} جواب {كُلَّما} لا محل لها، و {كُلَّما} ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له، أو هو في محل نصب حال من {جَهَنَّمُ،} والعامل فيه المأوى.

{ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98)}

الشرح: الإشارة في هذه الآية إلى ما ذكر من أنواع العذاب في الآية السابقة من كونهم يحشرون على وجوههم عميا، وبكما، وصما، وكون النار كلما هدأت زيد في وقودها ليشتد تحريق جلودهم بحرّها كل ذلك بسبب كفرهم، وتكذيبهم بآيات القرآن التي نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم، وإنكارهم الحشر، والنشر، والحساب بعد الموت. وانظر الآية رقم [49] ففيها الكفاية.

الإعراب: {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {جَزاؤُهُمْ:} خبره، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة

ص: 408

المصدر لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {بِأَنَّهُمْ:} الباء: حرف جر. (أنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها، وجملة:{كَفَرُوا بِآياتِنا} في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالمصدر قبلهما. هذا وجه للإعراب، ويجوز اعتبار {جَزاؤُهُمْ} مبتدأ ثانيا، والجار والمجرور خبره، والجملة الاسمية خبر المبتدأ:{ذلِكَ} . ويجوز اعتبار {جَزاؤُهُمْ} بدلا من اسم الإشارة؛ أو عطف بيان عليه، والجار والمجرور خبره {وَقالُوا..}. إلخ انظر الإعراب وافيا كافيا في الآية رقم [49] وجملة:

{وَقالُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: {كَفَرُوا..} . إلخ، فهي في محل رفع مثلها، والجملة الاسمية:{ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظّالِمُونَ إِلاّ كُفُوراً (99)}

الشرح: {أَوَلَمْ يَرَوْا:} أولم يعلموا. {أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ..} . إلخ: ففيه رد لاستبعادهم البعث، والحشر بعد الموت، والمعنى: أن الذي خلق السموات والأرض كيف يستبعد منه أن يقدر على إعادتهم بأعيانهم بعد الموت، وهو قادر على إهلاكهم، وخلق عبيد مطيعين له، يوحدونه، ويقرّون بكمال حكمته، وعظيم قدرته، فهو كقوله تعالى:{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} . {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً} أي: وقتا لإهلاكهم، لا يستقدمون عنه، ولا يستأخرون. {لا رَيْبَ فِيهِ:} لا شك فيه، ولا ارتياب، بل هو محقق الوقوع. {فَأَبَى الظّالِمُونَ} أي: الكافرون. {إِلاّ كُفُوراً:} إلا جحودا، وإنكارا للبعث، والحساب، والجزاء.

بعد هذا {أَوَلَمْ} مثل {أَفَلا} في الآية رقم [17] من سورة (النحل). وانظر شرح {السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} في الآية رقم [3] منها. وانظر شرح (مثل) في الآية رقم [24] من سورة (إبراهيم) عليه السلام. وانظر التعبير عن الكافرين ب: {الظّالِمِينَ،} ونحوه في الآية رقم [13] منها أيضا. وانظر شرح «الكفر» في الآية رقم [107] من سورة (النحل)، وشرح:(أبى) في الآية رقم [89]. هذا، و {لا رَيْبَ فِيهِ:} لا شك فيه، تقول: رابني هذا الأمر: أوقعني في ريبة؛ أي: في شك، وحقيقة الريبة: قلق النفس، واضطرابها. قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» . أخرجه الترمذي، والنسائي عن الحسن بن علي-رضي الله عنهما-سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته.

الإعراب: {أَوَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف حسب ما رأيت في الآية رقم [17] من سورة (النحل). (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَرَوْا:}

مضارع مجزوم ب: (لم)، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله،

ص: 409

والألف للتفريق. {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة لفظ الجلالة. {خَلَقَ:} ماض، وفاعله يعود إلى ما قبله، وهو العائد. {السَّماواتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم. {وَالْأَرْضَ:} معطوف على ما قبله، وجملة:{خَلَقَ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها. {قادِرٌ:} خبر {أَنَّ،} وفاعله مستتر فيه، و {أَنَّ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به. {عَلى:} حرف جر، والمصدر المؤول من:{أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} في محل جر ب: {عَلى،} والجار والمجرور متعلقان ب: {قادِرٌ} .

{وَجَعَلَ:} الواو: حرف عطف. (جعل): ماض، والفاعل يعود إلى (الله). {مِثْلَهُمْ:}

متعلقان بما قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف مفعول به ثان، والأول: ما بعده. {أَجَلاً:}

مفعول به. {أَجَلاً:} نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» . {رَيْبَ:} اسم لا مبني على الفتح في محل نصب. {فِيهِ:} متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر {أَجَلاً،} والجملة الاسمية: {لا رَيْبَ فِيهِ} في محل نصب صفة أجلا، وجملة:{وَجَعَلَ..} . إلخ معطوفة على جملة: {أَوَلَمْ يَرَوْا..} .

إلخ على الوجهين المعتبرين فيها، والكلام {أَوَلَمْ يَرَوْا..} . إلخ مستأنف، لا محل له. {فَأَبَى:}

الفاء: حرف استئناف. (أبى): ماض. {الظّالِمُونَ:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ. {إِلاّ:} حرف حصر. {كُفُوراً:} مفعول به، وجملة: (أبى

) إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100)}

الشرح: هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ..} . إلخ أي: لو ملكتم خزائن رزق الله، ونعمه؛ لبخلتم بالمال خشية إنفاقه؛ أي: نفاده، وذهابه. {وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً} أي: بخيلا؛ لأن بناء أمره على الحاجة، والبخل بما يحتاج إليه، وترقب العوض فيما يبذله، كالذكر الجميل، والثناء الحسن عليه، إن كان من أهل الدنيا، أو لطلب الثواب والأجر من الله تعالى؛ إن كان من أهل الإيمان، والطاعة.

