الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة المؤمنون
وهي مكية بالإجماع، وهي مئة وثماني عشرة آية، وألف وثمانمئة وأربعون كلمة، وأربعة آلاف وثمانمئة حرف وحرفان. انتهى. خازن.
فعن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دويّ كدويّ النّحل، فأنزل الله عليه يوما، فمكث ساعة، ثم سري عنه، فقرأ:{*قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ..} . إلى عشر آيات من أولها، وقال: من أقام هذه العشر آيات دخل الجنة، ثم استقبل القبلة، ورفع يديه، وقال:«اللهم زدنا، ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا» . أخرجه الترمذي. انتهى. خازن، ومعنى «أقام هذه العشر آيات» أقام عليهن، ولم يخالف ما فيهن، كما تقول: فلان يقوم بعمله على الوجه الأكمل.
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرح: {قَدْ أَفْلَحَ:} فاز برضا الله، وجنة عرضها السموات والأرض، ونجا من عذاب الله، وسخطه. {الْمُؤْمِنُونَ:} الموحدون، وانظر الإيمان في الآية رقم [14] من سورة (الحج)، والتعبير بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه، وقد مر معنا كثير من ذلك، ولذا دخلت «قد» على الماضي، وقد تقربه من الحال كما عرفته في الإعراب كثيرا. {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ:} انظر شرح (الصلاة، والزكاة) في الآية رقم [31] من سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام.
أما «الخشوع» فهو لب الصلاة، وجوهرها، وقد قال ابن عباس-رضي الله عنهما-في تفسير {خاشِعُونَ:} مخبتون، أذلاء، متواضعون. هذا؛ والخشوع في الصلاة يكون في القلب والجوارح، أما خشوع القلب فهو الخوف من الله، وحضوره معه حينما يقول المصلي:{إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ} وملاحظة: أنه بين يديه تعالى في جميع حركاته، وسكناته. وأما خشوع الجوارح، فعدم الالتفات في الصلاة، وعدم رفع البصر إلى السماء، وعدم العبث بشيء من جسده وثيابه، وذلك لما يلي:
فعن عائشة-رضي الله عنها، وعن أبويها-قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة، فقال:«هو اختلاس يختلسه الشّيطان من صلاة العبد» . الاختلاس: هو السرقة، والاختطاف. متفق عليه. وعن أبي ذر-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا يزال الله مقبلا على العبد، وهو في صلاته، ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه» . أخرجه أبو داود، والنسائي. وعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم؟» . فاشتد قوله في ذلك حتى قال: «لينتهنّ عن ذلك، أو لتخطفنّ أبصارهم» .
أخرجه البخاري. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة، فقال:«لو خشع قلب هذا؛ لخشعت جوارحه» . ذكره البغوي بغير سند، وغير ذلك، وخذ قول الشاعر:[الطويل]
ألا في الصّلاة الخير والفضل أجمع
…
لأنّ بها الآراب لله تخضع
وأوّل فرض من شريعة ديننا
…
وآخر ما يبقى إذا الدّين يرفع
فمن قام للتكبير لاقته رحمة
…
وكان كعبد باب مولاه يقرع
وصار لربّ العرش حين صلاته
…
نجيّا فيا طوباه لو كان يخشع
الآراب: جمع: الإرب بكسر فسكون، وهو العضو، وقال آخر:[الطويل]
تصلّي بلا قلب صلاة بمثلها
…
يكون الفتى مستوجبا للعقوبة
تظلّ وقد أتممتها غير عالم
…
تزيد احتياطا ركعة بعد ركعة
فويلك تدري من تناجيه معرضا
…
وبين يدي من تنحني غير مخبت؟
تخاطبه إيّاك نعبد مقبلا
…
على غيره فيها لغير ضرورة
ولو ردّ من ناجاك للغير طرفه
…
تميّزت من غيظ عليه وغيرة
أما تستحي من مالك الملك أن يرى
…
صدودك عنه يا قليل المروءة
إلهي اهدنا فيمن هديت وخذ بنا
…
إلى الحقّ نهجا في سواء الطريقة
{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ:} قيل المراد باللغو هنا: الشرك، وهو غير واضح؛ لأن الأفعال التي وصف الله بها المؤمنين كلها مأمور بها المؤمنون، والأولى تفسيره بكل باطل، ولهو، وما لا يجمل من القول، والفعل. وقد وصف الله عباده في سورة (الفرقان) بقوله:{وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} قال البيضاوي هناك: واللغو ما يجب أن يلغى ويطرح، و {كِراماً} معرضين عنه، مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه، والخوض فيه، وقال عن قوم مؤمنين في سورة (القصص):{وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ..} . إلخ {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ} أي: الزكاة
الواجبة مؤدون، فعبر عن التأدية بالفعل؛ لأنها فعل، وهي فصيحة، وقد جاءت في كلام العرب، قال أمية بن أبي الصلت:[الخفيف]
المطعمون الطعام في السّنة الأز
…
مة والفاعلون للزّكوات
الإعراب: {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَفْلَحَ:} ماض. {الْمُؤْمِنُونَ:}
فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع صفة {الْمُؤْمِنُونَ} أو بدل، أو هو في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هم الذين، أو هو في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، التقدير: أعني الذين، أو هو مبتدأ خبره الجملة الاسمية:
{أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ} . {هُمُ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {فِي صَلاتِهِمْ:} متعلقان بما بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {خاشِعُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع
…
إلخ، والجملة الاسمية:{هُمْ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها، {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ:} معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله بلا فارق، وأيضا:{وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ..} .
إلخ معطوف أيضا. هذا؛ وقال السمين: اللام في {لِلزَّكاةِ} زائدة، و (الزكاة) مفعول به مقدم لما بعده، وزيدت اللام في المفعول لتقدمه على عامله، ولكونه فرعا في العمل، وعليه فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. هذا؛ وفي كلّ من {خاشِعُونَ} و {مُعْرِضُونَ} و {فاعِلُونَ} ضمير مستتر هو فاعله؛ لأنه جمع: اسم فاعل. هذا؛ وزيادة اللام في {لِلزَّكاةِ} على قول السمين مثل قول ابن هشام بزيادتها في قوله تعالى: {فَعّالٌ لِما يُرِيدُ} و {مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ} ونحو ذلك، وسماها ابن هشام لام التقوية.
الشرح: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ:} جمع: فرج، وهو اسم لسوأة الرجل، والمرأة، وحفظه:
التعفف عن الحرام، وعن كل ما لا يحل من زنى، ولواط، واستمناء باليد، ومتعة.
أما الزنى فإني قد استوفيت الكلام عليه في الآية رقم [32] من سورة (الإسراء)، وأستدرك هنا، فأقول: إنه قد فشا في هذه الأيام زنى بشرف، وفخر، وترضى به المرأة، وهي مرفوعة الرأس، ويقره زوجها، وهو شامخ الأنف، ذلك هو تلقيح المرأة من مادة رجل أجنبي غير زوجها، الذي ثبت عقمه، فهو يقر الدياثة بنفسه ما دام يأخذها بيده إلى طبيب قذر، لا يعرف للمروءة سبيلا، ولا للشهامة طريقا، ويكون شريكا للرجل في الدياثة، والحرمان من جنة النعيم،
فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة حرّم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاقّ لوالديه، والدّيّوث، الّذي يقرّ في أهله الخبث» . رواه الإمام أحمد والنسائي عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما.
وأما اللواط؛ فإنه عمل قوم لوط، كما رأيت في سورة (الأعراف) وسورة (هود) و (الحجر) وغير ذلك، وهو كبيرة من الكبائر التي تستوجب غضب الله في الدنيا، وعقابه في الآخرة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد شدّد النكير على من اقترف هذه الجريمة، أو يقترفها، وإليك نبذة من أحاديثه الشريفة في ذلك.
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله سبعة من خلقه من فوق سبع سمواته، وردّد اللعنة على واحد منهم ثلاثا، ولعن كلّ واحد منهم لعنة تكفيه، قال: ملعون من عمل عمل قوم لوط، ملعون من عمل عمل قوم لوط، ملعون من عمل عمل قوم لوط، ملعون من ذبح لغير الله، ملعون من أتى شيئا من البهائم، ملعون من عقّ والديه، ملعون من جمع بين امرأة وابنتها، ملعون من غيّر حدود الأرض، ملعون من ادّعى إلى غير مواليه» . رواه الطبراني في الأوسط.
وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من وجدتّموه يعمل عمل قوم لوط؛ فاقتلوا الفاعل والمفعول به» . رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه.
أقول: المفعول به يقتل إذا كان مطاوعا، وباختياره، أما إذا كان مكرها؛ فلا إثم عليه، ولا قتل له، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم حرم هذه الجريمة حتى عمل الرجل مع امرأته، فعن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنه-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«هي اللّوطيّة الصّغرى» . يعني الرجل يأتي امرأته في دبرها. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى حائضا، أو امرأة في دبرها، أو كاهنا، فصدّقه كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» . رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وأبو داود، وهذا محمول على المستحل.
وأما الاستمناء باليد، ويطلق عليه في هذه الأيام اسم العادة السرية، فقد قال محمد بن عبد الحكم: سمعت حرملة بن عبد العزيز قال: سألت مالكا عن الرجل يجلد عميرة، فتلا هذه الآية:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ} إلى قوله: {العادُونَ} وهذا؛ لأنهم يكنون عن الذكر بعميرة، وفيه يقول الشاعر:[البسيط]
إذا حللت بواد لا أنيس به
…
فاجلد عميرة، لا داء ولا حرج
فقد أجمع العلماء على تحريمه، وقال بعضهم: إنه كالفاعل بنفسه، وهي معصية أحدثها إبليس حين نزل إلى الأرض، وأجراها بين الناس، وكان الإمام أحمد بن حنبل-رضي الله عنه على ورعه يجوّزه؛ لأنه فضلة في البدن يجوز إخراجها لحاجة، كالفصد، والحجامة؛ ولكن
بشروط ثلاثة: أن يخاف الزنى، وأن يفقد مهر حرة، أو ثمن أمة، وأن يفعله بيده، وبالجملة:
فإن فعله حرام، ومضر بالصحة كما ثبت طبيا، ولو قام الدليل على جوازه؛ لكان ذو المروءة يعرض عنه لدناءته، ومع هذا فالدليل ضعيف، وهو عار بالرجل الدنيء، فكيف بالرجل الشريف؟ وسئل عطاء عنه، فقال: مكروه، سمعت أن قوما يحشرون، وأيديهم حبالى، فأظن أنهم هؤلاء. وقال سعيد بن جبير-رحمه الله تعالى-: عذّب الله أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم.
وأما المتعة؛ فهي عقد مؤقت يعقده الرجل على امرأة يحل له زواجها شرعا بأجر معين مقبوض، فإذا انتهت المدة المتعاقد عليها تخلص منه بدون طلاق؛ لأنها كالمستأجرة. وقد كان للمتعة في التحليل، والتحريم أحوال، فمن ذلك: أنها كانت مباحة، ثم حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن خيبر، ثم حللها في غزوة فتح مكة، ثم حرمها بعد ذلك تحريما أبديّا. ويقال: إن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما-كان يقول بتحليلها، ثم رجع إلى التحريم حينما بلغه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وتأكد من صحتها، ويروى أن المأمون العباسي أباحها للمجاهدين، وهم بعيدون عن أهليهم، فدخل عليه العالم الجليل يحيى بن أكثم، وهو يرتعد غضبا، فقال المأمون: ما للإمام يشتاط غضبا؟ فقال الإمام العظيم: كيف لا؛ وقد انتهكت حرمات الله، وأحلّ ما حرّم الله، ورسوله؟ قال المأمون: ومن فعل ذلك؟ فقال: أمير المؤمنين فعل ذلك. قال: وكيف كان ذلك؟ قال: ألم تحل المتعة؛ وقد حرمها الله ورسوله إلى يوم القيامة؟ قال: أليست تحل بعقد شرعي، ومهر، ورضا، واختيار مع رشد، وعقل؟! قال: يا أمير المؤمنين! فالله يقول: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} أهي زوجة ترث وتورث؟ قال: لا! قال: أيلحق الولد المتمتع إذا كان بعيدا عن البلد المتمتع بها؟ قال: لا! قال: أيلحقها ولدها التي أتت به من المتعة؟ قال: لا! قال: أهي أمة في ملك اليمين؟ قال: لا! قال: فإذا هي محرمة إذا كانت ليست زوجة بالمعنى الصحيح، ولا أمة بملك. فرجع المأمون عن تحليلها، واستغفر الله.
وأخيرا أقول: تأباها المروءة والشرف، فأي رجل فيه شيء من ذلك، ثم هو يرضى بأن يسلم أخته، أو ابنته لشخص أياما معدودة، ثم هو يردها له، وقد تكون حملت منه بولد، ثم ما مصير هذا الولد؟ هل هو لقيط، أو ابن زنى، أو هو ولد شرعي؟ فيجب أن يرث من والده، وينتسب إليه، وهل يتأتى هذا في نكاح المتعة؟.
تنبيه: قد تحرم الزوجة، أي: إتيانها لعارض حيض، أو نفاس، وقد صرحت به آية البقرة رقم [221] هذا؛ و {أَزْواجِهِمْ} جمع: زوج، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [90] من سورة (الأنبياء). هذا؛ وإجراء (ما) وهي لغير العاقل على الإماء، وهن عاقلات؛ لأنهن ناقصات عقل، ولأنهن يبعن، ويشترين كالبهائم، كما أطلقت على النساء الحرائر في قوله تعالى:{فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ} للسبب الأول فقط.
{فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} أي: على إتيان أزواجهم وإمائهم إذا كان الإتيان على وجه أذن فيه الشرع، دون الإتيان في الدبر، وفي حال الحيض، والنفاس، فإنه محظور، فلا يجوز، ومن فعله؛ فإنه ملوم. {فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ} أي: التمس، وطلب سوى الأزواج، والإماء، وهن الجواري المملوكة. {فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ} أي: المتجاوزون الحد من الحلال إلى الحرام، وذلك مما يوجب الحد على الزاني، واللائط، والتعزير على إتيان البهيمة، وإتيان المرأة في دبرها، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَالَّذِينَ هُمْ..} . إلخ: إعرابه مثل إعراب سابقه، ويقال في اللام الجارة لفروجهم ما قيل في اللام الجارة في:{لِلزَّكاةِ} في الآية السابقة؛ لأن {فاعِلُونَ} و {حافِظُونَ} كلاهما مأخوذ من فعل متعد لواحد. {إِلاّ:} حرف حصر. {عَلى أَزْواجِهِمْ:} في تعليقهما أوجه:
أحدها: أنهما متعلقان ب: {حافِظُونَ} على تضمينه معنى: ممسكين، أو قاصرين. الثاني: أنهما متعلقان بمحذوف حال مستثنى من عموم الأحوال، التقدير: حافظون فروجهم في كل حال؛ إلا في حال إتيان أزواجهم، أو إمائهم. الثالث: أنهما متعلقان بمحذوف يدل عليه {غَيْرُ مَلُومِينَ} وكأنه قيل: يلامون إلا على أزواجهم. والهاء في محل جر بالإضافة. {أَوْ:} حرف عطف. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر معطوف على {أَزْواجِهِمْ} .
{مَلَكَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث. {أَيْمانُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف، التقدير: أو الذي ملكته أيمانهم. {فَإِنَّهُمْ:} الفاء:
حرف تعليل. (إنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {غَيْرُ:} خبرها، و (غير) مضاف، و {مَلُومِينَ} مضاف إليه مجرور
…
إلخ، والجملة الاسمية:(إنهم غير ملومين) تعليل لنفي الحرج، والمؤاخذة، وهو ما تضمنه الاستثناء.
{فَمَنِ:} الفاء: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {اِبْتَغى:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {وَراءَ:} مفعول به على تفسيره ب: «سوى» ، وظرف مكان متعلق بما قبله على تفسيره ب «بعد» ونحوه، وقال الزجاج: التقدير: فمن ابتغى ما بعد ذلك، وعليه فالمفعول محذوف، و {وَراءَ} متعلق بمحذوف صلة المفعول المحذوف المقدر ب: ما، و {وَراءَ} مضاف، و {ذلِكَ} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل لها. {فَأُولئِكَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط، (أولئك): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب. {هُمْ:} ضمير فصل لا محل له من الإعراب.
{العادُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع
…
إلخ. هذا؛ ويجوز اعتبار {هُمْ} مبتدأ ثانيا و {العادُونَ} خبره، والجملة الاسمية هذه في محل رفع خبر المبتدأ الأول، وعلى الوجهين فالجملة الاسمية: (أولئك هم
…
) إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها، وخبر
المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: جملة الشرط، وقيل: جملة الجواب، وقيل: الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين. هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا فهي مبتدأ، والجملة الفعلية بعده صلته، وخبره الجملة الاسمية: (أولئك
…
) إلخ، وزيدت الفاء في خبره؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم. تأمل، وتدبر، والله أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ:} الأمانات تشمل الودائع التي يضعها أصحابها عند غيرهم، وتشمل جميع التكاليف الإلهية التي كلف الله بها عباده المؤمنين، وتشمل جميع جوارح الإنسان من عين، وأذن، ويد
…
إلخ، وتشمل جميع المعاملات من بيع، وشراء
…
إلخ، وتشمل جميع النعم التي أنعم الله بها على العبد من ولد، وزوجة
…
إلخ. والعهد يشمل جميع الوعود التي يقطعها العبد على نفسه لغيره من الناس، ويشمل جميع العقود التي يعقدها العبد مع غيره، مثل عقد النكاح، ونحوه، وأيضا الصنائع، والأسرار وغير ذلك، ولقد أحسن القرطبي- رحمه الله تعالى-إذ قال: والأمانة، والعهد يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه، ودنياه قولا، وفعلا. ومعنى {راعُونَ} قائمون بحفظها، ورعايتها. وأصله: راعيون، فحذفت الضمة التي على الياء لا ستثقالها، ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنة مع الواو التي هي علامة الجمع، وهذا في الجمع، كما تحذف من المفرد لا لتقائها ساكنة مع التنوين. انظر الآية رقم [33] من سورة (لقمان).
هذا؛ ويقرأ: «(لأمانتهم)» بالإفراد، وقراءة حفص بالجمع، قال مكي بن أبي طالب القيسي: أمانة:
مصدر، وحق المصادر أن لا تجمع؛ لأنها كالفعل يدل على القليل، والكثير من جنسه، ولكنه لما اختلفت أنواع الأمانة لوقوعها على الصلاة، والزكاة، والتطهر، والحج، وغير ذلك من العبادات جاز جمعها؛ لأنها لما اختلفت أنواعها شابهت المفعول به، فجمعت كما يجمع المفعول به.
{وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ} أي: على أدائها في أوقاتها الأوائل، وعلى إتمام ركوعها، وسجودها، وطهارتها، وكل شروطها، وأركانها، وسننها، وليس ذلك تكرارا لما وصفهم به أولا، فإن الخشوع في الصلاة غير المحافظة عليها، وفي تصدير الأوصاف المذكورة، وختمها بأمر الصلاة تعظيم لشأنها، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [31 و 59] من سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام.
{أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ:} الجامعون لهذه الصفات هم الأحقاء، والجديرون بأن يسموا ورّاثا دون غيرهم. {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ:} بيان لما يرثونه، وتقييد للوراثة بعد إطلاقها تفخيما لها، وتأكيدا، وهي مستعارة لا ستحقاقهم الفردوس من أعمالهم، وإن كان بمقتضى وعده مبالغة
فيه، وقيل: إنهم يرثون من الكفار منازلهم فيها؛ حيث فوتوها على أنفسهم؛ لأنه تعالى جعل لكل إنسان منزلا في الجنة، ومنزلا في النار.
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تعالى جعل لكلّ إنسان مسكنا في الجنّة، ومسكنا في النار، فأمّا المؤمنون فيأخذون منازلهم، ويرثون منازل الكفّار، ويجعل الكفّار في منازلهم في النار» . خرجه ابن ماجه بمعناه. {هُمْ فِيها خالِدُونَ} أي: لا يخرجون منها، ولا يموتون، وأنث الضمير؛ لأنه اسم من أسماء الجنة، أو المراد طبقتها العليا، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [107] من سورة (الكهف) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
خاتمة: قال ابن العربي-رحمه الله تعالى-من غريب القرآن: إن هذه الآيات العشر عامة في الرجال، والنساء كسائر ألفاظ القرآن التي هي محتملة لهم، فإنها عامة فيهم، إلا قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ} فإنما خاطب بها الرجال خاصة دون الزوجات بدليل قوله تعالى:
{إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} وإنما عرف حفظ المرأة فرجها من أدلة أخر كآيات الإحصان عموما، وخصوصا، وغير ذلك من الأدلة
أقول: وهذا شيء نوهت عنه كثيرا وذكرت: أن المدح، والثناء، والذم، والترغيب، والترهيب بلفظ المذكر يدخل تحته النساء إلحاقا؛ إذ ما من شك: أن في النساء متقيات، ومؤمنات، وصالحات، وخبيثات، وفاسقات
…
إلخ، والتعبير بلفظ المذكر هو من باب تغليب المذكر على المؤنث، خذ قوله تعالى في آخر سورة (التحريم) في مدح مريم:{وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ} .
الإعراب: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ:} معطوف هذا الكلام على قوله تعالى:
{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ} وهو مثله في إعرابه بلا فارق بينهما، والهاء فيهما في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله، وكذلك ما بعده معطوف عليه، وإعرابه مثل السابق.
{أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ} إعراب هذه الجملة مثل إعراب: {فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ} بلا فارق بينهما، والجملة الاسمية هنا مستأنفة، لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة في الموصول الأول في قوله تعالى:{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ} ما عدا الوجه الأخير. وهو اعتباره مبتدأ، فتكون هذه الجملة في محل رفع خبره. {الَّذِينَ:} هو مثل {الَّذِينَ} في الآية رقم [2] بلا فارق، وجملة:
{يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} صلة الموصول، لا محل لها. {هُمُ:} مبتدأ. {فِيها:} متعلقان بما بعدهما.
{خالِدُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الاسمية:{هُمْ فِيها خالِدُونَ} مستأنفة على جميع الوجوه التي تعتبر في الموصول، ما عدا اعتباره مبتدأ. فتكون هذه الجملة في محل رفع خبره، وقال أبو البقاء: الجملة حال مقدرة، إما من الفاعل، أو من المفعول، وهذا يكون على الوجوه الأولى في الموصول، وانظر أنواع الحال في الآية رقم [76] من سورة (الفرقان).
الشرح: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ:} المراد به آدم عليه السلام. {مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ:}
السلالة: الخلاصة؛ لأنها تسل من بين الكدر، وقيل: إنما سمي التراب الذي خلق منه آدم سلالة؛ لأنه سل من كل تربة، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [26] من سورة (الحجر)، تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. وقيل: المراد ابن آدم. قاله ابن عباس، وغيره؛ وعلى هذا فالسلالة صفوة الماء، يعني: المني، فالنطفة سلالة، والولد سليل، وسلالة، عنى به الماء يسل من الظهر سلا، قال حسان بن ثابت-رضي الله عنه:[الطويل]
فجاءت به عضب الأديم غضنفرا
…
سلالة فرج كان غير حصين
وقالت هند بنت النعمان في مدح نفسها، وذم الحجاج الذي تزوجها في قصة مشهورة مسطورة في كتب الأدب:[الطويل]
وما هند إلاّ مهرة عربيّة
…
سليلة أفراس تجلّلها بغل
فإن ولدت مهرا فلله درّها
…
وإن ولدت نغلا فجاء به البغل
ومعنى {مِنْ طِينٍ} أي: إن الأصل آدم، وهو من طين. قال القرطبي-رحمه الله تعالى-:
أي: من طين خالص، فأما ولده؛ فهو من طين، ومني: وانظر ما ذكرته في الآية رقم [5] من سورة (الحج).
{ثُمَّ جَعَلْناهُ} أي: نسله، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه؛ لأن آدم-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-لم يصر نطفة، فهو كقوله تعالى:{وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ} من سورة (السجدة) رقم [7 و 8]. {فِي قَرارٍ مَكِينٍ} أي: حريز، وهو الرحم، سمي مكينا لاستقرار النطفة فيه إلى وقت الولادة.
الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم، وجر، والمقسم به محذوف، التقدير، والله، والجار، والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {خَلَقْنَا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب القسم المقدر.
{الْإِنْسانَ:} مفعول به. {مِنْ سُلالَةٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {الْإِنْسانَ}. {مِنْ طِينٍ:} متعلقان ب: {سُلالَةٍ} على تأويلها ب: «مسلومة» ، أو بمحذوف صفة لها. {ثُمَّ:} حرف عطف. {جَعَلْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به. {نُطْفَةً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {فِي قَرارٍ:} متعلقان بمحذوف صفة {نُطْفَةً} . {مَكِينٍ:} صفة قرار.
الشرح: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً:} هذا هو الطور الرابع الذي لم يذكر في آية الحج رقم [5] حيث تتحول المضغة بعد تمام أربعة أشهر، ونفخ الروح في الجنين إلى عظام لينة غضروفية مكسوة باللحم. {ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ:} اختلف في تفسير هذا الخلق اختلافا كثيرا، وفي الحقيقة هو يشمل كل تصرفات الإنسان من النطق، والإدراك، وحسن المحاولة، وتحصيل المعقولات إلى أن يموت. هذا؛ والفعل (خلق) هنا بمعنى: صير، فلذا نصب مفعولين صريحين، فإن كان بمعنى: اخترع، وأحدث؛ تعدّى إلى مفعول واحد، وهو كثير. هذا؛ والفعل «جعل» ينصب مفعولين أيضا إذا كان من أفعال التصيير، فإن كان بمعنى: خلق؛ تعدى إلى واحد فقط، نحو قوله تعالى:{وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ} أي: وخلق الظلمات، والنور.
{فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ:} يروى: أن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-لما سمع صدر الآية إلى قوله: {خَلْقاً آخَرَ} قال: فتبارك الله أحسن الخالقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هكذا أنزلت» . وقيل: إن قائل ذلك معاذ بن جبل، رضي الله عنه. وقيل: إن عبد الله بن أبي سرح كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فنطق بذلك قبل إملائه عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب هكذا نزلت». فقال عبد الله: إن كان محمد نبيا يوحى إليه؛ فأنا نبي يوحى إلي، فارتد، ولحق بمكة، ثم أسلم يوم الفتح، وفي إسلامه دخن، ودغل. انظر ما ذكرته بشأنه، وشأن غيره في الآية رقم [93] من سورة (الأنعام)، وقيل: هذه الحكاية غير صحيحة؛ لأن ارتداده كان في المدينة، وهذه السورة مكية كما رأيت في مقدمتها.
هذا؛ ومعنى (تبارك) تقدس، وتعظم، وتعالى، وتنزه، وهو ملازم للماضي، لا يأتي منه مضارع، ولا أمر. وانظر الآية رقم [1] من سورة (الفرقان)، ومعنى {أَحْسَنُ الْخالِقِينَ} أحسن المصورين، والمقدرين. قال الخازن-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: كيف الجمع بين هذه الآية، وبين قوله تعالى:{اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وقوله: {هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ} قلت: الخلق له معان، منها: الإيجاد، والإبداع، ولا موجد، ولا مبدع إلا الله تعالى، ومنها: التقدير، قال زهير بن أبي سلمى من قصيدة يمدح بها هرم بن سنان المري:[الكامل]
ولأنت تفري ما خلقت وبع
…
ض القوم يخلق ثمّ لا يفري
معناه: أنت تقدر الأمور، وتقطعها، وغيرك لا يفعل ذلك. فعلى هذا يكون معنى الآية: الله أحسن المقدرين. وجواب آخر، وهو: أن عيسى-عليه الصلاة، والسّلام-خلق طيرا، وسمى نفسه خالقا بقوله تعالى:{أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} فقال: {فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ} .
مسألة، بل فائدة من هذه الآية: قال ابن عباس-رضي الله عنهما-لعمر-رضي الله عنه-حين سأل مشيخة الصحابة-رضوان الله عليهم أجمعين-عن ليلة القدر، فقالوا: الله أعلم، فقال عمر: ما تقول يا بن عباس؟ فقال: يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى خلق السموات سبعا، والأرضين سبعا، وخلق ابن آدم من سبع، وجعل رزقه في سبع، فأراها في ليلة سبع وعشرين، فقال عمر-رضي الله عنه: أعجزتم أن تقولوا كما قال هذا الغلام الذي لم تجتمع شؤون رأسه؟! وهذا الحديث بطوله في مسند ابن أبي شيبة. فأراد ابن عباس-رضي الله عنهما: خلق ابن دم من سبع بهذه الآية، وبقوله:
(وجعل رزقه في سبع) قوله تعالى: {فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا} آية رقم [27] وما بعدها من سورة (عبس) السبع الأولى منها لا بن آدم، والأب للأنعام، والقضب يأكله ابن آدم، ويسمن منه النساء. هذا قول. وقيل:
القضب: البقول؛ لأنها تقضب، فهي رزق ابن آدم. انتهى. قرطبي بتصرف.
هذا؛ وأحفظ لا بن عباس-رضي الله عنهما-استدلالا آخر لليلة القدر؛ حيث عد كلمات سورة (القدر) فكانت ثلاثين كلمة بعدد أيام رمضان، ولياليه، ثم عدد كلماتها ثانية، فكانت لفظة الضمير (هي) السابعة والعشرين، فقال: هنا ليلة القدر؛ أي: في الليلة السابعة والعشرين، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {خَلَقْنَا:} فعل، وفاعل، و {خَلَقْنَا} بمعنى: صيرنا، ولذا نصب مفعولين، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا..} . إلخ لا محل لها مثلها، والجمل بعدها كلها معطوفة عليها، والأفعال كلها نصبت مفعولين. {آخَرَ:} صفة خلقا.
(تبارك): ماض. {اللهُ:} فاعله. {أَحْسَنُ:} بدل، أو خبر لمبتدأ محذوف، وليس بصفة؛ لأنه نكرة، وإن أضيف؛ لأن المضاف إليه عوض من «من» وعليه فالجملة الاسمية المقدرة:«هو أحسن الخالقين» في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الضمير المقدر مبتدأ، و {أَحْسَنُ:} مضاف، و {الْخالِقِينَ} مضاف إليه، وجملة (تبارك
…
) إلخ مستأنفة، لا محل لها.
خاتمة: قال الجمل: اختلاف العواطف بالفاء، وثم؛ لتفاوت الاستحالات، يعني: إن بعضها مستبعد حصوله مما قبله، وهو معطوف ب:{ثُمَّ} فجعل الاستبعاد عقلا، أو رتبة بمنزلة التراخي، والبعد الحسي
…
إلخ. هذا؛ وقال ابن هشام في مغنيه: فالفاآت في الآية بمعنى «ثم» لتراخي معطوفاتها، وهو جيد جدا.
الشرح: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ} أي: بعد الخلق المذكور في أطواره المختلفة.
{لَمَيِّتُونَ} أي: عند انقضاء آجالكم. {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ} أي: تخرجون من القبور وتحشرون للجزاء والحساب، والثواب، أو العقاب. هذا؛ وقد أكد الجملتين الاسميتين
ب: (إنّ) ولام الابتداء ليؤكد وقوع البعث، وما يتبعه، وما يتعلق به، وهو ما ينكره الجاحدون، والملحدون؛ أما الموت؛ فلا ينكره أحد أبدا؛ لأنه مشاهد لكل إنسان.
{وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ} سبع سموات، سميت بذلك؛ لأنّ بعضها فوق بعض، والعرب تسمي كل شيء فوق شيء: طريقة، وقيل: سميت بذلك؛ لأنها طرق الملائكة في الصعود، والهبوط، وقيل:؛ لأن الكواكب تطرقها، أي: تسير فيها. {وَما كُنّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ:}
الخلق بمعنى المخلوق، والمراد به: السموات، أو جميع المخلوقات، وهو أولى، ومعنى {غافِلِينَ} مهملين أمرها، بل نحفظها من الاختلال، والزوال، وندبر أمرها حتى تبلغ منتهى ما قدر لها من الكمال حسبما اقتضته الحكمة، وتعلقت به المشيئة. وقيل: المعنى: ما تركناهم سدى بغير أمر ونهي. وقيل: المعنى: ما كنا غافلين عن أعمالهم، وأقوالهم، وسائر تصرفاتهم، بل هي مسجلة عندنا، ومحفوظة لدينا حتى نحاسبهم عليها يوم يرجعون إلينا.
أما (الموت): فهو انتهاء الحياة بخمود حرارة البدن، وبطلان حركته. وموت القلب: قسوته فلا يتأثر بالمواعظ، ولا ينتفع بالنصائح، وأما الميت، والميتة بفتح الميم وسكون الياء فيهما فهو من فارقت روحه جسده، وجمعه: أموات، وأما المشدد؛ فهو الحي الذي سيموت، وعليه قوله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وجمعه: موتى، قال الإمام علي، كرم الله وجهه:[البسيط]
ففز بعلم، ولا تجهل به أبدا
…
فالنّاس موتى وأهل العلم أحياء
هذا؛ وقد قال بعض الأدباء في الفرق بين المشدد، والمخفف:[الطويل]
أيا سائلي تفسير ميت وميّت
…
فدونك قد فسّرت ما عنه تسأل
فمن كان ذا روح فذلك ميّت
…
وما الميت إلاّ من إلى القبر يحمل
هذا هو الأصل الغالب في الاستعمال وقد يتعاوضان كما في قول ابن الرعلاء الغساني: [الخفيف]
ليس من مات فاستراح بميت
…
إنّما الميت ميّت الأحياء
إنّما الميت من يعيش كئيبا
…
كاسفا باله، قليل الرّجاء
أقول: ومن هذا ما في الآية رقم [27] من سورة (آل عمران) وما في الآية رقم [95] من سورة (الأنعام) حيث استعمل المشدد فيهما لفاقد الحياة، والروح، كما هو واضح فيهما. هذا؛ ولا تنس: أن أصل «ميّت» المشدد: (ميوت)؛ لأنه من مات يموت، فقل في إعلاله: اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، وقل مثله في إعلال سيّد وهيّن، وليّن وصيّب، ونحو ذلك، وقال الشاعر في تخفيف: هين، ولين:[البسيط]
هينون لينون أيسار بنو يسر
…
سوّاس مكرمة أبناء أيسار
الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {إِنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه. {بَعْدَ:}
ظرف زمان متعلق ب (ميتون) بعده، و {بَعْدَ} مضاف، و {ذلِكَ} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لَمَيِّتُونَ:} اللام: هي المزحلقة. (ميتون): خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الاسمية:
{إِنَّكُمْ..} . إلخ معطوفة على الجمل الفعلية السابقة لا محل لها مثلهن. {إِنَّكُمْ:} مثل سابقه.
{يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل بعده، و {يَوْمَ} مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه.
{تُبْعَثُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّكُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها أيضا. {وَلَقَدْ خَلَقْنا} انظر الآية رقم [12] فالإعراب لا يتغير، وهذا الكلام معطوف عليه لا محل له مثله. {فَوْقَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بما قبله. والكاف في محل جر بالإضافة.
{سَبْعَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {طَرائِقَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف لصيغة منتهى الجموع، وهي علة تقوم مقام علتين من موانع الصرف. {وَما:} الواو: واو الحال. (ما): نافية {كُنّا:} ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمها. {عَنِ الْخَلْقِ:} متعلقان بما بعدهما. {غافِلِينَ:} خبر (كان) منصوب
…
إلخ، وجملة:{كُنّا..} . إلخ في محل نصب حال من (نا)، والرابط: الواو، والضمير. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً:} انظر شرح (الماء) وإعلاله، وما قيل فيه في الآية رقم [30] من سورة (الأنبياء)، وشرح {السَّماءِ} وإعلاله في الآية رقم [32] منها. {بِقَدَرٍ} أي: على مقدار مصلح؛ لأنه لو كثر؛ أهلك، كما هو مشاهد في بعض الأحيان، كما قال تعالى في الآية رقم [21] من سورة (الحجر):{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} . {فَأَسْكَنّاهُ فِي الْأَرْضِ} أي: جعلناه مستقرا فيها مخزونا، قال تعالى في الآية رقم [22] من سورة (الحجر).
{وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ} ثم أخرجناه من الأرض ينابيع، كالعيون، والآبار، والأنهار، فكل ماء ينتفع به الإنسان، والحيوان أصله من السماء. {وَإِنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ} أي: على ذهاب الماء المختزن. وفيه تهديد، ووعيد، أي: إنا قادرون على إزالته بالإفساد، أو التصعيد، أو التعميق بحيث يتعذر استخراجه والاستفادة منه، فعند ذلك يهلك الناس، والحيوان، والنبات من شدة العطش. هذا؛ وقد قيل: إن ما في هذه الآية أبلغ من قوله تعالى في سورة (الملك) رقم [30]{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ} والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَأَنْزَلْنا:} الواو: حرف عطف. (أنزلنا): فعل، وفاعل. {مِنَ السَّماءِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من ماء، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» {السَّماءِ:} مفعول به. {بِقَدَرٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وأجيز تعليقهما بمحذوف صفة ماء، والجملة الفعلية:{وَأَنْزَلْنا..} . إلخ معطوفة على جواب القسم لا محل لها مثله. {فَأَسْكَنّاهُ:} فعل، وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجر المفعول به الثاني هنا على الأصل في مفعول:(سكن، ودخل، ونزل). {وَإِنّا:} الواو: واو الحال.
(إنا): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، وحذفت نونها، وبقيت ألفها. {عَلى ذَهابٍ:} متعلقان ب (قادرون). {بِهِ:} متعلقان بذهاب؛ لأنه مصدر. {لَقادِرُونَ:} خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، واللام هي المزحلقة، والجملة الاسمية: (إنا
…
) إلخ في محل نصب حال من (نا)، والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {فَأَنْشَأْنا لَكُمْ:} خلقنا وأوجدنا لكم. {بِهِ:} بالماء. {جَنّاتٍ:} بساتين. {مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ:} إنما أفردهما بالذكر لكثرة منافعهما، فإنهما يقومان مقام الطعام، والإدام في سنوات المحل، والجدب، وما أحراك أن تنظر ما ذكرته في الآية رقم [24] وما بعدها من سورة (إبراهيم) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. {لَكُمْ فِيها} أي: في الجنة.
{فَواكِهُ كَثِيرَةٌ} أي: غير النخيل، والأعناب، وذلك كالخوخ، والتفاح
…
إلخ. {وَمِنْها تَأْكُلُونَ} أي: ومن الجناب تأكلون تغذّيا، أو ترتزقون، وتحصلون معايشكم، من قولهم: فلان يأكل من حرفته، ويجوز أن يكون الضميران للنخيل، والأعناب؛ أي: لكم في ثمرتهما أنواع من الفواكه:
الرطب، والعنب، والتمر، والزبيب، والعصير، والدبس، وغير ذلك، وطعام تأكلونه وتتغذون به. وانظر قوله تعالى في الآية رقم [4] من سورة (الرعد):{يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
الإعراب: {فَأَنْشَأْنا:} الفاء: حرف عطف. (أنشأنا): فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {لَكُمْ بِهِ:} كلاهما متعلق بالفعل قبلهما. {جَنّاتٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {مِنْ نَخِيلٍ:} متعلقان بمحذوف صفة {جَنّاتٍ} . {وَأَعْنابٍ:} معطوف على {نَخِيلٍ} . {لَكُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فِيها:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. {فَواكِهُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب صفة ثانية لجنات، أو بمحذوف حال منه بعد وصفه بما تقدم. {كَثِيرَةٌ:} صفة {فَواكِهُ} . (منها):
متعلقان بما بعدهما. {تَأْكُلُونَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، على الوجهين المعتبرين فيها، هذا؛ وعلى اعتبار الضميرين عائدين على {نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ،} فالجملتان في محل جر صفة لهما.
{وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)}
الشرح: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ:} المراد بها: شجرة الزيتون، وأفردها بالذكر لعظيم منافعها في بلاد الشام، والحجاز، وغيرهما من البلاد، وقلة تعاهدها بالسقي، والحفر، وغير ذلك من المراعاة في سائر الأشجار، وخص طور سيناء بالزيتون؛ لأنه منه نشأ. وقيل: إن أول شجرة نبتت في الأرض بعد الطوفان هي شجرة الزيتون، وقيل: إنها تبقى في الأرض نحو ثلاثة آلاف سنة، والمراد بطور سيناء: الجبل الذي كلم الله عليه موسى على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وفي سورة والتين {وَطُورِ سِينِينَ} .
قال البيضاوي: ولا يخلو من أن يكون (الطور) اسما للجبل، و {سَيْناءَ} اسم بقعة أضيف إليها، أو المركب منهما علم له، كامرئ القيس، ومنعه من الصرف للتعريف، والعجمة، أو التأنيث على تأويل البقعة، وصحراء سيناء معروفة تعتبر من البلاد المصرية جغرافيا. وقال الخازن:
ومعناه: الجبل الملتف بالأشجار، وقيل: كل جبل فيه أشجار مثمرة، يسمى: سيناء، وسينين.
انتهى. أقول: وهو ضعيف جدا، والمعتمد الأول. هذا؛ وسيناء بفتح السين، والمد، من السناء، وهو: الرفعة، وعلو الشأن، ويقرأ بالفتح والقصر بمعنى: النور، ويقرأ بالكسر، والقصر.
{تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ:} يقرأ الفعل بفتح التاء، وضم الباء على أنه لازم، ويقرأ بضم التاء وكسر الباء على أن المفعول محذوف، أو الباء زائدة في المفعول، مثل قوله تعالى:{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} الآية رقم [195] من سورة (البقرة)، ومثل الآية قول الراعي النميري، أو القتال الكلابي:[البسيط]
هنّ الحرائر لا ربّات أخمرة
…
سود المحاجر، لا يقرأن بالسّور
وقيل: نبت، وأنبت بمعنى واحد، وهو مذهب الفراء، وأبي إسحاق، ومنه قول زهير بن أبي سلمى:[الطويل]
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم
…
قطينا بها حتّى إذا أنبت البقل
أي: نبت البقل. هذا؛ وفيه قراآت أخر، ويقرأ:«(بالدّهان)» ايضا. {وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ:}
ويقرأ: وصباغ، مثل: دبغ، ودباغ. هذا؛ ولشجرة الزيتون فوائد كثيرة، أهمها: أنها يؤتدم بزيتونها، ويدهن بزيتها، وهو علاج نافع لكثير من الأمراض، ولا سيما الأمراض العصبية،
والمعدية، فقد روى الترمذي-رحمه الله تعالى-من حديث عمر بن الخطاب-رضي الله عنه:
قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«كلوا الزّيت وادّهنوا به فإنّه من شجرة مباركة» .
وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: في الزيتونة منافع: يسرج بزيتها، أي يستضاء به، وهو إدام، ودهان، ودباغ، ووقود يوقد بحطبه، وتفله، وليس فيه شيء إلا وفيه منفعة حتى الرماد يغسل به الإبريسم، أي: الحرير بكسر الراء، والسين، وفتحهما لغتان، وهي أول شجرة نبتت في الدنيا، وأول شجرة نبتت بعد الطوفان، وتنبت في منازل الأنبياء، والأرض المقدسة، ودعا لها سبعون نبيا بالبركة، منهم إبراهيم، ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه قال:«اللهمّ بارك في الزّيت، والزّيتون» . قاله مرتين. انتهى. قرطبي من تفسير سورة (النور)، وانظر الآية رقم [35] من سورة (النور).
الإعراب: {وَشَجَرَةً:} معطوف على جنات، ويقرأ بالرفع على اعتباره مبتدأ خبره محذوف، التقدير: ومما أنشئ لكم به شجرة، أو: وهناك شجرة. {تَخْرُجُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (شجرة)، والجملة صفة (شجرة). {مِنْ طُورِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {طُورِ} مضاف، و {سَيْناءَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف، وانظر الشرح. {تَنْبُتُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (شجرة)، ومفعوله محذوف. {بِالدُّهْنِ:}
متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، وتقدير الكلام: تنبت جناها، أو ثمرها مصحوبا بالدهن، وانظر الشرح لأوجه القراآت، والجملة الفعلية في محل صفة ثانية ل:(شجرة)، أو في محل نصب حال منها بعد وصفها بما تقدم. (صبغ): معطوف على لفظ (الدهن)، وهو في المعنى مفعول به. {لِلْآكِلِينَ:} متعلقان ب: (صبغ)، أو بمحذوف صفة له.
الشرح: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً} أي: في خلق الأنعام، والتفكر فيها للدلالة على قدرة الله تعالى. هذا؛ وواحد {الْأَنْعامِ:} نعم، وهو يطلق على الإبل خاصة، فيكون الجمع من باب التغليب غلب الإبل على البقرة، والغنم. والأنعام تؤنث كما في هذه الآية، وكما في الآية رقم [5] من سورة (النحل) تبعا للمعنى، فإن الأنعام جمع كما رأيت، ولذلك عده سيبويه -رحمه الله تعالى-في المفردات المبنيّة على أفعال، كأخلاق، وكقولهم: ثوب أكياش. هذا؛ وذكّر في الآية رقم [66] من سورة (النحل) تبعا للفظ، انظر شرحها، فإنه جيد.
{وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ:} في ظهورها، وأصوافها، وأوبارها، وأشعارها. {وَمِنْها تَأْكُلُونَ} أي: من لحومها بعد ذبحها. {وَعَلَيْها} أي: على الأنعام، والمراد به: الإبل؛ لأنها هي التي يحمل عليها.
{وَعَلَى الْفُلْكِ} أي: السفن التي تجري في البحر. {تُحْمَلُونَ} أي: في أسفاركم، فالإبل للبر، والسفن للبحر.
هذا؛ وانظر شرح (الفلك) في الآية رقم [66] من سورة (الإسراء)، أما {نُسْقِيكُمْ} فهو من الرباعي:«أسقى» ، ويقرأ بفتح النون على أنه من الثلاثي:«سقى» ، وهما بمعنى واحد، تقول:
سقى الله هذه البلاد الغيث، وأسقاها الغيث، فيكون بالهمز تارة، وبدونه أخرى، وشاهد المهموز قوله تعالى:{وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً} وشاهد غير المهموز قوله تعالى: {وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً} ويحتملهما قوله تعالى: {وَسُقُوا ماءً حَمِيماً} وقوله تعالى: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ} وقد ورد في قول لبيد-رضي الله عنه-اللغتان جميعا: [الوافر]
سقى قومي بني مجد وأسقى
…
نميرا والقبائل من هلال
ولكنه حذف المفعول الثاني من كليهما، وفرق الأعلم بينهما، فقال: تقول: سقيتك ماء:
إذا ناولته إياه يشربه، وتقول: أسقيتك: إذا حصلت له سقيا.
تنبيه: جملة ما ذكره الله في الآيات المتقدمة من أول السورة إلى هنا من الدلائل على قدرته أربعة أنواع: الأول: الاستدلال بتقلب الإنسان في أطوار الخلقة، وهي تسعة آخرها:
{تُبْعَثُونَ} . النوع الثاني من الأدلة: خلق السموات، وأشار له بقوله:{وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ} . النوع الثالث: إنزال الماء، وأشار له بقوله:{وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً} . النوع الرابع:
الاستدلال بأحوال الحيوانات، وأشار له بقوله:{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ..} . إلخ. وأحوال الحيوان أربعة مذكورة في الآية. انتهى. جمل نقلا من الرازي.
الإعراب: {وَإِنَّ:} الواو: حرف استئناف. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {لَكُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فِي الْأَنْعامِ:} متعلقان بمحذوف خبر ثان، أو بالخبر المحذوف، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر فيه. {لَعِبْرَةً:} اللام: لام الابتداء. (عبرة): اسم (إنّ) مؤخر، والجملة الاسمية:{وَإِنَّ لَكُمْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {نُسْقِيكُمْ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والكاف مفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف صرحت به آية (النحل) المذكورة في الشرح. {مِمّا:} متعلقان بالفعل قبلهما. {فِي بُطُونِها:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، و (ها): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{نُسْقِيكُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من كاف الخطاب المجرورة محلا باللام، أو من الأنعام، والرابط: الضمير على الاعتبارين، أو هي مستأنفة، لا محل لها. {لَكُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فِيها:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. {مَنافِعُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية السابقة على جميع الاعتبارات فيها. {كَثِيرَةٌ:} صفة {مَنافِعُ} . (منها):
متعلقان بما بعدهما، وجملة:«تأكلون منها» معطوفة على ما قبلها أيضا. {وَعَلَيْها:} الواو: حرف عطف. (عليها): متعلقان بما بعدهما. (على الفلك): معطوفان على ما قبلهما، وهما متعلقان بالفعل بعدهما حكما. {تُحْمَلُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها أيضا.
الشرح: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ:} هذا شروع في خمس قصص: الأولى: قصة نوح، هذا أولها، والثانية: قصة هود، عليه السلام. وانظر تفصيل ذلك فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
هذا؛ وقد ذكرت قصة نوح-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وسلام في سورة (الأعراف)، وسورة (هود) مفصلة تفصيلا كافيا، وسأعود إلى تفصيلها ثانية في سورة (الشعراء) إن شاء الله تعالى. هذا؛ و (قوم) اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل: رهط، ومعشر، وهو يطلق على الرجال دون النساء بدليل قوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} وقال زهير بن أبي سلمى المزني: [الوافر]
وما أدري وسوف إخال أدري
…
أقوم آل حصن أم نساء؟
وربما دخل فيه النساء على سبيل التبع للرجال، كما في إرسال الرسل لأقوامهم؛ إذ إنّ كل لفظ «قوم» في القرآن الكريم، إنما يراد به الرجال، والنساء جميعا. هذا؛ ولفظ (قوم) يذكر، ويؤنث؛ قال تعالى في سورة (الشعراء) الآية رقم [105]:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ،} وانظر شرح (التقوى) في الآية رقم [1] من سورة (الحج)، ومعنى {تَتَّقُونَ} أفلا تخافون أن يزيل الله عنكم نعمه، فيهلككم، ويعذبكم بإعراضكم عن عبادته، وإقبالكم على عبادة غيره، وكفرانكم نعمه؛ التي لا تعد، ولا تحصى.
الإعراب: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً:} انظر إعراب مثل هذه الكلمات في الآية رقم [12] فهو مثله بلا فارق، والكلام مستأنف لا محل له. {إِلى قَوْمِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من نوحا، والهاء في محل جر بالإضافة. {فَقالَ:} الفاء: حرف عطف. (قال):
ماض، وفاعله يعود إلى (نوح). (يا): أداة نداء تنوب مناب «أدعو» . (قوم): منادى منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، المحذوفة للتخفيف، والياء المحذوفة في محل جر بالإضافة، وحذف الياء هذه إنما هو بالنداء خاصة؛ لأنه لا لبس فيه، ومنهم من يثبت الياء ساكنة، فيقول: يا قومي. ومنهم من يثبتها، ويحركها بالفتحة، فيقول: يا قومي. ومنهم من
يقلبها ألفا بعد فتح ما قبلها، فيقول: يا قوما. ومنهم من يحذف الياء بعد قلبها ألفا، وإبقاء الفتحة على الميم دليلا عليها، فيقول: يا قوم. ففيه خمس لغات ذكرها ابن مالك-رحمه الله تعالى-بقوله: [الرجز]
واجعل منادى صحّ إن يضف ل: «يا»
…
كعبد عبدي عبد عبدا عبديا
هذا؛ ويزاد سادسة، وهي البناء على الضم، والقطع عن الإضافة تشبيها له بالنكرة المقصودة، فيقول: يا قوم، والجملة الندائية في محل نصب مقول القول. {اُعْبُدُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهَ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {ما:} نافية. {لَكُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم.
{مِنْ:} حرف جر صلة. {إِلهٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {غَيْرُهُ:} يقرأ بالرفع صفة {إِلهٍ} على المحل، أو بدل منه. وبالجر صفة على اللفظ، وبالنصب على الاستثناء، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وفيها معنى التعليل للأمر بالعبادة، وقيل: مستأنفة، ولا وجه له، وجملة:{فَقالَ..} . إلخ معطوفة على جواب القسم لا محل لها مثله. {أَفَلا:} الهمزة: حرف استفهام. الفاء: حرف استئناف. أو حرف عطف. (لا): نافية. {تَتَّقُونَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والمفعول محذوف للتعميم، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة، أو هي مستأنفة، وتعود إلى أنها في محل نصب مقول القول.
الشرح: {فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ:} ف: {الْمَلَأُ} الأشراف، والسادة، ولا يقال لغيرهم؛ لأنهم يملؤون العيون بكبريائهم، وزينتهم، وما يحاطون به من هيبة، وعظمة، والملأ:
اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل: رهط، وقوم، ومعشر
…
إلخ، وانظر شرح {كَفَرُوا} في الآية رقم [30] من سورة (الأنبياء)، وقول الملأ المذكور إنما هو لعوامهم، وسفلتهم الذين يتبعونهم، خاطبوهم بالجملة التالية.
{ما هذا:} الإشارة إلى نوح عليه السلام. {بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أي: آدمي مثلكم يأكل كما تأكلون، ويشرب كما تشربون، وهو مثلكم في جميع الأمور، وانظر شرح (مثل) في الآية رقم [60] من سورة (الحج)، وشرح (بشر) في الآية رقم [34] من سورة (الأنبياء). وانظر ما ذكرته في الآية [48] الآتية. {يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أي: يحب الشرف، والرياسة بأن يكون سيدا متبوعا، وأنتم له تبع. {وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} أي: يبعث ملائكة، يكونون رسلا، وواسطة بينه وبين خلقه.
{ما سَمِعْنا بِهذا} أي: بالذي يدعونا إليه نوح. أو المعنى: ما سمعنا بنوح: أنه نبي مرسل إلينا، وهذا من فرط عنادهم، أو؛ لأنهم كانوا في فترة متطاولة لم يرسل الله فيها رسولا؛ لأن نوحا-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-كان أول رسول جاء برسالة بعد آدم، وشيث ابنه. {فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ:} أي في الأمم الماضية. قاله ابن عباس-رضي الله عنهما.
الإعراب: (قال الملأ): ماض، وفاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {الَّذِينَ:}
اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع صفة {الْمَلَأُ،} وجملة: {كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها. {مِنْ قَوْمِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، و (من) بيان لما أبهم في الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة. {ما:} نافية مهملة. {هذا:}
اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له من الإعراب.
{إِلاّ:} حرف حصر. {بَشَرٌ:} خبر المبتدأ. {مِثْلُكُمْ:} صفة له، ولم يتعرف بالإضافة؛ لأنه متوغل في الإبهام كما رأيت في شرحه، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{ما هذا..} . إلخ في محل نصب مقول القول. {يُرِيدُ:} مضارع، وفاعله يعود إلى {بَشَرٌ،} والمصدر المؤول من {أَنْ يَتَفَضَّلَ} في محل نصب مفعول به. {عَلَيْكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{يُرِيدُ أَنْ..} . إلخ في محل رفع صفة ثانية ل: {بَشَرٌ،} أو هي في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم. {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {شاءَ اللهُ:} ماض، وفاعله، ومفعوله محذوف، التقدير: ولو شاء الله أن يرسل رسولا. {لَأَنْزَلَ:}
اللام: واقعة في جواب (لو). (أنزل): ماض، وفاعله يعود إلى (الله). {مَلائِكَةً:} مفعول به، وجملة:{لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} جواب (لو)، لا محل لها، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف، وهو من قول الملأ بلا ريب. {ما:} نافية. {سَمِعْنا:} فعل، وفاعل. {بِهذا:} متعلقان بالفعل قبلهما، وعند التأمل يتبين لك: أن الباء حرف صلة، واسم الإشارة مفعول به، مجرور لفظا، منصوب محلا، تأمل. {فِي آبائِنَا:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من اسم الإشارة، و (نا): في محل جر بالإضافة، {الْأَوَّلِينَ:} صفة آبائنا مجرور، وعلامة جره الياء
…
إلخ.
والجملة الفعلية: {ما سَمِعْنا..} . إلخ في محل نصب مقول القول كالجمل قبلها.
الشرح: {إِنْ هُوَ إِلاّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ:} بكسر الجيم: جنون. وهو أيضا: الجن، ومنه قوله تعالى:{مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ،} وهو بفتح الجيم: الحديقة ذات الأشجار، وجمعها: جنات، وهو بضم الجيم كل ما استترت به، وكل ما وقيت به نفسك من السلاح، وغيره، ومنه المجن، والمجنة بكسر الميم
فيهما، وهو الترس الذي كان يتخذ للوقاية من ضربات السيوف، والرماح. هذا؛ ورجل مأخوذ من الرجولة، وهي البطولة، والشجاعة، والشهامة، والحمية، وغير ذلك.
{فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتّى حِينٍ} أي: فانتظروا، واصبروا عليه إلى زمان حتى ينجلي أمره، فإن أفاق من جنونه، وإلا قتلتموه. هذا؛ والحين: الوقت قليلا كان أو كثيرا، والمدة من الزمن قصيرة كانت أو طويلة، وجمعه أحيان، وجمع الجمع: أحايين. هذا؛ والحين بفتح الحاء: الهلاك، والموت.
{قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ:} طلب هذا من الله تعالى لمّا أيس من إيمانهم بعد أن دعاهم إلى الله، وعبادته ألف سنة إلا خمسين عاما. والمعنى: أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي؛ إذ في نصرتي إهلاكهم، أو المعنى: أبدلني من غم تكذيبهم سلوة النصر عليهم، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {إِنْ:} حرف نفي بمعنى «ما» . {هُوَ:} مبتدأ. {إِلاّ:} حرف حصر. {رَجُلٌ:}
خبر المبتدأ، والجملة الاسمية من قول الملأ أيضا. و {بِهِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم.
{جِنَّةٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل رفع صفة {رَجُلٌ}. {فَتَرَبَّصُوا:} الفاء: هي الفصيحة، وهي حرف عطف عند من يجيز عطف الإنشاء على الخير، وابن هشام يعتبرها في مثل ذلك للسببيّة المحضة. (تربصوا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان الجنون واقعا به؛ فتربصوا، وانتظروا
…
إلخ، والكلام كله من مقول الملأ. {بِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما.
{حَتّى حِينٍ:} متعلقان به أيضا. {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى (نوح). {رَبِّ:} منادى حذف منه أداة النداء، وهو مثل:{يا قَوْمِ} في إعرابه في الآية السابقة. {اُنْصُرْنِي:} فعل دعاء، والفاعل تقديره:«أنت» ، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به. {بِما:} الباء: حرف جر.
(ما): مصدرية. {كَذَّبُونِ:} ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة مفعول به، و (ما) والفعل في تأويل مصدر في محل جر بالباء، التقدير: بسبب تكذيبهم إياي، والجار، والمجرور متعلقان بما قبلهما، واعتبار (ما) موصولة، أو موصوفة ضعيف معنى، والكلام:{رَبِّ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ} أي: إلى نوح، عليه السلام. وهذا بعد أن قال له في سورة (هود) عليه السلام:{لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاّ مَنْ قَدْ آمَنَ} . هذا؛ وأصل الوحي: الإشارة
السريعة، والوحي: الكتاب المنزل على الرسول المرسل لقومه، مثل: موسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم أجمعين، والوحي: الكتابة، والرسالة، والإلهام، والكلام الخفي، وكل ما ألقيته إلى غيرك، وتسخير الطير لما خلق له إلهام، والوحي إلى النحل، وتسخيرها لما خلقها الله له إلهام أيضا؛ حيث تبني بيوتها على شكل هندسي يعجز عنه العقل البشري، ولها تنظيم في حياتها يدهش أولي الألباب. {أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ} أي: اعمل السفينة التي ستنجو فيها أنت، ومن آمن معك، وإني أحيلك على الآيات رقم [36] وما بعدها من سورة (هود)، فإنك ستجد الشرح فيها وافيا كافيا، ومعنى (اسلك): أدخل فيها، واجعل فيها، يقال: سلكته في كذا، وأسلكته فيه: إذا أدخلته. قال عبد مناف بن ربع الهذلي: [البسيط]
حتّى إذا أسلكوهم في قتائدة
…
شلاّ كما تطرد الجمّالة الشّردا
قتائدة: موضع بعينه، والشل الطرد، والشرد جمع شرود. ومعنى {سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ} أي: في تقدير الله الأزلي بهلاكه لكفره، وإنما جيء بعلى؛ لأن السابق ضار، كما جيء باللام حيث كان نافعا في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى} الآية رقم [101] من سورة (الأنبياء). هذا؛ وقد قال الحسن-رحمه الله تعالى-: لم يحمل نوح في السفينة إلا ما يلد، أو يبيض، فأما البق، والذباب، والدود؛ فلم يحمل شيئا منها، وإنما خرج من الطين، والذين سبق عليه القول منهم هنا، ما عبر عنه في قوله تعالى:{وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ} وكان من جملتهم ابنه كنعان، ووالدته كما رأيت في سورة (هود) عليه السلام.
{وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا:} ولا تسألني نجاة الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، وارتكاب المعاصي. {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ:} لا محالة لظلمهم أنفسهم بالشرك، والمعاصي. هذا؛ وتأكيد الجملة الاسمية ب:(إنّ) لأن المقام يقتضي ذلك، فكأن سائلا سأل عن سبب النهي، فجيء بإن المؤكدة، وهذا من مباحث علم المعاني، كما لا يخفى.
هذا؛ وقد يعترض بعض الناس على سبق قضاء الله، وقدره بكفر الكافرين، فيقول: إذن لا مؤاخذة عليهم، فكيف يعذبهم الله ما داموا مقدرا عليهم ذلك؟ والجواب: أن هذا التقدير مبني على علم الله الأزلي بأن العبد منهم لو ترك، وشأنه لم يختر سوى الكفر، والضلال، ولذا قدره الله عليهم، هذا بالإضافة لما نصب لهم في هذا الكون من دلائل على قدرته، ووحدانيته، وبعد أن بين الله لكل واحد منهم طريق الخير، وطريق الشر، والحسن، والقبيح، كما قال جل ذكره:
{وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ} أي: بينا له طريق الخير، وطريق الشر، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {فَأَوْحَيْنا:} الفاء: حرف استئناف. (أوحينا): فعل، وفاعل. {إِلَيْهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {أَنِ:} حرف تفسير. {اِصْنَعِ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {الْفُلْكَ:} مفعول به، والجملة الفعلية مفسرة لا محل لها من
الإعراب. هذا؛ وبعضهم يعتبر {أَنِ} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر، في محل نصب مفعول به. والمعتمد الأول. {بِأَعْيُنِنا:} متعلقان بمحذوف حال من {الْفُلْكَ} أي: مصنوعا بأعيننا. أو من الفاعل المستتر، التقدير: محفوظا برعايتنا. و (نا): في محل جر بالإضافة.
{وَوَحْيِنا:} معطوف على ما قبله، و (نا): في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله.
{فَإِذا:} الفاء: حرف عطف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب، وجملة:{جاءَ أَمْرُنا} في محل جر بإضافة (إذا) على القول المشهور المرجوح، و (نا): في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، وجملة:{وَفارَ التَّنُّورُ} معطوفة عليها، فهي في محل جر مثلها.
{فَاسْلُكْ:} الفاء: واقعة في جواب (إذا). (اسلك): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله لا محل له أيضا. {فِيها:} متعلقان بما قبلهما. {مِنْ كُلٍّ:} هنا قراءتان: يقرأ (كل) بالإضافة وبدون تنوين، وفيه وجهان: أحدهما: أنّ {اِثْنَيْنِ} مفعول به، وعليه فالجار والمجرور {مِنْ كُلٍّ} متعلقان بمحذوف حال من {اِثْنَيْنِ،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، والثاني: أن {مِنْ} زائدة، وكل مفعول به مجرور لفظا، منصوب محلا، وعليه ف:{اِثْنَيْنِ} توكيد، وهذا على قول الأخفش، الذي يجيز زيادة «من» في الإيجاب، والقراءة الثانية بتنوين (كلّ) ولا إضافة، وعليه فمفعول (اسلك) هو {زَوْجَيْنِ،} و {اِثْنَيْنِ} توكيد له، والجار والمجرور:{مِنْ كُلٍّ} يحتمل تعليقهما ب: (اسلك) ويحتمل تعليقهما بمحذوف حال من {زَوْجَيْنِ} كان صفة له، التقدير: اسلك زوجين اثنين حالة كونهما من كل صنف من أصناف الحيوانات. ولا تنس: أن القراءتين ترجعان إلى معنى واحد، معه آخر لا يستغنى عنه.
{وَأَهْلَكَ:} معطوف على مفعول (اسلك) على القراءتين. {إِلاّ:} أداة استثناء. {مِنْ:}
اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب على الاستثناء. {سَبَقَ:}
ماض. {عَلَيْهِ:} متعلقان به. {الْقَوْلُ:} فاعله. {مِنْهُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المجرور محلا ب: (على) و (من) بيان لما أبهم في {مِنْ،} وجملة: {سَبَقَ..} . إلخ صلة {مِنْ} أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلا ب: (على). {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية. {تُخاطِبْنِي:} مضارع مجزوم ب: (لا)، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة: (اسلك
…
) إلخ لا محل لها مثلها. {فِي الَّذِينَ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:{ظَلَمُوا} مع المفعول المحذوف صلة الموصول لا محل لها. {إِنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {مُغْرَقُونَ:} خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الاسمية تعليل للنهي، لا محل لها.
الشرح: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ} أي: علوت على السفينة، واستقررت فيها. {وَمَنْ مَعَكَ} أي:
من الذين آمنوا معك. {فَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي..} . إلخ: أمر الله نوحا-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-بالأمر بالدعاء والثناء المذكورين، إظهارا لفضله، وإشعارا بأن في دعائه، وحمده مندوحة عن دعاء قومه، وحمدهم، وثنائهم.
هذا؛ والمراد ب: {الظّالِمِينَ} الكافرين، وكثيرا ما يعبر القرآن عن الكافرين بالظالمين، والمجرمين، والمعتدين، والفاسقين، والمسرفين، وغير ذلك، ويتهددهم بالعذاب الأليم، ويتوعدهم بالعقاب الشديد، وإننا نجد الكثير من المسلمين يتصفون بهذه الصفات، فهل يوجه إليهم هذا التهديد، وهذا الوعيد؟ الحق أقول: نعم يتوجه إليهم ما ذكر، وهم أحق بذلك، لا سيما من قرأ القرآن، واطّلع على أحوال الأمم السابقة، وما جرى لهم مع رسلهم، وكيف نكل الله بهم، وجعلهم عبرة للمعتبرين، وما يتذكر إلا أولو الألباب. هذا؛ وانظر (الظلم) في الآية رقم [60] من سورة (الحج).
هذا؛ و {الْحَمْدُ} في اللغة: الثناء بالكلام على الجميل الاختياري على جهة التبجيل، والتعظيم، سواء أكان في مقابلة نعمة أم لا؟ فالأول كمن يحسن إليك، والثاني كمن يجيد صلاته، وهو في اصطلاح علماء التوحيد: فعل ينبي عن تعظيم المنعم من حيث كونه منعما على الحامد أو غيره سواء أكان ذلك قولا باللسان، أو اعتقادا بالجنان، أو عملا بالأركان التي هي الأعضاء، كما قال القائل:[الطويل]
أفادتكم النّعماء منّي ثلاثة
…
يدي ولساني والضمير المحجّبا
ومما هو جدير بالذكر: أن معنى الشكر في اللغة هو معنى الحمد في الاصطلاح، وأما معنى الشكر في الاصطلاح، فهو: صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله.
