المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الأنبياء وهي مكية بالإجماع، وآياتها مئة واثنتا عشرة آية، وكلماتها - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٦

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة الأنبياء وهي مكية بالإجماع، وآياتها مئة واثنتا عشرة آية، وكلماتها

‌سورة الأنبياء

وهي مكية بالإجماع، وآياتها مئة واثنتا عشرة آية، وكلماتها ألف ومئة وثمان وستون كلمة، وحروفها أربعة آلاف وثمانمئة وتسعون حرفا. انتهى. خازن.

تنبيه: انظر شرح الاستعاذة، والبسملة، وإعرابهما في أول سورة (الفاتحة) أو في سورة (يوسف) على نبينا وحبيبنا، وعلى جميع الأنبياء، والمرسلين ألف ألف صلاة، وألف ألف سلام.

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم

{اِقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)}

الشرح: {اِقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ} أي: وقت محاسبة الله إياهم على أعمالهم يوم القيامة.

نزلت الآية في منكري البعث. هذا؛ وقد قال ابن عباس-رضي الله عنهما: المراد بالناس هنا المشركون بدليل الآيتين. وقيل: المراد عموم الناس؛ إذا كان المشار إليه في ذلك الوقت كفار قريش، وهو الصحيح؛ لأن خصوص السبب لا يمنع التعميم، والأحكام الشرعية نزلت بأسباب معلومة، ومعروفة، وهي عامة إلى يوم القيامة.

{وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ:} عن التأهب لذلك اليوم، والاستعداد له.

تنبيه: قال عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه: (الكهف) و (مريم) و (طه) و (الأنبياء) من العتاق الأول، وهنّ من تلادي. يريد من قديم ما كسب، وحفظ من القرآن الكريم كالمال التلاد. وروي: أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبني جدارا، فمر به آخر في يوم نزول هذه السورة، فقال الذي كان يبني الجدار: ماذا نزل اليوم من القرآن؟ فقال الآخر: نزل: {اِقْتَرَبَ لِلنّاسِ..} . إلخ فنفض يده من البنيان، وقال: والله لا بنيت أبدا؛ وقد اقترب الحساب. انتهى.

قرطبي.

هذا؛ و (الناس) جمع لا واحد له من لفظه مثل: قوم، ورهط

إلخ، واحده: إنسان من غير لفظه، وهو يطلق على الإنسان، والجن، ولكن غلب استعماله في الإنس، قال تعالى:{مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ} وأصله:

الأناس، حذفت منه الهمزة تخفيفا على غير قياس، وحذفها مع لام التعريف كاللازم لا يكاد

ص: 5

يقال: للناس، وقد نطق القرآن الكريم بهذا الأصل، ولكن بدون لام التعريف، قال تعالى:{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} وقيل: إن أصله: النوس، ولم يحذف منه شيء وإنما قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وانظر شرح الإنسان في الآية [11] من سورة (الإسراء).

الإعراب: {اِقْتَرَبَ:} ماض. {لِلنّاسِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {حِسابُهُمْ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَهُمْ:} الواو:

واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {فِي غَفْلَةٍ:} متعلقان بمحذوف خبر أول. {مُعْرِضُونَ:} خبر ثان مرفوع، وعلامة رفعه الواو؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، هذا؛ وأجيز تعليق الجار والمجرور بمحذوف حال من الضمير المستتر في {مُعْرِضُونَ} تقدم عليه. والأول أقوى، والجملة الاسمية:{وَهُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من (الناس) والرابط: الواو والضمير. وجملة: {اِقْتَرَبَ..} . إلخ ابتدائية لا محل لها من الإعراب.

{ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اِسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)}

الشرح: {ما يَأْتِيهِمْ} أي: أهل مكة. {مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} أي: جديد، أو متجدد إنزاله، لا أنه مخلوق، والمراد ب:(الذكر) الآيات التي تنزل بعد الآيات، والسورة التي تنزل بعد السورة. أو المراد به ما يذكرهم به النبي صلى الله عليه وسلم ويعظهم، وإضافته إلى {رَبِّهِمْ؛} لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق إلا بالوحي، فقوله، ووعظه، وتحذيره ذكر وهو محدث، وانظر شرح {ذِكْراً} في الآية رقم [99] من سورة (طه). {إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ} أي: الذكر. {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} أي: يستهزئون. وساهون لا هون، لا يعتبرون، ولا يتعظون. هذا؛ و «أتى» يستعمل لازما إن كان بمعنى: حضر، وأقبل، وقرب، كما في قوله تعالى:{أَتى أَمْرُ اللهِ..} . إلخ، ويستعمل متعديا إذا كان بمعنى: وصل، وبلغ، كما في الآية ونحوها، ومثله جاء في التعدية، واللزوم مع اختلاف اللفظ، واتفاق المعنى، كما في قوله تعالى:{إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} وقوله تعالى: {إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ..} . إلخ.

الإعراب: {ما:} نافية. {يَأْتِيهِمْ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والهاء مفعول به. {مِنْ:} حرف جر صلة. {ذِكْرٍ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {مِنْ رَبِّهِمْ:}

متعلقان بمحذوف صفة ذكر، أو هما متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في {مُحْدَثٍ} متقدم عليه، وأجيز تعليقهما بمحذوف حال من {ذِكْرٍ؛} لأنه وصف بمحدث، وهو أضعف الأقوال. {مُحْدَثٍ:} صفة {ذِكْرٍ} على لفظه، وقرئ بالرفع صفة له على محله، وأجاز الكسائي نصبه على الحال، ولم أجد قراءة بالنصب. {إِلاَّ:} حرف

ص: 6

حصر. {اِسْتَمَعُوهُ:} ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية في محل نصب حال مستثنى من عموم الأحوال، أو في محل نصب حال من الضمير المنصوب، و «قد» قبلها مقدرة، أو في محل نصب حال من الفاعل الموصوف بما ذكر، والرابط: الضمير الواقع مفعولا به. والجملة الاسمية: {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وهي حال متداخلة، وجملة:{ما يَأْتِيهِمْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، أو هي تفسير لإعراضهم.

{لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)}

الشرح: {لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} أي: ساهية معرضة عن ذكر الله، متشاغلة عن التأمل، والتفهم.

والمراد: قلوب أهل مكة. {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} أي: أخفوا تناجيهم فيما بينهم، وكان تناجيهم بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد بينهم جل ذكره بقوله:{الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: أنفسهم بالشرك، والإعراض عن الذكر الذي جاءهم، وانظر {النَّجْوَى} في الآية رقم [62] من سورة (طه) والحديث الذي أسروه فيما بينهم بينه جل ذكره بقوله:{هَلْ هذا إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} فهم ينكرون إرسال رسول من البشر، وإنما يريدون رسولا من الملائكة، وهذا كثير منهم، ومتكرر في القرآن الكريم، كما في الآية رقم [94] من سورة (الإسراء) والآية رقم [7] من سورة (الفرقان) ونحوهما، هذا؛ ويفسر (أسروا) ب:(أعلنوا)، فهو من الأضداد.

{أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ} أي: تحضرون السحر، وتصغون إليه، وتقبلونه من محمد صلى الله عليه وسلم.

{وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ:} ترون بأعينكم: أن ما جاء به هو السحر. ومفاده: توبيخ بعضهم بعضا؛ إن سمعوا الذكر، وقبلوه، واهتدوا به.

الإعراب: {لاهِيَةً:} حال من واو {يَلْعَبُونَ،} فهي حال متداخلة، أو من واو {اِسْتَمَعُوهُ،} فتكون حالا متعددة، هذا؛ وقرئ بالرفع على أنه خبر آخر للمبتدأ:(هم) أو هو خبر لمبتدأ محذوف. {قُلُوبُهُمْ:} فاعل ب: {لاهِيَةً} والهاء في محل جر بالإضافة. هذا؛ وينبغي أن تعلم أن {لاهِيَةً} في الأصل صفة قلوبهم، فلما تقدم النعت المنعوت انتصب، ومثله قوله تعالى:

{خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ} وقوله: {وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها} . {وَأَسَرُّوا:} الواو: حرف استئناف. (أسروا):

ماض، والواو فاعل، والألف للتفريق. {النَّجْوَى} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {الَّذِينَ:} قال أبو البقاء: في موضعه ثلاثة أوجه. أحدها: الرفع وفيه أربعة أوجه: أحدها أن يكون بدلا من واو الجماعة في أسروا، والواو فاعله، والثاني: أن يكون الذين فاعلا، والواو حرف دال على الجمع فقط، والثالث: أن يكون مبتدأ، والخبر:{هَلْ}

ص: 7

{هذا..} . إلخ والتقدير: يقولون: هل هذا، وهذا لا معنى له، والأولى أن يكون مبتدأ مؤخرا، وجملة:{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} خبرا مقدما، والرابع: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، التقدير: هم الذين ظلموا، وهذه الأوجه الأربعة ذكرتها في الآية [74] من سورة (المائدة) ويزاد هنا الوجه الثاني، وهو أن يكون منصوبا على إضمار: أعني، والوجه الثالث: أن يكون مجرورا صفة ل: (الناس) أو بدلا منه على بعد من ذلك، وجملة:{ظَلَمُوا} صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{وَأَسَرُّوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{هَلْ:} حرف استفهام معناه النفي. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {إِلاّ:} حرف حصر. {بَشَرٌ:} خبر المبتدأ.

{مِثْلُكُمْ:} صفة {بَشَرٌ،} والكاف في محل جر بالإضافة. {أَفَتَأْتُونَ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. الفاء: عاطفة على محذوف. (تأتون): مضارع مرفوع

إلخ، الواو فاعله.

{السِّحْرَ:} مفعول به. هذا؛ والجملتان: {هَلْ هذا..} . إلخ بدل من {النَّجْوَى} أو تفسير لها، أو هما في محل نصب مقول القول محذوف هو جواب عن سؤال مما قبله، كأنه قيل: فماذا قالوا في نجواهم؟ فقيل: قالوا: {هَلْ هذا..} . إلخ.

وأجيز اعتبارها مفعولا به ل: {النَّجْوَى،} لأنها في معنى القول، وهو أضعف الأقوال الثلاثة، هذا؛ وعلى الاعتبار الأول تكون الجملة أبدلت من المفرد، وقد استشهد بها ابن هشام في المغني لذلك، وذكر قول الشاعر، وهو الشاهد رقم [825] من كتابنا فتح القريب المجيب:[الطويل] لقد أذهلتني أمّ عمر وبكلمة

أتصبر يوم البين أم لست تصبر؟

والجملة الاسمية: {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} في محل نصب حال من واو الجماعة والرابط: الواو والضمير.

{قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)}

الشرح: {قالَ} أي: قال محمد صلى الله عليه وسلم، ويقرأ بلفظ الأمر. {رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ:}

والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الذي أسروا النجوى: ربي يعلم كل قول في السماء والأرض؛ سواء أكان سرا، أم كان جهرا، {وَهُوَ السَّمِيعُ:} لأقوالهم. {الْعَلِيمُ:} بما في ضمائرهم.

الإعراب: {قالَ:} ماض، وفاعله مستتر تقديره:«هو» ، يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. {رَبِّي:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.

{يَعْلَمُ:} مضارع والفاعل يعود إلى {رَبِّي} . {الْقَوْلَ:} مفعول به. {فِي السَّماءِ:} متعلقان

ص: 8

بمحذوف حال من {الْقَوْلَ،} وقيل: متعلقان بمحذوف حال من فاعل {يَعْلَمُ،} وهو ضعيف.

{وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، وجملة:{يَعْلَمُ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{رَبِّي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{وَهُوَ:} الواو: واو الحال. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ.

{السَّمِيعُ:} خبر أول، ومتعلقه محذوف. {الْعَلِيمُ:} خبر ثان، ومتعلقه محذوف أيضا، والجملة الاسمية (هو

) إلخ في محل نصب حال من فاعل {يَعْلَمُ} المستتر، والرابط: الواو والضمير، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها، وإن عطفتها على ما قبلها؛ فهي في محل نصب مقول القول.

{بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ اِفْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)}

الشرح: {بَلْ قالُوا..} . إلخ: المعنى: إنهم متحيرون، لا يستقرون على شيء فيما يطعنون فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وفيما جاء به، فقالوا مرة: سحر، وقالوا مرة: هو أضغاث أحلام، ومرة قالوا:

افتراه، ومرة قالوا: شاعر. وقيل: قال فريق منهم: إنه ساحر، وفريق قالوا: إنه أضغاث أحلام، وفريق قالوا

إلخ، وانظر شرح {أَضْغاثُ أَحْلامٍ} في الآية رقم [44] من سورة (يوسف) على حبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

{فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} أي: كما أرسل موسى بالعصا، واليد، وصالح بالناقة، وعيسى بإبراء الأكمه، والأبرص، وإحياء الموتى. والمعنى: إن كان صادقا في دعواه؛ فليأتنا بمعجزة تدل على صدقه كما أتى الأنبياء السابقون بمعجزات واضحة أيدت دعواهم. وانظر شرح «أول» في الآية رقم [24] من سورة (النحل) هذا؛ و (آية) تطلق على معان كثيرة: الدلالة، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وتطلق على المعجزة، وهي المرادة هنا، مثل انشقاق القمر، ونحوه، وتطلق على الموعظة، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} كما تطلق على جملتين، أو أكثر من كلام الله تعالى.

الإعراب: {بَلْ:} حرف عطف، وانتقال. {قالُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق.

{أَضْغاثُ:} خبر مبتدأ محذوف، التقدير: هو أضغاث، و {أَضْغاثُ} مضاف، و {أَحْلامٍ} مضاف إليه، {بَلْ:} مثل سابقه. {اِفْتَراهُ:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى الرسول المقصود بهذا، والهاء مفعول به. {بَلْ هُوَ شاعِرٌ:} مبتدأ وخبر. {فَلْيَأْتِنا:}

الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، انظر الشرح. {فَلْيَأْتِنا:} مضارع مجزوم بلام الأمر، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، و (نا): مفعول به، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط المقدر.

ص: 9

{بِآيَةٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {كَما:} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية، {أُرْسِلَ:} ماض مبني للمجهول. {الْأَوَّلُونَ:} نائب فاعله مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ.

و (ما) مصدرية، والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: فليأتنا بآية إتيانا كائنا مثل إرسال الأولين، وهذا ليس مذهب سيبويه، وإنما مذهبه في مثل هذا التركيب أن يكون منصوبا على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم، وإنما أحوج سيبويه إلى هذا؛ لأن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه لا يجوز إلا في مواضع محصورة، وليس هذا منها، هذا؛ ويجوز اعتبار الجار والمجرور متعلقين بمحذوف صفة (آية)، هذا؛ والجمل المتعاطفة كلها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ معطوفة على مضمون: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى..} . إلخ لا محل لها أيضا.

{ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)}

الشرح: {ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ:} قبل أهل مكة. {مِنْ قَرْيَةٍ:} من أهل قرية، أتتهم المعجزات، فلم يؤمنوا، ولم يوحدوا. {أَهْلَكْناها:} أهلكنا أهلها لما كذبوا، وزادوا في عنادهم، وعتوهم كقوم نوح، وهود، وصالح، وكفرعون، ومن على شاكلته. {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} أي: لو جئتهم يا محمد بما طلبوا، وهم أعتى منهم، وأشد نفورا. وفيه تنبيه على أن عدم الإتيان بالمقترح للإبقاء عليهم، إذ لو أتى به، ولم يؤمنوا؛ استوجبوا عذاب الاستئصال كالذين قبلهم، وقد علم الله وقدر، أنه سيخرج من أصلابهم من يؤمن، ويحمل راية الإسلام، وينشرها في أنحاء المعمورة، والتاريخ الإسلامي أكبر شاهد على ذلك.

هذا؛ و {مِنْ قَرْيَةٍ:} الأصل: من أهل قرية فقد حذف المضاف للإيجاز، وهذا النوع من المجاز مشهور في كلام العرب، نظمه، ونثره، و «القرية» في الأصل: اسم للمكان الذي يجتمع فيه القوم، وهو يطلق على المدينة الكبيرة، وغيرها، كيف لا؟ وقد جعل الله مكة المكرمة أم القرى في قوله:{لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها} كما تطلق على الضيعة الصغيرة، وهي مأخوذة من:

قريت الماء في المكان: جمعته، وفي القاموس المحيط: القرية: بكسر القاف، وفتحها، والنسبة إليها قرويّ وقرييّ.

أما الإيمان الصحيح: فهو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان، والعمل بالأركان. ولما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عنه؛ قال:«الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء، والقدر، خيره، وشره من الله تعالى» .

الإعراب: {ما:} نافية. {آمَنَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث حرف لا محل له. {قَبْلَهُمْ:}

ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنْ:} حرف جر صلة.

ص: 10

{قَرْيَةٍ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وجملة:{آمَنَتْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {أَهْلَكْناها:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل جر صفة {قَرْيَةٍ} على اللفظ. {أَفَهُمْ:} الهمزة:

حرف استفهام إنكاري. الفاء: حرف استئناف. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، وجملة:{يُؤْمِنُونَ} مع المتعلق المحذوف في محل رفع خبره، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.

{وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7)}

الشرح: {وَما أَرْسَلْنا..} . إلخ: هذا رد لقول قريش حين أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا:

{هَلْ هذا إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} وقالوا: الله أعظم وأجل من أن يكون رسوله بشرا، فهلا بعث إلينا ملكا، انظر الآية رقم [109] من سورة (يوسف) عليه السلام ففيها كبير فائدة، والمعنى هنا، وهناك: أن سنة الله جارية من أول مبدأ الخلق: أنه لم يبعث إلا رسولا من البشر، فهذه عادة مستمرة، وسنة جارية قديمة.

{فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ:} أهل الكتاب، وهم علماء اليهود، والنصارى. وإنما أمرهم الله تعالى بسؤال أهل الكتاب؛ لأن كفار مكة كانوا أميين، ويعتقدون: أن أهل الكتاب أهل علم، وقد أرسل الله إليهم رسلا منهم، مثل عيسى، وموسى، وغيرهما من الرسل، وكانوا بشرا مثلهم. {إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ:} ذلك، وفي الآية الكريمة دليل على أنه تعالى لم يرسل امرأة، ولا ملكا، ولا جنيا للدعوة العامة، وفي آية (يوسف) زيادة:{مِنْ أَهْلِ الْقُرى} . وينبغي أن تعلم: أن الله أمر كفار قريش الأميين أن يسألوا أهل العلم من اليهود، والنصارى عما هم جاهلون به، فالأحرى بالجاهلين من المسلمين أن يسألوا علماءهم عن أمور دينهم، وعما هم جاهلون به، من أمر الدنيا، والآخرة، فخصوص السبب لا يمنع التعميم في كل زمان ومكان، ولكن الكثير من المسلمين بمعزل عن ذلك؛ حتى إن الأكثرية الساحقة من المصلين لا يحسنون وضوءهم، ولا صلاتهم؛ لأنهم لا يجالسون أهل العلم، ولا يسمعون منهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! وينبغي أن تعلم: أن الآية الكريمة مذكورة بحروفها برقم [43] من سورة (النحل)، وانظر ما ذكرته فيها من إعلال وغيره.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {أَرْسَلْنا:} فعل وفاعل.

{قَبْلَكَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {إِلاّ:} حرف حصر. {رِجالاً:} مفعول به. {نُوحِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء،

ص: 11

والفاعل مستتر تقديره: «نحن» ، هذا؛ ويقرأ:«(يوحى)» بالبناء للمجهول، فتكون علامة الرفع مقدرة على الألف. {إِلَيْهِمْ:} متعلقان ب: {نُوحِي،} وهما في محل رفع نائب فاعل على القراءة الثانية، والجملة الفعلية على القراءتين في محل نصب صفة {رِجالاً،} وجملة: {وَما أَرْسَلْنا..} .

إلخ مستأنفة لا محل لها. {فَسْئَلُوا:} الفاء: هي الفصيحة، ويعتبرها ابن هشام للسببية المحضة، وهي حرف عطف على قول من يجيز عطف الإنشاء على الخبر. (اسألوا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَهْلَ:} مفعول به، و {أَهْلَ:} مضاف، و {الذِّكْرِ:}

مضاف إليه، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كنتم جاهلين؛ فاسألوا

إلخ، وهذا الكلام مستأنف، أو معطوف على ما قبله لا محل له على الاعتبارين. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {إِلاّ:} نافية. {تَعْلَمُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كُنْتُمْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، والجملة الشرطية تذييل للكلام السابق، ومؤكدة له، لا محل لها.

{وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8)}

الشرح: {وَما جَعَلْناهُمْ} أي: الرسل. {جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ:} هذا رد لقولهم في الفرقان: {مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ} . {وَما كانُوا خالِدِينَ:} هذا رد لقولهم: {هَلْ هذا إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} والمعنى: لم نجعل الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم خارجين عن طباع البشر، لا يحتاجون إلى طعام، وشراب، ولا يموتون؛ بل هم بشر مثلكم في كل ما تحتاجون إليه، وفي كل ما يصيبكم في هذه الدنيا من مرض، وموت

إلخ.

هذا؛ و (جسد) اسم جنس، أو هو مصدر، ولهذا لم يجمع، وهو جسم ذو لون، ولذلك لا يطلق على الماء والهواء، والجسد هو الذي له جرم، تقول: تجسد الشيء، كما تقول عن الجسم: تجسم، والجسد أيضا: الزعفران، ونحوه من أنواع الصبغ، وهو أيضا الدم؛ لأنه يتجسد، قال النابغة الذبياني:[البسيط]

فلا لعمر الّذي مسّحت كعبته

وما هريق على الأنصاب من جسد

فهو يقسم بالله أولا، ثم بالدماء التي كانت تصبّ في الجاهلية على الأصنام.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {جَعَلْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به. {جَسَداً:} مفعول به ثان، أو هو حال من الضمير المنصوب. {لا:} نافية.

{يَأْكُلُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {الطَّعامَ:} مفعول به، والجملة الفعلية

ص: 12

في محل نصب صفة جسدا، أو هي في محل نصب حال أخرى، وجملة:{وَما جَعَلْناهُمْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وجملة:{وَما كانُوا خالِدِينَ} معطوفة عليها، لا محل لها، وإعرابها واضح إن شاء الله تعالى.

{ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)}

الشرح: {ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ} أي: الرسل. وذلك بإنجائهم، ونصرهم، وإهلاك مكذبيهم، وانظر (الوعد) في الآية رقم [54] من سورة (مريم) عليها السلام. {فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ:} يعني ومن اتبعهم، واهتدى بهديهم، ومن في إبقائه حكمة، كمن سيؤمن في المستقبل، أو يخرج من صلبه من يؤمن؛ ولذلك حفظت العرب من عذاب الاستئصال. {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ:} المجاوزين الحد في الكفر، والمعاصي، هذا؛ وكثيرا ما يعبر القرآن عن الكافرين بالظالمين، والمجرمين، والمعتدين، والفاسقين، والمسرفين، ويتهددهم بالعذاب الأليم، ويتوعدهم بالعقاب الشديد، وإننا نجد الكثير من المسلمين يتصفون بهذه الصفات، فهل يوجه إليهم هذا التهديد، وهذا الوعيد؟ الحق أقول: نعم يوجه إليهم ما ذكر، وهم أحق بذلك، ولا سيما من قرأ القرآن، واطلع على أحوال الأمم السابقة، وما جرى لهم مع رسلهم، وكيف نكل الله بهم، وجعلهم عبرة للمعتبرين، وما يتذكر إلا أولو الألباب.

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {صَدَقْناهُمُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به. {الْوَعْدَ:}

مفعول به ثان، وقيل: هو منصوب بنزع الخافض؛ لأن الفعل: «صدق» يتعدى للثاني بحرف الجر، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{وَما أَرْسَلْنا..} . إلخ لا محل لها مثلها، وجملة:

{فَأَنْجَيْناهُمْ} معطوفة عليها أيضا. {وَمَنْ:} اسم موصول؛ أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب معطوفة على الضمير المنصوب، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: الذي، أو شخصا نشاء إنجاءه، وجملة:{وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.

{لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10)}

الشرح: {لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ:} يا معشر قريش. {كِتاباً:} هو القرآن الكريم. {فِيهِ ذِكْرُكُمْ:} شرفكم؛ إن عملتم به، وفخركم؛ إن اهتديتم بهديه، قال تعالى:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} وهو شرف، وفخر لنا؛ إن عملنا بما فيه. وقيل: فيه موعظتكم؛ لتتعظوا به، فيكون الذكر بمعنى الوعد والوعيد. {أَفَلا تَعْقِلُونَ:} فيه بعث، وحث على التدبر؛ لأن الخوف من لوازم العقل. هذا؛ وانظر:(أنزل) و (نزل) في الآية رقم [2] من سورة (طه).

ص: 13

هذا؛ والعقل: نور روحاني به تدرك النفس ما لا تدركه بالحواس الظاهرة، وسمي العقل عقلا؛ لأنه يعقل صاحبه، أي: يمنعه من فعل الرذائل، والقبائح؛ لذا فإن كل شخص لا يسير على الجادة المستقيمة لا يكون عاقلا بالمعنى الصحيح، وخذ ما يلي:[البسيط]

لم يبق من جلّ هذا الناس باقية

ينالها الوهم إلا هذه الصّور

لا يدهمنّك من دهمائهم عدد

فإنّ جلّهم بل كلّهم بقر

يقول: لا يدهمنك من جماعتهم الكثيرة عدد فيهم غناء، ونصرة، فإنّ كلّهم كالأنعام، والبهائم، ولله درّ القائل:

لا يدهمنك اللّحاء والصّور

تسعة أعشار من ترى بقر

في شجر السّرو منهم شبه

له رواء وماله ثمر

ورضي الله عن حسّان بن ثابت؛ إذ يقول: [البسيط]

لا بأس بالقوم من طول ومن عظم

جسم الجمال وأحلام العصافير

فقد ورد: أن رجلا معتوها مرّ على مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الصحابة رضوان الله عليهم:

هذا رجل مجنون، فقال سيد الخلق، وحبيب الحق:«هذا مصاب، إنّما المجنون من أصرّ على معصية الله» . هذا؛ والعقل أيضا: الدية، سميت بذلك؛ لأن الإبل المؤداة دية، تعقل بباب ولي القتيل، والعقال بكسر العين: الحبل الذي تشد به ركبة الجمل عند بروكه ليمنعه من القيام، والمشي، والعقال: أيضا صدقة عام، قال شاعر يهجو عاملا على الصدقات:[البسيط]

سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا

فكيف لو قد سعى عمرو عقالين؟

لأصبح النّاس أو بادا ولم يجدوا

عند التّفرّق في الهيجا جمالين

الإعراب: {لَقَدْ:} اللام: لام الابتداء، أو هي واقعة في جواب قسم محذوف. (قد):

حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَنْزَلْنا:} فعل، وفاعل. {إِلَيْكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {كِتاباً:} مفعول به، والجملة الفعلية:{لَقَدْ..} . إلخ ابتدائية، أو جواب قسم محذوف لا محل لها على الاعتبارين. {فِيهِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {ذِكْرُكُمْ:} مبتدأ مؤخر، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، أو من إضافته إلى الفاعل، والمفعول محذوف، والجملة الاسمية في محل نصب صفة {كِتاباً} .

{أَفَلا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي. الفاء: حرف عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام؛ أي: ألا تتفكرون فلا تعقلون؟! (لا): نافية. {تَعْقِلُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ والواو فاعله، والكلام كله مستأنف لا محل له.

ص: 14

{وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11)}

الشرح: {وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ} أي: وأهلكنا كثيرا من القرى، والمراد: أهلها، كما رأيت في الآية رقم [6] هذا؛ والقصم: الكسر، والمراد به: الإهلاك كما رأيت. {كانَتْ ظالِمَةً} أي: كافرة، والمراد: ظلمات نفسها بالكفر، فكلّ من عصى الله ظلم نفسه التي بين جنبيه.

{وَأَنْشَأْنا..} . إلخ: أي: خلقنا، أو أبدلنا بأهلها الكافرين قوما مؤمنين موحدين، وهو كقوله تعالى في معرض التهديد:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ} .

الإعراب: {وَكَمْ:} الواو: حرف استئناف. (كم): خبرية بمعنى: كثير مبنية على السكون في محل نصب مفعول به مقدم. {قَصَمْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها.

{مِنْ:} حرف جر صلة. {قَرْيَةٍ:} تمييز منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {كانَتْ:} ماض ناقص، واسمها يعود إلى قرية، والتاء للتأنيث حرف لا محل له. {ظالِمَةً:} خبر {كانَتْ} والجملة الفعلية في محل جر صفة {قَرْيَةٍ} . (أنشأنا): فعل، وفاعل. {بَعْدَها:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، (ها): في محل جر بالإضافة. {قَوْماً:} مفعول به. {آخَرِينَ:} صفة {قَوْماً} منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء

إلخ، وجملة {وَأَنْشَأْنا..} . إلخ معطوفة على جملة (كم قصمنا

) إلخ لا محل لها.

{فَلَمّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12)}

الشرح: {فَلَمّا أَحَسُّوا بَأْسَنا:} فلما رأوا شدة عذابنا، أو المراد: مقدمة العذاب، وبوادره.

وواو الجماعة عائدة إلى أهل القرية. {إِذا هُمْ مِنْها} أي: من القرية. {يَرْكُضُونَ} أي: خرجوا هاربين، فارين، والركض: العدو بشدة، وهو تحريك الرجل بشدة، ومنه قوله تعالى لأيوب عليه السلام:

{اُرْكُضْ بِرِجْلِكَ..} . إلخ، وركضت الفرس برجلي: استحثثته ليعدو. هذا؛ والبأس: الشجاعة، والقوة، والخوف، وشدة الحرب، والمراد به هنا: العذاب، كما رأيت، ومؤنثه: البأساء بالمد، وما أشبه ما تضمنته الآيتان هنا بما تضمنته الآيات [64 و 65 و 66] من سورة (المؤمنون).

الإعراب: {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لمّا): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف بمعنى حين عند ابن السراج، والفارسي، وابن جني، وجماعة، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وصوب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني. {أَحَسُّوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {بَأْسَنا:} مفعول به، و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا، ولا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا؛ لأنها تكون ابتدائية. {إِذا:} فجائية واقعة في جواب (لمّا) وانظر

ص: 15

الآية رقم [97] الآتية لتفصيل الأقوال فيها. {هُمْ:} مبتدأ. {مِنْها:} متعلقان بالفعل بعدهما، وجملة:{مِنْها يَرْكُضُونَ} في محل رفع خبر المبتدأ، وانظر محل الجملة الاسمية في الآية المذكورة و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، و {إِذا هُمْ..} . إلخ جواب (لمّا)، لا محل له.

{لا تَرْكُضُوا وَاِرْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13)}

الشرح: {لا تَرْكُضُوا} أي: لا تفرّوا. قيل: إن الملائكة نادتهم لمّا انهزموا عند معاينة العذاب استهزاء بهم. {وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} أي: عودوا إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم، والخروج عن طاعة ربكم. والمترف: المتنعم بلذائذ الدنيا، وشهواتها. {وَمَساكِنِكُمْ} التي كانت لكم، وتستقرون فيها. {لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ} أي: عن شيء من دنياكم استهزاء بهم. وقيل:

المعنى: لعلكم تسألون عما نزل بكم من العقوبة، فتخبرون به. وفي الخازن: قال ابن عباس رضي الله عنهما: تسألون عن قتل نبيكم.

قيل: نزلت الآيات في أهل «حضور» قرية باليمن، وكان أهلها عربا، فبعث الله إليهم نبيا اسمه: شعيب بن ذي مهدم، وقبره باليمن بجبل يقال له: ضنن كثير الثلج، وليس هو بشعيب صاحب مدين، فدعاهم إلى الله، فكذبوه، وقتلوه، فسلط الله عليهم بختنصر، فقتلهم، وسباهم، فلمّا استمر فيهم القتل؛ هربوا، فقالت لهم الملائكة استهزاء: لا تركضوا، وارجعوا إلى مساكنكم وأموالكم، لعلكم تسألون شيئا من دنياكم، فإنكم أهل ثروة، ونعمة، فتعطون من شئتم، وتمنعون من شئتم، فاتّبعهم بختنصر، وأخذتهم السيوف، ونادى مناد من جو السماء:

يا لثارات الأنبياء! فلما رأوا ذلك؛ أقروا بالذنب حين لم ينفعهم، وهو ما في الآية التالية.

انتهى. خازن، وقرطبي بتصرف.

الإعراب: {لا تَرْكُضُوا:} مضارع مجزوم ب: {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {وَارْجِعُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {إِلى ما:} متعلقان بالفعل قبلهما. {أُتْرِفْتُمْ:}

ماض مبني للمجهول مبني على السكون، والتاء نائب فاعله. {فِيهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد الضمير المجرور محلا ب:(في). {وَمَساكِنِكُمْ:}

معطوف على {ما} الموصولة، والكاف في محل جر بالإضافة. {لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه. {تُسْئَلُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والمتعلق محذوف. انظر الشرح، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعل) والجملة الاسمية فيها معنى التعليل، والآية بكاملها في محل نصب مقول القول، انظر القول المذكور في الشرح. تأمل، وتدبر.

ص: 16

{قالُوا يا وَيْلَنا إِنّا كُنّا ظالِمِينَ (14)}

الشرح: {قالُوا يا وَيْلَنا..} . إلخ: اعترفوا بالذنوب حين نزل بهم العذاب، ولم يجدوا مخلصا منه ولكن لم ينفعهم اعترافهم، وقالوا ذلك تحسرا، وتأسفا على ما فرط منهم، وانظر شرح (ويل) في الآية رقم [18] الآتية.

الإعراب: {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {يا وَيْلَنا:} (يا): قال الجلال: حرف تنبيه. (ويلنا): قال الجلال: مصدر، لا فعل له من لفظه، وهو يعني: أنه مفعول مطلق، والتحقيق: أنه منادى، ونداء الويل على تشبيهه بشخص يطلب إقباله، كأنه قيل: يا هلاكنا أقبل، فهذا أوانك، ففيه استعارة مكنية، وتخييلية، وفيه تقريع لهم، وإشارة إلى أنه لا صاحب لهم غير الهلاك، وطلبوا هلاكهم؛ لئلا يروا ما هم فيه. انتهى. جمل نقلا عن الشهاب في سورة (الكهف).

و (نا): في محل جر بالإضافة. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، وحذفت النون، وبقيت الألف دليلا عليها. {كُنّا:} ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمه. {ظالِمِينَ:}

خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، وجملة:{كُنّا..} . إلخ في محل رفع خبر (إن) والكلام: {يا وَيْلَنا..} . إلخ كله في محل مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15)}

الشرح: {فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ:} فما زالوا يرددون: {يا وَيْلَنا..} . إلخ وإنما سماه دعوى؛ لأن المدلول كأنه يدعو بالويل والثبور، وعظائم الأمور، ويقول: يا ويل تعال فهذا أوانك.

{حَتّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً:} مثل النبت الذي يحصد بالمناجل، وهم قد حصدوا بالسيوف، هذا؛ و (حصيد) فعيل بمعنى مفعول، يستوي فيه المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث.

{خامِدِينَ:} ميتين، والخمود: الهمود، كخمود النار إذا طفئت، فشبه خمود الحياة بخمود النار، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {فَما:} الفاء: حرف استئناف، وتفريع. (ما): نافية. {زالَتْ:} ماض ناقص، والتاء للتأنيث حرف لا محل له. {تِلْكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع اسم (زال) واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {دَعْواهُمْ:} خبر (زال) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {حَتّى:} حرف جر، وغاية، بعدها «أن» مقدرة. {جَعَلْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به. {حَصِيداً:} مفعول به ثان، أو هو حال من الضمير المنصوب. {خامِدِينَ:} من تعدد المفعول الثاني، أو من تعدد الحال، فهو منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه

ص: 17

جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، و «أن» المقدرة بعد {حَتّى} والفعل (جعل) في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى} والجار، والمجرور متعلقان بالفعل {زالَتْ،} وجملة: {فَما زالَتْ تِلْكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16)}

الشرح: قال البيضاوي-رحمه الله تعالى-في تفسير الآية: وإنما خلقناها مشحونة بضروب البدائع، تبصرة للنظار، وتذكرة لذوي الاعتبار، وتسببا لما ينتظم به أمور العباد في المعاش، والمعاد، فينبغي أن يتسلقوا به إلى تحصيل الكمال، ولا يغترّوا بزخارفها، فإنها سريعة الزوال.

وقال الخازن-رحمه الله تعالى-: معناه: ما سوينا هذا السقف المرفوع، وهذا المهاد الموضوع، وما بينهما للّعب، واللهو؛ وإنما سويناهما لفوائد، منها: التفكر في خلقهما، وما فيهما من العجائب والمنافع؛ التي لا تعد ولا تحصى.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {خَلَقْنَا:} فعل، وفاعل.

{السَّماءَ:} مفعول به. {وَالْأَرْضَ:} معطوف على ما قبله. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب معطوف على ما قبله. {بَيْنَهُما:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {لاعِبِينَ:} حال من (نا) منصوب

إلخ، وجملة:{وَما خَلَقْنَا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا إِنْ كُنّا فاعِلِينَ (17)}

الشرح: {لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً:} اللهو: المرأة بلغة أهل اليمن، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: اللهو: الولد. وقال الجوهري: وقد يكنى باللهو عن الجماع. قال القرطبي: ومنه قول امرئ القيس: [الطويل]

ألا زعمت بسباسة اليوم أنّني

كبرت وألاّ يحسن اللهو أمثالي

{لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا} أي: من عندنا من الحور العين، لا من عندكم من أهل الأرض، والمراد به الرد على المشركين؛ الذين قالوا: الأصنام بنات الله، وبعضهم يقول: الملائكة بنات، وفيه الرد أيضا على النصارى في دعواهم المسيح ابن الله. {إِنْ كُنّا فاعِلِينَ} أي: ولكن لسنا بفاعلين لاستحالة اللهو علينا بجميع أنواعه من زوجة، وولد، ونحوهما؛ لأنه لا يليق بمقام الربوبية.

الإعراب: {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {أَرَدْنا:} فعل، وفاعل، والمصدر المؤول من:{أَنْ نَتَّخِذَ} في محل نصب مفعول به. {لَهْواً:} مفعول به، وجملة:{أَرَدْنا..} . إلخ

ص: 18

لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لاتَّخَذْناهُ:} اللام: واقعة في جواب (لو). (اتخذناه): فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية جواب {لَوْ} لا محل لها.