ولقد اختلف في هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها نزلت في المشركين خاصة. قاله الحسن، والثاني: أنها عامة، وهو قول الجمهور، وذكره الماوردي. انتهى. قرطبي. هذا؛ والإنفاق المراد به هنا: الفقر الناجم عن الإنفاق، فهو مثل قوله تعالى في غير ما آية:{خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} وانظر بعد ذلك شرح {رَبُّكُمْ} في الآية رقم [8] وشرح {الْإِنْسانُ} في الآية رقم [11] وانظر خشي في الآية رقم [21] من سورة (الرعد)، فإنه جيد.

ص: 410

الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {أَنْتُمْ:} فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور بعده، أو هو اسم ل:«كان» محذوفة، وأصل الكلام: لو كنتم تملكون، وقد كثر حذف «كان» بعد «لو» ، ورد هذا القول بأن المعهود بعد «لو» حذف «كان» ومرفوعها، فقيل: الأصل لو كنتم أنتم تملكون، فحذفا. وفيه نظر للجمع بين الحذف، والتوكيد. هذا؛ وقيل: إن {أَنْتُمْ} توكيد للفاعل المستتر في الفعل المحذوف، الذي يفسره ما بعده، وغلط من أعرب أنتم فاعلا؛ لأن ضمير المخاطب، لا يجوز إظهاره. انتهى.

والمغلط غالط، فكيف يفعل هذا المغلط، وما يقول في قول العباس بن مرداس السلمي الصحابي، وقل أن يخلو منه كتاب نحو؟ [البسيط]

أبا خراشة أمّا أنت ذا نفر

فإن قومي لم تأكلهم الضّبع

أليس الضمير المنفصل خبرا لكان محذوفة وعلى الاعتبارين كان الضمير متصلا، فلما حذف الفعل انفصل الضمير، وبرز، وإنما وجب تقدير فعل؛ لأنّ «لو» لا يليها إلا فعل ظاهر، أو مقدر ك:«إن» و «إذا» الشرطيتين. {تَمْلِكُونَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية مفسرة على الاعتبار الأول، وفي محل نصب خبر «كان» على الاعتبار الثاني، وعلى التقديرين فالجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {خَزائِنَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {رَحْمَةِ} مضاف إليه، و {رَحْمَةِ} مضاف، و {رَبِّي} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {إِذاً:} حرف جواب وجزاء. {لَأَمْسَكْتُمْ:}

اللام: واقعة في جواب {لَوْ} . (أمسكتم): فعل، وفاعل، ومفعوله محذوف، تقديره الأموال، والجملة الفعلية جواب {لَوْ،} لا محل لها. {خَشْيَةَ:} مفعول لأجله. وقيل: حال، وهو مضاف، و {الْإِنْفاقِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، و {لَوْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وجملة:

{وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً} مستأنفة، لا محل لها. واعتبارها حالا من {الْإِنْفاقِ} ضعيف معنى وهو يحتاج إلى تقدير «قد» قبلها، والرابط: الضمير فقط على اعتبار {الْإِنْفاقِ} صاحب الحال.

{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101)}

الشرح: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ:} لقد اختلف في هذه الآيات، فقيل: هي بمعنى: آيات الكتاب، كما روى الترمذي، والنسائي عن صفوان بن عسال المرادي: أن يهوديين

ص: 411

قال أحدهما لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله، فقال: لا تقل له: نبي، فإنه إن سمعك؛ صارت له أربعة أعين، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم، فسألاه عن تلك الآيات، فقال صلى الله عليه وسلم:«لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النّفس التي حرّم الله إلا بالحقّ، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله، ولا تأكلوا الرّبا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفرّوا من الزّحف، وعليكم يا معشر اليهود خاصّة ألاّ تعدوا في السّبت» فقبّلا يديه، ورجليه. وقالا: نشهد أنك نبيّ. قال: فما يمنعكما أن تسلما؟ قالا: «إن داود دعا الله ألا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إن أسلمنا أن تقتلنا اليهود» . قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقيل: الآيات بمعنى: المعجزات، والدلالات، وأعتمد هذا، وخذ ما يلي:

قال ابن عباس، والضحاك-رضي الله عنهما-هي: العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وانفجار الماء من الحجر، وانفلاق البحر، ونتق الطور على بني إسرائيل.

وقيل: الطوفان، والسنون، ونقص من الثمرات مكان الثلاث الأخيرة، ولا تنس: الطمس على أموالهم، وقد تقدم شرح ذلك مفصلا في سورة (البقرة) و (الأعراف)، و (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

{فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ:} هذا سؤال تبكيت، وتقريع لليهود؛ ليعرفوا صحة ما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: المعنى: فاسأل يا محمد المؤمنين من بني إسرائيل، وهم: عبد الله بن سلام، وأصحابه عن الآيات ليزدادوا يقينا، وطمأنينة قلب؛ لأن الأدلة إذا تظاهرت؛ كان ذلك أقوى، وأثبت، كقول إبراهيم عليه السلام {وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} . انتهى. كشاف.

{فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً} أي: ساحرا بغرائب أفعالك. قاله الفراء، وأبو عبيدة، فوضع المفعول موضع الفاعل: وقيل: مخدوعا. وقيل: مغلوبا. قاله مقاتل. وقيل:

غير هذا، بعد هذا انظر قصة موسى مع فرعون بالتفصيل في سورة (الأعراف) وسورة (طه)، وسورة (القصص)، و (الشعراء) وغيرها.

الإعراب: {وَلَقَدْ آتَيْنا} انظر الآية رقم [41]{مُوسى:} مفعول به أول منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {تِسْعَ:} مفعول به ثان، و {تِسْعَ} مضاف، و {آياتٍ} مضاف إليه. {تَبَيَّنَتِ:} صفة {آياتٍ} فهو مجرور، أو صفة {تِسْعَ} فهو منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {فَسْئَلْ:} الفاء: حرف عطف على قول من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر؛ إذ التقدير: وإذا كان ذلك واقعا؛ فاسأل. {فَسْئَلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {بَنِي:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {بَنِي:} مضاف، و {إِسْرائِيلَ:} مضاف إليه

ص: 412

مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة، والمفعول الثاني: محذوف، تقديره: عنه؛ أي: عن موسى. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل {آتَيْنا،} وعليه فجملة: {فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ} معترضة بين الفعل {آتَيْنا} وما تعلق به. هذا؛ وقيل: إن التقدير: فقلنا له: اسأل

إلخ، وعليه ف:{إِذْ} متعلق بالفعل المقدر، وجملة:{فَسْئَلْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة: «فقلنا

» إلخ المقدرة معطوفة على جملة: {وَلَقَدْ آتَيْنا..} . إلخ لا محل لها مثلها.

هذا؛ وقد قرئ {فَسْئَلْ} بلفظ الماضي، فيكون الظرف متعلقا به، والفاعل يعود إلى موسى عليه السلام، ويكون التقدير: فسأل موسى فرعون أن يخلي بني إسرائيل، ويطلق سبيلهم، ويرسلهم معه، وقيل غير ذلك، والجملة الفعلية معطوفة على جملة: {(لَقَدْ

)} إلخ لا محل لها مثلها.

{فَقالَ:} الفاء: حرف عطف. (قال): ماض. {لَهُ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {فِرْعَوْنُ:}

فاعله. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {لَأَظُنُّكَ:} اللام: هي المزحلقة.

(أظنك): مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والكاف مفعول به أول. {يا مُوسى:} يا:

حرف نداء ينوب مناب: أدعو. (موسى): منادى مفرد علم مبني على ضم مقدر على الألف للتعذر في محل نصب ب: (يا)، والجملة الندائية معترضة بين مفعولي (أظن)، وجملة:

{لَأَظُنُّكَ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنِّي لَأَظُنُّكَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{فَقالَ..} . إلخ معطوفة على جملة: {وَلَقَدْ آتَيْنا..} . إلخ، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين. وقال الجمل: معطوفة على مقدر؛ أي: إذ جاءهم فبلغهم الرسالة. فقال له فرعون. هذا؛ وجملة: {جاءَهُمْ} في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها.

{قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102)}

الشرح: {قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ} أي: الآيات التسع، و {أَنْزَلَ} بمعنى: أوجد. {إِلاّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ} أي: دلالات يستدل بها على قدرة الله، ووحدانيته، وتدل على صدقي، ولكنك يا فرعون تعاند. هذا؛ و {بَصائِرَ:} عبر، وبينات، جمع: بصيرة. قال قس بن ساعدة الإيادي: [مجزوء الكامل]

في الذّاهبين الأوّلي

ن من القرون لنا بصائر

وله فراسة ذات بصيرة، وذات بصائر، وهي الصادقة، ورأيت عليك ذات البصائر. قال الكميت:[مجزوء الكامل]

ورأوا عليك ومنك في ال

مهد النهى ذات البصائر

ص: 413

وقرأ الكسائي {عَلِمْتَ} بضم التاء، وهي قراءة علي بن أبي طالب-رضي الله عنه، وروي: أنه قال: والله ما علم عدو الله، ولكن موسى هذا الذي علم، فبلغت ابن عباس-رضي الله عنهما-فأيد الفتح، واحتجّ بقوله تعالى:{وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا،} ونسب فرعون إلى العناد.

{وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً:} الظن هنا: بمعنى: اليقين بخلافه في الآية السابقة، فإنه بمعنى: الشك، بل بمعنى: الظن الخاطئ الكاذب الفاسد، والظن في الأصل: الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض. وقد نهى الله عنه بقوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} ونهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «إيّاكم والظّنّ، فإنّ الظّنّ أكذب الحديث» . وهذا إذا كان ظن سوء، وأما الظن الحسن فلا بأس به، بل هو ممدوح، كما ستعرفه إن شاء الله تعالى في سورة (الحجرات).

والثبور: الهلاك والخسران. وقال البيضاوي: مصروفا عن الخير، مطبوعا على الشر.

وقيل: ملعونا. وقيل: ناقص العقل. والمعتمد الأول.

الإعراب: {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى موسى عليه السلام. {لَقَدْ:} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف، تقديره: والله. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {عَلِمْتَ:}

فعل، وفاعل، وهو معلق عن العمل لفظا. {ما:} نافية. {أَنْزَلَ:} ماض. {هؤُلاءِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل نصب مفعول به، والهاء: حرف تنبيه، لا محلّ له {إِلاّ:} حرف حصر.