الإعراب: {فَإِذَا:} الفاء: حرف استئناف. (إذا): انظر الآية السابقة. {اِسْتَوَيْتَ:} فعل، وفاعل. {أَنْتَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع توكيد للضمير المتصل. {وَمَنْ:}
الواو: حرف عطف. (من): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع معطوف على الضمير المتصل، وهو التاء. {مَعَكَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، والكاف في محل جر بالإضافة. {عَلَى الْفُلْكِ:} متعلقان بالفعل {اِسْتَوَيْتَ} . {فَقُلِ:} الفاء: واقعة في جواب (إذا). (قل):
أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {الْحَمْدُ:} مبتدأ. {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة: (قل
…
) إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر
صفة (الله) أو بدل منه. {نَجّانا:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {الَّذِي،} وهو العائد، و (نا): مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {مِنَ الْقَوْمِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الظّالِمِينَ:} صفة القوم مجرور
…
إلخ.
الشرح: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي..} . إلخ: قيل: هذا الأمر لنوح كان حين دخل السفينة، فيكون قوله:{مُبارَكاً} يعني: بالسلامة، والنجاة. وقال ابن عباس، ومجاهد-رضي الله عنهما: هذا حين خرج من السفينة، مثل قوله تعالى له في الآية رقم [48] من سورة (هود):{يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} . وهذا هو المعتمد.
قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: وبالجملة فالآية تعليم من الله تعالى لعباده إذا ركبوا، وإذا نزلوا أن يقولوا هذا، بل وإذا دخلوا بيوتهم، وسلموا قالوا ذلك. وروي عن علي-رضي الله عنه-أنه كان إذا دخل المسجد قال:(اللهمّ أنزلني منزلا مباركا، وأنت خير المنزلين). انتهى.
ويقرأ: (منزلا) بضم الميم وفتح الزاي، وبفتح الميم وكسر الزاي، قراءتاه سبعيتان، وعلى القراءتين يحتمل أن يكون كل منهما مصدرا ميميا، وأن يكون اسم مكان، وانظر {مُدْخَلاً} في الآية رقم [59] من سورة (الحج). هذا؛ وكسر الزاي هنا في القراءة الثانية لكسرها في المضارع، وفتحت الخاء في {مُدْخَلاً} لضمها في المضارع. تأمل، وتدبر.
{إِنَّ فِي ذلِكَ} أي: ما ذكر من أمر نوح، وسفينته، ونجاته وهلاك الكافرين. {لَآياتٍ:}
لدلالات على كمال قدرة الله تعالى، وأنه ينصر أنبياءه، ويهلك أعداءه، {وَإِنْ كُنّا لَمُبْتَلِينَ} أي:
مختبرين قوم نوح وغيرهم من الأمم السابقة بإرسال الرسل إليهم، ليظهر المطيع منهم والعاصي، ويتبين للملائكة، وللناس حالهم، لا أن يستجد المولى سبحانه علما بأحوالهم.
الإعراب: {وَقُلْ:} الواو: حرف عطف. (قل): أمر، وفاعله مستتر، تقديره:«أنت» . {رَبِّ:}
منادى حذف منه أداة النداء، وانظر إعراب {يا قَوْمِ} في الآية رقم [23] فهو مثله. {أَنْزِلْنِي:} فعل دعاء، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به. {مُنْزَلاً:} مفعول مطلق، أو هو ظرف مكان متعلق بالفعل قبله. {مُبارَكاً:} صفة له. {وَأَنْتَ:} الواو: واو الحال.
(أنت): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {خَيْرُ:} خبره، و (خير) مضاف، و {الْمُنْزِلِينَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء
…
إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الفاعل المستتر، والرابط: الواو، والضمير، والجملة الندائية والفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقُلْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها في الآية السابقة لا محل لها مثلها.
{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {فِي ذلِكَ} متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ} تقدم على اسمها، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لَآياتٍ:} اللام: لام الابتداء، (آيات): اسم (إن) مؤخر منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والجملة الاسمية:{إِنَّ فِي..} . إلخ ابتدائية، أو مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين. {وَإِنْ:} الواو:
حرف عطف. (إن): مخففة من الثقيلة لا عمل لها. {كُنّا:} ماض ناقص مبني على السكون، و (نا) اسمها. {لَمُبْتَلِينَ:} اللام: هي الفارقة بين المخففة والنافية. (مبتلين): خبر (كان) منصوب وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، وهذا الإعراب إنما هو على مذهب البصريين، وأما الكوفيون فيعتبرون (إن) نافية، واللام بمعنى «إلا» ، والتقدير عندهم: وما كنا إلا مبتلين، وعلى المذهبين فالجملة فعلية، وهي معطوفة على الجملة الاسمية قبلها لا محل لها مثلها. هذا؛ وقول الكوفيين: إن اللام بمعنى «إلا» مثل قولهم في قول الشاعر-وهو الشاهد رقم [420] من كتابنا فتح القريب المجيب إعراب شواهد مغني اللبيب-: [البسيط]
أمسى أبان ذليلا بعد عزّته
…
وما أبان لمن أعلاج سودان
الشرح: {ثُمَّ أَنْشَأْنا:} خلقنا، وأوجدنا. {مِنْ بَعْدِهِمْ:} من بعد هلاك قوم نوح. {قَرْناً آخَرِينَ:} يعني: قوم عاد، وقيل: هم قوم ثمود. {فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً:} هو هود، أو صالح، على نبينا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام. والذين قالوا بالقول الأول استدلوا عليه بذكر قوم هود بعد ذكر قوم نوح في كثير من السور، والذين قالوا بالثاني استدلوا عليه بقوله تعالى في آخر القصة:{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} والذين قالوا بالقول الأول أولوا الصيحة بمطلق العذاب. {أَنِ اعْبُدُوا اللهَ..} . إلخ: هو مثل الآية رقم [23]. هذا؛ وقال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: وإنما جعل القرن موضع الإرسال ليدل على أنه لم يأتهم من مكان غير مكانهم، وإنما أوحي إليه، وهو بين أظهرهم. وانظر قول النسفي-رحمه الله تعالى-في الإعراب. هذا؛ و {آخَرِينَ} مفرده: آخر، وهو اسم على أفعل، والأنثى: أخرى، وجمعه: أخر، وأخريات.
الإعراب: {أَنْشَأْنا:} فعل، وفاعل. {مِنْ بَعْدِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على جملة: (أرسلنا
…
) إلخ في الآية رقم [23] لا محل لها مثلها.
{قَرْناً:} مفعول به. {آخَرِينَ:} صفة {قَرْناً} وجمع؛ لأن {قَرْناً} يتضمن أفرادا كثيرين، فهو منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ. (أرسلنا): فعل، وفاعل. {مِنْهُمْ:} متعلقان به.
{رَسُولاً:} مفعول به. {مِنْهُمْ:} متعلقان بمحذوف صفة {رَسُولاً،} والجملة الفعلية معطوفة على
ما قبلها لا محل لها أيضا. هذا؛ وقد قال النسفي: الإرسال يعدى ب: «إلى» ولم يعد ب: «في» إلا هنا، وفي قوله تعالى:{كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ} وقوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ} ولكن الأمة، والقرية جعلت موضعا للإرسال ومثله قول رؤبة:[الرجز]
أرسلت فيهم مصعبا ذا إقحام
…
طبّا فقيها بذوات الأبلام
{أَنِ:} مفسرة؛ لأنّ (أرسلنا) متضمن معنى القول دون حروفه، وأجيز اعتبارها مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بأن، وانظر بقية الإعراب في الآية رقم [23]. هذا؛ ورؤبة يصف ممدوحه بأنه مسوّد في قومه ذو شجاعة فائقة، وبأنّه حاذق ماهر في حل القضايا المعقدة مثل الطبيب الماهر بجراحة النساء في أرحامهنّ.
الشرح: {وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا:} هو مثل الآية رقم [24] بلا فارق، والتقديم والتأخير في بعض الكلمات إنما هو للتفنن، وعطف الجملة هنا بالواو، وتلك بالفاء؛ لأن ما هنا عطف لما قالوه على ما قاله الرسول. ومعناه: أنه اجتمع في الحصول هذا الحق، وهذا الباطل، وليس بجواب للرسول متصل بكلامه، ولم يكن بالفاء، وجيء بالفاء في قصة نوح؛ لأنه جواب لقوله واقع عقيبه. انتهى. نسفي.
{وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ} أي: بلقاء ما فيها من الحساب، والثواب، والعقاب، وغير ذلك.
{وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} أي: وسعنا عليهم نعم الدنيا؛ حتى بطروا بسبب كثرة الأموال، والأولاد، مع الصحة، والعافية، وراحة البال، وهناءة الضمير. {ما هذا إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ..} .
إلخ: انظر الآية رقم [24] فهو مثله، مع زيادة إيضاح هنا.
الإعراب: {وَقالَ الْمَلَأُ:} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة: (أرسلنا
…
) إلخ {مِنْ قَوْمِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من {الْمَلَأُ} على اعتبار (أل) فيه للتعريف، أو بمحذوف صفة له على اعتبارها للجنس، والهاء في محل جر بالإضافة. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر صفة {قَوْمِهِ} أو بدل منه، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها، وجملة:(كذبوا بلقاء) معطوفة عليها لا محل لها مثلها، و (لقاء) مضاف، و {الْآخِرَةِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف؛ إذ التقدير: ولقائهم الآخرة. {وَأَتْرَفْناهُمْ:} ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة،
لا محل لها مثلها. {فِي الْحَياةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الدُّنْيا:} صفة (الحياة) مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. هذا؛ وانظر إعراب:{ما هذا إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} في الآية رقم [24] وهي في محل نصب مقول القول مثلها أيضا. {يَأْكُلُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {بَشَرٌ}. {مِمّا:} متعلقان بما قبلهما، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب:(من)، واعتبارها مصدرية ضعيف، وجملة:{تَأْكُلُونَ مِنْهُ} صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلا ب: (من)، وجملة:{يَأْكُلُ..} . إلخ في محل رفع صفة ثانية ل: {بَشَرٌ} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم، وجملة {وَيَشْرَبُ مِمّا تَشْرَبُونَ} معطوفة عليها على الوجهين المعتبرين فيها، وإعرابها مثلها بلا فارق، وقد حذف العائد، أو الرابط لدلالة الأول عليه. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.
{وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34)}
الشرح: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً:} المراد به: الرسول الذي دعاهم إلى توحيد الله، وعبادته.
{مِثْلَكُمْ:} في أحوالكم، وتصرفاتكم، من أكل، وشرب، ونوم، ويقظة، وزواج، ومرض، وغير ذلك. {إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ} أي: لمغبونون، ومغدورون بترككم آلهتكم، واتّباعكم إياه، وانقيادكم له من غير فضيلة له عليكم. ومن حمقهم الشديد: أنهم أبوا اتّباع مثلهم، وعبدوا أعجز منهم، وهي الحجارة؛ التي لا تنفع، ولا تضر.
الإعراب: {وَلَئِنْ:} الواو: حرف عطف. واللام: موطئة لقسم محذوف، تقديره: والله.
(إن): حرف شرط جازم. {أَطَعْتُمْ:} ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.
{بَشَراً:} مفعول به. {مِثْلَكُمْ:} صفة له، والكاف في محل جر بالإضافة، والميم علامة جمع الذكور. {إِنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {إِذاً:} حرف جواب، وجزاء مهمل هنا. هذا؛ ونقل السيوطي في «همع الهوامع» عن شيخه الكافيجي: أن هذه هي «إذا» الشرطية، حذفت جملتها التي تضاف إليها، وعوض عنها التنوين كما في «يومئذ». {لَخاسِرُونَ:} خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، واللام هي المزحلقة، والجملة الاسمية:{إِنَّكُمْ..} . إلخ جواب القسم المدلول عليه باللام، وحذف جواب الشرط على القاعدة:«إذا اجتمع شرط وقسم، فالجواب للسابق منهما» قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته: [الرجز]
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم
…
جواب ما أخّرت فهو ملتزم
هذا؛ والكلام كله من مقول الملأ. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.
الشرح: {أَيَعِدُكُمْ} أي: هود النبي. {أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً} أي: مجردة من اللحوم، أو صارت تلك العظام ترابا متفتتا. {أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} أي: مبعوثون من قبوركم. {هَيْهاتَ هَيْهاتَ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: هي كلمة للبعد، كأنهم قالوا: بعيد بعيد ما توعدون. قال ابن الأنباري: وفي هيهات عشر لغات: بفتح التاء، وهي قراءة الجماعة، وهيهات بكسرها من غير تنوين، وهيهات بالخفض، والتنوين، وهيهات بالضم من غير تنوين، وبالرفع مع التنوين، وهيهاتا بالنصب والتنوين، ومثله قول الأحوص:[الطويل]
تذكّرت أياما مضين من الصّبا
…
وهيهات هيهاتا إليك رجوعها
واللغة السابعة: أيهات أيهات، وأنشد الفراء قول جرير:[الطويل]
فأيهات أيهات العقيق ومن به
…
وأيهات خلّ بالعقيق نواصله
وقرأ عيسى الهمداني «(هيهات هيهات)» بالإسكان، قال ابن الأنباري: ومن العرب من يقول:
أيهان، ومنهم من يقول: أيها بلا نون، وأنشد الفراء قول الشاعر:[الطويل]
ومن دوني الأعيان والقنع كلّه
…
وكتمان أيها ما أشتّ وأبعدا
الأعيان، والقنع، وكتمان كلها مواضع. انتهى. قرطبي بتصرف كبير مني. وألفت النظر إلى أنه لم يرد هذا اللفظ في القرآن في غير هذا الموضع. هذا؛ وانظر {مِتَّ} في الآية رقم [34] من سورة (الأنبياء). و (يعد) أصله: يوعد؛ لأن ماضيه: وعد، فحذفت الواو لوقوعها بين عدوتيها:
الياء، والكسرة. وانظر الوعد ووفاءه في الآية رقم [54]. من سورة (مريم).
الإعراب: {أَيَعِدُكُمْ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. (يعدكم): مضارع، والفاعل يعود إلى الرسول المعبر عنه ب:(بشر،) والكاف مفعول به أول. {أَنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه، والميم حرف دال على جماعة الذكور. {إِذا:} ظرف زمان متعلق ب: {مُخْرَجُونَ} .
{مِتُّمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها. (كنتم): ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {تُراباً:} خبر (كان)، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها. (عظاما): معطوف على {تُراباً} . {أَنَّكُمْ:} قال سيبويه: بدل من الأولى، وقال الفراء، والجرمي، والمبرد: مكررة للتوكيد، لما طال الكلام كان تكريرها حسنا.
وقال الأخفش: (أنّ) الثانية تؤول مع اسمها، وخبرها بمصدر في محل رفع فاعل بفعل مضمر يقع جوابا ل:{إِذا،} و (إذا) ومدخولها في محل رفع خبر (أنّ) الأولى.
هذا؛ وقال الجمل: وعبارة السمين: {أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ..} . إلخ فيه أوجه: أحدها: أن اسم الأولى مضاف لضمير الخطاب حذف، وأقيم المضاف إليه مقامه، والخبر قوله:{إِذا مِتُّمْ} و {أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} تكرير؛ ل: (أنّ) الأولى للتوكيد، والدلالة على المحذوف. والمعنى: أن إخراجكم إذا متم، وكنتم. والثاني: أن خبر (أن) الأولى هو {مُخْرَجُونَ} وهو العامل في {إِذا} وكررت الثانية توكيدا لما طال الفصل. وإليه ذهب الجرمي، والمبرد، والفراء. والثالث: أن خبر (أن) الأولى محذوف، لدلالة خبر الثانية عليه، تقديره: أنكم تبعثون، وهو العامل في الظرف، و (أنّ) الثانية وما في حيزها بدل من الأولى. وهذا مذهب سيبويه. والرابع: أن يكون {أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} مبتدأ، وخبره الظرف مقدما عليه، والجملة خبر عن {أَنَّكُمْ} الأولى، والتقدير:
أيعدكم أنكم إخراجكم كائن، أو مستقر وقت موتكم. ولا يجوز أن يكون العامل في {إِذا} {مُخْرَجُونَ} على كل قول؛ لأن ما في حيز (أنّ) لا يعمل فيما قبلها، ولا يعمل فيها {مِتُّمْ} لأنه مضاف إليه، و {أَنَّكُمْ} وما في حيزه في محل نصب أو جر بعد حذف حرف الجر؛ إذ الأصل أيعدكم بأنكم. ويجوز ألا يقدر حرف جر، فيكون في محل نصب فقط انتهى. والمعتمد: أنه في محل جر بحرف جر محذوف، وهو مفاد كلام ابن هشام في المغني، والجار والمجرور هما المفعول الثاني، والجملة الفعلية:{أَيَعِدُكُمْ..} . إلخ مستأنفة، وهي من مقول الملأ.
{هَيْهاتَ:} اسم فعل ماض مبني على الفتح، و {هَيْهاتَ} الثاني توكيد لفظي لا فاعل له، أما فاعل الأول ففيه وجهان: أحدهما: هو ضمير، تقديره: هيهات وقوع، وحصول خروجنا من القبور. {لِما:} اللام: حرف جر. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفاعل المحذوف؛ لأنه مصدر، واللام فيها معنى التبيين. الوجه الثاني: أن اللام زائدة، و (ما) هي الفاعل. قال ابن الأنباري: ترفع الظاهر، ولا يرفع بها المضمر، وأنشد بيت جرير السابق. {تُوعَدُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو نائب فاعله، والجملة صلة (ما) والعائد محذوف؛ إذ التقدير: للذي توعدونه. هذا؛ وقد رأيت في بعض القراآت: أنه قد نون هيهات؛ وعليه فهو مصدر مبتدأ، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبره، وعلى الاعتبارين: الفعلية، والاسمية؛ فالكلام مقول من الملأ.
{إِنْ هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)}
الشرح: {إِنْ هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا:} أصله: إن الحياة إلا الحياة الدنيا، فأقيم الضمير مقام الأولى، لدلالة الثانية عليها حذرا من التكرير، وإشعارا بأن تعيينها مغن عن التصريح بها، كقوله:[الطويل]
هي النّفس ما حمّلتها تتحمّل
وهذا ضمير لا يعلم ما يعنى به إلا ما يتلوه من بيانه، ولا يقال له: ضمير القصة؛ لأن ضمير القصة يجب تفسيره بجملة، ومعناه: لا حياة إلا هذه الحياة الدنيا. {نَمُوتُ وَنَحْيا:} قيل: معناه:
نحيا، ونموت، كما في قوله تعالى:{وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} وقيل: نموت، أي: الآباء، ونحيا، أي: الأولاد، وقيل: المعنى: يموت قوم، ويحيا قوم. هذا؛ وفيهما مطابقة بين الموت والحياة، وهي من المحسنات البديعية، كما هو معروف، ومسطور. {وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} أي: من القبور بعد الموت، فهم يقرون بالموت، ويعترفون بوقوعه، ولكنهم ينكرون البعث، والحشر للحساب، والجزاء، وهذا ديدن الأمم السابقة في ذلك، وقريش كانت أشد الإنكار له، وفي عصرنا هذا؛ وجد كثيرون ينكرونه، وهم من أبناء المسلمين، فإذا كان كفار قريش قالوا كما حكى الله عنهم:{وَقالُوا ما هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ} فأبناء المسلمين الملحدون يقولون: إن هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع.
الإعراب: {إِنْ:} حرف نفي بمعنى «ما» . {هِيَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {إِلاّ:} حرف حصر. {حَياتُنَا:} خبر المبتدأ، و (نا): في محل جر بالإضافة.
{الدُّنْيا:} صفة له مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف. {نَمُوتُ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والجملة الفعلية في محل نصب حال من (نا)، والرابط: الضمير فقط.
وقول الجمل: جملة مفسرة لما ادعوه من أن حياتهم هي الحياة الدنيا؛ هذا حل معنى، لا حل إعراب، تأمّل. وجملة {وَنَحْيا} معطوفة عليها، فهي في محل نصب حال مثلها. {وَما:} الواو:
حرف عطف، أو هي واو الحال. (ما): نافية حجازية تعمل عمل «ليس» . {نَحْنُ:} ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع اسم (ما). {بِمَبْعُوثِينَ:} الباء: حرف جر صلة.
(مبعوثين): خبر (ما) مجرور لفظا، منصوب محلا، والجملة الاسمية:{وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} معطوفة على الجملة الفعلية قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها، أو هي في محل نصب حال من (نا) فتكون حالا متعددة بنفسها، والرابط: الواو، والضمير، وعلى الأول فهي متعددة بسبب العطف. هذا؛ وإن اعتبرتها حالا من فاعل {نَمُوتُ وَنَحْيا} فهي حال متداخلة، وهذا أقوى؛ لأن فيها معنى التوكيد.
{إِنْ هُوَ إِلاّ رَجُلٌ اِفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)}
الشرح: {إِنْ هُوَ إِلاّ رَجُلٌ:} يعنون الرسول المرسل إليهم. {اِفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً} أي:
اختلق من تلقاء نفسه ما يدعيه من الرسالة، أو فيما يعدنا من البعث، والحساب، والجزاء
…
إلخ. {وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ:} بمصادقين له فيما يدعيه. هذا؛ وانظر شرح (الإيمان) في الآية رقم [14] من سورة (الحج).
الإعراب: {إِنْ:} حرف نفي بمعنى: «ما» . {هُوَ:} مبتدأ. {إِلاّ:} حرف حصر.
{رَجُلٌ:} خبر المبتدأ. {اِفْتَرى:} ماض، والفاعل يعود إلى {رَجُلٌ}. {عَلَى اللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {كَذِباً} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا
…
إلخ. {كَذِباً:} مفعول به، وجملة:{اِفْتَرى..} . إلخ في محل صفة {رَجُلٌ} . هذا؛ وإعراب: {وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} مثل إعراب {وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} بلا فارق، والجار والمجرور {اللهِ} متعلقان ب:(مؤمنين)، والجملة الاسمية هنا في محل نصب حال من {رَجُلٌ،} والرابط:
الواو، والضمير. وساغ مجيء الحال من النكرة؛ لأنها تخصصت بالوصف، ولا تنس: أن الكلام كله في الآية من مقول الملأ في الآية رقم [33].
الشرح: قال: أي: هود أو صالح-عليهما السلام-كما رأيت في الآية رقم [31]{رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ:} شرح هذه الجملة مثل الآية رقم [26] مع معرفة الفرق بين القائلين الداعيين.
{قالَ} أي: الله مجيبا دعوة الرسول الداعي على قومه بالهلاك، والنصرة له عليهم. {عَمّا قَلِيلٍ} أي: بعد زمن قليل. {لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ:} على كفرهم، وتكذيبهم، وعدم إيمانهم، وذلك إذا عاينوا مقدمات العذاب الأليم، والعقاب الشديد. {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ:} صاح بهم جبريل عليه السلام صيحة واحدة مع الريح التي أهلكهم الله تعالى بها، فماتوا عن آخرهم، ومعنى {بِالْحَقِّ} بالعدل من الله حيث استحقوا ذلك العذاب بكفرهم، وعنادهم، يقال: فلان يقضي بالحق، أي: بالعدل، والإنصاف.
{فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً} أي: هلكى هامدين، كغثاء السيل، وهو ما يحمله من بالي الشجر، والحشيش، والقصب مما يبس، وتفتت. ومثله الجفاء، ويجمع على: أغثية، كغراب، وأغربة، وعلى: غثيان، كغراب، وغربان، وخذ ما يلي: عن ثوبان-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها» . فقال قائل:
أمن قلّة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السّيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوّكم المهابة منكم، وليقذفنّ في قلوبكم الوهن» . قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: «حبّ الدّنيا وكراهية الموت» . رواه أبو داود، وأحمد، وغيرهما.
{فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ} أي: هلاكا لهم، يقال: بعد فلان بكسر العين بعدا بضم فسكون، وبعدا بفتحتين: إذا بعد بعدا بعيدا بحيث لا يرجى عوده، ثم استعير للهلاك، وخص بدعاء السوء. انتهى.
بيضاوي، وقال القرطبي: والبعد: الهلاك، والبعد: التباعد من الخير، يقال: بعد يبعد بعدا؛ إذا تأخر، وتباعد، وبعد يبعد بعدا: إذا هلك. قالت خرنق أخت طرفة بن العبد البكري لأمه: [السريع]
لا يبعدن قومي الّذين همو
…
سمّ العداة، وآفة الجزر
وقال النابغة الذبياني: [الطويل]
لا تبعدن إنّ المنيّة منهل
…
وكلّ امرئ يوما به الحال زائل
وخذ قول فاطمة بنت الأخرم الخزاعية تبكي إخوتها: [المديد]
إخوتي لا تبعدوا أبدا
…
وبلى والله قد بعدوا
كلّ ما حيّ وإن أمروا
…
واردو الحوض الذي وردوا
وانظر التعبير ب: {الظّالِمِينَ} ونحوه عن «الكافرين» هنا وفي الآية رقم [28] ولا تنس:
الالتفات من الغيبة إلى التكلم، وانظر (الأنبياء)[34].
الإعراب: {قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ:} انظر الآية رقم [26] فالإعراب فيها واف، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى (الله). {عَمّا قَلِيلٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما، أو ب:{نادِمِينَ} وقيل: متعلقان بمحذوف يدل عليه ما قبله، التقدير: ننصرك عما قليل، و (ما): مقحمة بين الجار والمجرور، وقيل: هي نكرة موصوفة بمعنى: «شيء» ، فيكون {قَلِيلٍ} صفة لها، وقيل: هي بمعنى زمن فيكون {قَلِيلٍ} صفة، أو بدلا منه. {لَيُصْبِحُنَّ:} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف، التقدير: والله. (يصبحن): مضارع ناقص مرفوع، وعلامة رفعه النون المحذوف لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة المدلول عليها بالضمة اسمه، والنون حرف لا محل له. هذا؛ وإعلاله مثل إعلال:(لتعلمن) في الآية رقم [71] من سورة (طه). {نادِمِينَ:} خبره، أو حال على اعتباره تاما من واو الجماعة، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب للقسم المقدر، والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَأَخَذَتْهُمُ:} الفاء: حرف استئناف. (أخذتهم):
ماض، والتاء للتأنيث، والهاء مفعول به. {الصَّيْحَةُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {بِالْحَقِّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من {الصَّيْحَةُ} . (جعلناهم): ماض، وفاعله، ومفعوله الأول. {غُثاءً:} مفعوله الثاني، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {فَبُعْداً:} الفاء: هي الفصيحة. (بعدا): مفعول مطلق، لفعل محذوف لا يظهر.
{لِلْقَوْمِ:} متعلقان بالمصدر، أو بمحذوف صفة له. {الظّالِمِينَ:} صفة القوم مجرور، وعلامة جره الياء
…
إلخ، وجملة: (بعدا للقوم
…
) إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك واقعا؛ فبعدا
…
إلخ، والكلام مستأنف، لا محل له.
الشرح: {ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا:} تتواتر، وتتوالى، ويتبع بعضهم بعضا، وهذا التتابع بمهلة.
وقيل: بغير مهلة. هذا؛ ويقرأ: «(تترى)» بالتنوين على أنه مصدر، وعلى القراءتين فالتاء الأولى منقلبة عن واو، أصله وترى، فقلبت الواو تاء، مثل: التقوى، والتكلان، وتجاه، ونحو ذلك.
{كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ:} وتلك هي سنة الأمم الكافرة تكذب رسلها؛ ليحق عليها العذاب.
{فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً} أي: بالهلاك في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأخزى.
{وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ} أي: حكايات وقصصا يتحدث من بعدهم بأمرهم، وشأنهم، و {أَحادِيثَ} اسم جمع للحديث. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [62] من سورة (الحج)، أو هو جمع: أحدوثة، وهي ما يتحدث به تلهيا، كأضاحيك جمع: أضحوكة، وأكاذيب جمع:
أكذوبة، وأعاجيب جمع: أعجوبة، وهي ما يتعجب منه. قال الأخفش: إنما يقال هذا في
الشر، ولا يقال في الخير، كما يقال: صار فلان حديثا، أي: عبرة ومثلا، كما قال في آية أخرى، وهي رقم [19] من سورة (سبأ):{فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} .
قال القرطبي قلت: وقد يقال: فلان حديث حسن: إذا كان مقيدا بذكر ذلك. ومنه قول ابن دريد في مقصورته: [الرجز]
وإنّما المرء حديث بعده
…
فكن حديثا حسنا لمن وعى
هذا؛ ويجدر بي أن أذكر هنا قول أحمد شوقي رحمه الله تعالى: [الكامل]
دقّات قلب المرء قائلة له:
…
إنّ الحياة دقائق وثوان
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها
…
فالذّكر للإنسان عمر ثان
ولا تنس: أن الذكر يكون بالخير لمن عمل صالحا، ونافعا، ويكون بالشر لمن عمل سيئا، ومضرا، فالأنبياء، والصالحاء من علماء وغيرهم يذكرون بالخير، والثناء عليهم. والفاسدون، والطاغون يذكرون بالسوء، والذم لهم أمثال فرعون، ويزيد بن معاوية، والحجاج، ومن على شاكلتهم إلى يوم القيامة.
الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {أَرْسَلْنا:} فعل، وفاعل. {أَرْسَلْنا:} مفعول به، و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على مثلها في الآية رقم [23] لا محل لها مثلها.
{تَتْرا:} حال من {أَرْسَلْنا} بمعنى: متواترين، منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. وعلى قراءته بالتنوين فهو مفعول مطلق عامله {أَرْسَلْنا؛} لأنه متضمن معنى: واترنا، أي:
تابعنا. وقيل: هو نعت مصدر محذوف، التقدير: أرسلنا إرسالا متتابعا، أو إرسالا إثر إرسال.
{كُلَّ ما:} (كل): ظريفة متعلقة بجوابها؛ إذ هي تحتاج إلى جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، و (ما): مصدرية توقيتية. {جاءَ:} ماض. {أُمَّةً:} مفعول به. {رَسُولُها:}
فاعله، و (ها): في محل جر بالإضافة، و {ما} والفعل جاء في تأويل مصدر في محل جر بإضافة (كلّ) إليه، التقدير: كل وقت مجيء رسولها. وهذا التقدير، وهذه الإضافة هما اللذان سببا الظرفية ل:(كل)، وقيل:{ما} نكرة موصوفة، والجملة الفعلية بعدها صفة لها، وهي بمعنى: وقت أيضا.
{كَذَّبُوهُ:} ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية جواب {كُلَّ ما} لا محل لها، و {كُلَّ ما} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، أو هو معترض بين الجملتين المتعاطفتين. {فَأَتْبَعْنا:} الفاء:
حرف عطف. (أتبعنا): فعل، وفاعل. {بَعْضَهُمْ:} مفعول به أول، والهاء في محل جر بالإضافة.
{بَعْضاً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{أَرْسَلْنا..} . إلخ لا محل لها مثلها، وجملة:{وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ} معطوفة أيضا على ما قبلها، لا محل لها مثلها، وإعرابها واضح.
{فَبُعْداً لِقَوْمٍ:} هو مثل الآية رقم [41]، والجملة المنفية:{لا يُؤْمِنُونَ} في محل جر صفة (قوم).
الشرح: {ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ:} هذا الإرسال تجده موسعا، وواضحا في سورة (الأعراف) وفي سورة (الشعراء) وسورة (القصص). {بِآياتِنا} أي: التسع المذكورة بالتفصيل في سورة (الأعراف) رقم [130] وما بعدها. (سلطان مبين): حجة واضحة ملزمة للخصم، ويجوز أن يراد به: العصا. وإفرادها؛ لأنها أول المعجزات، وأمها، تعلقت بها معجزات شتى، كانقلابها حية، وتلقفها ما أفكته السحرة، وانفلاق البحر عند ضربه بها، وانفجار العيون من الحجر كلما ضربه بها، وحراستها له، ومصيرها شمعة تضيء بالليل المظلم، وشجرة خضراء مثمرة، ورشاء، ودلوا، وغير ذلك، ويجوز أن يراد ب:(سلطان مبين) المعجزات، وبالآيات:
الحجج الدامغات، وأن يراد بهما المعجزات جميعا، فإنها آيات للنبوة، وحجة بينة على ما يدعيه النبي.
{إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ} أي: أعوانه على الظلم، والجبروت، والفساد، والطغيان.
{فَاسْتَكْبَرُوا:} عن الإيمان بالله، والمتابعة لموسى وهارون على نبينا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام. {وَكانُوا قَوْماً عالِينَ} أي: متكبرين قاهرين غيرهم بالظلم، كما قال تعالى في سورة (القصص):{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ} . هذا؛ وأصل {عالِينَ} عاليين، فحذفت الكسرة التي على الياء لاستثقالها، ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنة مع الياء التي هي علامة الجمع، وهذا في الجمع، كما تحذف من المفرد لالتقائها ساكنة مع التنوين.
الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {أَرْسَلْنا:} فعل، وفاعل. {مُوسى:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. (أخاه): معطوف على موسى منصوب مثله، وعلامة نصبه الألف نيابة عن الفتحة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء في محل جر بالإضافة.
