الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة النّمل
سورة (النمل)، وهي مكية كلها في قول الجميع، وهي ثلاث وتسعون آية، وألف وثلاثمئة وسبع عشرة كلمة، وأربعة آلاف وسبعمئة، وتسعة وتسعون حرفا. انتهى. خازن.
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}
بسم الله الرحمن الرحيم
{طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1)}
الشرح: أرى أن تنظر شرح هذه الكلمات كلها في الآيتين رقم [1] و [2] من سورة (الشعراء)، والإشارة إلى آي السورة. والكتاب المبين: إما اللوح المحفوظ، وإبانته: أنه خط فيه ما هو كائن. فهو يبينه للناظرين فيه من الملائكة، وتأخيره هنا باعتبار تعلق الله فيه، وتقديمه في سورة (الحجر) في قوله تعالى:{الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} باعتبار الوجود. أو المراد بالكتاب هنا: القرآن، فأخرج لفظ {الْكِتابِ} في سورة (الحجر) بلفظ المعرفة، و (القرآن) بلفظ النكرة، وهنا بعكس ذلك، وذلك؛ لأن القرآن، والكتاب اسمان يصلح لكل واحد منهما أن يجعل معرفة، وأن يجعل صفة، وعطف أحدهما على الآخر، كعطف إحدى الصفتين على الأخرى، أو من عطف المرادف على مرادفه. ووصفه بالمبين؛ لأنه بيّن فيه أمره، ونهيه، وحلاله، وحرامه، ووعده، ووعيده. وانظر وصفه بالحكيم في أول سورة لقمان.
هذا؛ والإشارة بقوله {تِلْكَ} إلى ما تضمنته السورة الكريمة من آيات القرآن، وإنما أدخل اللام على اسم الإشارة هنا وفي كثير من الآيات، وهي للبعد، والسورة الكريمة، بل القرآن كله في متناول اليد، وذلك للإيذان بعلو شأنه، وكونه في الغاية القصوى من الفضل، والشرف، وعلو المكانة، فكأنه بسبب ذلك بعيد كل البعد.
و (قرآن) مشتق من: قريت الماء في الحوض: إذا جمعته، فكأنه قد جمع فيه الحكم، والمواعظ، والآداب، والقصص، والفروض، وجميع الأحكام، وكملت فيه جميع الفوائد الهادية إلى طرق الرشاد. هذا؛ وهو في اللغة مصدر بمعنى الجمع، يقال: قرأت الشيء قرآنا؛ أي: جمعته، وبمعنى القراءة، يقال: قرأت الكتاب قراءة، وقرآنا، ثم نقل إلى هذا المجموع المقروء المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، المنقول عنه بالتواتر، فيما بين الدفتين، وهو المراد. ويحرم
على المحدث حدثا أكبر، قراءته، وحمله، ومسّه، وعلى المحدث حدثا أصغر حمله، ومسّه، ولا يمنع من قراءته عن ظهر قلب، قال تعالى في تقديسه، وتعظيمه:{لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} .
الإعراب: {طس:} انظر الآية رقم [1] من سورة (الشعراء). {تِلْكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، وأجيز اعتباره خبرا لمبتدأ محذوف، التقدير: هذه تلك، فتكون {آياتُ} بدلا من اسم الإشارة، والأول أقوى معنى، وأصح إعرابا، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {آياتُ:} خبر المبتدأ، أو بدل من اسم الإشارة، و {آياتُ} مضاف، و {الْقُرْآنِ} مضاف إليه. {وَكِتابٍ:} معطوف على: {الْقُرْآنِ،} وقرئ برفعه على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه. {مُبِينٍ:} صفة: (كتاب).
الشرح: {هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ:} خص الله المؤمنين بالذكر هنا وفي كثير من الآيات؛ لأنهم هم المهتدون، والمنتفعون بآيات القرآن، فعملوا بتعاليمه، وامتثلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، ولذا وصفهم العزيز الحكيم بالصفات الثلاث الآتية. هذا؛ وأصل {هُدىً} هديا، أو هدي، بضم الهاء، وفتح الدال، وتحريك الياء منونة، فقلبت الياء ألفا، لتحركها وانفتاح ما قبلها، فاجتمع ساكنان، الألف والتنوين الذي يرسم ألفا في حالة النصب بحسب الأصل، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار {هُدىً} وإنما أتوا بياء أخرى؛ لتدل على الياء الأصلية المحذوفة، بخلاف ما إذا لم يأتوا بها، وقالوا: هدا؛ فلا يوجد ما يدل عليها.
{لِلْمُؤْمِنِينَ:} جمع: مؤمن، والإيمان الصحيح: هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان، والعمل بالأركان، ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، قال:«الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء، والقدر: خيره، وشرّه من الله تعالى» .
والإيمان يزيد، وينقص على المعتمد، كما بينته في الآية رقم [2] من سورة (الأنفال) وله شعب كثيرة، وفروع عديدة، وهي سبع وسبعون، أعلاها:{لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ،} وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، وهو بفتح الهمزة جمع: يمين، بمعنى الحلف بالله، أو بصفة من صفاته، أو باسم من أسمائه، قال تعالى:{وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ} واليمين أيضا: اليد اليمنى، وتجمع أيضا على: أيمان، كما في قوله تعالى:{أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} وهو كثير في القرآن الكريم.
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ:} يؤدونها في أوقاتها، ويحافظون على طهارتها، ويتمّون ركوعها، وسجودها، وخشوعها، ومن لم يؤدها على الوجه الأكمل، يقال عنه: صلّى، ولا يقال: أقام
الصلاة. هذا؛ والصلاة في اللغة: الدعاء، والتضرّع، وهي في الشرع: أقوال، وأفعال مخصوصة، مبتدأة بالتكبير، مختتمة بالتسليم، ولها شروط، وأركان، ومبطلات، ومكروهات، ومندوبات مذكورة في الفقه الإسلامي، والصلاة من العبد معناها: التضرّع والدعاء، ومن الملائكة على العبد معناها: الاستغفار، وطلب الرحمة، ومن الله على عباده، معناها الرحمة وإنزال البركات، وقد جمعت الأنواع الثلاثة في قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} . وانظر: {أَضاعُوا الصَّلاةَ} في الآية رقم [59] من سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام.
هذا؛ وأصل {يُقِيمُونَ:} (يؤقومون) حذفت الهمزة للتخفيف، حملا على المبدوء بهمزة المضارعة، مثل أاقوم، الذي حذفت همزته الثانية للتخلص من ثقل الهمزتين، فصار:(يقومون) ثم يقال في إعلاله: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو، وهي الكسرة إلى القاف قبلها، فصار:(يقومون) ثم قلبت الواو ياء، لمناسبة الكسرة، وهذا الإعلال يجري في كل فعل ثلاثي مزيدة الهمزة في أوله للتعدية، مثل: أجاب، يجيب، وأكرم، يكرم
…
إلخ، كما حذفت الهمزة الثانية من: يؤمنون؛ لأن ماضيه: آمن، وأصله: أأمن، والمضارع: يؤأمن أؤمن، فحذفت من الأول، وتسهل في الثاني، وقد يجيء على القياس، وهو الأصل المهجور، كما في قول أبي حيان الفقعسي:[الرجز]
فإنّه أهل لأن يؤكرما
ولا تنس: أن هذه الهمزة المزيدة تحذف من اسمي الفاعل، والمفعول المأخوذين من الفعل الثلاثي المزيدة فيه الهمزة، وذلك مثل: مكرم، ومكرم، والقياس: مؤكرم، ومؤكرم، وقس على ذلك، وإعلال (يؤتون) مثل ما تقدم؛ لأن ماضيه آتي، وأصله أأتى، وأصل {يُوقِنُونَ} (يؤيقنون)؛ لأنه من:(أيقن) الرباعي، فحذفت الهمزة على مثال ما رأيت في {يُقِيمُونَ} فصار:
(ييقنون) ثم قلبت الياء الثانية واوا لسكونها، وانضمام ما قبلها.
هذا؛ وأما {الزَّكاةَ} فهي في اللغة: التطهير، والنماء. وفي الشرع: اسم لمال مخصوص، يدفع لأشخاص معلومين مذكورين في الآية رقم [60] من سورة (التوبة)، وقد خص الله الصلاة، والزكاة بالذكر؛ لأن الصلاة أفضل العبادات البدنية، وشرعت لذكر الله، والزكاة أفضل العبادات المالية، ومجموعهما التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [31] من سورة (مريم) على نبينا، وحبيبنا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام، تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، وانظر الصلاة التي تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر، والتي لا تنهاه في العنكبوت [45].
الإعراب: {هُدىً:} يجوز في محله النصب على الحال من {آياتُ} أي: هداية، وبشارة، والعامل اسم الإشارة؛ لما فيه من معنى الفعل، ويجوز في محله الجر على أنه بدل من (كتاب)،
أو صفة له، كما يجوز في محله الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هي هدى، أو على البدل من {آياتُ،} أو على أنه خبر بعد خبر، وعلامة النصب، أو الجر، أو الرفع مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والثابتة دليل عليها، وليست عينها. {وَبُشْرى:} الواو: حرف عطف، (بشرى): معطوف على ما قبله على جميع الوجوه المعتبرة فيه، والفتحة، أو الكسرة، أو الضمة، مقدرة على الألف للتعذر، {لِلْمُؤْمِنِينَ:} جار ومجرور متعلقان بأحد الاسمين على التنازع، أو بمحذوف صفة لأحدهما، وحذفت صفة الثاني.
{الَّذِينَ:} يجوز في محله الجر على الإتباع ل: (المؤمنين) على البدلية، أو الوصفية، والنصب على أنه مفعول به لفعل محذوف، تقديره: أعني، والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هم الذين، وهو مبني على الفتح في محل جر، أو في محل رفع، أو في محل نصب، وجملة:{يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها.
{وَهُمْ:} الواو: واو الحال، (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.
{بِالْآخِرَةِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما. {هُمْ:} ضمير فصل لا محل له، أو هو توكيد للمبتدأ. {يُوقِنُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَهُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وأجيز عطفها على جملة الصلة، كما أجيز اعتبارها مستأنفة، ومعترضة في آخر الكلام، ولا محل لها على الوجهين.
تنبيه: قال زادة: ولما كان إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مما يتكرر، ويتجدد في أوقاتهما؛ أتي بهما فعلين، ولما كان الإيقان بالآخرة أمرا ثابتا، مطلوبا دوامه، أتي به جملة اسمية، وجعل خبرها مضارعا للدلالة على أن إيقانهم يستمر على سبيل التجدد. انتهى. جمل. فهذه فائدة جديرة بالاعتبار. والله الموفق، والمعين، ولا تنس: أن الآية الكريمة مذكورة بحروفها كاملة برقم [5] من سورة لقمان.
{إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)}
الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} أي: لا يصدقون، ولا يعترفون بالآخرة، وما فيها من حساب، وجزاء، وجنة، ونار، وهم الكفار ومن لف لفهم من الفاسدين المفسدين، {زَيَّنّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ:} قال الزمخشري رحمه الله تعالى: فإن قلت: كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته، وقد أسنده إلى الشيطان في قوله:{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ؟} قلت: بين الإسنادين فرق، وذلك:
أن إسناده إلى الشيطان حقيقة، وإسناده إلى الله عز وجل مجاز، وله طريقان في علم البيان:
أحدهما: أنه من المجاز الذي يسمى استعارة. والثاني: أن يكون من المجاز الحكمي.
فالطريق الأول: أنه لما متعهم بطول العمر، وسعة الرزق، وجعلوا إنعام الله بذلك عليهم، وإحسانه إليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم، وبطرهم، وإيثارهم الراحة، والترفه، ونفارهم عما يلزمهم فيه التكاليف الصعبة، والمشاق المتعبة؛ فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم، وإليه أشارت الملائكة- صلوات الله وسلامه عليهم-في قولهم:{وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتّى نَسُوا الذِّكْرَ} .
والطريق الثاني: أن إمهاله الشيطان وتخليته؛ حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين، فأسند إليه؛ لأن المجاز الحكمي يصححه بعض الملابسات. وقيل: هي أعمال الخير؛ التي وجب عليهم أن يعملوها، زينها الله لهم، فعموا عنها، وضلوا. ويعزى إلى الحسن. انتهى. كشاف.