{رَبُّ:} فاعل: {أَنْزَلَ} و {رَبُّ:} مضاف، و {السَّماواتِ} مضاف إليه من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله. {بَصائِرَ:} حال، وفي عاملها قولان: أحدهما أنه {أَنْزَلَ} هذا الملفوظ به، وصاحب الحال {هؤُلاءِ} وإليه ذهب الحوفي وابن عطية، وأبو البقاء، وهؤلاء يجيزون أن يعمل ما قبل «إلا» فيما بعدها، وإن لم يكن مستثنى، ولا مستثنى منه، ولا تابعا له. والثاني: وهو مذهب الجمهور: أنّ ما بعد «إلا» لا يكون معمولا لما قبلها، فيقدر له عامل، تقديره: أنزلها بصائر، وقد تقدم نظيره في الآية رقم [27] من سورة (هود) عليه السلام. انتهى. جمل نقلا عن السمين. وجملة:{ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ..} . إلخ في محل نصب سدت مسد مفعولي {عَلِمْتَ} المعلق عن العمل لفظا بسبب النفي، وجملة:{عَلِمْتَ..} . إلخ جواب القسم المقدر، لا محل لها، والقسم وجوابه في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} في محل نصب حال من تاء الفاعل على القراءتين، والرابط: الواو، والضمير، وإعرابها مثل إعراب ما قبلها في الآية السابقة.

{فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103)}

الشرح: {فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ} أي: أراد فرعون أن يخرج بني إسرائيل من أرض مصر، أو من الأرض مطلقا بالقتل والاستئصال. وانظر الآية رقم [76] والاستفزاز:

ص: 414

الاستخفاف. انظر الآية رقم [64]{فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً} أي: عكسنا عليه مكره، فأخرجناه وجنوده من قصورهم، وديارهم، وأغرقناهم في البحر، ونجينا موسى، ومن معه. وانظر (نا) في الآية رقم [23] من سورة (الحجر).

الإعراب: {فَأَرادَ:} الفاء: حرف استئناف. وقيل: عاطفة. (أراد): ماض، وفاعله يعود إلى (فرعون). {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {يَسْتَفِزَّهُمْ:} مضارع منصوب ب: {أَنْ،} والفاعل يعود إلى (فرعون) أيضا. {مِنَ الْأَرْضِ:} متعلقان بما قبلهما، و {أَنْ} والمضارع في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، وجملة:{فَأَرادَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{فَأَغْرَقْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. (من): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب معطوف على الضمير المنصوب وأجيز اعتباره مفعولا معه. {مَعَهُ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول. {جَمِيعاً:}

حال من الضمير المنصوب، وما عطف عليه، فهي حال معناها التوكيد.

{وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اُسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104)}

الشرح: {وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ} أي: من بعد فرعون وإغراقه مع قومه. {اُسْكُنُوا الْأَرْضَ} أي:

الأرض التي أراد فرعون أن يخرجكم منها، والمراد: أرض الشام، ومصر؛ التي، أورثها الله بني إسرائيل بعد هلاك فرعون وقومه. {فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ:} المراد به: يوم القيامة الذي لا خلف فيه، ولا شك فيه. وقيل: المراد به نزول عيسى، عليه السلام. {جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً} أي:

أحييناكم، وأخرجناكم من القبور، وجمعناكم في المحشر مختلطين إياكم، وإياهم، ثم نحكم بينكم، ونميز سعداءكم من أشقيائكم، واللفيف: الجماعات من قبائل شتى. يقال: جاء القوم بلفهم، ولفيفهم؛ أي: وأخلاطهم. قال الأصمعي: اللفيف: جمع، وليس له واحد، وهو مثل الجميع، والمعنى: أنهم يخرجون من القبور كالجراد المنتشر مختلطين لا يتعارفون، ثم يميز الله بين صالحهم، وطالحهم

إلخ، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَقُلْنا:} الواو: حرف عطف. {وَقُلْنا:} فعل، وفاعل. {مِنْ بَعْدِهِ:} متعلقان بما قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال من (بني إسرائيل) والهاء في محل جر بالإضافة.

{لِبَنِي:} متعلقان بما قبلهما أيضا، وعلامة الجر الياء

إلخ، و (بني): مضاف، و {إِسْرائِيلَ:}

مضاف إليه

إلخ. {اُسْكُنُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق.

{الْأَرْضَ:} منصوب على الظرفية المكانية عند بعض النحاة، وفي مقدمتهم سيبويه، والمحققون وعلى رأسهم الأخفش ينصبونه على التوسع في الكلام بإسقاط الخافض، لا على الظرفية، فهو

ص: 415

منتصب انتصاب المفعول به على السعة، بإجراء اللازم مجرى المتعدي، ومثل ذلك قل في:

«دخلت المدينة، ونزلت البلد، وسكنت البيت» وجملة: {اُسْكُنُوا الْأَرْضَ} في محل نصب مقول القول. {فَإِذا:} الفاء: حرف عطف. (إذا): انظر الآية رقم [67]. {جاءَ:} ماض. {وَعْدُ:}

فاعله، وهو مضاف، و {الْآخِرَةِ:} مضاف إليه، وجملة:{جاءَ..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذا) إليها على القول المشهور المرجوح. {جِئْنا:} ماض و (نا): فاعله. {بِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {لَفِيفاً:} حال من الكاف، وجملة:{جِئْنا..} . إلخ جواب (إذا)، و (إذا) ومدخولها معطوف على ما قبله، فهو في محل نصب مقول القول أيضا.