{مِنْ:} حرف جر. {لَدُنّا:} اسم مبني على السكون في محل جر ب: {مِنْ،} و (نا): في محل جر بالإضافة، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني. {أَنْ:}

حرف شرط جازم. {كُنّا:} ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، و (انا):

اسمها. {فاعِلِينَ:} خبر (كان) منصوب

إلخ، ومفعوله محذوف، وجواب الشرط محذوف، التقدير: لكنا لم نفعله، فلم نرده. هذا؛ وأجيز اعتبار {أَنْ} نافية بمعنى ما، وتكون الجملة في محل نصب حال، والشرطية أقوى معنى. تأمل. و (لو) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل لها.

{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ (18)}

الشرح: {نَقْذِفُ:} نلقي، ونرمي. {بِالْحَقِّ} أي: بالإيمان، أو بالقرآن. {عَلَى الْباطِلِ} أي: على الكفر، أو الشيطان، أو ما افتروه على الله من اتخاذه الولد. {فَيَدْمَغُهُ:} فيبطله، ويمحقه، ويقهره. قال النسفي-رحمه الله تعالى-: وهذه استعارة لطيفة؛ لأن أصل القذف، والدمغ في الأجسام، ثم استعير القذف لإيراد الحق على الباطل، والدمغ لإذهابه، فالمستعار منه حسي، والمستعار له عقلي، فكأنه قيل: بل نورد الحق الشبيه بالجسم القوي على الباطل الشبيه بالجسم الضعيف، فيبطله إبطال الجسم القوي الضعيف، انتهى.

{فَإِذا هُوَ زاهِقٌ:} هالك. والزهوق: ذهاب الروح، وانظر الآية رقم [81] من سورة (الإسراء) تجد ما يسرك. {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ} أي: ولكم الهلاك والوبال، مما تصفون الله بما لا يليق به من اتخاذ الصاحبة والولد، هذا؛ وويل كلمة تقولها العرب لكل من وقع في هلكة، وأصلها في اللغة: العذاب، والهلاك. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-الويل: شدة العذاب. وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الويل: واد في جهنّم، يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره» . أخرجه الترمذي، هذا؛ و (الويل) مصدر لم يستعمل منه فعل؛ لأن فاءه، وعينه معتلتان، ومثله: ويح، وويس، وويب، وهو لا يثنى، ولا يجمع، وقيل: يجمع على: «ويلات» بدليل قول امرئ القيس: [الطويل]

ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة

فقالت لك الويلات إنّك مرجلي

وإذا أضيفت هذه الأسماء؛ فالأحسن النصب على المفعولية المطلقة، وإذا لم تضف فالأحسن فيها الرفع على الابتداء، وهي نكرات، وساغ ذلك لتضمنها معنى خاصا، هذا؛ وويل نقيض الوأل، وهو النجاة، هذا؛ وقد ينادى الويل إذا أضيف إلى ياء المتكلم، أو «نا» وسبقته أداة النداء، مثل:

يا ويلتي، يا ويلتنا، ولا تنس: أنه قد أنث الويل في هذين اللفظين، وانظر الآية رقم [14].

ص: 19

الإعراب: {بَلْ:} حرف إضراب عن الكلام السابق، أي: دع ذلك الذي قالوه، فإنه كذب، وباطل. {نَقْذِفُ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {بِالْحَقِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما.

{عَلَى الْباطِلِ:} متعلقان به أيضا، أو هما متعلقان بمحذوف حال من (الحق) التقدير: مستعليا على الباطل. والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {فَيَدْمَغُهُ:} الفاء: حرف عطف. (يدمغه): مضارع مرفوع، والفاعل يعود إلى (الحق) والهاء مفعول به، وهو يعود إلى {الْباطِلِ} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها، هذا؛ ويقرأ الفعل بالنصب على اعتبار الفاء للسببية، من غير أن تسبق بنفي، أو طلب، وهي قراءة غير سبعية، ومثلها في النصب قول المغيرة بن حبناء:[الوافر]

سأترك منزلي لبني تميم

وألحق بالحجاز فأستريحا

انظر الكلام على هذا البيت في كتابنا فتح القريب المجيب رقم [320] تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. {فَإِذا هُوَ زاهِقٌ} انظر إعراب الآية رقم [97] فالإعراب واحد. {وَلَكُمُ:} الواو: حرف استئناف. (لكم): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْوَيْلُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {مِمّا:} قال أبو البقاء: متعلقان بمحذوف حال، التقدير: ولكم الويل واقعا، وهذا يعني: أن الحال من {الْوَيْلُ} وكثيرون لا يجيزون مجيء الحال من المبتدأ، والأحسن تعليقهما بمحذوف خبر المبتدأ، أو هما متعلقان بمحذوف خبر ثان، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:(من)، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: من الذي، أو: من شيء تصفونه به، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب:(من)، التقدير: ولكم الويل من وصفكم الله بما لا يليق به.

{وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19)}

الشرح: {وَلَهُ:} ولله، وفيه التفات من التكلم في الآيات السابقة إلى الغيبة. {مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:} ملكا، وخلقا، وعبيدا، وهو الخالق لهم، والمنعم عليهم بأصناف النعيم، فكيف يجوز أن يشرك به ما هو عبده، وخلقه، وملكه. {وَمَنْ عِنْدَهُ} يعني: الملائكة المنزلين منه لكرامتهم عليه منزلة المقربين عند الملوك، وقد ادعيتم: أنهم بنات الله. {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ:} لا يأنفون، ولا يتعظمون عنها. {وَلا يَسْتَحْسِرُونَ:} لا يتعبون. وقيل: لا يملون، ولا يكلّون. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَلَهُ:} الواو: حرف استئناف. (له): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. {فِي السَّماواتِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. (من):

ص: 20

مبتدأ. {عِنْدَهُ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول وهي عندية تشريف وتكريم، لا عندية مكان، والهاء في محل جر بالإضافة. {لا:} نافية. {يَسْتَكْبِرُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، هذا؛ وأجيز اعتبار (من) معطوفة على الأولى، وعليه فالجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، أو من الضمير المتصل في:{عِنْدَهُ،} أو من {مَنْ} الأولى أو الثانية على قول من يجيز رفع من في الجار والمجرور: (له) من غير اعتماد على نفي، وشبهه. {عَنْ عِبادَتِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة {وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها.

{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20)}

الشرح: {يُسَبِّحُونَ..} . إلخ: يقدسون الله، ويعظمونه، ويصلّون له في جميع أوقات الليل والنهار، لا يملون، ولا يسأمون، ولا يضعفون، يلهمون التسبيح، والتقديس، كما يلهمون النفس. قال عبد الله بن الحارث: سألت كعبا، فقلت: أما لهم شغل عن التسبيح؟ أما يشغلهم عنه شيء؟ فقال: من هذا؟ فقلت: من بني عبد المطلب، فضمني إليه، وقال: يا بن أخي! هل يشغلك عن النفس شيء؟ إن التسبيح لهم بمنزلة النفس. وقد استدل بهذه الآية من قال: إن الملائكة أفضل من بني آدم، وقد بينت لك في سورة (النساء) وغيرها: أن خواص بني آدم أفضل من خواص الملائكة، وخواص الملائكة أفضل من عوام بني آدم، وعوام بني آدم أفضل من عوام الملائكة، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [44] من سورة (الإسراء) ففيها كبير فائدة. وانظر شرح {اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} في الآية رقم [12] منها.

الإعراب: {يُسَبِّحُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، أو هي حال من واو الجماعة، فهي حال متداخلة من وجه. {اللَّيْلَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. {وَالنَّهارَ:} معطوف على ما قبله، وجملة:{لا يَفْتُرُونَ} مع المتعلق المحذوف في محل نصب حال من واو الجماعة في {يُسَبِّحُونَ} فهي حال متداخلة من وجه، وغير متداخلة على اعتبار الأولى مستأنفة، وأجيز اعتبارها مستأنفة أيضا.

{أَمِ اِتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)}

الشرح: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً..} . إلخ أي: بل اتخذ كفار قريش آلهة مصنوعة من معادن الأرض، وهي الأصنام المتخذة من الحجارة، والخشب، وغيرهما، وهي من الأرض. {هُمْ يُنْشِرُونَ:} يحيون الموتى، ففيه زيادة توبيخ، وإن لم يدعوا: أنّ أصنامهم تحيي الموتى، وإن لم يقروا بإحياء الموتى، وكيف يدعون ذلك، ومن أعظم المنكرات أن يبعث الموتى من قبورهم

ص: 21

بعض الجمادات، وإنما يعزى لهم ذلك على وجه التبكيت؛ لأنه يلزم من دعوى الألوهية لها دعوى الإنشار؛ لأن العاجز عنه، لا يصح أن يكون إلها؛ إذ لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور. والإنشار من جملة المقدورات، وقد عوملت الأصنام وهي لا تعقل معاملة المذكر العاقل؛ حيث جمعت جمعه. انظر الآية رقم [58] الآتية.

الإعراب: {أَمِ:} حرف عطف بمعنى: «بل» كما رأيت. {اِتَّخَذُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {آلِهَةً:} مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {مِنَ الْأَرْضِ:}

متعلقان بمحذوف صفة {آلِهَةً،} أو هما متعلقان بالفعل قبلهما. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُنْشِرُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، أو هي في محل نصب صفة ل:{آلِهَةً} .

{لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ (22)}

الشرح: {لَوْ كانَ فِيهِما:} في السموات والأرض. {آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ:} غير الله، ف:

{إِلاَّ} بمعنى «غير» هنا، وهي صفة آلهة: فوصفت بها كما توصف ب: «غير» لو قيل: آلهة غير الله. واعتبره ابن هشام في المغني من تقارض اللفظين في الأحكام، قال: من ملح كلامهم تقارض اللفظين في الأحكام، ولذلك أمثله: أحدهما إعطاء (غير) حكم (إلا) في الاستثناء بها، نحو قوله تعالى:{لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} فيمن نصب غير، وإعطاء (إلا) حكم غير في الوصف بها، نحو قوله تعالى:{لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا} وانظر الشاهد رقم [1195] وما بعده من كتابنا فتح القريب المجيب تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

ولا يجوز رفع ما بعدها على البدل من {آلِهَةٌ؛} لأن الكلام قبل {إِلاَّ} تام موجب، والبدل لا يسوغ إلا في الكلام التام المنفي، كقوله تعالى:{وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ} في قراءة الرفع، ولا يجوز نصبه على الاستثناء لفساد المعنى؛ ولأن الجمع إذا كان منكرا لا يجوز أن يستثنى منه عند المحققين؛ لأنه لا عموم له بحيث يدخل فيه المستثنى لولا الاستثناء، ولهذه المسألة نظائر في الشعر العربي، مثل قول ذي الرمة:[الطويل]

أنيخت، فألقت بلدة فوق بلدة

قليل بها الأصوات إلا بغامها

وقول لبيد بن ربيعة العامري الصحابي، رضي الله عنه:[البسيط]

لو كان غيري-سليمى-الدّهر غيّره

وقع الحوادث إلا الصّارم الذّكر

وهما الشاهدان رقم [113 و 114] من كتابنا فتح القريب المجيب إعراب شواهد مغني اللبيب. {لَفَسَدَتا:} لخرجتا عن نظامهما المشاهد؛ لوجود التمانع بين الآلهة على وفق العادة

ص: 22

عند تعدد الحاكم من التمانع في الشيء، وعدم الاتفاق عليه، ويوجد التمانع؛ لأن كل أمر صدر عن اثنين، فأكثر لم يجر على النظام، ويدل العقل على ذلك، وذلك أنّا لو قدرنا إلهين، لكان أحدهما إذا انفرد صح منه تحريك الجسم، وإذا انفرد الثاني صح منه تسكينه، فإذا اجتمعا؛ وجب أن يبقيا على ما كانا عليه حال الانفراد، فعند الاجتماع يصح أن يحاول أحدهما التحريك، والآخر التسكين، فإما أن يحصل المرادان وهو محال، وإما أن يمتنعا وهو أيضا محال؛ لأن كل واحد منهما يكون عاجزا، فوجب القول بوجود إلهين يوجب الفساد، فكان القول به باطلا. انتهى. جلال، وجمل نقلا عن كرخي. وانظر الآية رقم [42] من سورة (الإسراء) والآية رقم [91] من سورة (المؤمنون).

{فَسُبْحانَ:} انظر الآية رقم [1] من سورة (النحل). {اللهُ:} انظر الآية رقم [1] من سورة (الكهف). {رَبِّ:} انظر الآية رقم [8] من سورة (الإسراء). {الْعَرْشِ:} قال الراغب في كتابه (مفردات القرآن): وعرش الله عز وجل لا يعلمه البشر إلا بالاسم، لا بالحقيقة، وليس هو كما تذهب إليه أوهام العامة، فإنه لو كان كذلك؛ لكان حاملا له، تعالى الله عن ذلك. هذا؛ وقال سليمان الجمل: وأما المراد به هنا فهو الجسم النوراني المرتفع على كل الأجسام المحيط بكلها. وانظر ما ذكرته في آية الكرسي [255] من سورة (البقرة).

هذا؛ وفي سورة (الرعد): {ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} وفي سورة (طه): {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى} فمعنى استوى: استولى، ولا يجوز تفسيره باستقر، وثبت، فيكون الله من صفات الحوادث، وهذا التأويل ينبغي أن يقال في كل ما يوهم وصفا لا يليق به تعالى، والمنقول عن جعفر الصادق، والحسن، وأبي حنيفة، ومالك-رضي الله عنهم أجمعين-أن الاستواء معلوم، والتكييف فيه مجهول، والإيمان به واجب، وجحوده كفر، والسؤال عنه بدعة.

وهو مثل قول الإمام علي كرم الله وجهه: الاستواء غير مجهول، والتكييف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة؛ لأنه تعالى كان ولا مكان، فهو على ما كان قبل خلق المكان لم يتغّير عمّا كان. ومضمون:{فَسُبْحانَ..} . إلخ تنزيه الله عما وصفه به المشركون، والنصارى من اتخاذ الصاحبة، والولد. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه. هذا؛ وأهل السلف يقولون: استوى استواء يليق به، ليس كمثله شيء.

الإعراب: {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {كانَ:} ماض ناقص. {فِيهِما:} متعلقان بمحذوف خبر {كانَ} مقدم، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {آلِهَةٌ:} اسم كان مؤخر.

{إِلاَّ:} اسم بمعنى «غير» وقال الفراء بمعنى: «سوى» صفة آلهة، ظهر إعرابه على ما بعده بطريق العارية لكونه على صورة الحرف و {إِلاَّ} مضاف، ولفظ الجلالة مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة {إِلاَّ} التي على صورة الحرف، وقال المبرد: إن اسم {اللهُ:} بدل من آلهة، ورده ابن هشام في المغني، وناقشه طويلا.

ص: 23

{لَفَسَدَتا:} اللام: واقعة في جواب {لَوْ} . (فسدتا): ماض، والتاء للتأنيث، وحركت بالفتحة لا لتقائها ساكنة مع ألف الاثنين التي هي فاعله، والجملة الفعلية جواب {لَوْ،} لا محل لها، و {لَوْ} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {فَسُبْحانَ:} الفاء: حرف استئناف. (سبحان): مفعول مطلق لفعل محذوف، وهو مضاف، و {اللهُ} مضاف إليه، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو من إضافته لمفعوله فيكون الفاعل محذوفا، والجملة الحاصلة منه، ومن فعله المحذوف مستأنفة، لا محل لها. {رَبِّ:} صفة لفظ الجلالة، أو بدل منه، و {رَبِّ} مضاف، و {الْعَرْشِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {عَمّا:} جار ومجرور متعلقان ب: (سبحان) وانظر بقية الإعراب في الآية رقم [18] فهو مثله بلا فارق.

{لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23)}

الشرح: {لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ} أي: لا يسأل الله عمّا يفعله، ويقضيه في عباده من إعزاز، وإذلال، وهدى، وإضلال، وإسعاد، وإشقاء؛ لأنه تعالى المالك على الحقيقة، ولو اعترض على الملك بعض خدمه، وحشمه مع وجود التجانس، وجواز الخطأ عليه، وعدم الملك الحقيقي؛ لا ستقبح ذلك منه، وعدّ سفها، فالذي هو مالك الملوك، ورب الأرباب، وفعله كله صواب أولى بأن لا يعترض عليه. {وَهُمْ يُسْئَلُونَ:} والناس يسألون عن أعمالهم سؤال توبيخ، وتبكيت، يقال لهم يوم القيامة: لم فعلتم كذا؟ لأنهم عبيد يجب عليهم امتثال أمر مولاهم، والله تعالى ليس فوقه أحد.

قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: وهذه الآية قاصمة للقدرية، وغيرهم، وروي عن عليّ رضي الله عنه: أن رجلا قال له: يا أمير المؤمنين! أيجب ربنا أن يعصى؟ قال: أفيعصى ربنا قهرا؟ قال: أرأيت إن منعني الهدى، ومنحني الردى؛ أأحسن إليّ أم أساء؟ قال: إن منعك حقك؛ فقد أساء، وإن منعك فضله، فهو فضله يؤتيه من يشاء، ثم تلا الآية. وعن ابن عباس رضي الله عنهما-قال: لما بعث الله-عز وجل-موسى، وكلمه، وأنزل عليه التوراة؛ قال:

اللهم إنك رب عظيم، لو شئت أن تطاع؛ لأطعت، ولو شئت ألا تعصى ما عصيت، وأنت تحب أن تطاع، وأنت في ذلك تعصى، فكيف هذا يا رب؟! فأوحى الله إليه: إني لا أسأل عما أفعل، وهم يسألون.

تنبيه: من الصفات التي امتاز بها القرآن: الإيجاز في الألفاظ مع احتوائها على المعاني الكثيرة التي تحتاج إلى كلام كثير، ومن ذلك قوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ} وفي الآية الكريمة إيجاز واضح وظاهر، ولقد أعجب الناس بقول السموءل:[الطويل]

وننكر إن شئنا على الناس قولهم

ولا ينكرون القول حين نقول

ص: 24

وعند ما عدوا حروف الآية، وحروف البيت لم يجدوا بدّا من الاعتراف بفصاحة القرآن وبلاغته وإيجازه، وأين الثرى من الثريا؟.

الإعراب: {لا:} نافية. {يُسْئَلُ:} مضارع مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى الله تعالى وهو المفعول الأول. {عَمّا:} متعلقان بالفعل قبلهما. وهما في محل نصب مفعوله الثاني، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:(عن)، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: عن الذي، أو: عن شيء يفعله. وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب: (عن) التقدير: عن فعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {وَهُمْ:} الواو: واو الحال.

(هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُسْئَلُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، والمتعلق محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة الفعلية في محل رفع خبر مبتدأ، والجملة الاسمية {وَهُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من نائب الفاعل المستتر، والرابط: الواو فقط، وهو أولى من عطف الجملة الاسمية على الفعلية.

{أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)}

الشرح: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً:} كرره استعظاما لكفرهم، واستفظاعا لأمرهم، وتبكيتا، وإظهارا لجهلهم، وقال النسفي: الإعادة لزيادة الإفادة، فالأول للإنكار عليهم من حيث العقل، والثاني من حيث النقل. انتهى. هذا؛ وفيه زيادة التوبيخ، والتقريع. {قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ} أي: حجتكم على تلك الآلهة؛ التي تعبدونها من دون الله. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ} أي: هذا القرآن فيه خبر من تبعني على ديني إلى يوم القيامة، وما لهم من الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية. {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} أي: فيه خبر من قبلي من الأمم السالفة، وما فعل بهم في الدنيا، وما يفعل بهم في الآخرة.

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: {ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ:} القرآن، {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} التوراة، والإنجيل. والمعنى: راجعوا القرآن، والتوراة، والإنجيل، وسائر الكتب هل تجدون فيها: أن الله اتخذ ولدا، أو كان معه آلهة. هذا؛ ويقرأ بتنوين «(ذكر)» وكسر ميم «(من)» في الموضعين، وبفتحها في الموضعين. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ} أي: القرآن وما فيه من المواعظ، والأحكام، ولا يميزون بينه وبين الباطل. {فَهُمْ مُعْرِضُونَ} أي: لعدم معرفتهم الحق، فهم معرضون عن الاهتداء به، والأخذ بتعاليمه. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

هذا؛ وذكر الأكثر إما لأن بعضهم لم يعرف الحق لنقصان عقله، أو التقصير في النظر، أو لم تقم عليه الحجة؛ لأنه لم يبلغ حد التكليف، أو لأنه يقام مقام الكل.

ص: 25

أما {هاتُوا} فهو بمعنى: أحضروا. قال ابن هشام-رحمه الله تعالى-في قطر الندى: وأما «هات، وتعال» فعدهما جماعة من النحويين في أسماء الأفعال، والصواب: أنهما فعلا أمر، بدليل أنهما دالان على الطلب، وتلحقهما ياء المخاطبة، تقول: هاتي، وتعالي، ثم قال:

واعلم: أنّ آخر (هات) مكسور أبدا إلا إذا كان لجماعة المذكرين، فإنه يضم، فتقول: هات يا هند، وهاتيا يا زيدان، وهاتيا يا هندان، وهاتين يا هندات، كل ذلك بكسر التاء، وتقول:

هاتوا يا قوم بضمها، قال تعالى:{قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} أقول: ومما ينبغي التنبه له: أنهما لا ماضي، ولا مضارع لهما، فهما جامدان، ملازمان للأمرية.

الإعراب: {أَمِ:} حرف عطف بمعنى: «بل» {اِتَّخَذُوا:} ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِنْ دُونِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {آلِهَةً} كان صفة له، فلما قدم عليه؛ صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . وقيل في محل نصب مفعول به ثان، ولا وجه له قطعا. {آلِهَةً:} مفعول به، وجملة:{اِتَّخَذُوا..} .

إلخ مستأنفة لا محل لها. {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {هاتُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بُرْهانَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله، وجملة:{هاتُوا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له.

{ذِكْرُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف. {مِنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {مَعِيَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، هذا؛ وعلى قراءة التنوين وفتح ميم {مِنْ} فهو في محل نصب صراحة، والإعراب نفسه، وأما على قراءة التنوين وكسر الميم؛ ف:(من) جارة لمحذوف، والجار والمجرور متعلقان ب:(ذكر) والظرف متعلق بمحذوف صلة ذلك المحذوف، وتقدير الكلام: هذا ذكر من الّذي معي. {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} معطوف على ما قبله، وهو مثله قراءة، وإعرابا. {بَلْ:} حرف إضراب. {أَكْثَرُهُمْ:} مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة. {لا:} نافية. {يَعْلَمُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ. والواو فاعله.

{الْحَقَّ:} مفعول به، ويقرأ برفعه على أنه خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو الحق، والجملة الاسمية هذه في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية:{لا يَعْلَمُونَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{أَكْثَرُهُمْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، والجملة الاسمية:{هذا ذِكْرُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول. {فَهُمْ:} الفاء: حرف عطف وسبب، والجملة الاسمية:(هم معرضون) معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.

ص: 26

{وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}

الشرح: {وَما أَرْسَلْنا..} . إلخ: فهذه الآية مقررة لما سبقها من آي التوحيد، حيث قال الله لجميع الرسل السابقين قولوا: لا إله إلا الله. فأدلة العقل، وهي ما يوجد في السموات، والأرض من آيات شاهدة: أنه لا شريك له تعالى، والنقل عن جميع الرسل موجود، والدليل إما معقول، وإما منقول، قال قتادة: لم يرسل نبيّ إلا بالتوحيد، والشرائع مختلفة في التوراة، والإنجيل، والقرآن، وكل ذلك على الإخلاص، والتوحيد. أقول: وتغير الشرائع، والأحكام تبع لتغير الأزمان.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {أَرْسَلْنا:} فعل، وفاعل. {مِنْ قَبْلِكَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وفي الآية رقم [7] ونحوها محذوف حرف الجر، والكاف في محل جر بالإضافة. {مِنْ:} حرف جر صلة. {رَسُولٍ:} مفعول به منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {إِلاّ:} حرف حصر. {نُوحِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، والفاعل مستتر تقديره:

«نحن» . {إِلَيْهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، هذا؛ ويقرأ:«(يوحى إليه)» فهو مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، والجار والمجرور:{إِلَيْهِ} في محل نائب فاعله، وعلى القراءتين فالجملة الفعلية في محل نصب حال من {رَسُولٍ،} وساغ مجيء الحال من النكرة؛ لتقدم النفي عليها. {أَنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها، وهو ضمير الشأن.

{إِلاّ:} نافية للجنس تعمل عمل: «إن» . {إِلهَ:} اسم {إِلاّ} مبني على الفتح في محل نصب، والخبر محذوف، تقديره: موجود. {إِلاّ:} حرف حصر. {أَنَا:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع، وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: اعتباره بدلا من اسم {إِلاّ} على المحل؛ إذ محله الرفع على الابتداء، وثانيهما: اعتباره بدلا من (لا) واسمها؛ لأنها وما بعدها في محل رفع بالابتداء، وثالثها: اعتباره بدلا من الضمير المستكن في الخبر المحذوف، وهو الأولى، والأقوى، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (أن)، و (أن) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: نوحي إليه بكونه: {لا إِلهَ إِلاّ..} . إلخ. هذا؛ ويجوز اعتبار المصدر على قراءة: «(يوحى)» نائب فاعل له. تأمل، والجملة الفعلية {وَما أَرْسَلْنا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{فَاعْبُدُونِ:} الفاء: حرف عطف على رأي من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر. (اعبدون): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك واقعا، وحاصلا منا؛ فاعبدوني، وفي الكلام التفات من المتكلم الجماعة إلى المتكلم المفرد، وهو واضح، وجليّ.

ص: 27

{وَقالُوا اِتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26)}

الشرح: قال المفسرون: نزلت في قبيلة خزاعة؛ حيث قالوا: الملائكة بنات الله. وبه قال بنو جهينة، وبنو سلمة، وبنو مليح. أقول: تعم الآية كل من نسب لله ولدا، كاليهود؛ حيث قالوا: عزير ابن الله، والنصارى حيث قالوا: المسيح ابن الله، والملائكة، وعزير، والمسيح كلهم عباد الله، مقربون إليه، ومكرمون عنده.

الإعراب: {وَقالُوا:} الواو: حرف استئناف. (قالوا): ماض، وفاعله، والألف للتفريق.

وانظر إعرابه في الآية رقم [26] من سورة (مريم) عليها السلام. {اِتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً:} ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة (قالوا

) إلخ مستأنفة لا محل لها. {سُبْحانَهُ:} مفعول مطلق لفعل محذوف، وهو مضاف، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو من إضافته لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا، والجملة الحاصلة منه، ومن فعله المحذوف معترضة، والمراد منها: تنزيه الله من اتخاذ الولد، بل ومن اتخاذ الصاحبة. {بَلْ:} حرف عطف، وإضراب.

{عِبادٌ:} خبر محذوف، التقدير: بل هم عباد. {مُكْرَمُونَ:} صفة {عِبادٌ} مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية معطوفة على جملة: (قالوا

) إلخ أو هي مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)}

الشرح: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} أي: لا يتقدمون الله بقول يقولونه من تلقاء أنفسهم، شأنهم شأن العبيد المؤدبين، والضمير يعود على من نسبهم الكفار أولادا لله تعالى، {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ:} لا يعملون إلا ما يأمرهم به، ولا يخالفون أوامره بشيء أبدا.

الإعراب: {لا:} نافية. {يَسْبِقُونَهُ:} مضارع، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية في محل رفع صفة ثانية ل:{عِبادٌ} أو هي في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم.

{بِالْقَوْلِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَهُمْ:} الواو: واو الحال. (هم): مبتدأ. {بِأَمْرِهِ:}

متعلقان بما بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة. من إضافة المصدر لفاعله، وجملة:

{يَعْمَلُونَ} مع المفعول المحذوف في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: (هم

) إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

ص: 28

{يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)}

الشرح: {يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ:} الفاعل يعود إلى {الرَّحْمنُ،} والضمير المجموع يعود إلى الذين نسبهم الكفار أولادا لله تعالى، وقال عنهم: إنهم عباد مكرمون، والمعنى: يعلم الرحمن ما عمل أولئك العباد، وما هم عاملون. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: يعلم ما بين أيديهم من أمور الآخرة، وما خلفهم من أمور الدنيا، وقيل: يعلم ما كان قبل خلقهم، وما يكون بعد خلقهم، وانظر الآية رقم [110] من سورة (طه)، والآية رقم [64] من سورة (مريم) عليهاالسّلام.

{وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضى} أي: لا يطلبون الشفاعة إلا للمؤمنين العابدين، وقال مجاهد: هم كل من رضي الله عنه، والملائكة يشفعون غدا في الآخرة كما في صحيح مسلم، وغيره، وفي الدنيا أيضا، فإنهم يستغفرون للمؤمنين، ولمن في الأرض. انتهى. قرطبي. أقول:

وأكبر دليل على ذلك آية (غافر) رقم [7]: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا..} . إلخ {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ:} من خوفه. {مُشْفِقُونَ:} خائفون، وجلون لا يأمنون مكره، هذا؛ وأصل الخشية: خوف مع تعظيم، ولذلك خص بها العلماء، والإشفاق: خوف مع اعتناء، فإن عدّي ب:«من» فمعنى الخوف فيه أظهر، وإن عدّي ب:«على» فبالعكس انتهى. بيضاوي. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنّه رأى جبريل عليه السلام ليلة المعراج ساقطا كالحلس من خشية الله» انتهى. كشاف. وانظر الآية رقم [58] من سورة (المؤمنون).

الإعراب: {يَعْلَمُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {الرَّحْمنُ}. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، و {بَيْنَ} مضاف، و {أَيْدِيهِمْ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء للثقل، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَما:} معطوفة على ما قبلها. {خَلْفَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة (ما)، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{يَعْلَمُ..} . إلخ في محل نصب حال من الضمير المنصوب، أو المجرور بالإضافة، والرابط: الضمير فقط، أو: الجملة مستأنفة لا محل لها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {يَشْفَعُونَ:} مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة لا محل لها. {إِلاّ} حرف حصر.

{لِمَنِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر باللام. {اِرْتَضى:} ماض، والفاعل يعود إلى (الله)، والجملة الفعلية صلة (من) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: إلا للذي، أو لشخص ارتضاه الله. {وَهُمْ:}

الواو: واو الحال. (هم): مبتدأ. {مِنْ خَشْيَتِهِ:} متعلقان بما بعدهما، والهاء في محل جر

ص: 29

بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. {مُشْفِقُونَ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

{وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ (29)}

الشرح: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ:} قال قتادة، والضحاك، وغيرهما: عنى بهذه الآية إبليس؛ حيث ادعى الشركة، ودعا إلى عبادة نفسه، وكان من الملائكة، ولم يقل أحد من الملائكة: إنّي إله من دون الله. انتهى. قرطبي. أقول: والأولى التعميم لكل من يدعي الألوهية من المخلوقات. {فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} أي: الذي يدعي الألوهية جزاؤه جهنم. {كَذلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ} أي: كما جزينا مدعي الألوهية بالنار نجزي الظالمين أنفسهم بوضع الألوهية، والعبادة في غير موضعها، وفيه تهديد، ووعيد لكل من أشرك بالله شيئا.

بعد هذا فقد وصف الله الملائكة بصفات سبع: الأولى: مكرمون، والأخيرة:{وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ..} . إلخ، فهذه الضمائر كلها للملائكة. انتهى. جمل. بعد هذا انظر «الظلم، والبغي» في الآية رقم [90] من سورة (النحل) وشرح {يَجْزِي} في الآية رقم [31] منها.

الإعراب: {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَقُلْ:} مضارع فعل الشرط، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى (من).

{مِنْهُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، و (من) بيان لما أبهم في (من). {إِنِّي:}

حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {إِلهٌ:} خبر (إنّ). {مِنْ دُونِهِ:} متعلقان بمحذوف صفة {إِلهٌ،} والهاء في محل جر بالإضافة. {فَذلِكَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (ذلك):

اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {نَجْزِيهِ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:

«نحن» ، والهاء مفعول به أول. {جَهَنَّمَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: جملة الشرط، وقيل: جملة الجواب، وقيل: الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين، والجملة الاسمية: (من

) إلخ مستأنفة لا محل لها. {كَذلِكَ:} الكاف: حرف تشبيه وجر.

(ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف عامله ما بعده، التقدير: نجزي الظالمين جزاء كائنا مثل ذلك الجزاء الذي نجزيه من يقل: إني

إلخ. {نَجْزِي:} مضارع مرفوع

إلخ. والفاعل تقديره: «نحن» .

{الظّالِمِينَ:} مفعول به منصوب، والجملة الفعلية:{كَذلِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

ص: 30

{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30)}

الشرح: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: ألم يعلم الذين كفروا، وقرئ بدون واو. {أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً} أي: كانتا شيئا واحدا، وحقيقة متحدة، هذا؛ و (الرتق) بسكون التاء وفتحها:

السد ضد الفتق، وهو أيضا الالتحام، والالتزام. {فَفَتَقْناهُما} أي: فصلنا بينهما بالهواء، وفي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: قاله ابن عباس، والحسن، وعطاء، والضحاك، وكعب-رضي الله عنهم: خلق الله السموات، والأرض شيئا واحدا ملتزقتين ببعضهما، ففصل بينهما بالهواء.

والثاني: قاله مجاهد، والسدي، وأبو صالح: كانت السموات مؤتلفة طبقة واحدة، ففتقها الله، وجعلها سبع سموات، وكذلك كانت الأرضون مرتتقة طبقة واحدة، ففتقها الله، فجعلها سبعا، وإنّما قال تعالى:{كانَتا} ولم يقل: كنّ؛ لأن المراد جماعة السموات، وجماعة الأرضين.

والثالث: قاله عكرمة، وعطية، وابن زيد، وابن عباس أيضا فيما ذكر المهدوي: إن السموات كانت رتقا، لا تمطر، والأرض كانت رتقا، لا تنبت، ففتق السماء بالمطر، والأرض بالنبات، واختار هذا القول الطبري بدليل الجملة التالية. انتهى. قرطبي بتصرف.

{وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ:} فيه ثلاث تأويلات: أحدها: أنه خلق كل شيء من الماء، والثاني: حفظ حياة كل شيء بالماء، فيدخل فيه الحيوان، والنبات، والشجر

إلخ، والثالث: أن المراد ما خلق من النطفة، ويكون هذا اللفظ قد خرج مخرج الغالب؛ لأن آدم، وعيسى، والملائكة، والجان، لم يخلقوا من النطفة كما هو معروف. {أَفَلا يُؤْمِنُونَ} أي:

أفلا يصدقون بما يشاهدونه، وأن ذلك لم يخلق بنفسه، بل لمكوّن كونه، وموجد أوجده، ولا يجوز أن يكون ذلك المكون محدثا، وانظر «الإيمان» في الآية رقم [6]. هذا؛ وفي الآية مقابلة الرتق بالفتق، وهو نوع من البديع جيد

هذا؛ و (جعلنا) هنا بمعنى: خلقنا، وأنشأنا، وأوجدنا. والفرق بين خلق، وجعل الذي له مفعول واحد: أن الخلق فيه معنى التقدير، والجعل فيه معنى التضمين، ولذا عبر سبحانه في كثير من الآيات عن إحداث النور، والظلمات بالجعل، فقال:{وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ} تنبيها على أنهما لا يقومان بأنفسهما كما زعمت المجوس بخلاف الخلق؛ لأن فيه معنى الإيجاد والإنشاء، ولذا عبر سبحانه في كثير من الآيات عن إيجاد السموات والأرض بالخلق، وخصهما جلت قدرته بالذكر هنا، وفي كثير من الآيات؛ لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد، وجمع {السَّماواتِ} دون (الأرض) وهي مثلهن؛ لأن طبقاتها مختلفة بالذات، متفاوتة بالصفات، والآثار،

ص: 31

والحركات وقدمها لشرفها، وعلو مكانها، وتقدم وجودها، ولأنها متعبد الملائكة، ولم يقع فيها معصية كما في الأرض، وأيضا: لأنها كالذّكر، فنزول المطر من السماء على الأرض كنزول المني من الذكر في رحم المرأة؛ لأن الأرض تنبت، وتخضرّ بالمطر.

أما «الكفر» : فهو ستر الحق بالجحود والإنكار، وكفر فلان النعمة، يكفرها كفرا، وكفورا، وكفرانا: إذا جحدها، وسترها، وأخفاها. وكفر الشيء: ستره، وغطاه. وسمي الكافر كافرا؛ لأنه يغطي نعم الله بجحدها، وعبادته غيره، وسمي الزارع كافرا؛ لأنه يلقي البذر في الأرض، ويغطيه، ويستره بالتراب. قال تعالى في تشبيه حال الدنيا:{كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَباتُهُ} وسمي الليل كافرا؛ لأنه يستر كل شيء بظلمته. قال لبيد بن ربيعة الصحابي-رضي الله عنه-في معلقته: [الكامل]

حتّى إذا ألقت يدا في كافر

وأجنّ عورات الثّغور ظلامها

أما {الْماءِ} فأصله: موه بفتح الميم، والواو، فتحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فصار:«ماه» فلما اجتمعت الألف والهاء، وكلاهما خفي، قلبت الهاء همزة، ودليل ذلك:

أن جمع ماء: أمواه، ومياه، وتصغيره: مويه. وأصل ياء مياه واو، لكنها قلبت ياء لانكسار ما قبلها في جمع أعلت في مفرده، كما قالوا: دار، وديار، وقيمة، وقيم، ومثله قولهم: سوط، وسياط، وحوض، وحياض، وثوب، وثياب، وثور، وثيرة. ويقال في تعريف الماء: هو جسم رقيق مائع به حياة كل نام. وقيل في حده: جوهر سيال به قوام الأرواح. بعد هذا خذ قول أبي ذؤيب الهذلي: [الطويل]

شربن بماء البحر ثمّ ترفّعت

متى لجج خضر لهنّ نئيج

فهو يصف السحاب على اعتقاد العرب في الجاهلية، ومثلهم العصريون في هذا الزمن من أن السحاب، أي الغيوم تدنو من البحر الملح في أماكن مخصوصة، فتمتد منها خراطيم كخراطيم الفيلة، فتشرب بها من مائه، فيسمع لها عند ذلك صوت مزعج، ثم تصعد إلى الجو، وترتفع، فيلطف ذلك الماء، ويعذب بإذن الله تعالى في زمن صعودها، ثم تمطره حيث شاء العلي القدير. وأما عند أهل السنة، فيقولون: إن أصله من الجنة، يأتي به المولى المتعالي من السحاب، من خروق فيها كخروق الغربال.