{هارُونَ:} بدل من (أخاه) أو عطف بيان عليه. {بِآياتِنا:} متعلقان بالفعل أرسلنا، وهما مفعوله الثاني. و (نا): في محل جر بالإضافة. {مُبِينٍ:} صفة (سلطان). {إِلى فِرْعَوْنَ:} متعلقان بالفعل {أَرْسَلْنا،} أو هما متعلقان بمحذوف حال من {مُوسى} و {هارُونَ} أي: حالة كونهما مبعوثين. وقيل: {بِآياتِنا} متعلقان بمحذوف حال أيضا. وما ذكرته سابقا أقوى، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {وَمَلائِهِ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{أَرْسَلْنا..} . إلخ معطوفة على مثلها في الآية رقم [23] لا محل لها مثلها. {فَاسْتَكْبَرُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية
معطوفة على جملة: {أَرْسَلْنا..} . إلخ لا محل لها مثلها. (كانوا): ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {قَوْماً:} خبر (كان). {عالِينَ:} صفة قوما منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{وَكانُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {فَقالُوا} أي: فرعون وملؤه. {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا:} انظر الآية رقم [24] وثني «البشر» هنا؛ لأنه يطلق على الواحد، كما في قوله تعالى:{فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا} كما يطلق على الجمع، كقوله تعالى:{فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً} ولم يثن «المثل» لأنه في حكم المصدر، وقد جاءت تثنيته في قوله تعالى:{يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} الآية رقم [13] من سورة (آل عمران)، وجاء جمعه في قوله تعالى:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ} وقيل: إنما وحد؛ لأن المراد المماثلة في البشرية، وليس المراد الكمية، وقيل: اكتفى بالواحد عن الاثنين.
{وَقَوْمُهُما} يعني: بني إسرائيل. {لَنا عابِدُونَ:} خادمون، منقادون، متذللون، كالعبيد.
{فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} أي: في الغرق في البحر، انظر تفصيل ذلك في سورة (الشعراء).
الإعراب: {فَقالُوا:} الفاء: حرف استئناف، أو حرف عطف. (قالوا): ماض، وفاعله، والألف للتفريق، وانظر {قالُوا} في الآية رقم [26] من سورة (مريم) عليهاالسّلام. {أَنُؤْمِنُ:}
الهمزة: حرف استفهام إنكاري. (نؤمن): مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {لِبَشَرَيْنِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {مِثْلِنا:} صفة (بشرين) و (نا): في محل جر بالإضافة. {وَقَوْمُهُما:} الواو: واو الحال. (قومهما): مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {مِثْلِنا:} متعلقان بما بعدهما.
{عابِدُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الاسمية:{وَقَوْمُهُما..} .
إلخ في محل نصب حال من بشرين، وسوغ ذلك الصفة، والرابط: الواو، والضمير، وجملة {فَقالُوا..} . إلخ مستأنفة، أو هي معطوفة على ما قبلها لا محل لها. (كذبوهما): ماض، وفاعله، ومفعوله، والميم والألف حرفان دالان على التثنية، والجملة الفعلية معطوفة على جملة (قالوا
…
) إلخ لا محل لها مثلها. (كانوا): ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق.
{مِنَ الْمُهْلَكِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر (كان) والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.
الشرح: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ} أي: التوراة. {لَعَلَّهُمْ} أي: قومه بني إسرائيل، ولم يتقدم لهم ذكر، ولا يجوز إرجاع الضمير إلى فرعون وملئه؛ لأن موسى أعطي التوراة بعد هلاك فرعون وقومه، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى} وقد أوتي موسى التوراة جملة واحدة. هذا؛ وخصّ موسى بالذكر؛ لأن التوراة أنزلت عليه في الطور وهارون خليفته في قومه، كما رأيت في سورة (الأعراف) وسورة (طه) ولو قيل: ولقد آتيناهما الكتاب؛ لجاز بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ} الآية رقم [48] من سورة (الأنبياء). {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ:} إلى طريق الخير، والفلاح، والنجاح، ولكن أكثرهم كانوا غير مهتدين بدليل اتخاذهم العجل إلها في حياة موسى وهارون، وقتلهم كثيرا من الأنبياء بعدهما، مثل: يحيى، وزكريا، وغيرهما. هذا؛ والترجي في هذه الآية، وأمثالها إنما هو بحسب عقول البشر؛ لأن الله تعالى لا يحصل منه ترج، ورجاء لعباده. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا!
{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} أي: بولادتها إياه من غير مسيس ذكر لها. فالآية أمر واحد مضاف إليهما. أو المعنى: جعلنا عيسى ابن مريم آية؛ بأن ظهر منه معجزات كثيرة، أهمّها:
أنه تكلم في المهد، وجعلنا أمه آية بأن حملت وولدت من غير مسيس ذكر لها، فحذفت إحداهما لدلالة الثانية عليها. وانظر الآية رقم [91] من سورة (الأنبياء)، فالكلام فيهما واحد، والمعنى واحد.
{وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ} أي: مكان مرتفع، قيل: هي دمشق، وقيل: هي مدينة الرملة بفلسطين. وقيل: هي بيت المقدس، وهو قول ابن عباس-رضي الله عنهما. قال كعب: بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا. وقيل: هي مصر، وسبب الإيواء: أنها فرت بابنها إليها بصحبة يوسف النجار ابن عمها. {ذاتِ قَرارٍ} أي: أرض مستوية يستقر عليها، وقيل: ذات ثمار، وزروع، فإن ساكنيها يستقرون فيها لأجلها. و (معين): ماء جار ظاهر للعيون، يقال: معين، ومعن، كما يقال: رغيف، ورغف، فهو فعيل من: معن الماء: إذا جرى، أو من الماعون، وهو المنفعة؛ لأنه نفاع، أو هو مفعول من عانه: إذا أدركه بعينه؛ لأنه لظهوره مدرك بالعيون. وصف ماؤها بذلك؛ لأنه الجامع لأسباب التنزه، وطيب المكان. وانظر شرح:
{ذاتِ} في الآية رقم [2] من سورة (الحج)، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى:} انظر إعراب مثل هذه الكلمات في الآية رقم [12]{الْكِتابَ:} مفعول به ثان، والكلام معطوف على ما في الآية رقم [23] أو هو مستأنف لا محل
له على الاعتبارين. {لَعَلَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه، وجملة:{يَهْتَدُونَ} في محل رفع خبر (لعل)، والجملة الاسمية تعليل للإتيان، لا محل لها. (جعلنا) فعل، وفاعل. {اِبْنَ:}
مفعول به أول، وهو مضاف، و {مَرْيَمَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والتأنيث المعنوي. (أمه): معطوف على (ابن)، والهاء في محل جر بالإضافة. {آيَةً:} مفعول به ثان، وجملة {وَجَعَلْنَا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {وَآوَيْناهُما:} ماض، وفاعله، ومفعوله، والميم والألف حرفان دالان على التثنية، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {إِلى رَبْوَةٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {ذاتِ:} صفة {رَبْوَةٍ،} و {ذاتِ} مضاف، و {قَرارٍ} مضاف إليه. (معين): معطوف على {قَرارٍ} وهو صفة لموصوف محذوف؛ إذ الأصل، وذات ماء معين.
الشرح: {يا أَيُّهَا الرُّسُلُ..} . إلخ: قيل: أراد بالرسل محمدا صلى الله عليه وسلم وحده، وقيل: أراد به عيسى عليه السلام وحده، وقيل: أراد جميع الرسل. وخذ قول البيضاوي-رحمه الله تعالى-في ذلك، فقال: نداء، وخطاب لجميع الأنبياء، لا على أنهم خوطبوا بذلك دفعة واحدة؛ لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة، بل على معنى أن كلاّ منهم خوطب به في زمانه، فيدخل تحته عيسى دخولا أوليا، فيكون ابتداء كلام ذكر تنبيها على أن تهيئة أسباب التنعم لم تكن له خاصة، وأن إباحة الطيبات للأنبياء شرع قديم، واحتجاجا على الرهبانية في رفض الطيبات، أو حكاية لما ذكر لعيسى، وأمه عند إيوائهما إلى الربوة؛ ليقتديا بالرسل في تناول ما رزقا. وقيل: النداء له، ولفظ الجمع للتعظيم. والطيبات: ما يستلذ به من المباحات، وقيل: الحلال الصافي القوام، فالحلال ما لا يعصى الله فيه، والصافي ما لا ينسى الله فيه، والقوام: ما يمسك النفس، ويحفظ العقل.
انتهى. هذا؛ وانظر عدد الرسل في سورة (الحج)[42].
{وَاعْمَلُوا صالِحاً} أي: استقيموا على ما يوجبه الشرع، فإنه المقصود منكم، والنافع عند ربكم. {إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} أي: فأجازيكم به. وفيه تحذير من مخالفة ما أمرهم الله به، قال الخازن-رحمه الله تعالى-: وإذا كان الرسل مع علو شأنهم كذلك؛ فلأن يكون تحذيرا لغيرهم أولى؛ لما روى أبو هريرة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله طيّب لا يقبل إلا طيّبا، وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً} وقال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ} «ثمّ ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمدّ يده إلى السّماء: يا ربّ يا ربّ، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام. فأنّى يستجاب له؟» . أخرجه مسلم.
هذا؛ والمراد ب: {الطَّيِّباتِ} الحلالات، والحلال هو المراد عند الإطلاق، سواء أكان مستلذا أم لا؛ لأن الحرام خبيث، ونجس، ورديء؛ وإن كان مستلذا عند من يأكله من فاسقين، ومجرمين؛ الذين لا يبالون بما أخذوا، وما أكلوا؛ حتى حقّ، وصدق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«يأتي على الناس زمان، لا يبالي المرء ما أخذ أمن الحلال أم من الحرام» . رواه البخاري عن أبي هريرة-رضي الله عنه. هذا؛ والأمر بالأكل مستعمل في كل من الوجوب، والندب والإباحة، فالأول: إذا كان لقيام البدن، والثاني: كالأكل مع الضيف، والثالث: في غير ما ذكر، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: (يا): أداة نداء تنوب مناب: «أدعو» أو أنادي. (أيها): نكرة: مقصودة مبنية على الضم في محل نصب ب: (يا)، و (ها): حرف تنبيه لا محل له، وأقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه. {الرُّسُلُ:} بعضهم يعرب هذا؛ وأمثاله نعتا، وبعضهم يعربه بدلا، والقول الفصل فيه أن الاسم الواقع بعد أي واسم إشارة، إن كان مشتقا فهو نعت، وإن كان جامدا كما هنا، فهو بدل، أو عطف بيان، وانظر الآية رقم [1] من سورة (الحج) إن أردت الزيادة، والجملة الندائية ابتدائية، لا محل لها. {كُلُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. وهذا؛ والمفعول محذوف، تقديره: كلوا رزقكم. {مِنَ الطَّيِّباتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من المفعول المحذوف، وجوز الأخفش اعتبار {مِنَ} زائدة في الإيجاب، فيكون {الطَّيِّباتِ} مفعولا به، مجرورا لفظا، منصوبا محلا. والمعتمد الأول، وجملة:{وَاعْمَلُوا صالِحاً} معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، و {صالِحاً} صفة لموصوف محذوف هو المفعول، التقدير: اعملوا عملا صالحا. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {بِما:} متعلقان ب: {عَلِيمٌ} بعدهما، و (ما): تحتمل الموصوفة، والموصولة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالياء، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: بالذي، أو بشيء تعملونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بعملكم. {عَلِيمٌ:} خبر إن، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ تعليل للأمر، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.
{وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)}
الشرح: {وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً} أي: ملتكم ملة واحدة متحدة في العقائد، أو أصول الشرائع، أو: جماعتكم جماعة واحدة متفقة على الإيمان، والتوحيد في العباد، والخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} أي: متولي أموركم، ومالك جميع شؤونكم فخافون واحذرون.
وقيل: المعنى: أمرتكم بما أمرت به المرسلين قبلكم، فأمركم واحد، وأنا ناصركم على
أعدائكم فاتقون، وينبغي أن تعلم: أن الآية مذكورة بجميع ألفاظها برقم [92] من سورة (الأنبياء) مع إبدال {فَاعْبُدُونِ} هناك بقوله: {فَاتَّقُونِ} هنا، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَإِنَّ:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (إن): حرف مشبه بالفعل.
{هذِهِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل نصب اسم (إنّ) والهاء حرف تنبيه لا محل له.
{أُمَّتُكُمْ:} خبر (إنّ)، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية معطوفة على جملة:
(إني بما
…
) إلخ في الآية السابقة لا محل لها مثلها، أو هي مستأنفة، وبه قال أبو البقاء، وغيره، وهذا على كسر الهمزة. {أُمَّةً:} حال من {أُمَّتُكُمْ} والعامل اسم الإشارة. {واحِدَةً:}
صفة {أُمَّةً} . {وَأَنَا:} الواو: واو الحال. (أنا): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {رَبُّكُمْ:} خبر المبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية في محل نصب حال من كاف الخطاب، والرابط:
الواو، والضمير، وقد جاءت الحال من المضاف إليه، وانظر الآية رقم [72] من سورة (الحج) أو هي مستأنفة، لا محل لها، وأجيز عطفها على الجملة الاسمية قبلها. {فَاتَّقُونِ:} الفاء: هي الفصيحة. (اتقون): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ما ذكر حاصلا، وواقعا؛ فاتقون. وهذا الكلام مستأنف لا محل له.
هذا؛ ويقرأ بفتح همزة (أنّ) مع التشديد، والإعراب كما سبق، ويقرأ بفتح الهمزة مع التخفيف على أن اسمها ضمير الشأن، وما بعدها مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية في محل رفع خبرها، وعلى القراءتين تؤول مع اسمها وخبرها بمصدر وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: هو مجرور بحرف جر محذوف، التقدير: لأن هذه
…
إلخ، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {فَاتَّقُونِ}. الوجه الثاني:
أنه معطوف على ما قبله مع تقدير الباء؛ إذ التقدير: إني بما تعملون عليم، وبأن هذه. والثالث: أن في الكلام حذفا، التقدير: واعلموا: أن هذه
…
إلخ، وهذا معزوّ للفراء، والوجه الأول مغزوّ لسيبويه على حد قوله تعالى:{لِإِيلافِ قُرَيْشٍ..} . إلخ انتهى. عكبري، وقرطبي بتصرف مني. هذا؛ وفي الآية قراآت، وأوجه إعراب، كما في آية سورة (الأنبياء) ينبغي ملاحظتها.
{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)}
الشرح: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ:} اختلف بنو آدم في الدين، فصاروا فرقا، وأحزابا، فمن موحد، ومن يهودي، ومن نصراني، ومن عابد صنم، ومن عابد شخص، حتى لعن بعضهم بعضا، وتبرأ بعضهم من بعض. ثم ذكر الله تعالى أن كلاّ منهم معجب برأيه، وضلالته. وهذا غاية الضلال. ومعنى {زُبُراً:} كتبا وضعوها، وضلالات افتروها. قاله ابن زيد، وقيل: إنهم
فرقوا الكتب، فاتبعت فرقة الصحف، وفرقة التوراة، وفرقة الزبور، وفرقة الإنجيل، ثم حرّف الكلّ وبدّل. قاله قتادة. وقيل: المعنى: أخذ كل فريق منهم كتابا آمن به، وكفر بما سواه. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [93] من سورة (الأنبياء)، ففيها عظيم الفائدة.
{كُلُّ حِزْبٍ:} كل فريق، وملة. هذا؛ والحزب في اللغة: أصحاب الرجل الذين يكونون معه على مثل رأيه، وهم القوم الذين يجتمعون لأمر حزبه، يعني: أهمه، والجمع: أحزاب. {بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ:} مسرورون، معجبون به، معتقدون أنه الحق. هذا؛ وقال القرطبي: وهذه الآية مثال لقريش خاطب به محمدا صلى الله عليه وسلم في شأنهم متصلا بقوله: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} الآية التالية.
هذا؛ و {لَدَيْهِمْ} ظرف مكان بمعنى: عند، وهي معربة مثلها، وقد تستعملان في الزمان، وإذا أضيف «لدى» إلى مضمر كما هنا، قلبت ألفه ياء عند جميع العرب، إلا بني الحارث بن كعب، وبني خناعة، فلا يقلبونها تسوية بين الظاهر، والمضمر، ثم اعلم: أن «عند» أمكن من «لدى» من وجهين: أحدهما: أنها تكون ظرفا للأعيان، والمعاني، تقول: هذا القول عندي صواب، وعند فلان علم به. ويمتنع ذلك في:«لدي» ، ذكره ابن الشجري في أماليه، ومبرمان في حواشيه، والثاني: أنك تقول: عندي مال (وإن كان غائبا) ولا تقول: لدي مال (إلا إذا كان حاضرا) قاله جماعة.
خاتمة: قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: هذه الآية تنظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا إنّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملّة، وإنّ هذه الأمّة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنّة، وهي الجماعة» . الحديث. أخرجه أبو داود، ورواه الترمذي، وزاد: قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي» . أخرجه من حديث عبد الله بن عمرو، وهذا يبين: أن الافتراق المحذر منه في الآية، والحديث، إنما هو في أصول الدين، وقواعده؛ لأنه قد أطلق عليها مللا، وأخبر: أن التمسك بشيء من تلك الملل موجب لدخول النار، ومثل هذا لا يقال في الفروع، فإنه لا يوجب تعديد الملل، ولا عذاب النار. انتهى.
أقول: إنما يعني رحمه الله تعالى المذاهب الأربعة المختلفة في بعض الأحكام، فأهل هذه المذاهب يطلق عليهم اسم أهل السنة، والجماعة؛ لأنهم هم المتمسكون بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنّة خلفائه الراشدين، وصحابته المهتدين، بل وعاضّون عليها بالنواجذ. والحمد لله رب العالمين.
هذا؛ وأصل الفرق ستة: حرورية، قدرية، جهمية، مرجئة، رافضة، جبرية، وانقسم كل منها إلى اثنتي عشرة فرقة، فصارت اثنتين وسبعين، وإنما سموا فرقا؛ لأنهم فارقوا الإجماع.
والحديث الشريف من جملة المعجزات؛ لأنه إخبار عن غيب قد وقع بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
بعد هذا؛ فالفرح: لذة في القلب بإدراك المحبوب؛ ولذا أكثر ما يستعمل في اللذات البدنية، وقد ذم الله الفرح في مواضع من كتابه، كقوله تعالى:{لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} وقوله:
{إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ،} ولكنه مطلق، فإذا قيد الفرح لم يكن ذما لقوله تعالى في حق الشهداء:{فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} وقال سبحانه: {فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} أي: برحمته، وجوده، وإحسانه، وقال تعالى:{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللهِ} من سورة (الروم) رقم [4 و 5].
الإعراب: {فَتَقَطَّعُوا:} الفاء: حرف استئناف. (تقطعوا): ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَمْرَهُمْ:} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه منصوب على نزع الخافض، أي: تقطعوا في أمرهم بمعنى: تفرقوا. الثاني: هو مفعول به على معنى: قطعوا أمرهم؛ أي: فرقوا أمرهم.
الثالث: أنه تمييز. محول عن الفاعل، بمعنى: تقطع أمرهم. وهذا ضعيف؛ لأنه معرفة، وهو لا يجوز عند البصريين. والهاء في محل جر بالإضافة. {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، وجملة:{فَتَقَطَّعُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {زُبُراً:} حال من {أَمْرَهُمْ} أو من واو الجماعة، أو هو مفعول ثان للفعل السابق. اعتبارات. {كُلُّ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {حِزْبٍ} مضاف إليه. {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب: {فَرِحُونَ} بعدهما، و (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالباء. {لَدَيْهِمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المنقلبة ياء؛ لا تصاله بالهاء التي هي ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {فَرِحُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الاسمية:{كُلُّ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ:} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والغمرة هنا مراد بها: الحيرة، والغفلة، والضلالة، والجهالة، والغمرة في الأصل: ما يغمرك ويعلوك من ماء، ونحوه، فهي مستعارة لما في قلوبهم من كفر، ونحوه، ومنه: الغمر: الحقد؛ لأنه يغطي القلب، وهو بكسر الغين، وبفتحها: الماء الكثير؛ لأنه يغطي الأرض، وبضم الغين لمن لم يجرب الأمور، أي:
فيه غباء، أو غباوة. وغمر الرداء الذي يشمل الناس بالعطاء، قال الشاعر:[الكامل]
غمر الرّداء إذا تبسّم ضاحكا
…
غلقت لضحكته رقاب المال
{حَتّى حِينٍ} أي: إلى انقضاء آجالهم بالقتل، أو بالموت، فهو تهديد، ووعيد، والمعنى:
اترك يا محمد هؤلاء المعاندين يتحيرون، ويترددون في كفرهم، وطغيانهم إلى انقضاء آجالهم.
وانظر شرح {حِينٍ} في الآية رقم [25]. {أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ..} . إلخ: أي: يظنون: أنّ ما نعطيهم إياه من مال، وبنين، وصحة، وعافية، وغير ذلك هو ثواب ومكافأة لهم على أعمالهم لمرضاتنا عنهم. {بَلْ لا يَشْعُرُونَ} أي: أن ذلك الإمداد، والمسارعة في الخيرات إنما هو استدراج لهم؛ لأنهم كالبهائم، لا فطنة لهم، ولا شعور.
روي عن سعيد بن ميسرة-رضي الله عنه: أنه قال: (أوحى الله إلى نبيّ من الأنبياء: أيفرح عبدي أن أبسط له الدنيا، وهو أبعد له مني، ويحزن أن أقبض عنه الدّنيا، وهو أقرب له مني؟).
انتهى. جمل نقلا عن الخطيب.
هذا؛ و {يَشْعُرُونَ} من الشعور، وهو إدراك الشيء من وجه يدق، ويخفى، مشتق من الشعر لدقته، وسمي الشاعر شاعرا لفطنته، ودقة معرفته. هذا؛ وفي الفعل نسارع وسابقة قراآت كثيرة.
الإعراب: {فَذَرْهُمْ:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر. (ذرهم): أمر مبني على السكون، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به أول. {فِي غَمْرَتِهِمْ:} متعلقان بمحذوف مفعول ثان، التقدير: ذرهم مستقرين في غمرتهم، ويجوز اعتبارهما متعلقين بالفعل قبلهما، والمفعول الثاني محذوف، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم؛ إذ التقدير: وإذا كانوا مصرين على كفرهم، وعنادهم؛ فذرهم. {حَتّى حِينٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {أَيَحْسَبُونَ:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي. (يحسبون): مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. (أنّ): حرف مشبه بالفعل. و (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب اسمها. {نُمِدُّهُمْ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به. {بِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والعائد: الضمير المجرور محلا بالباء. {مِنْ مالٍ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير العائد على الموصول، و {مِنْ} مبينة لما أبهم فيه. (بنين): معطوف على {مالٍ} مجرور مثله وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {نُسارِعُ:} مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«نحن» ، وعلى قراءته بالياء تقديره:«هو» ، وعلى قراءته بالبناء للمجهول؛ فالجار والمجرور {فِي الْخَيْراتِ} نائب فاعله، وعلى قراءته بالبناء للمعلوم متعلقان به، مثل {لَهُمْ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أنّ)، والرابط محذوف، التقدير: نسارع لهم بهم، أو فيه، و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي الفعل (يحسبون)، وهذه الجملة مستأنفة، لا محل لها. {بَلْ:} حرف إضراب انتقالي. {لا:} نافية. {يَشْعُرُونَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، والجملة الاسمية هذه معطوفة على مقدر ينسحب عليه الكلام، التقدير: كلا لا نفعل ذلك، بل هم لا يشعرون بشيء أصلا؛ لأنهم كالبهائم؛ لا فطنة لهم، ولا شعور
…
إلخ. انتهى. جمل.
الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} أي: خائفون، والمعنى: أن المؤمنين بما هم عليه من خشية الله خائفون من عقابه، قال الحسن البصري-رحمه الله تعالى-: المؤمن جمع إحسانا، وخشية، والمنافق جمع إساءة، وأمنا. {وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ} أي: آيات القرآن، أو الآيات الموجودة في الأرض، والسماء الدالة على قدرة الواحد الديان. {يُؤْمِنُونَ:} يصدقون.
{وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} أي: معه أحدا في ذاته، أو في صفاته، أو في أفعاله شركا جليا، ولا خفيا.
{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا} أي: يعطون ما أعطوا من الزكاة، والصدقات. وقيل: يعملون ما عملوا من أعمال البر، وقرئ:«(يأتون ما أتوا)» : مقصور؛ أي: يفعلون ما فعلوا من الطاعات.
{وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ:} خائفة أن لا يقبل منهم ما أعطوا من الصدقات، وما فعلوا من الطاعات، وأن لا يقع على الوجه اللائق، فيؤخذوا به. {أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ} أي: خوفهم؛ لأنهم إلى الله راجعون يوم القيامة، وهو يعلم ما يخفى عليهم. وفيه تنبيه على الخاتمة، وفي صحيح البخاري:
«وإنما الأعمال بالخواتيم» وأما المخلط، والمسرف على نفسه، فينبغي له أن يكون تحت خوف من أن ينفذ عليه الوعيد بتخليطه وإسرافه. وقال أصحاب الخواص: وجل العارف من طاعته أكثر وجلا من وجله من مخالفته؛ لأن المخالفة تمحوها التوبة، والطاعة تطلب بتصحيح الغرض.
بعد هذا: فعن عائشة الصديقية-رضي الله عنها، وعن أبويها-أنها قالت: يا رسول الله! {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أهم الذين يشربون الخمر، ويسرقون؟ قال:«لا يا بنت الصديق! ولكن هم الّذين يصومون، ويصلون، ويتصدّقون، ويخافون ألا يقبل منهم، أولئك الّذين يسارعون في الخيرات» . أخرجه الترمذي.
وقال الحسن-رحمه الله تعالى-: لقد أدركنا أقواما كانوا من حسناتهم أن تردّ أشفق منكم على سيئاتكم أن تعذبوا عليها. وفي رواية أخرى عنه: عملوا والله بالطاعات، واجتهدوا فيها، وخافوا أن تردّ عليهم. هذا؛ وقال القرطبي-رحمه الله تعالى-: لما فرغ من ذكر الكفرة وتوعدهم؛ عقّب ذلك بذكر المؤمنين المسارعين في الخيرات، ووعدهم، وذكر ذلك بأبلغ صفاتهم. انتهى. أقول: وهذا من باب المقابلة بين الفريقين، وقد نبهت على ذلك مرارا، انظر الآية رقم [14] من سورة (الحج).
هذا؛ والخشية: الخوف، وانظر الآية رقم [80] من سورة (الكهف) والإشفاق يتضمن الخشية مع زيادة رقة، وضعف، فالجمع بينهما ليس للتوكيد، وانظر الآية رقم [28] من سورة (الأنبياء).
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {مِنْ خَشْيَةِ:} متعلقان ب:
{مُشْفِقُونَ} بعدهما، و {خَشْيَةِ} مضاف، و {رَبِّهِمْ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {مُشْفِقُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{هُمْ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها. هذا؛ وإعراب الآيتين التاليتين مثل هذه الآية مع ملاحظة وقوع الجملة الفعلية فيهما في محل رفع خبر المبتدأ؛ الذي هو الضمير، والاسم الموصول معطوف على اسم {إِنَّ} في الآية الأولى. {الَّذِينَ:} معطوف على اسم {إِنَّ} أيضا. {يُؤْتُونَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {آتَوْا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: يؤتون الذي آتوه، والجملة الاسمية:
(قلوبهم وجلة) في محل نصب من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير. {أَنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {إِلى رَبِّهِمْ:} متعلقان بما بعدهما. {راجِعُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع
…
إلخ.
و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: لأنهم، أو من أجل أنهم، والجار والمجرور متعلقان ب:{وَجِلَةٌ} . تأمل، وتدبر.
{أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61)}
الشرح: {أُولئِكَ} أي: الموصوفون بالصفات المذكورة. {يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ} أي: يرغبون في الطاعات أشد الرغبة، فيبادرونها. أو: يسارعون في نيل الخيرات الدنيوية الموعودة على صالح الأعمال بالمبادرة إليها كقوله تعالى: {فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ} فيكون إثباتا لهم ما نفي عن أضدادهم. وقيل: المعنى: يسابقون من سابقهم إلى نيل المبرات. {وَهُمْ لَها سابِقُونَ} أي: لأجلها فاعلون السبق، أو سابقون الناس إلى الطاعة، أو الثواب، أو الجنة، فتكون اللام بمعنى: إلى، أو المعنى: سابقونها، أي: ينالونها قبل الآخرة؛ حيث عجلت لهم في الدنيا، كقوله تعالى:{هُمْ لَها عامِلُونَ} هذا؛ وانظر العجلة في الآية رقم [37] من سورة (الأنبياء).
الإعراب: {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {يُسارِعُونَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {فِي الْخَيْراتِ:} متعلقان بالفعل
قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، أو المفعول محذوف، انظر الشرح، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ) في الآية رقم [58] التي رأيت أنّ اسمها أربع موصولات متعاطفة، والجملة الاسمية:{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ..} . إلخ مستأنفة، أو ابتدائية، لا محل لها. {وَهُمْ:} الواو: حرف عطف. (هم): مبتدأ. {لَها:} متعلقان بما بعدهما.
وقدم للفاصلة، وللاختصاص. {سابِقُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية قبلها، فهي مؤكدة لها، وهي في محل رفع مثلها. هذا؛ وإن اعتبرتها في محل نصب حال من {الْخَيْراتِ} فلست مفندا، ويكون الرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها:} قدر طاقتها، يريد الله تعالى بهذه الجملة التحريض، والحث على ما وصف به الصالحين، وتسهيله على النفوس. وهذه الجملة ومثيلتها في آخر سورة (البقرة) وفي سورة (الأنعام) رقم [152] وفي سورة (الأعراف) رقم [42] ناسخ لجميع ما ورد في الشرع من تكليف لا يطاق، أو فيه مشقة شديدة، ومن ذلك من لم يستطع القيام في الصلاة؛ فليصل قاعدا، ومن لم يستطع الصوم في رمضان لسفر، أو مرض، ونحو ذلك؛ فليفطر، وليقض بعد التمكن من القضاء. {وَلَدَيْنا كِتابٌ} أي: اللوح المحفوظ. وقال القرطبي: أظهر ما قيل فيه:
إنه أراد كتاب إحصاء الأعمال الذي ترفعه الملائكة لذي الجلال والإكرام. وأضافه إلى نفسه؛ لأن الملائكة كتبت فيه أعمال العباد بأمره. انتهى. {يَنْطِقُ بِالْحَقِّ} أي: بالصدق، لا يوجد فيه ما يخالف الواقع، وفي هذا تهديد، وتأييس من الحيف، والظلم. ولفظ النطق للكتاب مجاز، والمراد أن الملائكة أو النبيين تنطق بما فيه. {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ:} بزيادة عقاب على ما يستحقون، ولا بنقصان ثواب على عمل صالح عملوه في دنياهم، وهذه الجملة تؤيد: أن المراد بالكتاب صحيفة الأعمال، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف استئناف. (لا): نافية. {نُكَلِّفُ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {نَفْساً:} مفعول به أول. {إِلاّ:} حرف حصر. {وُسْعَها:} مفعول به ثان، و (ها): في محل جر بالإضافة؛ من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الفعلية:{وَلا نُكَلِّفُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها من الإعراب. {وَلَدَيْنا:} الواو: واو الحال. (لدينا): ظرف مكان منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المنقلبة ياء لاتصاله ب:(نا) التي هي ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم. {كِتابٌ:} مبتدأ مؤخر. {يَنْطِقُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى كتاب. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، والجملة الفعلية:
{يَنْطِقُ بِالْحَقِّ} في محل رفع صفة (كتاب)، والجملة الاسمية:{وَلَدَيْنا كِتابٌ..} . إلخ في محل نصب
حال من فاعل (نكلف) المستتر، والرابط: الواو، والضمير. وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها.
{وَهُمْ:} الواو: حرف استئناف. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.
{لا:} نافية. {يُظْلَمُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع
…
إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، وإن اعتبرتها حالا من {كِتابٌ} بعد وصفه بما تقدم؛ فيكون الرابط: الواو فقط، وقيل: معطوفة على ما قبلها.
{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63)}
الشرح: {بَلْ قُلُوبُهُمْ:} قلوب كفار قريش، ويعم جميع الكافرين. {فِي غَمْرَةٍ:} في حيرة، وعماية؛ لأنها مغطاة بغطاء الجهل، والكفر، والعناد، وانظر الآية رقم [55]. {مِنْ هذا} أي:
مما تقدم من أعمال البر في الآيات المتقدمة؛ قاله قتادة. أو من الكتاب الذي ينطق بالحق.
{وَلَهُمْ أَعْمالٌ} أي: للكفار أعمال خبيثة من المعاصي. {مِنْ دُونِ ذلِكَ} أي: الأعمال الخبيثة التي طبعوا عليها أهون من الشرك الذي جبلوا عليه، وهم به متمسكون، أو المعنى: متجاوزة لما وصفوا به. {هُمْ لَها عامِلُونَ} أي: لتلك الأعمال الخبيثة يعملون عليها مقيمون، لا يتركونها حتى يأخذهم الله بالعذاب، وقيل: المعنى لا بد أن يعملوها، ليدخلوا النار بسببها؛ لأنها مقدرة عليهم، لما سبق لهم في الأزل من الشقاوة في الآخرة، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {بَلْ:} حرف انتقال، وعطف. {قُلُوبُهُمْ:} مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة.
{فِي غَمْرَةٍ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الكلام في الآية رقم [56] وما بينهما اعتراض. {مِنْ هذا:} متعلقان بمحذوف صفة {غَمْرَةٍ} والهاء حرف تنبيه، لا محل له.