{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105)}

الشرح: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} أي: ما أنزلنا القرآن إلا بالحكمة، وما نزل إلا ملتبسا بالحق، والحكمة لاشتماله على الهداية إلى كلّ خير، أو ما أنزلناه من السماء إلا بالحق، محفوظا بالرصد من الملائكة، وما نزل على الرسول إلا محفوظا بهم من تخليط الشياطين. {وَما أَرْسَلْناكَ إِلاّ مُبَشِّراً:} للمطيعين بالثواب. {وَنَذِيراً:} للعاصين من العقاب فلا عليك يا محمد إلا التبشير، والإنذار. وانظر شرح (الحق) في الآية رقم [81] وفي قوله تعالى:{إِلاّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} قصر إضافي، وهو هنا قصر موصوف على صفة، وهو كثير في كتاب الله تعالى. قال الراوي:

اشتكى محمد بن السمّاك، فأخذنا ماءه، وذهبنا به إلى طبيب نصراني، فاستقبلنا رجل حسن الوجه، طيب الرائحة، نقي الثوب، فقال لنا: إلى أين؟ فقلنا له: إلى فلان الطبيب نريه ماء ابن السمّاك، فقال: سبحان الله، تستعينون على ولي الله بعدوّ الله؟! اضربوه على الأرض، وارجعوا إلى ابن السمّاك، وقولوا له: ضع يدك على موضع الوجع، وقل:{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} ثم غاب عنا، فلم نره، فرجعنا إلى ابن السماك، فأخبرناه بذلك، فوضع يده على موضع الوجع، وقال ما قال الرجل، فعوفي في الوقت. وقال: كان ذلك الخضر عليه السلام. انتهى. نسفي.

الإعراب: {وَبِالْحَقِّ:} الواو: حرف استئناف. (بالحق): متعلقان بمحذوف حال صاحبه الضمير المنصوب، وعامله ما بعده. {أَنْزَلْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {وَبِالْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من فاعل {نَزَلَ} المستتر، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): نافية.

{أَرْسَلْناكَ:} فعل، وفاعل، ومفعول به أول، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {إِلاّ:} حرف حصر. {مُبَشِّراً:} مفعول به ثان. وقال الجمل: حال من الكاف.

{وَنَذِيراً:} معطوف على ما قبله. هذا؛ وقد قال الجمل: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ..} . إلخ متعلق في المعنى بقوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ..} . إلخ. وفي الخطيب: إنه معطوف على {وَلَقَدْ صَرَّفْنا..} . إلخ. انتهى.

وأرجح الاستئناف، والله أعلم، وأجل، وأكرم.

ص: 416

{وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106)}

الشرح: {وَقُرْآناً فَرَقْناهُ} أي: بينا حلاله، وحرامه، أو فرقنا بين الحق والباطل، وهو بتخفيف الراء، وقرأ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وجماعة بتشديد الراء، وفيه وجهان:

أحدهما: أن التضعيف للتكثير؛ أي: فرقنا آياته بين أمر ونهي، وحكم، وأحكام، ومواعظ، وأمثال، وقصص، وأخبار ماضية، ومستقبلة، انظر الآية رقم [111] من سورة (يوسف) تجد ما يسرك و [41] من هذه السورة. والثاني: أنه دال على التفريق، والتنجيم، ومعلوم: أن القرآن نزل مفرقا منجما في ثلاث وعشرين سنة على حسب مقتضيات الأحوال. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [184] من سورة (البقرة)، ويؤيد التفسير الثاني: قوله: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلى مُكْثٍ:} على مهل، وتؤدة، فإنه أيسر للحفظ، وأعون في الفهم. وقيل:{عَلى مُكْثٍ:} على ترسل في التلاوة.

قاله مجاهد، وابن عباس، وابن جريج، فيعطي القارئ القراءة حقها من ترتيلها، وتحسينها، وتطييبها بالصوت الحسن ما أمكن من غير تلحين، ولا تطريب مؤد إلى تغيير لفظ القرآن بزيادة، أو نقصان. هذا؛ والمكث في الأصل مصدر: مكث، يمكث، بمعنى: أقام يقيم. قال الكميت يذم ولاة السوء: [الطويل]

فتلك ولاة السّوء قد طال مكثهم

فحتّام حتّام العناء المطوّل؟

و (المكث) بضم الميم، وتكسر. وهذا على: أنه اسم، وأما المصدر، فإن كان فعله من باب: نصر، فهو بضم الميم أيضا، وإن كان من باب: كرم فهو بفتح الميم.

{وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً} أي: نجما بعد نجم، انظر الآية رقم [89] من سورة (النحل) لترى الفرق بين نزلنا، وأنزلنا. وانظر (نا) في الآية رقم [21] من سورة (الحجر). وانظر شرح القرآن في الآية رقم [1] منها.

الإعراب: {وَقُرْآناً:} الواو: حرف عطف. (قرآنا) مفعول به لفعل محذوف، يفسره المذكور بعده، أو هو مفعول به لفعل محذوف، التقدير: وآتيناك قرآنا. {فَرَقْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة مفسرة على الوجه الأول، لا محل لها، وفي محل نصب صفة (قرآنا) على الوجه الثاني فيه. {لِتَقْرَأَهُ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بما قبلهما. {عَلَى النّاسِ:} متعلقان بما قبلهما.