وانظر الآية رقم [24] الآتية. {يَعْمَهُونَ:} يتحيرون، ويترددون، لا يعرفون ما يلحقهم من ضر، أو نفع، والعمه: التحيّر، والتردد، كما يكون حال الضال عن الطريق. وعن بعض الأعراب: أنه دخل السوق، وما أبصرها قط، فقال: رأيت الناس عمهين، أراد مترددين في أشغالهم، وأعمالهم، قال رؤبة بن العجّاج:[الرجز]
ومهمه أطرافه في مهمه
…
أعمى الهدى بالحائرين العمّه
هذا؛ والعمه قريب من العمى، لكن العمى يطلق على ذهاب نور العين، وعلى الخطأ في الرأي، والعمه لا يطلق إلا على الثاني. وفي المصباح: عمه، يعمه عمها من باب: تعب إذا تردد متحيرا، و:«تعامه» مأخوذ من قولهم: أرض عمهاء: إذا لم يكن فيها أمارات تدل على النجاة، فهو عمه، واعمه. انتهى. جمل. وهذا الفعل لم أر له ماضيا، ولا أمرا، فيظهر: أنه فعل جامد، لا يأتي منه غير المضارع، وإن ذكر في كتب اللغة ماض له، لكنه لم يستعمل، ولم يتداول، وهو بلفظ المضارع كثير في القرآن الكريم.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها. {لا:} نافية. {يُؤْمِنُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ. والواو: فاعله.
{بِالْآخِرَةِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها.
{زَيَّنّا:} فعل ماض مبني على السكون، و (نا): فاعله. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {أَعْمالَهُمْ:} مفعول به، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{زَيَّنّا لَهُمْ..} . إلخ في محل رفع خبر: {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ..} . إلخ مستأنفة، أو مبتدأة، لا محل لها على الاعتبارين. {فَهُمْ:} الفاء: حرف عطف، (هم): ضمير منفصل مبني على السكون، في محل رفع مبتدأ، وجملة:{يَعْمَهُونَ:} في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
{أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)}
الشرح: {أُوْلئِكَ:} الإشارة إلى الذين لا يؤمنون بالآخرة. {الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ} أي:
في الدنيا بالقتل، والأسر، والخوف على أنفسهم، وأموالهم. {وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} أي:
أشد الناس خسرانا يوم القيامة؛ لفوات المثوبة، واستحقاق العقاب لهم، وقد قيل في تفسير خسران الكافرين: أنه جعل لكل واحد من بني آدم منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل الكفار التي في الجنة، وجعل للكفار منازل المؤمنين التي في النار، فذلك هو الخسران، وأيّ خسران أعظم من هذا الخسران! ويستدل لذلك بقوله تعالى:{أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} . هذا؛ والمراد بالآخرة: الحياة الثانية، التي تكون بعد الموت، ثم بعد الحساب، والجزاء، ودخول الجنة، والخلود فيها، أو دخول النار، والخلود فيها.
الإعراب: {أُوْلئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبر المبتدأ. {لَهُمْ:}
جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {سُوءُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {الْعَذابِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية صلة الموصول، والجملة الاسمية:{أُوْلئِكَ الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَهُمْ:} الواو: حرف عطف. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {فِي الْآخِرَةِ:} جار ومجرور متعلقان ب {الْأَخْسَرُونَ} الذي هو خبر المبتدأ، فهو مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والضمير الثاني توكيد للأول أو هو ضمير فصل، فهو يفيد التوكيد أيضا، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)}
الشرح: {وَإِنَّكَ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ:} لتؤتاه؛ أي: يلقى عليك بواسطة جبريل الأمين، عليه السلام، فتأخذه، وتتعلمه. {مِنْ لَدُنْ:} من عند. {حَكِيمٍ عَلِيمٍ:} أيّ حكيم، وأيّ عليم؟! والجمع بينهما-مع أن العلم داخل في الحكمة-لعموم العلم، ودلالة الحكمة على إتقان الفعل، والإشعار بأن علوم القرآن، منها ما هي حكمة كالعقائد، والشرائع، ومنها ما ليس كذلك، كالقصص، والإخبار عن المغيبات. انتهى. بيضاوي. وقال الخازن:
الحكمة هي العلم بالأمور العلمية فقط، والعلم أعم منه؛ لأن العلم قد يكون علما، وقد يكون نظرا، والعلوم النظرية أشرف. انتهى.
تنبيه: قرئ قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [37]: {فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ} برفع آدم، ونصب كلمات، وقرأ ابن عباس-رضي الله عنهما-بنصب آدم، ورفع كلمات، ومعنى القراءتين واحد، وهذا مبني على قاعدة، وهي أن ما لقيك فقد لقيته، وما لقيته فقد لقيك.
هذا؛ و {لَدُنْ} بمعنى عند، وفيها إحدى عشرة لغة، أفصحها: إثبات النون ساكنة، وهي لغة القرآن الكريم، وهي بجميع لغاتها، معناها: أول غاية زمان، أو مكان، وقلما يفارقها «من» الجارة لها، فإذا أضيفت إلى الجملة؛ تمحضت للزمان؛ لأن ظروف المكان لا يضاف منها إلى الجملة إلا «حيث» . ويجوز تصدير الجملة بحرف مصدري لما لم يتمحض «لدن» في الأصل للزمان، وإذا أضيفت للضمير وجب إثبات النون؛ لأنه لا يقال: لده، ولا لدك، و «لدن» مبني في جميع لغاته، وإنما لم يعرب ك:«عند» ؛ لأن «عند» لما بحضرتك، وما يبعد منك، وقد كان حكمها أن تبنى ك:«لدن» لو لم يلحقها من التعريف ما ذكرناه، و «لدن» لا يتجاوز بها حضرة الشيء، فلهذا كانت مبنية.
الإعراب: {وَإِنَّكَ:} الواو: حرف استئناف. (إنك): حرف مشبه بالفعل، والكاف ضمير متصل في محل نصب اسمها. {لَتُلَقَّى:} اللام: هي المزحلقة. (تلقى): فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» ، وهو المفعول الأول. {الْقُرْآنَ:} مفعول به ثان. {مِنْ:} حرف جر.
{لَدُنْ:} اسم مبني على السكون في محل جر ب: {مِنْ،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. و {لَدُنْ:} مضاف، و {حَكِيمٍ} مضاف إليه. {عَلِيمٍ:} بدل من {حَكِيمٍ؛} لأنهما اسمان للذات العلية، وجملة:{لَتُلَقَّى..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{وَإِنَّكَ..} .
إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ} أي: اذكر يا محمد لقومك وقت قال موسى لأهله: امكثوا هنا.
وهذا كان حين قضى الأجل الذي عاقد شعيبا عليه، ثم استأذنه في الرجوع إلى أهله بمصر، وخرج بزوجه، فلما وافى وادي الطور، وفيه جبل الطور، وكانت أيام الشتاء، فأخذ على غير الطريق المعروف مخافة من ملوك الشام، وامرأته حامل في شهرها، لا يدري: أليلا تضع حملها أم نهارا، فسار في البرية غير عارف بطرقها، فألجأه المسير إلى جانب الطور الغربي الأيمن، وذلك في ليلة مظلمة مثلجة، شديدة البرد لما أراد الله من كرامته، فأخذ امرأته الطلق، فأخذ زنده، فجعل يقدح فيها، فلا توري، فأبصر نارا من بعيد عن يسار الطريق من جانب الطور الأيمن.
{إِنِّي آنَسْتُ ناراً} أي: أبصرت نارا، قال الحارث بن حلّزة اليشكري: في معلقته: [الخفيف]
آنست نبأة وأفزعها القن
…
ناص عصرا وقد دنا الإمساء
قال ابن عباس-رضي الله عنهما: فلما توجه نحو النار، فإذا النار في شجرة عناب، فوقف متعجبا من حسن ذلك الضوء، وشدة خضرة تلك الشجرة، فلا شدة حر النار تغير حسن خضرة الشجرة، ولا كثرة ماء الشجرة، ولا نعمة الخضرة تغيران حسن ضوء النار.
{سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ:} السين تفيد الوعد، وقد قال في سورة (طه):{لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ} ولعل تفيد الرجاء، وهما متدافعان؛ لأن السين تفيد اليقين، والرجاء بخلاف ذلك، وجوابه: قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه، سأفعل كذا، وسيكون كذا مع تجويزه عدم الوقوع، والحصول.
{أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ:} يقرأ بتنوين (شهاب) وعدمه بإضافة النوع إلى الجنس، كما تقول: هذا ثوب خز، وخاتم حديد، وشبهه، والشهاب: كل ذي نور، نحو: الكوكب، والعود، والموقد.
والقبس: اسم لما يقتبس من جمر، وما أشبهه. {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ:} رجاء أن تستدفئوا بها، والصلاء: النار العظيمة. هذا؛ ويقال: اصطلى، يصطلي: إذا استدفأ. قال الشاعر: [الكامل]
النّار فاكهة الشّتاء فمن يرد
…
أكل الفواكه شاتيا فليصطل
وفي سورة (طه) قوله: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النّارِ هُدىً} فرجا أحد أمرين وجود هاد يهديه الطريق الذي أضله، أو إتيان قبس من النار؛ ليستدفئ به أهله، والمراد بأهله: زوجته وولده ومن كان معه من خدمه ورعاة غنمه. هذا؛ و {تَصْطَلُونَ} فيه إبدال حرف بحرف؛ لأن أصله: (تصتلون) فلما وقعت تاء الافتعال بعد حرف الإطباق، وهو الصاد، قلبت طاء على القاعدة. وهو من: صلي بالنار. وفي المصباح: (صلي بالنار) وصليها صلى من باب: تعب:
وجد حرها، والصّلاء بوزن كتاب: حر النار. هذا؛ وفي سورة (القصص): {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} .
الإعراب: {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بفعل محذوف، تقديره: اذكر. وقيل: هو مفعول به لهذا المحذوف. وقيل: متعلق ب {عَلِيمٍ،} والمعتمد الأول. {قالَ:} فعل ماض. {مُوسى:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {لِأَهْلِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب اسمها.
{آنَسْتُ:} فعل، وفاعل. {ناراً:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(إن)، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ، في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ، في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {سَآتِيكُمْ:} السين: حرف استقبال. {آتِيكُمْ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه
ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنا» . {مِنْها بِخَبَرٍ:} جار ومجرور كلاهما متعلقان بالفعل قبلهما، و {بِخَبَرٍ} في محل نصب مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول أيضا. {بِشِهابٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، {قَبَسٍ:} صفة (شهاب) على تأويله بمفعول، أي: مقتبس، أو هو بدل منه على تنوينه، ومضاف، ومضاف إليه على عدم التنوين، وجملة:{آتِيكُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها. {لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف ضمير متصل في محل نصب اسمها. {تَصْطَلُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل خبر (لعل)، والجملة الاسمية:{لَعَلَّكُمْ..} . إلخ، تعليل لإتيانه ما رأى. وقيل: في محل نصب حال؛ أي: راجيا تأمين الدفء لكم، وتوفيره، وفيه أن الرجاء إنشاء.
الشرح: {فَلَمّا جاءَها} أي: فلما جاء موسى الذي ظن أنه نار؛ وهي نور، ووقف قريبا منها، ورآها تخرج من الشجرة، فعجب منها، كما رأيت في الآية السابقة، وأهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها، فمالت إليه، فخافها فتأخر عنها، ثم لم تزل تطمعه، ويطمع فيها إلى أن وضح أمرها، على أنها مأمورة لا يدري ما شأنها؟! {نُودِيَ:} ناداه الله تعالى، كما قال جل ذكره:{وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} .
{أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النّارِ وَمَنْ حَوْلَها:} التقدير: بورك على من في النار، وهو موسى، أو على من في قرب منها، لا أنه كان في وسطها، وقال السدي: كان في النار ملائكة، فالتبريك عائد إلى موسى، والملائكة، أي: بورك فيك يا موسى وفي الملائكة الذين هم حولها، وقيل: البركة راجعة إلى النار نفسها، ومن حولها الملائكة وموسى. وحكى الكسائي عن العرب: باركك الله، وبارك فيك. وقال الثعلبي: العرب تقول: باركك الله، وبارك فيك، وبارك عليك، وبارك لك، أربع لغات. قال الشاعر:[الطويل]
فبوركت مولودا وبوركت ناشئا
…
وبوركت عند الشّيب إذ أنت أشيب
وهناك قول قاله ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير: قدّس من في النار وهو الله سبحانه وتعالى، عنى به نفسه تقدّس، وتعالى. قال ابن عباس ومحمد بن كعب: النار نور الله عز وجل، نادى الله موسى، وهو في النور؛ وتأويل هذا: أن موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-رأى نورا عظيما، فظنه نارا، وهذا؛ لأن الله تعالى ظهر لموسى بآياته وكلامه من النار، لا أنه يتحيز في جهة، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ} لا أنه يتحيز فيهما، ولكن يظهر في كل فعل، فيعلم به وجود الفاعل. وقيل على هذا: أي: بورك من في النار سلطانه، وقدرته. وقيل: أي بورك ما في النار من أمر الله تعالى الذي جعله علامة.