{وَلَهُمْ:} الواو: حرف عطف. (لهم): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {أَعْمالٌ:} مبتدأ مؤخر. {مِنْ دُونِ:} متعلقان بمحذوف صفة {أَعْمالٌ} و {دُونِ} مضاف، و {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له، والجملة الاسمية:{وَلَهُمْ أَعْمالٌ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، والجملة الاسمية:{هُمْ لَها عامِلُونَ} فيها معنى التأكيد للجملة قبلها، وقيل صفة ثانية ل:{أَعْمالٌ} وإعرابها مثل إعراب: {وَهُمْ لَها سابِقُونَ} .
الشرح: {حَتّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ:} متنعّميهم، أي رؤساءهم، وأغنياءهم. والمترف: المتنعم بلذائذ الدنيا، وشهواتها، والترف: رغد العيش، وهناءة البال، وراحة الضمير. {بِالْعَذابِ} أي:
بالجوع. قاله الضحاك. وذلك حين دعا عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: «اللهمّ اشدد وطأتك على
مضر! اللهمّ اجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف». فابتلاهم الله بالقحط، والجدب، والجوع؛ حتى أكلوا العظام، والميتة، والجيف، والكلاب، وهلك الأموال، والأولاد، فاستغاثوا بالرسول صلى الله عليه وسلم فدعا ربه، واستسقى فأغاثهم رب العزة بمطر غزير، نزل كأفواه القرب. هذا؛ وقال ابن عباس-رضي الله عنهما:{بِالْعَذابِ} يعني: بالسيف يوم بدر. وقال ابن جريج في قوله تعالى: {حَتّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ:} هم الذين قتلوا ببدر، والذين يجأرون هم الذين بمكة، قال القرطبي: فجمع بين القولين المتقدمين، وهو حسن. وانظر ما ذكرته في الآية [76].
هذا؛ ومعنى {يَجْأَرُونَ} يضجون، ويستغيثون، وأصل الجؤار رفع الصوت بالتضرع، كما يفعل الثور، قال الأعشى يصف بقرة وحشية:[الطويل]
فطافت ثلاثا بين يوم وليلة
…
وكان النكير أن تطيف وتجأرا
وجأر النبات: طال، والأرض: طال نبتها، والجأر من النبت: الغض، والكثير، والرجل الضخم. انتهى. جمل، وهو ما في القاموس المحيط. هذا؛ ولم يذكر هذا الفعل في غير هذه الآية، والآية رقم [52] من سورة (النحل).
وجأر الرجل إلى الله عز وجل: تضرع بالدعاء. وقال قتادة: يصرخون بالتوبة، فلا تقبل منهم. قال الشاعر:[المتقارب]
يراوح من صلوات المليك
…
فطورا سجودا وطورا جؤارا
{لا تَجْأَرُوا} أي: لا تصرخوا ولا تستغيثوا. {إِنَّكُمْ مِنّا} أي: من عذابنا. {لا تُنْصَرُونَ} أي:
لا تمنعون، ولا ينفعكم جزعكم. وعلى قول قتادة معناه: لا تنصرون بقبول التوبة، ورفع العذاب عنكم. وما أشبه ما تضمنته الآيتان هنا بما تضمنته الآيتان [12 و 13] من سورة (الأنبياء).
الإعراب: {حَتّى:} حرف ابتداء. {إِذا:} انظر الآية رقم [27]{أَخَذْنا:} فعل، وفاعل.
{مُتْرَفِيهِمْ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، والهاء في محل جر بالإضافة. {بِالْعَذابِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{أَخَذْنا..} . إلخ في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على القول المرجوح المشهور.
{إِذا:} كلمة دالة على المفاجأة، وانظر ما ذكرته بشأنها في الآية رقم [97] من سورة (الأنبياء).
{مُتْرَفِيهِمْ:} مبتدأ، وجملة:{يَجْأَرُونَ} في محل رفع خبره، والجملة الاسمية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على اعتبارها ظرفا، وابتدائية لا محل لها على اعتبار {إِذا} حرفا، وهي عند التأمل جواب ل:{إِذا} الأولى، وكان الواجب أن تقترن بالفاء، لكن قام مقامها {إِذا} الفجائية، على حد قول ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز]
وتخلف الفاء إذا المفاجأه
…
كإن تجد إذا لنا مكافأه
هذا؛ و {إِذا} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. هذا؛ ويعتبر الأخفش {حَتّى} في مثل هذه الآية جارة ل: {إِذا،} وقد رده ابن هشام في المغني، وعلى قوله: ف: {حَتّى إِذا} جار ومجرور متعلقان بفعل محذوف التقدير: استمروا على ما ذكر حتى إذا
…
إلخ. {لا:} ناهية.
{تَجْأَرُوا:} مضارع مجزوم ب: {لا،} وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: يقال لهم: لا تجأروا. وهذه الجملة المقدرة مستأنفة، لا محل لها؛ لأنها بمنزلة جواب لسؤال مقدر، التقدير: بماذا يجابون، فيقال لهم: لا تجأروا
…
إلخ. {الْيَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. {إِنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف في محل نصب اسمها. {مِنّا:} متعلقان بالفعل بعدهما. {لا:} نافية. {تُنْصَرُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع
…
إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّكُمْ..} . إلخ تعليل للنهي، لا محل لها.
الشرح: {قَدْ كانَتْ آياتِي:} آيات القرآن الكريم. {تُتْلى عَلَيْكُمْ:} يقرؤها عليكم محمد صلى الله عليه وسلم.
{فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ:} تعرضون مدبرين عن سماعها، وتصديقها، والأخذ بها، وهو هنا استعارة للإعراض عن الحق. هذا؛ وقال مجاهد: معناه: تستأخرون عن الإيمان. وأصله: أن ترجع القهقرى، قال الشاعر:[الكامل]
زعموا بأنّهم على سبل النّجا
…
ة وإنما نكص على الأعقاب
ونكص: رجع، قال الشاعر:[البسيط]
ليس النّكوص على الأدبار مكرمة
…
إنّ المكارم إقدام على الأسل
الأسل: الرماح، والمراد الإقدام في ساحة الوغى. وقال آخر:[الطويل]
وما ينفع المستأخرين نكوصهم
…
ولا ضرّ أهل السابقات التّقدّم
وينبغي أن تعلم: أنه لم يذكر من هذه المادة في القرآن الكريم سوى المضارع هنا، والماضي في الآية رقم [49] من سورة (الأنفال)، والمضارع منه يقرأ بضم الكاف وكسرها من بابي: دخل، وجلس.
{مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ:} قال الجمهور: الضمير عائد على الحرم، أو المسجد، أو البلد الذي هو مكة؛ وإن لم يتقدم له ذكر، لشهرته. {وَكانُوا يَقُولُونَ:} نحن أهل الحرم، فلا نخاف، وقالت
فرقة: الضمير عائد على القرآن من حيث ذكرت الآيات، والمعنى: يحدث لكم سماع آياتي كبرا، وطغيانا، فلا تؤمنوا به. قال ابن عطية: وهذا قول جيد. وقيل: الضمير للتكذيب. والقول الأول أولى بالاعتبار.
{سامِراً:} معناه: سمارا، فهو في الأصل مصدر جاء على لفظ الفاعل، كالعافية، والعاقبة، والكاذبة، وقرئ:«(سمّرا)» و «(سمّارا)» جمع: سامر، ومثله قول امرئ القيس:[الطويل]
فقالت سباك الله إنّك فاضحي
…
ألست ترى السّمّار والناس أحوال؟!
وقيل: هو مفرد بمعنى الجمع كالحاضر، وهم القول النازلون على الماء، والباقر: جمع البقر، والجامل جمع: الإبل ذكورها، وإناثها، ومنه قوله تعالى:{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أي:
أطفالا، الآية رقم [5] من سورة (الحج). وفحوى الآية: أن كفار قريش كانوا يقضون ليلهم حول الكعبة، وكان عامة سمرهم في الليل ذكر القرآن، وتسميته: سحرا، وشعرا، وكهانة، ونحو ذلك من القول، وفي النبي صلى الله عليه وسلم وقولهم فيه: هو ساحر، شاعر، كاهن، ونحو ذلك.
{تَهْجُرُونَ:} من الإهجار، وهو: الإفحاش في القول، وهو يؤيد قراءة الفعل بضم التاء وكسر الجيم، من: أهجر الرباعي، أو هو من الهجر بمعنى الإعراض عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الإيمان به، وعن الإيمان بالقرآن، وهو يؤيد قراءة الفعل بفتح التاء، وضم الجيم من: هجر الثلاثي، وقيل: هو بمعنى: تهذون وتقولون ما لا تعلمون، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {كانَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث. {آياتِي:} اسم (كان) مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة. {تُتْلى:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، ونائب الفاعل يعود إلى {آياتِي،} والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان). {عَلَيْكُمْ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:{قَدْ كانَتْ..} . إلخ تعليل لعدم النصر.
(كنتم): ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {عَلى أَعْقابِكُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة بعدهما، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:«تنكصون على أعقابكم» :
في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{فَكُنْتُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.
{مُسْتَكْبِرِينَ:} حال من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه
…
إلخ. {بِهِ:} متعلقان بما قبلهما، أو بما بعدهما، والمعنى جيد على الاعتبارين. {سامِراً:} حال ثانية، وجملة:
{تَهْجُرُونَ} في محل نصب حال ثالثة من واو الجماعة، فهي أحوال متكررة مترادفة، ويجوز اعتبار الثلاثة أحوالا متداخلة، كل واحدة حال من الضمير المستتر فيما قبلها. تأمل، وتدبر.
{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)}
الشرح: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} أي: القرآن؛ ليعلموا: أنه الحق من ربهم، بإعجاز لفظه، ووضوح مدلوله، فهو كقوله تعالى في الآية رقم [82] من سورة (النساء):{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} .
وسمي القرآن هنا قولا؛ لأنهم خوطبوا به، وتدبر القرآن: التأمل في معانيه، والتبصر بما فيه، وأصل التدبر: النظر في عواقب الأمور، والتفكر في أدبارها، ثم استعمل في كل تدبر، وتأمل.
والتفكر بمعنى التدبر، وهو تصرف القلب بالنظر في الدلائل. وهذا يرد قول من زعم من الروافض: أن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم، والإمام المعصوم.
{أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ:} من الرسول، والكتاب، أو الأمن من عذاب الله تعالى، فلم يخافوا كما خاف آباؤهم الأقدمون، كإسماعيل عليه السلام، وأعقابه، فآمنوا بالله، وكتبه، ورسله، وأطاعوه. هذا؛ وقيل:{أَمْ} بمعنى: «بل» ، فيكون المعنى: بل جاءهم ما لا عهد لآبائهم به، فلذلك أنكروه، وتركوا التدبر له، والتأمل فيه. هذا؛ والفعلان: جاء، ويأتي هنا بمعنى: وصل، وبلغ، فلذا تعديا لمفعول واحد، وإذا كانا بمعنى: حضر، وأقبل يكونان لا زمين، مثل قوله تعالى:{إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ،} وقوله تعالى: {أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} . هذا؛ والكلام في: {أَفَلَمْ} مثل الكلام في: {أَفَلا} في الآية رقم [30] من سورة (الأنبياء).
تنبيه: قال الجمل نقلا عن زاده: لما وصف الله حال الكفرة؛ الذين فرقوا دينهم؛ ردّ عليهم بأن بيّن: أنّ إقدامهم على هذه الضلالة لا بد أن يكون لأحد أربعة أمور: أحدها: ألاّ يتأملوا في دليل نبوته، وهو القرآن المعجز. ثانيها: أن يعتقدوا: أن بعثة الرسول أمر غريب لم تسمع، ولم ترد عن الأمم السالفة. وليس كذلك؛ لأنهم قد عرفوا بالتواتر: أن الرسل كانت ترسل إلى الأمم. ثالثها: ألاّ يكونوا عالمين بأمانة مدّعي الرسالة، وصدقه قبل ادعائه النبوة، وليس كذلك، فإنهم قد عرفوا منه قبل ادعاء النبوة كونه في نهاية الأمانة والصدق، فكيف كذبوه بعد أن اتفقت كلمتهم على تسميته بالأمين الصادق؟! رابعها: أن يعتقدوا فيه الجنون، فهو الذي حمله على ادعائه الرسالة. وهذا أيضا فاسد؛ لأنهم كانوا يعلمون: أنه أعقل الناس. انتهى. وسيأتي خامس في قوله: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً} الآية رقم [73].
الإعراب: {أَفَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام. الفاء: حرف استئناف، أو هي حرف عطف.
(لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَدَّبَّرُوا:} مضارع مجزوم ب: (لم) وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مستأنفة، أو معطوفة على جملة مقدرة قبلها، التقدير: فعلوا ما فعلوا مما سبق، فلم يدبروا القول. والأول أقوى هنا فيما يظهر.
{الْقَوْلَ:} مفعول به، وانظر المتعلق في الشرح. {أَمْ:} حرف عطف. {جاءَهُمْ:} ماض،
والهاء مفعول به. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع فاعل (جاء). {فَلَمْ:} حرف جازم. {يَأْتِ:} مضارع مجزوم ب: {فَلَمْ} وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى {ما} وهو العائد، أو الرابط، والجملة صلة {ما} أو صفتها. {آباءَهُمُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة.
{الْأَوَّلِينَ:} صفة {آباءَهُمُ} منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، وجملة:{جاءَهُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.
{أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)}
الشرح: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: المعنى: أليس قد عرفوا محمدا صلى الله عليه وسلم صغيرا، وكبيرا، وعرفوا نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفته، وطهره، ووفاءه بالعهود، وهذا على سبيل التوبيخ لهم على الإعراض عنه بعد ما عرفوه بصفاته النبيلة، وشيمه الحميدة. انتهى. ففي اتباعه النجاة، والفلاح، والخير، والنجاح لولا العنت، والتعنّت. {فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} أي: منكرون دعواه بعد ما عرفوه حق المعرفة. قال سفيان الثوري: بلى قد عرفوه، ولكنهم حسدوه. أقول: وقد تجلى ذلك في قول أمية بن أبي الصلت، وأبي جهل، والوليد بن المغيرة حين اعترفوا برسالته صلى الله عليه وسلم، ولكن كبرياؤهم، وعظمتهم، بل وحسدهم هو الذي سبب ضلالهم، وموتهم على الكفر، وذهابهم إلى جهنم وبئس المصير!
الإعراب: {أَمْ:} حرف عطف. {لَمْ:} حرف جازم. {يَعْرِفُوا:} مضارع مجزوم ب: {لَمْ} وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {رَسُولَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {فَهُمْ:} الفاء:
حرف عطف وسبب. (هم): مبتدأ. {لَهُ:} متعلقان بما بعدهما. {مُنْكِرُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.
{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70)}
الشرح: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ:} جنون، فلا يبالون بقوله، وليس هو كذلك؛ لزوال أمارات الجنون عنه، بل كانوا يعلمون أنه أرجحهم عقلا، وأتقنهم نظرا، وأثبتهم فكرا. {بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ} أي: بالقرآن، والتوحيد، والدين الحق، والأمر الذي لا تخفى صحته، وحسنه على عاقل. هذا؛ وانظر شرح {جِنَّةٌ} في الآية رقم [25]. {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ:} لأنه يخالف شهواتهم، وأهواءهم، فلذلك أنكروه. وإنما قيد الحكم بالأكثر؛ لأنه كان منهم من ترك الإيمان استنكافا، كما رأيت في الآية السابقة، أو خوفا من توبيخ قومه له، ومنهم من ترك الإيمان لقلة
فطنته، وعدم فكرته، لا لكراهته للحق. وما ذكرته مشاهد في كل زمان، ومكان. هذا؛ والذي أعرض عن الإيمان خوفا من توبيخ قومه له هو أبو طالب، كما قال في شعره:[الكامل]
لولا الملامة أو حذار مسبّة
…
لرأيتني سمحا بذاك مبينا
الإعراب: {أَمْ:} حرف عطف. وهي في المواضع الثلاثة مقدرة ب: «بل» الانتقالية، وهمزة الاستفهام التقريري، والتقدير: بل أجاءهم، بل ألم يعرفوا رسولهم، بل أيقولون: به جنة
…
إلخ. انتهى. جمل.
{يَقُولُونَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو فاعله. {بِهِ:}
متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {جِنَّةٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{يَقُولُونَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {بَلْ:} حرف عطف.
{جاءَهُمْ:} ماض، والهاء مفعول به، والفاعل يعود إلى رسولهم، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، أي: ملتبسا بالحق. {وَأَكْثَرُهُمْ:} الواو: واو الحال. (أكثرهم): مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة.
{لِلْحَقِّ:} متعلقان بما بعدهما. {كارِهُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الاسمية:{وَأَكْثَرُهُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط:
الواو، والضمير. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ..} . إلخ: فيه أقوال كثيرة: {الْحَقُّ} هنا هو الله سبحانه، وتعالى؛ قاله الأكثرون، منهم: مجاهد، وابن جريج، وأبو صالح، وغيرهم. ومن المعلوم: أن من أسماء الله تعالى «الحق» وعليه؛ فالمعنى: لو وافق الله أهواءهم، وما يريدون؛ لفسدت السموات. وقيل: المعنى: لو كانوا يكفرون بالرسل، ويعصون الله عز وجل، ثم لا يعاقبون، ولا يجازون على ذلك، إما عجزا، وإما جهلا؛ لفسدت السموات، والأرض.
وقيل: المعنى: لو كان الحق ما يقولون من اتخاذ آلهة مع الله تعالى؛ لا ختلفت الآلهة فيما بينها، وأراد بعضهم ما لا يريده بعض، فاضطرب التدبير، وفسدت السموات، والأرض، وإذا فسدتا؛ فسد من فيهما، فيكون على حد قوله تعالى:{لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا} الآية رقم [22] من سورة (الأنبياء). وقيل: المعنى: لو اتبع الحق أهواءهم بما يهوونه، وما يشتهونه؛ لبطل نظام العالم؛ لأن شهوات الناس تختلف، وتتضاد، وسبيل الحق أن يكون متبوعا، وسبيل الناس الانقياد للحق. انتهى. قرطبي بتصرف.
وقيل: المراد ب: {الْحَقُّ} القرآن، وعليه فالمعنى: ولو اتبع الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أهواءهم، وانقلب الحق شركا؛ لجاء الله بالقيامة، وأهلك العالم من فرط غضبه، أو: لو اتبع الله أهواءهم بأن أنزل ما يشتهونه من الشرك، والمعاصي؛ لخرج عن الألوهية، ولم يقدر أن يمسك السموات والأرض. وهو على أصل المعتزلة. انتهى. بيضاوي بتصرف.
{وَمَنْ فِيهِنَّ:} إشارة إلى من يعقل من ملائكة، وإنس الأرض وجنّها. وفيه تغليب العاقل على غير العاقل. هذا؛ وقرأ ابن مسعود-رضي الله عنه:(وما بينهما) فيكون فيه تغليب غير العاقل على العاقل.
{بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: بما فيه شرفهم، وفخرهم، وعزهم، وهو القرآن، فهو كقوله تعالى في سورة (الزخرف) رقم [44]:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ،} وفي سورة (ص) رقم [49]{هذا ذِكْرٌ،} ورقم [87] منها أيضا {إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ} . هذا؛ وأعاد الذكر مصرحا به مع أن المقام مقام إضمار للتوكيد، والتشنيع عليهم. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَلَوِ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {اِتَّبَعَ:}
ماض. {الْحَقُّ:} فاعله. {أَهْواءَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر المجموع لفاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.
{لَفَسَدَتِ:} اللام: واقعة في جواب (لو). (فسدت): ماض، والتاء للتأنيث. {السَّماواتُ:} فاعله، والجملة الفعلية جواب (لو)، لا محل لها. {وَالْأَرْضُ:} معطوف على ما قبله. {وَمَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع معطوف على ما قبله. {فِيهِنَّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والنون حرف دال على جماعة الإناث، و (لو) ومدخولها كلام معترض بين المتعاطفات، لا محل له. {بَلْ:} حرف عطف. {أَتَيْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على (لو) ومدخولها لا محل لها أيضا. {بِذِكْرِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {فَهُمْ:} الفاء: حرف عطف. (هم): مبتدأ. {عَنْ ذِكْرِهِمْ:} متعلقان بما بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {مُعْرِضُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية قبلها، لا محل لها مثلها.
{أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ (72)}
الشرح: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً:} أجرا على ما جئتهم به من الرسالة، وهو في آية (الكهف) رقم [94] بمعنى الجعل، والقسم من الأموال. هذا؛ ويقرأ هنا «(خراجا)». {فَخَراجُ رَبِّكَ:} رزقه في الدنيا، أو ثوابه في الآخرة، ويقرأ:«(فخرج ربك)» ، ويقرأ:«(خرجا)» في الموضعين، و «(خراجا)» فيهما، فالقراآت ثلاث، وهي سبعية، وهما بمعنى واحد، وقال أبو حاتم: الخرج:
الجعل، والخراج: العطاء، وقال النضر بن شميل: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفرق بين الخرج، والخراج، فقال: الخراج: ما لزمك، والخرج: ما تبرعت به. وعنه: أن الخرج من الرقاب، والخراج من الأرض، ذكر الأول الثعلبي، والثاني الماوردي. أقول: ويراد بقوله: من الرقاب، ما كان يؤخذ من الجزية، وبالخراج: ما يفرض على الأرض؛ التي يستولي عليها المسلمون، ويتركونها بيد أصحابها.
هذا؛ وقال الإمام النسفي: خراجا فخراج، وهو ما تخرجه إلى الإمام من زكاة أرضك، وإلى كل عامل من أجرته وجعله، والخرج أخص من الخراج، تقول: خراج القرية، وخرج الكوفة، فزيادة اللفظ لزيادة المعنى، ولذا حسنت القراءة الأولى. انتهى. ويعني بها: المرسومة في المصحف. انتهى. وفي المختار: وجمع الخرج: أخراج، وجمع الخراج: أخرجة، كزمان، وأزمنة، وجمع الجمع: أخاريج.
{خَيْرٌ} أي: أفضل، وأعظم لكثرته، ودوامه. هذا؛ وسمى الله ثوابه وإكرامه لنبيه صلى الله عليه وسلم على دعوته خراجا للمشاكلة، والمزاوجة على حد قوله تعالى:{وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} وهو كثير في القرآن الكريم، ونبهت عليه في محاله، وانظر شرح:{خَيْرُ الرّازِقِينَ} في الآية رقم [58] من سورة (الحج) القريبة منك.
الإعراب: {أَمْ:} حرف عطف. {تَسْأَلُهُمْ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به أول. {خَرْجاً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا.
(خراج): مبتدأ، وهو مضاف، و {رَبِّكَ} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر. {خَيْرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كنت تسألهم أجرا وجزاء؛ فجزاء ربك خير من جزائهم، وعليه: فالفاء هي الفصيحة، وقال الجمل: تعليل لنفي السؤال المستفاد من الإنكار؛ أي: لا تسألهم ذلك، فإنّ ما رزقك الله خير. انتهى نقلا من أبي السعود.
تأمل، وتدبر. {وَهُوَ:} الواو: واو الحال. (هو): ضمير منفصل إليه مجرور، وعلامة جره الياء
…
إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من ربك، والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ:} الصراط في اللغة: الطريق. فسمي الدين طريقا على سبيل الاستعارة؛ لأنه يؤدي إلى الجنة، فهو طريق إليها، والدين الإسلامي تشهد العقول السليمة على
استقامته، فلا عوج فيه يوجب اتهامهم له. واعلم: أن الله سبحانه وتعالى، ألزمهم الحجة، وأزاح العلة في هذه الآيات بأن حصر أقسام ما يؤدي إلى الإنكار، والاتهام، وبين انتفاء ما عدا كراهة الحق، وقلة الفطنة. {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ:} لا يعتقدون بوجودها بعد الموت، ولا يعترفون بها. {عَنِ الصِّراطِ} أي: المستقيم. {لَناكِبُونَ:} لعادلون عنه. يقال: نكب عن الطريق ينكب نكوبا: إذا تركه، ومال إلى غيره، ومنه نكبت الريح: إذا لم تستقم على مجرى، وشر الريح النكباء، وهي الآتية بين جهتين من الجهات، سميت بذلك لعدولها عن المهاب. ونكبت حوادث الدهر، أي:
أصابت بشدة، وهبت هبوب النكباء، هذا؛ ولا تنس: الالتفات من الخطاب إلى الغيبة.
هذا؛ و (الآخرة) هي الحياة الثانية التي تكون بعد الموت، ثم بعد الحساب، والجزاء، ودخول الجنة، والخلود فيها، أو دخول النار والخلود فيها. و {مُسْتَقِيمٍ} أصله: مستقوم؛ لأنه من: استقام، وهو أجوف واوي، فقل في إعلاله: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو إلى القاف قبلها بعد سلب سكونها، فصار «مستقوم» ثم قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة، فصار مستقيم.
الإعراب: {وَإِنَّكَ:} الواو: واو الحال. (إنك): حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها.
{لَتَدْعُوهُمْ:} اللام: هي المزحلقة. (تدعوهم): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ). {إِلى صِراطٍ:} متعلقان بما قبلهما. {مُسْتَقِيمٍ:} صفة (صراط)، والجملة الاسمية:
{وَإِنَّكَ..} . إلخ في محل نصب حال من الفاعل المستتر بالفعل {تَسْأَلُهُمْ،} والرابط: الواو، والضمير. {وَإِنَّ:} الواو: حرف عطف. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسم (إنّ). {لا:} نافية. {يُؤْمِنُونَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {بِالْآخِرَةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما.
{عَنِ الصِّراطِ:} متعلقان بما بعدهما. {لَناكِبُونَ:} اللام: هي المزحلقة. (ناكبون): خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الاسمية: (إن الذين
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها، والضمير الموجود في الأولى يكفي رابطا لهذه، كما هو منصوص عليه في مغني اللبيب، ومن أمثلته:(الذّباب يطير، فيغضب زيد).
{وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)}
الشرح: {وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ:} يروى: أنه لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم على كفار قريش كما رأيت في الآية رقم [65] واستجاب الله دعاءه، واشتد البلاء عليهم؛ حتى أكلوا الجيف، وغيرها؛ جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: أنشدت الله والرحم! ألست تزعم: أنك بعثت رحمة
للعالمين؟ فقال: «بلى!» . فقال: قتلت الآباء بالسيف، والأبناء بالجوع، فنزلت الآية. انتهى.
نسفي، وهذا يفيد: أن القحط، والجوع نزل بهم بعد الهجرة، وأن أبا سفيان، ذهب إلى المدينة بعد غزوة بدر. لقوله: قتلت الآباء بالسيف، وهذا يتناقض مع اعتبار السورة مكية كلها. وأيضا، فإن طلبهم الاستسقاء من النبي صلى الله عليه وسلم كان في حياة أبي طالب، ولذا قال أبو طالب في مدحه صلى الله عليه وسلم:[الطويل]
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
…
ثمال اليتامى، عصمة للأرامل
لذا فالقول: إن المعنى: لو رددناهم إلى الدنيا، ولم ندخلهم النار. وامتحناهم بعرض الإيمان عليهم هو المعتمد. {لَلَجُّوا:} لثبتوا على كفرهم، وعنادهم، واللجاج: التمادي في العناد في تعاطي الفعل المزجور عنه. {طُغْيانِهِمْ} أي: في عنادهم، وتمردهم. هذا؛ والطغيان:
مجاوزة الحد، يقال: طغا، يطغى، ويطغو طغيانا: جاوز الحد، وكل مجاوز حده في العصيان طاغ، وكل مسرف في الظلم، والمعاصي طاغ. وطغى البحر: هاجت أمواجه. وطغا السيل:
جاء بماء كثير، قال تعالى:{إِنّا لَمّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ} .
{يَعْمَهُونَ:} يتحيرون، ويترددون، والعمه: التحير، والتردد، وهو قريب من العمى، لكن العمى يطلق على ذهاب نور العين، وعلى الخطأ في الرأي، والعمه لا يطلق إلا على الثاني. وفي المصباح: عمه عمها من باب: تعب: إذا تردد متحيرا، وتعامه مأخوذ من قولهم: أرض عمهاء:
إذا لم يكن فيها أمارات تدل على النجاة، فهو عمه، وأعمه. انتهى. جمل. وهذا الفعل لم أر له ماضيا، ولا أمرا، فيظهر أنه فعل جامد لا يأتي منه غير المضارع، وإن ذكر في كتب اللغة ماض له لكنه لم يستعمل، ولم يتداول. هذا؛ والضر بضم الضاد خاص بما في النفس كمرض وهزال، والضر بفتح الضاد شائع في كل ضرر ومصيبة، وفي القاموس المحيط: الضّر والضّر والضّرر ضد النفع، والشدة، والضيق، وسوء الحال، والنقصان يدخل في الشيء، والجمع أضرار.
الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.
{رَحِمْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:
لأنها جملة شرط غير ظرفي، والتي بعدها معطوفة عليها، لا محل لها مثلها. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {بِهِمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {مِنْ ضُرٍّ:} متعلقان بمحذوف حال من {ما،} و {مِنْ} بيان لما أبهم فيها.
{لَلَجُّوا:} اللام: واقعة في جواب لو. (لجّوا): ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب (لو) لا محل لها. {فِي طُغْيانِهِمْ:} متعلقان بما قبلهما، وقيل:
متعلقان بما بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {يَعْمَهُونَ:}
مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، أو من الضمير المجرور محلا بالإضافة، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.
{وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اِسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76)}
الشرح: {وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ:} بالقحط، والجدب سبع سنين حين دعا عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، كما رأيت في الآية السابقة. {فَمَا اسْتَكانُوا:} ما خضعوا، ولا لانت قلوبهم، ولا ذلوا لربهم. {وَما يَتَضَرَّعُونَ} أي: ما لجؤوا إلى الله بالتضرع، والتذلل وقت نزول الشدائد بهم. هذا؛ وأصل (استكان) استكن من السكون؛ لأن الخاضع يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريده، والألف من إشباع الفتحة، أو أصله: استكون من الكون، فنقلت حركة الواو إلى الكاف، ثم قلبت الواو ألفا لتحركها بحسب الأصل، وانفتاح ما قبلها الآن.
هذا؛ وجاء الفعل الأول ماضيا، والثاني مضارعا، ولم يجيئا ماضيين، ولا مضارعين، ولا جاء الأول مضارعا والثاني ماضيا لإفادة الماضي وجود الفعل، وتحققه، وهو بالاستكانة أليق، بخلاف التضرع، فإنه أخبر عنهم بنفي ذلك في الاستقبال، وأما الاستكانة فقد توجد منهم. انتهى. نقلا عن السمين. هذا؛ واعتبار الألف ب:(استكان) للإشباع، ومنه:[الكامل]
ينباع من ذفرى غضوب جسرة
فإن هذا الإشباع ليس بفصيح، وهو من ضرورات الشعر، فينبغي أن ترفع منزلة القرآن عن ورود مثله فيه.
الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. اللام: واقعة في جواب قسم. (قد): حرف تحقيق. {أَخَذْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له، وقال الجمل: هذه الجملة تأكيد للشرطية قبلها.
{بِالْعَذابِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {فَمَا:} الفاء: حرف عطف. (ما): نافية. {اِسْتَكانُوا:}
ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.
{لِرَبِّهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): نافية. {يَتَضَرَّعُونَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو فاعله، ومتعلقه محذوف، التقدير: وما يتضرعون لنا، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
{حَتّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)}
الشرح: {حَتّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ:} في هذا العذاب ثلاثة أقوال: الأول:
الجوع الذي نزل بهم بسبب القحط، والجدب؛ الذي حصل بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم. والثاني: القتل
الذي وقع بهم في وقعة بدر. والثالث: العذاب الذي يحل بهم يوم القيامة. قال عكرمة: هو باب من أبواب جهنم، عليه من الخزنة أربعمئة ألف، سود وجوههم، كالحة أنيابهم، قد قلعت الرحمة من قلوبهم؛ إذا بلغوه فتحه الله-عز وجل-عليهم. ولعلك تدرك معي: أن هذا القول أولى بالاعتبار.
{إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ:} متحيرون، آيسون من كل خير، لا يدرون ما يصنعون. هذا؛ وقد قال الفراء: المبلس: اليائس المنقطع رجاؤه، وذلك يقال لمن يسكت عند انقطاع حجته، ولا يكون له جواب: قد أبلس. وأقول: سمي إبليس من هذا؛ لأنه أفلس من رحمة الله، وانقطع رجاؤه من سعة فضل الله. بعد هذا خذ ما رواه عقبة بن عامر-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا رأيتم الله يعطي العبد ما يحبّ، وهو مقيم على معصيته، فذلك منه تعالى استدراج» . ثم تلا قوله تعالى: {فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ} . ذكره البغوي بغير سند، وأسنده الطبري، وانظر الآية رقم [44] من سورة (الأنعام)، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {حَتّى:} حرف ابتداء. {إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك مبني على السكون في محل نصب. {فَتَحْنا:} فعل، وفاعل.
{عَلَيْهِمْ:} متعلقان بما قبلهما. {باباً:} مفعول به. {إِذا:} صفة (بابا) منصوب مثله، وعلامة نصبه الألف نيابة عن الفتحة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و (ذا) مضاف، و {عَذابٍ:} مضاف إليه. {شَدِيدٍ:} صفة عذاب، وجملة:{فَتَحْنا..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذا) إليها على القول المشهور المرجوح. {إِذا:} كلمة دالة على المفاجأة. {عَلَيْهِمْ:} مبتدأ. {فِيهِ:} متعلقان بما بعدهما. {مُبْلِسُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ. والجملة الاسمية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على اعتبارها ظرفا، وابتدائية لا محل لها على اعتبار {إِذا} حرفا، وانظر باقي الإعراب في الآية رقم [65]. و {إِذا} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. هذا؛ ويعتبر الأخفش {حَتّى} في مثل هذه الآية جارة ل:{إِذا،} وقد رده ابن هشام في المغني، وعلى قوله:{حَتّى إِذا..} . إلخ جار ومجرور متعلقان بفعل محذوف التقدير: فليستمروا على ما ذكر حتى إذا
…
إلخ. هذا؛ والتعبير بالفعل الماضي عن المستقبل على الاعتبار الأخير، والمعتمد عندي إنما هو لتحقق وقوعه.