{عَلى مُكْثٍ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، وجملة:{وَقُرْآناً..} . إلخ على الاعتبارين معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، وجملة:{وَنَزَّلْناهُ} معطوفة عليها.

{تَنْزِيلاً:} مفعول مطلق.

ص: 417

{قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107)}

الشرح: {قُلْ:} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا:} هذا على وجه التهديد والوعيد، لا على وجه التخيير. {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ} أي: إن لم تؤمنوا بالقرآن، أو بمحمد صلى الله عليه وسلم، فقد آمن به من هو خير منكم، وهم العلماء الذين قرءوا الكتب السابقة، وعرفوا حقيقة الوحي، وأمارات النبوة، وتمكنوا من التمييز بين المحق والمبطل، ورأوا نعتك وصفة ما أنزل إليك في تلك الكتب. وقيل: هم قوم من ولد إسماعيل، تمسكوا بدينهم، إلى أن بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم، منهم: زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل. ولا وجه له البتة. {إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ} أي: القرآن. وقيل: كانوا إذا تلوا كتابهم، وما أنزل عليه من القرآن خشعوا، وسجدوا، وسبحوا. والأول: أولى بالاعتبار. {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً:} يسقطون على وجوههم تعظيما لأمر الله، وشكرا لإنجازه وعده في تلك الكتب ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، وإنزاله القرآن عليه. هذا؛ والمراد: ب: (الأذقان) الوجوه، وخصت بالذكر؛ لأن الذقن أول جزء من الوجه يقرب من الأرض عند السجود، والأذقان جمع: ذقن وهو مجتمع اللحيين.

الإعراب: {قُلْ} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {آمِنُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. وانظر إعراب:(امضوا) في الآية رقم [65] من سورة (الحجر).

{بِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، {أَوْ:} حرف عطف. {لا:} ناهية. {تُؤْمِنُوا:} مجزوم ب: {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، ومتعلقه محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها. {أُوتُوا:} ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والألف للتفريق. {الْعِلْمَ:} مفعول به ثان. {مِنْ قَبْلِهِ:}

متعلقان بمحذوف حال من {الْعِلْمَ،} والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{أُوتُوا..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها. إذا: انظر الآية رقم [67]{يُتْلى:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، ونائب فاعله مستتر يعود إلى (القرآن). {عَلَيْهِمْ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح. {يَخِرُّونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله.

{لِلْأَذْقانِ:} متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بما بعدهما. {سُجَّداً:} حال من واو الجماعة، وهو بمعنى: ساجدين، وجملة:{يَخِرُّونَ..} . إلخ جواب {إِذا} لا محل لها، و {إِذا} ومدخولها

ص: 418

في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ تعليل للأمر والنهي، وهي في محل نصب مقول القول. وقيل: هي تعليل ل: {قُلْ} نفسه، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108)}

الشرح: {وَيَقُولُونَ} أي: الذين، أوتوا العلم. {سُبْحانَ رَبِّنا:} تنزيها له تعالى عن خلف الوعد، أو تعظيما لربنا لإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم. {إِنْ كانَ وَعْدُ..} .

إلخ: إن الحال والشأن وعد ربنا متحقق الوقوع، لا محالة. بعد هذا انظر {الْقَوْلُ} في الآية رقم [16] وشرح {رَبُّكُمْ} في الآية رقم [8] وشرح:{سُبْحانَ} في الآية رقم [1] من سورة (النحل)، وشرح (الوعد) في الآية رقم [33] من سورة (الرعد). وانظر كان في الآية رقم [30].

الإعراب: {وَيَقُولُونَ:} الواو: حرف عطف. (يقولون): مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {سُبْحانَ:} مفعول مطلق فعله محذوف، وهو مضاف، و {رَبِّنا:} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو من إضافته لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا، و (نا): في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {سُبْحانَ:} حرف مشبه بالفعل مخفف من الثقيلة، واسمه ضمير الشأن محذوف. {كانَ:} ماض ناقص. {وَعْدُ:}

اسمها، وهو مضاف، و {رَبِّنا:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، و (نا): في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لَمَفْعُولاً:} اللام: هي المزحلقة.

(مفعولا): خبر {كانَ} وجملة: {كانَ..} . إلخ في محل رفع خبر {سُبْحانَ،} والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَيَقُولُونَ..} . إلخ معطوفة على جملة: {يَخِرُّونَ..} . إلخ. هذا؛ والمعتمد: أنّ (إن) مهملة، واللام هي الفارقة بين النفي، والإثبات.

{وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)}

الشرح: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ:} انظر الآية [107] وكرره لاختلاف الحال، أو السبب، فإن الأول: للشكر عند إنجاز الوعد، والثاني: لما أثر فيهم من مواعظ القرآن حال كونهم باكين من خشية الله. {وَيَزِيدُهُمْ} أي: القرآن. {خُشُوعاً:} خضوعا لله، واستجابة لأمره ونهيه، والخشوع:

سكون الجوارح، وخضوع القلب، واطمئنانه، وهم:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ} وانظر الآية رقم [2] من سورة (المؤمنون) لتنظر الخشوع في الصلاة. وانظر «زاد، يزيد» في الآية رقم [41].