ومما يدل على صحة قول ابن عباس-رضي الله عنهما-ما خرّجه مسلم في صحيحه، وابن ماجه في سننه، واللفظ له عن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إنّ الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور، لو كشفها؛ لأحرقت سبحات وجهه كلّ شيء أدركه بصره» . ثم قرأ أبو عبيدة: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النّارِ..} . إلخ.
قال أبو عبيد: يقال السّبحات: إنها جلال وجهه، ومنها قيل: سبحان الله، إنما هو تعظيم له وتنزيه. انتهى. قرطبي بتصرف.
{وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} أي: تنزيها وتقديسا لله رب العالمين. هذا؛ و {وَسُبْحانَ:} اسم مصدر، وقيل: هو مصدر، مثل: غفران، وليس بشيء؛ لأن الفعل سبّح بتشديد الباء، والمصدر: تسبيح، ولا يكاد يستعمل إلا مضافا منصوبا بإضمار فعله، مثل: معاذ الله، وقد أجري علما على التسبيح، بمعنى التنزيه على الشذوذ في قول الأعشى:[السريع]
قد قلت لمّا جاءني فخره
…
سبحان من علقمة الفاخر؟
وتصدير الكلام به اعتذار عن الاستفسار، والجهل بحقيقة الحال، ولذلك جعل مفتاح التوبة، فقال موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ} . وقد نزه الله ذاته في كثير من الآيات بنفسه تنزيها لائقا به، وجملة القول فيه: هو اسم موضوع موضع المصدر، وهو غير متمكن؛ لأنه لا يجري بوجوه الإعراب، من رفع، وجر، ولا تدخل عليه الألف واللام، ولم يجر منه فعل، ولم ينصرف؛ لأن في آخره زائدتين: الألف والنون، ومعناه التنزيه، والبراءة لله-عز وجل-من كل نقص، فهو ذكر عظيم لله تعالى، لا يصلح لغيره، وقد روي عن طلحة الخير بن عبيد الله-أحد العشرة المبشرين بالجنة، رضي الله عنهم أجمعين-: أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما معنى سبحان الله؟ فقال: «تنزيه الله من كلّ سوء» . والعامل فيه على مذهب سيبويه الفعل الذي من معناه، لا من لفظه؛ إذ لم يجر من لفظه فعل، وذلك مثل:
قعد القرفصاء، فالتقدير عنده: أنزه الله تنزيها، فوقع «سبحان الله» مكان قولك:«تنزيها لله» .
الإعراب: {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف، (لما): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف عند ابن السراج، والفارسي، وابن جني، وجماعة، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وصوب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني. {جاءَها:} فعل ماض، و (ها): ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«هو» ، يعود إلى {مُوسى،} والجملة الفعلية لا محل لها على اعتبار (لما) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لما) إليها على اعتبارها ظرفا. {نُودِيَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب فاعله ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {مُوسى} . {أَنْ:} فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها المفسرة لتقدم ما هو بمعنى القول عليها. والثاني: أنها الناصبة للمضارع، ودخلت
على الماضي هنا، وعليه فتؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بأن بورك، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. والثالث: أنها المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، وجملة:{بُورِكَ..} . إلخ في محل رفع خبر، ولم يحتج إلى فاصل؛ لأن الفعل دعاء، وعليه فتؤول هي، واسمها، وخبرها بمصدر في محل جر بحرف جر محذوف كالسابق، وعلى اعتبار {أَنْ} مفسرة فالجملة الفعلية لا محل لها. هذا؛ وقيل: إن نائب فاعل: {نُودِيَ} هو الجار والمجرور على الوجهين في {أَنْ،} وقيل: إنه ضمير المصدر المفهوم من الفعل، أي: نودي النداء، ثم فسر بما بعده، على حد قوله تعالى:{ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتّى حِينٍ} .
{بُورِكَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع نائب فاعله. {فِي النّارِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {وَمَنْ:} الواو: حرف عطف. (من): معطوف على سابقه، فهو في محل رفع مثله. {حَوْلَها:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، و (ها): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{نُودِيَ..} . إلخ جواب (لما) لا محل لها. و (لما) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَسُبْحانَ:} الواو: حرف استئناف. (سبحان): مفعول مطلق لفعل محذوف، كما رأيت في الشرح، و (سبحان) مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو من إضافته لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا، والفعل المقدر، والمصدر في محل نصب مقول القول لقول محذوف، أي: ويقول من حولها. وقيل: التقدير: وقال موسى حين فرغ من سماع النداء. وقيل: هو من قول الله تعالى. {رَبِّ:} صفة لفظ الجلالة، أو بدل منه. و {رَبِّ} مضاف، و {الْعالَمِينَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وهذه الإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة:{وَسُبْحانَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها من الإعراب.
{يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)}
الشرح: {يا مُوسى إِنَّهُ} أي: الحال والشأن. {أَنَا اللهُ:} الغالب، القوي، القاهر؛ الذي ليس كمثله شيء. {الْحَكِيمُ:} في فعله، وأمره، ونهيه. قيل: إن موسى-عليه السلام-قال:
يا رب! من الذي ينادي، قال الله له:{إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
الإعراب: (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو. (موسى): منادى مفرد علم مبني على ضم مقدر على الألف المقصورة في محل نصب ب: (يا)، {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل. والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها. {أَنَا:} ضمير منفصل فيه ثلاثة أوجه: الأول: اعتباره ضمير
فصل لا محل له. والثاني: اعتباره توكيدا لاسم (إنّ) على المحل، وعليهما، فلفظ الجلالة خبر (إنّ)، وما بعده خبران آخران، والثالث: اعتباره مبتدأ، وما بعده أخبار له متعددة، وعليه، فالجملة الاسمية في محل رفع خبر (إنّ)، والآية كلها في محل نصب مقول القول لقول محذوف، انظر الشرح، وجملة: «قال الله: يا موسى
…
» إلخ مستأنفة، لا محل لها. هذا؛ وقال ابن هشام في المغني: يجوز في الضمير ثلاثة أوجه: الفصل، وهو أرجحها، والابتداء، وهو أضعفها، ويختص بلغة تميم، والتوكيد.
الشرح: {وَأَلْقِ عَصاكَ:} في الآية حذف؛ إذ التقدير: وألق عصاك فألقاها من يده، فصارت حية تهتز كأنها جان، وهي الحية الخفيفة الصغيرة الجسم. وقيل: إنها قلبت له أولا حية صغيرة، فلمّا أنس منها؛ قلبت حية كبيرة. وقيل: انقلبت مرة حية صغيرة، ومرة حية تسعى، وهي الأنثى، وهو ما عبر عنها في سورة (طه) بقوله:{فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى،} ومرة ثعبانا، وهو الذكر الكبير من الحيات، وقد عبر عنها بقوله في سورة (الشعراء) وفي سورة (الأعراف):{فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ} وانظر ما ذكرته في سورة (طه) رقم [20]، وفي سورة (القصص) رقم [31] تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. {وَلّى مُدْبِراً:} خائفا على عادة البشر هاربا من هول ما رأى. {وَلَمْ يُعَقِّبْ:} لم يرجع، ولم يلتفت لشدة خوفه، ورعبه؛ لأنه ظن: أن هذا الأمر أريد به. يقال:
عقّب المقاتل إذا كرّ، ورجع بعد الفرار، قال الشاعر:[الطويل]
فما عقّبوا إذ قيل هل من معقّب؟
…
ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا
فهو يصف قوما بالجبن، وأنهم إن قيل: هل من معقب، وراجع على عقبه للحرب؛ لم يرجعوا إليها ولا نزلوا يوم الحرب منزلا من منازلها. {يا مُوسى لا تَخَفْ} أي: ناداه ربه: يا موسى لا تخف من الحية، وضررها. {إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} أي: لا يخاف المرسلون إذا خاطبتهم، وسمعوا كلامي، وكانوا بين يدي.
هذا؛ و {لَدَيَّ} ظرف مكان بمعنى: «عند» وهي معربة مثلها، وقد تستعملان في الزمان، وإذا أضيف «لدى» إلى مضمر كما هنا؛ قلبت ألفها ياء عند جميع العرب، إلا بني الحارث بن كعب، وبني خناعة، فلا يقلبونها تسوية بين الظاهر، والمضمر، كما لا يقلبون ألف على، وإلى، ونحوهما، وعلى لغتهم جاء قول الشاعر:[الوافر]
إلاكم يا خناعة لا إلانا
…
عزا النّاس الضّراعة والهوانا
فلو برأت عقولكم بصرتم
…
بأنّ دواء دائكم لدانا
وذلكم إذا واثقتمونا
…
على قصر اعتمادكم علانا
وهذا الأبيات هي الشاهد رقم [792] من كتابنا فتح الكريم الواسع إعراب شواهد همع الهوامع، ثم اعلم: أن «عند» أمكن من «لدى» من وجهين: أحدهما: أنها تكون ظرفا للأعيان، والمعاني، تقول: هذا القول عندي صواب، وعند فلان علم به، ويمتنع ذلك في:«لدى» . ذكره ابن الشجري في أماليه، ومبرمان في حواشيه. والثاني: أنك تقول: عندي مال وإن كان غائبا، ولا تقول: لديّ مال (إلا إذا كان حاضرا). قاله جماعة.
الإعراب: {وَأَلْقِ:} الواو: حرف عطف. (ألق): فعل أمر، وفاعله مستتر، تقديره:«أنت» ، {عَصاكَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والكاف: ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{بُورِكَ..} . إلخ على جميع الوجوه المعتبرة فيها؛ إذ التقدير: نودي أن بورك
…
وأن ألق، ويدل عليه قوله:{أَنْ يا مُوسى}
{وَأَنْ أَلْقِ} إلخ سورة (القصص) رقم [30][31] ويكون ما بينهما كلاما معترضا، وقال الجمل نقلا عن السمين: الجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها من الجملة الاسمية الخبرية، وقد تقدم: أن سيبويه لا يشترط تناسب الجمل، وأنه يجيز: جاء زيد، ومن أبوك؟ وقاله هنا بدون ذكر (أن) وفي القصص بذكرها؛ لأن ما هنا تقدمه فعل بعد {أَنْ،} وهو {بُورِكَ،} فحسن عطف الفعل عليه، وما هناك لم يتقدمه فعل بعد (أن)، فذكرت (أن) لتكون جملة (أن ألق) معطوفة على جملة:{أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ} . انتهى. أقول: وهذا الكلام يؤيد الوجه الأول في العطف.
تأمل.
{فَلَمّا:} انظر الآية رقم [8]، {رَآها:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل ضمير مستتر، يعود إلى {مُوسى،} و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية يقال فيها ما قلته بجملة:{جاءَها،} {تَهْتَزُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى «العصا» تقديره: هي، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الضمير فقط، ولا يجوز اعتبار الجملة مفعولا ثانيا ل:(رأى) لأنه بصري، لا قلبي. {كَأَنَّها:} حرف مشبه بالفعل، و (ها):
ضمير متصل في محل نصب اسمها. {جَانٌّ:} خبرها، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل {تَهْتَزُّ} المستتر، والرابط: الضمير فقط، وهي حال متداخلة، أو هي حال ثانية من الضمير المنصوب. {وَلّى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل يعود إلى (موسى)، {مُدْبِراً:} حال منه، والجملة الفعلية جواب (لما)، لا محل لها. {وَلَمْ:} الواو: واو الحال، (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم، {يُعَقِّبْ:} فعل مضارع مجزوم ب (لم)، والفاعل يعود إلى (موسى) أيضا، والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل {وَلّى،} والرابط: الواو،
والضمير، و (لما) ومدخولها كلام مستأنف، أو هو معطوف على الكلام الذي رأيته في الشرح، ولا محل له على الاعتبارين.