الشرح: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ:} خلق، وأوجد. {لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ:} لتحسوا بها ما نصب الله في هذا الكون من الآيات. {وَالْأَفْئِدَةَ:} القلوب لتتفكروا فيها، وخص الحواس الثلاث بالذكر؛
لأنها يتعلق بها من المنافع الدينية، والدنيوية ما لا يتعلق بغيرها. هذا؛ وقد وحّد سبحانه السمع في هذه الآية، وأمثالها دون الأبصار، والأفئدة لأمن اللبس. ولأنه في الأصل مصدر، يقال:
سمعت الشيء سماعا، وسمعا، والمصدر لا يجمع؛ لأنه اسم جنس يقع على القليل، والكثير، فلا يحتاج فيه إلى تثنية، أو جمع، وقيل: وحّد السمع؛ لأن مدركاته نوع واحد وهو الصوت، ومدركات البصر والقلب مختلفة، والأفئدة جمع فؤاد، وهو القلب.
{قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ} أي: شكركم قليل على هذه الجوارح التي خلقها الله لكم، وهي أساس منفعتكم في هذه الدنيا، وإنما كان شكركم قليلا؛ لأنكم لم تعرفوا عظم هذه النعم، ووضعتموها في غير مواضعها؛ لأنكم لم تعملوا، وتستخدموا أبصاركم، وأسماعكم في آيات الله، وأفعاله، ولم تستدلوا بقلوبكم على نعم الله، وإفضاله. وفيه تنبيه على أن من لم يعمل هذه الأعضاء فيما خلقت له؛ فهو بمنزلة عادمها؛ لقوله تعالى:{فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية [26] من سورة (الأحقاف). وحقيقة الشكر: صرف كل نعمة لما خلقت له، واستخدامها في طاعة الله، عز وجل. هذا؛ والفعل:«شكر» يتعدى بنفسه، وبحرف الجر، تقول: شكرت زيدا، وشكرت له، كما تقول: نصحته، ونصحت له. هذا؛ ولا تنس: أن في الكلام التفاتا من التكلم في الآية السابقة إلى الخطاب في هذه الآية، انظر الالتفات في الآية رقم [34] من سورة (الأنبياء).
الإعراب: {وَهُوَ:} الواو: حرف استئناف. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ. {أَنْشَأَ:}
ماض، وفاعله يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد. {لَكُمُ:} متعلقان به. {السَّمْعَ:} مفعول به، وما بعده معطوف عليه، والجملة الفعلية:{أَنْشَأَ لَكُمُ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها، والجملة الاسمية {وَهُوَ الَّذِي..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ:} لقد ذكر ابن هشام-رحمه الله تعالى-في مغني اللبيب في هذه الجملة وأمثالها إعرابا، فأنا أنقله لك باختصار، فقال:{ما} محتملة لثلاثة أوجه: أحدها: الزيادة، فتكون إما لمجرد تقوية الكلام، فتكون حرفا باتفاق، وقليلا في معنى النفي، وإما لإفادة التقليل مثلها في:«أكلت أكلا ما» . وعلى هذا يكون تقليلا بعد تقليل.
الوجه الثاني: النفي، و {قَلِيلاً} نعت لمصدر محذوف، أو لظرف محذوف، أي: شكرا قليلا، أو زمانا قليلا. الثالث: أن تكون مصدرية، وهي وصلتها فاعل ب:(قليل) و {قَلِيلاً} حال معمول لمحذوف، وعليه المعنى، أي: شكروا، فأخروا قليلا شكرهم، أجازه ابن الحاجب، ورجح معناه على غيره. انتهى. بتصرف كبير، ولم يذكر إعراب (قليلا) على الوجه الأول، وذكر سليمان الجمل الوجه الأول، واعتبر (قليلا) نعتا لمصدر محذوف مثل اعتباره في الوجه الثاني، وذكر أبو البقاء
الوجه الثاني، وقال التقدير: فما يشكرون قليلا، ولا كثيرا. وجملة:{قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ} مستأنفة، أو تعليلية لا محل لها على الاعتبارين. وهذا الإعراب مأخوذ من إعراب ابن هشام لقوله تعالى:{فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ} وهي الآية رقم [88] من سورة (البقرة). تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
{وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)}
الشرح: {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ:} خلقكم، وبثكم فيها للتناسل، وباب الفعل: قطع، ومنه: الذرية، وهي نسل الثقلين، تركوا همزها، والجمع: الذراريّ بتشديد الياء. {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ:} تجمعون للحساب والجزاء بعد إخراجكم من القبور.
الإعراب: {وَهُوَ الَّذِي:} مبتدأ، وخبر. {ذَرَأَكُمْ:} ماض، وفاعله يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الاسمية:{وَهُوَ الَّذِي..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها.
{وَإِلَيْهِ:} الواو: حرف عطف. (إليه): متعلقان بما بعدهما. {تُحْشَرُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع
…
إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها.
{وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اِخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80)}
الشرح: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ:} المعنى: أن القادر على خلقكم، ثم جمعكم للحساب والجزاء هو الذي أحياكم بعد أن لم تكونوا شيئا، وهو الذي يميتكم عند انتهاء آجالكم. {وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} أي: بقدرته، وحكمته، وتدبيره اختلاف الليل والنهار، بالزيادة والنقصان، كما هو مشاهد تبعا لفصول السنة. وقيل: اختلافهما في الظلمة، والنور، وقيل:
تكررهما يوما بعد ليلة، وليلة بعد يوم. وكله مختص بالله تعالى لا يقدر عليه غيره. {أَفَلا تَعْقِلُونَ:} تفهمون، وتتدبرون ذلك، فتعرفوا قدرته تعالى على البعث، والحساب، والجزاء، والإثابة، أو العقاب، أو: فتستدلوا بالصنع على الصانع، فتؤمنوا. هذا؛ وانظر شرح «العقل» في الآية رقم [10] من سورة (الأنبياء)، وشرح:{أَفَلا} في الآية رقم [30] منها، وشرح {اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} في الآية رقم [12] من سورة (الإسراء). ولا تنس: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، والطباق بين {يُحْيِي وَيُمِيتُ} وهي من المحسنات البديعية اللفظية.
الإعراب: (هو الذي): مبتدأ، وخبر، وانظر الآية رقم [79] لتفصيله. {يُحْيِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، والفاعل يعود إلى الذي، وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{وَيُمِيتُ} معطوفة عليها، وحذف مفعول الفعلين
للتعميم، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {وَلَهُ:} الواو: حرف عطف. (له): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {اِخْتِلافُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {اللَّيْلِ:}
مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله. (النهار): معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية:{وَلَهُ اخْتِلافُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {أَفَلا:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي تقريعي. الفاء: حرف استئناف. (لا): نافية. {تَعْقِلُونَ:} مضارع مرفوع
…
والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، أو هي معطوفة على جملة مقدرة قبلها.
الشرح: {بَلْ قالُوا} أي: كفار مكة. {مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ} أي: كذبوا كما كذب الأولون، وأنكروا البعث، والحساب، كما أنكر الأولون، وهم: قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وأمثالهم، ثم بيّن قولهم، وإنكارهم للبعث بالجملة التالية. هذا؛ ويقرأ:{أَإِذا} {أَإِنّا} بقراآت كثيرة جملتها تسع، وكلها سبعية، وهذا الكلام:{أَإِذا..} . إلخ قد تكرر هو أو ما يماثله في آيات كثيرة، أذكر الآية رقم [49 و 98] من سورة (الإسراء) وقولهم هذا تعجب منهم، واستبعاد للبعث بعد الموت، وفناء الجسد، وشاعرهم هو الذي يقول:[الوافر]
ألا من بلّغ الرحمن عنّي
…
بأني تارك شهر الصّيام
أيوعدنا ابن كبشة أن سنحيا
…
وكيف حياة أصداء وهام؟!
أتترك أن تردّ الموت عنّي
…
وتحييني إذا بليت عظامي؟
فهو يقصد بابن كبشة: النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو كبشة هي كنية زوج حليمة مرضعته صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يطلقون عليه ذلك تحقيرا له صلى الله عليه وسلم، ولكنهم لم يتأملوا: أنهم كانوا قبل ذلك ترابا، فخلقهم الله، وأظهرهم إلى الوجود، وهم ظنوا: أن البعث، والإعادة يكونان في الدنيا، وهم لم يروا أحدا رجع إلى الدنيا ممن تقدمهم.
وانظر شرح {مِتَّ} في الآية رقم [34] من سورة (الأنبياء).
الإعراب: {بَلْ:} حرف عطف انتقالي. {قالُوا:} ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق.
{مِثْلَ:} مفعول به، وساغ ذلك؛ لأنه متضمن كلاما كثيرا، فهو بمعنى الجملة، وقيل: هو صفة مفعول مطلق محذوف، التقدير: قالوا قولا مثل
…
إلخ، و {مِثْلَ} مضاف، و {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف، التقدير: مثل الذي قاله الأولون. هذا؛ وإن اعتبرت {ما} مصدرية؛ فهي تؤول مع
الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالإضافة، التقدير: مثل قول الأولين، وجملة:{قالُوا..} . إلخ معطوفة على جملة مقدرة، التقدير: فلم يعتبروا، بل قالوا
…
إلخ.
{قالُوا:} فعل، وفاعله. {أَإِذا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. وهذا عند سيبويه. {مِتْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على القول المشهور المرجوح. وجواب (إذا) محذوف دل عليه الجملة الآتية، التقدير: أئذا متنا
…
نبعث، ولا يجوز أن يعمل فيها (مبعوثون)؛ لأن ما بعد (إنّ) لا يعمل فيما قبلها، وينبغي أن تعلم: أنّ (إذا) هنا ظرف مجرد عن الشرطية، فإن تقدير الكلام: أنبعث إذا
…
إلخ وهذا قول غير سيبويه، والكلام في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا أَإِذا..} . إلخ مفسرة لمعنى ما تضمنه {مِثْلَ} من كلام. وقيل: بدل من سابقتها. تأمل. (كنا): ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمها. {تُراباً:} خبرها، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها. (عظاما): معطوف على ما قبله. {أَإِنّا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. (إنا):
حرف مشبه بالفعل. و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {لَمَبْعُوثُونَ:}
اللام: هي المزحلقة. (مبعوثون): خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الاسمية:{أَإِنّا..} . إلخ مؤكدة لما قبلها، والاستفهام فيها مبالغة بالإنكار، وبدون الاستفهام فيها حصل الإنكار بالأولى، وهذه مرتبطة فيها، فالإنكار بالأولى إنكار فيها أيضا.
{لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)}
الشرح: {لَقَدْ وُعِدْنا} أي: هذا الوعد، وهو البعث بعد الموت. {نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ:} وعد آباءنا قوم زعموا: أنهم رسل الله من قبل مجيء محمد، فلم نرهم بعثوا، ولم نر لذلك حقيقة؛ لأنهم ظنوا: أن البعث، والإعادة إنما يكون في الدنيا، وهم لم يروا، ولم يسمعوا: أن أحدا رجع إلى الدنيا ممن تقدمهم بعد الموت. {إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أي:
ما هذا الذي يقوله محمد من أننا نبعث بعد الموت إلا أكاذيب الأولين، وترهاتهم، وخرافاتهم التي سطروها. وانظر الآية رقم [5] من سورة (الفرقان) لشرح ذلك. هذا؛ والآية بحروفها مذكورة في سورة (النمل) رقم [68] مع ملاحظة تقديم (هذا) على (نحن) هناك؛ لأن المقصود بالذكر هناك إنما هو البعث، وأخّر في هذه السورة (هذا) على (نحن)؛ لأن المقصود به هنا المبعوثون نظرا إلى الاهتمام في الموضعين، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {لَقَدْ:} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف، أو هي لام الابتداء. (قد):
حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {وُعِدْنا:} ماض مبني للمجهول، مبني على السكون،
و (نا): نائب فاعله، وهو المفعول الأول. {نَحْنُ:} ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع توكيد ل: (نا). {وَآباؤُنا:} معطوف على (نا) بعد توكيدها، و (نا): في محل جر بالإضافة.
{هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب مفعول به ثان، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {مِنْ قَبْلُ:} متعلقان بالفعل {وُعِدْنا،} أو بمحذوف صفة ل: (آباؤنا) أي: الكائنون من قبل، ومقتضى القاعدة: أن يكونا متعلقين بمحذوف حال منه؛ لأنه معرفة بالإضافة للضمير، ولكن المراد به الماضي، وهو لا يتفق مع الحال. تأمل، وبني {قَبْلُ} على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا، لا معنى. {إِنْ:} حرف نفي بمعنى «ما» . {هذا:} اسم إشارة مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {إِلاّ:} حرف حصر. {أَساطِيرُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {الْأَوَّلِينَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء
…
إلخ، وجملة:{لَقَدْ..} . إلخ جواب القسم المقدر، لا محل لها، والقسم وجوابه، والجملة الاسمية:{إِنْ هذا..} . إلخ الكلام كله ففي محل نصب مقول القول؛ لأنه من مقول كفار قريش. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {قُلْ:} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم كلاحقه في الآيات التالية، وهو جواب عما قالوه فيما تقدم. {لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها:} يخبر بربوبيته، ويعترف بوحدانيته، وملكه الذي لا يزول، وقدرته التي لا تحول. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: إن كنتم من أهل العلم، أو من العالمين بذلك. فيكون استهانة لهم، وتقريرا لفرط جهالتهم، حتى جهلوا مثل هذا الجلي الواضح، وإلزاما بما لا يمكن لمن له مسكة من العلم إنكاره، ولذا أخبر عن جوابهم قبل أن يجيبوا، فقال:{سَيَقُولُونَ لِلّهِ} ولا بد لهم من ذلك؛ لأن العقل الصريح قد اضطرهم بأدنى نظر، وأقل تأمل إلى الإقرار بأنه تعالى خالقها. {قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أي: أفلا تتعظون وتعلمون أن من قدر على خلق ذلك ابتداء، فهو على إحياء الموتى بعد موتهم أقدر، فإن بدأ الخلق ليس بأهون من إعادته، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه. هذا؛ ويقرأ:«(تذكرون)» و «(تتذكّرون)» .
الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لِمَنِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم، و (من) اسم استفهام مبني على السكون في محل جر باللام. {الْأَرْضُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {وَمَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع معطوف على {الْأَرْضُ} . {فِيها:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {إِنْ:} حرف شرط جازم.
{كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه.
{تَعْلَمُونَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو فاعله، ومفعوله محذوف
للتعميم، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف، التقدير: فأخبروني بخالقهما، والكلام في محل نصب مقول القول. {سَيَقُولُونَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والسين حرف استقبال. {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو لله، ويقرأ بغير لام، فيكون التقدير: هو الله، والقراءة باللام هي قراءة الجمهور، وهو جواب ما فيه اللام، فهو مطابق للفظ، والمعنى، والقراءة بغير لام حملا على المعنى؛ لأن معنى {لِمَنِ الْأَرْضُ:}
من رب الأرض؟ فيكون الجواب: الله، أي: هو الله، والجملة الاسمية على القراءتين في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية مستأنفة في المعنى، وهي من مقول الله تعالى. {قُلْ:} أمر، وفاعله:
«أنت» وجملة: {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} في محل نصب مقول القول، وإعرابها مثل إعراب:{أَفَلا تَعْقِلُونَ} في الآية رقم [80] بلا فارق. وجملة: {قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ:} هو مثل الآية [85]. {سَيَقُولُونَ لِلّهِ} ولا بد لهم من ذلك؛ لأن الواقع يضطرهم إلى الاعتراف بأن الله هو المالك لما في هذا الكون، وذلك بأدنى نظر، وأقل تأمل. {أَفَلا تَتَّقُونَ} أي: تخافون عقابه، فلا تشركوا به بعض مخلوقاته، ولا تنكروا قدرته على بعض مقدوراته. أو المعنى: أفلا تخافونه في جحودكم قدرته على البعث مع اعترافكم بقدرته على خلق هذه الأشياء. هذا؛ وانظر الكلام على {الْعَرْشِ} في الآية رقم [22] من سورة (الأنبياء)، وانظر شرح (التقوى) في الآية رقم [1] من سورة (الحج). هذا؛ ويقرأ:{سَيَقُولُونَ لِلّهِ:} بغير لام فيه، وفيما بعده على ما يقتضيه لفظ السؤال، بخلافه فيما قبله فحذف اللام منه حملا على المعنى كما رأيت، والقراءة باللام موافقة للفظ والمعنى، والقراءة هنا وفيما بعده باللام حملا على المعنى؛ لأنك إذا قلت: من ربّ هذا؟ فمعناه لمن هذا؟ فيجاب لفلان كقول الشاعر: [الطويل]
إذا قيل من ربّ المزالف والقرى
…
وربّ الجياد الجرد قيل: لخالد
فالمزالف جمع: مزلفة، وهي المرحلة من الطريق، وهي أيضا القرية بين الريف، والبرج.
الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر فيه تقديره:«أنت» . {مَنْ:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {رَبُّ:} خبره، وهو مضاف، و {السَّماواتِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {السَّبْعِ:} صفة {السَّماواتِ} . {وَرَبُّ:} معطوف على
ما قبله، وهو مضاف، و {الْعَرْشِ:} مضاف إليه
…
إلخ. {الْعَظِيمِ:} صفة {الْعَرْشِ،} والجملة الاسمية: {مَنْ رَبُّ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {سَيَقُولُونَ لِلّهِ:} انظر الآية السابقة فالإعراب واحد على القراءتين، وانظر إعراب:{قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} فيها أيضا إفرادا، وجملا، والله الموفق، والمعين، وبه أستعين.
الشرح: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ:} ملك كل شيء، زيدت فيه، الواو، والتاء للمبالغة كالرهبوت، والرغبوت، والرحموت من الرهبة، والرغبة، والرحمة. والمراد: السموات، وما فوقهن، وما بينهن، والأرضين، وما تحتهن، وما بينهن، وما لا يعلمه إلا هو، وقال مجاهد:
{مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ:} خزائن كل شيء. {وَهُوَ يُجِيرُ:} يغيث، ويحرس، ويحفظ، ويمنع.
{وَلا يُجارُ عَلَيْهِ} أي: ولا يغاث أحد، ولا يمنع منه، يقال: أجرت فلانا على فلان: إذا أغثته منه، ومنعته. المعنى: يغيث من يشاء ممن يشاء، ولا يغيث أحد منه أحدا. ثم قيل: هذا في الدنيا، أي من أراد الله إهلاكه، وخوفه لم يمنعه منه مانع، ومن أراد نصره، وأمنه لم يدفعه من نصره، وأمنه دافع. وقيل: هذا في الآخرة؛ أي: لا يمنعه من مستحق الثواب مانع، ولا يدفعه عن مستوجب العذاب دافع. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: مجيرا، ومغيثا غير الله فاذكروه.
{سَيَقُولُونَ لِلّهِ} أي: الإغاثة لله، أو هو المغيث، والمجير، لا مغيث غيره، ولا مجير سواه. {فَأَنّى تُسْحَرُونَ} أي: فكيف تخدعون، وتصرفون عن الإيمان بالله، وعبادته، وتوحيده مع ظهور الأمر. وتظاهر الأدلة على ما ذكر؟! أو: كيف يخيل إليكم أن تشركوا به ما لا يضر، ولا ينفع، والخادع: هو الهوى، والشيطان، والسحر: هو التخييل كما رأيت في الآية رقم [57] من سورة (طه). وكل ما تقدم احتجاج على العرب المقرين بوجود الصانع، وهو الله تعالى.
هذا؛ ومعنى {بِيَدِهِ:} بقدرته، وتحت تصرفه.
الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {مَنْ:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {بِيَدِهِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة. {مَلَكُوتُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {كُلِّ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر الميمي لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، و {كُلِّ:} مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه، والجملة الاسمية:{بِيَدِهِ مَلَكُوتُ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{مَنْ بِيَدِهِ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ مَنْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَهُوَ:} الواو: حرف عطف. (هو): مبتدأ. {يُجِيرُ:} مضارع، وفاعله مستتر تقديره:
«هو» ، والمفعول محذوف، انظر الشرح، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {يُجارُ:} مضارع مبني للمجهول. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور في محل رفع نائب فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [85]، والجملة الشرطية بكاملها في محل نصب مقول القول. {سَيَقُولُونَ لِلّهِ} انظر الآية رقم [86] ففيها الكفاية. {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {فَأَنّى:} الفاء: زائدة لتحسين اللفظ، أو هي الفصيحة. (أنى): اسم استفهام، وتعجب بمعنى: كيف مبني على السكون في محل نصب حال صاحبها الواو، وعاملها الفعل بعدها. {تُسْحَرُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية على اعتبار الفاء فصيحة لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كنتم تعترفون بذلك؛ فكيف تسحرون، أي: تخدعون
…
؟ والكلام في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. تأمل.
{بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90)}
الشرح: {بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ} أي: بالقول الصدق من التوحيد، والوعد بالحساب، والثواب، والعقاب، لا ما يقوله الكفار من إثبات الشريك له تعالى، وإنكار البعث واليوم الآخر، وما يقع فيه. {وَإِنَّهُمْ} أي: الكافرين {لَكاذِبُونَ} أي: في قولهم: اتخذ الله ولدا من الملائكة، أو من البشر، وكاذبون أيضا في ادعائهم الشريك معه تعالى شأنه، وتعالت حكمته. وما أحراك أن تنظر {الْكَذِبَ} في الآية رقم [105] من سورة (النحل).
الإعراب: {بَلْ:} حرف عطف انتقالي. {أَتَيْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها في الآية رقم [82] {بِالْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من (نا).
{وَإِنَّهُمْ:} الواو: واو الحال. (إنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {لَكاذِبُونَ:}
اللام: هي المزحلقة. (كاذبون): خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} في محل نصب حال من الضمير الواقع مفعولا به، والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ:} لتقدسه عن مماثلة أحد، وعدم احتياجه إلى أحد، بل
واستغنائه عن كل أحد. وفيه رد على مشركي العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله، وعلى اليهود الذين قالوا: عزير ابن الله، وعلى النصارى الذين قالوا: عيسى ابن الله. {وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ:} يساهمه في الألوهية، ويشاركه في الملكوتية. {إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ:}
المعنى لو كان مع الله آلهة كما يدعون، ويفترون لذهب كل واحد منهم بما خلقه، واستبد به، وامتاز ملكه عن ملك الآخرين، وقوى نفسه، وجيشه، وأعوانه، ووقع بينهم التحارب، وظهر التغالب كما هو حال ملوك الدنيا، فلم يكن بيده وحده ملكوت كل شيء، واللازم باطل بالإجماع، والاستقراء، وقيام البرهان على استناد جميع الممكنات إلى إله واحد.
فقد قال تعالى في سورة (الإسراء) رقم [42]: {قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً،} وقال في سورة (الأنبياء) رقم [22]: {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا} انظر شرح الآيتين في محلهما، فإنه جيد من حمده تعالى، وإذا كان الأمر كذلك؛ فاعلموا: أن الله إله واحد، بيده ملكوت كل شيء، ويقدر على كل شيء، وهو غني عن كل شيء.
{سُبْحانَ اللهِ عَمّا يَصِفُونَ:} تنزه عن الولد والشريك لما سبق من الدليل على فساده. هذا؛ و {سُبْحانَ} اسم مصدر، وقيل: مصدر مثل: غفران، وليس بشيء؛ لأن الفعل سبّح بتشديد الباء، والمصدر: تسبيح، ولا يكاد يستعمل إلا مضافا منصوبا بإضمار فعله، مثل: معاذ الله، وقد أجري علما على التسبيح بمعنى التنزيه على الشذوذ في قول الأعشى:[السريع]
قد قلت لمّا جاءني فخره
…
سبحان من علقمة الفاخر
وتصدير الكلام به اعتذار عن الاستفسار، والجهل بحقيقة الحال، ولذلك جعل مفتاح التوبة، فقال موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ،} وقال ذو النون-عليه السلام: {سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ،} وقد نزه الله ذاته في كثير من الآيات بنفسه تنزيها لائقا به، وجملة القول فيه: هو اسم موضوع موضع المصدر، وهو غير متمكن؛ لأنه لا يجري بوجوه الإعراب من رفع وجر، ولا تدخل عليه الألف واللام، ولم يجر منه فعل، ولم ينصرف؛ لأن في آخره زائدتين الألف والنون، ومعناه: التنزيه، والبراءة لله عز وجل من كل نقص، فهو ذكر عظيم لله تعالى لا يصلح لغيره. وقد روي عن طلحة الخير بن عبيد الله، أحد العشرة المبشرين بالجنة-رضي الله عنهم أجمعين-: أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم:
ما معنى سبحان الله؟ فقال: «تنزيه الله من كل سوء» والعامل فيه على مذهب سيبويه الفعل الذي من معناه، لا من لفظه؛ إذ لم يجر من لفظه فعل، وذلك مثل: قعد القرفصاء، فالتقدير عنده:
أنزه الله تنزيها، فوقع {سُبْحانَ اللهِ} مكان قولك: تنزيها لله.
الإعراب: {مَا:} نافية. {اِتَّخَذَ:} ماض. {اللهُ:} فاعله. {مِنْ:} حرف صلة يفيد التوكيد. {وَلَدٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها
اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {وَما:}
الواو: حرف عطف. (ما): نافية. {كانَ:} ماض ناقص. {مَعَهُ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر {كانَ،} تقدم على اسمها، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنْ:} حرف جر صلة كسابقه. {إِلهٍ:} اسم {كانَ} مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره
…
إلخ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {إِذاً:} حرف جواب، وجزاء. وهو هنا مقدر ب:«لو» الشرطية، انظر الشرح، وهو مثل الآية رقم [73 و 76] من سورة (الإسراء). {لَذَهَبَ:} اللام: واقعة في جواب «لو» المقدرة. (ذهب): ماض. {كُلُّ:} فاعله، وهو مضاف، و {إِلهٍ} مضاف إليه. {بِما:} متعلقان بالفعل: (ذهب)، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: لذهب كل إله بالذي، أو: بشيء خلقه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: لذهب كل إله بخلقه. والجملة الفعلية هذه جواب ل: «لو» المقدرة، والقائم مقامها (إذا) و «لو» المقدرة، ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.
{وَلَعَلا:} الواو: حرف عطف. اللام: واقعة في جواب «لو» تقديرا بسبب العطف. (علا):
ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {بَعْضُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة. {عَلى بَعْضٍ:} متعلقان بالفعل (علا)، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {سُبْحانَ:} مفعول مطلق لفعل محذوف كما رأيت في الشرح، وهو مضاف، و {اللهُ} مضاف إليه، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو من إضافة المصدر لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا، والجملة الفعلية الحاصلة منه، ومن فعله المحذوف مستأنفة، لا محل لها. {عَمّا:} جار ومجرور متعلقان ب: {سُبْحانَ،} و (ما):
تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية مثل {بِما خَلَقَ} فعلى الأولين التقدير: عن الذي، أو: عن شيء يصفونه به، وعلى الثالث التقدير: عن وصفهم الله بما لا يليق به.
{عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ (92)}
الشرح: {عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ} أي: يعلم سبحانه وتعالى ما غاب عن أبصار عباده، ويعلم ما يشاهدونه بحواسهم، فلا يغيب عن علمه شيء في الأرض، ولا في السماء، وهو السميع العليم، فنبه سبحانه على انفراده بعلم الغيب، والإحاطة بالباطن الذي يخفى على الخلق، فلا يجوز أن يشاركه فيه أحد من خلقه، وهو دليل قاطع على تفرده بالوحدانية، وعلى نفي الشريك له، وعلى نفي الولد له. {فَتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ:} تنزه، وتعاظم عمّا يقوله المشركون من اتخاذ الشريك، والولد، والصاحبة له، جلّت قدرته. هذا، و (تعالى) يأتي منه
مضارع: يتعالى بمعنى: يتعاظم ويتقدس، ولا أمر له، فهو ناقص التصرف، و «يتعالى» لم يرد في القرآن الكريم أيضا، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {عالِمِ:} بالجر بدل من لفظ الجلالة، أو صفة له، ويقرأ بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو عالم، وعليه: فالجملة الاسمية هذه مستأنفة، لا محل لها، و {عالِمِ} مضاف، و {الْغَيْبِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.
{وَالشَّهادَةِ:} معطوف على ما قبله. {فَتَعالى:} الفاء: حرف عطف، أو حرف استئناف.
(تعالى): ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل يعود إلى (الله) تقديره:«هو» . {عَمّا:}
متعلقان بالفعل قبلهما، وما تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:(عن)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: عن الذي، أو: عن شيء يشركونه مع الله، وعلى الثالث تؤول مع الفعل بعدها بمصدر، التقدير: عن شركهم، وجملة:{فَتَعالى..} . إلخ معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، وذلك على قراءة الرفع، فكأنه قال: عالم الغيب والشهادة فتعالى، كقولك: زيد شجاع، فعظمت منزلته؛ أي شجع، فعظمت. وعلى قراءة (عالم) بالجر، فهي مستأنفة، لا محل لها، وقيل: على إضمار القول؛ أي: أقول: فتعالى الله. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: فقد علّم الله نبيه صلى الله عليه وسلم ما يدعو به، والمعنى: قل: يا رب إن أريتني ما يوعدون من العذاب في الدنيا، أو في الآخرة، فلا تجعلني في عداد الظالمين، ولا تعذبني بعذابهم! فعن الحسن-رضي الله عنه: أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن له في أمته نقمة، ولم يخبره متى وقتها، فأمره أن يدعو هذا الدعاء، ويجوز أن يسأل النبي المعصوم ربه ما علم أنه يفعله، وأنه يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله، إظهارا للعبودية، وتواضعا لربه. واستغفاره صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه لذلك، وتعليمه هذا الدعاء إما لهضم النفس، أو؛ لأن شؤم الظلمة قد يحيق بمن وراءهم، كقوله تعالى:
{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} .
أقول: وهذا كله يعني: أن المراد بالظالمين هم ما يكونون في هذه الأمة، وسياق الآيات يدل على أن المراد الظالمين، وهم الكفرة الذين جعلوا لله شريكا، وجعلوا له صاحبة وولدا، وقد توعدهم بالعذاب في غير ما آية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم: أن الله تعالى لا يجعله في القوم الظالمين إذا نزل بهم العذاب، ومع هذا فقد أمره ربه بهذا الدعاء، والسؤال ليعظم أجره، وليكون في كل الأوقات ذاكرا لربه، عز وجل. هذا؛ وتكرير النداء، وتصدير كل واحد بالشرط، والجزاء به فضل تضرع، وجؤار.
تنبيه: قال مكي بن أبي طالب القيسي-رحمه الله تعالى: ونداء الرب قد كثر حذف «يا» النداء منه في القرآن الكريم، وعلة ذلك: أن في حذفها من نداء الرب فيه معنى التعظيم له، والتنزيه، وذلك أن النداء فيه ضرب من معنى الأمر؛ لأنك إذا قلت: يا زيد، فمعناه: تعال يا زيد، أدعوك يا زيد، فحذفت (يا) من نداء الرب ليزول معنى الأمر، وينقص؛ لأن «يا» تؤكده، وتظهر معناه، فكان في حذف (يا) التعظيم، والإجلال، والتنزيه للرب تعالى، فكثر حذفها في القرآن والكلام في نداء الرب لذلك المعنى، انتهى.
هذا؛ والرب يطلق، ويراد به السيد، والمالك، ومنه قوله تعالى حكاية عن قول يوسف عليه السلام:{اِرْجِعْ إِلى رَبِّكَ..} . إلخ وقوله أيضا: {أَمّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً..} . إلخ، وقال الأعشى:[الكامل]
ربّي كريم، لا يكدّر نعمة
…
وإذا تنوشد في المهارق أنشدا
كما يقال: رب الدار، ورب الأسرة، أي مالكها، ومتولي شؤونها. كما يراد به المربي، والمصلح، يقال: ربّ فلان الضيعة، يربها: إذا أصلحها، والله سبحانه وتعالى مالك العالمين، ومربيهم، وموصلهم إلى كمالهم شيئا فشيئا، يجعل النطفة علقة، ثم يجعل العلقة مضغة، ثم يجعل المضغة عظاما، ثم يكسو العظام لحما، ثم يصوره، ويجعل فيه الروح، ثم يخرجه، وهو خلق صغير ضعيف، فلا يزال ينميه، وينشيه؛ حتى يجعله رجلا، أو امرأة كاملين. ولا يطلق الرب على غير الله تعالى إلا مقيدا بالإضافة، مثل قولك: رب الدار، ورب الناقة، ونحو ذلك.
والرب: المعبود بحق، وهو المراد منه تعالى عند الإطلاق، ولا يجمع إذا كان بهذا المعنى، ويجمع إذا كان معبودا بالباطل، قال تعالى حكاية عن قول يوسف عليه السلام لصاحبي السجن:
{أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ} كما يجمع إذا كان بأحد المعاني السابقة، قال الشاعر:[الطويل]
هنيئا لأرباب البيوت، بيوتهم
…
وللأكلين التّمر مخمس مخمسا
وهو اسم فاعل بجميع معانيه، أصله: رابب، ثم خفف بحذف الألف، وإدغام أحد المثلين في الآخر. وانظر شرح «الظلم» في الآية رقم [60] من سورة (الحج).
الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {رَبِّ:} منادى حذف منه أداة النداء منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، وباقي الإعراب مثل:{يا قَوْمِ} في الآية رقم [23]. {إِمّا:} هي «إن» الشرطية مدغمة في «ما» الزائدة للتوكيد.
{تُرِيَنِّي:} مضارع مبني على الفتح لا تصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم فعل الشرط، وحذفت نون الوقاية للتخفيف، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«أنت» . وياء المتكلم مفعول به أول. {إِمّا:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة، أو مصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في
محل نصب مفعول به ثان. {يُوعَدُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والمفعول الثاني محذوف، وهو العائد، أو الرابط؛ إذ التقدير: إما تريني الذي، أو: شيئا يوعدونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به ثان، التقدير: وعيدك لهم، وجملة:{تُرِيَنِّي..} .
إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. هذا؛ وينبغي أن تعلم:
أن الفعل يرى هنا بصري، وقد تعدى إلى المفعول الثاني بهمزة التعدية؛ لأن ماضيه هنا رباعي وهو أرى، ومضارعه: يري.
{رَبِّ:} هذا النداء مؤكد لسابقه تأكيدا لفظيا، ومعترض بين فعل الشرط، وجوابه.
{فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا): ناهية. {تَجْعَلْنِي:} مضارع مجزوم ب:
(لا) الناهية، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. {فِي الْقَوْمِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، و {فِي} بمعنى «مع». تأمل. {الظّالِمِينَ:} صفة {الْقَوْمِ} مجرور مثله، وعلامة جره الياء
إلخ. هذا؛ والكلام: {رَبِّ إِمّا تُرِيَنِّي..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ رَبِّ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{وَإِنّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95)}
الشرح: كان كفار قريش ينكرون الوعيد، والتهديد بالعذاب، ويضحكون منه، ويسخرون، فقيل لهم: إن الله قادر على إنجاز ما يتوعدكم، ويتهددكم به، إن تأملتم، وعرفتم الحقيقة. وقد أخره سبحانه، وتعالى؛ لأنه علم أن بعضهم، أو بعض أعقابهم يؤمنون، وقد حصل ذلك حيث أسلم المئات منهم بعد الهجرة، وعلى رأسهم سيف الله، وسيف رسوله خالد بن الوليد الذي خرج من مكة مؤمنا طائعا بعد غزوة الحديبية، أو المعنى: أن الله لا يعذبهم، وأنت يا محمد موجود بينهم، ومقيم بين أظهرهم، وهذا ما صرحت به آية (الأنفال) رقم [33]{وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} .
الإعراب: {وَإِنّا:} الواو: واو الحال. (إنا): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، وحذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {عَلى:} حرف جر. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب.
{نُرِيَكَ:} مضارع منصوب ب: «أن» ، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والكاف مفعول به أول.
{ما:} موصولة، أو موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان. {نَعِدُهُمْ:}
مضارع، والفاعل: نحن، والهاء مفعول به أول، والثاني محذوف، وهو العائد، أو الرابط؛ إذ التقدير: نريك الذي، أو: شيئا نعدهموه، أو نعدهم إياه، و (أن) والمضارع في تأويل مصدر في
محل جر ب: {عَلى} والجار، ومجرور متعلقان ب:(قادرون) بعدهما. {لَقادِرُونَ:} خبر إن مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، واللام هي المزحلقة، والجملة الاسمية:{وَإِنّا..} . إلخ في محل نصب حال من الفاعل المستتر بالفعلين السابقين، والرابط: الواو، والضمير. أو هي مستأنفة، لا محل لها، وهو أقوى، وأولى.
{اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96)}
الشرح: لقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بالصفح، والعفو، ومكارم الأخلاق، ودفع السيئة بالحسنة، فما كان منها لهذه الأمة فيما بينهم؛ فهو محكم باق في الأمة إلى يوم القيامة، وما كان فيها من موادعة الكفار، وترك التعرض لهم، والصفح عن أمورهم فمنسوخ بآية القتال، وقيل: هي محكمة أيضا في حق الكفار بحيث لم يؤد ذلك إلى وهن في الدين، أو إلى انتهاك حرمة المسلمين؛ إذ المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى ما ذكر، وسترى مزيدا لذلك في سورة (فصلت) رقم [33] إن شاء الله تعالى.
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ} أي: يصفوننا من نسبة الشريك إلينا، ومن اتخاذ الصاحبة، والولد، أو بما يصفونك به يا محمد من قولهم: هو شاعر، ساحر، كاهن، مجنون، إلى غير ذلك. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه. هذا؛ وأصل {السَّيِّئَةَ:} السّيوئة، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء. وأصل {يَصِفُونَ:} يوصفون، فحذفت الواو لوقوعها بين عدوتيها، وهما الياء والكسرة، وتحذف من المبدوء بالهمزة والنون والتاء حملا على المبدوء بالياء من كل مضارع مأخوذ من ماض مبدوء بالواو، مثل وعد، وزن، ورث
…
إلخ، و {أَعْلَمُ} ليس على بابه من التفضيل؛ لأن الله لا يشركه في علمه أحد.
الإعراب: {اِدْفَعْ:} أمر، وفاعله:«أنت» . {بِالَّتِي:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (التي) صفة لموصوف محذوف، التقدير: بالخصلة التي، والجملة الاسمية:{هِيَ أَحْسَنُ} صلة الموصول لا محل لها. {السَّيِّئَةَ:} مفعول به، والجملة الفعلية:{اِدْفَعْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وإنما لم يقل: فادفع بالتي هي أحسن، أي: بقرن الجملة الفعلية الطلبية بالفاء الفصيحة؛ لأنه على تقدير قائل قال: فكيف أصنع، فقال: ادفع بالتي هي أحسن. {نَحْنُ:} ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع مبتدأ. {أَعْلَمُ:} خبره. {بِما:} متعلقان به، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: أعلم بالذي، أو:
بشيء يصفوننا به. أو بالذي، أو: بشيء يصفونك به. وعلى اعتبار المصدرية، تؤول (ما) مع الفعل بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: نحن أعلم بوصفهم لنا، أو بوصفهم لك، والجملة الاسمية تعليل للأمر، لا محل لها. وقيل: في محل نصب حال. ولا وجه له.
الشرح: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ:} أمتنع، وأتحصن، وأعتصم بك. {مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ} أي: وساوسهم، ونخساتهم، ونزغاتهم الشاغلة عن ذكر الله تعالى، فعن جبير بن مطعم-رضي الله عنه: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة، -قال عمرو-رضي الله عنه: ولا أدري أي صلاة هي؟ - فقال: «الله أكبر كبيرا (ثلاثا)، والحمد لله كثيرا (ثلاثا)، وسبحان الله بكرة وأصيلا (ثلاثا)، أعوذ بالله من الشّيطان من نفخه، ونفثه، وهمزه، قال: نفثه: الشّعر، ونفخه: الكبر، وهمزه: الموتة» أخرجه أبو داود، والموتة: الجنون.
{وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} أي: يكونوا معي في أموري، فإنهم إذا حضروا الإنسان كانوا معدّين للهمز، وإذا لم يكن حضور فلا همز. فعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الشّيطان يحضر أحدكم عند كلّ شيء من شأنه، حتّى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت من أحدكم اللّقمة، فليمط ما كان بها من أذى، ثمّ ليأكلها، ولا يدعها للشّيطان، فإذا فرغ: فليلعق أصابعه، فإنّه لا يدري في أيّ طعامه البركة» . أخرجه مسلم، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [64] من سورة (الإسراء) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، وخذ ما يلي:
فعن أبي أمامة الباهلي-رضي الله عنه-قال: حدّث خالد بن الوليد-رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهاويل يراها باللّيل، حالت بينه وبين صلاة اللّيل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا خالد بن الوليد! ألا أعلّمك كلمات تقولهنّ، ولا تقولهنّ ثلاث مرّات؛ حتّى يذهب الله عنك ذلك؟» . قال: بلى يا رسول الله بأبي أنت وأمّي! فإنّما شكوت هذا إليك رجاء هذا منك. قال:
قل: أعوذ بكلمات الله التّامّة من غضبه، وعقابه، وشرّ عباده، ومن همزات الشّياطين، وأن يحضرون». قالت عائشة-رضي الله عنها: فلم ألبث ليالي حتّى جاء خالد بن الوليد، فقال:
يا رسول الله بأبي أنت وأمّي! والّذي بعثك بالحقّ ما أتممت الكلمات الّتي علّمتني ثلاث مرّات حتّى أذهب الله عني ما كنت أجد، ما أبالي لو دخلت على أسد في خيسته بليل. رواه الطبراني في الأوسط، خيسة الأسد: موضعه الذي يأوي إليه.
وعن خالد-رضي الله عنه: أنه أصابه أرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ألا أعلّمك كلمات إذا قلتهنّ نمت، قل: اللهمّ ربّ السموات السبع وما أظلّت، وربّ الأرضين وما أقلّت، وربّ الشّياطين وما أضلّت، كن لي جارا من شرّ خلقك أجمعين أن يفرط عليّ أحد منهم، أو أن يطغى، عزّ جارك، وتبارك اسمك» . رواه الطبراني في الكبير، والأوسط، ويزاد:«وجلّ ثناؤك، ولا إله غيرك» .
الإعراب: {وَقُلْ:} الواو: حرف عطف. (قل): أمر، وفاعله: أنت. {رَبِّ:} منادى حذف منه أداة النداء منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، وفيه أوجه، انظرها بإعراب {يا قَوْمِ} في الآية رقم [23]. {أَعُوذُ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {بِكَ:} متعلقان بما قبلهما. {مِنْ هَمَزاتِ:} متعلقان بما قبلهما، ويجوز تعليقهما وتعليق ما قبلهما بمحذوف حال، التقدير: أعوذ مستجيرا بك من همزات، و {هَمَزاتِ} مضاف، و {الشَّياطِينِ} مضاف إليه، والجملة الندائية والجملة الفعلية كلتاهما في محل نصب مقول القول، و {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ} الإعراب مثل ما قبلهما، والجملتان معطوفتان على ما قبلهما، فهما في محل نصب مقول القول أيضا. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {يَحْضُرُونِ:} مضارع منصوب ب: {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة مفعول به، و {أَنْ} والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير من حضورهم، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما.
الشرح: {حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ:} هذا الكلام متعلق بالفعل {يَصِفُونَ} في الآية رقم [91] والمعنى: لا يزالون مصرين على الشرك إلى وقت مجيء الموت، أو لا يزالون مستمرين على سوء الذكر، إلى هذا الوقت، وما بينهما مذكور على وجه الاعتراض، والتأكيد للإغضاء عنهم، مستعينا بالله على الشيطان أن يستزله عن الحلم، ويغريه على الانتصار منهم.
{قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ:} قال أبو البقاء: فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه جمع على التعظيم، كما قال تعالى:{إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ} . وكقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا} . والثاني: أنه أراد: يا ملائكة ربّي ارجعون. والثالث: أنه دل بلفظ الجمع على تكرير القول، فكأنه قال: ربّ ارجعني، ربّ ارجعني، ربّ ارجعني انتهى. بتصرف. ومعنى التكرير قيل به في قوله تعالى في سورة (ق):{أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفّارٍ عَنِيدٍ،} وبقول امرئ القيس: [الطويل]
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
…
بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل
ومثله كثير في الشعر العربي. هذا؛ وسؤال الرجعة إلى الدنيا ليس مختصا بالكافر، فقد يسألها المؤمن كما في قوله تعالى:{وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصّالِحِينَ} الآية رقم [10] من سورة (المنافقون). بل إن الندامة بعد الموت تعم الصالح والطالح، والمؤمن، والكافر. المؤمن الصالح يندم على عدم
الزيادة في الخيرات، والصالحات. والطالح الكافر يندم على عصيانه، وإسرافه في السيئات؛ فضلا عن ندامته في الكفر، وعبادة غير الله تعالى.
عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يموت إلا ندم» .
قالوا: وما ندامته يا رسول الله؟! قال: «إن كان محسنا؛ ندم ألاّ يكون ازداد. وإن كان مسيئا؛ ندم أن لا يكون نزع» . رواه الترمذي، والبيهقي.
{لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً:} قال قتادة-رحمه الله تعالى-: ما تمنى أن يرجع إلى أهله، وعشيرته، ولا ليجمع الدنيا، ويقضي الشهوات، ولكن تمنى أن يرجع، فيعمل بطاعة الله، فرحم الله امرأ عمل فيما تمناه الكافر إذا رأى العذاب! فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا عاين المؤمن الملائكة، قالوا:
نرجعك إلى الدّنيا، فيقول: إلى دار الهموم، والأحزان، بل قدوما إلى الله. وأما الكافر فيقول:
ربي ارجعون». وهذا بعد بشارة المؤمن برضا الله، ورضوانه، وبعد بشارة الكافر بغضب الله، وسخطه، وعذابه، فعن عائشة-رضي الله عنها-قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحبّ لقاء الله؛ أحبّ الله لقاءه، ومن كره لقاء الله؛ كره الله لقاءه» . فقلت: يا نبيّ الله! أكراهية الموت، فكلّنا نكره الموت؟ قال:«ليس ذلك، ولكنّ المؤمن إذا بشّر برحمة الله ورضوانه وجنّته؛ أحبّ لقاء الله، فأحبّ الله لقاءه، وإنّ الكافر إذا بشّر بعذاب الله، وسخطه؛ كره لقاء الله، وكره الله لقاءه» . رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وانظر ما ذكرته الآية رقم [108] الآتية.
{فِيما تَرَكْتُ} أي: ضيعت من عمري، وتركت العمل به من الطاعات. أو المعنى: أقول:
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، وأعمل بطاعته. فيدخل فيه الأعمال البدنية، والمالية. {كَلاّ:} حرف ردع، وزجر، وانظر شرحها في الآية رقم [79] من سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام. {إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها:} المراد بالكلمة:
الطائفة من الكلام المنتظم بعضه مع بعض، وهو قوله:{رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ} ومعنى {هُوَ قائِلُها} أي: لا ينفك عنها، بل يقولها دائما؛ لا ستيلاء الحسرة، والندم عليه، وقيل: معناها: لو أجيب إلى ما يطلب من الرجعة إلى الدنيا؛ لما وفى بما يقول، كما قال تعالى في الآية رقم [28] من سورة (الأنعام):{وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ} وذلك للحكم الأزلي في حقهم: أنهم أصحاب النار.
{وَمِنْ وَرائِهِمْ} أي: من أمامهم. {بَرْزَخٌ:} حائل، وحاجز بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا، وكل حاجز بين شيئين؛ فهو برزخ، والمراد به المدة التي تكون من حين الموت إلى البعث. هذا؛ وما يجري على ألسنة العوام (من أن البرزخ جب تحبس فيه الأرواح) لا أصل له، وإنما الروح لها تعلق بالجسد الذي خرجت منه، وإن فني، فلها تعلق بالقبر الذي دفن فيه الجسد ليصدق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم في نعيم القبر، وعذابه في أحاديث كثيرة أذكر منها ما يلي: عن عبد الله بن عمر-رضي
الله عنهما-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة، والعشيّ، إن كان من أهل الجنّة؛ فمن أهل الجنّة، وإن كان من أهل النار؛ فمن أهل النّار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة» . رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي.
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فجلس إلى قبر منها فقال:«ما يأتي على هذا القبر يوم إلاّ وهو ينادي بصوت ذلق طلق: يا بن آدم نسيتني ألم تعلم أنّي بيت الواحدة، وبيت الغربة، وبيت الوحشة، وبيت الدود، وبيت الضّيق إلاّ من وسّعني الله عليه» . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القبر إمّا روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النّار» .
{إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ:} لم يرد أنهم يرجعون يوم البعث إلى الدنيا، وإنما هو إقناط كلّي لما علم أن لا رجوع بعد البعث إلا إلى الآخرة.
أما {كَلِمَةٌ} ففيها ثلاث لغات: الأولى كلمة على وزن نبقة، وهي الفصحى، ولغة أهل الحجاز، وبها نطق القرآن الكريم في آيات كثيرة، وجمعها: كلم كنبق، والثانية: كلمة على وزن سدرة، والثالثة: كلمة على وزن: تمرة، وهما لغتا تميم، وجمع الأولى: كلم، كسدر، وجمع الثانية: كلم، كتمر، وكذلك كل ما كان على وزن فعل، نحو: كبد، وكتف، فإنه يجوز فيه اللغات الثلاث، فإن كان الوسط حرف حلق جاز فيه لغة رابعة، وهي إتباع الأول للثاني في الكسر، نحو فخذ، وشهد، وهي في الأصل قول مفرد، مثل: محمد، وقام، وقعد، وفي، ولن، وقد تطلق على الجمل المفيدة كما في هذه الآية التي نحن بصدد شرحها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: [الطويل]
ألا كلّ شيء-ما خلا الله-باطل
…
وكلّ نعيم لا محالة زائل»
المراد ب: «كلمة» الشطر الأول بكامله، وتقول: قال فلان: كلمة، والمراد بها كلام كثير، وهو شائع، ومستعمل عربية في القديم، والحديث، وانظر شرح الكلام في الآية رقم [108] الآتية.
الإعراب: {حَتّى:} حرف ابتداء. {إِذا:} انظر الآية رقم [78]. {جاءَ:} ماض.
{أَحَدَهُمُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {الْمَوْتُ:} فاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على القول المشهور المرجوح. {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {أَحَدَهُمُ}. {رَبِّ:} منادى حذف منه أداة النداء منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، وفيه أوجه أخر انظرها بإعراب {يا قَوْمِ} في الآية رقم [23]. {اِرْجِعُونِ:} فعل دعاء مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة المدلول عليها بالكسرة مفعول به، والجملة الفعلية مع الجملة الندائية كلتاهما في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ جواب: {إِذا} لا محل لها، و {إِذا}
ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. هذا؛ ويعتبر الأخفش {حَتّى} في مثل هذه الآية جارة ل:
{إِذا،} وقد رده ابن هشام في المغني، وعلى قوله ف:{حَتّى إِذا..} . إلخ جار ومجرور متعلقان بمحذوف. انظر الشرح، وهو يؤيد قول الأخفش في هذه الآية.
{لَعَلِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {أَعْمَلُ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {صالِحاً:} صفة مفعول محذوف، التقدير: أعمل عملا صالحا، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعل). {فِيما:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب:(في)، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: في الذي، أو: في شيء تركته، والجملة الاسمية:
{لَعَلِّي..} . إلخ تعليل لطلب الرجوع، لا محل لها.
{كَلاّ:} حرف ردع وزجر، مبني على السكون في محل نصب مقول القول لقول محذوف، وذلك على الحكاية، أي: فيقال له: كلا. {إِنَّها:} حرف مشبه بالفعل، و (ها): اسمها.
{كَلِمَةٌ:} خبرها. {هُوَ:} مبتدأ. {قائِلُها:} خبره، و (ها): في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية في محل رفع صفة {كَلِمَةٌ،} والجملة الاسمية: {إِنَّها..} . إلخ تعليل للردع، والزجر، لا محل لها، والجملة المقدرة: يقال له:
كلا
…
إلخ لا محل لها؛ لأنها بمنزلة جواب لسؤال مقدر، فكأن قائلا قال: بماذا يجاب؟ فالجواب فيقال له: كلا
…
إلخ. {وَمِنْ:} الواو: حرف استئناف. (من ورائهم): متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة. {بَرْزَخٌ:} مبتدأ مؤخر. {إِلى يَوْمِ:} متعلقان بمحذوف صفة {بَرْزَخٌ} . {يُبْعَثُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {يَوْمِ} إليها، التقدير:
إلى يوم بعثهم، والجملة الاسمية:{وَمِنْ وَرائِهِمْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وقيل: في محل نصب حال، وقيل: معطوفة، وهما ضعيفان.
{فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101)}
الشرح: {فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ} أي: لقيام الساعة، والمراد بهذا النفخ النفخة الأولى. قاله ابن عباس-رضي الله عنهما. وقال ابن مسعود-رضي الله عنه: المراد: النفخة الثانية، فقد قال: يؤخذ بيد العبد يوم القيامة، فينصب على رؤوس الأولين، والآخرين، ثم ينادي مناد: هذا فلان ابن فلان، فمن كان له قبله حقّ، فليأت إلى حقه! فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده، أو ولده، أو زوجته، أو أخيه، فيأخذه منه، ثم قرأ ابن مسعود:{فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ} فيقول الرب سبحانه وتعالى: آت هؤلاء حقوقهم، فيقول: يا رب! قد فنيت الدنيا،
فمن أين أوتيهم؟ فيقول الرب للملائكة: خذوا من حسناته، فأعطوا كل إنسان بقدر طلبته، فإن كان وليا لله فضلت من حسناته مثقال حبة من خردل، فيضاعفها الله تعالى حتى يدخله بها الجنة، ثم قرأ ابن مسعود-رضي الله عنه-قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} الآية رقم [40] من سورة (النساء)، وإن كان شقيّا؛ قالت الملائكة: ربّنا فنيت حسناته، وبقي طالبون، فيقول الله تعالى:«خذوا من أعمالهم، فأضيفوها إلى سيئاته، وصكوا له صكّا إلى جهنم» . انتهى. خازن، وقرطبي بتصرف، ولا تنس: أن التعبير بالماضي عن المستقبل في هذه الآية، وأمثالها، إنما هو لتحقيق وقوع الأمر المحدّث عنه، وهو كثير في القرآن.
وفي رواية عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنها النفخة الثانية، ومعنى {فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ} أي: لا يتفاخرون بالأنساب يومئذ، كما كانوا يتفاخرون بها في الدنيا، ولا يتساءلون سؤال تواصل، كما كانوا يتساءلون في الدنيا: من أنت؟ ومن أي قبيلة أنت؟ ولم يرد: أن الأنساب تنقطع.
هذا؛ وقد قال الله في سورة (الطور) رقم [25]: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ} وقال في سورة (الصافات) رقم [27]: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ} أقول: فآية (الطور) تنص على أن التساؤل إنما يكون في الجنة بلا ريب بدليل الآيات التي قبلها، والتي بعدها، وأما آية (الصافات) فهي تنص على أن التساؤل إنما يكون في يوم القيامة بدليل قوله تعالى قبلها بآيتين:
{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ} وهي تعارض الآية التي نحن بصدد شرحها، وقد قال ابن عباس-رضي الله عنهما-في حل هذا التعارض: إن للقيامة أحوالا، ومواطن، ففي موطن يشتد عليهم الخوف، فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل، فلا يتساءلون، وفي موطن يفيقون إفاقة، فيتساءلون.
انتهى.. خازن.
الإعراب: {فَإِذا:} الفاء: حرف استئناف. (إذا): انظر الآية رقم [77]. {نُفِخَ:} ماض مبني للمجهول. {فِي الصُّورِ:} في محل رفع نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على القول المشهور المرجوح. {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب (إذا). (لا): نافية للجنس تعمل عمل «إن» . {أَنْسابَ:} اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب. {بَيْنَهُمْ:}
ظرف مكان متعلق بمحذوف في محل رفع خبر (لا)، والجملة الاسمية جواب (إذا) لا محل لها. {يَوْمَئِذٍ:} (يوم): ظرف زمان متعلق بالخبر المحذوف الذي هو متعلق الظرف قبله، أو بمحذوف خبر ثان. و (إذ) ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وحرك بالكسر لالتقاء الساكنين، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. {وَلا:} الواو:
حرف عطف. (لا): نافية. {يَتَساءَلُونَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية، لا محل لها مثلها.
{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102)}
الشرح: لقد ذكر الله تعالى الآية ولا حقتها في سورة (الأعراف) برقم [8 و 9] وهناك زيادة هذه الجملة قبلهما: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} وذكر ثقل الموازين وخفتها في سورة (القارعة) أيضا، وذكرت لك في الآية رقم [105] من سورة (الكهف) الاختلاف في الوزن، هل هو للأعمال، أو للأشخاص؟ انظرها تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. وأقول هنا: الجمهور على أن صحائف الأعمال توزن بميزان، له لسان، وكفتان، ينظر إليه الخلائق إظهارا للمعدلة، وقطعا للمعذرة، كما يسألهم عن أعمالهم فينكرون، ولكن تعترف بها ألسنتهم، وتشهد بها جوارحهم، كما في سورة (النور)، وسورة (يس)، وسورة (فصلت).
والحكمة من وزن الأعمال مع علم الله بمقاديرها تتجلى فيما يلي: منها: إظهار العدل الإلهي، وأن الله لا يظلم مثقال ذرة. ومنها: امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا، وإقامة الحجة عليهم في العقبى. ومنها: تعريف العباد ما لهم من خير، وشر، وحسنة، وسيئة. ومنها:
إظهار علامة السعادة، والشقاوة. {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ} أي: رجحت حسناته على سيئاته، و (موازين) جمع: ميزان، وأصله موزان، قلبت الواو ياء لسكونها، وانكسار ما قبلها، ومثله:
ميعاد، وميثاق، وميراث، وميقات، فأصل الياء فيهن واو. {الْمُفْلِحُونَ:} الفائزون برضا الله، ودخول الجنة، الناجون من سخطه، ومن عذاب النار؛ لأن الفلاح اسم جامع للخلاص من كل مكروه، والفوز بكل محبوب، وأصله: المؤفلحون، انظر الآية رقم [117] الآتية لإعلاله.
الإعراب: {فَمَنْ:} الفاء: حرف تفريع، واستئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {ثَقُلَتْ:} ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والتاء للتأنيث حرف لا محل له. {مَوازِينُهُ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة. {فَأُولئِكَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {هُمُ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ ثان. {الْمُفْلِحُونَ:}
خبره مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الاسمية في محل رفع خبر أولئك. هذا؛ وإن اعتبرت {هُمُ} ضمير فصل لا محل له. فيكون {الْمُفْلِحُونَ} خبر (أولئك)، وعلى الوجهين فالجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط، وقيل:
هو جملة الجواب، وقيل: هو الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين، وإن اعتبرت (من) اسما موصولا؛ فهو مبتدأ، والجملة الفعلية بعده صلته، والجملة الاسمية: (أولئك
…
) إلخ في محل رفع خبره، وزيدت الفاء في الخبر؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، وعلى جميع الاعتبارات؛ فالجملة الاسمية مفرعة عما قبلها، ومستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ} أي: رجحت سيئاته على حسناته. هذا؛ وقد ذكر الله في الآية السابقة السعداء الذين غلبت حسناتهم على سيئاتهم، وذكر في هذه الآية الأشقياء الذين غلبت سيئاتهم على حسناتهم، وبقي صنف ثالث: وهم من تساوت حسناتهم وسيئاتهم، وهم أصحاب الأعراف؛ الذين ذكرهم الله في الآية رقم [45] من سورة (الأعراف). {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} أي:
ضيعوها، وحرموها من جزيل ثواب الله تعالى، وكرامته. {فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ:} مقيمون، ماكثون، لا يخرجون منها أبدا، فهذه هي خسارتهم، وأية خسارة أعظم من الحرمان من الجنة ونعيمها الدائم، والخلود في النار، وانظر (الخسران) في الآية رقم [11] من سورة (الحج)، وانظر شرح {يَرِثُونَ} في الآية رقم [11]، وانظر شرح (النفس) في الآية رقم [35] من سورة (الأنبياء).
تنبيه: روي عن أبي بكر الصديق-رضي الله عنه-أنه قال حين حضره الموت في وصيته لعمر بن الخطاب-رضي الله عنه: إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا، وثقله عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الحق غدا أن يكون ثقيلا، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا، وخفته عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الباطل غدا أن يكون خفيفا.
الإعراب: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ..} . إلخ: انظر إعراب هذا الكلام في الآية السابقة.
{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبر المبتدأ. {خَسِرُوا:} ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها.
{أَنْفُسَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {فِي جَهَنَّمَ:} متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: فهم في جهنم، وقال الزمخشري، وتبعه البيضاوي، والنسفي:{فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ:} بدل من الصلة، أي من جملة:{خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} ولا محل للبدل، ولا للمبدل منه، أو الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر ثان ل:(أولئك)، وعلى هذه الأقوال ف:
(خالدون) فاعل بمتعلق الجار والمجرور. هذا؛ وإن اعتبرنا {خالِدُونَ} خبرا ثانيا للمبتدأ (أولئك)، أو خبرا لمبتدأ محذوف، فيكون الجار والمجرور متعلقين به، التقدير: فأولئك الذين
…
خالدون في جهنم، أو التقدير: فهم خالدون في جهنم. وبقي وجه آخر، وهو اعتبار الجار، والمجرور متعلقين بمحذوف خبر مقدم، و {خالِدُونَ} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية بدل من جملة الصلة، وذلك على قول الزمخشري، ومتابعيه. تأمل، وتدبر.
{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104)}
الشرح: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النّارُ:} تحرق، واللفح كالنفح؛ إلا أنه أشد تأثيرا، وانظر الآية
رقم [46] من سورة (الأنبياء) يقال: لفحته النار والسموم بحرها: أحرقته، ونفحته بالسيف نفحة:
إذا ضربته به ضربة خفيفة. {وَهُمْ فِيها كالِحُونَ} أي: عابسون، وقد بدت أسنانهم، وتقلصت شفاههم، كالرأس المشوي في النار، قال الأعشى:[الرمل]
وله المقدم لا مثل له
…
ساعة الشّدق عن النّاب كلح
وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:{وَهُمْ فِيها كالِحُونَ} قال:
«تشويه النّار فتقلص شفته العليا حتّى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السّفلى؛ حتّى تضرب سرّته» . أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. هذا؛ ودهر كالح: شديد.
الإعراب: {تَلْفَحُ:} مضارع. {وُجُوهَهُمُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة.
{النّارُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل رفع خبر ثان للمبتدأ:
(أولئك)، أو في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط. {وَهُمْ:} الواو:
واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {فِيها:} متعلقان بما بعدهما. {كالِحُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا بالإضافة، والرابط: الواو، والضمير، فهي حال متداخلة من وجه، وهو أولى من اعتبارها معطوفة على الجملة الفعلية قبلها.
{أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105)}
الشرح: في الآية الكريمة توبيخ، وتقريع للذين دخلوا النار من الكفار. والمعنى: ألم تقرأ عليكم آيات القرآن، وزواجره، وفيها تبين طريق الحق والنور، والإسلام والسّلام، فأعرضتم عنها، ولم تصدقوا بها، وكنتم من المكذبين بما فيها؛ حتى استحققتم هذا العذاب الأليم، والعقاب الشديد؟!.
الإعراب: {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام وتقرير. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم.
{تَكُنْ:} مضارع ناقص مجزوم ب: (لم). {آياتِي:} اسم {تَكُنْ} مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {تُتْلى:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، ونائب الفاعل يعود إلى (آياتي)، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {تَكُنْ} .
{عَلَيْكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية:{أَلَمْ تَكُنْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول لقول محذوف. (كنتم): ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {بِها:} متعلقان بما بعدهما، وجملة:{بِها تُكَذِّبُونَ} في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{فَكُنْتُمْ..} . إلخ
معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، وجملة: «يقال
…
» إلخ المقدرة معطوفة على جملة {تَلْفَحُ..} . إلخ على جميع الوجوه المعتبرة فيها، والمقدّر كالموجود.
{قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنّا قَوْماً ضالِّينَ (106)}
الشرح: {قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا:} يقرأ: «(شقاوتنا)» . قال القرطبي: وأحسن ما قيل في معناه: غلبت علينا لذاتنا، وأهواؤنا. فسمى اللذات والأهواء شقوة؛ لأنهما يؤديان إليها، كما قال تعالى في سورة (النساء) رقم [10]:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً؛} لأن ذلك يودي بهم إلى النار، وقيل: ما سبق في علمك، وكتب علينا في أمّ الكتاب من الشقاوة. وهذا رده النسفي بقوله:
لا يصح؛ لأنه إنما يكتب ما يفعل العبد، وما يعلم: أنه يختاره، ولا يكتب غير الذي علم أنه يختاره، فلا يكون مغلوبا، ومضطرا في الفعل، وهذا؛ لأنهم إنما يقولون ذلك اعتذارا لما كان منهم من التفريط في أمره، فلا يجمل أن يطلبوا لأنفسهم عذرا فيما كان منهم. انتهى.
وانظر الفعل «يشقى» في الآية رقم [2] من سورة (طه).
{وَكُنّا قَوْماً ضالِّينَ} أي: كنا في فعلنا ضالين عن الهدى، وليس هذا اعتذارا منهم، إنما هو إقرار، ويدل عليه الآية التالية. هذا؛ وانظر شرح:{رَبِّ} في الآية رقم [94]، وشرح {قَوْماً} في الآية رقم [23]، وإعلال {كُنْتُمْ} في الآية رقم [38] من سورة (الأنبياء).
الإعراب: {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {رَبَّنا:} منادى حذف منه أداة النداء، و (نا): في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {غَلَبَتْ:}
ماض، والتاء للتأنيث. {عَلَيْنا:} متعلقان بما قبلهما. {شِقْوَتُنا:} فاعل، و (نا): في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله. والجملتان الندائية، والفعلية كلتاهما في محل نصب مقول القول. {وَكُنّا:} الواو: حرف عطف. (كنا): ماض ناقص مبني على السكون، و (نا):
اسمه. {قَوْماً:} خبر (كان). {ضالِّينَ:} صفة {قَوْماً} منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، وجملة {وَكُنّا قَوْماً ضالِّينَ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنّا ظالِمُونَ (107)}
الشرح: {رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها} أي: من النار، طلبوا الرجعة إلى الدنيا، كما طلبوها عند الموت، كما رأيت في الآية رقم [99]. {فَإِنْ عُدْنا} أي: رجعنا إلى الكفر، والتكذيب بما جاءت به الرسل. {فَإِنّا ظالِمُونَ} أي: لأنفسنا، والله أعلم بمراده.