ص: 419

هذا؛ وفي الآية دليل على جواز البكاء في الصلاة من خوف الله تعالى، أو على معصيته في دين الله، وأن ذلك لا يقطعها، ولا يضرها، ذكر ابن المبارك، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن أبيه. قال:«أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يصلّي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء» . انتهى. قرطبي. هذا؛ والبكا بالقصر: إسالة الدمع من غير رفع صوت، وبالمد إسالة الدمع مع رفعه. قال الخليل رحمه الله تعالى: من قصر «البكاء» ذهب به إلى معنى الحزن، ومن مدّه ذهب به إلى معنى الصوت. قال كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه:[الوافر]

بكت عيني، وحقّ لها بكاها

وما يغني البكاء، ولا العويل

وانظر الآية رقم [16] من سورة (يوسف) عليه السلام. هذا؛ ويسن السجود في آخر هذه الآية بعد تلاوتها وانظر ما ذكرته في الآية رقم [50] من سورة (النحل)، وفي الآية رقم [57] من سورة (مريم).

الإعراب: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ:} انظر الآية قبل السابقة، وهذه معطوفة عليها، لا محل لها مثلها. {يَبْكُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، وجاءت الحال هنا فعلا لدلالته على التجدد، والحدوث، وجاءت في الآية قبل السابقة اسما لدلالته على الاستمرار، والثبوت. الواو: حرف عطف. {وَيَزِيدُهُمْ:} مضارع، والهاء مفعوله الأول، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى القرآن، أو البكاء، أو السجود، أو المتلو لدلالة قوله تعالى:{إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ} . {خُشُوعاً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. تأمل.

{قُلِ اُدْعُوا اللهَ أَوِ اُدْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَاِبْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110)}

الشرح: قال ابن عباس-رضي الله عنهما-سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فجعل يقول في سجوده:«يا الله يا رحمان» . فقال أبو جهل: إن محمدا ينهانا عن آلهتنا، وهو يدعو إلهين، فأنزل الله هذه الآية. انتهى. خازن. وأبو جهل يعني بالرحمن مسيلمة الكذاب الذي كان يسمى رحمان اليمامة، والمخاطب بهذا الأمر النبي صلى الله عليه وسلم. هذا؛ و {تَدْعُوا} هنا يحتمل أن يكون من الدعاء، وهو النداء، فيتعدى لواحد، وأن يكون بمعنى: التسمية، وعليه الزمخشري، والبيضاوي، والنسفي، فيتعدى لاثنين، كما في قول الشاعر:[الطويل]

دعتني أخاها أمّ عمرو، ولم أكن

أخاها، ولم أرضع لها بلبان

ص: 420

دعتني أخاها بعد ما كان بيننا

من الفعل ما لا يفعل الأخوان

وقد حذف المفعول الأول، لقوله:{اُدْعُوا} ونصب الثاني: بعد حذف الجار؛ إذ التقدير:

{قُلِ:} ادعوا معبودكم بالله، أو ادعوه بالرحمن، بمعنى: سمّوه. {فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى} أي:

فلله الأسماء الحسنى، وإذا حسنت أسماؤه كلها؛ فهذان الاسمان منها، ومعنى كونها أحسن الأسماء أنها مشتملة على معاني التقديس، والتعظيم، والتمجيد، وعلى صفات الجلال، والكمال، والحسنى مؤنث الأحسن الذي هو أفعل تفضيل، لا مؤنث أحسن المقابل ل: امرأة حسناء. والحسنى بالضم ضد السوأى، وقد وصف الجمع الذي لا يعقل بما توصف به الواحدة، كقوله:{وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى} وهو فصيح، ولو جاء على المطابقة للجمع لكان التركيب «الحسن» على وزن الأخر، كقوله تعالى:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ} لأن جمع ما لا يعقل يخبر عنه، ويوصف بوصف المؤنثات وإن كان المفرد مذكرا. انتهى. جمل من هنا، وهناك.

{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها:} عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: نزلت والرسول صلى الله عليه وسلم مختف بمكة، وكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به. انتهى. متفق عليه. وقالت عائشة-رضي الله عنها:

نزلت في الدعاء، وهو قول النخعي، ومجاهد، ومكحول. وقال ابن سيرين: كان الأعراب يجهرون بالتشهد، فنزلت. وعنه أيضا: أن أبا بكر كان يسر بقراءته في صلاة الليل، وكان عمر يجهر بها-رضي الله عنهما-وأرضاهما، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال أبو بكر رضي الله عنه-إنما أناجي ربي، وهو يعلم حاجتي إليه. وفي رواية عنه: لقد أسمعت من ناجيت. وقال عمر-رضي الله عنه: أنا أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان، فلما نزلت هذه الآية قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ارفع قليلا. وقال لعمر: اخفض قليلا. ذكره الطبري، وغيره، وهذا يعني: أن الآية مدنية، والمعتمد أنها مكية، فيكون ما ذكر من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر بالتوسط بين الجهر والإسرار استدلالا بهذه الآية لا سببا لنزولها. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه. والجهر:

رفع الصوت، والمخافتة: خفضه. {وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً} أي: اطلب، أو اقصد طريقا وسطا بين الجهر، والإسرار. وانظر شرح (بين) في الآية رقم [45] وشرح {سَبِيلاً} في الآية رقم [42].

تنبيه: عبر سبحانه وتعالى بالصلاة هنا عن القراءة، كما عبر بالقراءة عن الصلاة في الآية رقم [78] لأن كل واحد منهما مرتبط بالآخر؛ لأن الصلاة تشتمل على قراءة، وركوع، وسجود، فهي من جملة أجزائها، فعبر بالجزء عن الجملة، وبالجملة عن الجزء على عادة العرب في المجاز، وهو كثير. انتهى. قرطبي.