وأقوال: إن ما ينزل من السماء من مطر، بعضه من ماء البحار المالحة الأرضية، وبعضه من خزائن القدرة، على أن الأول لا ينبت، وإنما الإنبات والخصب في الثاني، وعلامة الأول أنه ينزل غزيرا، كأنه ينصبّ من أفواه قرب، وأما ما يقوله الدهريون الملحدون: إن الطبيعة تمطر فهو كفر صراح، أي: خالص. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [43] من سورة (النور) تجد ما يسرك.

أما {شَيْءٍ} فهو في اللغة: عبارة عن كل شيء موجود، إما حسا كالأجسام، وإما حكما كالأقوال، نحو قلت: شيئا، وجمع الشيء: أشياء غير منصرف، واختلف في علته اختلافا

ص: 32

كبيرا، والأقرب ما حكي عن الخليل-رحمه الله: أن وزنه شيآء وزان حمراء، فاستثقل وجود همزتين في تقدير الاجتماع، فنقلت الأولى إلى أول الكلمة، فبقيت لفعاء، كما قلبوا أدؤرا، فقالوا: آدر، وشبهه، وجمع الأشياء: أشايا. تأمل، وتدبر.

وأخيرا فالهمزة في الكلميتن (أولم)، (أفلا) للإنكار وهي في نية التأخير عن الواو، والفاء؛ لأنهما حرفا عطف، وكذا تقدم على «ثم» تنبيها على أصالتها في التصدير، نحو قوله تعالى:

{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ..} . إلخ، وقوله:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ..} . إلخ، وقوله جل شأنه:{أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ..} . إلخ، وأخواتها تتأخر عن حروف العطف، كما هو قياس أجزاء الجملة المعطوفة نحو قوله تعالى:{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ،} وقوله تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} هذا مذهب سيبويه، والجمهور، وخالف جماعة، أولهم الزمخشري، فزعموا: أن الهمزة في الآيات المتقدمة في محلها الأصلي، وأن العطف على جملة مقدرة بينها وبين العاطف، فيقولون: التقدير في: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا..} . إلخ {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً،} {أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ..} . إلخ: أمكثوا فلم يسيروا في الأرض؟ أنهملكم فنضرب عنكم

إلخ؟ أتؤمنون في حياته، فإن مات أو قتل

إلخ ويضعفه ما فيه من التكلف، وأنه غير مطرد في جميع المواضع. انتهى. مغني اللبيب بتصرف.

الإعراب: {أَوَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي إنكاري. الواو: حرف استئناف. (لم):

حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَرَ:} مضارع مجزوم ب: (لم) وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها. {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {السَّماواتِ:} اسم {أَنَّ} منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم. (الأرض): معطوف على ما قبله. {كانَتا:} ماض ناقص، والتاء للتأنيث، وحركت بالفتحة لالتقائها ساكنة مع ألف الاثنين التي هي اسمها. {رَتْقاً:} خبر (كان) ولم يثن؛ لأنه مصدر، وجملة:{كانَتا رَتْقاً} في محل رفع خبر {أَنَّ} و {أَنَّ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به.

{فَفَتَقْناهُما:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والميم والألف حرفان دالان على التثنية، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها، والجملة الفعلية:{أَوَلَمْ يَرَ..} .

إلخ مستأنفة لا محل لها. (جعلنا): فعل، وفاعل. {مِنَ الْماءِ:} متعلقان بالفعل قبلهما على أنه بمعنى: خلقنا، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {كُلَّ شَيْءٍ} كان صفة له

إلخ على مثال ما رأيت في الآية رقم [24] هذا؛ وعلى اعتبار الفعل بمعنى التحويل فالجار والمجرور مفعول ثان تقدم على الأول وهو {كُلَّ،} و {كُلَّ} مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه. {حَيٍّ:} صفة

ص: 33

شيء، وقرئ:«(حيا)» على أنه مفعول ثان، أو صفة {كُلَّ،} وجملة: {وَجَعَلْنا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها، أو هي مستأنفة لا محل لها. {أَفَلا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي. الفاء: حرف عطف، أو استئناف. (لا): نافية. {يُؤْمِنُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها.

{وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)}

الشرح: {وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ:} جبالا ثابتة، من: رسا الشيء: إذا ثبت. {تَمِيدَ:}

تتحرك، وتضطرب. والميدان: الاضطراب يمينا، وشمالا. ومادت الأغصان: تمايلت. وماد الرجل: تبختر، وانظر الآية رقم [3] من سورة (الرعد) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

{وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً:} مسالك، والفج: الطريق الواسع بين الجبلين، والضمير يعود إلى {الْأَرْضِ}. أو إلى الرواسي. {سُبُلاً:} طرقا، وهو تفسير لما قبله، وانظر الإعراب. {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي: إلى حيث يقصدون، فلا يضلون، ولا يتحيرون، أو لعلهم يهتدون إلى معرفة الله سبحانه وتعالى، فيعرفون: أنه القادر المقتدر، والمنعم المتفضل. هذا؛ والترجي في هذه الآية وأمثالها، إنما هو بحسب عقول البشر؛ لأن الله تعالى لا يحصل منه ترج، ورجاء لعباده، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وانظر شرح:{سُبُلاً} في الآية رقم [42] من سورة (الإسراء).

الإعراب: {وَجَعَلْنا:} الواو: حرف عطف. (جعلنا): فعل، وفاعل. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وقل فيهما ما قلته في:{مِنَ الْماءِ} في الآية السابقة. {رَواسِيَ:} مفعول به

إلخ، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:(جعلنا من الماء) على الوجهين المعتبرين فيها.

{أَنْ:} حرف ناصب. {تَمِيدَ:} مضارع منصوب ب: {أَنْ} والفاعل يعود إلى الجبال الرواسي.

{بِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والمصدر المؤول من:{أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} في محل جر بإضافته لمصدر محذوف يقع مفعولا لأجله. التقدير: كراهية ميدها بكم، وهذا عند البصريين، وهو عند الكوفيين مجرور بحرف جر محذوف، التقدير: لئلا تميد بهم. {وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً:} مثل ما قبله في إعرابه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

هذا؛ وقال الزمخشري: {فِجاجاً:} حال من سبلا كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، وقد قاسها على قوله تعالى في آية (نوح):{لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً} وقيل: {فِجاجاً:} مفعول به، و {سُبُلاً} بدل منه. {لَعَلَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {يَهْتَدُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة مع المتعلق المحذوف في محل رفع خبر (لعلّ) والجملة الاسمية:{لَعَلَّهُمْ..} . إلخ تعليل ل: (جعل) ما ذكر في هذه الآية، وسابقتها.

ص: 34

{وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32)}

الشرح: {وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} أي: من أن يقع، ويسقط على الأرض، أو محفوظا من الشياطين أن تسترق السمع، أو محفوظا من الفساد، والانحلال، والاختلال إلى يوم الوقت المعلوم.

{وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ} أي: عما خلق الله فيها من الشمس، والقمر، والنجوم، والكواكب، وكيفية حركاتها في أفلاكها، ومطالعها، ومغاربها، والترتيب العجيب الدال على الحكمة البالغة، والقدرة القاهرة، فهم لا يتفكرون، ولا يعتبرون. هذا؛ وأضاف سبحانه الآيات إلى السماء؛ لأنها مجعولة فيها، وقد أضاف الآيات إلى نفسه في مواضع كثيرة؛ لأنه هو الفاعل لها، وانظر شرح:(آية) في رقم [5].

هذا؛ و {السَّماءَ} يذكر ويؤنث، والسماء: كل ما علاك، فأظلك، ومنه قيل لسقف البيت:

سماء، والسماء: المطر، يقال: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم، قال معاوية بن مالك:[الوافر]

إذا نزل السّماء بأرض قوم

رعيناه، وإن كانوا غضابا

أراد بالسماء: المطر، ثم أعاد الضمير عليه في رعيناه بمعنى النبات، وهذا يسمى في فن البديع بالاستخدام، وأصل سماء: سماو، فيقال في إعلاله: تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، ولم يعتد بالألف الزائدة؛ لأنها حاجز غير حصين، فالتقى ساكنان: الألف الزائدة، والألف المنقلبة، فأبدلت الثانية همزة.

الإعراب: (جعلنا): فعل، وفاعل. {السَّماءَ:} مفعول به أول. {سَقْفاً:} مفعول به ثان.

{مَحْفُوظاً:} صفة له. {وَهُمْ:} الواو: واو الحال. (هم): مبتدأ. {عَنْ آياتِها:} متعلقان بما بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {مُعْرِضُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع

إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، أو من السماء، والرابط على الاعتبارين الواو، والضمير، وجملة:{وَجَعَلْنَا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها.

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)}

الشرح: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ..} . إلخ: ذكّر الله الكافرين، والناس أجمعين نعمة أخرى من نعمه الكثيرة التي لا تعد، ولا تحصى؛ حيث جعل الليل؛ ليسكنوا فيه، وجعل لهم النهار؛ ليسعوا فيه لمعايشهم، وجعل الشمس آية النهار، والقمر آية الليل؛ ليعلموا السنين والحساب، انظر الآية رقم [12] من سورة (الإسراء) فالشرح فيها واف كاف. {كُلٌّ} أي: كل واحد مما ذكر. {فِي فَلَكٍ}

ص: 35

{يَسْبَحُونَ} أي: يجرون، ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء، وإنما جمعهن جمع المذكر العاقل بالواو، والنون؛ لأنه ذكر عنهن فعل العقلاء، وهو السباحة، والجري، وجعلهن في الطاعة، والانقياد بمنزلة من يعقل، وهذا يتكرر في القرآن الكريم، وقد ذكرته لك في محاله.

هذا؛ و (الفلك) بفتحتين: مدار النجوم الذي يضمها، وهو في كلام العرب كل شيء مستدير، وجمعه: أفلاك ويجمع على: فلك، مثل: أسد وأسد، وقيل: الفلك: السماء الذي فيه الكواكب، فكل كوكب يجري في السماء الذي قدر له أن يجري فيه، وقيل: الفلك طاحونة كهيئة فلك المغزل، فهو الذي تجري فيه النجوم، وهو مستدير كاستدارة الرحى، وقيل: غير ذلك، وقال أصحاب الهيئة: الأفلاك: أجرام صلبة، لا ثقيلة، ولا خفيفة، غير قابلة للخرق، والالتئام، والنمو، والذبول. والحق: أنه لا سبيل إلى معرفة صفة السموات إلا بإخبار الصادق، فسبحان الخالق، المدبر لخلقه بالحكمة، والقدرة الباهرة غير المتناهية. ولا تنس: أن الله تعالى ذكر في غير هذه الآية: أنه سخر ما ذكر لمنافع العباد فوق أنها من الآيات الدالة على قدرته ووحدانيته، وانظر الآية رقم [33] وما بعدها من سورة (إبراهيم) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وأتم تسليم، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه!

الإعراب: {وَهُوَ:} الواو: حرف استئناف. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ. {خَلَقَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد، والجملة صلته. {اللَّيْلَ:} مفعول به، وما بعده معطوف عليه، والجملة الاسمية: (هو

) إلخ: مستأنفة لا محل لها. {كُلٌّ:} مبتدأ سوغ الابتداء به الإضافة التي رأيتها في الشرح. {فِي فَلَكٍ:} متعلقان بما بعدهما. {يَسْبَحُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، هذا؛ وأجيز اعتبار الجار والمجرور متعلقين بمحذوف خبر المبتدأ، وجملة:{يَسْبَحُونَ} في محل نصب حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، وأولى منه اعتبار الجملة خبرا ثانيا، والجملة الاسمية:{كُلٌّ..} . إلخ في محل نصب حال من الليل، وما عطف عليها، والرابط: الضمير المقدر إضافة كل إليه.

{وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34)}

الشرح: {وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} أي: لم نجعل لنبي، ولا لغيره قبلك دوام البقاء في الدنيا، فقد نزلت الآية حين قالوا: نتربص بمحمد ريب المنون، أي: الموت فنشمت بموته، فنفى الله الشماتة عنه بهذا. {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ:} التقدير: أفهم الخالدون؟ والمعنى:

لا خلود في الدنيا لبشر أبدا، وحق ألف الاستفهام إذا دخلت على حرف شرط أن تكون رتبتها قبل جواب الشرط، فالمعنى: أفهم الخالدون إن مت؟ ومثله الآية رقم [144] من سورة (آل عمران).

ص: 36

هذا؛ و (بشر) يطلق على الإنسان ذكرا، أو أنثى، مفردا، أو جمعا، مثل كلمة:«الفلك» تطلق على المفرد، والجمع، وسمي بنو آدم بشرا لبدو بشرتهم، وهي ظاهر الجلد، بخلاف أكثر المخلوقات، فإنها مكسوة بالشعر، أو بالصوف، أو بالريش. هذا؛ و (بشر) يطلق على الواحد، كما في قوله تعالى:{فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا} الآية رقم [17] من سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام، ولذا ثني في قوله تعالى:{فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا} الآية رقم [47] من سورة (المؤمنون) ويطلق على الجمع، كما في قوله تعالى:{فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً} الآية رقم [26] من سورة (مريم) أيضا.

هذا؛ وفي الآيات التفات من التكلم إلى الغيبة، ثم من الغيبة إلى التكلم، كما هو واضح، وللالتفات فوائد كثيرة، منها تطرية الكلام، وصيانة السمع عن الضجر، والملال؛ لما جبلت عليه النفوس من حب التنقلات، والسآمة من الاستمرار على منوال واحد، هذه فوائده العامة، ويختص كل موضع بنكت، ولطائف باختلاف محله، كما هو مقرر في علم البديع، ووجهه:

حث السامع، وبعثه على الاستماع حيث أقبل المتكلم عليه، وأعطاه فضل عنايته، وخصه بالمواجهة. هذا؛ و (مت) يقرأ بضم الميم وكسرها، فالأول من باب: نصر، ك: قلت وصنت، والثاني من باب: علم ك: خفت ونمت. وقال المفسرون: من: مات، يمات، كخاف، يخاف، ونام، ينام، وهو بعد الإعلال يعود إلى باب: علم.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {جَعَلْنا:} فعل، وفاعل.

{لِبَشَرٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل: متعلقان بمحذوف في محل نصب مفعول به ثان، ولا وجه له. {مِنْ قَبْلِكَ:} متعلقان به أيضا، أو هما متعلقان بمحذوف صفة (بشر) والكاف في محل جر بالإضافة. {الْخُلْدَ:} مفعول به، وجملة:{وَما جَعَلْنا..} . مستأنفة لا محل لها.

{أَفَإِنْ:} الهمزة: حرف استفهام. الفاء: حرف استئناف، أو هي عاطفة على محذوف. (إن):

حرف شرط جازم. {مِتَّ:} ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَهُمُ:}

الفاء: واقعة في جواب الشرط. (هم الخالدون): مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، والكلام:{أَفَإِنْ..} . إلخ مستأنف لا محل له.

{كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35)}

الشرح: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ:} هذا التعميم مخصوص بقوله تعالى: {تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ} فإن الله تعالى حي لا يموت، ولا يجوز عليه الموت. و (الذوق) هاهنا

ص: 37

عبارة عن مقدمات الموت، وآلامه العظيمة قبل حلوله. انتهى. خازن. هذا؛ و «الذوق» يكون محسوسا، ومعنى، وقد يوضع موضع الابتلاء، والاختبار، تقول: اركب هذا الفرس فذقه؛ أي:

اختبره. وانظر فلانا، فذق ما عنده. قال الشماخ يصف قوسا:[الطويل]

فذاق فأعطته من اللّين جانبا

كفى ولها أن يغرق السّهم حاجز

وقد يعبر بالذوق عما يطرأ على النفس، وإن لم يكن مطعوما لإحساسها به كإحساسها بذوق المطعوم، قال عمر بن أبي ربيعة المخزومي:[الطويل]

فذق هجرها إن كنت تزعم أنها

فساد ألا يا ربّما كذب الزّعم

وتقول: ذقت ما عند فلان، أي: خبرته، وذقت القوس: إذا جذبت وترها لتنظر ما شدتها؟ وأذاقه الله وبال أمره؛ أي: عقوبة كفره، ومعاصيه. قال طفيل بن سعد الغنوي:[الطويل]

فذوقوا كما ذقنا غداة محجّر

من الغيظ في أكبادنا والتّحوّب

وتذوقته؛ أي: ذقته شيئا بعد شيء، وأمر مستذاق؛ أي: مجرب معلوم، قال الشاعر:[الوافر]

وعهد الغانيات كعهد قين

ونت عند الجعائل مستذاق

وأصله من الذوق بالفم، و (ذوقوا) في كثير من الآيات أمر للإهانة، وفيه استعارة تبعية تخييلية، وفي الموت، أو في العذاب استعارة مكنية، حيث شبه العذاب بشيء يدرك بحاسة الأكل، وشبه الذوق بصورة ما يذاق، وأثبت الذوق تخييلا.

{وَنَبْلُوكُمْ:} نختبركم. {بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ} أي: بالشدة، والرخاء، والصحة، والسقم، والغنى، والفقر، وبما تحبون وما تكرهون، وقد سماه الله ابتلاء، وإن كان عالما بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم؛ لأنه في صورة الاختبار، وفي (الأعراف):{وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ} رقم [168]. {فِتْنَةً:} اختبارا، وابتلاء لننظر شكركم فيما تحبون، وصبركم فيما تكرهون. {وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ} أي: للحساب، والجزاء، وفيه إشارة إلى أن المقصود من هذه الحياة الدنيا الاختبار، والابتلاء، والتعريض للثواب، والعقاب، وانظر (نا) في الآية رقم [49] من سورة (مريم) عليهاالسّلام، هذا؛ والموت: انتهاء الحياة بخمود حرارة البدن، وبطلان حركته.

وموت القلب: قسوته، فلا يتأثر بالمواعظ، ولا ينتفع بالنصائح.

هذا؛ وأما (النفس) فإنها تجمع في القلة: أنفس، وفي الكثرة: نفوس، والنفس تؤنث باعتبار الروح، وتذكر باعتبار الشخص؛ أي: فإنها تطلق على الذات أيضا، سواء أكان ذكرا، أم أنثى. فعلى الأول قيل: إنها جسم لطيف مشتبك بالجسم اشتباك الماء بالعود الرطب، فتكون سارية في جميع البدن.

ص: 38

قال الجنيد-رحمه الله تعالى-: الروح شيء استأثر الله بعلمه، ولم يطلع عليه أحدا من خلقه، فلا يجوز البحث عنه بأكثر من أنه موجود، قال تعالى في سورة (الإسراء):{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً} وقال بعضهم: إن هناك لطيفة ربانية، لا يعلمها إلا الله تعالى، فمن حيث تفكرها تسمى: عقلا، ومن حيث حياة الجسد بها تسمى:

روحا، ومن حيث شهوتها تسمى: نفسا، فالثلاثة متحدة بالذات، مختلفة بالاعتبار.

هذا؛ وقد ذكر القرآن الكريم: أن النفس على خمس مراتب: الأمارة بالسوء، واللوامة، والمطمئنة، والراضية، والمرضية، ويزاد: الملهمة، والكاملة، فالأمارة بالسوء: هي التي تأمر صاحبها بالسوء، ولا تأمر بالخير إلا نادرا، وهي مقهورة، ومحكومة للشهوات، وإن سكنت لأداء الواجبات الإلهية، وأذعنت لاتباع الحق، لكن بقي فيها ميل للشهوات؛ سميت: لوامة، وإن زال هذا الميل، وقويت على معارضة الشهوات، وزاد ميلها إلى عالم القدس، وتلقت الإلهامات؛ سميت: ملهمة، فإن سكن اضطرابها، ولم يبق للنفس الشهوانية حكم أصلا؛ سميت: مطمئنة، فإن ترقت من هذا، وأسقطت المقامات من عينها، وفنيت عن جميع مراداتها؛ سميت: راضية، فإن زاد هذا الحال عليها؛ صارت مرضية عند الحق، وعند الخلق، فإن أمرت بالرجوع إلى العباد لإرشادهم وتكميلهم؛ سميت: كاملة، فالنفس سبع طبقات، ولها سبع، درجات كما ذكرت، وقدمت.

وأخيرا خذ ما ذكره القرطبي-رحمه الله تعالى-: وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «ما تقولون في صاحب لكم، إن أكرمتموه، وأطعمتموه وكسوتموه؛ أفضى بكم إلى شرّ غاية. وإن أهنتموه، وأعريتموه، وأجعتموه؛ أفضى بكم إلى خير غاية» . قالوا: يا رسول الله! هذا شرّ صاحب. قال: «فو الّذي نفسي بيده؛ إنها لنفوسكم الّتي بين جنوبكم!» .

الإعراب: {كُلُّ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {نَفْسٍ} مضاف إليه. {ذائِقَةُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {الْمَوْتِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {وَنَبْلُوكُمْ:} الواو: حرف استئناف. (نبلوكم): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {بِالشَّرِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {وَالْخَيْرِ:} معطوف على ما قبله. {فِتْنَةً:} مفعول لأجله، أو حال بمعنى: فاتنين لكم، أو مفعول مطلق من معنى (نبلوكم)؛ إذا المعنى: نفتنكم فتنة. {وَإِلَيْنا:} الواو: واو الحال. (إلينا): متعلقان بما بعدهما.

{تُرْجَعُونَ:} مضارع مرفوع، ويقرأ بالبناء للمعلوم، والبناء للمجهول، والواو فاعل، أو نائبه، والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل (نبلوكم) المستتر، والرابط: الواو، والضمير، أو هي مستأنفة لا محل لها، وقيل: معطوفة على ما قبلها. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

ص: 39

{وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36)}

الشرح: {وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: كفار قريش، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: المراد به أبو جهل الخبيث وحده، كان إذا مر به النبي صلى الله عليه وسلم ضحك، وقال: هذا نبي بني عبد مناف.

{إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً:} سخرية، واستهزاء، وقد أخذ الله المستهزئين بالرسول صلى الله عليه وسلم أخذ عزيز مقتدر. انظر ما ذكرته في الآية رقم [95] من سورة (الحجر).

هذا؛ و {هُزُواً} مصدر هزأ، يهزأ، هزأ من باب: فتح، ويأتي أيضا من باب: تعب، والمصدر يأتي بضم الزاي، وسكونها، وتخفيف الهمزة، فتقلب واوا، وقد قرئ بهما، وهما سبعيتان، هذا؛ والاستهزاء بالناس حرام قطعا، وآية الحجرات الناهية عن السخرية والاستهزاء بالناس معروفة، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الناهية عن ذلك كثيرة، ومسطورة، ومشهورة، والآية رقم [41] من سورة (الفرقان) شبيهة بهذه الآية.

{أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} أي: يقولون: أهذا الذي يذكر آلهتكم بسوء، ويعيبها، فحذف المتعلق لدلالة القرينة عليه. {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ} أي: بذكر الله، وما يجب أن يذكر به من التوحيد. وقيل: المراد ب: (ذكر الرحمن) أي: بما أنزل عليك من القرآن جاحدون، لا يصدقون به أصلا.

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف، وقيل: عاطفة على قوله فيما سبق: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} وفيه بعد لا يخفى. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {رَآكَ:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والكاف مفعول به. {الَّذِينَ:} فاعله، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{رَآكَ..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذا) إليها على القول المرجوح المشهور. {إِنْ:} حرف نفي بمعنى «ما» . {يَتَّخِذُونَكَ:} مضارع مرفوع

إلخ، وفاعله، ومفعوله الأول. {إِلاّ:} حرف حصر. {هُزُواً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية جواب (إذا) لا محل لها، وهي مخالفة لأدوات الشرط في ذلك، فإن أدوات الشرط متى أجيبت ب:«إن» النافية، أو ب:«ما» وجب الإتيان بالفاء. {أَهذَا:} الهمزة: حرف استفهام يتضمن التحقير بزعمهم. (هذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء: حرف تنبيه لا محل له. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ. {يَذْكُرُ:}

مضارع، والفاعل يعود إلى (الذي) وهو العائد. {آلِهَتَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، والمتعلق محذوف، انظر تقديره في الشرح، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل

ص: 40

لها، والجملة الاسمية:{أَهذَا..} . إلخ في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير:

يقولون: أهذا

إلخ، والجملة الفعلية هذه في محل نصب حال من واو الجماعة، أو هي جواب (إذا) لا محل لها، وتكون جملة:{إِنْ يَتَّخِذُونَكَ..} . إلخ معترضة بين شرط (إذا) وجوابها لا محل لها. {وَهُمْ:} الواو: واو الحال. (هم): مبتدأ. {بِذِكْرِ:} متعلقان ب: {كافِرُونَ} بعدهما، و (ذكر) مضاف، و {الرَّحْمنِ} مضاف إليه من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. {هُمْ:}

توكيد لفظي لسابقه. {كافِرُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{هُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة في: «يقولون» المقدر، أو في {يَتَّخِذُونَكَ،} والرابط:

الواو، والضمير على الاعتبارين، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37)}

الشرح: {خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ} أي: ركب على العجلة. فخلق عجولا، ويقال: خلق الإنسان من الشر، أي: شريرا؛ إذا بالغت في وصفه به، والمعنى: إن طبع الإنسان العجلة، فيستعجل كثيرا من الأشياء؛ وإن كانت مضرة. هذا؛ وقيل: المراد بالإنسان آدم عليه السلام، قال سعيد بن جبير والسدي رحمهما الله تعالى: لما دخلت الروح في عيني آدم عليه السلام؛ نظر في ثمار الجنة، فلما دخلت جوفه؛ اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، فوقع، فقيل:{خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ} وأورث بنيه العجلة، وقيل: خلق بسرعة، وتعجيل على غير قياس خلق بنيه؛ لأنهم خلقوا من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، أطوارا، طورا بعد طور. وقال أبو عبيدة، وغيره: العجل: الطين بلغة حمير، وأنشدوا:[البسيط]

والنّبع في الصخرة الصّمّاء منبته

والنّخل ينبت بين الماء والعجل

وقيل: أراد بالإنسان النوع الإنساني يدل عليه ما بعده، وذلك: أن المشركين كانوا يستعجلون العذاب، وقيل: المراد به النضر بن الحارث، وهو الذي ذكرته في الآية رقم [32] من سورة (الأنفال). {سَأُرِيكُمْ آياتِي:} المراد بالآيات ما دل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم من المعجزات، وما جعله له من العاقبة المحمودة، وقال البيضاوي: نقماتي في الدنيا، كوقعة بدر، وفي الآخرة عذاب النار.

هذا؛ ويكثر النهي في القرآن الكريم عن العجلة، واستعجال الشيء قبل أوانه، وهذا النهي أكثر ما يوجه للكافرين الذين طلبوا استعجال العذاب، وقد يوجه إلى بني آدم جميعا. وقد توجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما في الآية رقم [114] من سورة (طه)، بينما حث الله تعالى على المسارعة إلى فعل الطاعات، فقال في (آل عمران):{وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ..} . إلخ رقم [133]، وقال في سورة (الحديد):{سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ..} . إلخ رقم [21]، كما وصف أنبياءه،

ص: 41

ورسله بأنهم كانوا يسارعون في الخيرات، وهذا لا يناقض ما روي:«العجلة من الشيطان، والتأني من الرحمن» ؛ لأن المسارعة إلى الطاعات مستثناة من ذلك، كما أن هناك أمورا تسن المبادرة إلى فعلها، كأداء الصلاة المكتوبة؛ إذا دخل وقتها، وقضاء الدين بحق الموسر، وتزويج البكر البالغ؛ إذا أتى الكفؤ لها، ودفن الميت، وإكرام الضيف؛ إذا نزل. وخذ ما يلي: فعن علي بن أبي طالب-رضي الله عنه، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: «يا عليّ! ثلاث لا تؤخّرها:

الصّلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيّم إذا وجدت كفئا». رواه الترمذي.

الإعراب: {خُلِقَ:} ماض مبني للمجهول. {الْإِنْسانُ:} نائب فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {مِنْ عَجَلٍ:} متعلقان بمحذوف حال من {الْإِنْسانُ} . {سَأُرِيكُمْ:}

السين: حرف استقبال. (أريكم): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والكاف مفعول. {آياتِي:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {فَلا:} الفاء: هي الفصيحة، وانظر الآية رقم [25]. (لا): ناهية. {تَسْتَعْجِلُونِ:} مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا، وواقعا؛ فلا

إلخ، والكلام كله مستأنف لا محل له.

{وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38)}

الشرح: المعنى: يقول كفار قريش: متى هذا الوعد؛ أي: الذي تعدنا به يا محمد من نزول العذاب؟! وقيل: قيام الساعة،، وإنما قالوا ذلك على وجه التكذيب، والاستبعاد، والاستهزاء. {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} أي: فيما تعدوننا به، وإنما قالوا بلفظ الجمع؛ لأن كل أمة قالت لرسولها كذلك. أو المعنى: إن كنت صادقا أنت، وأتباعك يا محمد!.

هذا؛ وأصل {كُنْتُمْ:} كونتم، فقل في إعلاله: تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، فصار «كانتم» فالتقى ساكنان: الألف وسكون النون، فحذفت الألف، فصار:«كنتم» بفتح الكاف، ثم أبدلت الفتحة ضمة لتدل على الواو المحذوفة، فصار:«كنتم» وهناك إعلال آخر، وهو أن تقول: أصل الفعل: كون، فلما اتصل بضمير رفع متحرك نقل إلى باب فعل، فصار (كونت) ثم نقلت حركة الواو إلى الكاف قبلها، فصار (كونت) فالتقى ساكنان: العين المعتلة، ولام الفعل، فحذفت العين وهي الواو لالتقائها ساكنة مع النون، فصار (كنت). وهكذا قل في إعلال كل فعل أجوف واوي مسند إلى ضمير رفع متحرك مثل: قال، وقام، ونحوهما.

ص: 42

الإعراب: {وَيَقُولُونَ:} الواو: حرف استئناف. (يقولون): مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {مَتى:} اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب على الظرفية الزمانية متعلق بمحذوف خبر مقدم. {هذَا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {الْوَعْدُ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة: (يقولون

) إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {صادِقِينَ:} خبره منصوب

إلخ، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: إن كنتم صادقين؛ فمتى هذا

إلخ أو: فأتوا به. والكلام كله في محل نصب مقول القول.

{لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39)}

الشرح أي: لو يعلم الكافرون الوقت الذي يستعجلونه بقولهم: {مَتى هذَا الْوَعْدُ} وهو وقت تحيط بهم فيه النار من وراء، وقدام، فلا يقدرون على دفعها، ومنعها من أنفسهم، ولا يجدون ناصرا ينصرهم لما كانوا بتلك الصفة من الكفر، والاستهزاء، والاستعجال، ولكن جهلهم به هو الذي هوّنه عليهم. انتهى. نسفي.

هذا؛ والفعل {يَعْلَمُ} من المعرفة، لا من العلم اليقيني، والفرق بينهما: أن المعرفة تكتفي بمفعول واحد بخلافه من العلم اليقيني فإنه ينصب مفعولين، وأيضا فالمعرفة تستدعي سبق جهل، وأنّ متعلقها الذوات دون النّسب، بخلاف العلم، فإن متعلقه المعاني، والنسب. وتفصيل ذلك:

أنك إذا قلت: عرفت زيدا، فالمعنى أنك عرفت ذاته، ولم ترد أنك عرفت وصفا من أوصافه، فإذا أردت هذا المعنى لم يتجاوز مفعولا؛ لأن العلم والمعرفة تناول الشيء نفسه، ولم يقصد إلى غير ذلك، وإذا قلت: علمت زيدا قائما، لم يكن المقصود أن العلم تناول نفس زيد فحسب، وإنما المعنى: أن العلم تناول كون زيد موصوفا بهذه الصفة. أما «الحين» فهو الوقت قليلا كان أو كثيرا، والمدة من الزمن قصيرة كانت أو طويلة، وجمعه: أحيان، وجمع الجمع: أحايين، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [25] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف ألف صلاة، وألف ألف سلام، وهو بكسر الحاء، وأما بفتحها؛ فهو الهلاك والموت. والله أعلم، وأجل، وأكرم.

الإعراب: {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {يَعْلَمُ:} مضارع. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول. {حِينَ:} مفعول به، وقيل: المفعول محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: لو يعلم

ص: 43

الذين كفروا مجيء الموعود الذي سألوا عنه، واستبطؤوه، و {حِينَ} منصوب بالمفعول الذي هو: مجيء. انتهى. جمل. {لا:} نافية. {يَكُفُّونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله.

{عَنْ وُجُوهِهِمُ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {النّارَ:} مفعول به، والجملة الفعلية:{لا يَكُفُّونَ..} . إلخ في محل جر بإضافة {حِينَ} إليها. {وَلا:} الواو:

حرف عطف. (لا): نافية، أو زائدة لتأكيد النفي. {عَنْ ظُهُورِهِمْ:} معطوفان على ما قبلهما.

{وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {وُجُوهِهِمُ:} مبتدأ. {يُنْصَرُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة:{لا يَكُفُّونَ..} . إلخ فهي في محل جر مثلها، وجملة:

{يَعْلَمُ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب {لَوْ} محذوف انظر تقديره في الشرح، هذا؛ ووقع شرط {لَوْ} مضارعا، وإن كان المعنى على المضي؛ لإفادة استمرار عدم العلم، و {لَوْ} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)}

الشرح: {بَلْ تَأْتِيهِمْ} أي: الساعة، أو النار. {بَغْتَةً:} فجأة بدون إنذار. {فَتَبْهَتُهُمْ:}

فتدهشهم، وتحيرهم، هذا؛ وقرئ الفعلان بالياء، ويكون الفاعل: الموعود. {فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها:} دفعها عن وجوههم، وظهورهم، {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ،} يمهلون للتوبة، والمعذرة.

الإعراب: {بَلْ:} حرف إضراب انتقالي. {تَأْتِيهِمْ:} مضارع مرفوع

إلخ، والفاعل يعود إلى الساعة، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {بَغْتَةً:} حال من الفاعل المستتر، بمعنى: باغتة، أو مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: تبغتهم بغتة، وتكون هذه الجملة في محل نصب حال من الفاعل المستتر، وجوز اعتبار {بَغْتَةً} مصدرا للفعل «يأتي» من غير لفظه، على حد قولهم: أتيته ركضا، فتكون نائب مفعول مطلق. وجملة {فَتَبْهَتُهُمْ:} معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، وجملة:{فَلا يَسْتَطِيعُونَ} معطوفة عليها أيضا. {رَدَّها:} مفعول به، و (ها): في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، وجملة:{وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ:}

معطوفة أيضا، وانظر إعراب مثلها في الآية السابقة. تأمل وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَلَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41)}

الشرح: في هذه الآية تعزية، وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما كان من تكذيب المشركين له، واستهزائهم به، فقد جعل الله أسوة له في ذلك الأنبياء، والمرسلين؛ الذين كانوا قبله، وتلك سنة

ص: 44

متبعة في الأولين، والآخرين، حيث لم يقم داع يدعو إلى الإصلاح، والخير، إلا وقوبل بالسخرية، والاستهزاء. {فَحاقَ بِالَّذِينَ..}. إلخ: أي: فنزل بالأقوام المستهزئين بالرسل العقاب الشديد، والعذاب المهين، وفي هذه الآية تحذير للمشركين من أهل مكة أن يفعلوا بنبيهم كما فعل من قبلهم بأنبيائهم، فينزل بهم مثل ما نزل بهم. هذا؛ والآية مذكورة بحروفها كاملة في سورة (الأنعام) رقم [10]. والله الموفق، والمعين.

الإعراب: {وَلَقَدِ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، التقدير: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. اللام: واقعة في جواب القسم المقدر. (قد):

حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {اُسْتُهْزِئَ:} ماض مبني للمجهول. {بِرُسُلٍ:} في محل رفع نائب فاعل. {مِنْ قَبْلِكَ:} متعلقان بمحذوف صفة (رسل) والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة: (لقد

) إلخ جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له من الإعراب. (حاق): ماض. {بِالَّذِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{سَخِرُوا} صلة الموصول لا محل لها. {مِنْهُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع فاعل حاق.

{كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {بِهِ:} متعلقان بالفعل بعدهما، وجملة:«يستهزئون به» في محل نصب خبر (كان) وجملة: {كانُوا..} . إلخ صلة {ما،} أو صفتها، والرابط، أو العائد: الضمير المجرور محلا بالياء، ولا يصح اعتبار {ما} مصدرية لعود الضمير عليها، وهي حرف، وجملة {فَحاقَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.

{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)}

الشرح: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ:} يحرسكم، ويحفظكم، والكلاءة: الحراسة، والحفظ.

{بِاللَّيْلِ:} إذا نمتم. {وَالنَّهارِ:} إذا قمتم، وتصرفتم في أموركم. {مِنَ الرَّحْمنِ} أي: من عذابه، وبطشه. {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ} أي: عن القرآن، ومواعظه. {مُعْرِضُونَ:} ساهون، لاهون، غافلون، ومعنى:{بَلْ هُمْ..} . إلخ أي: دعهم يا محمد عن هذا السؤال؛ لأنهم لا يصلحون له؛ لإعراضهم عن ذكر الله، فلا يخطر ببالهم حتى يخوفوا بالله، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {مَنْ:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَكْلَؤُكُمْ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {مَنْ،} والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {بِاللَّيْلِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَالنَّهارِ:} معطوف

ص: 45

على ما قبله. {مِنَ الرَّحْمنِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {بَلْ:} حرف إضراب إبطالي. {هُمْ:}

مبتدأ. {عَنْ ذِكْرِ:} متعلقان ب: {مُعْرِضُونَ} بعدهما، و {ذِكْرِ} مضاف، و {رَبِّهِمْ} مضاف إليه من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {مُعْرِضُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع

إلخ، والجملة الاسمية:{هُمْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنّا يُصْحَبُونَ (43)}

الشرح: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا} أي: ألهم آلهة تحميهم من عذابنا. والميم زائدة. {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} المعنى: إنّ تلك الآلهة التي يعبدونها عاجزة عن دفع السوء عن نفسها، فكيف تدفع عنهم العذاب؟! {وَلا هُمْ مِنّا يُصْحَبُونَ} أي: يمنعون، أو المعنى:

لا يصحب تلك الآلهة خير منا. وقيل: يجارون.