{يا مُوسى:} منادى مثل سابقه. {لا:} ناهية جازمة. {تَخَفْ:} فعل مضارع مجزوم ب {لا} .
والفاعل ضمير مستتر تقديره: «أنت» . {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها.
{لا:} نافية. {يَخافُ:} فعل مضارع. {لَدَيَّ:} ظرف مكان متعلق بما قبله منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المنقلبة ياء، والمدغمة في ياء المتكلم، التي هي ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {الْمُرْسَلُونَ:} فاعل: {يَخافُ} مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ تعليل للنهي، لا محل لها، والكلام:{يا مُوسى..} . إلخ مستأنف لا محل له. هذا؛ والآية مذكورة في سورة (القصص) برقم [31] بحروفها.
{إِلاّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)}
الشرح: {إِلاّ مَنْ ظَلَمَ..} . إلخ: قيل: هو ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل، والصغيرة، كالذي حصل من آدم، وداود، عليهما السلام. وعليه الضحاك. أو كالذي حصل من آدم، ويونس، وداود، وسليمان، ومن إخوة يوسف، ومن موسى بوكزه القبطي، على نبينا، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام، وعليه الزمخشري، وغيره. وقيل: يحتمل أن يكون المراد منه التعريض بما وجد من موسى من قتله القبطي، وهو من التعريضات اللطيفة، وسماه ظلما لقوله عليه السلام:{إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} ثم إنه خاف من ذلك، فتاب. قال:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} .
فإن قال قائل: فما معنى الخوف بعد التوبة، والمغفرة؟ قيل له: هذه سبيل العلماء بالله عز وجل أن يكونوا خائفين من معاصيهم وجلين، وهم أيضا لا يأمنون أن يكون قد بقي من أشراط التوبة شيء لم يأتوا به، فهم يخافون من المطالبة به، ويدل على ذلك حديث الشفاعة يوم القيامة، وإذا أحدث المقرّب حدثا، فهو وإن غفر له ذلك الحدث؛ فأثر ذلك الحدث باق، وما دام الأثر، والتهمة قائمة؛ فالخوف كائن، لا خوف العقوبة، ولكن خوف العظمة، والمتهم عند السلطان يجد للتهمة حزازة تؤذيه، إلى أن يكدّر عليه صفاء الثقة، وموسى عليه السلام قد كان منه الحدث في ذلك الفرعوني، ثم استغفر، وأقر بالظلم على نفسه، ثم غفر له، ثم قال بعد المغفرة {رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} . انتهى. قرطبي بتصرف كبير.
الإعراب: {إِلاّ:} أداة استثناء. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب على الاستثناء من المرسلين. {ظَلَمَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {مَنْ،} تقديره: هو،
والمفعول محذوف، تقديره: ظلم نفسه، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {ثُمَّ:}
حرف عطف. {بَدَّلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {مَنْ}. {حُسْناً:} مفعول به. {بَعْدَ:}
ظرف زمان متعلق بمحذوف صفة: {حُسْناً،} وهو أولى من تعليقه بالفعل: {بَدَّلَ،} و {بَعْدَ} مضاف، و {سُوءٍ} مضاف إليه، وجملة:{بَدَّلَ..} . إلخ معطوفة على جملة الصلة لا محل لها.
{فَإِنِّي:} الفاء: حرف تفريع واستئناف. (إني): حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب اسمها. {غَفُورٌ رَحِيمٌ:} خبران ل (إنّ)، والجملة الاسمية:{فَإِنِّي..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها مفرعة، ومستأنفة، وهذا الإعراب يجعل هذه الجملة غير مرتبطة بما قبلها، لذا فالوجه اعتبار {مَنْ} مبتدأ، والجملة الاسمية:{فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} في محل رفع خبره، والفاء زائدة لتحسين اللفظ، ومضمون الجملة الاسمية:{مَنْ ظَلَمَ..} . إلخ مستثنى من مضمون الكلام السابق. هذا؛ وقال الجمل: {مَنْ} شرطية، وجوابها جملة:{فَإِنِّي..} . إلخ وتبقى الجملة اسمية في محل نصب على الاستثناء. هذا؛ وقيل: إن {إِلاّ} في هذه الآية بمعنى واو العطف، كما قيل: إنها بمعنى «لكن» ، وهذان القولان ليسا بشيء.
الشرح: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ:} وفي سورة (القصص): {اُسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} وهما بمعنى واحد، وقيل: كانت عليه مدرعة صوف، لا كم لها، ولا أزرار، فأدخل يده في جيبها، وأخرجها، فإذا هي تبرق مثل شعاع الشمس أو البرق، والجيب طوق القميص، سمي جيبا؛ لأنه يجاب، أي: يقطع ليدخل فيه الرأس. هذا؛ وفي سورة (طه) قوله تعالى:
{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ..} . إلخ رقم [22] فيكون المراد بما هنا، وهناك: أدخل يدك في جيبك، وأوصلها تحت العضد، وضم عليها العضد، وهو المعبر عنه بالجناح.
{تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ:} من غير عاهة، وقبح، كنى به عن البرص، كما كنى بالسّوءة عن العورة؛ لأن الطباع تعافه، وتنفر منه. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كان ليده نور ساطع يضيء بالليل، والنهار، كضوء الشمس، والقمر، فكان يعشى البصر من شدته.
هذا؛ والسوء: الشر، والفساد، والجمع: أسواء، وهو بضم السين من ساءه، وهو بفتحها المصدر، كما في قوله تعالى:{إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ} تقول: رجل سوء بالإضافة، ورجل السّوء، ولا تقول: الرجل السّوء. وتأنيث السوء: السوأى، كما في قوله تعالى:{ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى} .
{فِي تِسْعِ آياتٍ:} {فِي} بمعنى «مع» قاله جماعة، فتكون الآيات-أي: المعجزات-إحدى عشرة، منها اثنتان: اليد، والعصا، والتسع: الفلق، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطمس، والجدب في بواديهم، والنقصان في مزارعهم. هذا؛ وقيل:{فِي} بمعنى «من» وهو قول ابن عطية. والأول قول الزجاج، وجماعة، وعليه: فاليد، والعصا من جملة التسع، وعليه؛ فالأخيران آية واحدة، والفلق ليس من التسع؛ لأنه حصل، ووقع فيه هلاك فرعون وجنوده. وانظر شرح هذه الآيات في محالها من سورة (الأعراف)، وسورة (يونس)، وسورة (الشعراء) إن أردت تفصيله.
{إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ} أي: خارجين عن طاعة الله، وفيه إشارة خفية إلى أن فسوقهم كان بتقدير الله وقضائه عليهم، وعلمه الأزلي بأنهم لو تركوا وشأنهم؛ لما اختاروا غير الكفر، والعناد، والخروج عن طاعة الله تعالى. وانظر ما ذكرته عن الزمخشري في الآية رقم [17] من سورة (الفرقان) والإشارة الخفية مفهومة من التعبير بالماضي.
هذا؛ و {فاسِقِينَ} جمع فاسق، وأصل الفسق: الخروج عن القصد، والفاسق في الشرع:
الخارج عن أمر الله تعالى بارتكاب الكبيرة، وله ثلاث درجات: الأولى: التغابي، وهو أن يرتكب الكبيرة أحيانا مستقبحا إياها. والثانية: الانهماك، وهو أن يعتاد ارتكابها غير مبال بها. والثالثة:
الجحود، وهو أن يرتكبها مستصوبا إياها. فإذا شارف هذا المقام، وتخطى خططه؛ خلع ربقة الإيمان من عنقه، ولا بس الكفر، وما دام في درجة التغابي، أو الانهماك؛ فلا يسلب عنه اسم المؤمن؛ لا تصافه بالتصديق؛ الذي هو مسمى الإيمان. انتهى. بيضاوي. في غير هذا الموضع.
الإعراب: {وَأَدْخِلْ:} الواو: حرف عطف، (أدخل): فعل أمر معطوف على (ألق)، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {يَدَكَ:} مفعول به، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {فِي جَيْبِكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {تَخْرُجْ:} فعل مضارع مجزوم لوقوعه في جواب الأمر، والفاعل يعود إلى:{يَدَكَ} . {بَيْضاءَ:} حال من الفاعل المستتر. {مِنْ غَيْرِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أخرى من الفاعل المستتر، أو من الضمير المستتر في:{بَيْضاءَ،} أو بمحذوف صفة: {بَيْضاءَ،} أو هما متعلقان ب: {بَيْضاءَ} نفسها، وجملة:{تَخْرُجْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط مقدر قبل (أدخل) ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية.
{فِي تِسْعِ:} قال السمين: فيه أوجه: أحدها: أنه حال ثالثة من فاعل {تَخْرُجْ} . قاله أبو البقاء، واختاره الجلال، أي: آية في تسع آيات، وأراد بالحالين: الأولى والثانية قوله:
{بَيْضاءَ،} وقوله: {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} في الآية السابقة. الثاني: أنها متعلقة بمحذوف؛ أي اذهب في تسع، وهو اختيار الزمخشري. الثالث: أن يتعلق بقوله: {وَأَلْقِ عَصاكَ،} {وَأَدْخِلْ يَدَكَ،} أي:
في جملة: {تِسْعِ آياتٍ} . انتهى. بتصرف. وهذا على قول ابن عطية، والزجاج في تفسير:
{فِي،} و {تِسْعِ} مضاف، و {آياتٍ} مضاف إليه. {إِلى فِرْعَوْنَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل (أدخل) المستتر، أي: مرسلا إلى فرعون، ويجوز أن يكونا متعلقين بمحذوف صفة:{تِسْعِ،} أو صفة {آياتٍ،} وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. (قومه): معطوف على: {فِرْعَوْنَ} بالواو العاطفة، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها. {كانُوا:}
فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {قَوْماً:} خبر كان.
{فاسِقِينَ:} صفة: {قَوْماً} منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، وجملة:{كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ} في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّهُمْ..} . إلخ تعليل للإرسال المفهوم مما تقدم.
{فَلَمّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)}
الشرح: {فَلَمّا جاءَتْهُمْ آياتُنا} أي: المعجزات التي أيدنا بها موسى، وهي التسع المنصوص عليها فيما تقدم. {مُبْصِرَةً} أي: بينة واضحة. وقال البيضاوي: اسم فاعل، أطلق للمفعول إشعارا بأنها لفرط اجتلائها للأبصار، بحيث تكاد تبصر نفسها لو كانت مما يبصر، أو ذات تبصر من حيث إنها تهدي، والعمي لا تهتدي، فضلا عن أن تهدي، أو مبصرة كل من نظر إليها، وتأمل فيها. انتهى.
{قالُوا} أي: فرعون، وقومه، {هذا} أي: ما نشاهده، ونبصره. {سِحْرٌ مُبِينٌ:} ظاهر واضح، وانظر شرح السحر في الآية رقم [34] من سورة (الشعراء)، وإعلال:{مُبِينٌ} في الآية رقم [1] منها.
الإعراب: {فَلَمّا:} انظر الآية رقم [8]. {جاءَتْهُمْ:} فعل ماض، والهاء مفعول به.
{آياتُنا:} فاعل، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {مُبْصِرَةً:} حال من {آياتُنا،} وجملة: {جاءَتْهُمْ..} . إلخ لها محل، أو لا محل لها حسب ما رأيت في الآية رقم [8]. {قالُوا:}
فعل ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {هذا:} الهاء: حرف تنبيه لا محل له. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {سِحْرٌ:} خبره. {مُبِينٌ:} صفة {سِحْرٌ،} والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ جواب (لما) لا محل لها، و (لما) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.
الشرح: {وَجَحَدُوا بِها:} كذبوا الآيات، وأنكروها، ولم يقروا: أنها من عند الله.
{وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ} أي: أيقنوا: أنها من عند الله، فالسين والتاء زائدتان، وليستا للطلب،
فيكون المعنى: جحدوا الآيات بألسنتهم، واستيقنوها بقلوبهم، وضمائرهم. هذا؛ والاستيقان أبلغ من الإيقان. {ظُلْماً وَعُلُوًّا} أي: اعتداء، وترفعا عن الإيمان بتلك المعجزات الباهرات.
{فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ..} . إلخ: أي انظر كيف كان مالهم، ومصيرهم، وهو الإغراق في البحر، والإحراق بنار الجحيم، وإذاقتهم العذاب الأليم. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويعم كل من كان له قلب يتدبر، وعين تبصر، وتعتبر، وما يتذكر إلا أولو الألباب. هذا؛ وانظر تفصيل ما فعل الله بفرعون، وقومه في سورة (الشعراء) وسورة (الأعراف) وسورة (طه) و (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [51] الآتية فهو بحث جيد، يتعلق ب {كانَ عاقِبَةُ} .
الإعراب: {وَجَحَدُوا:} الواو: حرف عطف، (جحدوا): فعل ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{قالُوا..} . إلخ لا محل لها مثلها. {بِها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وقال أبو عبيدة: الباء زائدة، أي وجحدوها. انتهى. قرطبي.
{وَاسْتَيْقَنَتْها:} الواو: واو الحال. (استيقنتها): فعل ماض، والتاء للتأنيث، و (ها): ضمير متصل في محل نصب مفعول به. {أَنْفُسُهُمْ:} فاعل، والهاء: في محل جر بالإضافة، وجملة:
{وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ:} في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، و «قد» قبلها مقدرة، {ظُلْماً:} مفعول لأجله، أو هو حال ثانيه بمعنى ظالمين. {وَعُلُوًّا:} معطوف على ما قبله. {فَانْظُرْ:} الفاء: حرف عطف على رأي من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر ب:«إذا» . (انظر): فعل أمر، معلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب خبر {كانَ} تقدم عليها، وعلى اسمها. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {عاقِبَةُ:} اسم {كانَ،} وهو مضاف، و {الْمُفْسِدِينَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء
…
إلخ، وجملة:{كَيْفَ..} . إلخ في محل نصب مفعول به للفعل (انظر)، وجملة:
{فَانْظُرْ..} . إلخ لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة بالفاء. هذا؛ وأجيز اعتبار: {كانَ} تامة، وفاعلها {عاقِبَةُ،} فتكون: {كَيْفَ} في محل نصب حال من {عاقِبَةُ} والعامل: {كانَ} .
الشرح: {وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً} أي: منحناهما علما سنيا غزيرا، والمراد: علم الدين، والحكم وغيرهما مما هو من متعلقات النبوة، والرسالة، وهو مذكور في الزبور الذي أنزل على داود بالإضافة إلى الخلافة في الأرض. {وَقالا الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي..}. إلخ: وهنا كلام محذوف يجب تقديره ليصح العطف عليه بالواو، ولولا تقدير المحذوف، لكان الوجه الفاء،
كقولك: أعطيته، فشكر، وتقدير الكلام: آتيناهما علما، فعملا به، وعلماه، وعرفا حق النعمة فيه، وقالا: الحمد لله الذي فضلنا. والكثير المفضل عليه من لم يؤت علما، أو من لم يؤت مثل علمهما. وفيه أنهما فضّلا على كثير، وفضّل عليهما كثير.
وفي الآية الكريمة دليل على شرف العلم، وتقدم حملته وأهله، وأن نعمة العلم من أجلّ النعم، وأن من أوتيه؛ فقد أوتي فضلا على كثير من عباده، وما سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الشريفة ورثة الأنبياء إلا لمداناتهم لهم في الشرف، والمنزلة؛ لأنهم القوام بما بعثوا لأجله، قال تعالى:{يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ} وقال جل ذكره: {إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} وقال جل شأنه: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} .
وفي الآية أيضا: أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة أن يحمدوا الله على ما أوتوه، وأن يعتقد العالم أنه إن فضّل على كثير؛ فقد فضّل عليه مثلهم، وما أحسن قول عمر-رضي الله عنه:
(كلّ الناس أفقه من عمر). انتهى. نسفي بتصرف كبير. وخذ قوله تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ،} وقصة موسى مع الخضر دليل واضح لما ذكرت. هذا؛ وانظر ما ذكرته من عمر داود، وسليمان-على نبينا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام-في الآية رقم [78] وما بعدها من سورة (الأنبياء) وأيضا الآية رقم [55] من سورة (الإسراء).
هذا؛ والحمد في اللغة: الثناء بالكلام على الجميل الاختياري على جهة التبجيل، والتعظيم، سواء أكان في مقابلة نعمة أم لا؛ فالأول كمن يحسن إليك، والثاني كمن يجيد صلاته، وهو في اصطلاح علماء التوحيد: فعل ينبئ عن تعظيم المنعم من حيث كونه منعما على الحامد أو غيره، سواء أكان ذلك قولا باللسان، أو اعتقادا بالجنان، أو عملا بالأركان التي هي الأعضاء؟ كما قال القائل:[الطويل]
أفادتكم النّعماء منّي ثلاثة
…
يدي ولساني والضّمير المحجّبا
ومما هو جدير بالذكر: أن معنى الشكر في اللغة هو معنى الحمد في الاصطلاح، وأما معنى الشكر في الاصطلاح فهو: صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله. هذا؛ وقد حثنا الرسول صلى الله عليه وسلم على حمد الله باللسان، ورغبنا فيه، وذكر لنا أحاديث ترغبنا فيه، وصيغا مفصّلة على غيرها؛ لما فيها من المعاني القوية، وخذ نبذة من ذلك فيما يلي:
فعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّثهم: «أنّ عبدا من عباد الله قال: يا ربّ لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك، ولعظيم سلطانك، فعضّلت بالملكين، فلم يدريا كيف يكتبانها؟! فصعدا إلى السّماء، فقالا: يا ربّنا إنّ عبدك قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها؟ قال الله، وهو أعلم بما قال عبده: ماذا قال عبدي؟ قالا: يا ربّ إنّه قد قال: يا ربّ لك
الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، فقال الله لهما: اكتباها كما قال عبدي حتّى يلقاني، فأجزيه بها». رواه أحمد وابن ماجه.
وعن أبي أيوب-رضي الله عنه-قال: قال رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله حمدا كثيرا طيّبا مباركا فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من صاحب الكلمة؟» . فسكت الرجل، ورأى أنه قد هجم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء يكرهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من هو؟ فإنه لم يقل إلا صوابا» . فقال الرّجل: أنا قلتها يا رسول الله أرجو بها الخير! فقال: «والذي نفسي بيده! لقد رأيت ثلاثة عشر ملكا يبتدرون كلمتك، أيّهم يرفعها إلى الله تبارك وتعالى» . رواه الطبراني، والبيهقي. وانظر ما ذكرته في الشكر في الآية رقم [13] من سورة (سبأ).
الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. اللام: واقعة في جواب القسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {آتَيْنا:} فعل، وفاعل. {داوُدَ:} مفعول به أول. {وَسُلَيْمانَ:}
معطوف على ما قبله بالواو العاطفة، {عِلْماً:} مفعول به ثان، وجملة: (لقد آتينا
…
) إلخ جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. وانظر سورة (السجدة) رقم [23] أو الآية رقم [37] من سورة (طه) إن أردت الزيادة. {وَقالا:} الواو: حرف عطف. (قالا): فعل ماض مبني على الفتح، وألف الاثنين ضمير متصل في محل رفع فاعل، {الْحَمْدُ:} مبتدأ. {لِلّهِ:}
جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر المبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة لفظ الجلالة، أو هو بدل منه. {فَضَّلَنا:} فعل ماض، و (نا): مفعول به، والفاعل يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {عَلى كَثِيرٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ عِبادِهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة {كَثِيرٍ،} والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {الْمُؤْمِنِينَ:} صفة {عِبادِهِ} مجرور مثله، وعلامة جره الياء
…
إلخ، والجملة الاسمية:{الْحَمْدُ لِلّهِ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة (قالا
…
) إلخ معطوفة على المحذوف الذي رأيت تقديره في الشرح، والذي هو معطوف على جملة جواب القسم. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ:} قال الكلبي: كان لداود-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-تسعة عشر ولدا، فورث سليمان من بينهم نبوته وملكه، ولو كان وراثة مال، لكان جميع أولاده فيه سواء، فخص الله سليمان بما كان لداود من الحكمة، والنبوة، وزاده من فضله
ملكا لا ينبغي لأحد من بعده. وقال ابن عطية: ورث سليمان من داود ملكه، ومنزلته من النبوة، بمعنى: صار ذلك إليه بعد موت أبيه، فسمي ميراثا تجوزا، وهذا نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم:«العلماء ورثة الأنبياء» . ويحتمل قوله-عليه الصلاة والسلام: «إنّا معشر الأنبياء لا نورث» . أنّه يريد:
أن ذلك من فعل الأنبياء، وسيرتهم.
وقال مقاتل: كان سليمان أعظم ملكا من داود وأقضى منه، وكان داود أشد تعبدا من سليمان. وقال غيره: لم يبلغ أحد من الأنبياء ما بلغ ملكه، فإن الله سبحانه وتعالى سخر له الإنس، والجن، والطير، والوحش، وآتاه ما لم يؤت أحدا من العالمين، وورث أباه في الملك والنبوة، وقام بعده بشريعته، وكل نبي جاء بعد موسى ممن بعث، أو لم يبعث، فإنما كان بشريعة موسى إلى أن بعث عيسى عليه السلام، فنسخها. وقيل: إن بين موته وبين مولد النبي صلى الله عليه وسلم، نحوا من ألف وسبعمئة سنة، وعاش نيفا وخمسين سنة.
{وَقالَ يا أَيُّهَا النّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ:} سمى صوت الطير منطقا لحصول الفهم منه، والمنطق كل ما يصوت به من المفرد، والمؤلف المفيد، وغير المفيد. وقول سليمان هذا إنما هو تشهير لنعمة الله تعالى، واعتراف بمكانها، ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير، وكان سليمان عليه السلام يفهم منها، كما يفهم بعضها من بعض.
هذا؛ وروي عن كعب الأحبار قال: صاح ورشان عند سليمان، فقال: أتدرون ما يقول هذا؟ قالوا: لا، قال: إنه يقول: لدوا للموت وابنوا للخراب. وصاحت فاخته، فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا. قال: إنها تقول: ليت الخلق لم يخلقوا، وليتهم إذا خلقوا علموا لماذا خلقوا، وصاح طاووس، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: إنه يقول: كما تدين تدان.
وصاح هدهد، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: إنه يقول: من لا يرحم لا يرحم.
وصاح صرد، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: إنه يقول: استغفروا ربكم يا مذنبين.
وصاحت طيطوى، فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا. قال: إنها تقول: كل حي ميت، وكل جديد بال، وصاح خطاف، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: إنه يقول: قدموا خيرا تجدوه، وهدرت حمامة، فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا. قال: إنها تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه. وصاح قمريّ، فقال: أتدرون ما يقول: قالوا: لا، قال: إنه يقول:
سبحان ربي العظيم. ثم قال: والغراب يدعو على العشار، والحدأة تقول: كل شيء هالك إلا وجهه. والقطاة تقول: من سكت سلم. والببغاء تقول: ويل لمن كانت الدنيا همه، والسرطان يقول: سبحان ربي القدوس. والبازي يقول: سبحان ربي وبحمده. والضفدعة تقول:
سبحان المذكور بكل لسان. والدّرّاج يقول: الرحمن على العرش استوى.
وقال فرقد السّبخيّ: مر سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه، ويميل ذنبه، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا: لا يا نبي الله! قال: إنه يقول: أكلت نصف ثمرة،
فعلى الدنيا العفاء. ومر بهدهد فوق شجرة، وقد نصب له صبي فخّا، فقال له سليمان: احذر يا هدهد! فقال: يا نبي الله، هذا صبي لا يعقل، فأنا أسخر به. ثم رجع سليمان، فوجده قد وقع في حبالة الصبي، وهو في يده، فقال: يا هدهد ما هذا؟ قال: ما رأيتها حتى وقعت فيها يا نبي الله! قال: ويحك، فأنت ترى الماء تحت الأرض، أما ترى الفخ، قال: يا نبي الله! إذا نزل القضاء عمي البصر. انتهى. خازن. وقريب منه في الكشاف، والقرطبي.
وقال الحسن قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدّيك إذا صاح؛ قال: اذكروا الله يا غافلين» . وقال الحسن بن علي-رضي الله عنهما-قال النبي صلى الله عليه وسلم: «النسر إذا صاح قال: يا بن آدم عش ما شئت، فآخرك الموت. وإذا صاح العقاب؛ قال: في البعد من الناس الراحة. وإذا صاح القنبر، قال: إلهي العن مبغضي آل محمد. وإذا صاح الخطاف قرأ: {الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} فيقول: {وَلا الضّالِّينَ} ويمد بها صوته، كما يمد القارئ» . انتهى. قرطبي.