أما بعد؛ فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله عز وجل تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، إنه وتر، يحب الوتر، من أحصاها دخل الجنة، وهي: هو الله الذي لا إله

ص: 421

إلا هو الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السّلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد الأحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الولي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور».

رواه الطبراني في جامعه.

وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أحصاها» . قال الإمام النووي-رحمه الله تعالى-: معناه: من حفظها. هكذا فسره البخاري، والأكثرون، ويؤيده: أن في رواية الصحيح «من حفظها دخل الجنّة» وقيل: معناه: من عرف معانيها، وآمن بها. وقيل: معناه: من أحصاها بحسن الرعاية لها، والتخلق بما يمكنه من العمل بمعانيها. انتهى، نقلا عن النووي. هذا؛ والمقيت: المقتدر، فيرجع لمعنى القادر قال تعالى في الآية رقم [85] من سورة (النساء):{وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً} . وقيل: معناه: من شاهد النجوى، فأجاب، وعلم البلوى، فكشف، واستجاب. وقيل:

هو المتكفل بأرزاق العباد. فيرجع إلى القدرة.

الإعراب: {قُلِ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {اُدْعُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. وانظر الشرح لتقدير: مفعوله، أو مفعوليه، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{اُدْعُوا الرَّحْمنَ} معطوفة عليها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، وجملة:{قُلِ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {أَيًّا:} اسم شرط جازم مفعول به مقدم، والتنوين عوض من المضاف إليه؛ إذ الأصل: أي: هذين الاسمين تدعوا.

و {ما:} زائدة. وقيل: شرطية مؤكدة ل: {أَيًّا} . {تَدْعُوا:} مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {فَلَهُ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (له): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْأَسْماءُ:} مبتدأ مؤخر. {الْحُسْنى:} صفة له مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، والجملة الشرطية في محل نصب مقول القول. {وَلا:} الواو: حرف عطف. لا: ناهية. {تَجْهَرْ:}

ص: 422

مضارع مجزوم ب: (لا) والفاعل تقديره: «أنت» ، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{قُلِ..} .

إلخ لا محل لها مثلها. {بِصَلاتِكَ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:{وَلا تُخافِتْ بِها} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {وَابْتَغِ:} أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، أو هو متعلق بمحذوف حال من {سَبِيلاً،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة التي ذكرتها مرارا. {سَبِيلاً:} مفعول به، وجملة:{وَابْتَغِ..} . إلخ معطوفة على الجمل السابقة لا محل لها أيضا.

{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)}

الشرح: قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: هذه الآية رادة على اليهود، والنصارى، والعرب في قولهم أفذاذا: عزير، وعيسى، والملائكة ذرية الله سبحانه. تعالى الله عن أقوالهم! {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} أي: لا شريك له في ملكه، ولا في عبادته. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} أي:

لم يذل، فيحتاج إلى ولي، ولا ناصر لعزته، وكبريائه. وقال مجاهد: المعنى: لم يحالف أحدا، ولا ابتغى نصر أحد. {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} أي: عظمه تعظيما كاملا، وقدّسه تقديسا تامّا عن أن يكون له ولد، أو شريك، أو ولي، وإذا كان منزها عما ذكر، كان مستوجبا لجميع أنواع المحامد. انتهى.

روى الإمام أحمد في مسنده، عن معاذ الجهني-رضي الله عنه-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «آية العز: الحمد لله الذي

» إلخ وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده-رضي الله عنهم-قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي..} .

إلخ. وقال عبد الحميد بن واصل: سمعت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ: وقل:

الحمد لله

إلخ كتب الله له من الأجر مثل الأرض والجبال؛ لأن الله تعالى يقول فيمن زعم أنّ له ولدا: {تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا» وجاء في الخبر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا شكا إليه الدين بأن يقرأ: {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ..} . إلى آخر السورة، ثم يقول: توكلت على الحي الذي لا يموت ثلاث مرات. انتهى. قرطبي.

الإعراب: {وَقُلِ:} الواو: حرف عطف. (قل): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» .

{الْحَمْدُ:} مبتدأ. {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: ثابت لله، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقُلِ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة ل: {لِلّهِ،} أو بدل منه، أو عطف

ص: 423

بيان عليه. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَتَّخِذْ:} مضارع مجزوم ب: {لَمْ،} والفاعل يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد. {وَلَداً:} مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {وَلَمْ:} الواو: حرف عطف. (لم): حرف جازم. {يَكُنْ:} مضارع ناقص. {لِلّهِ:}

متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {شَرِيكٌ:} اسمه مؤخر. هذا؛ وإن اعتبرت الفعل تاما ف: {شَرِيكٌ} فاعله، وله متعلقان ب {شَرِيكٌ،} أو بمحذوف حال منه، كان صفة له

إلخ، والجملة الفعلية:

{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {فِي الْمُلْكِ:} متعلقان ب: {شَرِيكٌ} وجملة: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ:} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا، وإعرابها مثل إعراب ما قبلها بلا فارق. {وَكَبِّرْهُ:} الواو: حرف عطف. (كبّره): أمر، وفاعله مستتر تقديره:

«أنت» ، والهاء: مفعول به. {تَكْبِيراً:} مفعول مطلق، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:

{وَقُلِ..} . إلخ لا محل لها مثلها. تأمل، وتدبر.

انتهت سورة (الإسراء) بعونه تعالى تفسيرا وإعرابا.

**

ص: 424