الإعراب: {رَبَّنا:} منادى حذف منه أداة النداء، و (نا): في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {أَخْرِجْنا:} فعل دعاء، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، و (نا): مفعول به. {مِنْها:} متعلقان بما قبلهما. {فَإِنْ:} الفاء: حرف عطف، وتفريع. (إن):
حرف شرط جازم. {عُدْنا:} ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، و (نا):
فاعله، والمتعلق محذوف، كما رأيت في الشرح، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَإِنّا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنا): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {ظالِمُونَ:} خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، ومتعلقه محذوف كما رأيت في الشرح، وفاعله مستتر فيه؛ لأنه جمع اسم الفاعل، والجملة الاسمية:{فَإِنّا ظالِمُونَ} في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. هذا؛ والآية بكاملها في محل نصب مقول القول.
الشرح: {قالَ} أي: الله مجيبا لهم. {اِخْسَؤُا فِيها:} اسكتوا سكوت هوان، فإنها ليست مقام سؤال، من خسأت الكلب خسئا: طردته، وخسأ الكلب بنفسه خسوآ، يتعدى، ولا يتعدى، ولم يرد هذا الفعل في غير هذه الآية لا بصيغة الماضي، ولا المضارع، ولا الأمر، وقد جاء منه اسم الفاعل:
{خاسِئِينَ} في البقرة رقم [65]، وفي الأعراف رقم [166]، و {خاسِئاً} في سورة (الملك) رقم [4].
{وَلا تُكَلِّمُونِ} أي: في رفع العذاب، أو تخفيفه، فإني لا أرفعه عنكم، فعند ذلك ييأس المجرمون من الفرج. قال الحسن رحمه الله تعالى: هو آخر كلام يتكلم به أهل النار، ثم لا يتكلمون بعد ذلك، ما هو إلا الزفير، والشهيق، وعواء كعواء الكلاب، لا يفهمون، ولا يفهمون. انتهى. خازن.
وقال الزمخشري في الكشاف: وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: إن لهم ست دعوات إذا دخلوا النار، قالوا ألف سنة:{رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً} فيجابون بما يلي: {وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ} سورة (السجدة)، فينادون ألف سنة:{رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ؟} فيجابون:
{ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} سورة (غافر)، فينادون ألف سنة:{يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ} فيجابون: {إِنَّكُمْ ماكِثُونَ} سورة (الزخرف)، فينادون ألف سنة:{رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} فيجابون: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ} .
فينادون ألف سنة: {رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ} فيجابون: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ}
{ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ} سورة (فاطر). فينادون ألف سنة: {رَبِّ ارْجِعُونِ} فيجابون: {اِخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ} .
هذا، وإذا نظرت في الكشاف يتبين لك ما زدته عليه من ذكر الآيات بكاملها، وعزوها إلى سورها زيادة في الإيضاح. وينبغي أن تعلم: أنه لا يوجد في الآخرة ليل، ولا نهار، ولا شهور، ولا أعوام، وإن ما ذكر من الآلاف إنما هو بالتقدير، وقد يعترض بعض الناس، فيقول: هذا العذاب الشديد، والمكث الطويل في جهنم، هذا كله من أجل كفر الكافر في أيام معدودة في الدنيا، وكثير من الكفار لا يعيشون في الدنيا عشرين عاما، ومنهم من يعيش أكثر، أو أقل، ولماذا استحقوا هذا العذاب الشديد الذي لا انتهاء له، ولا انقطاع؟ والجواب عن ذلك: أنهم استحقوا العذاب لإصرارهم على الكفر، ونيتهم البقاء عليه، ولو عاشوا آلاف السنين في الدنيا، فمن أجل هذا جوزوا بالخلود في نار الجحيم. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
{إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي} أي: المؤمنين، أمثال بلال، وخباب، وصهيب، وفلان، وفلان من ضعفاء المسلمين. {يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنّا} أي: بما أنزلت من القرآن، وبما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى، والفرقان. {فَاغْفِرْ لَنا} أي: ذنوبنا. {وَارْحَمْنا} أي: برحمتك الواسعة التي وسعت كل شيء. {وَأَنْتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ:} وأنت أفضل، وأكرم ممن يرحم.
هذا؛ و {فَرِيقٌ} طائفة من الناس، والفريق أكثر من الفرقة، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه، كرهط، وقوم. أما الكلام بالنسبة للبشر فهو يدل على أحد ثلاثة أمور:
أولها: الحدث الذي يدل عليه لفظ التكليم، تقول: أعجبني كلامك زيدا! تريد: تكليمك إياه.
وثانيها: ما يدور في النفس من هواجس، وخواطر، وكل ما يعبّر عنه باللفظ، لإفادة السامع ما قام بنفس المخاطب، فيسمى هذا الذي تخيلته في نفسك كلاما في اللغة العربية، تأمل قول الأخطل التغلبي:[الكامل]
لا يعجبنّك من خطيب خطبة
…
حتّى يكون مع الكلام أصيلا
إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما
…
جعل اللّسان على الفؤاد دليلا
وثالثها: كل ما تحصل به الفائدة، سواء أكان ما حصلت به لفظا، أو خطا، أو إشارة، أو دلالة حال. انظر إلى قول العرب:(القلم أحد اللّسانين)، وانظر إلى تسمية المسلمين ما بين دفّتي المصحف:(كلام الله)، ثم انظر إلى قوله تعالى:{يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ} وقال جل شأنه:
{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ} وإلى كلمته جلّت حكمته: {قالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أَيّامٍ إِلاّ رَمْزاً} ثم انظر إلى قول عمر بن أبي ربيعة الذي نفى الكلام اللفظي عن محبوبته، وأثبت لعينها القول، وذلك في قوله:[الطويل]
أشارت بطرف العين خيفة أهلها
…
إشارة محزون ولم تتكلّم
فأيقنت أنّ الطّرف قد قال مرحبا
…
وأهلا وسهلا بالحبيب المتيّم
ثم انظر إلى قول نصيب بن رباح: [الطويل]
فعاجوا فأثنوا بالّذي أنت أهله
…
ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
الإعراب: {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى الله. {اِخْسَؤُا:} أمر، والواو فاعله، والألف للتفريق. {فِيها:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {وَلا:}
الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تُكَلِّمُونِ:} مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة المدلول عليها بالكسرة مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها، وهو ضمير الشأن؛ لأنه لا يعود إلى مذكور.
{كانَ:} ماض ناقص. {فَرِيقٌ:} اسم {كانَ} . {مِنْ عِبادِي:} متعلقان ب: (فريق) أو بمحذوف صفة له، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {يَقُولُونَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {رَبَّنا:} منادى حذف منه أداة النداء، و (نا): في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {آمَنّا:} ماض مبني على السكون، و (نا): فاعله، ومتعلقه محذوف. انظر الشرح، والجملة الفعلية والجملة الندائية كلتاهما في محل نصب مقول القول، وجملة:{يَقُولُونَ..} . إلخ في محل نصب خبر {كانَ،} وجملة: {كانَ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ..} . إلخ تعليل للأمر، وللنهي. هذا؛ وقرئ بفتح همزة (أن) وعليه فتؤول مع اسمها وخبرها بمصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: لأنه
…
إلخ، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {تُكَلِّمُونِ} .
{فَاغْفِرْ:} الفاء: حرف عطف على رأي من يرى صحة عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفصيحة. (اغفر): فعل دعاء، وفاعله مستتر فيه تقديره:
«أنت» ، ومفعوله محذوف، تقديره: ذنوبنا. {لَنا:} متعلقان به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم؛ إذ التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا، وواقعا منا؛ فاغفر لنا
…
إلخ، وهذا الكلام في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَارْحَمْنا} معطوفة على ما قبلها لا محل لها. {وَأَنْتَ:} الواو: واو الحال. (أنت): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {خَيْرُ:} خبره، وهو مضاف، و {الرّاحِمِينَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره
الياء
…
إلخ، والجملة الاسمية:{وَأَنْتَ..} . إلخ في محل نصب حال من الفاعل المستتر بالفعل: (ارحمنا)، والرابط: الواو، والضمير.
{فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)}
الشرح: {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا:} فجعلتموهم هزآ، وسخرية تسخرون منهم. هذا؛ ويقرأ بكسر السين، وضمها هنا، وفي سورة ص رقم [63]. قال النحاس: وفرّق أبو عمرو بينهما، فجعل المكسورة من جهة التهزؤ، والمضمومة من جهة السخرة، ولا يعرف هذا التفريق الخليل، ولا سيبويه، ولا الكسائي، ولا الفراء. قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد، كما يقال:
عصيّ وعصيّ، ولجيّ ولجيّ. وحكى الثعلبي عن الكسائي، والفراء الفرق الذي ذكره أبو عمرو، وأن الكسر بمعنى الاستهزاء، والسخرية بالقول، والضم بمعنى التسخير، والاستعباد بالفعل.
وقال المبرد: إنما يؤخذ التفريق بين المعاني عن العرب، وأما التأويل فلا يكون، والكسر في سخري في المعنيين جميعا؛ لأن الضمة تستثقل في مثل هذا. انتهى. قرطبي. هذا؛ وسخريا على اللغتين مصدر «سخر» ، زيدت فيهما ياء النسبة للمبالغة.
{حَتّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي} أي: أنساكم اشتغالكم بالاستهزاء بهم ذكري؛ أي: توحيدي، والإيمان بي، فلم تخافوني، ولم تحفظوا كرامة أوليائي. {وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ:} استهزاء بهم، وأضاف سبحانه الإنساء إلى المؤمنين؛ لأنهم كانوا سببا لاشتغالهم عن ذكره، وتعدي شؤم استهزائهم بالمؤمنين إلى استيلاء الكفر على قلوبهم.
قال القرطبي-رحمه الله تعالى-وينظر إلى معنى هذا قوله تعالى في آخر المطففين: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفّارِ يَضْحَكُونَ} إلى آخر السورة، ويستفاد من هذا: التحذير من السخرية والاستهزاء بالضعفاء والمساكين، والاحتقار لهم، والإزراء عليهم، والاشتغال بهم فيما لا يعني، وأن ذلك مبعد من الله، عز وجل. انتهى.
أقول: فإذا كان هذا في حق الكفار الذين كانوا يسخرون بالمؤمنين؛ فالمسلمون أحق بهذا الوعيد والتهديد؛ إذا كانوا يسخرون بإخوانهم المؤمنين، وقد وردت أحاديث كثيرة تشدد النكير على الذين يهزؤون بالناس، فعن الحسن-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ المستهزئين بالناس يفتح لأحدهم في الآخرة باب إلى الجنّة، فيقال له: هلمّ! فيجيء بكربه، وغمّه، فإذا جاءه؛ أغلق دونه، ثمّ يفتح له باب آخر، فيقال له: هلم! فيجيء بكربه، وغمّه، فإذا جاءه أغلق دونه، فما يزال كذلك، حتّى إنّ أحدهم ليفتح له الباب من أبواب الجنة، فيقال له: هلمّ فما يأتيه من الإياس» . رواه البيهقي مرسلا، وعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التّقوى هاهنا، التقوى هاهنا،
التقوى هاهنا (ويشير إلى صدره) بحسب امرئ من الشّرّ أن يحقر أخاه المسلم. كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله». رواه مسلم وغيره، وقال تعالى في سورة (الحجرات):{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} .
الإعراب: {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ:} الفاء: حرف عطف. (اتخذتموهم): ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والميم علامة جمع الذكور، وحركت بالضم لتحسين اللفظ، فتولدت واو الإشباع، والهاء مفعول به أول. {سِخْرِيًّا:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{إِنَّهُ كانَ..} . إلخ، وقد قال الجمل: هي محط التعليل؛ أي: للنهي عن الكلام. {حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة. {أَنْسَوْكُمْ:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لا لتقائها ساكنة مع واو الجماعة التي هي فاعله، والكاف مفعول به أول. {ذِكْرِي:} مفعول به ثان أوصل الفعل إليه همزة التعدية، فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، و «أن» المضمرة بعد {حَتّى} والفعل (أنسوكم) في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. هذا؛ ويعتبر الجرجاوي في إعرابه لشواهد ابن عقيل {حَتّى} في مثل ذلك حرف ابتداء، والمعنى على ما جريت عليه في الإعراب. تأمل. (كنتم): ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {مِنْهُمْ:} متعلقان بما بعدهما، وجملة:(تضحكون منهم) في محل نصب خبر (كان)، وجملة {وَكُنْتُمْ..} . إلخ معطوفة على جملة (اتخذتموهم
…
) إلخ لا محل لها مثلها.
{إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111)}
الشرح: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا} أي: على أذاكم، واستهزائكم بهم، وصبروا على طاعتي، وانظر (الصبر) في الآية رقم [85] من سورة (الأنبياء). {أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ} أي:
بجميع مراداتهم في جنة عرضها السموات والأرض. هذا؛ وإعلال (فائز) مثل إعلال (قائم) في الآية رقم [26] من سورة (الحج).
هذا؛ و (الجزاء) و (المجازاة): المكافأة على عمل ما، تكون في الخير، وتكون في الشر، فمن الأول ما في الآية الكريمة، وقوله تعالى في سورة (الرحمن):{هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ} والثاني مثل قوله تعالى في آيات كثيرة بعد أن يذكر عذاب الكافرين، والظالمين:
{وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ،} {وَذلِكَ جَزاءُ الظّالِمِينَ} هذا؛ والفعل جزى، يجزي ينصب مفعولين.
الإعراب: {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {جَزَيْتُهُمُ:} فعل، وفاعل ومفعوله الأول، والثاني محذوف، التقدير: جزيتهم النعيم المقيم. {الْيَوْمَ:} ظرف متعلق بما
قبله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ ابتدائية، أو مستأنفة، لا محل لها. {بِما:} الباء: حرف جر. (ما): مصدرية لا غير. {صَبَرُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، و (ما) والفعل {صَبَرُوا} في تأويل مصدر في محل جر بالباء، التقدير:
بصبرهم، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. (إنّهم)
(1)
: حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {جَزَيْتُهُمُ:} توكيد لاسم (إنّ) على المحل، أو هو ضمير فصل لا محل له من الإعراب.
{الْفائِزُونَ:} خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ. هذا؛ وإن اعتبرت {جَزَيْتُهُمُ} مبتدأ؛ ف: {الْفائِزُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{أَنَّهُمْ..} .
إلخ ابتدائية، أو مستأنفة، لا محل لها. هذا؛ ويقرأ بفتح همزة {أَنَّهُمْ}
(2)
، وعليه فهي تؤول مع اسمها وخبرها بمصدر، وفي هذا المصدر وجهان: أحدهما هو في محل نصب مفعول ثان للفعل (جزي)، وثانيهما هو في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بأنهم، أو لأنهم، فيبقى المفعول الثاني لجزي محذوفا، كما رأيت تقديره، ولعلك تدرك معي: أن الآية بكاملها في محل نصب مقول القول؛ لأنها من مقول الله تعالى. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
{قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)}
الشرح: {قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ:} أقمتم، ومكثتم، وبابه: فهم، وله مصادر كثيرة. {فِي الْأَرْضِ} أي: أحياء على ظهرها، أو أمواتا في جوفها في القبور. {عَدَدَ سِنِينَ} أي: كم سنة لبثتم في الأرض؟ وانظر الآية رقم [25] من سورة (الكهف) فالبحث فيها جيد، وهذا السؤال للمشركين في النار، أو في عرصات القيامة.
تنبيه: الغرض من السؤال التبكيت والتوبيخ؛ لأنهم كانوا ينكرون اللبث في الآخرة أصلا، ولا يعدون اللبث إلا في دار الدنيا، ويظنون أن بعد الموت يدوم الفناء، ولا إعادة، فلما حصلوا في النار، وأيقنوا دوامهم وخلودهم فيها؛ سألهم:{كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ} منبها لهم على ما ظنوه دائما طويلا، وهو يسير بالإضافة إلى ما أنكروه، فحينئذ تحصل لهم الحسرة على ما كانوا يعتقدونه في الدنيا من حيث تيقنوا خلافه، وهذا هو الغرض من السؤال. انتهى. جمل نقلا عن كرخي.
الإعراب: {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى الله، أو إلى الملك المأمور بسؤالهم، ويقرأ بلفظ الأمر:«(قل)» للملك، أو لبعض رؤساء أهل النار. {كَمْ:} اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب على الظرفية الزمانية متعلق بالفعل بعده، وتمييزه محذوف، أي: كم سنة لبثتم؟ {لَبِثْتُمْ:} فعل، وفاعل. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب
1) وهذه قراءة حمزة، والكسائي.
2) وهي قراءة الباقين.
مقول القول. {عَدَدَ:} بدل من {كَمْ} . {سِنِينَ:} بدل من عدد منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، هذا الإعراب منقول عن أبي البقاء، وقال الجمل:{عَدَدَ:} تمييز ل: {كَمْ،} و {عَدَدَ} مضاف، و {سِنِينَ} مضاف إليه مجرور، والمعنى: لبثتم كم عددا من السنين. انتهى.
وبقول الجمل قال البيضاوي، والنسفي، ومكي، والجلال، وغيرهم وهو أخصر، وأفهم، وأولى، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113)}
الشرح: {قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} أي: أقمنا، ومكثنا على وجه الأرض أحياء، أو في جوفها أمواتا يوما، أو بعض يوم، نصفه، أو ثلثه
…
إلخ استقصارا لمدة لبثهم فيها بالنسبة إلى خلودهم في النار، أو لأنها كانت أيام سرورهم، وأيام السرور قصار، قال الشاعر:[الكامل]
فقصارهنّ مع الهموم طويلة
…
وطوالهنّ مع السرور قصار
أو لأنها منقضية، والمنقضي في حكم المعدوم. وقيل: لأن العذاب رفع عنهم بين النفختين، فنسوا ما كانوا فيه من العذاب في قبورهم، وهو فحوى قول ابن عباس-رضي الله عنهما. {فَسْئَلِ الْعادِّينَ} أي: اسأل الحسّاب الذين يعرفون ذلك، أو الذين يتمكنون من عد أيامها إن أردت تحقيقها، فإنا لما نحن فيه من العذاب مشغولون عن تذكرها، وإحصائها. أو اسأل الملائكة الذين يعدون أعمار الناس، ويحصون أعمالهم، الأول قول قتادة، والثاني قول مجاهد. هذا؛ وقرئ:«(العادين)» بتخفيف الدال؛ أي: الظالمين، فإنهم يقولون ما نقول، أو المعنى: اسأل العاديين، أي: المتقدمين المعمرين الذين عاشوا مئات السنين، كقولك: هذه بئر عادية، أي: قديمة، وحذف إحدى يائي النسب، كما قالوا: الأشعرون، وحذفت الأخرى لالتقاء الساكنين، كما رأيت في {عالِينَ} رقم [46].
الإعراب: {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، وانظر الآية رقم [27] من سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام. {لَبِثْنا:} فعل، وفاعل، وانظر إعراب (نذرت) في الآية رقم [26] من سورة (مريم) أيضا. {يَوْماً:} ظرف زمان متعلق بما قبله.
{بَعْضَ:} ظرف زمان معطوف على ما قبله، وهو مضاف، و {يَوْمٍ:} مضاف إليه. {فَسْئَلِ:}
الفاء: الفصيحة، وانظر مثلها في الآية رقم [110] (اسأل): ويقرأ بحذف الهمزة فهو أمر على القراءتين، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {الْعادِّينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، والجملة الفعلية:{لَبِثْنا..} . إلخ والمعطوفة عليها كلتاهما في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)}
الشرح: {قالَ:} ويقرأ: «(قل)» كما في الآية رقم [114]. {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً} أي: ما لبثتم إلا زمانا قليلا، أو لبثا قليلا، فقد سماه الله قليلا؛ لأن الإنسان، وإن طال مكثه، ولبثه في الدنيا، فإنه يكون قليلا في جنب ما يلبث في الآخرة؛ لأن الأول ينتهي، والثاني لا ينتهي أبدا.
{لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ:} صدقهم الله تعالى في تقالهم لسني لبثهم في الدنيا، أي: لو علمتم عدد سني مكثكم في الدنيا، وعدد سني مكثكم في الآخرة، بل في النار لعلمتم علم اليقين: أن الأول لا يكاد يذكر بجانب الثاني؛ لأن الأول انقضى وانتهى، وأما الثاني فلا انقضاء له، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {قالَ:} ماض، أو أمر على نحو ما رأيت في الآية رقم [114]. {إِنْ:} حرف نفي بمعنى «ما» . {لَبِثْتُمْ:} فعل، وفاعل. {إِلاّ:} حرف حصر. {قَلِيلاً:} صفة زمان محذوف، أو صفة مفعول مطلق محذوف، انظر الشرح. {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {أَنَّكُمْ:}
حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {كُنْتُمْ:} ماض ناقص، والتاء اسمه. {تَعْلَمُونَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، التقدير: تعلمون مقدار لبثكم في الدارين، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ..} . إلخ في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع فاعل لفعل محذوف، هو شرط {لَوْ} عند المبرد، التقدير: لو حصل علمكم ونحو ذلك. وقال سيبويه-رحمهم الله جميعا-: هو في محل رفع بالابتداء، والخبر محذوف، التقدير: ولو علمكم حاصل، أو واقع. وقول المبرد هو المرجح؛ لأن {لَوْ،} لا يليها إلا فعل ظاهر، أو مقدر، والفعل المقدر على قول المبرد وفاعله المؤول جملة فعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب (لو) محذوف، التقدير: لو كنتم تعلمون مقدار لبثكم
…
لعلمتم يومئذ قلة لبثكم في الدنيا، كما علمتم اليوم، أو لعملتم بموجبه، ولم تركنوا إلى الدنيا، أو لما أجبتم بهذا الجواب، والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115)}
الشرح: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً} أي: مهملين كما خلقت البهائم، لا ثواب لها، ولا عقاب عليها، مثل قوله تعالى في الآية رقم [36] من سورة (القيامة):{أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} أي: هملا كالبهائم، بل خلقناكم للتكليف، ثم للرجوع من دار التكليف، إلى دار الجزاء، فنثيب المحسن، ونعاقب المسيء، قال تعالى:{وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ..} . إلخ من سورة (الذاريات).
قال الترمذي الحكيم رحمه الله تعالى: (إن الله خلق الخلق عبيدا ليعبدوه، فيثيبهم على العبادة، ويعاقبهم على تركها، فإن عبدوه فهم اليوم له عبيد أحرار كرام من رق الدنيا، ملوك في دار الإسلام، وإن رفضوا العبودية لله فهم اليوم عبيد أبّاق، سقّاط، لئام، وغدا أعداء في السجون بين أطباق النيران). انتهى. قرطبي. هذا؛ ويقرأ: {لا تُرْجَعُونَ} بالبناء للمجهول فيكون متعديا، ويقرأ بالبناء للمعلوم، فيكون لازما، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
روى البغوي بسنده عن الحسن-رضي الله عنه-أن رجلا مصابا مرّ به على ابن مسعود-رضي الله عنه، فرقاه في أذنه {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ..} . إلخ حتى ختم السورة، فبرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
بماذا رقيت في أذنه؟». فأخبره. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والّذي نفسي بيده لو أنّ رجلا موقنا قرأها على الجبل لزلّ» . انتهى خازن. ومعنى لزل: لتحرك من مكانه، ويروى (لزال) من الزوال، وهو الذهاب.
الإعراب: {أَفَحَسِبْتُمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وتوبيخ، وتقريع. الفاء: حرف استئناف، أو هي حرف عطف على محذوف، انظر تفصيل ذلك في سورة (الأنبياء) رقم [30] (حسبتم): فعل، وفاعل. {أَنَّما:} كافة، ومكفوفة، وتبقى مؤولة مع ما بعدها بمصدر في محل نصب سد مسد مفعولي حسب. {خَلَقْناكُمْ:} ماض، وفاعله، ومفعوله، والميم علامة جمع الذكور. {عَبَثاً:}
مصدر فهو حال بمعنى: عابثين، أو هو مفعول لأجله، أي: لأجل العبث. {وَأَنَّكُمْ:} الواو: حرف عطف. (أنكم): حرف مشبه، والكاف اسمها. {إِلَيْنا:} متعلقان بما بعدهما. {لا:} نافية.
{تُرْجَعُونَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، أو نائب فاعله حسبما رأيت في الشرح، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر معطوف على المصدر المؤول من:{أَنَّما..} . إلخ فيكون الحسبان منسحبا عليه، ويجوز أن يكون معطوفا على {عَبَثاً} . هذا؛ والكلام {أَفَحَسِبْتُمْ..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول.
{فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)}
الشرح: {فَتَعالَى اللهُ} أي: تنزه، وتقدس عن الأولاد، والشركاء، والأنداد، وعن أن يخلق شيئا عبثا، أو لعبا؛ لأنه الحكيم. {الْمَلِكُ الْحَقُّ} أي: الذي يحق له الملك مطلقا، فإن من عداه مملوك بالذات مالك بالعرض من وجه دون وجه، وفي حال دون حال. {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ:} فهو الواحد، الأحد، الفرد، الصمد؛ الذي يستحق العبودية، وما عداه عبيد له مملوكون في قبضته. {رَبُّ الْعَرْشِ:} مالكه، وهو الذي خلقه. {الْكَرِيمِ} أي: الحسن، وقيل: الرفيع المرتفع، وقال البيضاوي: الذي يحيط بالأجرام، وتنزل منه محكمات الأقضية، والأحكام، ولذلك وصفه بالكريم، أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين، وإنما خص {الْعَرْشِ} بالذكر؛ لأنه أعظم المخلوقات. هذا؛ وقرئ برفعه على أنه تابع للفظ الجلالة.
الإعراب: {فَتَعالَى:} الفاء: حرف استئناف. (تعالى): ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {اللهُ:} فاعله. {الْمَلِكُ:} بدل مما قبله، أو عطف بيان عليه. {الْحَقُّ:} بدل ثان، أو عطف بيان أيضا، وبعضهم يعتبرهما صفتين للجلالة، والمعتمد ما ذكرته. {لا:} نافية للجنس تعمل عمل «إن» . {إِلهَ:} اسم {لا} مبني على الفتح في محل نصب، والخبر محذوف تقديره: موجود. {إِلاّ:} حرف حصر لا محل له. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع، وفيه ثلاثة أوجه: الأول: كونه بدلا من اسم {لا} على المحل؛ إذ محله الرفع على الابتداء. والثاني: كونه بدلا من {لا} وما عملت فيه؛ لأنها وما بعدها في محل رفع بالابتداء. والثالث: كونه بدلا من الضمير المستكن في الخبر المحذوف. وهو الأقوى.
{رَبُّ:} يجوز فيه أربعة أوجه: أحدها: أن يكون بدلا من {هُوَ} بدل ظاهر من مضمر.
الثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هو رب. وحسن حذفه توالي اللفظ ب: {هُوَ} مرتين.
الثالث: أن يكون بدلا ثالثا من لفظ الجلالة، أو عطف بيان عليه. الرابع: أن يكون صفة للضمير، وذلك عند الكسائي، فإنه يجيز وصف الضمير الغائب بصفة مدح، فهو يشترط هذين الشرطين: أن يكون الضمير غائبا، وأن تكون الصفة صفة مدح. و {رَبُّ} مضاف، و {الْعَرْشِ} مضاف إليه من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {الْكَرِيمِ:} صفة {الْعَرْشِ} وعلى قراءته بالرفع فمن وجهين: أحدهما أنه نعت ل: {الْعَرْشِ} أيضا، ولكنه قطع عن إعرابه لأجل المدح على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الكريم، وهذا جيد لتوافق القراءتين في المعنى، والثاني كونه نعتا ل:
{رَبُّ،} والجملة الاسمية: {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط:
الضمير فقط، والجملة الفعلية:{فَتَعالَى..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ:} يعبده وحده، أو يتخذه شريكا لله. {لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ:} لا حجة له باتخاذه إلها. {فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ:} جزاؤه، وعقابه عند خالقه، فهو مجازيه عليه لا محالة. {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ} أي: لا يسعد من جحد، وكذب بالله، وآياته، ورسله. هذا؛ وقد جعل سبحانه، وتعالى فاتحة السورة:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} وخاتمتها:
{إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ} وشتان ما بين الفاتحة والخاتمة.
هذا؛ ويقرأ «(لا يفلح)» بفتح الياء واللام من الثلاثي، وقراءة الجمهور بضم الياء وكسر اللام من «أفلح» الرباعي، وإعلاله كما يلي: فأصله يؤفلح، فحذفت الهمزة للتخفيف حملا على المبدوء بهمزة المضارعة، مثل أؤفلح، الذي حذفت همزته الثانية للتخلص من ثقل الهمزتين،
فصار: يفلح. وهذا الإعلال يجري في كل فعل ثلاثي مزيدة الهمزة في أوله للتعدية، مثل:
أجاب، يجيب، وأكرم، يكرم، ونحو ذلك، كما حذفت الهمزة الثانية من (يؤمنون)؛ لأن ماضيه: آمن، وأصله: أأمن، والمضارع: يؤأمن أؤمن، فتحذف من الأول، وتسهل في الثاني، وقد يجيء على القياس، وهو الأصل المهجور، كما في قول أبي حيان الفقعسي:[الرجز]
فإنّه أهل لأن يؤكرما
ولا تنس: أن الهمزة المزيدة هذه تحذف من اسمي الفاعل، والمفعول المأخوذين من الفعل الثلاثي المزيدة فيه الهمزة، وذلك مثل: مكرم، ومكرم، والقياس: مؤكرم، ومؤكرم، وقس على ذلك. تنبه لهذا؛ واحفظه، والله ولي التوفيق.
الإعراب: {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَدْعُ:} مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الواو، والضمة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى (من) تقديره:«هو» . {مَعَ:}
ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و {مَعَ} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {إِلهاً:} مفعول به.
{آخَرَ:} صفة له. {لا:} نافية للجنس تعمل عمل: «إن» . {بُرْهانَ:} اسم {لا} مبني على الفتح في محل نصب. {اللهِ:} متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر {لا} . {بِهِ:} متعلقان بالخبر المحذوف الذي هو متعلق {اللهِ} قبله، أو بمحذوف خبر ثان، والجملة الاسمية:{لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ} في محل نصب صفة ثانية ل: {إِلهاً} لازمة له، فإن الباطل لا برهان به جيء بها للتأكيد، أو هي معترضة بين فعل الشرط، وجوابه.
{فَإِنَّما:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنما): كافة، ومكفوفة. {حِسابُهُ:} مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف في محل رفع خبر المبتدأ، و {عِنْدَ} مضاف، و {رَبِّهِ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية:{فَإِنَّما حِسابُهُ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول:
لا محل لها، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط، وقيل: هو جملة الجواب، وقيل: هو الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين، والجملة الاسمية:{وَمَنْ يَدْعُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها، وهو ضمير الشأن، والأمر. {لا:} نافية.
{يُفْلِحُ:} مضارع. {الْكافِرُونَ:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. هذا؛ ويقرأ بفتح الهمزة، وعليه ف:(أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر
محذوف، التقدير: بأنه، وهذا الجار، والمجرور متعلقان ب:{حِسابُهُ،} وقال الزمخشري، وتبعه البيضاوي: إن المصدر المؤول في محل رفع خبر المبتدأ، التقدير: فإنما حسابه عدم الفلاح، وهذا يعني: أنه خبر بعد خبر.
{وَقُلْ رَبِّ اِغْفِرْ وَاِرْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ (118)}
الشرح: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ:} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أمره ربه أن يتوجه إليه بخاتمة هذه السورة الكريمة بطلب المغفرة، والرحمة، وهما خير ما يسأل، ويطلب، ولم يأمره أن يتوجه إليه بطلب الدنيا وزينتها؛ لأنها لا بقاء لها، فقد روي: أن أول هذه السورة، وآخرها من كنوز الجنة، ومن عمل بثلاث آيات من أولها، واتعظ بأربع آيات من آخرها؛ فقد نجا وأفلح.
{وَأَنْتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ:} إنما كان ذلك كذلك؛ لأن رحمته-جلّت قدرته-إذا أدركت أحدا؛ أغنته عن رحمة غيره، ورحمة غيره لا تغنيه عن رحمته تعالى، فهذه الآية مسك الختام لهذه السورة الكريمة، والحمد لله ربّ العالمين.
الإعراب: {وَقُلْ:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (قل): أمر، وفاعله مستتر فيه. {رَبِّ:} منادى حذف منه أداة النداء منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، وانظر ما فيه من أوجه الإعراب في:{يا قَوْمِ} في الآية رقم [23]{اِغْفِرْ وَارْحَمْ:} فعلا دعاء مبنيان على السكون، وفاعلهما ضمير مستتر فيهما، ومفعولا هما محذوفان؛ إذ التقدير: اغفر لنا ذنوبنا، وارحمنا، والجملتان مع الجملة الندائية الجميع في محل نصب مقول القول. {وَأَنْتَ:} الواو: واو الحال. (أنت): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {خَيْرُ:} خبره، وهو مضاف، و {الرّاحِمِينَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء
…
إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الفاعل المستتر، والرابط: الواو، والضمير، وجملة:{وَقُلْ..} . إلخ معطوفة على جملة مقدرة قبلها، التقدير: احمد الله، واشكره، وقل
…
إلخ، أو هي مستأنفة، لا محل لها، وعلى التقدير الأول الكلام مستأنف، لا محل له.
تأمل، وتدبر وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
انتهت سورة المؤمنون شرحا وإعرابا بعونه تعالى وتوفيقه، والحمد لله رب العالمين.