وفيه أيضا: وصاحت خطافة عند سليمان-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام- فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا، قال: إنها تقول: قدموا خيرا تجدوه، فمن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها. وقيل: إن آدم خرج من الجنة، فاشتكى إلى الله الوحشة، فآنسه الله تعالى بالخطّاف وألزمها البيوت، فهي لا تفارق بني آدم أنسا لهم. انتهى.
{إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ:} هذا قول وارد على سبيل الشكر، والمحمدة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أنا سيّد ولد آدم ولا فخر» . أي أقول هذا القول شكرا، ولا أقوله فخرا. انتهى.
كشاف.
هذا؛ والطير: اسم جمع مثل: غنم، وخيل. وقيل: بل هو جمع: طائر، مثل: صحب، وصاحب، ويصح إطلاقه على المفرد، والمثنى، والجمع، وجمع الطير: طيور، وأطيار، مثل:
فرخ، وفروخ، وأفراخ. وقال قطرب وأبو عبيدة: الطير قد يقع أيضا على الواحد، كما في قوله تعالى:{فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ} وطائر الإنسان: عمله، الذي قلّده، قال تعالى:{وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} . والطير أيضا: الاسم من التطير، ومنه قولهم:(لا طير إلاّ طير الله) كما يقال: (لا أمر إلاّ أمر الله). انتهى. مختار.
الإعراب: {وَوَرِثَ:} الواو: حرف عطف، (ورث): فعل ماض. {سُلَيْمانُ:} فاعل.
{داوُدَ:} مفعول به، والجملة الفعلية:{وَوَرِثَ..} . إلخ معطوفة على جملة: {آتَيْنا..} . إلخ لا محل لها مثلها. {وَقالَ:} الواو: حرف عطف. (قال): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {سُلَيْمانُ،} تقديره: «هو» . (يا): حرف نداء ينوب مناب: أدعو، أو أنادي. (أيها): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب ب (يا)، و (ها): حرف تنبيه لا محل له، وأقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه. {النّاسُ:} بعضهم يعرب هذا؛ وأمثاله نعتا، وبعضهم يعربه بدلا، والقول الفصل:
أنّ الاسم الواقع بعد «أي» واسم الإشارة، إن كان مشتقا؛ فهو نعت، وإن كان جامدا كما هنا فهو بدل، أو عطف بيان، والمتبوع، أعني:(أيّ) منصوب محلا، فكذا التابع، أعني:{النّاسُ،} وأمثاله، فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الإتباع اللفظية
…
إلخ. {عُلِّمْنا:} فعل ماض مبني للمجهول، مبني على السكون، و (نا): نائب فاعله، وهو المفعول الأول، {مَنْطِقَ:} مفعول به ثان، وهو مضاف، و {الطَّيْرِ:} مضاف إليه.
{وَأُوتِينا:} الواو: حرف عطف. (أوتينا): فعل ماض مبني للمجهول، مبني على السكون، و (نا):
نائب فاعله. {مِنْ كُلِّ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، و {كُلِّ} مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه. {سُلَيْمانُ:} حرف مشبه بالفعل. {هذا:} الهاء: حرف تنبيه لا محل له. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب اسم: {سُلَيْمانُ} . {لَهُوَ:} اللام:
هي المزحلقة، (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، {الْفَضْلُ:} خبره، {الْمُبِينُ:} صفة له، والجملة الاسمية:{لَهُوَ..} . إلخ في محل رفع خبر {سُلَيْمانُ} . هذا؛ وإن اعتبرت الضمير فصلا؛ فالخبر: {الْفَضْلُ،} وأخيرا فالكلام {يا أَيُّهَا..} . إلخ، كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا.
{وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)}
الشرح: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ:} الحشر: الجمع، ومنه قوله تعالى:{وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} وهذا كثير في القرآن بلفظ الماضي، والمضارع، والأمر، مثل قوله تعالى:{اُحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللهِ} .
{فَهُمْ يُوزَعُونَ:} معناه: يردّ أولهم إلى آخرهم، ويكفّون. وانظر الآية رقم [83] الآتية، قال قتادة: كان لكل صنف وزعة في رتبتهم، ومواضعهم من الكرسي، ومن الأرض إذا مشوا فيها، والوازع في الحرب: الموكل بالصفوف يزع من تقدم منهم. والوازع: الرادع، والزاجر. قال الشاعر:[الطويل]
ولا يزع النّفس اللجوج عن الهوى
…
من النّاس إلاّ وافر العقل كامله
ومن هذا قول النابغة الذبياني: [الطويل]
على حين عاتبت المشيب على الصّبا
…
وقلت ألمّا أصح والشّيب وازع؟!
وقال الحسن البصري: لا بد للناس من وازع، أي: من سلطان يكفّهم. وذكر ابن القاسم قال حدثنا مالك: أن عثمان بن عفان-رضي الله عنه-قال: ما يزع الإمام أكثر ممّا يزع القرآن. والمحفوظ: إن الله يزع بالسّلطان ما لا يزع بالقرآن، وشرح الجملتين واضح إن
شاء الله تعالى. هذا؛ وأوزعه، يوزعه: أغراه يغريه. قال النابغة الذبياني في وصف ثور وحشي، وذلك من معلقته البيت رقم [14]:[البسيط]
فهاب ضمران منه حيث يوزعه
…
طعن المعارك عند المجحر النّجد
قال محمد بن كعب القرظي-رضي الله عنه: كان معسكر سليمان-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-مئة فرسخ، خمسة وعشرون منها للإنس، وخمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للوحش، وخمسة وعشرون للطير، والفرسخ اثنا عشر ألف خطوة، فالبريد ثمانية وأربعون ألف خطوة، وكان يوضع كرسيه في وسطه، فيقعد؛ وحوله كراسي الذهب، والفضة، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة، والناس حوله، والجن، والشياطين حول الناس، والوحوش حولهم، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمئة منكوحة، يعني: حرة، وسبعمئة سرّيّة، فيأمر الريح العاصف، فيرفع البساط، ثم يأمر الرخاء، فتسير به، والأول مذكور في الآية رقم [81] من سورة (الأنبياء):
{وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ..} . إلخ، والثاني مذكور في الآية رقم [36] من سورة ص:{فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ} . وأوحى الله إليه، وهو يسير بين السماء والأرض أني قد زدت في ملكك: أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت الريح، وأخبرتك به.
فيحكى: أنه مرّ بحرّاث، فقال: لقد أوتي آل داود ملكا عظيما، فألقته الريح في أذنه، فنزل، ومشى إلى الحراث، وقال: إنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه. ثم قال له:
لتسبيحة واحدة يقبلها الله خير مما أوتي آل داود. انتهى. من الخازن، والقرطبي، والكشاف بتصرف. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [81] و [82] من سورة (الأنبياء) إن أردت الزيادة، وقد أنكر عبد الوهاب النجار ما ذكره المفسرون من سعة البساط المذكور، وقصر ملك داود، وسليمان على البلاد الشامية، وهذا لم يقله أحد غيره فيما أعلم. وإذا عرفنا: أن سليمان كان أحد أربعة ملكوا الدنيا، وهم إسكندر ذو القرنين، والنمرود، وشداد بن عاد، وقرأنا ما ذكره الله حكاية من قوله:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي؛} لا يبقى لما قاله وجه.
الإعراب: {وَحُشِرَ:} الواو: حرف عطف. (حشر): فعل ماض مبني للمجهول.
{لِسُلَيْمانَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون. {جُنُودُهُ:} نائب فاعل: (حشر)، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها من جمل، لا محل لها أيضا، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {مِنَ الْجِنِّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من {جُنُودُهُ} . {وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ:}
معطوفان على {الْجِنِّ} . {فَهُمْ:} الفاء: حرف عطف، وتعقيب. وقيل: الفاء الفصيحة، ولا وجه له قطعا. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُوزَعُونَ:} فعل
مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.
الشرح: {حَتّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ} أي: أشرفوا، وأقبلوا على الوادي الذي فيه النمل.
روي عن كعب الأحبار: أنه قال: كان سليمان إذا ركب؛ حمل أهله، وخدمه، وحشمه، وقد اتخذ مطابخ، ومخابز، فيها تنانير الحديد، والقدور العظام، تسع كل قدر عشرة من الإبل، فيطبخ الطباخون، ويخبز الخبازون، وهو بين السماء والأرض، واتخذ ميادين للدواب، فتجري بين يديه، والريح تهوي به، فسار من إصطخر يريد اليمن، فسلك على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال سليمان: هذه دار هجرة نبي يكون في آخر الزمان، فطوبى لمن آمن به، وطوبى لمن اتبعه! ولما وصل مكة رأى حول البيت أصناما تعبد، فجاوزه سليمان، فلما جاوزه بكى، فأوحى الله إليه ما يبكيك؟ قال: يا رب! هذا نبي من أنبيائك، ومعه قوم من أوليائك مروا علي، ولم يهبطوا، ولم يصلوا عندي، والأصنام تعبد حولي من دونك، فأوحى الله إليه: لا تبك، فإني سوف أملؤك وجوها سجدا، وأنزل فيك قرآنا جديدا، وأبعث منك في آخر الزمان أحب أنبيائي إليّ، وأجعل فيك عمارا من خلقي يعبدونني، وأفرض عليهم فريضة يزفون إليك زفيف النسر إلى وكرها، ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها، والحمامة إلى بيضها، وأطهرك من الأوثان، والأصنام، والشيطان. ثم مضى سليمان حتى مر بوادي السدير واد من الطائف، فأتى على واد النمل، كذا قال كعب الأحبار. وقيل: إنه بالشام. انتهى. خازن. ونقله عنه الجمل بحروفه.
هذا؛ ويرد على هذا المقال أمران: الأول: أن سليمان نبي مرسل، والنبي المرسل مأمور بإزالة المنكر أينما وجد، وهل يوجد منكر أعظم من الشرك، وعبادة الأوثان، فكيف جاوز البيت بعد أن رأى الأصنام حوله، وبإمكانه إزالة المنكر؛ لأن الله أعطاه من القوة ما ذكره الله في الآية السابقة وشرحته لك كما رأيت، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [21].
الأمر الثاني: لا أعتقد تاريخيا: أن الأصنام أدخلت البيت الحرام، ووضعت حول الكعبة في الحقبة التي كان فيها سليمان حيا في الدنيا؛ لأن الأصنام، إنما أدخلها المسجد الحرام عمرو بن لحي الخزاعي، وهذا كان في الفترة التي كانت بين عيسى، ومحمد صلّى الله عليهم أجمعين على ما يبدو تاريخيا، فعهد سليمان-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-يقارن عهد قبيلة جرهم، التي كانت تحكم مكة قبل قبيلة خزاعة التي منها عمرو المجرم الأثيم، والله أعلم. هذا؛ وقد ذكر المرحوم عبد الوهاب النجار: أن سليمان كان قبل المسيح بألف سنة.
هذا؛ وقد اختلف في حجم النمل، فقال الكلبي: كانت نملة صغيرة مثل النمل المعتاد. وقيل:
كان نمل ذلك الوادي كهيئة الذئاب في العظام. وقال بريدة الأسلمي: كهيئة النعاج. وقولها: {لا يَحْطِمَنَّكُمْ} يدل على صحة قول الكلبي؛ إذ لو كانت كهيئة الذئاب، والنعاج لما حطمت بالوطء.
وعن قتادة: أنه دخل الكوفة، فالتفت إليه الناس، فقال: سلوا عما شئتم، وكان أبو حنيفة رحمه الله حاضرا، وهو غلام حدث، فقال: سلوه عن نملة سليمان، أكانت ذكرا أم أنثى؟ فسألوه، فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى، فقيل له: من أين عرفت؟ قال: من كتاب الله، وهو قوله:
{قالَتْ نَمْلَةٌ} ولو كانت ذكرا لقال: قال نملة، وذلك: أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر، والأنثى، فيميز بينهما بعلامة، نحو: حمامة ذكر، وحمامة أنثى، وهو وهي.