الإعراب: {أَمْ:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي. {لَهُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم.

{آلِهَةٌ:} مبتدأ مؤخر. {تَمْنَعُهُمْ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {آلِهَةٌ،} والهاء مفعول به، والجملة الفعلية صفة {آلِهَةٌ}. {مِنْ دُونِنا:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (نا): في محل جر بالإضافة، هذا؛ وعلق الجمل الجار والمجرور بمحذوف صفة {آلِهَةٌ،} وتقدير الكلام: أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم، وهو لا يتفق مع الشرح المتقدم وعلى قوله فالجملة الفعلية في محل نصب حال من {آلِهَةٌ} لوصفها بالجار والمجرور. {لا:} نافية. {يَسْتَطِيعُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {نَصْرَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {أَنْفُسِهِمْ} مضاف إليه من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها كالجملة الاسمية قبلها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية.

{لَهُمْ:} مبتدأ. {مِنّا:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {يُصْحَبُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول، والواو نائب فاعله. وجملة:{يُصْحَبُونَ} في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44)}

الشرح: {بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ:} المعنى: إنّ ما هم فيه من الحفظ، وإدرار الرزق عليهم إنما هو منا، لا من غيرنا، وإنما أنعمنا عليهم، وعلى آبائهم بذلك

ص: 46

تمتيعا لهم بالحياة، واستدراجا لهم، كما متعنا غيرهم من الكفار وأمهلناهم حتى طال عليهم الأمد، فقست قلوبهم، وأعرضوا عن الإيمان، وظنوا: أنهم دائمون مخالدون، وهو أمل كاذب.

{أَفَلا يَرَوْنَ} أي: كفار مكة. {أَنّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها} أي: ننقص من أطراف المشركين، ونزيد في أطراف المؤمنين، يريد بذلك ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، وفتحه ديار الشرك، أرضا، فأرضا، وقرية، فقرية، والمعنى: أفلا يرى هؤلاء المشركون بالله المتعجلون بالعذاب آثار قدرتنا في إتيان الأرض من جوانبها، بأخذ الواحد بعد الواحد، وفتح البلاد، والقرى مما حول مكة، وإدخالها في ملك محمد صلى الله عليه وسلم، وموت رؤساء المشركين المتنعمين في الدنيا، أما كان لهم في ذلك عبرة، فيؤمنوا، ويدخلوا في دين الله؟! وهذا يعني: أن الآية مدنية، وانظر الآية رقم [41] من سورة (الرعد) فهي مثلها، وفيها زيادة شرح.

{أَفَهُمُ الْغالِبُونَ} أي: هم الغالبون؛ ونحن نفعل بهم ما نفعل من نقصان أرضهم؟! بل محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه هم الغالبون، و (أطراف) جمع: طرف بفتح الطاء، والراء، وهو في الأصل حرف الشيء ومنتهاه، وانظره بفتح الطاء وسكون الراء في الآية [43] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم.

الإعراب: {بَلْ:} حرف عطف وإضراب. {مَتَّعْنا:} فعل، وفاعل. {هؤُلاءِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل نصب مفعول به، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {وَآباءَهُمْ:} معطوف على اسم الإشارة، والهاء في محل جر بالإضافة. {حَتّى:} حرف غاية وجر، بعدها «أن» مضمرة. {طالَ:} ماض. {عَلَيْهِمُ:} متعلقان به. {الْعُمُرُ:} فاعله، و «إن» المضمرة والفعل (طال) في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى} والجار والمجرور متعلقان بالفعل {مَتَّعْنا،} والجملة الفعلية هذه معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين. {أَفَلا:}

الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي. الفاء: حرف استئناف. (لا): نافية. {يَرَوْنَ:}

مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {أَنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. {نَأْتِي:}

مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» .

{الْأَرْضَ:} مفعول به. {نَنْقُصُها:} مضارع، والفاعل تقديره:«نحن» ، و (ها): مفعول به أول. {مِنْ أَطْرافِها:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما مفعوله الثاني، وإن اعتبرت {مِنْ} صلة يتضح لك الأمر، و (ها): في محل جر بالإضافة، وجملة:{نَنْقُصُها..} . إلخ في محل نصب حال من فاعل {نَأْتِي} المستتر أو من مفعوله، والرابط: الضمير فقط على الاعتبارين، وجملة:

{نَأْتِي..} . إلخ في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، وجملة:{أَفَلا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {أَفَهُمُ:} الهمزة: حرف استفهام.

الفاء: حرف استئناف. والجملة الاسمية: (هم الغالبون): مستأنفة لا محل لها.

ص: 47

{قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45)}

الشرح: {قُلْ:} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم. {إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ:} أخوفكم بما يوحى إليّ، وهو القرآن. {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ} أي: من أصم الله قلبه من فهم آيات القرآن، وختم على سمعه، فلا يسمعه سماع قبول، وجعل على بصره غشاوة، فلا ينظر فيه نظر تبصر، واعتبار، هذا؛ ويقرأ:«(لا تسمع الصّمّ)» و «(لا يسمع الصّمّ)» . {إِذا ما يُنْذَرُونَ} أي: يخوفون، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

هذا؛ والمراد ب: {الدُّعاءَ} الدعوة إلى الإيمان، والتوحيد، ونبذ عبادة الأوثان، وقد اعتبرهم الله صمّا مع كونهم لهم آذان؛ لأنهم لم يسمعوا سماع قبول. هذا؛ وأصل الوحي:

الإشارة السريعة، والوحي: الكتاب المنزل على الرسول المرسل لقومه، مثل: موسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم أجمعين، والوحي أيضا: الكتابة، والرسالة، والإلهام، والكلام الخفي، وكل ما ألقيته إلى غيرك، وتسخير الطير لما خلق له إلهام، والوحي إلى النّحل، وتسخيرها لما خلقها الله له إلهام أيضا، وانظر الآية رقم [68] من سورة (النحل). هذا؛ والفعل {يَسْمَعُ} من الأفعال الصوتية، إن تعلق بالأصوات تعدى إلى مفعول واحد، وإن تعلق بالذوات تعدى إلى اثنين، والثاني منهما جملة فعلية مصدرة بمضارع من الأفعال الصوتية، مثل قولك: سمعت فلانا يقول كذا. وهذا اختيار الفارسي، واختار ابن مالك، ومن تبعه أن تكون الجملة الفعلية في محل نصب حال، إن كان المتقدم معرفة، وصفة إن كان نكرة، مثل قولك: سمعت رجلا يقول كذا.

الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {إِنَّما:} كافة ومكفوفة.

{أُنْذِرُكُمْ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والكاف مفعول به. {بِالْوَحْيِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {يَسْمَعُ:} مضارع. {الصُّمُّ:}

فاعله. {الدُّعاءَ:} مفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها فهي في محل نصب مقول القول. {إِذا:} ظرف زمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل {يَسْمَعُ،} أو ب: {الدُّعاءَ} . {إِنَّما:} صلة. {يُنْذَرُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها.

{وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنّا كُنّا ظالِمِينَ (46)}

الشرح: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ:} المعنى: ولئن أصابتهم عقوبة قليلة من عذاب الله. هذا؛ وفي قوله: {نَفْحَةٌ} تقليل ما يصيبهم، فإن أصل النفح هبوب رائحة الشيء،

ص: 48

والبناء دالّ على المرة. هذا؛ والنفحة في اللغة: الدفعة اليسيرة، وهي أيضا: النصيب القليل، وقال ابن ميادة في مدح الوليد بن يزيد بن عبد الملك:[البسيط]

لمّا أتيتك أرجو فضل نائلكم

نفحتني نفحة طابت لها العرب

أي: طابت لها النفس، وانظر {تَلْفَحُ} في الآية رقم [104] من سورة (المؤمنون). هذا؛ وإعلال:(ليقولنّ) مثل إعلال: (لتعلمنّ) في الآية رقم [71] من سورة (طه).

هذا؛ و {عَذابِ} اسم مصدر، لا مصدر؛ لأن المصدر: تعذيب؛ لأنه من: عذّب، يعذّب بتشديد الذال فيهما، وقيل: هو مصدر على حذف الزوائد، ومثله: عطاء، وسلام، ونبات لأعطى، وسلم، وأنبت.

الإعراب: {وَلَئِنْ:} الواو: حرف استئناف. اللام: موطئة لقسم محذوف، تقديره: والله.

(إن): حرف شرط جازم. {مَسَّتْهُمْ:} ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والتاء للتأنيث حرف لا محل له، والهاء مفعول به. {نَفْحَةٌ:} فاعل. {مِنْ عَذابِ:} متعلقان بمحذوف صفة {نَفْحَةٌ،} و {عَذابِ} مضاف، و {رَبِّكَ} مضاف إليه من إضافة اسم المصدر لفاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة:{مَسَّتْهُمْ..} .

إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَيَقُولُنَّ:} اللام: واقعة في جواب القسم. (يقولن): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة المدلول عليها بالضمة فاعله، والنون للتوكيد، والكلام:{يا وَيْلَنا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وانظر إعرابه في الآية رقم [14] والجملة:{لَيَقُولُنَّ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب القسم المحذوف، وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه على القاعدة:«إذا اجتمع شرط، وقسم، فالجواب للسابق منهما» . قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته: [الرجز] واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخّرت فهو ملتزم

والكلام: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ..} . إلخ مستأنف لا محل له.

{وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47)}

الشرح: {وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ} أي: نحضر الموازين لنزن فيها أعمال العباد، والجمهور على أن صحائف الأعمال توزن بميزان، له لسان، وكفتان، ينظر إليه الخلائق، إظهارا للمعدلة، وقطعا للمعذرة، كما يسألهم عن أعمالهم، فتعترف بها ألسنتهم، وتشهد بها جوارحهم. هذا؛ و {الْمَوازِينَ} جمع: ميزان، وإنما جمع {الْمَوازِينَ} لتعظيم شأنها، أو لاعتبار تعدد الأعمال

ص: 49

الموزونة به، وأفرد القسط؛ لأنه مصدر وصف به للمبالغة، و «ميزان» أصله: موزان، قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، ومثله: ميعاد، وميثاق، وميراث، وميقات

إلخ.

{لِيَوْمِ الْقِيامَةِ} أي: لجزاء يوم القيامة، أو لحساب أهله، أو المعنى: في يوم القيامة، كقولك: جئت لخمس خلون من الشهر. هذا؛ والقيامة، أصلها القوامة؛ لأنها من: قام، يقوم، قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة قبلها. {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} أي: بزيادة سيئة، أو نقصان حسنة. {وَإِنْ كانَ} أي: العمل الذي عمله العبد في الدنيا. {مِثْقالَ حَبَّةٍ} أي: مقدار، أو وزن حبة. {مِنْ خَرْدَلٍ:} هذا نبات له حب صغير جدا، أسود، واحدته خردلة يقال: إن الحس لا يدرك لها ثقلا؛ إذ لا ترجح ميزانا. {أَتَيْنا بِها:} أحضرناها، وأوجدناها، ويقرأ:

«(آتينا بها)» بالمد بمعنى: جازينا بها. {وَكَفى بِنا حاسِبِينَ:} محاسبين. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: معناه: كفى بنا عالمين حافظين؛ لأن من حسب شيئا؛ فقد علمه، وحفظه.

والغرض منه التحذير، فإن المحاسب إذا كان في العلم بحيث لا يمكن أن يشتبه عليه شيء، وفي القدرة بحيث لا يعجز عن شيء، فحقيق بالعاقل أن يكون أشد الخوف منه، ويروى: أن الشبلي -رحمه الله تعالى-رؤي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: [مجزوء الخفيف]

حاسبونا فدققوا

ثمّ منّوا فأعتقوا

هكذا سيمة الملو

ك بالمماليك يرفقوا

تنبيه: والحكمة من وزن الأعمال مع علم الله تعالى بمقاديرها تتجلى فيما يلي:

منها: إظهار العدل الإلهي، وأن الله لا يظلم مثقال ذرة. ومنها: امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا، وإقامة الحجة عليهم في العقبى. ومنها: تعريف العباد ما لهم من خير، وشر، وحسنة، وسيئة. ومنها: إظهار علامة السعادة، والشقاوة. وإن أردت الزيادة فانظر الآية رقم [8 و 9] من سورة (الأعراف)، وانظر وزن أعمال الكافرين في الآية [105] من سورة (الكهف) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {وَنَضَعُ:} الواو: حرف استئناف. (نضع): مضارع، والفاعل مستتر تقديره:

«نحن» . {الْمَوازِينَ:} مفعول به. {الْقِسْطَ:} صفة له، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها.

{لِيَوْمِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (يوم) مضاف، و {الْقِيامَةِ:} مضاف إليه. {فَلا:} الفاء:

حرف عطف. (لا): نافية. {تُظْلَمُ:} مضارع مبني للمجهول. {نَفْسٌ:} نائب فاعل. {شَيْئاً:}

مفعول به ثان، وقيل: نائب مفعول مطلق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.

{وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف، وقيل: عاطفة. (إن): حرف شرط جازم. {كانَ:} ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، واسمها ضمير مستتر. انظر الشرح. {مِثْقالَ:}

خبر {كانَ} . هذا؛ ويقرأ برفعه على اعتبار (كان) تامة، وهو فاعلها، و {مِثْقالَ} مضاف،

ص: 50

و {حَبَّةٍ} مضاف إليه. {مِنْ خَرْدَلٍ:} متعلقان بمحذوف صفة {حَبَّةٍ،} وجملة: {كانَ..} .

إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {أَتَيْنا:} فعل، وفاعل.

{بِها:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما مفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء ولا ب:«إذا» الفجائية، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل لها.

{وَكَفى:} الواو: حرف استئناف. (كفى): ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {بِنا:}

الباء: حرف جر صلة. (نا): فاعل كفى مجرور لفظا، منصوب محلا. {حاسِبِينَ:} تمييز منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، والجملة الفعلية:{وَكَفى..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48)}

الشرح: المعنى: أعطينا موسى وهارون التوراة: وهي الكتاب الجامع؛ لكونه فارقا بين الحق والباطل، ونورا يستضاء به في ظلمات الحيرة والجهالة، وذكرا يتعظ فيه المتقون، أو: ذكر ما يحتاجون إليه من التشريع لأمور دينهم ودنياهم، وانظر الآية رقم [1] من سورة (الفرقان) ودخلت الواو على الصفات كما في قوله تعالى في وصف يحيى بن زكريا-على نبينا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام-:{وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا} وإنما خص (المتقين) بالذكر؛ لأنهم هم الذين انتفعوا، وينتفعون بالمواعظ، والنصائح في كل زمان، وفي كل مكان، وانظر الآية التالية.

تنبيه: عند التأمل يظهر لك: أن النصف الأول من هذه السورة الكريمة تكلم الله فيه عن دلائل التوحيد، والنبوة، والبعث، والحساب، والجزاء، وفي النصف الثاني منها شرع في قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يناله من قومه، وتقوية لقلبه على أداء الرسالة، والصبر على كل عارض، وذكر منها عشرا، انظرها فيما يأتي.

الإعراب: {وَلَقَدْ:} انظر الآية رقم [41]{آتَيْنا:} فعل، وفاعل. {مُوسى:} مفعول به أول. {وَهارُونَ:} معطوف عليه. {الْفُرْقانَ:} مفعول به ثان، وما بعده معطوف عليه.

{لِلْمُتَّقِينَ:} متعلقان ب: (ذكرا)، أو بمحذوف صفة له، وحذف مثلهما بعد (ضياء)، والعكس صحيح، وذلك على التنازع، وجملة: (لقد

) إلخ جواب القسم المقدر لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. تأمل، وتدبر. هذا؛ وقيل: إن الواو زائدة، كما قرئ بدونها، وعليه ف:(ضياء) حال من {الْفُرْقانَ} .

{الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)}

الشرح: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ:} يخافونه. {بِالْغَيْبِ} أي: غائبين؛ لأنهم لم يروا الله تعالى، بل عرفوا بالنظر، والاستدلال: أن لهم ربا قادرا، يجازي على الأعمال، فهم يخشونه

ص: 51

في سرائرهم، وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس. وانظر شرح (الغيب) في الآية رقم [26] من سورة (الكهف). {وَهُمْ مِنَ السّاعَةِ} أي: من مجيئها، وقيامها. {مُشْفِقُونَ:} خائفون، وجلون. وانظر الآية رقم [28] تجد ما يسرك.

هذا؛ و (الساعة:) القيامة، سميت بذلك؛ لأنها تفجأ الناس بغتة في ساعة لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى، وقيل: سميت ساعة لسرعة الحساب فيها؛ لأن حساب الخلائق يوم القيامة يكون في ساعة، أو أقل من ذلك، ولا تنس: أن ساعة كل إنسان وقيامته، وقت مقدمات الموت، وما فيه من أهوال، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من مات فقد قامت قيامته» ، وانظر علاماتها في الآية رقم [96] الآتية.

الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع على اعتباره خبر مبتدأ محذوف، التقدير: هم الذين، أو في محل جر على اعتباره بدلا من (المتقين) أو في محل نصب على اعتباره مفعولا به لفعل محذوف. {يَخْشَوْنَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله.

{رَبَّهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {بِالْغَيْبِ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل، أو من المفعول. {وَهُمْ:} الواو: واو الحال. (هم): مبتدأ. {مِنَ السّاعَةِ:}

متعلقان بما بعدهما. {مُشْفِقُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع

إلخ، والجملة الاسمية: (هم

) إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو والضمير.

{وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)}

الشرح: {وَهذا ذِكْرٌ:} المراد به: القرآن الكريم. {مُبارَكٌ:} كثير الخير، غزير النفع.

{أَنْزَلْناهُ:} على قلب محمد صلى الله عليه وسلم فيه هدى ونور، وشفاء لما في الصدور، كما أنزلنا التوراة على موسى وهارون فيها ذكر. {أَفَأَنْتُمْ:} يا معشر قريش. {لَهُ مُنْكِرُونَ:} جاحدون له، وقد تحداكم مرارا، فعجزتم عن الإتيان بمثله، هذا؛ وانظر (أنزل، ونزل) في الآية رقم [2] من سورة (طه)، و (نا) في الآية رقم [49] من سورة (مريم) عليهاالسّلام، وشرح {أَفَأَنْتُمْ} مثل:{أَفَلا} في الآية رقم [30].

الإعراب: {وَهذا:} الواو: حرف استئناف. (هذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {ذِكْرٌ:} خبر المبتدأ. {مُبارَكٌ:} صفة له. {أَنْزَلْناهُ:}

فعل، وفاعل، ومفعول به، وانظر إعراب {نَذَرْتُ} في الآية رقم [26] من سورة (مريم) عليها السلام، والجملة الفعلية في محل رفع صفة ثانية ل:{ذِكْرٌ،} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم، وتكون «قد» قبلها مقدرة وجوبا لتقرب الفعل الماضي من الحال. والجملة

ص: 52

الاسمية: {وَهذا ذِكْرٌ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {أَفَأَنْتُمْ:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي.

الفاء: حرف استئناف، أو: عطف. (أنتم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَهُ:} متعلقان بما بعدهما. {مُنْكِرُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين.

{وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنّا بِهِ عالِمِينَ (51)}

الشرح: {وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ:} هداه، وصلاحه. {مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل النبوة، حيث وفقناه للنظر، والاستدلال. وذلك لما جن عليه الليل، ورأى الكوكب، والشمس، والقمر، انظر الآية رقم [76] من سورة (الأنعام) وما بعدها، وقيل: من قبل موسى وهارون، وهو المعتمد. {وَكُنّا بِهِ عالِمِينَ} أي: إنه صالح لإتيان الرشد، وصالح للنبوة {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ} .

بعد هذا انظر مناقشته لأبيه، ودعوته إياه للإيمان بلطف، وحسن أدب في الآية رقم [40] وما بعدها من سورة (مريم) عليهاالسّلام، وانظر عمره، وأولاده في الآية رقم [71] من سورة (هود) عليه السلام، وانظر قصته مع هاجر في الآية رقم [37] من السورة المسماة باسمه.

الإعراب: {وَلَقَدْ:} انظر الآية رقم [41]{آتَيْنا:} فعل، وفاعل. {إِبْراهِيمَ:} مفعول به أول. {رُشْدَهُ:} مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة: (لقد

) إلخ جواب القسم المقدر. {مِنْ قَبْلُ:} متعلقان بالفعل قبلهما أو هما متعلقان بمحذوف حال من {رُشْدَهُ} و {قَبْلُ} مبني على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى. (كنا): ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمه. {بِهِ:} متعلقان بما بعدهما. {عالِمِينَ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، وجملة:{وَكُنّا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.

{إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52)}

الشرح: {إِذْ قالَ لِأَبِيهِ:} آزر. {وَقَوْمِهِ:} نمرود، ومن اتبعه. {ما هذِهِ التَّماثِيلُ} أي:

الأصنام المصورة على صورة السباع، أو الطيور، أو الإنسان. وفيه تجاهل لهم؛ ليحقر آلهتهم مع علمه بتعظيمهم لها. {الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ:} مقيمون على عبادتها، وتقديسها، وتعظيمها.

وانظر الآية رقم [30] من سورة (الحج)، وإنما قال:{لَها عاكِفُونَ} لأن المراد: لها عابدون، ولو كان {عاكِفُونَ} على ظاهره؛ لقال: عليها عاكفون؛ لأن عكف يتعدى ب: «على» .

ص: 53

الإعراب: {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق ب: {آتَيْنا،} أو ب: {عالِمِينَ} أو بفعل محذوف، تقديره: اذكر. {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {إِبْراهِيمَ}. {لِأَبِيهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَقَوْمِهِ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {ما:} اسم استفهام وتوبيخ وتحقير، مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{هذِهِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع خبره، والهاء حرف تنبيه لا محل له.

{التَّماثِيلُ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة {التَّماثِيلُ} . {أَنْتُمْ:} مبتدأ. {لَها:} متعلقان بما بعدهما. {عاكِفُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع

إلخ، والجملة الاسمية صلة الموصول لا محل لها، والجملة الاسمية:{ما هذِهِ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها.

{قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54)}

الشرح: المعنى: وجدنا آباءنا عابدين لتلك التماثيل؛ فقلدناهم في عبادتها، واقتدينا بهم في تقديسها. فأجابهم عليه الصلاة والسلام بقوله: إنكم أنتم وآباؤكم منخرطون في ضلال واضح، لا يخفى على أحد؛ لعدم استناد الفريقين على دليل في صحة عبادتها.

هذا؛ و {مُبِينٍ} اسم فاعل من: أبان الرباعي، أصله: مبين، بسكون الباء، وكسر الياء، فنقلت كسرة الياء إلى الباء بعد سلب سكونها؛ لأن الحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، ولا تنس: أن اسم الفاعل من بان الثلاثي بائن، أصله: باين، وإعلاله مثل إعلال قائل.

الإعراب: {قالُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق. {وَجَدْنا:} فعل، وفاعل. {آباءَنا:}

مفعول به أول، و (نا): في محل جر بالإضافة. {لَها:} متعلقان بما بعدهما. {عَبْدَيْنِ:}

مفعول به ثان منصوب

إلخ، وجملة:{وَجَدْنا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:

{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى {إِبْراهِيمَ} عليه السلام.

{لَقَدْ:} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف، التقدير: والله. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {أَنْتُمْ:} توكيد لتاء الفاعل. {وَآباؤُكُمْ:} معطوف على اسم (كان)، والكاف في محل جر بالإضافة. {فِي ضَلالٍ:} متعلقان بمحذوف خبر (كان). {مُبِينٍ:} صفة {ضَلالٍ} وجملة: {لَقَدْ..} . إلخ جواب القسم المقدر لا محل لها، والقسم وجوابه في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

ص: 54

{قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاّعِبِينَ (55)}

الشرح: {قالُوا:} أجادّ فيما تقول، أم أنت لاعب مازح، كأنهم لا ستبعادهم تضليل آبائهم ظنوا: أن ما قاله على وجه الملاعبة، والمداعبة.

الإعراب: {قالُوا:} ماض وفاعله، والألف للتفريق. {أَجِئْتَنا:} الهمزة: حرف استفهام.

(جئتنا): فعل، وفاعل، ومفعول به. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من تاء الفاعل، أي: ملتبسا بالحق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {أَمْ:} حرف عطف. {أَنْتَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {مِنَ اللاّعِبِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، وعطف الجملة الاسمية على الفعلية إيذان برجحانه عندهم.

{قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ (56)}

الشرح: {قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} أي: لست لا عبا فيما أقول، بل ربكم، والقائم بتدبير أموركم، ومصلح شؤونكم خالق السموات، والأرض؛ الذي خلقهن، وأبدعهن. والضمير يحتمل عوده على {السَّماواتِ وَالْأَرْضِ،} وعلى {التَّماثِيلُ} التي كانوا يعبدونها، وهو أدخل في تضليلهم، وإقامة الحجة عليهم؛ لأن فيه تصريحا بأن معبوداتهم من جملة مخلوقات الله. {وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ} أي: الذي قلته وذكرته. {مِنَ الشّاهِدِينَ} أي: من المتأكدين له والمبرهنين عليه، فإن الشاهد من تحقق الشيء، وتثبت منه.

الإعراب: {قالَ:} ماض وفاعله يعود إلى {إِبْراهِيمَ} عليه السلام. {بَلْ:} حرف إضراب.

{رَبُّكُمْ:} مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {رَبُّ:} خبره، وهو مضاف، و {السَّماواتِ:} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة {رَبُّ،} أو هو بدل منه. {فَطَرَهُنَّ:} ماض، والفاعل يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد، والهاء مفعول به، والنون حرف دال على جماعة الإناث، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والجملة الاسمية:{رَبُّكُمْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول.

{وَأَنَا:} الواو: حرف عطف. (أنا): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{عَلى:} حرف جر. {ذلِكُمْ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر ب: {عَلى،} والجار والمجرور متعلقان بما بعدهما، واللام: للبعد، والكاف حرف خطاب، هذا؛ ومن يعتبر «أل» موصولة لا يجيز ذلك؛ لأنه لا يجوز أن تتقدم الصلة على الموصول، وعليه فهما متعلقان

ص: 55

بمحذوف دل عليه ما بعده. {مِنَ الشّاهِدِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية {وَأَنَا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها فهي في محل نصب مقول القول مثلها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من الفاعل المستتر؛ فالمعنى لا يأباه، ويكون الرابط: الواو، والضمير، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)}

الشرح: {وَتَاللهِ:} قسم فيه معنى التعجب، وقرئ بالباء، وهي الأصل، والتاء بدل من الواو المبدلة منها، وفيها معنى التعجب، والتاء تختص في القسم باسم الله وحده، وربما قالوا:

تربي، وترب الكعبة، وتالرحمن، والواو تختص بكل مظهر، والباء بكل مضمر، ومظهر.

{لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ:} أقسم أنه لا يكتفي بالمحاجة باللسان، بل كسر أصنامهم أيضا فعل واثق بالله تعالى، موطن نفسه على مقاساة المكروه في الذب عن الدين. هذا؛ والكيد: المكر، يقال:

كاده، يكيده، كيدا، ومكيدة، وكذلك المكايدة، وربما سمي الحرب كيدا، يقال: غزا فلان فلم يلق كيدا، وكل شيء تعالجه؛ فأنت تحاول كيدا. {بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} أي: منطلقين ذاهبين.

هذا؛ وقيل: إنما قال إبراهيم هذا القول سرّا في نفسه، ولم يسمع ذلك إلا رجل واحد من قومه، فأفشاه، وهو القائل:{سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ..} . إلخ، وقيل: كان لهم في كل سنة مجمع، وعيد. فكانوا: إذا رجعوا من عيدهم؛ دخلوا على الأصنام، فسجدوا لها، ثم رجعوا إلى منازلهم، فلما كان ذلك العيد؛ قال أبو إبراهيم: يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا! فخرج معهم، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض، وقال: إني سقيم، أشتكي رجلي، فتركوه، ومضوا، فنادى في آخرهم، وقد بقي ضعفاء الناس: تالله {لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ} فسمعوها منه، ثم رجع إلى بيت الآلهة، وهن في بهو عظيم، وفي مستقبل باب البهو صنم عظيم، إلى جنبه صنم أصغر منه، والأصنام جنبها إلى جنب بعض، كل صنم الذي يليه أصغر منه، وهكذا إلى باب البهو، وإذا هم قد جعلوا طعاما بين يدي الآلهة، وقالوا: إذا رجعنا وقد برّكت الآلهة عليه أكلنا منه، فلما نظر إبراهيم إليهن، وما بين أيديهن من الطعام؛ قال لهن على طريق الاستهزاء:{أَلا تَأْكُلُونَ} فلما لم يجيبوه، قال:{ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} وجعل يكسرهن بفأس كان في يده، حتى إذا لم يبق إلا الصنم العظيم علق الفأس في عنقه-وقيل في يده-ثم خرج، وهو ما يلي. انتهى. خازن بتصرف. وما أحراك أن تنظر الآية رقم [88] من سورة (الصافات) وما بعدها والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

هذا؛ والأصنام: جمع صنم: وهو التمثال الذي يتخذ من خشب، وكانت أصنامهم اثنين وسبعين صنما، بعضها من ذهب، وبعضها من فضة، وبعضها من حديد، وبعضها من نحاس،

ص: 56

ورصاص، وحجر، وخشب

إلخ، وكان الصنم الكبير من ذهب، مكللا بالجواهر، في عينيه جوهرتان تتقدان.

الإعراب: {وَتَاللهِ:} الواو: حرف استئناف. (تالله): متعلقان بفعل محذوف، تقديره:

أقسم. {لَأَكِيدَنَّ:} اللام: واقعة في جواب القسم. (أكيدن): مضارع مبني على الفتح لا تصاله بنون التوكيد الثقلية التي هي حرف لا محل له، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب القسم، والقسم وجوابه كلام مستأنف، لا محل له.

{أَصْنامَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. {أَنْ تُوَلُّوا:} مضارع منصوب ب: {أَنْ،} وعلامة نصبه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، و {أَنْ} والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بإضافة (بعد) إليه.

{مُدْبِرِينَ:} حال مؤكدة لواو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ.

{فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)}

الشرح: {فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً:} بضم الذال أي: قطعا، وقيل: فتاتا، وقرئ بكسر الجيم جمع: جذيذ، وهو الهشيم، مثل خفيف، وخفاف، وظريف، وظراف،، قال الشاعر:[الرمل]

جذّذ الأصنام في محرابها

ذاك في الله العليّ المقتدر

كما قرئ بفتح الجيم، كالحصاد، والحصاد. هذا؛ وقال قطرب: هي في لغاتها كلها مصدر فلا يثنى، ولا يجمع، ولا يؤنث، والمعتمد ما ذكرته أولا. {إِلاّ كَبِيراً لَهُمْ} أي: عظيم الآلهة في الخلق، فإنه لم يكسره، كما رأيت سابقا. {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ:} إلى الصنم الكبير؛ لأنه ظن: أنهم لا يرجعون إليه، فيسألونه عن كاسرها؛ إذ من شأن المعبود أن يرجع إليه في حل المعضلات، أو يرجعون إلى الله؛ أي: إلى توحيده عند تحقق عجز آلهتهم، أو يرجعون إلى إبراهيم نفسه لا شتهاره بعداوة تلك الآلهة الباطلة، فيحاجهم بقوله:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} فيحجهم. هذا؛ وجمعت الأصنام بميم جمع المذكر؛ لأنهم عاملوها معاملة السميع، المبصر، العاقل بتقديسهم لها، وانظر الآية رقم [33].

الإعراب: {فَجَعَلَهُمْ:} الفاء: حرف استئناف. (جعلهم): ماض، والفاعل، يعود إلى {إِبْراهِيمَ} عليه السلام. والهاء مفعول به أول {جُذاذاً:} مفعول به ثان. {إِلاّ:} أداة استثناء.

{كَبِيراً:} مستثنى من الضمير المنصوب. {فَجَعَلَهُمْ:} متعلقان بكبيرا أو بمحذوف صفة له، والجملة الفعلية:{فَجَعَلَهُمْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {لَعَلَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {إِلَيْهِ:} متعلقان بالفعل بعدهما. {يَرْجِعُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو

ص: 57

فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعل)، والجملة الاسمية:{لَعَلَّهُمْ..} . إلخ تعليل لجعل الأصنام جذاذا، لا محل لها.

{قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظّالِمِينَ (59)}

الشرح: لما رجعوا من عندهم، ورأوا ما حدث بآلهتهم؛ {قالُوا مَنْ فَعَلَ..}. إلخ: فإنه معتد عليها بفعله هذا؛ مع أنها جديرة بالتقديس؛ والإعظام.

الإعراب: {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {مَنْ:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {فَعَلَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {مَنْ}. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب مفعول به، والهاء حرف تنبيه، لا محل له، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. {بِآلِهَتِنا:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (نا): في محل جر بالإضافة.

{إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {لَمِنَ:} اللام: هي المزحلقة. (من الظالمين):

متعلقان بمحذوف خبر (إنّ)، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، هذا؛ وأجيز اعتبار {مَنْ} موصولا مبتدأ، والجملة الفعلية بعده صلته، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ..} . إلخ في محل رفع خبره، وعلى الاعتبارين بالجملة الاسمية:{مَنْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:

{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60)}

الشرح: {قالُوا:} أي: الذين سمعوا كلام إبراهيم، عليه الصلاة والسلام:{وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ..} . إلخ أو هو الواحد، وعبر عنه بلفظ الجمع. {سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} أي: يذكر الأصنام بسوء، ويسبّها. {يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ} أي: مسمى بهذا الاسم. هذا؛ وانظر شرح: {يَسْمَعُ} في الآية رقم [45] وإعلال {فَتًى} مثل إعلال {هُدىً} في الآية رقم [13] من سورة (الكهف).

هذا؛ والفتى: الشاب، ويطلق على السيد، والشريف، والكريم، كما يطلق على المستخدم من عبد، وغيره، كما في فتيان يوسف، على نبينا وعليه ألف صلاة وألف سلام. وكما في فتى موسى عليه السلام، والفتاء بالمد: الشباب، والفتوة، والشجاعة، والسيادة، والشرف. هذا؛ وقيل: الفتوة: بذل الندى، وكف الأذى، وترك الشكوى، واجتناب المحارم، واستعمال المكارم. هذا؛ ويجمع «الفتى» جمع كثرة على «فتيان» ، وجمع قلة على «فتية» كما يجمع أيضا على «فتوّ» كما في قول جذيمة الأبرش:[المديد]

في فتوّ أنا رابيّهم

من كلال غزوة ماتوا

وهو شاذ؛ لأن أصل فتى: «فتي» فهو يائي، وليس واويا. تأمل.

ص: 58

الإعراب: {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {سَمِعْنا:} فعل، وفاعل. {فَتًى:}

مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها. {يَذْكُرُهُمْ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {فَتًى،} والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مفعول به ثان، أو هي في محل نصب صفة {فَتًى}. {يُقالُ:}

مضارع مبني للمجهول. {لَهُ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {إِبْراهِيمُ:} فيه أوجه: الأول: هو نائب فاعل؛ أي: يقال له هذا اللفظ. الثاني: هو مبتدأ خبره محذوف، أي: يقال له: إبراهيم فاعل ذلك. الثالث: هو خبر مبتدأ محذوف، أي: يقال له: هو إبراهيم. الرابع: هو منادى، وحرف النداء محذوف، أي: يا إبراهيم، وعلى الأوجه الثلاثة، فهو مقتطع من جملة، وتلك الجملة في محل نصب مقول القول، وعليه: فالجار، والمجرور متعلقان في محل رفع نائب فاعل. وقال مكي: وإن شئت؛ أضمرت المصدر؛ ليقوم مقام الفاعل، و {لَهُ} في موضع نصب، وجملة:

{يُقالُ..} . إلخ في محل رفع صفة {فَتًى،} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم، وجملة:

{سَمِعْنا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)}

الشرح: {قالُوا} أي: النمرود الجبار، وأعوانه الظلمة. {فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النّاسِ} أي: جيئوا به ظاهرا بمرأى من الناس حتى يروه. {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} أي: عليه بأنه الذي فعل ذلك، أو يشهدون:

أنه قال: إنه سيفعل بالآلهة كذا، وكذا، أو يشهدون عقابه حتى لا يقدم أحد على مثل ما أقدم عليه.

الإعراب: {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {فَأْتُوا:} الفاء: هي الفصيحة، أو هي زائدة. (ائتوا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بِهِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما. {عَلى أَعْيُنِ:} متعلقان به أيضا، وأجيز تعليقهما بمحذوف حال من الضمير المجرور محلا بالياء، التقدير: ظاهرا على أعينهم، و {أَعْيُنِ} مضاف، و {النّاسِ} مضاف إليه. {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ:} انظر إعراب مثلها في الآية رقم [58]، والجملة الاسمية تعليل للأمر، لا محل لها، وجملة: (ائتوا

) إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك قد حصل منه؛ {فَأْتُوا..} . إلخ، و «إذا» ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62)}

الشرح: {قالُوا:} أي: حين أحضروه سألوه هذا السؤال: أنت كسرت هذه الآلهة؛ التي نعبدها، ونقدسها يا إبراهيم؟!

ص: 59

الإعراب: {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {أَأَنْتَ:} الهمزة: حرف استفهام.

(أنت): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {فَعَلْتَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب مفعول به، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {بِآلِهَتِنا:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (نا): في محل جر بالإضافة. (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو. (إبراهيم): مفرد علم مبني على الضم في محل نصب ب: (يا)، والجملة الاسمية، والندائية كلتاهما في محل نصب مقول القول، وجملة:

{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. تأمل، وتدبر.

{قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63)}

الشرح: {قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} أي: غضب؛ إذ تعبدون معه هذه الصغار، وهو أكبر منها، فكسرهن، وأراد إبراهيم عليه السلام إقامة الحجة عليهم، وتقريره الفعل لنفسه، وإثباته لها على أسلوب تعريضي تبكيتا لهم، وتقريعا؛ لأنهم إذا نظروا النظر الصحيح؛ علموا عجز كبيرهم، وأنه لا يصلح إلها، وهذا كما قال لك صاحبك، وقد كتبت كتابا بخط رشيق أنيق:

أنت كتبت هذا، وصاحبك أمي، فقلت له: بل كتبته أنت! كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به، لا نفيه عنك، وإثباته للأمي؛ لأنه إثباته للعاجز منكما، والأمر كائن بينكما استهزاء به، وإثبات للقادر. {فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ} أي: حتى يخبروا من فعل ذلك بهم، والمعنى: إن قدروا على النطق؛ قدروا على الفعل، وإذا كانوا عاجزين عن الأمرين:

النطق، والفعل؛ فكيف يستحقون العبادة؟! ومضمونه: تحقيرهم، وتحقير آلهتهم.

عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لم يكذب إبراهيم النبيّ قطّ إلا ثلاث كذبات: ثنتين منهنّ في ذات الله: قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ،} وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ،} وواحدة في شأن سارة» . رواه مسلم، وغيره. هذا؛ والواحدة في شأن سارة هي قوله للجبار في مصر حين سأله عنها فقال له: هذه أختي. هذا؛ وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم كذبات، ومعناه: أنه لم يتكلم بكلام صورته صورة الكذب، وإن كان حقا في الباطن إلا هذه الكلمات، ولما كان مفهوم ظاهرها خلاف باطنها أشفق إبراهيم-على حبيبنا، وشفيعنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام- منها بمؤاخذته بها؛ لذا يعتذر عليه الصلاة والسلام عن الشفاعة في الموقف العظيم، ويقول:

«وإنّي كنت كذبت ثلاث كذبات» انظر حديث الشفاعة الطويل في كتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري، وقد خرجه البخاري، ومسلم.

قال أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: في هذا الحديث نكتة عظمى تقصم الظهر، وهي:

أنه-عليه السلام-قال: «لم يكذب إبراهيم إلا في ثلاث كذبات» ثنتين ما حل بهما عن دين الله،

ص: 60

وهما قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ،} وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ،} ولم يعد قوله: (هذه أختي) في ذات الله تعالى، وإن كان دفع بها مكروها، ولكنه لما كان لإبراهيم عليه السلام فيها حظ من صيانة فراشه، وحماية أهله، لم يجعلها في ذات الله، وذلك؛ لأنه لا يجعل في جنب الله، وذاته إلا العمل الخالص من شوائب الدنيا، والمعاريض التي ترجع إلى النفس إذا خلصت للدين؛ كانت لله سبحانه، كما قال:{أَلا لِلّهِ الدِّينُ الْخالِصُ،} وهذا لو صدر منا؛ لكان لله، لكن منزلة إبراهيم اقتضت هذا. والله أعلم. انتهى. قرطبي. وانظر الآية رقم [82] من سورة (الشعراء).

الإعراب: {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى (إبراهيم) عليه السلام. {بَلْ:} حرف إضراب. {فَعَلَهُ:} ماض، والهاء مفعوله. {كَبِيرُهُمْ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع صفة {كَبِيرُهُمْ،} أو هو بدل منه، والهاء حرف تنبيه، وقال الكسائي: الوقف عند قوله: {بَلْ فَعَلَهُ} وهذا يعني: أن الفاعل محذوف، التقدير: فعله من فعله، وما بعده جملة اسمية مؤلفة من مبتدأ وخبر. والأول أقوى معنى وأتم سبكا. {فَسْئَلُوهُمْ:} الفاء: حرف عطف، أو هي الفصيحة، انظر الآية رقم [25].

(اسألوهم): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، أو هي جواب شرط غير جازم؛ إذ التقدير: وإذا كنتم غير مصادقين؛ فاسألوهم. هذا؛ وقيل: الجملة الفعلية معترضة، وهي مقدمة من تأخير، التقدير: إن كانوا ينطقون؛ فاسألوهم. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كانُوا:} ماض ناقص مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط، والواو اسمه، وجملة ينطقون في محل نصب خبره، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط دل عليه ما قبله، والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظّالِمُونَ (64)}

الشرح: {فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ:} فرجعوا إلى عقولهم، وتفكروا بقلوبهم لما أخذ بمخانقهم رجوع المنقطع عن حجته المتفطن لصحة حجة خصمه. {فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظّالِمُونَ} أي:؛ لأنفسكم بعبادة من لا ينطق ببنت شفة، ولا يملك لنفسه منفعة، وكيف ينفع عابديه، ويدفع عنهم من لا يرد عن رأسه الفأس؟!

الإعراب: {فَرَجَعُوا:} الفاء: حرف استئناف. (رجعوا): ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {إِلى أَنْفُسِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. (قالوا): ماض، وفاعله

إلخ. {إِنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه.

{أَنْتُمُ:} توكيد لاسم (إنّ) على المحل، أو هو ضمير فصل لا محل له. {الظّالِمُونَ:} خبر

ص: 61

(إنّ) مرفوع

إلخ. هذا؛ ويجوز اعتبار الضمير مبتدأ، فيكون {الظّالِمُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّكُمْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة: (قالوا

) إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.

{ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65)}

الشرح: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ} أي: انقلبوا إلى المجادلة بعد أن استقاموا بالمراجعة، شبه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء مستعليا على أعلاه. وقال أهل التفسير: أجرى الله الحق على ألسنتهم في القول الأول، وهو إقرارهم على أنفسهم بالظلم، ثم أدركتهم الشقاوة، فرجعوا إلى حالهم الأولى. {لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} أي: فكيف تأمرنا بسؤالها؟!

هذا؛ و {ثُمَّ} عطف يقتضي ثلاثة أمور: التشريك في الحكم، والترتيب، والمهلة، وفي كل منها خلاف مذكور في «مغني اللبيب» ، وقد تلحقها تاء التأنيث الساكنة، كما تلحق (ربّ) و (لا) العاملة عمل ليس، فيقال: ثمّت، وربّت، ولات، والأكثر تحريك التاء معهن بالفتح، هذا؛ و (ثمّ) هذه غير (ثمّ) بفتح الثاء، فإنها اسم يشار به إلى المكان البعيد، نحو قوله تعالى:{وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ} وهي ظرف لا يتصرف، ولا يتقدمه حرف التنبيه، ولا يتصل به كاف الخطاب، وقد تتصل به التاء المربوطة، فيقال: ثمّة.

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {نُكِسُوا:} ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، ويقرأ بتشديد الكاف، كما يقرأ بالبناء للمعلوم، والواو فاعله، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {عَلى رُؤُسِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو بمحذوف حال من الواو، والهاء في محل جر بالإضافة. {لَقَدْ:} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف.

(قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {عَلِمْتَ:} فعل، وفاعل. {ما:} نافية تحتمل الحجازية والتميمية. {هؤُلاءِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع اسم {ما،} أو في محل رفع مبتدأ على إهمالها، وجملة:{يَنْطِقُونَ} في محل نصب خبر {ما} على إعمالها، أو في محل رفع خبر المبتدأ على إهمالها، والجملة الاسمية على الاعتبارين في محل نصب سدت مسد مفعول {عَلِمْتَ} أو مسد مفعوليه على اعتباره ينصب مفعولين؛ لأنه علق عن العمل لفظا بسبب {ما} النافية، وجملة:{لَقَدْ..} . إلخ جواب القسم المقدر، والقسم المقدر وجوابه في محل نصب مقول القول لقول محذوف يقع حالا من واو الجماعة، التقدير: قائلين: لقد علمت

إلخ.

{قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66)}

الشرح: المعنى: فهو ينكر عليهم عبادة تلك الأوثان بعد أن اعترفوا بأنها جمادات لا تضر، ولا تنفع، ولا تتكلم، وهذا كله ينافي الألوهية.

ص: 62

هذا؛ والعبادة غاية التذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال، وهو الله تعالى؛ ولذا يحرم السجود لغيره تعالى. وقيل: العبودية أربعة: الوفاء بالعهود، والرضا بالموجود، والحفظ للحدود، والصبر على المفقود. وعن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يقول الله تعالى: «أنا والإنس والجنّ في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري» .

الإعراب: {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {إِبْراهِيمَ} عليه السلام. {أَفَتَعْبُدُونَ:} الهمزة:

حرف استفهام إنكاري توبيخي. الفاء: عاطفة على محذوف. (تعبدون): مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {مِنْ دُونِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل: متعلقان بمحذوف حال، و {فَتَعْبُدُونَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {لا:} نافية. {يَنْفَعُكُمْ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {ما} وهو العائد، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {شَيْئاً:} نائب مفعول مطلق، وجملة:{وَلا يَضُرُّكُمْ:} معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها، هذا؛ والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67)}

الشرح: {أُفٍّ لَكُمْ:} قبحا، أو هلاكا، أو ويلا، وفيه قراآت كثيرة، انظر الآية رقم [23] من سورة (الإسراء) فالبحث فيها واف كاف. {وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ:} المعنى: القبح لكم ولما تعبدون

إلخ. {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي: أليس لكم عقول تعقلون بها: أنّ هذه الأصنام لا تستحق العبادة، وانظر شرح العقل في الآية رقم [10].

الإعراب: {أُفٍّ:} لقد اعتمدت في سورة (الإسراء): أنه اسم فعل مضارع، أما هنا فالأرجح:

أنه مصدر بمعنى ما رأيت، وعليه هو مفعول مطلق لا فعل له من لفظه، وفاعله مستتر تقديره:«أنا» .

{لَكُمْ:} متعلقان ب: {أُفٍّ} أو بمحذوف صفة له. {وَلِما:} الواو: حرف عطف. (لما): جار ومجرور معطوفان على لكم، (وما): اسم موصول مبني على السكون في محل جر باللام، والجملة بعدها صلتها، والعائد محذوف، التقدير: للذين تعبدونهم. {مِنْ دُونِ:} متعلقان بمحذوف حال من المفعول المحذوف، و {مِنْ} بيان لما أبهم في (ما). و {تَعْبُدُونَ:} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، وجملة:{أُفٍّ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {أَفَلا:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي. الفاء: حرف استفهام، أو حرف عطف. (لا): نافية، وجملة:(لا تعقلون) مستأنفة لا محل لها. تأمل، وتدبر.

{قالُوا حَرِّقُوهُ وَاُنْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68)}

الشرح: {قالُوا:} أخذوا في المضارّة لما عجزوا عن المحاجّة، ولما انقطعوا بالحجة؛ أخذتهم عزة بإثم، وانصرفوا إلى طريق الغشم، والغلبة، والقائل رجل من أكراد فارس، اسمه:

ص: 63

هينون، خسف به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، وقيل: قاله نمرود بن كنعان بن سنحاريب، بن نمرود، بن كوش، بن حام، بن نوح النبي على نبينا وحبيبنا وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ألف صلاة وألف سلام. وما أحراك أن تقف هنا وقفة قصيرة؛ لتنظر ما ذكرته لك في الآية رقم [258] من سورة (البقرة).

{حَرِّقُوهُ} أي: في النار، فإنها أهول ما يعاقب به، وأفظع. {وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ:} بالانتقام لها. {إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ:} ناصرين آلهتكم نصرا مؤزرا بإحراقه؛ لأنه يسبها، ويعيبها. هذا؛ وجاء في الخبر: أن نمرود بنى صرحا، طوله ثمانون ذراعا، وعرضه أربعون، وحبسوا إبراهيم عليه الصلاة والسلام في بيت، وبنوا بنيانا كالحظيرة بقرية، يقال لها: كوثى، ثم جمعوا له الحطب شهرا، حتى كان الرجل يمرض، فيقول: لئن عوفيت؛ لأجمعن حطبا لإبراهيم، وكانت المرأة تنذر فيما تطلب، لئن أصابته؛ لتحتطبن في نار إبراهيم، وكانت المرأة تغزل، وتشتري الحطب بغزلها، احتسابا في دينها، فلما جمعوا ما أرادوا، وأشعلوا في كل ناحية من الحطب نارا، فاشتعلت النار، واشتدت، حتى إنّ الطير ليمر بجنباتها، فيحترق من شدة وهجها، فأوقدوا عليها سبعة أيام، فلما أرادوا أن يلقوا إبراهيم، لم يعلموا كيف يلقونه؟! فقيل: إن إبليس جاءهم، وعلمهم عمل المنجنيق. فعملوه، ثم عمدوا إلى إبراهيم عليه السلام، فقيدوه، ورفعوه على رأس البنيان، ووضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا، فضجت السموات والأرض، ومن فيهن من الملائكة، وجميع الخلق إلا الثقلين ضجة واحدة: ربنا إبراهيم خليلك يلقى في النار، وليس في الأرض أحد يعبدك غيره؛ فائذن لنا في نصرته.

فقال الله تعالى: إنه خليلي ليس لي خليل غيره، وأنا إلهه ليس له إله غيري، فإن استغاث بأحد منكم، أو دعاه؛ فلينصره، فقد أذنت له في ذلك، وإن لم يدع غيري، فأنا أعلم به، وأنا وليه، فخلوا بيني وبينه، فلما أرادوا إلقاءه في النار؛ أتاه خازن المياه، وقال: إن أردت؛ أخمدت النار، وأتاه خازن الهواء، وقال: إن شئت؛ طيرت النار في الهواء، فقال إبراهيم عليه الصلاة، والسّلام: لا حاجة لي إليكم! ثم رفع رأسه إلى السماء، فقال:(اللهم أنت الواحد في السماء، وأنا الواحد في الأرض، ليس أحد يعبدك غيري، حسبي الله ونعم الوكيل). وروى أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم عليه السلام، قال حين أوثقوه؛ ليلقوه في النار:(لا إله إلاّ أنت سبحانك، لك الحمد، ولك الملك، لا شريك لك) ثم رموا به في المنجنيق إلى النار، فاستقبله جبريل عليه السلام، فقال: يا إبراهيم! ألك حاجة؟ فقال: أما إليك؛ فلا! فقال جبريل: فاسأل ربك، فقال:(حسبي من سؤالي علمه بحالي) فقال الله تعالى: {قُلْنا يا نارُ..} . إلخ.

عن ابن عباس-رضي الله عنهما-في قوله تعالى: {وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قال:

قالها إبراهيم-عليه الصلاة والسلام-حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس:

ص: 64

{إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} الآية رقم [173] من سورة (آل عمران)، ما أحراك أن تنظر شرحها هناك! هذا؛ وعن أم شريك رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الأوزاغ. متفق عليه، وزاد البخاري، وقال:(كان ينفخ النّار على إبراهيم) وفي كتاب الترغيب والترهيب أحاديث كثيرة تحث على قتل الأوزاغ.

الإعراب: {قالُوا:} فعل، وفاعله، والألف للتفريق، وانظر الآية رقم [26] من سورة (مريم) عليها السلام. {حَرِّقُوهُ:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب (اشربي) في الآية رقم [26] من سورة (مريم) عليهاالسّلام، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وما بعدها معطوف عليها. {آلِهَتَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، وانظر إعراب مثل:{إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ} في الآية رقم [7] هذا؛ والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69)}

الشرح: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لو لم يقل: (سلاما) لمات إبراهيم من بردها. وفي بعض الآثار: إنه لم يبق نار يومئذ في الأرض إلا طفئت: فلم ينتفع في ذلك اليوم بنار في العالم، ولو لم يقل: على إبراهيم؛ لبقيت ذات برد أبدا، وقيل: إن الملائكة أخذت بضبعي إبراهيم، فأقعدوه على الأرض، فإذا عين ماء عذب، وورد أحمر، ونرجس، قال كعب: ما أحرقت النار من إبراهيم عليه السلام إلا وثاقه، قالوا: وكان إبراهيم عليه السلام في ذلك الموضع سبعة أيام لم يقدر أحد أن يقرب من النار قاله المنهال بن عمرو، قال إبراهيم عليه السلام:(ما كنت أيّاما قطّ أنعم منّي من الأيام التي كنت في النار). قيل: وبعث الله تعالى ملك الظل في صورة إبراهيم، فقعد إلى جنبه يؤنسه، قالوا: وبعث الله جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة، وطنفسة فألبسه القميص، وأقعده على الطنفسة، وقعد معه يحدثه.

أقول: وهذا القميص ورثه إسحاق من إبراهيم، وورثه يعقوب من إسحاق، وكان يعقوب قد وضعه في قصبة، وعلقه في عنق يوسف، ولما ألقي في الجب؛ أتى جبريل، وأخرجه من القصبة، وألبسه إياه، صلّى الله على نبينا، وحبيبنا، وعلى إبراهيم، ونسله الصالحين، وسلم تسليما كثيرا. ثم نظر نمرود وأشرف على إبراهيم من صرحه الذي بناه، فرآه جالسا في روضة، والملك قاعد إلى جنبه، وما حوله نار تحرق الحطب، فناداه يا إبراهيم! هل تستطيع أن تخرج منها؟! قال: نعم! قال: هل تخشى إن أقمت فيها أن تضرك؟! قال: لا! قال: قم فاخرج منها.

فقام إبراهيم عليه السلام يمشي فيها؛ حتى خرج منها، فلما وصل إليه، قال: يا إبراهيم! من الرجل الذي رأيته معك مثلك في صورتك، قاعدا إلى جنبك، قال: ذلك ملك الظل أرسله إليّ

ص: 65

ربي؛ ليؤنسني فيها. فقال نمرود: يا إبراهيم! إني مقرب إلى إلهك قربانا لما رأيت من قدرته، وعزته فيما صنع بك حين أبيت إلا عبادته، وتوحيده، وإني ذابح له أربعة آلاف بقرة. قال إبراهيم عليه السلام: لا يقبل الله منك ما دمت على دينك؛ حتى تفارقه، وترجع إلى ديني، فقال: لا أستطيع ترك ملكي، ولكن سوف أذبحها له، فذبحها، وكف عن إبراهيم عليه الصلاة، والسّلام، ومنعه الله منه، وهو ما في الآية التالية. انتهى. ما هنا، وهناك من الخازن، والقرطبي بتصرف.

الإعراب: {قُلْنا:} فعل، وفاعل، وانظر إعراب {نَذَرْتُ} في الآية رقم [26] من سورة (مريم) عليهاالسّلام. (يا): أداة نداء. (نار): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب ب: (يا). {كُونِي:} أمر ناقص مبني على حذف النون، وياء المؤنثة المخاطبة اسمه. {بَرْداً:}

خبره، والأصل: ذات برد، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. (سلاما): معطوف عليه. {عَلى إِبْراهِيمَ:} متعلقان بسلاما، أو بمحذوف صفة له، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة، هذا؛ والكلام:{يا نارُ..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْنا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها من الإعراب.

{وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)}

الشرح: {وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً} أي: أراد النمرود، وأصحابه إهلاك إبراهيم-عليه الصلاة والسلام-بالنار، كما رأيت. {فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ:} أخسر من كل خاسر لما عاد سعيهم برهانا قاطعا على أنهم على الباطل، وإبراهيم على الحق، وموجبا لمزيد مكانته عند الله، واستحقاقهم أشد العذاب في الدنيا، والآخرة، أما في الدنيا فقد نقل القرطبي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-ما يلي: سلط الله على النمرود وقومه أضعف خلقه البعوض، فما برح نمرود حتى رأى عظام أصحابه، وخيله تلوح، أكلت لحومهم، وشربت دماءهم، ووقعت واحدة في منخره، فلم تزل تأكل حتى وصلت دماغه، وكان أكرم الناس عليه الذي يضرب رأسه بمرزبة من حديد، فأقام بهذا نحوا من أربعمئة سنة. انتهى. وقال الثعلبي: وكان جبارا أربعمئة سنة، فعذبه الله أربعمئة سنة كمدة ملكه. انتهى. وذكرت لك فيما مضى: أن بختنصر، والنمرود ولدا زنى.

الإعراب: {وَأَرادُوا:} الواو: حرف عطف. (أرادوا): ماض والواو فاعله، والألف للتفريق.

{بِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وتعليقهما بالمفعول كيدا صحيح معنى، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{قُلْنا..} . إلخ لا محل لها مثلها. (جعلناهم): ماض، وفاعله، ومفعوله الأول.

{الْأَخْسَرِينَ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.

ص: 66

{وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71)}

الشرح: {وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً..} . إلخ. المعنى: أخرجناه، ومعه لوط ابن أخيه؛ الذي آمن معه من بلاد العراق إلى بلاد الشام المباركة، والبركة حصلت من كثرة الأنبياء الذين بعثوا في هذه البلاد، فانتشرت في العالمين شرائعهم، التي هي مبادئ الكمالات، والخيرات الدينية، والدنيوية، وقيل: مباركة لكثرة خصبها، وثمارها، وأنهارها، ولأنها معادن الأنبياء. والبركة:

ثبوت الخير، ومنه برك البعير إذا لزم مكانه، فلم يبرح، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [35] من سورة (إبراهيم) صلّى الله على نبينا، وعليه، وسلم. هذا؛ وهناك أحاديث كثيرة في فضل بلاد الشام، والترغيب في سكناها موجودة في كتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري.

هذا؛ و (العالمين) جمع: عالم بفتح اللام، وهو يقال لكل ما سوى الله، ويدل له قول موسى-على نبينا، وعليه أفضل صلاة، وأتم تسليم-لما قال له فرعون:{وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} والعوالم كثيرة لا تحصيها الأرقام، وهي منتشرة في هذا الكون المترامي الأطراف في البر والبحر؛ إذ كل جنس من المخلوقات يقال له:

عالم: قال تعالى: {وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ} .

الإعراب: {وَنَجَّيْناهُ:} الواو: حرف عطف. (نجيناه): فعل، وفاعل، ومفعول به.

{وَلُوطاً:} معطوف على الضمير المنصوب. {إِلَى الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة الأرض، وجملة:{بارَكْنا فِيها} صلة الموصول لا محل لها، والعائد: الضمير المجرور محلا ب: (في). {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل: متعلقان بمحذوف حال، ولا وجه له. {لِلْعالَمِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة {وَنَجَّيْناهُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا.

{وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72)}

الشرح: {وَوَهَبْنا لَهُ:} لإبراهيم. {إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً} أي: عطية من عطاء الله تعالى والمراد يعقوب؛ لأن الله تعالى أعطى إبراهيم إسحاق بدعائه؛ حيث قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصّالِحِينَ} وزاده يعقوب نافلة، وهو ولد الولد، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [79] من سورة (الإسراء) تجد ما يسرك. وانظر ما قلته في شرح (وهبنا) في الآية رقم [49] من سورة (مريم) عليها السلام. {وَكُلاًّ جَعَلْنا..}. إلخ. قال البيضاوي: بأن وفقناهم للصلاح، وحملناهم عليه، فصاروا كاملين. وقال القرطبي: وجعلهم صالحين إنما يتحقق بخلق الصلاح، والطاعة لله، وبخلق القدرة على الطاعة،

ص: 67

ثم ما يكتسبه العبد فهو مخلوق لله تعالى، وانظر أعمار الأسرة الكريمة في الآية رقم [71] من سورة (هود) على نبينا، وعليه، وعليهم جميعا ألف ألف صلاة، وألف ألف سلام، ولا تنس: أن يعقوب ولد في حياة إبراهيم، وهو ما أفادته الآية رقم [71] من سورة (هود).

الإعراب: (وهبنا): فعل، وفاعل. {لَهُ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {إِسْحاقَ:} مفعول به.

{وَيَعْقُوبَ:} معطوف على ما قبله. {نافِلَةً:} حال من (يعقوب)، وجملة {وَوَهَبْنا..}. إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {وَكُلاًّ:} الواو: حرف عطف. (كلا): مفعول به أول مقدم. {جَعَلْنا:} فعل، وفاعل. {صالِحِينَ:} مفعول به ثان منصوب

إلخ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

{وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73)}

الشرح: {وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً:} أي: رؤساء يقتدى بهم في الخيرات، وأعمال الطاعات. هذا؛ و {أَئِمَّةً} جمع: إمام، سمي بذلك؛ لأنه يؤتم به في الأفعال، فهنيئا لمن كان إماما في الخير، وويل لمن كان إماما في الشر! قال تعالى في حق فرعون، وأشياعه:{وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ} الآية رقم [41] من سورة (القصص) هذا؛ ويقال: أئمّة، وأيمّة. والثاني جائز عربية لا قراءة، وشرحه: أن أصله (أأممة) ولكن لما اجتمع المثلان، وهما الميمان، أدغمت الأولى في الثانية، ونقلت حركتها إلى الهمزة الثانية. فصار:«أئمة» بهمزتين، فأبدل من الهمزة المكسورة ياء كراهة اجتماع الهمزتين. {يَهْدُونَ بِأَمْرِنا:} يدعون الناس إلى التوحيد، وعبادة الإله الحميد المجيد بما أنزلنا عليهم من الوحي المتضمن للأمر، والنهي. {وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ:} هي جميع الأعمال الصالحة بأن يفعلوها، ويحثوا الناس على فعلها. وانظر (الخير) في الآية رقم [24] من سورة (القصص). {وَإِقامَ الصَّلاةِ:} فعل الصلاة على الوجه الأكمل، وانظر الآية رقم [31] من سورة (مريم) عليهاالسّلام تجد شرح الصلاة، والزكاة. {وَكانُوا لَنا عابِدِينَ:} موحدين مخلصين في العبادة، ولذلك قدم الجار والمجرور، وانظر العبادة في الآية رقم [66].

هذا؛ وخص الله (الصلاة) و (الزكاة) بالذكر؛ لأن الصلاة أفضل العبادات البدنية، وشرعت لذكر الله، والزكاة أفضل العبادات المالية، ومجموعهما التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله. هذا؛ و (إقام) أصله: إقامة، فالتاء عوض عن ألف الإفعال، وهذا يخضع لقاعدة، وهي: إذا كانت عين الفعل ألفا تحذف منه ألف الإفعال، والاستفعال، ويعوض عنها تاء في الآخر، كأقام إقامة، واستقام استقامة؛ إذ الأصل إقوام، واستقوام، فاجتمع حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة

ص: 68

الواو للقاف، وتحركت الواو بحسب الأصل، وانفتح ما قبلها بحسب الحال، فقلبت ألفا، فاجتمع ألفان: الألف المنقلبة، وألف الإفعال، أو الاستفعال، فحذفت ألف الاستفعال لالتقاء الساكنين، وعوض عنها التاء في الآخر، وقد يستغنى عن هذه التاء في حال الإضافة، كما في هذه الآية، وآية (النور) رقم [37] فلما أضيفت؛ قام المضاف إليه مقام الهاء، فجاز حذفها، وإن لم تضف لم يجز حذفها، وكما عوضت التاء عن ألف الاستفعال في وسط المصدر، تعوض عن الواو في أول المصدر، مثل: وعد عدة، ووزن زنة، والأصل: وعد وعدا، ووزن وزنا، فحذفت الواو، وعوض عنها التاء في الآخر، فلا يجوز حذف هذه التاء؛ لأنها عوض عن واو محذوفة، فإن أضيفتا؛ أجاز الفراء حذف التاء منهما، وأنشد قول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:[البسيط]

إنّ الخليط أجدّوا البين فانجردوا

وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا

فقد قاس حذف التاء من «عدة» في حال الإضافة على حذفها من إقامة في حال إضافتها.

والجمهور اعتبروا حذفها من «عدة» شاذّا ذكر ذلك ابن هشام في أوضح المسالك، والبيت المذكور من شواهده.

الإعراب: {وَجَعَلْناهُمْ:} الواو: حرف عطف. (جعلناهم): فعل، وفاعل، ومفعوله الأول.

{أَئِمَّةً:} مفعول به ثان. {يَهْدُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعل. {بِأَمْرِنا:}

متعلقان به، وقيل: متعلقان بمحذوف حال. و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب صفة:{أَئِمَّةً} . وجملة: {وَجَعَلْناهُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {وَأَوْحَيْنا:} فعل، وفاعل. {إِلَيْهِمْ:} متعلقان بما قبلهما. {فِعْلَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الْخَيْراتِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَإِقامَ:}

معطوف على {فِعْلَ} وهو مضاف، و {الصَّلاةِ} مضاف إليه من إضافة المصدر

إلخ.

{وَإِيتاءَ الزَّكاةِ:} معطوف عليه، وهو مثله في إعرابه، وجملة:{وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها، هذا؛ وهذه الآية، بل هذه الجملة ترجح اعتبار «أن» الواقعة بعد الفعل أوحى، ونحوه مصدرية، لا مفسرة؛ لأن أصل الكلام:«أوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات، وأن أقيموا الصلاة، وأن آتوا الزكاة» فربنا جل جلاله، قد نطق بالمصدر مسبوكا في الجمل الثلاث. تنبه له، وافهمه، فإنه جيد. {وَكانُوا:} الواو: حرف استئناف. (كانوا): ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {لَنا:} متعلقان بما بعدهما. {عَبْدَيْنِ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، وجملة {وَكانُوا لَنا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من واو الجماعة؛ فالمعنى لا يأباه، وتحتاج إلى تقدير «قد» قبلها، ويكون الرابط: الواو، والضمير. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

ص: 69

{وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74)}

الشرح: {وَلُوطاً:} هو ابن أخي إبراهيم عليهما السلام، آمن به، وهاجر معه من بلاد العراق. قال تعالى:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي} فأقام إبراهيم في فلسطين، وأقام لوط في الأردن. فأرسله الله إلى أهل «سدوم» يدعوهم إلى الله، وينهاهم عن فعلهم القبيح، وانظر تفصيل ذلك في سورة (الأعراف) وفي سورة (هود) عليه السلام. {آتَيْناهُ حُكْماً} أي:

منحناه قوة الحكم، والفصل بين الخصوم. وقيل: المراد: حكمة، وهي كل كلمة وعظتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح. {وَعِلْماً:} المراد به: النبوة، والرسالة التي كلف بها، وقيل: الفرق بين الحكيم والعالم أن العالم: هو الذي يعلم الأشياء بحقائقها، وأن الحكيم: هو الذي يعمل بما يوجبه العلم. {وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ} أي: الأعمال الخبيثة، وهي إتيان الذكور في أدبارهم، وكانوا يتضارطون في مجالسهم، ويقذفون المارة بالحصى، وغيره. والمراد: أهل القرية، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وهذا من أنواع المجاز، {إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ:} كافرين، خارجين عن طاعة الله تعالى. والسوء:

الشر، والفساد، والجمع: أسواء، وهو بضم السين من ساءه، وهو بفتح السين المصدر، تقول:

رجل سوء بالإضافة، ورجل السّوء، ولا تقول: الرجل السّوء، وتأنيثه: السّوأى، كما في قوله تعالى:{ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى} .

الإعراب: {وَلُوطاً:} الواو: حرف عطف عطفت الإشارة إلى قصة لوط على قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه. (لوطا): مفعول به لفعل محذوف يفسره المذكور بعده، وهو ما يسمى بالاشتغال. {آتَيْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به أول. {حُكْماً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها مفسرة للجملة المحذوفة، وجملة:{وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة {الْقَرْيَةِ} . {كانَتْ:} ماض ناقص، والتاء للتأنيث، واسمه يعود إلى {الَّتِي،} وهو العائد. {تَعْمَلُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {الَّتِي} أيضا. {الْخَبائِثَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {كانَتْ،} والجملة الفعلية هذه صلة الموصول لا محل لها. {إِنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {قَوْمَ:} خبر (كان) و {قَوْمَ} مضاف، و {سَوْءٍ} مضاف إليه. {فاسِقِينَ:}

صفة {قَوْمَ سَوْءٍ} منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، وجملة:{كانُوا..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)، وجملة:{إِنَّهُمْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

ص: 70

{وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصّالِحِينَ (75)}

الشرح: {وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا} أي: في أهل رحمتنا؛ أي: جعلناه منهم، أو المعنى:

أدخلناه في جنتنا؛ لأنها مكان الرحمة، فهو مجاز مرسل علاقته المحلية. {إِنَّهُ مِنَ الصّالِحِينَ} أي: الأنبياء الذين سبقت لهم منا الحسنى.

الإعراب: (أدخلناه): فعل، وفاعل، ومفعول به، انظر إعراب:{نَذَرْتُ} في الآية رقم [26] من سورة (مريم) عليهاالسّلام. {فِي رَحْمَتِنا:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {مِنَ الصّالِحِينَ:}

متعلقان بمحذوف خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل لإدخاله في الرحمة.

{وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)}

الشرح: {وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ} أي: واذكر نوحا وقت دعا ربه من قبل إبراهيم، ولوط، على نبينا، وحبيبنا، وعليهم ألف صلاة، وألف سلام. {فَاسْتَجَبْنا لَهُ} أي: دعاءه على قومه. وانظر الآية رقم [88] الآتية. {فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ:} المراد: من آمن معه. {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ،} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: من الغرق، وتكذيب قومه له، هذا؛ وإنه كان أطول الأنبياء عمرا، وأشدهم بلاء، والكرب: أشد الغم. هذا؛ وبعث نوح-عليه السلام-وهو ابن أربعين سنة، ومكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وعاش بعد الطوفان ستين سنة، فتكون مدة عمره ألفا وخمسين سنة، ويروى: أن جبريل عليه السلام قال له: يا أطول الأنبياء عمرا! كيف وجدت الدنيا؟ قال: وجدتها كدار لها بابان، دخلت من أحدهما، وخرجت من الآخر. هذا؛ والآيتان قد أشارتا إلى قصة نوح-عليه السلام-إشارة، وانظر قصته في سورة (الأعراف) وفي سورة (هود) إن أردت بسط ذلك.

الإعراب: {وَنُوحاً:} الواو: حرف عطف. (نوحا): فيه وجهان: أحدهما: أنه منصوب عطفا على (لوطا) فيكون مشتركا معه في عامله الذي هو (آتينا) المفسر بآتينا الظاهر، وكذلك داود، وسليمان، والتقدير: ونوحا آتيناه حكما، وداود، وسليمان آتيناهما حكما، وعلى هذا ف:

{إِذْ} بدل من (نوحا)، ومن (داود وسليمان) بدل اشتمال. والثاني: أنه منصوب بإضمار:

اذكر؛ أي: اذكر نوحا، وداود، وسليمان، اذكر خبرهم وقصتهم، وعلى هذا فتكون {إِذْ} منصوبة بنفس المضاف المقدر؛ أي: أخبرهم الواقع في وقت كان كيت، وكيت. انتهى. جمل نقلا عن السمين. {نادى:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى

ص: 71

نوح، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {مِنْ قَبْلُ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وبني {قَبْلُ} على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى، وجملة:{فَاسْتَجَبْنا..} . معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {فَنَجَّيْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {وَأَهْلَهُ:} معطوف على الضمير المنصوب، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنَ الْكَرْبِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الْعَظِيمِ:} صفة الكرب.

{وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77)}

الشرح: {وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ..} . إلخ: أي: جعلناه منتصرا عليهم، وهو أولى من تفسيره ب: منعناه منهم. {إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ} أي: قوم شر، وإفساد، وانظر الآية رقم [74].

{فَأَغْرَقْناهُمْ} أي: بالطوفان. {أَجْمَعِينَ:} صغيرهم، وكبيرهم، ذكرهم، وأنثاهم، ولم يبق منهم إلا الذين آمنوا، وركبوا معه في السفينة، وهم بضع وثمانون ما بين رجل وامرأة، وإنما أهلكهم الله بالغرق جميعا لتكذيبهم الحق، وانهماكهم في الشر، ولم يجتمعا في قوم إلا أهلكهم الله.

هذا؛ وقوم: اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل: رهط، ومعشر، وهو يطلق على الرجال دون النساء بدليل قوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} قال زهير بن أبي سلمى المزني: [الوافر]

وما أدري وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء؟

وربما دخل فيه النساء على سبيل التبع للرجال، كما في إرسال الرسل لأقوامهم؛ إذ إن كل لفظ (قوم) في القرآن الكريم، إنما يراد به الرجال، والنساء جميعا، و (قوم) يذكر، ويؤنث، قال تعالى:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} فالتذكير باعتبار اللفظ، والتأنيث باعتبار المعنى.

الإعراب: {وَنَصَرْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به. {مِنَ الْقَوْمِ:} متعلقان بالفعل قبلهما والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر صفة {الْقَوْمِ،} وجملة: {كَذَّبُوا بِآياتِنا} صلة الموصول لا محل لها، والعائد واو الجماعة. {إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [74]، والجملة الاسمية هنا معترضة بين الجملتين المتعاطفتين. {فَأَغْرَقْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به.

والجملة الفعلية معطوفة على جملة (نصرناه

) إلخ لا محل لها مثلها. {أَجْمَعِينَ:} توكيد للضمير المنصوب

إلخ.

ص: 72

{وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78)}

الشرح: {وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما-وأكثر المفسرين: كان الحرث كرما، قد تدلت عناقيده. وقال قتادة: كان زرعا. ولم يرد بقوله: {إِذْ يَحْكُمانِ} الاجتماع في الحكم، وإن جمعهما في اللفظ، فإن حكمين على حكم واحد لا يجوز، وإنما حكم كل واحد منهما على انفراده، كما ستقف عليه. {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} أي:

رعته ليلا فأفسدته، وكانت بلا راع. هذا؛ والنفش: الرعي في الليل، يقال: نفشت بالليل، وهملت بالنهار: إذا رعت بلا راع.

{وَكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ} أي: كان ذلك بعلمنا، ومرأى منا، لا يخفى علينا علمه، وفيه دليل لمن يقول: إن أقل الجمع اثنان، وقيل: المراد به: الحاكمان، والمتحاكمان. هذا؛ وقد قال ابن عباس-رضي الله عنهما-وغيره: إن رجلين دخلا على داود عليه السلام، أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الزرع: إن غنم هذا دخلت زرعي ليلا، فوقعت فيه، فأفسدته، فلم تبق منه شيئا. فأعطاه رقاب الغنم بالزرع، أي: ملّك صاحب الزرع الغنم، فخرجا، فمرا على سليمان عليه السلام، فقال: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه، فقال: لو وليت أمركما؛ لقضيت بغير هذا. وروي: أنه قال: غير هذا أرفق بالفريقين، فأخبر بذلك داود، فدعاه، وقال: كيف تقضي؟

ويروي: أنه قال له: بحق النبوة، والأبوة إلا ما أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين! قال:

ادفع الغنم إلى صاحب الحرث ينتفع بدرها، ونسلها، وصوفها، ومنافعها، ويزرع صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرثه، فإذا صار الحرث كهيئته يوم أكل دفع إلى صاحبه، وأخذ صاحب الغنم غنمه. فقال داود: القضاء ما قضيت. وحكم بذلك. فقيل: كان لسليمان يوم حكم بذلك من العمر إحدى عشرة سنة.

وحكم الإسلام في هذه المسألة: أن ما أفسدته الماشية المرسلة من مال الغير بالنهار، فلا ضمان على ربها، وما أفسدته بالليل ضمنه ربها؛ لأن في عرف الناس: أن أصحاب الزرع يحفظونه بالنهار، والمواشي تسرح بالنهار، وترد بالليل إلى المراح، ويدل على هذه المسألة ما روى حرام بن سعد بن محيصة: أن ناقة للبراء بن عازب رضي الله عنه، دخلت حائطا لبعض الأنصار، فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل. زاد في رواية: وأن على أهل الماشية، ما أصابت ماشيتهم بالليل، أخرجه أبو داود مرسلا. وذهب أهل الرأي إلى أن المالك إذا لم يكن مع ماشيته، فلا ضمان عليه، فيما أتلفت ليلا كان، أو نهارا. انتهى. خازن.

ص: 73

تنبيه: أما داود فهو ابن إيشا ينتهي نسبه إلى يهوذا بن يعقوب، بن إسحاق، بن إبراهيم الخليل، على نبينا، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام، هذا؛ وداود من سبط الملوك، وهو سبط يهوذا، أما سبط النبوة، فهو سبط لاوي بن يعقوب، وقد اجتمع الملك، والنبوة له، ولابنه سليمان، ولم يجتمعا لغيرهما من بني إسرائيل. وانظر قصته مع طالوت، وجالوت في الآية رقم [246] وما بعدها من سورة (البقرة)، وقد وقعت في عهده حادثة أهل السبت التي رأيت تفصيلها في الآية رقم [163] وما بعدها من سورة (الأعراف). هذا؛ وعاش داود مئة سنة وبينه وبين موسى خمسمئة وتسع وستون سنة، وقيل: وتسع وسبعون، وعاش سليمان تسعا وخمسين سنة، وبينه وبين مولد نبينا، وحبيبنا-عليه، وعليهم ألف صلاة، وألف سلام-نحو ألف وسبعمئة سنة. انتهى. جمل نقلا من التحبير للسيوطي، وانظر ما ذكرته في الآية [55] من سورة (الإسراء).

الإعراب: {وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ:} معطوفان على نوحا في الآية رقم [76]{إِذْ:} هي مثل نظيرتها في الآية رقم [76]. {يَحْكُمانِ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وألف الاثنين فاعله. {فِي الْحَرْثِ:} متعلقان به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها.

{إِذْ:} ظرف متعلق بالفعل قبله. {نَفَشَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث. {غَنَمُ:} فاعله، وهو مضاف، و {الْقَوْمِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {وَكُنّا:} الواو: حرف استئناف. (كنا): ماض ناقص مبني على السكون. و (نا): اسمه. {لِحُكْمِهِمْ:} متعلقان ب {شاهِدِينَ} بعدهما، وانظر جمع الضمير في الشرح. هذا؛ وقرئ:«(لحكمهما)» والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، أو من إضافته لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا، وفي السمين من إضافة المصدر لفاعله ومفعوله دفعة واحدة، وهو إنما يضاف لأحدهما فقط، وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز، فإن الحقيقة إضافة المصدر لفاعله، والمجاز إضافته لمفعوله. {شاهِدِينَ:} خبر (كان) منصوب، وجملة:{وَكُنّا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من ألف الاثنين فالمعنى لا يأباه، ويكون الرابط: الواو والضمير، وهي على تقدير «قد» قبلها. تأمل.

تنبيه: اعتبر ابن هشام في مغنيه اللام في قوله: {لِحُكْمِهِمْ:} لام التقوية، أي زائدة مقوية ل:{شاهِدِينَ؛} لأنه عامل ضعيف مثل قوله تعالى: {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ} {إِنَّ رَبَّكَ فَعّالٌ لِما يُرِيدُ} {مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ} {نَزّاعَةً لِلشَّوى} وأورد قول حاتم الطائي، وقيل: هو قيس بن عاصم المنقري رضي الله عنه: [الطويل]

إذا ما صنعت الزّاد فالتمسي له

أكيلا فإنّي لست آكله وحدى

وعليه فاللام زائدة، و (حكمهم): مفعول به مقدم ل: {شاهِدِينَ} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وهو اللام، وفاعل {شاهِدِينَ} مستتر فيه تقديره:«نحن» .

ص: 74

{فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنّا فاعِلِينَ (79)}

الشرح: {فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ:} الضمير المنصوب يعود للحكومة، أو للفتوى، أو للقضية، المفهومة من المقام، وقرئ:«(فأفهمناها)» {وَكُلاًّ} أي: من داود، وسليمان، عليهما السلام.

{آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً} أي: بوجوه الاجتهاد، وطرق الأحكام. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [74].

قال الحسن-رحمه الله تعالى-: لولا هذه الآية؛ لرأيت الحكام قد هلكوا، ولكن الله حمد هذا بصوابه، وأثنى على هذا باجتهاده.

{وَسَخَّرْنا:} ذللنا. {مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ:} قال وهب: كان داود يمر بالجبال مسبحا، فتجاوبه الجبال بالتسبيح، وكذلك (الطير)، وقيل: كان عليه السلام إذا وجد فترة أمر الجبال، فسبحت حتى ينشط، ويشتاق، فيكون المعنى: جعلنا الجبال تطيعه إذا أمرها بالتسبيح. وقيل:

إن سيرها معه تسبيحها، والتسبيح مأخوذ من السباحة. وقال قتادة:{يُسَبِّحْنَ} يصلين معه إذا صلى، والتسبيح: الصلاة، وكلّ محتمل، وذلك؛ لأن الجبال لا تعقل، فتسبيحها معه دلالة على تنزيه الله تعالى من صفات العاجزين، والمحدثين.

{وَكُنّا فاعِلِينَ} أي: قادرين على ما ذكر من التفهيم، وإيتاء الحكم، والتسخير. هذا؛ ولا تنس: أن اليهود، والنصارى يعتبرون داود، وسليمان عليهما السلام ملكين، وليسا بنبيّين.

تنبيه: ومن أحكام داود، وسليمان-عليهما السلام-ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذّئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنّما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود، فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسّكّين، أشقّه بينهما! فقالت الصّغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها! فقضى به للصغرى» أخرجاه في الصحيحين.

ويؤخذ من فحوى هذا الحديث: أن الولد وقع بيد المرأة الكبرى، فصارت صاحبة اليد، والصغرى مدعية، فطالبها داود عليه السلام ببينة تثبت: أنه ابنها، وتعذر ذلك عليها، وأما سليمان عليه السلام؛ فقد لجأ إلى حيلة لطيفة ظهر له بسببها صدق الصغرى وهي أنه لما قال:

هات السكين أشقه بينهما، قالت الصغرى: لا، فظهر له من قرينة الشفقة، والعاطفة في الصغرى أنه لها، وانظر ما أذكره في سورة (النمل) إن شاء الله تعالى.

فائدة: يروى: أنه لما هدم الوليد بن عبد الملك كنيسة دمشق كتب إليه ملك الروم: إنك هدمت الكنيسة، التي رأى أبوك تركها، فإن كنت مصيبا؛ فقد أخطأ أبوك، وإن كان أبوك

ص: 75

مصيبا؛ فقد أخطأت أنت، فأجابه الوليد بقوله تعالى:{وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً} .

هذا؛ وانظر شرح (الطير) في الآية رقم [31] من سورة (الحج).

الإعراب: {فَفَهَّمْناها:} الفاء: حرف استئناف. (فهمناها): فعل، وفاعل، ومفعول به أول.

{سُلَيْمانَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، أو هي معطوفة على جملة:

{يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ} فتكون في محل جر مثلها. {وَكُلاًّ:} الواو: حرف عطف. (كلا):

مفعول به أول تقدم على فعله. {آتَيْنا:} فعل، وفاعل. {حُكْماً:} مفعول به ثان. (علما):

معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها.

(سخرنا): فعل، وفاعل. {مَعَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل {يُسَبِّحْنَ} بعده، و (مع) مضاف، و {داوُدَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {الْجِبالَ:} مفعول به. {يُسَبِّحْنَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الجبال، والرابط: الضمير فقط، وهو النون العائدة على الجبال. هذا؛ وأجيز اعتبارها مستأنفة. {وَالطَّيْرَ:} معطوف على {الْجِبالَ} أو هو مفعول معه، هذا؛ ويقرأ برفعه، وفيه وجهان: أحدهما: أنه مبتدأ، والخبر محذوف، التقدير: والطير مسخرات أيضا.

والثاني: أنه معطوف على الضمير في {يُسَبِّحْنَ} ولم يؤكد الضمير المتصل، ولم يفصل بينهما، وهو على مذهب الكوفيين. انتهى. جمل نقلا عن السمين. وجملة:{وَسَخَّرْنا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها. {وَكُنّا:} الواو: حرف عطف. (كنا): ماض ناقص مبني على السكون، و (نا):

اسمها. {فاعِلِينَ:} خبر (كان) منصوب

إلخ، وجملة {وَكُنّا فاعِلِينَ} معطوفة على جملة (سخرنا

) إلخ أو هي مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80)}

الشرح: {وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} أي: صنعة الدروع التي تلبس في الحرب. قيل: إن أول من صنع الدروع، وسردها، واتخذها حلقا داود، عليه الصلاة والسلام. وكانت من قبل صفائح. ولا تنس: أن الله تعالى قد ألان له الحديد، فجعله بيده كالطين، لا يحتاج إلى نار، وهو ما صرحت به آية (سبأ) رقم [10] وهي قوله تعالى:{وَأَلَنّا لَهُ الْحَدِيدَ} انظر شرحها هناك تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

{لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ:} لتحفظكم، وتمنعكم من وقع السلاح فيكم في أوقات حربكم مع عدوكم. هذا؛ ويقرأ الفعل المضارع بالتاء والياء والنون، قراآت ثلاث. {فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ:} هذا الخطاب لداود، ولأهل بيته، وهو استفهام بمعنى الأمر؛ أي: فاشكروا الله على ذلك.

ص: 76

قال القرطبي رحمه الله تعالى: هذه الآية أصل في اتخاذ الصنائع، والأسباب، وهو قول أهل العقول، والألباب، لا قول الجهلة الأغبياء القائلين بأن ذلك شرع للضعفاء، فالسبب سنة الله في خلقه، فمن طعن في ذلك؛ فقد طعن في الكتاب والسنة، ونسب من ذكرنا إلى الضعف، وعدم المنة، وقد أخبر الله عن نبيه داود عليه السلام: أنه كان يصنع الدروع، وكان أيضل يصنع الخوص، وكان يأكل من عمل يده، وكان آدم حراثا، ونوح نجارا، وإدريس خياطا، وطالوت دباغا، وقيل: سقاء. فالصنعة يكف بها الإنسان نفسه عن الناس، ويدفع بها عن نفسه الضرر، والبأس، ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنّ الله يحبّ المؤمن المحترف الضعيف المتعفّف،، ويبغض السّائل الملحف» . انتهى.

الإعراب: {وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ:} ماض، وفاعله، ومفعولاه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:(فهمناها سليمان) لا محل لها مثلها، و {صَنْعَةَ:} مضاف، و {لَبُوسٍ} مضاف إليه.

{لَكُمْ:} متعلقان بمحذوف صفة لبوس، وأجيز تعليقهما بالفعل (علّم) وب:{صَنْعَةَ} أيضا، والأول أقوى. {لِتُحْصِنَكُمْ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى {لَبُوسٍ،} والكاف مفعول به، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:(علمناه) أيضا، وأجيز اعتبارهما بدلا من {لَكُمْ} بإعادة الجار، وهذا على اعتبار اللام في {لَكُمْ} للتعليل. {مِنْ بَأْسِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {فَهَلْ:} الفاء: حرف استئناف. (هل): حرف استفهام. {أَنْتُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {شاكِرُونَ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الواو؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وفاعله مستتر فيه، ومفعوله محذوف، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81)}

الشرح: {وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ} أي: وسخرنا لسليمان الريح، ويقرأ برفع (الريح) فيكون التقدير:

ولسليمان تسخير الريح. {عاصِفَةً:} شديدة الهبوب. والعصف: التبن، فسمى به شدة الريح؛ لأنها تعصفه بشدة، وتطيره. {تَجْرِي بِأَمْرِهِ:} تسير بإرادته، ومشيئته. {إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها:}

المراد بها بلاد الشام، انظر الآية رقم [71]، والمراد رجوعه من سفره رواحا إلى بلاد الشام بعد ما سارت به منها بكرة. {وَكُنّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ} أي: فنجريه على حسب ما تقتضيه الحكمة من تدبير. هذا؛ وقد ذكر الله في سورة (ص) قوله: {فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ} وفي سورة (سبأ) قوله: {غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ} رقم [12] انظر شرحها، ففيها كبير فائدة.

ص: 77

قال وهب بن منبه: كان سليمان عليه السلام إذا خرج إلى مجلسه؛ حلقت عليه الطير، وقام له الإنس، والجن؛ حتى يجلس على سريره، وكان امرأ غزّاء، قلما يقعد عن الغزو، ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلا أتاه حتى يذله، وكان فيما يزعمون إذا أراد الغزو أمر بخشب فمدت، ورفع عليها الناس والدواب، وآلة الحرب، فإذا حمل معه ما يريد أمر العاصف من الريح، فدخلت تحت الخشب، فاحتملته؛ حتى إذا استقلت به؛ أمر الرخاء، فمرت به شهرا في روحته، وشهرا في غدوته إلى حيث أراد. قال وهب: ذكر لي: أن منزلا بناحية دجلة مكتوب فيه، كتبه بعض صحابة سليمان عليه السلام، إما من الإنس، أو من الجن: نحن نزلناه، وما بنيناه، ومبنيا وجدناه، غدونا من إصطخر، فقلناه، ونحن رائحون منه إن شاء الله فنازلون بالشام. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [17] من سورة (النمل) ففيها فضل زيادة.

وقال مقاتل: نسجت الشياطين لسليمان بساطا، فرسخا في فرسخ، ذهبا في إبريسم، وكان يوضع له منبر من ذهب وسط البساط، فيقعد عليه، وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة، تقعد الأنبياء على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وتظلله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس، وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح. انتهى. خازن.

هذا؛ والريح: جسم متحرك لطيف، ممتنع بلطفه من القبض عليه، يظهر للمس بحركته، ويخفى عن البصر بلطفه، وانظر الآية رقم [69] من سورة (الإسراء) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {وَلِسُلَيْمانَ:} الواو: حرف عطف. (لسليمان) متعلقان بفعل محذوف، أو بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف. انظر تقديرهما في الشرح، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، وزيادة الألف والنون. {الرِّيحَ:} مفعول به، أو هو مبتدأ مؤخر، انظر الشرح. {عاصِفَةً:} حال من الريح. {تَجْرِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى (الريح) والجملة الفعلية في محل نصب حال ثانية من (الريح) أو هي بدل من (عاصفة) أو حال من الضمير المستتر فيها، فتكون حالا متداخلة. {بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {الَّتِي:} اسم موصول لا محل لها. (كنا): ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمه، {بِكُلِّ:} متعلقان ب: {عالِمِينَ،} و (كل) مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه. {عالِمِينَ:} خبر كان منصوب

إلخ، وجملة {وَكُنّا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين.

ص: 78

{وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنّا لَهُمْ حافِظِينَ (82)}

الشرح: {وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} أي: وسخرنا لسليمان من الشياطين من يغوصون تحت الماء، فيخرجون له من قعر البحر الجواهر، وغيرها من الأحجار الكريمة، والأشياء الثمينة.

{وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ:} أعمالا أخر، كبناء المدن، والقصور، واختراع الصنائع الغريبة، واتخاذ النورة، والقوارير، بالإضافة إلى صنع المحاريب، والتماثيل، والجفان. {وَكُنّا لَهُمْ حافِظِينَ:} أن يخرجوا عن طاعته، أو يفسدوا على ما هو مقتضى جبلتهم؛ التي جبلوا عليها.

قال عبد الوهاب النجار-رحمه الله تعالى-: فهذا كله دل على أن الله سخر لسليمان-عليه السلام-الجن تطيعه، وينفذ أمره فيهم، ويعملون له ما يشاء من ضخم المباني، والعمائر، ثم ذكر العمائر والمباني التي بنيت له، ومن جملتها مدينة تدمر في سورية، كل ذلك عدا المخازن، ومدن المركبات، ومدن الفرسان، وما بناه في لبنان وغيرها من سائر مملكته، وسخر في ذلك بقايا الشعوب الذين كانوا في فلسطين، ولم يكن من الشعب الإسرائيلي مسخر، وكان رؤساء المسخرين خمسمئة وخمسين رئيسا.

ومن نظر إلى هذه الأعمال، وفخامتها، وضخامة أحجارها لم يستبعد أن يكون للجن عمل عظيم في ذلك، وخاصة مدينة تدمر، وبعض آثارها الضخمة مائل إلى اليوم، هذا؛ ولا تنس قلعة بعلبك في لبنان، وقد ذكر النابغة الذبياني تسخير الجن لسليمان في شعره الذي يعتذر فيه إلى النعمان بن المنذر؛ إذ يقول:[البسيط]

ولا أرى فاعلا في النّاس يشبهه

ولا أحاشي من الأقوام من أحد

إلاّ سليمان إذ قال المليك له

قم في البريّة فاحددها عن الفند

وخيّس الجنّ إني قد أذنت لهم

يبنون تدمر بالصّفّاح والعمد

خاتمة: ذكرت لك فيما سبق: أن جميع من ملكوا الدنيا أربعة: مؤمنان، وكافران، فالمؤمنان: سليمان بن داود، وإسكندر ذو القرنين. والكافران هما: نمرود الذي ادعى الألوهية على عهد إبراهيم، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وبختنصر الذي خرب بيت المقدس، ونهبه، وأهلك بني إسرائيل بعد سليمان، عليه السلام، كما رأيت في الآية رقم [5] من سورة (الإسراء)، وأضيف هنا: أن ملك سليمان كان أوسع، وأشمل، وأعظم، حيث ذلل الله له الطيور، وسخر له الجن، والشياطين، وسخر له الريح تجري بأمره حيث أصاب، فهذا لم ينله أحد قبله، ولا بعده، وهو فحوى طلبه:{قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ}

ص: 79

{أَنْتَ الْوَهّابُ} ومع هذا كله فقد أعفاه الله من مسؤولية ما أعطاه، فقال له:{هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ} .

الإعراب: {وَمِنَ:} الواو: حرف عطف. (من الشياطين): متعلقان بفعل محذوف، التقدير: وسخرنا من الشياطين، أو هما متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنَ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به على التقدير الأول، أو في محل رفع مبتدأ مؤخر على التقدير الثاني، وقد روعي معناها بإرجاع الضمير عليها جمعا، وجملة:

{يَغُوصُونَ لَهُ} صلة {مِنَ} أو صفة له، والعائد، أو الرابط: واو الجماعة، وجملة {وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً} معطوفة عليها على الوجهين المعتبرين فيها. {دُونَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صفة {عَمَلاً،} و {دُونَ} مضاف، و {ذلِكَ} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، والكلام:{وَمِنَ الشَّياطِينِ..} . إلخ معطوف على ما قبله، وإعراب {وَكُنّا لَهُمْ حافِظِينَ} مثل إعراب:{وَكُنّا بِكُلِّ شَيْءٍ..} . إلخ إفرادا وجملا.

{وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ (83)}

الشرح: {وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ} أي: اذكر أيوب النبي الصابر على البلاء وقت نادى ربه.

{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} أي: أصابني البلاء، ف (الضرّ) بفتح الضاد شائع في كل ضرر، ومصيبة، وبضم الضاد خاص بما في النفس كمرض، وهزال، وقد نظم بعضهم الفرق بينهما، كما أورد معاني أخر لهما، فقال:[الرجز]

وضدّ نفع قيل فيه ضرّ

وجود ضرّة لعرس ضرّ

وسوء حال المرء ذاك ضرّ

كذا هزال مرض أو كبر

وانظر ما ذكرته في سورة (الحج) رقم [13] نقلا من القاموس المحيط.

{وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ:} وصف ربه بغاية الرحمة بعد ما ذكر نفسه بما يوجبها، واكتفى بذلك عن عرض المطلوب لفظا في السؤال.

وأيوب-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-كان روميا من ولد عيصو بن إسحاق بن إبراهيم، عليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام، وزوجته اسمها: رحمة بنت إفراثيم بن يوسف الصديق بن يعقوب.

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: سمي أيوب؛ لأنه آب إلى الله في كلّ حال، هذا؛ وروي: أنه كان ذا مال عظيم، وكان تقيا برّا رحيما بالمساكين، يكفل الأيتام، والأرامل، ويكرم

ص: 80

الضيف، ويبلغ ابن السبيل، شاكرا؛ لأنعم الله عليه، وأنه دخل مع قومه على جبار عظيم، فخاطبوه في أمر، وجعل أيوب يلين له في القول، من أجل زرع كان له، فامتحنه الله بذهاب ماله، وأهله، وبالضر في جسمه؛ حتى تآكل، وتناثر لحمه، فابتعد عنه الناس، وهجره الأصحاب، والأقرباء، وكانت امرأته تخدمه. قال الحسن: مكث بذلك تسع سنين، وستة أشهر، فلما أراد الله أن يفرج عنه، قال الله تعالى له:{اُرْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ} فيه شفاؤك، وقد وهب لك أهلك، ومالك، وولدك، ومثلهم معهم، انتهى. قرطبي. هذا؛ وذكر أيضا: أنه اختلف في تفسير {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} على ستة عشر قولا، وكلها لا حاجة إليها، بعد أن عرفنا: أن الضر هو ما أصيب به من فقد الولد، والمال، ومرض الجسم.

قال المرحوم عبد الوهاب النجار: إن الناس يروون في بلاء أيوب أقوالا، يوردونها، تدل على أنه مرض مرضا مشوها، ومنفرا للناس من قربانه، والدنو منه، وهذا يتنافى مع منصب النبوة، وقد قرر علماء التوحيد أن الأنبياء منزهون عن الأمراض المنفرة، فكيف يتفق ذلك مع منصب النبوة؟! والجواب على ذلك من وجهين:

الأول: أن الابتلاء على الوجه الأول الذي يقولون كان قبل النبوة، وأن منحة النبوة إنما كانت لما بدا منه من الصبر، والرضا بما أصابه من مكروه، وملازمته جانب الرضا عن الله تعالى.

الثاني: أن المبالغين في ضر أيوب إنما اعتمدوا فيما يقولون على ما جاء عند أهل الكتاب في السّفر المسمى سفر أيوب، وإذا ثبت: أن هذا السفر حقيقي، فعبارته مؤولة؛ أي: مؤولة على المبالغة في ذلك على نحو ما جاء في الشعر العربي، وأورد أبياتا شعرية كثيرة شواهد لذلك.

أقول: أما قوله: إن الابتلاء كان قبل النبوة، وأن منحة النبوة

إلخ يبطله أن ابتلاءه بما ذكر كان بعد أن بلغ من العمر ثمانين سنة، والمعروف أن الرسالة والنبوة إنما كانت تمنح للرسول على رأس الأربعين سنة على أكثر تقدير، فلم يبق إلا المبالغة في ذلك؛ حتى خرجت عن حد المعقول الذي يحط من مقام النبوة، وأقبح من ذلك ما ذكره الخازن نقلا عن الثعلبي:

أن الله سلط إبليس على ماله، وولده، وجسمه، فهو الذي فعل كل ما أصاب أيوب من بلاء.

الإعراب: {وَأَيُّوبَ:} الواو: حرف عطف. (أيوب): مفعول به لفعل محذوف، تقديره: اذكر أيوب، أو التقدير: اذكر خبر أيوب: {إِذْ:} ظرف مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل المحذوف، أو هو بدل من (أيوب)، أو من خبر (أيوب) المقدر. {نادى:} ماض، وفاعله يعود إلى أيوب، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {رَبَّهُ:} مفعول به.

والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {أَنِّي:} حرف

ص: 81

مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {مَسَّنِيَ:} ماض، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به.

{الضُّرُّ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أن)، و (أن) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بأني

إلخ. هذا؛ ويقرأ بكسر الهمزة على تقدير: قال: إني

إلخ، أي: فهي في محل نصب مقول القول لهذا المقدر، والجملة الاسمية:{وَأَنْتَ..} . إلخ في محل نصب حال من {الضُّرُّ} أو من ياء المتكلم، والرابط: الواو فقط على الاعتبارين. وفي الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب. تأمل، وتدبر.

{فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84)}

الشرح: {فَاسْتَجَبْنا لَهُ} أي: دعاءه، وانظر الآية [88]، قال الثعلبي: سمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول: حضرت مجلسا غاصا بالفقهاء، والأدباء في دار السلطان، فسئلت عن هذه الآية، أي السابقة. بعد إجماعهم على أن قول أيوب شكاية، وقد قال الله تعالى:{إِنّا وَجَدْناهُ صابِراً} فقلت: ليس هذا شكاية، وإنما كان دعاء. بيانه:{فَاسْتَجَبْنا لَهُ} والاستجابة تتعقب الدعاء؛ لا الاشتكاء، فاستحسنوه، وارتضوه. وسئل الجنيد عن هذه الآية، فقال: عرّفه فاقة السؤال؛ ليمنّ عليه بكرم النوال. انتهى. قرطبي.

هذا؛ ومدة البلاء كانت ثماني عشرة سنة، وقيل: ثلاث عشرة سنة، فقد روي: أن امرأته قالت له يوما: لو دعوت الله! فقال لها: كم سنة كانت مدة الرخاء، والنعمة؟ فقالت: كانت ثمانين سنة، فقال: أستحيي من الله أن أدعوه، وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي.

{فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ:} بالشفاء من مرضه. {وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ:} قال ابن عباس، وابن مسعود، وأكثر المفسرين-رضي الله عنهم أجمعين-: رد الله إليه أهله بأعيناهم، أحياهم الله، وأعطاه مثلهم معهم، وهو ظاهر القرآن. قال القرطبي: لأنهم ماتوا ابتلاء قبل انقضاء آجالهم، حسب ما تقدم بيانه في سورة (البقرة) في قصة {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} الآية رقم [243] وفي قصة السبعين الذين أخذتهم الصعقة، فماتوا، ثم أحيوا الآية رقم [155] من سورة (الأعراف). وعن ابن عباس في رواية أخرى: أن الله ردّ إلى المرأة شبابها، فولدت له ستة وعشرين ذكرا. وقيل: كان له سبع بنين، وسبع بنات، فأحياهم الله له، وولدت زوجته مثلهم.

وفي الخبر: أن الله بعث إليه جبريل عليه السلام، فقال له: اركض برجلك، فركض برجله فنبعت عين ماء حار، فأمره أن يغتسل منها، ففعل، فذهب كل داء كان بظاهره، ثم مشى أربعين

ص: 82

خطوة، فأمره أن يضرب الأرض برجله مرة أخرى، ففعل فنبعت عين ماء بارد، فأمره أن يشرب منها، فشرب، فذهب كل داء بباطنه، فصار كأصحّ ما كان.

هذا؛ وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما أيوب يغتسل عريانا، خرّ عليه جراد من ذهب، فجعل أيّوب يحثي في ثوبه، فناداه ربّه: يا أيوب! ألم أكن أغنيتك عمّا ترى؟! قال: بلى يا ربّ! ولكنّي لا غنى لي عن بركتك» . أخرجه البخاري. وعن أنس رضي الله عنه يرفعه: أنه كان لأيوب عليه السلام أندران: أندر للقمح، وأندر للشّعير، فبعث سحابتين، فأفرغت إحداهما على أندر القمح الذهب، وأفرغت الأخرى على أندر الشعير الورق؛ حتّى فاضا، فقال له جبريل: أشبعت؟ فقال: ومن يشبع من فضل الله؟ فأوحى الله إليه: قد أثنيت عليك بالصّبر قبل وقوعك في البلاء وبعده، ولولا أنّي وضعت تحت كلّ شعرة منك صبرا ما صبرت. انتهى. خازن، وقرطبي بتصرف.

{رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا} أي: كان البلاء لأيوب، والصبر عليه نعمة سابغة، ورحمة عظيمة من العلي القدير؛ الذي تولاه بعنايته، وحفظه من التضجر، وعدم الصبر برعايته. {وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ} أي: عبرة، وتذكرة للعابدين إلى يوم القيامة؛ لأنهم إذا ذكروا بلاء أيوب، وصبره عليه، ومحنته له، وهو أفضل أهل زمانه؛ وطّنوا أنفسهم على الصبر على شدائد الدنيا على مثال ما فعل أيوب، وصبروا كما صبر، وأثيبوا كما أثيب.

وأخيرا أذكر لك: أن الله تعالى ذكر أيوب باسمه فقط في الآية رقم [163] من سورة (النساء)، والآية رقم [84] من سورة (الأنعام)، وذكر في هذه السورة بذكر بلائه ونعمة الله عليه كما ذكر في الآية رقم [41] وما بعدها من سورة (ص) بأكثر مما ذكر في هذه السورة، كما ستقف عليه بعون الله تعالى، وتوفيقه.

الإعراب: {فَاسْتَجَبْنا:} فعل، وفاعل، ومفعوله محذوف. {لَهُ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. (كشفنا): فعل، وفاعل. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {بِهِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {مِنْ ضُرٍّ:}

متعلقان بمحذوف حال من {ما،} و {مِنْ} بيان لما أبهم فيها، وجملة:{فَكَشَفْنا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، وأيضا جملة:{وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ:} معطوفة عليها.

{وَمِثْلَهُمْ:} معطوفة على أهله، والهاء فيهما في محل جر بالإضافة. {مَعَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف حال من الضمير المجرور محلا بالإضافة، أو من (مثلهم). {رَحْمَةً:} مفعول لأجله، أو مفعول مطلق بفعل محذوف، التقدير: رحمناه رحمة. {مِنْ عِنْدِنا:} متعلقان ب:

{رَحْمَةً،} أو بمحذوف صفة لها. و (نا): في محل جر بالإضافة. {وَذِكْرى:} معطوف على {رَحْمَةً} منصوب مثله

إلخ. {لِلْعابِدِينَ:} متعلقان بذكرى، أو بمحذوف صفة لها.

ص: 83

{وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصّالِحِينَ (86)}

الشرح: (إسماعيل): هو ابن إبراهيم الخليل، على نبينا، وعليهم ألف صلاة، وألف سلام، وقد ذكره الله في الآيتين [54 و 55] من سورة (مريم) عليهاالسّلام، وتكرر ذكره في القرآن كثيرا، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [37] وما بعدها من سورة (إبراهيم) بشأنه، وشأن أمه.

(إدريس): انظر ما ذكرته في الآية رقم [56] من سورة (مريم) عليهاالسّلام، ولم يذكر في غير سورة (مريم) وهذه السورة. أما (ذو الكفل) فذكر باسمه فقط في هذه الآية، وفي الآية رقم [48] من سورة (ص)، أما المفسرون فقد اختلفوا فيه، فقال الزمخشري، وتبعه البيضاوي، والنسفي:

هو إلياس. وقيل: زكريا، وقيل: يوشع بن نون، وكأنه سمّي بذلك؛ لأنه ذو الحظ من الله، والمجدود على الحقيقة. وقيل: كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه، وضعف ثوابهم. وكيف يقبل هذا؛ وزكريا-عليه السلام-يذكر بعد آيتين تبينان فضل الله عليه. هذا؛ وأما الخازن فقد ذكر قصة منقولة عن الثعلبي ملخصها: أن نبيا من بني إسرائيل وكان ملكا شرط على من يكون خليفة من بعده أن يتحلى بثلاثة أمور: بقيام الليل، وصيام النهار، وعدم الغضب، فتكفل بها ذو الكفل، ووفى بها، وقد حاول إبليس أن يغضبه، فلم يفلح.

هذا؛ وقال القرطبي: وخرج الترمذي الحكيم في نوادر الأصول وغيره من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«كان في بني إسرائيل رجل، يقال له: ذو الكفل، لا يتورّع من ذنب عمله، فأتته امرأة، فأعطاها ستّين دينارا على أن يطأها، فلمّا قعد منها مقعد الرجل من امرأته؛ ارتعدت، وبكت، فقال: ما يبكيك؟ أأكرهتك؟ قالت: لا، ولكنّه عمل ما عملته قطّ، وما حملني عليه إلاّ الحاجة، فقال: تفعلين أنت هذا، وما فعلته، اذهبي، فهي لك، وقال: والله، لا أعصي الله بعدها أبدا، فمات من ليلته، فأصبح مكتوبا على بابه: إنّ الله قد غفر لذي الكفل» . قال: حديث حسن. انتهى. وهذا الحديث مذكور في الترغيب والترهيب للحافظ المنذري رحمه الله تعالى.

وقال أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ ذا الكفل لم يكن نبيا، ولكنّه كان عبدا صالحا، فتكفّل بعمل رجل صالح عند موته، وكان يصلّي لله كلّ يوم مئة صلاة، فأحسن الله الثناء عليه» . وقيل:

غير ذلك فيه. هذا؛ وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لم يكن نبيّا» صريح بأنه كان عبدا صالحا، وليس بنبي.

وقال القرطبي: الجمهور على أنه ليس بنبي انتهى. وأما علماء التوحيد؛ فإنهم يعدونه نبيا مرسلا، ويعدّونه من جملة المرسلين الخمسة والعشرين المذكورين بأسمائهم في القرآن الكريم. انظر الآية رقم [86] من سورة (الأنعام) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، ولعلهم اعتمدوا في ذلك على ذكره في

ص: 84

جملة المرسلين المذكورين في هذه الآية، وعلى الأخص جمعه مع إسماعيل، وإدريس في آية واحدة. وكذلك ذكره في سورة (ص)، وجمعه مع إسماعيل، واليسع في آية واحدة. هذا؛ وذكر الجمل: أن اسمه العلمي: بشر، ولقب بذي الكفل لما رأيت من الروايات، وانظر الآية التالية.

وصفوة القول: إنه مختلف في نبوته، كما هو مختلف في نبوة لقمان، وإسكندر ذي القرنين، والخضر صاحب موسى، على نبينا، وحبيبنا، وعليهم ألف صلاة، وألف سلام. هذا؛ وانظر شرح:{وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا..} . إلخ في الآية رقم [75].

هذا، وأما «الصابرون» فهو جمع: صابر، والصبر: حبس النفس عن الجزع عند المصيبة، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش، وهو مر المذاق يكاد لا يطاق؛ إلا أنه حلو العواقب، يفوز صاحبه بأسنى المطالب، كما قال القائل:[البسيط] الصّبر، مثل اسمه مرّ مذاقته

لكن عواقبه أحلى من العسل

وبالجملة: فنفع الصبر مشهور، والحض عليه في الكتاب والسنة، مقرر مسطور، وهو على ثلاثة أنواع: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على البلاء، ولا تنس: أن من أسماء الله تعالى الصبور، وفسر بالذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاه. هذا؛ وقد قال الله تعالى في غير ما آية:{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} أي: طلبا لمرضاته، وهذا هو الصبر المحمود، وهو أن يكون الإنسان صابرا لوجه الله تعالى، راضيا بما نزل به من الله، طالبا في ذلك الصبر ثواب الله تعالى، محتسبا أجره على الله؛ فهذا هو الصبر الذي يدخل صاحبه رضوان الله، وأما إذا صبر الإنسان؛ ليقال: ما أكمل صبره! وما أشد قوته على تحمل النوائب! أو يصبر لئلا يعاب على الجزع، أو يصبر لئلا تشمت به الأعداء، فهذا كله مذموم، ولا ينيل صاحبه الدرجات العلى، والمقام الرفيع عند الله. وقد يعرضه لشديد غضب الله ونقمته.

فائدة: قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} وقال: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} وقال: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} قالوا: الصبر الجميل هو الذي لا شكاية معه، والصفح الجميل: هو الذي لا عتاب معه، والهجر الجميل: هو الذي لا أذية معه، ثم اعلم: أن الصبر ذكر في القرآن الكريم في خمسة وتسعين موضعا، ومن أجمعها آية البقرة، ومن آنقها قوله تعالى:{إِنّا وَجَدْناهُ صابِراً} قرن هاء الصبر بنون العظمة، ومن أبهجها قوله تعالى:{وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ} .

الإعراب: (إسماعيل): مفعول به لفعل محذوف، تقديره: اذكر. {وَإِدْرِيسَ:} معطوف عليه.

{وَذَا:} معطوف على ما قبله، منصوب مثله، وعلامة نصبه الألف نيابة عن الفتحة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و (ذا) مضاف {الْكِفْلِ} مضاف إليه. {كُلٌّ:} مبتدأ، سوغ الابتداء به، وهو نكرة، إضافته لمقدر محذوف، التقدير: كل هؤلاء. {مِنَ الصّابِرِينَ:} متعلقان بمحذوف

ص: 85

خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، أو هي تعليل للأمر المقدر، لا محل لها على الاعتبارين، وانظر إعراب مثل:{وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا..} . إلخ في الآية رقم [75].

{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ (87)}

الشرح: {وَذَا النُّونِ:} هو يونس النبي، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. انظر نسبه وقصته مع قومه في الآية رقم [98] من السورة المسماة باسمه، وإني أبين هنا سبب الغضب والمغاضبة، فقال الزمخشري-رحمه الله تعالى-في كشافه: برم بقومه لطول ما ذكّرهم، فلم يذّكّروا، وأقاموا على كفرهم، وظن: أن ذلك يسوغ؛ حيث لم يفعله إلا غضبا لله، وأنفة لدينه، وبغضا للكفر وأهله، وكان عليه أن ينتظر الإذن من الله في المهاجرة عنهم، فابتلي ببطن الحوت. انتهى. فيكون المعنى: غضب على قومه من أجل كفرهم بربه، فخرج عنهم، وتركهم من غير إذن من الله، وخروجه بدون إذن من الله كان ذنبا منه.

وقالت فرقة منهم الأخفش: إنما خرج مغاضبا للملك الذي كان على قومه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أراد شعيا النبي، والملك الذي كان في وقته اسمه: حزقيا أن يبعثوا يونس إلى ملك نينوى، وكان غزا بني إسرائيل، وسبى الكثير منهم؛ ليكلمه؛ حتى يرسل معه بني إسرائيل، وكان الأنبياء في ذلك الزمان يوحى إليهم، والأمر والسياسة إلى ملك قد اختاروه، فيعمل على وحي ذلك النبي، وكان الله قد أوحى لشعيا أن قل لحزقيا الملك أن يختار نبيا قويا أمينا من بني إسرائيل فيبعثه إلى أهل نينوى، فيأمرهم بالتخلية عن بني إسرائيل، فإني ملق في قلوب ملوكهم وجبابرتهم التخلية عنهم، فقال له الملك: من ترى؟ وكان في مملكته خمسة من الأنبياء، قال: يونس، إنه قوي أمين، فدعا الملك يونس، وأمره أن يخرج، فقال يونس: هل أمرك الله بإخراجي؟ قال: لا، قال: فهل سماني الله لك؟ قال: لا، قال: فهاهنا غيري أنبياء أقوياء، فألحوا عليه، فخرج مغاضبا لشعيا النبي، وللملك، وقومه، فأتى بحر الروم، وكان من قصته ما كان، فابتلي ببطن الحوت لتركه أمر النبي شعيا، والملك حزقيا. هذا؛ ولا تنس: أن (النون) يطلق على كل حوت في أعماق البحر، ويجمع على أنوان، ونينان. هذا؛ والنون: اسم لدواة الحبر، ومنه قول الشاعر:[الوافر]

إذا ما الشّوق برّح بي إليهم

سقيت النّون بالدّمع السّجام

وقيل: ذهب عن قومه مغاضبا لربه لما كشف عنهم العذاب، بعد ما أوعدهم، وكره أن يكون بين أظهر قوم جربوا عليه خلف وعده، وأنه يسمى كذابا، لا كراهية لحكم الله تعالى. وهذا

ص: 86

القول، وسابقه فيه ركاكة، ولا يلتئم مع نص القرآن، والمعتمد ما ذكرته عن الزمخشري، وانظر تفصيله تفصيلا كافيا في الآية رقم [98] من سورة (يونس) فإنك تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، ويقر عينك.

{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} أي: لن نضيق عليه على حد قوله تعالى: {اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ} وقوله تعالى شأنه: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} وقيل: هو من القدر الذي هو القضاء، والحكم، أي: فظن: أن لن نقضي عليه بالعقوبة، قال قتادة، ومجاهد، والفراء: مأخوذ من القدر، وهو الحكم، دون القدرة، والاستطاعة. وقال ابن هشام: أي: فظن أن لن نؤاخذه. فعبر عن المؤاخذة بشرطها وهو القدرة عليها، وهو جيد جدا. هذا؛ ويقرأ الفعل {نَقْدِرَ} بالنون مثقلا، ومخففا، والياء مثقلا، ومخففا أيضا، كما يقرأ بالبناء للمجهول مثقلا، ومخففا قراآت كثيرة.

{فَنادى فِي الظُّلُماتِ:} المراد: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، وقيل غير ذلك، والمعتمد هذا، روي: أن الله تعالى أوحى إلى الحوت: «لا تؤذ منه شعرة، فإني جعلت بطنك سجنه، ولم أجعله طعامك» . {لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ:} يريد فيما خالف فيه من ترك المداومة على دعوة قومه، والصبر عليهم، وقيل: في الخروج من غير أن يؤذن له، ولم يكن ما حصل له عقوبة من الله تعالى؛ لأن الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا، وإنما كان ذلك تمحيصا، وقد يؤدب من لا يستحق العقاب كالصبيان.

روى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دعاء ذي النون في بطن الحوت: {لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ} لم يدع به رجل مسلم في شيء قطّ إلاّ استجيب له» . وقد قيل: إنه اسم الله الأعظم، ورواه سعد أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم.

والمعروف: أنه دعاء الكرب.

فائدة: خمسة من الأنبياء سموا باسمين: يعقوب، وهو إسرائيل، وعيسى، وهو المسيح، وذو النون، وهو يونس، وذو الكفل، واسمه بشر كما رأيت، ومحمد، وهو أحمد، بل ذكر للرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من مئة اسم صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين.

فائدة: قال أبو المعالي في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تفضّلوني على يونس بن متّى» . المعنى: فإني لم أكن وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه؛ وهو في قعر البحر في بطن الحوت، وهذا يدل على أن الباري سبحانه وتعالى ليس في جهة. وأخيرا انظر ما ذكرته في الآية رقم [39] من سورة (طه) بشأن حبس الهواء ومنعه عن موسى حين وضع في التابوت مع بقائه حيّا، ومثلته بوجود يونس في بطن الحوت، وبقائه حيا، إن في ذلك لعظة لقوم يتعظون.

الإعراب: {وَذَا:} معطوف على (إسماعيل) منصوب مثله، وعلامة نصبه الألف نيابة عن الفتحة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و (ذا) مضاف، و {النُّونِ} مضاف إليه. {إِذْ:} بدل من

ص: 87

(ذا النون) فهو مبني على السكون في محل نصب، أو هو ظرف لما مضى من الزمان متعلق بالفعل المقدر. {ذَهَبَ:} ماض، والفاعل يعود إلى «ذي النون». {مُغاضِباً:} حال من الفاعل المستتر.

والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. (ظن): ماض، وفاعله مستتر أيضا. {أَنْ:}

حرف مشبه بالفعل مخفف من الثقيلة، واسمه ضمير الشأن محذوف. التقدير: أنه. {لَنْ:} حرف نفي، ونصب، واستقبال. {نَقْدِرَ:} منصوب ب: {لَنْ} على جميع أوجه القراآت، وفاعله مستتر تقديره:«نحن» ، أو «هو» على قراءته بالياء. {عَلَيْهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} في محل رفع خبر {أَنْ،} و {أَنْ} واسمها المحذوف وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي (ظنّ)، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها فهي في محل جر مثلها.

(نادى): ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. والفاعل مستتر تقديره: «هو» . {فِي الظُّلُماتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل: متعلقان بمحذوف حال. {أَنْ:} حرف تفسير، أو هي مخففة من الثقيلة، والجملة الاسمية:{لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ} مفسرة ل: (نادى)، وعلى اعتبار (أن) مخففة من الثقيلة؛ فاسمها ضمير الشأن، والجملة الاسمية في محل رفع خبرها، وهي، واسمها المحذوف، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بأنه لا إله

إلخ، والجار والمجرور متعلقان بالفعل (نادى)، والجملة الفعلية هذه معطوفة على ما قبلها فهي في محل جر مثلها، وانظر إعراب:{لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ} في الآية رقم [25].

{سُبْحانَكَ:} مفعول مطلق لفعل محذوف، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو من إضافته لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا، والجملة الفعلية الحاصلة منه، ومن فعله المحذوف فيها معنى التوكيد للجملة الاسمية قبلها؛ إذ معنى الجملتين تنزيه الله عما لا يليق به. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {كُنْتُ:} ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {مِنَ الظّالِمِينَ:}

متعلقان بمحذوف خبر {كُنْتُ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنِّي،} والجملة الاسمية هذه تعليل لتنزيه الله تعالى، لا محل لها.

{فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)}

الشرح: {فَاسْتَجَبْنا لَهُ} أي: دعاءه، فالسين، والتاء زائدتان؛ لأن «استجاب» بمعنى «أجاب» ، قال كعب بن سعد الغنوي في رثاء أخيه:[الطويل]

وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي: فلم يجبه، وعند التأمل تجد الفعل في الآية تعدى بواسطة حرف الجر، وفي البيت تعدى بنفسه، والفرق بين الآية والبيت: أن هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء بنفسه، وإلى الداعي باللام،

ص: 88

ويحذف الدعاء إذا عدّي إلى الداعي في الغالب، فيقال: استجاب الله دعاءه، أو استجاب له، ولا يكاد يقال: استجاب له دعاءه، وأما البيت؛ فمعناه: لم يستجب دعاءه على حذف المضاف.

{وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ} أي: من غم الالتقام في بطن الحوت، أو من غم الخطيئة التي ارتكبها كما رأيت في الآية السابقة. {وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} أي: نخلصهم من همومهم، ومتاعب حياتهم بما سبق من عملهم الصالح، وقد بين الله ذلك في سورة (الصافات):{فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وهذا حفظ من الله عز وجل لعبده يونس رعى له حق تعبده، وحفظ زمام ما سلف له من الطاعة. وقال الأستاذ أبو إسحاق: صحب ذو النون الحوت أياما قلائل، فإلى يوم القيامة، يقال له: ذو النون، فما ظنك بعبد عبده سبعين سنة يبطل هذا عنده؟ لا يظن به ذلك انتهى. هذا؛ ومدة مكثه في بطن الحوت أربعون يوما، أو سبعة أيام، أو ثلاثة أيام.

هذا؛ ويقرأ الفعل {نُنْجِي} بالنون، وهي قراءة الجمهور، وقرأ ابن عامر:«(نجّي)» بنون واحدة وجيم مشددة، وتسكين الياء على الفعل الماضي، وإضمار المصدر. أي: وكذلك نجّي النّجاء المؤمنين، كما تقول: ضرب زيدا، بمعنى ضرب الضرب زيدا، قال جرير من قصيدة يهجو بها الفرزدق:[الوافر]

ولو ولدت قفيرة جرو كلب

لسبّ بذلك الجرو الكلابا

أراد لسبّ السّبّ بذلك الجرو، وسكنت ياؤه على لغة من يقول: بقي، ورضي، فلا يحرك الياء، وقرأ الحسن قوله تعالى:{(ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا)} رقم [277] من سورة (البقرة)، استثقالا لتحريك ياء قبلها كسرة، قال الشاعر:[الخفيف]

خمّر الشيب لمّتي تخميرا

وحدا بي إلى القبور البعيرا

ليت شعري إذا القيامة قامت

ودعي بالحساب أين المصيرا؟

سكن الياء في «دعي» استثقالا لتحريكها، وقبلها كسرة، وفاعل «حدا» المشيب؛ أي: وحدا المشيب البعير، ليت شعري المصير أين هو؟ هذا تأويل الفراء، وأبي عبيد وثعلب في تصويب هذه القراءة، وخطأها أبو حاتم، والزجاج، وقالوا: هو لحن؛ لأنه نصب اسم ما لم يسم فاعله، وإنما يقال: نجّي المؤمنون، كما يقال: كرّم الصّالحون، ولا يجوز أن يحتج بمثل ذلك البيت على كتاب الله تعالى. قال ابن هشام في المغني: وفي هذه القراءة ضعف من جهات:

إسكان آخر الماضي، وإنابة ضمير المصدر مع أنه مفهوم من الفعل، وإنابة غير المفعول به مع وجوده. انتهى. قال النحاس: ولم أسمع في هذا أحسن من شيء سمعته من علي بن سليمان، قال: الأصل ننجي، فحذف إحدى النونين لا جتماعهما، كما تحذف إحدى التاءين لا جتماعهما،

ص: 89

نحو قوله تعالى: {وَلا تَفَرَّقُوا} الأصل: ولا تتفرقوا. وقرأ محمد بن السميقع، وأبو العالية:

«(وكذلك نجّى المؤمنين)» أي: نجى الله المؤمنين، وهي حسنة. انتهى. قرطبي بتصرف.

الإعراب: {فَاسْتَجَبْنا:} الفاء: حرف استئناف. (استجبنا): فعل، وفاعل، ومفعوله محذوف. {لَهُ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. (نجيناه):

فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {مِنَ الْغَمِّ:} متعلقان بما قبلهما. {وَكَذلِكَ:} الواو: حرف استئناف. الكاف: حرف تشبيه وجر، و (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، اللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف عامله ما بعده، التقدير: ننجي المؤمنين إنجاء كائنا مثل إنجاء يونس من كربه. {نُنْجِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {الْمُؤْمِنِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.

{وَزَكَرِيّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89)}

الشرح: {وَزَكَرِيّا إِذْ نادى رَبَّهُ:} دعا ربه، وسأله من فضله أن يهبه ذرية صالحة. {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً} أي: وحيدا بلا ولد يساعدني في أموري، ويرثني من بعدي. {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ} أي: خير من يبقى بعد كل من يموت، فهو ثناء على الله بأنه الباقي بعد فناء الخلق، وأنه الوارث لهم، وهذا على سبيل التمثيل، والمجاز. هذا؛ وإن أردت أن تعرف قصته، وما الذي قوّى أمله في طلب الولد بعد أن بلغ من العمر عتيا؛ فانظر صدر سورة (مريم) عليها السلام، والآية رقم [37 و 38] من سورة (آل عمران) وما بعدها.

الإعراب: {وَزَكَرِيّا إِذْ نادى:} انظر الآية [87] فإعرابهما واحد. {رَبَّهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {رَبِّ:}

منادى حذف منه أداة النداء منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، وياء المتكلم المحذوفة في محل جر بالإضافة، وانظر الآية رقم [3] من سورة (مريم) عليهاالسّلام، ورقم [35] من سورة (طه). {لا:} دعائية. {تَذَرْنِي:} مضارع مجزوم ب: (لا)، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به.

{فَرْداً:} حال من ياء المتكلم، وهو بمعنى منفردا، والجملة الندائية، والفعلية كلتاها تفسير ل:{نادى،} أو هما في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: قال: رب

إلخ، وتكون هذه الجملة هي المفسرة. {وَأَنْتَ:} الواو: واو الحال. (أنت): ضمير منفصل مبني على

ص: 90

الفتح في محل رفع مبتدأ. {خَيْرُ:} خبره، و {خَيْرُ:} مضاف، و {الْوارِثِينَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء

إلخ، وفاعله مستتر فيه، ومفعوله محذوف للتعميم، والجملة الاسمية {وَأَنْتَ..} . إلخ في محل نصب حال من الفاعل المستتر، والرابط: الواو، والضمير.

{فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90)}

الشرح: {فَاسْتَجَبْنا لَهُ} أي: دعاءه، وانظر الآية رقم [88]، {وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى} أي:

ولدا، وانظر شرح {وَهَبْنا} في الآية رقم [49] من سورة (مريم) عليهاالسّلام، وشرح (نا) في الآية [50] منها. {وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ:} قال قتادة، وسعيد بن جبير، وأكثر المفسرين: إنها كانت عاقرا، فجعلت ولودا. وقال ابن عباس، وعطاء-رضي الله عنهم أجمعين-: كانت سيئة الخلق، طويلة اللسان، فأصلحها الله، فجعلها حسنة الخلق. قال القرطبي: ويحتمل أن تكون جمعت المعنيين، فجعلت حسنة الخلق ولودا.

أقول: والتصريح بقوله: {وَامْرَأَتِي عاقِرٌ} في (آل عمران)، وقوله:{وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً} في سورة (مريم) لا يحتمل غير العقر. هذا؛ و «الزوج» يطلق على الذكر، والأنثى، والقرينة توضح ذلك، وتبين الذكر، والأنثى، ويقال للأنثى: زوجة أيضا، وحذف التاء منها أفصح إلا في الفرائض، فإنها بالتاء أفصح؛ لتوضيح الوارث. {إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ:} المراد بهم الأنبياء المذكورون في هذه السورة، وقيل: المراد: زكريا، وأهل بيته، والمسارعة في الخيرات من أعظم ما يمدح به العبد؛ لأنها تدل على حرص عظيم في طاعة الله، عز، وجل.

{وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً} أي: يرغبون في طاعتنا، وما ينتج عنها من رضانا، وما يعقبها من دخول الجنة، ويخافون من عقابنا؛ الذي سببه الخروج عن طاعتنا، وما يعقبه من سوء المال، والمصير. {وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ:} الخشوع: هو الخوف اللازم للقلب، فيكون الخاشع هو الحذر؛ الذي لا ينبسط في الأمور، خوفا من الوقوع في الإثم. وفسّر {خاشِعِينَ} بمتواضعين، خاضعين، وانظر (الخشوع) في الآية رقم [2] من سورة (المؤمنون). هذا؛ وفي {رَغَباً وَرَهَباً} قراآت كثيرة، ولم يتغير المعنى ولا الإعراب، وفيهما طباق.

الإعراب: {فَاسْتَجَبْنا لَهُ:} انظر الآية رقم [88] لإعراب الجملة ومحلها، والجملتان:

{وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ:} معطوفتان عليها، لا محل لهما مثلها. {إِنَّهُمْ:}

حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق.

{يُسارِعُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {فِي الْخَيْراتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما،

ص: 91

والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كانُوا..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّهُمْ..} . إلخ تعليل للنعم المذكورة في الجمل قبلها. وقال الجمل: علة لمحذوف؛ أي: نالوا ما نالوا؛ لأنهم كانوا يسارعون

إلخ. {وَيَدْعُونَنا:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، و (نا): مفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مثلها. {رَغَباً:} مفعول لأجله، أو هو حال بمعنى راغبين، أو هو مفعول مطلق، عامله يدعوننا على المعنى دون اللفظ؛ لأنه نوع منه. {وَرَهَباً:} معطوف على ما قبله، على جميع الاعتبارات فيه، وجملة {وَكانُوا لَنا..}. إلخ معطوفة على جملة:{كانُوا يُسارِعُونَ..} . إلخ، فهي في محل رفع مثلها، وإعرابها مثلها، والجار والمجرور:{لَنا} متعلقان ب: {خاشِعِينَ} بعدهما. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَاِبْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91)}

الشرح: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها} أي: واذكر مريم التي أحصنت فرجها؛ حيث لم يقربها رجل بزواج، أو زنى، وإنما ذكرها، وليست من الأنبياء ليتم ذكر عيسى عليه السلام، ولهذا قال:{وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ} ولم يقل: آيتين؛ لأن معنى الكلام: وجعلنا شأنهما، وأمرهما، وقصتهما آية للعالمين. وقال الزجاج: إن الآية فيهما واحدة؛ لأنها ولدته من غير فحل، وانظر الآية رقم [50] من سورة (المؤمنون) فالكلام فيهما واحد، والمعنى واحد.

هذا؛ وقيل: إن من آياتها: أنها أول امرأة قبلت في النذر في المعبد، ومنها: أن الله عز وجل غذاها برزق من عنده، لم يجره على يد عبد من عبيده. ومعنى:{أَحْصَنَتْ} عفت، وامتنعت من الفاحشة. هذا؛ وقيل: إن المراد بالفرج فرج القميص؛ أي: فتحة الثوب. قال السهيلي: فلا يذهبن وهمك إلى غير هذا، فإنه من لطيف الكناية؛ لأن القرآن أنزه معنى، وأوزن لفظا، وألطف إشارة، وأحسن عبارة من أن يريد ما يذهب إليه وهم الجاهل، لا سيما والنفخ من روح القدس بأمر القدوس، فأضف القدس إلى القدوس، ونزه المقدسة المطهرة عن الظن الكاذب، والحدس.

{فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا} أي: أمرنا جبريل أن ينفخ في فرج ثوبها الأعلى، فأحدثنا من ذلك النفخ المسيح في بطنها، ولا تنس: قوله تعالى في سورة (التحريم): {فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا} والضمير يعود إلى فرجها بلا ريب، ولا يحتمل ما ذكره السهيلي من التأويل، فقد قال الجلال في تفسير قوله تعالى:{فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا} أي: جبريل حيث نفخ في جيب درعها بخلق الله تعالى فعله الواصل إلى فرجها فحملت بعيسى، عليهما السلام. قال الجمل: ومعنى «خلقه» :

إيصال أثره، وهو الريح، والهواء الحاصل به إلى فرجها. فمعنى:{فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا} أوصلنا إليه الريح، والهواء الخارج من نفس جبريل لمّا نفخ في جيب قميصها. تأمل.

ص: 92

{آيَةً} أي: علامة، وأعجوبة للخلق، وعلما لنبوة عيسى عليه السلام، ودلالة على نفوذ قدرتنا فيما نشاء. انتهى. قرطبي بتصرف. وإن أردت تفصيل ما ذكر فما عليك إلا أن تنظر سورة (مريم)، وانظر الآية رقم [35] من سورة (آل عمران) وما بعدها. هذا؛ وانظر شرح (العالمين) في الآية رقم [71] وانظر:«جعل، وخلق» في الآية رقم [30].

الإعراب: {وَالَّتِي:} الواو: حرف عطف. (التي): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة لموصوف محذوف واقع مفعولا به لفعل محذوف، التقدير: واذكر مريم التي.

{أَحْصَنَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل مستتر تقديره:«هي» يعود إلى (التي) وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {فَرْجَها:} مفعول به، و (ها): في محل جر بالإضافة، والجملة المقدرة: «واذكر مريم التي

» إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. (نفخنا): فعل، وفاعل. {فِيها:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ رُوحِنا:} متعلقان به أيضا، و (نا): في محل جر بالإضافة، وجملة:{فَنَفَخْنا..} . إلخ معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها. (جعلناها): فعل، وفاعل، ومفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف. {وَابْنَها آيَةً:} مفعولان لفعل محذوف دل عليه ما قبله، التقدير: وجعلناها آية للعالمين، وجعلنا ابنها آية للعالمين، ثم حذف وهذا عند سيبويه، والتقدير عند الفراء: وجعلناها آية للعالمين وابنها، مثل قوله تعالى في سورة (التوبة):{وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} الآية [62]{لِلْعالَمِينَ:} متعلقان بمحذوف صفة {آيَةً،} وجملة: {وَجَعَلْناها..} . إلخ معطوفة على جملة الصلة، لا محل لها مثلها. هذا؛ وأجيز اعتبار (التي) مبتدأ، والخبر محذوف، التقدير: وفيما يتلى عليكم التي أحصنت، كما أجيز اعتبار جملة:{فَنَفَخْنا..} . إلخ خبرا، وزيدت الفاء على رأي الأخفش.

{إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)}

الشرح: {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ} أي: ملتكم، ودينكم. {أُمَّةً واحِدَةً} أي: دينا واحدا، وهو الإسلام، فأبطل ما سواه من الأديان. والأمة: الجماعة التي هي على مقصد واحد، وجعلت الشريعة أمة لاجتماع أهلها على مقصد واحد، انظر رقم [34] من سورة (الحج). وقال القرطبي:

لما ذكر الأنبياء، قال: هؤلاء كلهم مجتمعون على التوحيد. انتهى. وهو المعنى المراد هنا.

هذا؛ وقرئ بنصب «(أمّتكم)» ورفع «(أمة)» . {وَأَنَا رَبُّكُمْ:} إلهكم وحدي، لا إله لكم غيري.

{فَاعْبُدُونِ:} أفردوني بالعبادة، وانظر شرح (العبادة) في الآية رقم [66].

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {هذِهِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل نصب اسمها، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {أُمَّتُكُمْ:} خبر {إِنَّ،} وعلى قراءته بالنصب هو بدل من اسم الإشارة، والكاف في محل جر بالإضافة. {أُمَّةً:} حال من {أُمَّتُكُمْ،} والعامل

ص: 93

فيه: اسم الإشارة، وعلى قراءته بالرفع خبر ثان ل:{إِنَّ} أو بدل من {أُمَّتُكُمْ} أو خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هي أمة، وعلى نصب (أمتكم) ف:(أمة) هي خبر {إِنَّ} . {واحِدَةً:} صفة (أمة) على نصبه ورفعه، والجملة الاسمية:{وَأَنَا رَبُّكُمْ} مستأنفة لا محل لها، أو هي معطوفة على الجملة الاسمية:{إِنَّ هذِهِ..} . إلخ لا محل لها مثلها، الأولى بالابتداء، والثانية بالإتباع، واعتبارها حالا من الكاف لا بأس به أيضا. {فَاعْبُدُونِ:} الفاء: هي الفصيحة، وانظر الآية رقم [25] (اعبدون): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء.

{وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93)}

الشرح: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ:} اختلف بنو آدم في الدين، فصاروا فرقا، وأحزابا، فمن موحد، ومن يهودي، ومن نصراني، ومن عابد شخص، أو صنم، حتى لعن بعضهم بعضا، وتبرأ بعضهم من بعض. {كُلٌّ} أي: كل هذه الفرق، وهذه الأحزاب. {إِلَيْنا راجِعُونَ} أي: بالموت، ثم بالبعث، والحشر للحساب، والجزاء، فنجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. هذا؛ وفي الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة، وفي سابقه التفات من الغيبة إلى الخطاب، انظر الآية رقم [34] لشرح الالتفات.

تنبيه: قال الله تعالى في سورة (المؤمنون): {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا} الآية رقم [/52 53] والفرق بين ما هنا وهناك: أن الخطاب هنا للكفار، فأمرهم بالعبادة التي هي التوحيد، ثم قال: وتقطعوا بالواو؛ لأن التقطع قد كان منهم قبل هذا القول لهم. ومن جعله خطابا للمؤمنين، فمعناه: دوموا على العبادة، وأما في (المؤمنون) فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين بدليل قوله تعالى:{يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ} والأنبياء، والمؤمنون مأمورون بالتقوى، ثم قال:

{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي: ثم ظهر منهم التقطع بعد هذا القول، والمراد: أمتهم. انتهى. جمل نقلا عن كرخي. هذا؛ وانظر الآية رقم [53] من سورة (المؤمنون).

الإعراب: {وَتَقَطَّعُوا:} الواو: حرف استئناف. (تقطعوا): ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَمْرَهُمْ:} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه منصوب على نزع الخافض، أي: تقطعوا في أمرهم، بمعنى: تفرقوا. الثاني: هو مفعول به على معنى: قطعوا أمرهم، أي:

فرقوا أمرهم. الثالث: تمييز محول عن الفاعل، بمعنى: تقطع أمرهم. وهذا ضعيف؛ لأنه معرفة، وهو لا يجوز عند البصريين. والهاء في محل جر بالإضافة. {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، وجملة:{وَتَقَطَّعُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {كُلٌّ:} مبتدأ، سوغ الابتداء به الإضافة لمحذوف. {إِلَيْنا:} متعلقان بما بعدهما. {راجِعُونَ:} خبر المبتدأ

ص: 94

مرفوع

إلخ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير المقدر مضافا إليه.

{فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنّا لَهُ كاتِبُونَ (94)}

الشرح: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ} أي: من الأعمال الصالحات، ف:{فَمَنْ} للتبعيض، لا للجنس؛ إذ لا قدرة للمكلف أن يأتي بجميع الطاعات، فالمعنى: من يعمل شيئا من الطاعات فرضا، أو نفلا، وهو موحد مسلم. والإيمان شرط لقبول الأعمال الصالحات، كما قد بينته مرارا، وذكرت: أن ذلك يسمى في علم البديع احتراسا، والعكس صحيح، وهو:

أن الإيمان إذا لم يقرن بالعمل الصالح قد لا يجدي، وقد يضعف، ثم يضمحل؛ فالعمل الصالح بمنزلة الماء للشجر يغذيه، ويقويه، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [107] من سورة (الكهف).

{فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ} أي: لا جحود لعمله؛ أي: لا يضيع الله ثواب عمله الصالح.

استعير (الكفران) الذي بمعنى الجحود لمنع الثواب كما استعير الشكر لمنحه، وإعطائه، وانظر شرح «الكفر» في الآية رقم [30] {وَإِنّا لَهُ كاتِبُونَ} أي: لعمله مسجلون، وحافظون له في صحيفته. نظيره قوله تعالى في سورة (آل عمران):{أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى} وانظر الآية رقم [97] من سورة (النحل).

الإعراب: {فَمَنْ:} الفاء: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَعْمَلْ:} مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {مِنَ الصّالِحاتِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، والجملة الاسمية:{وَهُوَ مُؤْمِنٌ} مع المتعلق المحذوف معترضة، أو هي في محل نصب حال من الفاعل المستتر. والرابط: الواو والضمير. {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا): نافية للجنس تعمل عمل «إن» .

{كُفْرانَ:} اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب. {لِسَعْيِهِ:} متعلقان بمحذوف خبر (لا)، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الاسمية:{فَلا كُفْرانَ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه كما رأيت في الآية رقم [29] والجملة الاسمية:{فَمَنْ يَعْمَلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَإِنّا:} الواو: حرف عطف.

(إنا): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، وحذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {لَهُ:}

متعلقان بما بعدهما. {كاتِبُونَ:} خبر (إنّ) مرفوع

إلخ، والجملة الاسمية:{وَإِنّا لَهُ..} .

إلخ معطوفة على جملة جواب الشرط، أو هي في محل نصب حال من:(سعيه)، أو هي مستأنفة لا محل لها، أوجه ثلاثة تجوز فيها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

ص: 95

{وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95)}

الشرح: {وَحَرامٌ:} فيه تسع قراآت ذكرها القرطبي. ومعنى {وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ..} . إلخ:

وحرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا بعد الهلاك. وهذا على اعتبار {لا} صلة، روي ذلك عن ابن عباس، رضي الله عنهما، واختاره أبو عبيدة. وقيل: ليست بصلة، وإنما هي ثابتة، ويكون الحرام بمعنى الواجب، أي: وجب على قرية، كما قالت الخنساء:[الطويل]

وإنّ حراما لا أرى الدّهر باكيا

على شجوه إلاّ بكيت على صخر

تريد أخاها. {أَهْلَكْناها} أي: حكمنا بإهلاكها، أو وجدناها هالكة، {أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أي: إلى الدنيا. هذا؛ وقرئ بكسر همزة، «(إنّهم)» . وانظر شرح قرية في الآية رقم [6]. هذا؛ والحرام في الأصل كل ممنوع، قال تعالى:{وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ} فالحرمات: كل ممنوع منك، مما بينك وبين غيرك، وقولهم: لفلان بي حرمة، أي: أنا ممتنع من مكروهه، وحرمة الرجل محظورة به عن غيره، وقوله تعالى:{وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} فالمحروم: هو الممنوع من المال، والتلذذ به. والإحرام بالحج، والعمرة هو المنع من أمور معروفة في الفقه الإسلامي، وانظر شرح المسجد الحرام في الآية رقم [25] من سورة (الحج).

الإعراب: {وَحَرامٌ:} الواو: حرف استئناف. (حرام): خبر مقدم

إلخ في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ مؤخر، وجوز أبو البقاء اعتبار (حرام) مبتدأ، والمصدر المؤول في محل رفع فاعل ب:(حرام) سد مسد خبره. ورده ابن هشام في مغنيه؛ لأنه ليس بوصف صريح، ولأنه لم يعتمد على نفي، أو استفهام. {عَلى قَرْيَةٍ:} متعلقان ب: (حرام)، أو بمحذوف صفة له.

{أَهْلَكْناها:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل جر صفة {قَرْيَةٍ}. {أَنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {لا:} صلة. {يَرْجِعُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ مؤخر كما رأيت. هذا؛ وقيل:{لا} نافية، وليست بصلة، والإعراب إما على ما تقدم، والمعنى: ممتنع عليهم عدم رجوعهم إلى الآخرة. وإما على أن (حرام) مبتدأ حذف خبره، أي: حرام

قبول أعمالهم، وابتدئ بالنكرة لتقييدها بالمعمول، وإما على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: والعمل الصالح حرام عليهم. وعلى الوجهين، فالمصدر المؤول في محل جر بحرف جر محذوف، أي: لأنهم

إلخ، ودليل المحذوف ما تقدم في الآية السابقة، ويؤيد هذين الوجهين تمام الكلام قبل مجيء (أنّ) في قراءة بعضهم بكسر الهمزة؛ وعليه فالجملة الاسمية:{أَنَّهُمْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. انتهى. من المغني بتصرف كبير. تأمل، وتدبر.

ص: 96

{حَتّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)}

الشرح: {حَتّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ..} . إلخ: الكلام على حذف مضاف؛ إذ المراد:

سد يأجوج

إلخ و {حَتّى إِذا..} . إلخ: هذا الكلام متعلق ب: (حرام)، أو بمحذوف دل الكلام عليه، أو ب:{لا يَرْجِعُونَ} أي: يستمر الامتناع، أو الهلاك، أو عدم الرجوع إلى قيام الساعة، وظهور أماراتها، ومنها فتح سد يأجوج، ومأجوج. هذا؛ وقرئ (فتحت) بالتخفيف، والتشديد، و (يأجوج) و (مأجوج) بهمز وبدونه، انظر الآية [94] وما بعدها من سورة (الكهف) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، ويقر عينك. {وَهُمْ:} المراد: قوم يأجوج، ومأجوج، وقيل: المراد جميع الناس. {مِنْ كُلِّ حَدَبٍ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: من كل شرف، والحدب: ما ارتفع من الأرض، والجمع: أحداب. مأخوذ من حدبة الظهر، والمراد: التلال والآكام. {يَنْسِلُونَ:} يخرجون، أو يقبلون، أو يسرعون. أقوال. والمعنى متقارب.

تنبيه: قد ثبت: أن لقيام القيامة علامات، وهي صغرى، وكبرى، فالصغرى قد ظهر جميعها، كقبض العلم الشرعي، وتقارب الزمان، وفيض المال، وكثرة الزلازل، وكثرة القتل، وتطاول البدو في البنيان، وكثرة الفجور، والفسوق، وغير ذلك مما هو واقع، ومشاهد الآن.

أما العلامات الكبرى؛ فخذها مما يلي: عن حذيفة بن أسيد الغفاري، قال: اطلع علينا النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نتذاكر، فقال:«ما تذاكرون؟» . قالوا: نذكر الساعة، قال:«إنّها لن تقوم حتّى تروا قبلها عشر آيات» . فذكر الدّخان، والدّجال، والدابّة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم. أخرجه مسلم انتهى. خازن. أقول: ما ذكر في الحديث الشريف بعضه من علاماتها، وبعضه من مبادئها، كخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، فعند ذلك يغلق باب التوبة، ولا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، انظر الآية رقم [158] من سورة (الأنعام) وانظر الآية [49].

الإعراب: {حَتّى:} حرف ابتداء. {إِذا:} انظر الآية رقم [36]{فُتِحَتْ:} ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث. {يَأْجُوجُ:} نائب فاعله. {وَمَأْجُوجُ:} معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على القول المشهور المرجوح، وفي جوابها وجهان:

أحدهما: أنه محذوف، فقدره أبو إسحاق: قالوا: يا ويلنا. وقدره غيره: فحينئذ يبعثون. وقوله:

{فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ} في الآية التالية معطوف على هذا المقدر. والثاني: أن جوابها الفاء في قوله: {فَإِذا هِيَ} . قاله الحوفي، والزمخشري، وابن عطية. انتهى. جمل. و {إِذا} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. هذا؛ ويعتبر الأخفش {حَتّى} في مثل هذه الآية جارة ل:{إِذا،}

ص: 97

وقد رده ابن هشام في «المغني» ولكن إذا رجعت إلى الشرح تؤيد الأخفش فيما ذهب إليه في هذه الآية. {وَهُمْ:} الواو: واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {مِنْ كُلِّ:} متعلقان بالفعل بعدهما، و {كُلِّ:} مضاف، و {حَدَبٍ:} مضاف إليه.

{يَنْسِلُونَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَهُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من {يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ،} والرابط: الواو، والضمير، أو هي مستأنفة، لا محل لها من الإعراب. تأمل.

{وَاِقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنّا ظالِمِينَ (97)}

الشرح: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} أي: القيامة، وذلك بفتح سد يأجوج ومأجوج. قال حذيفة-رضي الله عنه: لو أن رجلا اقتنى فلوا بعد خروج يأجوج، ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة. وهذا ينفي ما ذكره الجمل من أن سد يأجوج ومأجوج إنما يفتح بعد نزول عيسى عليه السلام-إلى الأرض، ثم يهلكون بدعائه عليهم، فتملأ رممهم، وجيفهم الأرض، فيرسل الله عليهم طيرا كأعناق البخت، فتحملهم، فتطرحهم حيث شاء الله تعالى، ثم يرسل الله مطرا، فيغسل الأرض من آثارهم، ثم يقول الله للأرض: أنبتي ثمرك، فيكثر الرزق جدا، ويستقيم الحال لعيسى والمؤمنين، فبينما هم كذلك؛ إذ بعث الله عليهم ريحا طيبة، تقبض روح كل مؤمن، ومسلم، وتبقي شرار الناس يتهارجون في الأرض كتهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة انتهى. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [99] من سورة (الكهف). {فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: إذا قامت القيامة شخصت أبصار الذين كفروا إلى السماء من شدة الأهوال، لا تكاد تطرف من هول ذلك اليوم. يقال: شخص الرجل بصره، وشخص البصر نفسه؛ أي:

سما، وطمح من هول ما يرى. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: تشخص أبصار الخلائق يومئذ إلى الهواء لشدة الحيرة، فلا يرمضون، وانظر الآية رقم [42] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

{يا وَيْلَنا قَدْ كُنّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا..} . إلخ: انظر الآية رقم [14] ففيها الكفاية. هذا؛ والغفلة معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقائق الأمور، وقيل: حقيقة الغفلة سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ، والتيقظ. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَاقْتَرَبَ:} الواو: زائدة. (اقترب): ماض. {الْوَعْدُ:} فاعله. {الْحَقُّ:} صفة، والجملة الفعلية جواب (إذا) على رأي الفراء والكسائي، وغيرهما، ومعطوفة على جملة:{فُتِحَتْ يَأْجُوجُ} على حسب ما رأيت في الآية السابقة، وهو مذهب البصريين. {فَإِذا:} الفاء: واقعة في

ص: 98

جواب (إذا)، على رأي الزمخشري ومن وافقه، وحرف عطف على رأي الفراء، والكسائي. وانظر ما ذكرته بشأن هذه الفاء في الآية رقم [4] من سورة (النحل). (إذا): كلمة دالة على المفاجأة، وهي تختص بالجملة الاسمية، ولا تحتاج إلى جواب، ولا تقع في الابتداء، ومعناها الحال لا الاستقبال، نحو: خرجت فإذا الأسد بالباب. وهي حرف عند الأخفش، وابن مالك، ويرجحه: خرجت، فإذا إنّ زيدا بالباب؛ لأن «إن» لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. وظرف مكان عند المبرد، وابن عصفور. وظرف زمان عند الزجاج، والزمخشري. وزعم الأخير أن عاملها فعل مقدر مشتق من لفظ المفاجأة، ولا يعرف هذا لغير الزمخشري، وإنما ناصبها عندهم الخبر المذكور في نحو خرجت فإذا زيد جالس، أو المقدر في نحو:«فإذا الأسد» أي: حاضر، وإذا قدرت: أنها الخبر؛ فعاملها مستقر، أو استقر، ولم يقع الخبر معها في القرآن الكريم إلا مصرحا به.

{هِيَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {شاخِصَةٌ:} خبره.

{أَبْصارُ:} فاعل ب: {شاخِصَةٌ،} و (أبصار) مضاف، و {الَّذِينَ} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها. هذا هو الإعراب الظاهر، والمتبادر، ولكن إذا عرفت: أن {هِيَ} ضمير القصة، وهي عائدة على متأخر، لا على متقدم، فوجب تفسيرها بجملة، لا بمفرد كما رأيت في الإعراب؛ لذا فالإعراب الصحيح كما يلي:{شاخِصَةٌ:} خبر مقدم، و {أَبْصارُ الَّذِينَ..}. إلخ: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، وهي مفسرة له، وهذا هو مذهب البصريين، وأما الكوفيون؛ فيجيزون اعتبار {شاخِصَةٌ} مبتدأ، و (أبصار) فاعل به سد مسد الخبر، وهذا إنما يتمشى على مذهبهم؛ لأن ضمير القصة يفسر عندهم بالمفرد العامل عمل الفعل، فإنه في قوة الجملة. انتهى.

جمل نقلا عن السمين. والجملة الاسمية: {هِيَ..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذا) إليها على اعتبارها ظرفا، وابتدائية لا محل لها، وهي معطوفة على ما قبلها، أو هي جواب ل:(إذا) على وجه مر ذكره على اعتبار (إذا) حرفا. {يا وَيْلَنا:} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [14] تجده وافيا كافيا. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {كُنّا:} ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمه. {فِي غَفْلَةٍ:} متعلقان بمحذوف خبر (كان). {مِنْ هذا:} متعلقان ب:

{غَفْلَةٍ} و (من) بمعنى عن، أو بمحذوف صفة غفلة، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {بَلْ:}

حرف عطف، وانتقال، وجملة:{كُنّا ظالِمِينَ} معطوفة على ما قبلها، والكلام:{يا وَيْلَنا قَدْ..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: يقولون: يا ويلنا

إلخ.

وجملة: (يقولون

) إلخ في محل نصب حال من الموصول، والرابط: واو الجماعة.

بعد هذا أنقل لك ما ذكره السيوطي في كتابه همع الهوامع بشأن الفاء الداخلة على «إذا» الفجائية، فقال-رحمه الله تعالى-: اختلف في هذه الفاء، فقال المازني: هي زائدة للتأكيد؛ لأن إذا الفجائية فيها معنى الإتباع، ولذا وقعت في جواب الشرط موقع الفاء، وهذا ما اختاره

ص: 99

ابن جنّي، وقال مبرمان: هي عاطفة لجملة «إذا» ومدخولها على الجملة قبلها، واختاره الشلوبين الصغير، وأيده أبو حيان بوقوع «ثم» موقعها في قوله تعالى:{ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ،} وقال الزجاج: دخلت على حد دخولها في جواب الشرط. انتهى. أي: فهي للسببية المحضة.

{إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98)}

الشرح: {إِنَّكُمْ:} الخطاب لكفار قريش، ويعم كل مشرك جعل لله ندا. {وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ:} يحتمل الأوثان التي يقدسونها، ويحتمل إبليس وأعوانه من الإنس والجن؛ لأنهم بطاعتهم لهم في حكم عبادتهم، كما رأيت في الآية رقم [31] من سورة (التوبة) ولما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا هذه الآية على المشركين، قال عبد الله بن الزّبعرى: قد خصمتك ورب الكعبة! أليس اليهود عبدوا عزيرا، والنصارى عبدوا المسيح، وبنو مليح عبدوا الملائكة، فقال صلى الله عليه وسلم:«بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك» ، وأنزل الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ..} .

إلخ الآية الآتية.

هذا؛ ويروى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «ما أجهلك بلغة قومك؟ ألم تعلم أن ما لغير العاقل، ومن للعاقل؟!» فتصاغر، وخنس. وهو جواب مفحم مسكت. {حَصَبُ جَهَنَّمَ} أي: حطب جهنم؛ الذي يرمى بها فتهيج به، وهذا يفيد: أن الكفار وما يعبدون من الأصنام حطب لجنهم، وهو صريح قوله تعالى في سورة (التحريم):{وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ} . هذا؛ ويقرأ: «(حطب)» بالطاء، كما يقرأ:«(حضب)» بالضاد، قال الفراء: ذكر لنا: أن الحضب في لغة أهل اليمن:

الحطب. {أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ} أي: عليها واردون، بمعنى: داخلون فيها، هذا؛ والحجارة التي عبدوها لا ذنب لها، ولا عقوبة عليها، ولكن تكون عذابا على من عبدها، أول شيء بالحسرة، ثم تجمع على النار، فتكون نارها أشد من كل نار، ثم يعذبون بها بعد أن كانوا يؤملون نفعها، وشفاعتها. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {إِنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب معطوف على الكاف. {تَعْبُدُونَ:} مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف، التقدير: والذي تعبدونه. {مِنْ دُونِ:}

متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب المحذوف و {مِنْ} بيان لما أبهم في (ما) و {تَعْبُدُونَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {حَصَبُ:} خبر (إنّ) وهو مصدر صح الإخبار به عن متعدد، و {حَصَبُ} مضاف، و {جَهَنَّمَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة، والجملة الاسمية:{إِنَّكُمْ..} . إلخ ابتدائية، أو مستأنفة لا محل لها. {أَنْتُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع

ص: 100

مبتدأ. {لَها:} متعلقان بما بعدهما. {وارِدُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{أَنْتُمْ..} . إلخ جوز فيها أبو البقاء ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون بدلا من {حَصَبُ جَهَنَّمَ} فهو إبدال جملة من مفرد. الثاني: أن تكون مستأنفة، فلا محل لها على هذا الوجه.

الثالث: أن تكون في محل نصب حال من جهنم، والرابط: الضمير فقط، وفيه نظر من حيث مجيء الحال من المضاف إليه في غير المواضع التي يجوز فيها مجيء الحال من المضاف إليه، هذا؛ وأجيز اعتبارها خبرا ل:(إنّ).

{لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100)}

الشرح: {لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها} أي: لو كانت الأصنام آلهة، وتستحق العبادة؛ لما ألقيت في جهنم مع عابديها. {وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ} أي: كل من العابدين، والمعبودين ماكثون في جهنم لا يخرجون منها أبدا. {لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ} أي: للذين دخلوا النار من الكفار، والشياطين، فأما الأصنام؛ فعلى الخلاف فيها، هل يحييها الله تعالى، ويعذبها حتى يكون لها زفير، أو لا؟ قولان. هذا؛ والزفير: هو أن يملأ الرجل صدره غمّا ثم يتنفس، وقيل: الزفير: ترديد النفس في الصدر حتى تنتفخ منه الضلوع. والشهيق: رد النفس إلى الصدر، وانظر الآية رقم [106] من سورة (هود) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف ألف صلاة وألف وألف سلام، تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

{وَهُمْ فِيها:} في جهنم. {لا يَسْمَعُونَ} أي: لا يسمعون شيئا؛ لأنهم يحشرون صما، وعميا، وبكما، كما رأيت في الآية رقم [97] من سورة (الإسراء) هذا؛ وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه-في هذه الآية:«إذا بقي في النار من يخلّد فيها؛ جعلوا في توابيت من نار، ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخر، ثم تلك التوابيت في توابيت أخر، عليها مسامير من نار، فلا يسمعون شيئا، ولا يرى أحد منهم أن في النار أحدا يعذب غيره» .

الإعراب: {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {كانَ:} ماض ناقص. {هؤُلاءِ:}

اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع اسم {كانَ،} والهاء حرف تنبيه لا محل له.

{آلِهَةً:} خبر {كانَ،} والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {ما:} نافية. {وَرَدُوها:} ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية جواب لو، لا محل لها، و {لَوْ} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ:} إعراب هذه الجملة، ومحلها مثل:{كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ} في الآية رقم [93]{لَهُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فِيها:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف

ص: 101

حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. {زَفِيرٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {وَهُمْ:} الواو: حرف عطف. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {فِيها:} متعلقان بما بعدهما، وجملة:{لا يَسْمَعُونَ} في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَهُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.

{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101)}

الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى} أي: قدرت، وسجلت لهم في قديم الأزل الحسنى، والمراد بها: السعادة الأبدية، أو التوفيق للطاعة، أو البشرى بالجنة. وانظر شرح {الْحُسْنى} في الآية رقم [110] من سورة (الإسراء). {أُولئِكَ عَنْها} أي: عن جهنم.

{مُبْعَدُونَ:} لأنهم يرفعون إلى أعلى عليين. هذا؛ وقد ذكرت في الآية رقم [98] أن الآية نزلت ردا على ابن الزّبعرى.

روي: أن عليا كرم الله وجهه خطب على المنبر، وقرأ هذه الآية، ثم قال: أنا منهم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، وابن الجراح، ثم أقيمت الصلاة. فقام يجر رداءه، ويقول:{لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها..} . إلخ. فويل، ثم ويل، ثم ويل للذين يفرقون بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وويل لهم مما يفترون الكذب من أن عليا رضي الله كان يبغض أحدا من الصحابة. وانظر قوله في سورة (الأعراف) آية رقم [44] وسورة الحجر آية [47] تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، ويقر عينك، واستمطر الخزي واللعن على من يصمون عليا كرم الله وجهه، ويتهمونه مما هو منه براء.

تنبيه: فإن قيل: كيف يكونون مبعدين عنها، وقد قال الله تعالى في سورة (مريم) آية رقم [71]:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها} وورودها يقتضي القرب منها؟ فالجواب: معناه: مبعدون عن عذابها، وألمها، مع ورودهم لها، أو معناه: مبعدون عنها بعد ورودها بالإنجاء المذكور بعد الورود. انتهى. جمل نقلا عن كرخي. هذا؛ وقد جيء باللام في قوله: {سَبَقَتْ لَهُمْ؛} لأن السابق نافع، كما جيء ب:(على) حيث كان السابق ضارا، وذلك في قوله تعالى:{إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ} الآية رقم [27] من سورة (المؤمنون).

الإعراب: {إِنَّ} حرف مشبه بالفعل، وقال أهل العلم:{إِنَّ} ها هنا بمعنى «إلا» ، وليس في القرآن غيره. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسم {إِنَّ} .

{سَبَقَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث. {لَهُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنَّا:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {الْحُسْنى}. {الْحُسْنى:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والعائد:

ص: 102

الضمير المجرور محلا باللام. {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {عَنْها:} متعلقان بما بعدهما. {مُبْعَدُونَ:} خبر المبتدأ، مرفوع

إلخ، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ في محل نصب على الاستثناء، انظر الشرح.

{لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اِشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102)}

الشرح: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها} أي: صوت جهنم، وحركة لهبها إذا نزلوا منازلهم في الجنة. فإن قيل: أية بشارة لهم في أنهم لا يسمعون حسيسها؟ فالجواب: أن المراد منه: تأكيد بعدهم؛ لأن من قرب منها، قد يسمع حسيسها، فإن قيل: أليس أهل الجنة يرون أهل النار، فكيف لا يسمعون حسيسها؟ فالجواب: إذا حملناه على التأكيد؛ زال هذا السؤال. انتهى. جمل نقلا عن كرخي.

{وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ..} . إلخ: دائمون في غاية التنعم، فيما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وقال تعالى في سورة (فصلت) آية رقم [31]:{وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ} .

الإعراب: {لا:} نافية. {يَسْمَعُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {حَسِيسَها:}

مفعول به، و (ها): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية يجوز أن تكون بدلا من {مُبْعَدُونَ؛} لأنها لو حلت محله تغني عنه، ويجوز أن تكون خبرا ثانيا للمبتدأ (أولئك)، ويجوز أن تكون في محل نصب حال من الضمير المستتر في {مُبْعَدُونَ}. {وَهُمْ:} الواو: واو الحال. (هم):

مبتدأ. {فِي مَا:} متعلقان ب: {خالِدُونَ} بعدهما، و {مَا:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر نفي. {اِشْتَهَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث. {أَنْفُسُهُمْ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة ما، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: في الذي، أو: في شيء اشتهته أنفسهم. {خالِدُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع

إلخ، والجملة الاسمية:{وَهُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو والضمير، أو هي مستأنفة، فلا يكون لها محل.

{لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)}

الشرح: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} أي: النفخة الثانية لقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} أو لا نصراف الناس إلى النار، أو حين يطبق على النار، أو

ص: 103

حين يذبح الموت على صورة كبش أملح. انظر الآية رقم [38] من سورة (مريم) عليهاالسّلام، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [89] من سورة (النمل) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

{وَتَتَلَقّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} أي: تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة مهنئين، يقولون لهم:

{هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} أي: في الدنيا من الكرامة، والرضا والرضوان، والعفو والغفران. فيكون المعنى: هذا وقت ثوابكم الذي وعدكم ربكم به في الدنيا، فأبشروا فيه يجميع ما يسركم! هذا؛ ويقرأ الفعل:(يحزن) بفتح الياء من الثلاثي، وبابه قتل، ويقرأ بضم الياء من الرباعي. قال اليزيدي:«حزنه» لغة قريش، و «أحزنه» لغة تميم. انتهى. وهو متعد على اللغتين مثل: سلكه، وأسكله، هذا؛ و «حزن» بكسر الزاي من باب فرح لازم.

أما {الْمَلائِكَةُ} فهم أجسام نورانية لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، لا يأكلون، ولا يشربون، لا يبولون، ولا يتغوطون، لا ينامون، ولا يموتون، ولا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، ولا يوصفون بذكورة، ولا بأنوثة، فمن وصفهم بذكورة فسق، ومن وصفهم بأنوثة كفر، وهم كثيرون، لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، قال تعالى:{وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ} يقومون بأعمال مختلفة، كلّ فيما وكل إليه من أعمال، ورؤساؤهم عشرة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، ورقيب، وعتيد، ومنكر، ونكير، ورضوان خازن الجنة، ومالك خازن النار.

الإعراب: {لا:} نافية. {يَحْزُنُهُمُ:} مضارع، والهاء مفعول به. {الْفَزَعُ:} فاعله.

{الْأَكْبَرُ:} صفة له، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا بالإضافة، والرابط: الضمير فقط، أو هي مستأنفة لا محل لها، وأجيز اعتبارها بدلا مما قبلها.

(تتلقاهم): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء في محل نصب مفعول به. {الْمَلائِكَةُ:} فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه، لا محل له. {يَوْمُكُمُ:} خبر مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة {يَوْمُكُمُ} . {كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {تُوعَدُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كُنْتُمْ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: الذي كنتم توعدونه، والجملة الاسمية:{هذا يَوْمُكُمُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول لفعل محذوف، يقولون لهم:{هذا..} . إلخ، والجملة الفعلية هذه في محل نصب حال من {الْمَلائِكَةُ،} والرابط: الضمير فقط.

ص: 104

{يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنّا كُنّا فاعِلِينَ (104)}

الشرح: {يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ:} الطيّ في هذه الآية يحتمل معنيين:

أحدهما: الدرج الذي هو ضد النشر، قال تعالى:{وَالسَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ} والثاني: الإخفاء والمحو، فطيها: تكوير نجومها، ومحو رسومها. هذا؛ ويقرأ:«(تطوى)» بالتاء، وبالبناء للمجهول، ورفع:(السماء)، ويقرأ:«(يطوي)» على أن الفاعل تقديره: هو الله. هذا؛ والسجل: الكتاب، فيكون المعنى: نطوي السماء كطي الصحيفة على مكتوبها؛ أي: المسجل فيها، وتكون اللام بمعنى:

«على» وروي عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنه اسم أحد كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل، ولم يذكر في أصحابه من اسمه: السجل، فلذا هو قول ضعيف، والمعتمد: أنه اسم ملك، وهذا الذي يطوي كتب بني آدم أي صحائف أعمالهم إذا رفعت إليه. ويقال: إنه في السماء الثالثة، ترفع إليه أعمال العباد، يرفعها إليه الحفظة الموكلون بالخلق في كل يوم خميس، واثنين؛ ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم هذين اليومين، ويقول:«ترفع فيهما الأعمال إلى رب العالمين» ، وفي رواية:

«تعرض الأعمال» . هذا؛ ويقرأ: «(للكتاب)» بالإفراد، ويقرأ {السِّجِلِّ} بقراآت كثيرة.

{كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ:} في هذه الجملة تفسيران: أحدهما: أن المعنى نعيد ما خلقناه بعد ما أفنيناه، وأهلكناه مثل ما خلقناه أول مرة من العدم، والإعادة تكون بعد تفتت الأجزاء، وتبددها، فيكون المراد بيان صحة الإعادة بالقياس على الإبداء لشمول الإمكان الذاتي المصحح للمقدورية، وتناول القدرة القديمة لهما على السواء، ومجمل القول في هذه الآية على هذا التفسير، فكما قدرنا على الإنشاء نقدر على الإعادة.

الثاني: أن المعنى نحشر الخلق حفاة عراة غرلا كما بدئوا في البطون، فعن ابن عباس رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«يحشر الناس يوم القيامة عراة غرلا، أوّل الخلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام» ثم قرأ: {كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} . أخرجه مسلم، والنسائي. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [48] من سورة (الكهف) فهو أوسع من هذا، وهذا التفسير أقوى من الأول.

{وَعْداً عَلَيْنا} أي: إعادة الخلق كما بدأهم أول مرة، هذا؛ وعد قطعه رب العالمين على نفسه بمعنى: قدره، وقضاه لا محالة كائن، وواقع إنجازه، وتحقيقه. {إِنّا كُنّا فاعِلِينَ} أي:

ما وعدناكم به من الإعادة، وهو كقوله تعالى:{كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} وقوله: {إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} وفسر {فاعِلِينَ} ب: قادرين على الإعادة. وأصل ذلك: أن الفعل يتسبب عن الإرادة، والقدرة، وهم يقيمون السبب مقام المسبب.

ص: 105

هذا؛ و «كتاب» في اللغة: الضم، والجمع، وسميت الجماعة من الجيش كتيبة؛ لا جتماعهم، كما سمي الكاتب كاتبا؛ لأنه يضم الكلام بعضه إلى بعض، ويجمعه، ويرتبه، وفي الاصطلاح: اسم لجملة مختصة من العلم مشتملة على أبواب، وفصول، ومسائل غالبا.

الإعراب: {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بفعل محذوف، تقديره: اذكر، أو هو مفعول به لهذا المحذوف. وقيل: هو ظرف متعلق بالفعل {لا يَحْزُنُهُمُ} أو (تتلقاهم) وأجاز أبو البقاء اعتباره بدلا من العائد المحذوف في جملة الصلة: {تُوعَدُونَ} . وأجاز البيضاوي اعتباره متعلقا بمحذوف حال من العائد المحذوف، والمعتمد الأول. {نَطْوِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {السَّماءَ:} مفعول به، وانظر أوجه القراآت في الشرح. {كَطَيِّ:} متعلقان بمحذوف صفة مفعول مطلق محذوف، التقدير: طيّا كائنا مثل طيّ، و (طي) مضاف، و {السِّجِلِّ} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله، أو لمفعوله حسب ما رأيت في الشرح. {لِلْكُتُبِ:} متعلقان بالمصدر. واللام زائدة على اعتبار {السِّجِلِّ} اسم ملك، كما رأيت، فيكون الكتب مفعولا به مجرورا لفظا منصوبا محلا، وجملة:{نَطْوِي..} . إلخ في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها على جميع أوجه القراآت.

{كَما} الكاف: حرف تشبيه وجر، و (ما): مصدرية. {بَدَأْنا:} فعل، وفاعل. {أَوَّلَ:}

مفعول به، و {أَوَّلَ} مضاف، و {خَلْقٍ:} مضاف إليه. {نُعِيدُهُ:} مضارع، والفاعل تقديره:

«نحن» ، والهاء مفعول به، و (ما) المصدرية، والفعل في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف عامله الفعل بعده، التقدير: نعيده إعادة كائنة مثل بدئنا أول خلق خلقناه. هذا؛ وأجيز اعتبار (ما) موصولة مبنية على السكون في محل جر بالكاف، والجملة الفعلية صلتها، والعائد محذوف، التقدير: كالذي بدأناه، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة

إلخ، مثل التأويل الأول، وعليه يكون {أَوَّلَ} ظرفا متعلقا بالفعل {بَدَأْنا،} أو هو متعلق بمحذوف حال من العائد المحذوف، وهذه الجملة:{كَما..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَعْداً:} مفعول مطلق عامله من لفظه محذوف، التقدير: وعدناه وعدا. {عَلَيْنا:} متعلقان ب: {وَعْداً،} والجملة الفعلية هذه مستأنفة لا محل لها أيضا. {بَدَأْنا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. {كُنّا:} ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمه. {فاعِلِينَ:} خبر (كان) منصوب

إلخ، وجملة:{كُنّا فاعِلِينَ} في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{بَدَأْنا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وقال الجمل: ذكرت هذه الجملة توكيدا لتحتم الخبر، وقيل: هي تعليل للقدرة، وقيل: في محل نصب حال، وهو ضعيف معنى.

ص: 106

{وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ (105)}

الشرح: {وَلَقَدْ كَتَبْنا} أي: سجلنا، وقدرنا، وقضينا. {فِي الزَّبُورِ:} كتاب داود، انظر الآية رقم [55] من سورة (الإسراء) تجد ما يسرك. {مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} أي: التوراة التي أنزلت على موسى على نبينا، وشفيعنا، وعليهم ألف صلاة، وألف سلام. هذا؛ وقيل: إن المراد ب: {الزَّبُورِ} جميع الكتب التي أنزلت على الرسل، والمراد ب:{الذِّكْرِ} اللوح المحفوظ الذي سجل فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، فيكون المراد بكتابة الزبور نسخ ما فيها من اللوح المحفوظ؛ لأن جميع الكتب السماوية مسجلة في اللوح المحفوظ من قديم الأزل.

{أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ:} أحسن ما قيل فيه: أنه يراد بها أرض الجنة، كما قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى؛ لأن الأرض في الدنيا يملكها الصالحون، وغيرهم، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما. وقال مجاهد وأبو العالية: ودليل هذا التأويل قوله تعالى:

{وَقالُوا الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} . هذا؛ وقيل: إنها الأرض المقدسة. ذكر لي: أن اليهود كتبوا على جدران القنيطرة يوم احتلوها عام 1967 م الآية التي نحن بصدد شرحها، كتبوها بحروف عربية مكبّرة. هذا؛ وقيل: المراد بها أرض الأمم الكافرة ترثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالفتوح. وقيل: إن المراد بذلك بنو إسرائيل بدليل قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها} . هذا؛ ويقرأ: {عِبادِيَ} بفتح ياء المتكلم وسكونها.

هذا؛ والإضافة بقوله: {عِبادِيَ} إضافة تشريف، وتعظيم، وتبجيل، وذكر العبودية مقام عظيم، والعبد: الإنسان حرا كان، أو رقيقا، ويجمع على: عبيد، وعباد، وأعبد، وعبدان، وعبدة، وغير ذلك، وانظر الآية رقم [1] من سورة (الإسراء). هذا؛ ولا تنس: أن في الآية الكريمة التفاتا من التكلم بالجمع إلى التكلم بالمفرد، وانظر الالتفات في الآية رقم [34].

الإعراب: {وَلَقَدْ:} انظر الآية رقم [41] ففيها الكفاية. {كَتَبْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها. {فِي الزَّبُورِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ بَعْدِ:}

متعلقان به أيضا، وقيل: متعلقان بمحذوف صفة ل: {الزَّبُورِ،} وقيل: متعلقان بمحذوف حال، و {بَعْدِ} مضاف، و {الذِّكْرِ:} مضاف إليه. {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الْأَرْضَ:} اسمها.

{يَرِثُها:} مضارع، و (ها): مفعول به. {عِبادِيَ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {الصّالِحُونَ:} صفة {عِبادِيَ} مرفوع مثله. وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{يَرِثُها..} . إلخ في

ص: 107

محل رفع خبر {أَنَّ،} و {أَنَّ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، والقسم المقدر:{وَلَقَدْ..} . إلخ وجوابه كلام مستأنف لا محل له.

{قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)}

الشرح: {قُلْ} أمر للنبي صلى الله عليه وسلم. {إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ} أي: ما يوحى إليّ من ربي إلا أنه لا إله لكم إلا إله واحد لا شريك له في ملكه، ولا مناوئ له في سلطانه.

قال الشهاب: في هذه الآية قصران: الأول قصر الصفة على الموصوف، والثاني بالعكس.

{فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ:} موحدون منقادون لما يوحى إليّ من إخلاص الإلهية والتوحيد. ومعنى الاستفهام: الأمر؛ أي: أسلموا.

الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {إِنَّما:} كافة، ومكفوفة.

{يُوحى:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر.

ص: 108

{إِلَيَّ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {إِنَّما:} كافة ومكفوفة، {إِلهُكُمْ:} مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة. {إِلهٌ:} خبره. {واحِدٌ:} صفة إله، والكلام {أَنَّما إِلهُكُمْ..}. إلخ في تأويل مصدر في محل رفع نائب فاعل {يُوحى}. هذا؛ وكف (أنّ) ب:(ما) عن العمل لا يخرجها عن المصدرية، وجملة:{إِنَّما يُوحى..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ إِنَّما..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {فَهَلْ:} الفاء: حرف استئناف. (هل): حرف استفهام.

{أَنْتُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {مُسْلِمُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع

إلخ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.

{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109)}

الشرح: {فَإِنْ تَوَلَّوْا:} أعرضوا عن الإسلام والانقياد لما تدعوهم إليه. هذا؛ والتولي، والإعراض، والإدبار عن الشيء يكون بالجسم، ويستعمل في الإعراض عن الأمور الاعتقادية اتساعا، وأصل (تولوا) قبل دخول واو الجماعة:«تولّي» قل في إعلاله: تحركت الياء، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فلما اتصلت به واو الجماعة صار (تولاّوا) فالتقى ساكنان: ألف العلة، وواو الجماعة، وحرف العلة أولى بالحذف من الضمير، فحذف حرف العلة، وبقيت الفتحة على اللام دليلا على الألف المحذوفة، ويقال في إعلاله أيضا: ردت الألف لأصلها عند اتصاله بواو الجماعة، فصار:«تولّيوا» فقلبت الياء ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها، فصارت ألفا، فالتقى ساكنان: ألف العلة

إلخ، كما يقال أيضا: ردت الألف لأصلها عند اتصاله بواو الجماعة، فصار:«توليوا» فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان: ياء العلة، وواو الجماعة، فحذفت ياء العلة لالتقاء الساكنين. وما ذكرته يجري في إعلال كل فعل ناقص، اتصل به واو الجماعة، مثل: نجا، ورمى، وسعى، وغزا

إلخ، تنبه لذلك واحفظه. هذا؛ وإذا ولي الواو ساكن مثل (رأوا العذاب) ونحوه تحرك الواو بالضمة، ولم تحرك بالكسرة؛ لأن الكسرة لا تناسبها، وقيل: حركت بالضم دون غيره، ليفرق بين الواو الأصلية، وبين واو الجماعة في نحو قولك:«لو اجتهدت لنجحت» . وقيل: ضمت؛ لأن الضمة هنا أخف من الكسرة؛ لأنها من جنس الواو. وقيل: حركت بحركة الياء المحذوفة، وقيل: غير ذلك.

{فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ} أي: أعلمتكم على بيان: أنا وإياكم حرب لا صلح بيننا، وهذا إنذار بين نستوي في علمه، لا أستبد به أنا دونكم، لتتأهبوا لما يراد منكم. وقيل:

المعنى: أعلمتكم بالحرب على عدل، واستقامة، ورأي بالبرهان النير، فيكون كقوله تعالى في سورة (الأنفال):{وَإِمّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ} وقال الزجاج: المعنى:

أعلمتكم بما يوحى إلي على استواء في العلم به، ولم أظهر لأحد شيئا كتمته عن غيره. وانظر

ص: 109

إعلال همزة (آمن) في الآية رقم [71] من سورة (طه)، وانظر شرح {سَواءٍ} في الآية رقم [25] من سورة (الحج).

{وَإِنْ أَدْرِي:} لا أدري، ولا أعلم. {أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ} أي: لا أعلم متى يكون يوم القيامة؛ لأن الله لم يطلعني عليه، ولكني أعلم: أنه كائن لا محالة. أو: لا أعلم متى يحل بكم العذاب إن لم تؤمنوا، وقيل: المعنى: آذنتكم بالحرب، ولكني لا أدري متى يؤذن لي في محاربتكم؟

الإعراب: {فَإِنْ:} الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {تَوَلَّوْا:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة في محل جزم فعل الشرط، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف انظر الشرح، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَقُلْ:} الفاء: واقعة جواب الشرط. (قل): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {آذَنْتُكُمْ:} ماض، وفاعله، ومفعوله.

{عَلى سَواءٍ:} متعلقان بمحذوف حال من تاء الفاعل، أو من الكاف المفعول به، أو من كليهما، بمعنى: متساويين، ومثله قول الشاعر:[الكامل]

فلئن لقيتك خاليين لتعلمن

أيّي وأيّك فارس الأحزاب؟

ف «خاليين» حال من التاء والكاف. وأيضا قول عنترة بن شداد العبسي: [الوافر]

متى ما تلقني فردين ترجف

روانف أليتيك وتستطارا

فقوله: «فردين» حال من الفاعل المستتر، ومن ياء المتكلم التي هي مفعوله. {وَإِنْ:} الواو:

حرف استئناف، أو واو الحال. (إن): حرف نفي. {أَدْرِي:} مضارع مرفوع

إلخ، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، وهو معلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام. {أَقَرِيبٌ:} الهمزة حرف استفهام.

(قريب): خبر مقدم. {أَمْ:} حرف عطف. {بَعِيدٌ:} معطوف على ما قبله. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. {تُوعَدُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها صلة الموصول، والعائد محذوف، التقدير:

الذي توعدونه، والجملة الاسمية:{أَقَرِيبٌ..} . إلخ في محل نصب سدت مسد مفعولي الفعل أدري المعلق عن العمل لفظا بهمزة الاستفهام. هذا؛ وجوز أبو البقاء أن يكون: (قريب) مبتدأ؛ لاعتماده على الاستفهام و: {بَعِيدٌ} معطوفا عليه، و {ما:} فاعلا بما قبله سادا مسد الخبر، ويكون ذلك على التنازع، وجملة {وَإِنْ أَدْرِي..} . إلخ مستأنفة، أو هي في محل نصب حال من تاء الفاعل.

والكلام: {آذَنْتُكُمْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{فَقُلْ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، و (إنّ) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، أو هو في محل نصب مقول القول.

ص: 110

{إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110)}

الشرح: {إِنَّهُ} أي: الله. {يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ} أي: ما تجاهرون به من العداوة والطعن في الإسلام. {وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ} أي: ما تخفون من الإحن والأحقاد للمسلمين فيجازيكم على ذلك، هذا؛ و {يَعْلَمُ} من المعرفة لا اليقين انظر الآية رقم [39]. هذا؛ و «كتم» من باب نصر، وربما عدّي «كتم» إلى مفعولين، فيقال: كتمت زيدا الحديث، وتزاد «من» جوازا في المفعول الأول، فيقال: كتمت من زيد الحديث، وكتم الشيء: بالغ في كتمانه، واكتتم الشيء: اصفرّ. هذا؛ والكتم، والكتمان: نبت يخضب به الشعر، ويصنع منه مداد الكتابة، ورحم الله البوصيري إذ يقول:[البسيط]

فإنّ أمّارتي بالسّوء ما اتّعظت

من جهلها بنذير الشّيب والهرم

ولا أعدّت من الفعل الجميل قرى

ضيف ألمّ برأسي غير محتشم

لو كنت أعلم أنّي ما أوقّره

كتمت سرّا بدا لي منه بالكتم

الإعراب: {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {يَعْلَمُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ}. {الْجَهْرَ:} مفعول به. {مِنَ الْقَوْلِ:} متعلقان بمحذوف حال من الجهر، وجملة:{يَعْلَمُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول. {يَعْلَمُ:} مضارع، والفاعل تقديره:«هو» . {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: يعلم الذي، أو: شيئا تكتمونه في صدوركم، وجملة:

{يَعْلَمُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها.

{وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111)}

الشرح: معنى الآية: وما أدري لعل تأخير العذاب عنكم استدراج لكم، وزيادة في افتتانكم، واختباركم، وامتحان لكم؛ ليرى كيف تعملون، وكيف تصنعون، وهو أعلم بكم.

هذا؛ وذكر القرطبي: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه: أن بني أمية يلون الناس. فلا وجه له هنا ألبتة، ولم يقل به غيره. و {أَدْرِي} ماضيه درى بمعنى علم، فهو من أفعال اليقين، فينصب مفعولين كقول الشاعر:[الطويل]

دريت الوفيّ العهد، يا عمرو، فاغتبط

فإنّ اغتباطا بالوفاء حميد

وهو قليل؛ إذ الكثير المستعمل فيه أن يتعدى إلى واحد بالباء نحو دريت بكذا، فإن دخلت عليه همزة النقل تعدى إلى واحد بنفسه، وإلى واحد بالباء، نحو قوله تعالى:{قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما}

ص: 111

{تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ} قال شيخ الإسلام: ومحل ذلك إذا لم يدخل على الفعل استفهام، وإلا تعدى إلى ثلاثة مفاعيل، نحو قوله تعالى:{وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ} فالكاف مفعول به أول، والجملة الاسمية بعده سدت مسد المفعولين. انتهى.

والذي في: «الهمع» و «المغني» -قيل: وهو الأوجه-: أن الجملة الاسمية سدت مسد المفعول الثاني المتعدي إليه بالحرف، فتكون في محل نصب بإسقاط الجار، كما في:«ذكرت» أهذا صحيح أم لا؟ أي: فكرت بما ذكر. انتهى. جرجاوي، وينبغي أن تعلم: أن الفعل «أدري» هنا معلق عن العمل لفظا بوقوع «لعل» بعده، والكوفيون يجرون الترجي مجرى الاستفهام في التعليق، إلا أن النحويين لم يعدوا «لعل» من المعلقات. والحق مع الكوفيين، وهو ظاهر في هذه الآية، وفي قوله تعالى:{وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكّى} وقوله جل شأنه {وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السّاعَةَ قَرِيبٌ} .

فإن كان (درى) بمعنى: ختل، أي خدع كان متعديا إلى واحد بنفسه مثل: دريت الصيد، أي: ختلته، وخدعته. قال الأخطل التغلبي:[الطويل]

فإن كنت قد أقصدتني إذ رميتني

بسهمك فالرّامي يصيد ولا يدري

أي: يصيد، ولا يختل. ومثله قول الآخر:[الطويل]

فإن كنت لا أدري الظّباء فإنني

أدسّ لها تحت التّراب الدّواهيا

أي: لا أختل، وإن كانت بمعنى: حك، مثل درى رأسه بالمدرى، أي: حك رأسه بالمشط، فهي كذلك، وانظر شرح {حِينٍ} في الآية رقم [39].

(متاع): انتفاع، وتلذذ، وتمتّع، واستمتع بكذا: انتفع به، والمتعة: الانتفاع، والتلذذ بالشيء، وأمتعه الله، ومتّعه بكذا بمعنى واحد، ومتاع الغرور، أي ما يغر، ويخدع، ولا يغرّ إلا ضعفاء الإيمان، وذوي النفوس المريضة، وخاب الفسقة الذين يقولون: إن متاع الغرور المذكور في كثير من الآيات هو ما تحمله المرأة في أيام حيضها من خرق، فمن أين أتوا بهذا التفسير الذي لا يقره ذوق؛ فضلا عن عدم وجوده في كتب اللغة.

الإعراب: {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. (إن): نافية. {أَدْرِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {لَعَلَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {فِتْنَةٌ:} خبر (لعل). {لَكُمْ:} متعلقان ب: {فِتْنَةٌ} أو بمحذوف صفة لها.

(متاع): معطوف على {فِتْنَةٌ،} وقيل: هو خبر مبتدأ محذوف: التقدير: وهو متاع، وهذه الجملة مستأنفة لا محل لها. {إِلى حِينٍ:} متعلقان بمتاع أو بمحذوف صفة له، والجملة الاسمية:{لَعَلَّهُ..} . إلخ في محل نصب سدت مسد مفعول، أو مفعولي الفعل {أَدْرِي} والجملة الفعلية:{أَدْرِي..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، أو هي معطوفة على ما قبلها، فتكون في محل نصب مقول القول.

ص: 112

{قالَ رَبِّ اُحْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112)}

الشرح: {قالَ} أي: النبي صلى الله عليه وسلم، وقرئ:«(قل)» . {رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} أي: افصل بيني وبين من كذبني، أو المعنى: اقض بيننا، وبين أهل مكة بالعدل، أو بما يحق عليهم من العذاب، وشدّد عليهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء عليهم:«واشدد وطأتك على مضر» . هذا؛ ويقرأ: «(ربّ)» بضم الباء، و:{رَبِّ احْكُمْ:} على معنى أحكم الأمور بالحق. {وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ} أي: كثير الرحمة على خلقه. {الْمُسْتَعانُ:} المطلوب منه المعونة في كل وقت، وحين. {عَلى ما تَصِفُونَ} أي: من الشرك، والكفر، والكذب، والأباطيل. هذا؛ ويقرأ الفعل بالياء أيضا. هذا؛ وقيل: كانوا يصفون الحال على خلاف ما جرت عليه، وكانوا يطمعون، ويؤملون أن تكون الشوكة لهم، فكذب الله ظنونهم، وخيب آمالهم، ونصر نبيه، والمؤمنين، وخذلهم؛ أي: الكفار. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

تنبيه: ختم الله السورة الكريمة بأن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتفويض الأمر إليه، وتوقع الفرج من عنده، روى سعيد بن جبير عن قتادة قال: كانت الأنبياء تقول: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ} فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: {رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} فكان إذا لقي العدو يقول، وهو يعلم: أنه على الحق، وعدوه على الباطل:{رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} أي: اقض. انتهى. قرطبي بتصرف.

الإعراب: {قالَ:} ماض، وفاعله مستتر تقديره:«هو» ، أو (قل): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {رَبِّ:} منادى حذف منه حرف النداء. {اُحْكُمْ:} أمر، وفاعله: أنت.

{بِالْحَقِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما هذا؛ وعلى قراءة: «(ربي أحكم)» فهو مبتدأ وخبر، وعلى القراءتين فالكلام في محل نصب مقول القول، وجملة {قالَ..} . إلخ، أو (قل

) إلخ مستأنفة على القراءتين لا محل لها. {وَرَبُّنَا:} الواو: حرف استئناف. (ربنا): مبتدأ، و (نا): في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {الرَّحْمنُ:} خبر المبتدأ.

{الْمُسْتَعانُ:} صفة {الرَّحْمنُ} . {عَلى ما:} متعلقان بالمستعان؛ لأنه صيغة مفعول، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:{عَلى} والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: على الذي، أو:

على شيء تصفونه به. وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بمصدر في محل جر ب: {عَلى} التقدير: المستعان على وصفكم الله ما لا يليق به، والجملة الاسمية:{وَرَبُّنَا..} . إلخ مستأنفة وهي في محل نصب مقول القول. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

انتهت سورة (الأنبياء) بعونه تعالى تفسيرا، وإعرابا. والحمد لله رب العالمين.

ص: 113