هذا؛ وسميت النملة نملة؛ لتنملها، وهو كثرة حركتها، وقلة قرارها. والنمل: حيوان معروف، شديد الإحساس، والشم، حتى إنه ليشم الشيء من بعيد، ويدخر قوته. ومن شدة إدراكه أنه يفلق الحبة حبتين خوفا من الإنبات، ويفلق حبة الكزبرة أربع فلق؛ لأنها إذا فلقت فلقتين؛ تنبت، ويأكل في عامه نصف ما جمع، ويستبقي باقيه عدة. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: (الهدهد، والصرد، والنملة، والنحلة).
أخرجه أبو داود. وهذا إذا لم يكن منهن أحد مؤذيا، وإلا فقتل المؤذي حلال.
فقد روى مسلم من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أن نملة قرصت نبيا من الأنبياء، فأمر بقرية النمل، فأحرقت، فأوحى الله تعالى إليه: أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبّح؟!» وفي طريق آخر: «فهلا نملة واحدة» . قال العلماء: يقال إن هذا النبي هو موسى على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وإنه قال: يا رب تعذب أهل قرية بمعاصيهم، وفيهم الطائع، فكأنه أحب أن يريه ذلك من عنده، فسلط عليه الحر حتى التجأ إلى شجرة مستروحا إلى ظلها، وعندها قرية النمل، فغلبه النوم، فلما وجد لذة النوم؛ لدغته النملة، فأضجرته، فدلكهنّ بقدمه، فأهلكهنّ، وأحرق تلك الشجرة التي عندها مساكنهم، فأراه الله العبرة في ذلك لما لدغته نملة، فقال:
فكيف أصبت الباقين بعقوبتها، يريد أن ينبهه: أن العقوبة من الله تعالى تعمّ، فتصير رحمة على المطيع، وطهارة، وبركة، وشرا، ونقمة على العاصي، وعلى هذا فإن من آذاك حل لك دفعه عن نفسك، ولا أحد من خلق الله أعظم حرمة من المؤمن، وقد أبيح لك دفعه عنك بقتل، وضرب على المقدار، فكيف بالهوام والدواب التي قد سخرت لك، وسلطت عليها. انتهى. قرطبي.
{قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ:} لما جعلها الله قائلة، والنمل مقولا لهم، كما يكون في العقلاء؛ أجرى خطاب النمل خطاب العقلاء، وذلك بالواو التي هي علامة جمع المذكر السالم. {لا يَحْطِمَنَّكُمْ:} فإن قيل: كيف يتصور الحطم-وهو التكسير-من سليمان، وجنوده، وهو فوق البساط على متن الريح، فالجواب: كأنهم أرادوا النزول عند منقطع الوادي،
فلذلك قالت: {لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ؛} لأنهم ما دامت الريح تحملهم، لا يخشى حطمهم. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه. هذا؛ وفي الآية قراآت كثيرة، ولم يتغير المعنى، ولا الإعراب. هذا؛ وفي قولها:{وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ:} احتراس لا يخفى، وقد أنشدوا ملغزين في نملة سليمان، وبقرة بني إسرائيل:[الطويل]
فما ميّت أحيا به الله ميّتا
…
ليخبر قوما أنذروا ببيان
وعجفاء قد قامت لتنذر قومها
…
وأهل قراها رهبة الحدثان
الإعراب: {حَتّى:} حرف ابتداء، ويعتبرها الأخفش في مثل ذلك حرف جر، وقد رده ابن هشام في المغني، وعلى الوجهين فهي غاية لمحذوف، التقدير: فسار سليمان، وجنوده؛ حتى إذا أتوا
…
إلخ. {إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {أَتَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، التي هي فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على المشهور المرجوح. {عَلى وادِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الياء للثقل، و {وادِ} مضاف، و {النَّمْلِ} مضاف إليه. {قالَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث. {نَمْلَةٌ:} فاعله. {يا أَيُّهَا النَّمْلُ:} مثل قوله {يا أَيُّهَا النّاسُ} . {اُدْخُلُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق.
{مَساكِنَكُمْ:} مفعول به، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {لا:} ناهية، أو نافية.
{يَحْطِمَنَّكُمْ:} فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم ب {لا} الناهية، ونون التوكيد حرف لا محل له، والكاف مفعول به. {سُلَيْمانُ:} فاعله، وفي محل الجملة الفعلية وجهان: أحدهما أنها مستأنفة، والثاني: أنها بدل من جملة: {اُدْخُلُوا..} . إلخ. هذا؛ وعلى اعتبار {لا} نافية، فالفعل {يَحْطِمَنَّكُمْ} مبني على الفتح في محل جزم جواب الأمر قبله.
قال الزمخشري: والذي جوز أن يكون بدلا منه: أنه في معنى: لا تكونوا حيث أنتم (فيحطمنكم)، على طريقة: لا أرينك هاهنا هذا؛ وقال ابن هشام: أكد المضارع بالنون بعد {لا} النافية، حملا لها في اللفظ على {لا} الناهية في نحو قوله تعالى:{وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً} . {وَجُنُودُهُ:} معطوف على {سُلَيْمانُ،} والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة.
{وَهُمْ:} الواو: واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.
{لا:} نافية. {يَشْعُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:(هم لا يشعرون) في محل نصب حال من {سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ} والرابط: الواو، والضمير، والكلام:{يا أَيُّهَا النَّمْلُ..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَتْ..} . إلخ جواب {إِذا} لا محل لها من الإعراب، والكلام المقدر، والمذكور:
فسار سليمان وجنوده؛ حتى إذا أتوا
…
إلخ كلام مستأنف، لا محل له.
الشرح: {فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها} أي: تعجبا من حذرها، وتحذيرها، واهتدائها إلى مصالحها، أو سرورا بما خصه الله به من إدراك همسها، وفهم غرضها. هذا؛ وقوله تعالى {فَتَبَسَّمَ} يشير إلى أنه لم يقهقه في ضحكه، وكذلك جل ضحك الأنبياء التبسم، وما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه، فالغرض منه المبالغة في وصف ما وجد منه من الضحك النبوي، لا القهقهة، وكذلك ورد النهي عن كثرة الضحك، وقد كره العلماء منه الكثرة، كما قال لقمان لا بنه:(يا بني! إياك وكثرة الضحك؛ فإنه يميت القلب)،
فعن عائشة-رضي الله عنها-قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعا قطّ ضحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يبتسم). متفق عليه، وعن عبد الله بن الحارث بن جزء، قال:(ما رأيت أحدا أكثر تبسّما من رسول الله). أخرجه الترمذي.
وقيل: إن سبب ضحك سليمان-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-شيئان:
أحدهما: ما دل من قولها على ظهور رحمته، ورحمة جنوده، وشفقتهم، وذلك من قولها:{وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} . الثاني: سروره بما آتاه الله مما لم يؤت أحدا من إدراك فهم ما تقوله النملة، وغيرها؛ والإنسان إذا رأى، أو سمع ما لا عهد له به ضحك.
{وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} أي: ألهمني، وأصله من: وزع، فكأنه قال: كفّني عما يسخط، ووفقني لما يرضي. {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ:} ما أنعم الله به عليه وعلى والديه فقد سطره القرآن الكريم من تسبيح الجبال مع داود، وإلانة الحديد له، وإتيانه الملك، وتسخير الجن، والإنس، والطير لسليمان، وإتيانه ما لم يؤته الله أحدا من العالمين قبله، وبعده إلى يوم الدين. وقد أدرج في كلامه ذكر والديه تكثيرا للنعمة، أو تعميما لها، فإن النعمة عليهما نعمة عليه، والنعمة عليه يرجع نفعها إليهما سيما الدينية، فإنه إن كان تقيا نفعهما بدعائه، وشفاعته، وبدعاء المؤمنين كلما دعوا له، وقالوا: رضي الله عنك، وعن والديك. وهذا سمعته بإذني، ووقر في قلبي، والحمد لله رب العالمين، ولذلك دعا العبد الصالح في الآية رقم [15] من سورة (الأحقاف) بمثل ما دعا سليمان هنا، وزاد قوله:{وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} وهذا بخلاف الفاسق، والمؤذي لعباد الله الذي يسبب المسبة، والمذمة لنفسه، ولوالديه، وما أكثرهم في هذا الزمن!
{وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصّالِحِينَ} أي: مع عبادك ف: {فِي} بمعنى: مع، وقيل: المعنى في جملة: {عِبادِكَ الصّالِحِينَ} . قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يريد مع إبراهيم،
وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ومن بعدهم من النبيين، فإن قيل: درجات الأنبياء أفضل من درجات الصالحين، فما السبب في أن الأنبياء يطلبون جعلهم من الصالحين، وقد تمنى إبراهيم ذلك بقوله:{رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ} رقم [83] من سورة (الشعراء)، وقد تمنى يوسف عليه السلام ذلك بقوله:{فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ} أجيب بأن الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله، ولا يفعل معصية، ولا يهم بها، وهذه درجة عالية. انتهى. جمل، نقلا عن الخطيب.
فائدة: بعد أن تبسم سليمان-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-من كلام النملة المتقدم مضت النملة مسرعة إلى قومها، فقالت: هل عندكم من شيء نهديه إلى سليمان نبي الله؟ قالوا: وما قدر ما نهدي له؟ والله ما عندنا إلا نبقة واحدة، قالت: حسنة، ائتوني بها، فأتوها بها، فحملتها بفيها، فانطلقت تجرها، فأمر الله الريح فحملتها، وأقبلت تشق الإنس، والجن، والعلماء على البساط، حتى وقعت بين يديه، ثم وضعت تلك النّبقة من فيها في كفه، وأنشأت تقول:[الطويل]
ألم ترنا نهدي إلى الله ما له
…
وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله
ولو كان يهدى للجليل بقدره
…
لقصّر عنه البحر يوما وساحله
ولكنّنا نهدي إلى من نحبّه
…
فيرضى به عنّا ويشكر فاعله
وما ذاك إلاّ من كريم فعاله
…
وإلاّ فما في ملكنا ما يشاكله
فقال لها: بارك الله فيكم، فهم بتلك الدعوة أشكر خلق الله، وأكثر خلق الله. انتهى. قرطبي ومثله ما قيل في هذا المعنى:[البسيط]
جاءت سليمان يوم العرض هدهدة
…
تحمل جرادة كانت في فيها
وتكلّمت بلسان الحال قائلة
…
إنّ الهدايا على قدر مهديها
لو كان يهدى للإنسان قيمته
…
لأهديت لك الدّنيا وما فيها
الإعراب: {فَتَبَسَّمَ:} الفاء: حرف استئناف. (تبسم): فعل ماض، وفاعله تقديره:«هو» يعود إلى {سُلَيْمانُ} . {ضاحِكاً:} حال مؤكدة، وقرئ:«(ضحكا)» على أنه مفعول مطلق، والعامل فيه (تبسم)؛ لأنه بمعنى: ضحك. {مِنْ قَوْلِها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، وجملة:{فَتَبَسَّمَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها مفرعة على محذوف، التقدير: فسمع قولها المذكور فتبسّم. {وَقالَ:} الواو:
حرف عطف. (قال): فعل ماض، وفاعله يعود إلى {سُلَيْمانُ} أيضا. {رَبِّ:} منادى حذف منه
أداة النداء، وانظر الآية رقم [169] من سورة (الشعراء). {أَوْزِعْنِي:} فعل دعاء، وفاعله ضمير مستتر، تقديره:«أنت» ، والنون للوقاية، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب مفعول به أول. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {أَشْكُرَ:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ،} والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره: «أنا» . {نِعْمَتَكَ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة.
{الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة {نِعْمَتَكَ} . {أَنْعَمْتَ:} فعل، وفاعل، والجملة صلة {الَّتِي} والعائد محذوف؛ إذ التقدير: التي أنعمتها. {عَلَيَّ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. (على والدي): جار ومجرور معطوفان على ما قبلهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، وياء المتكلم ضمير متصل في محل جر بالإضافة.
و {أَنْ أَشْكُرَ:} في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به ثان، أو في محل نصب بنزع الخافض، والكلام:{رَبِّ أَوْزِعْنِي..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالَ..} .
إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، والمصدر المؤول من:(أن أعمل صالحا) معطوف على سابقه، فهو مثله في محل نصب مفعول به. {تَرْضاهُ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب صفة ثانية للموصوف المحذوف، والصفة الأولى:{صالِحاً} . (أدخلني): إعراب هذه الجملة مثل إعراب جملة: {أَوْزِعْنِي،} وهي معطوفة عليها. {بِرَحْمَتِكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {فِي عِبادِكَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {الصّالِحِينَ:} صفة: {عِبادِكَ} مجرور مثله، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20)}
الشرح: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ:} التفقد: تطلّب ما غاب عنك من شيء. {ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ:} استفهام استخبار، ولا حاجة إلى ادّعاء القلب، كما قاله بعضهم: إن الأصل ما للهدهد لا أراه. إذ المعنى صحيح بدون ادعاء القلب. هذا؛ والهدهد بضم الهاء الثانية وكسرها طائر ذو خطوط وألوان كثيرة، الواحدة هدهدة بضم الهاء الثانية وكسرها أيضا، والجمع: هداهد، وهداهيد. {أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ:} أم منقطعة، فهي بمعنى «بل» ، كأنه لما لم يره؛ ظن: أنه حاضر، ولا يراه لساتر أو غيره، {فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ:} ثم احتاط، فلاح له أنه غائب، فأضرب عن ذلك، وأخذ يقول: بل هو غائب، كأنه يسأل عن صحة ما لاح له.
تنبيه: لقد اختلف الناس في معنى تفقده للطير على أقوال كثيرة، وأكتفي بما يلي نقلا عن القرطبي. فقد قال عبد الله بن سلام-رضي الله عنه: إنما طلب الهدهد؛ لأنه احتاج إلى معرفة الماء على كم هو من وجه الأرض؛ لأنه كان نزل في مفازة عدم فيها الماء، وأن الهدهد كان يرى باطن الأرض وظاهرها، فكان يخبر سليمان بموضع الماء، ثم كانت الجن تخرجه في ساعة يسيرة، تسلخ عنه وجه الأرض كما تسلخ الشاة، قاله ابن عباس فيما روى عن ابن سلام، وذكر:
أن سليمان لم يصحب معه سوى هذا الهدهد في سفره، ولذا فقده، مع كون الهداهد كثيرة.
قال أبو مجلز، قال ابن عباس لعبد الله بن سلام-رضي الله عنهم أجمعين-: أريد أن أسألك عن ثلاث مسائل قال: أتسألني، وأنت تقرأ القرآن؟ قال: نعم (ثلاث مرات) قال: لم تفقد سليمان الهدهد دون سائر الطير؟ قال: احتاج إلى الماء، ولم يعرف عمقه، وكان الهدهد يعرف ذلك دون سائر الطير، فتفقده. وروي: أن نافع بن الأزرق الخارجي سمع ابن عباس يذكر شأن الهدهد، فقال له: قف يا وقّاف، كيف يرى الهدهد باطن الأرض، وهو لا يرى الفخ حين يقع فيه؟! فقال له ابن عباس-رضي الله عنهما: إذا جاء القدر عمي البصر. قال ابن العربي:
ولا يقدر على هذا الجواب إلا عالم القرآن، وأنشدوا في هذا المعنى:[الرجز]
إذا أراد الله أمرا بامرئ
…
وكان ذا عقل ورأي ونظر
وحيلة يعملها في دفع ما
…
يأتي به مكروه أسباب القدر
غطّى عليه سمعه وعقله
…
وسلّه من ذهنه سلّ الشّعر
حتّى إذا أنفذ فيه حكمه
…
ردّ عليه عقله ليعتبر
الإعراب: {وَتَفَقَّدَ:} الواو: حرف عطف. (تفقد): فعل ماض، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى (سليمان). {الطَّيْرَ:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة: (تبسم
…
) إلخ لا محل لها مثلها. {فَقالَ:} الفاء: حرف عطف، وتعقيب. (قال): فعل ماض، والفاعل يعود إلى (سليمان) أيضا، (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. (لي): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {لا:} نافية. {أَرَى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر وجوبا تقديره:«أنا» . {الْهُدْهُدَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال، من ياء المتكلم، والرابط: الضمير فقط، والعامل في الحال الاستفهام. {أَمْ:} حرف إضراب بمعنى «بل» كما رأيت. وتسمى منقطعة. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى الهدهد. {مِنَ الْغائِبِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كان، والكلام:{ما لِيَ..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة {فَقالَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21)}
الشرح: {لَأُعَذِّبَنَّهُ..} . إلخ: لقد اختلف في هذا التعذيب اختلافا كبيرا. فقيل: هو أن ينتف ريشه وذنبه، ويلقيه في الشمس ممعّطا، لا يمتنع من النمل، ولا من غيره. وقيل: هو أن يودعه السجن. وقيل: هو أن يحبسه مع ضده. وقيل: هو أن يفرق بينه وبين إلفه. وقيل: هو أن يلزمه خدمة أقرانه. وقيل: هو أن يبعده عن خدمته. وعن بعضهم: أضيق السجون معاشرة الأضداد. {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ} أي: بعذر واضح على تغيبه. وقرئ الفعل بنونين. قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: قد حلف على أحد ثلاثة أشياء، فحلفه على فعليه لا مقال فيه، ولكن كيف صح حلفه على فعل الهدهد؟ ومن أين درى: أنه يأتي بسلطان مبين حتى يقول: (والله ليأتيني بسلطان مبين)؟ قلت: لما نظم الثلاثة بأو في الحكم الذي هو الحلف آل كلامه إلى قولك: ليكونن أحد الأمور، يعني: إن كان الإتيان بسلطان؛ لم يكن تعذيب، ولا ذبح، وإن لم يكن كان أحدهما، وليس في هذا ادعاء دراية. انتهى.
وكان سبب غيبة الهدهد على ما ذكره العلماء: أن سليمان-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-لما فرغ من بناء بيت المقدس؛ عزم على الخروج إلى أرض الحرم؛ ليحج، فتجهّز للمسير، واستصحب جنوده من الجن والإنس، والطير، والوحش فحملتهم الريح، فلما وافى الحرم أقام فيه ما شاء الله أن يقيم، وكان ينحر في كل يوم طول مقامه خمسة آلاف ناقة، ويذبح خمسة آلاف ثور، وعشرين ألف شاة، وقال لمن حضره من أشراف قومه: إن هذا المكان يخرج منه نبي عربي، صفته كذا، وكذا، ويعطى النصر على جميع من عاداه، وتبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد عنده في الحق سواء، لا تأخذه في الله لومة لائم. فقالوا: بأي دين يدين يا نبي الله؟! قال: بدين الله الحنيفية، فطوبى لمن أدركه، وآمن به!
قالوا: كم بيننا وبين خروجه يا نبي الله؟! قال: مقدار ألف سنة، فليبلغ الشاهد الغائب، فإنه سيد الأنبياء، وخاتم الرسل. قال: فأقام بمكة حتى قضى نسكه، ثم خرج من مكة صباحا، وسار نحو اليمن، فوافى صنعاء وقت الزوال، وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضا حسناء، تزهو خضرتها، فأحب النزول بها ليصلي، ويتغدى، فلما نزل، قال الهدهد: قد اشتغل سليمان بالنزول، فارتفع نحو السماء، ينظر إلى طول الدنيا وعرضها، ففعل ذلك، فبينما هو ينظر يمينا وشمالا رأى بستانا لبلقيس، فنزل إليه، فإذا هو بهدهد آخر، فسأله من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود، قال: ومن سليمان؟ قال: ملك الإنس، والجن، والشياطين، والطير، والوحش، والرياح، فمن أنت؟ قال: أنا من هذه البلاد، قال: ومن يملكها؟ قال: امرأة يقال لها: بلقيس، وإن لصاحبك ملكا عظيما، ولكن ليس ملك بلقيس دونه. وبلقيس بكسر الباء على الأفصح، فإنها
تملك اليمن، وتحت يدها أربعمئة ملك، كل ملك على كورة، مع كل ملك أربعة آلاف مقاتل، ولها ثلاثمئة وزير، يدبرون ملكها، ولها اثنا عشر قائدا، مع كل قائد اثنا عشر ألف مقاتل، فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها، قال: أخاف أن يتفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج الماء، قال الهدهد اليماني: إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة. قال: فانطلق معه، ونظر إلى بلقيس وملكها. وأما سليمان عليه السلام، فإنه نزل على غير ماء، فسأل الجن، والإنس عن الماء، فلم يعلموا، فتفقد الهدهد، فلم يره، فدعا بعريف الطير، وهو النسر، فسأله عن الهدهد، فقال: أصلح الله الملك، ما أدري أين ذهب؟ وما أرسلته إلى مكان. فغضب سليمان، ولم يكن معه إلا هذا الهدهد، قال: لأعذبنه
…
إلخ، ثم دعا العقاب، وهو أشد الطير طيرانا، فقال:
علي بالهدهد الساعة، فارتفع العقاب في الهواء حتى نظر الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم، ثم التفت يمينا، وشمالا، فرأى الهدهد مقبلا من نحو اليمن، فانقض العقاب يريده، وعلم الهدهد: أن العقاب يقصده بسوء.
فقال: بحق الذي قواك، وأقدرك علي إلا ما رحمتني، ولم تتعرض لي بسوء! فتركه العقاب، وقال: ويحك! إن نبي الله قد حلف أن يعذبك، أو يذبحك. فسارا متوجهين نحو سليمان عليه السلام، فلما انتهيا إلى العسكر؛ تلقاه النسر، والطير، وقالا له: ويلك! أين غبت في يومك هذا؟ فلقد توعدك نبي الله. وأخبراه بما قال سليمان، فقال الهدهد:
أو ما استثنى نبي الله؟ فقالوا: بلى إنه قال: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ} . فقال: نجوت إذا، وكانت غيبته من الزوال، ولم يرجع إلا بعد العصر، فانطلق به العقاب حتى أتيا سليمان، وكان قاعدا على كرسيه، فقال العقاب: قد أتيتك به يا نبي الله! فلما قرب منه الهدهد، رفع رأسه، وأرخى ذنبه، وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعا لسليمان، فلما دنا منه أخذ برأسه، فمده إليه، وقال له: أين كنت؟ لأعذبنك عذابا شديدا! فقال: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل. فلما سمع سليمان ذلك منه ارتعد وعفا عنه، ثم سأله: ما الذي أبطأك عني؟ فقال الهدهد: أحطت بما لم تحط به
…
إلخ، انتهى. خازن، ونقله عنه الجمل بحروفه، وفي الكشاف قريب منه.
تنبيه: في هذا النص تعارض بينه وبين ما ذكرته في شرح الآية رقم [18] نقلا عن الخازن، والجمل من وجوه:
1 -
هناك ذكر: أن سليمان-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-مر على البيت الحرام، ورأى حول الكعبة أصناما تعبد من دون الله تعالى
…
إلخ، وهنا ذكر أنه أقام في المسجد الحرام أياما طوالا، فذبح ما ذبح، وأدى نسكه
…
إلخ، فكيف غفل الخازن ونقله عنه الجمل هنا، وهناك؟!
2 -
ذكر هنا: أن سليمان كان قد قصد اليمن حينما فقد الهدهد، فإذا كان قد قصد اليمن ما الذي رده عن قصده، وكيف أرسل سليمان الهدهد برسالة إلى بلقيس، وهو بصنعاء، وهل اليمن إلا صنعاء.
3 -
إن الآيات الآتية تنص على أن بلقيس بعد إلقاء الرسالة إليها، ومناقشتها مع رجال قومها أرسلت إلى سليمان هدية، فهل هذه الهدية أرسلت إليه، وهو بصنعاء، أو كان في بلاد الشام؟ ثم إن الآيات التالية تنص على أن الذي عنده علم من الكتاب أتى بعرش بلقيس، فهل أتى به إلى صنعاء، أو إلى بلاد الشام مقر ملك سليمان؟ المعتمد: أن الهدية أرسلت إليه؛ وهو في مقر ملكه، وكذا العرش أتاه به، وهو في مقر ملكه، وقد أنشأ الصرح الآتي ذكره في مقر ملكه، وانظر ما أنقله عن القرطبي في الآية التالية.
4 -
إن ما ذكر من ذبح آلاف النوق، وآلاف البقر، وآلاف الغنم في الحرم، فهل كان يحمل معه هذه الآلاف المؤلفة معه على بساط الريح، كل ذلك يحتاج إلى تأمل وتمحيص.
الإعراب: {لَأُعَذِّبَنَّهُ:} اللام: واقعة في جواب قسم مقدر، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. (أعذبنه): فعل مضارع مبني على الفتح لا تصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم المقدر، والقسم وجوابه في محل نصب مقول القول؛ لأنه من مقول سليمان. {عَذاباً:} مفعول مطلق. {شَدِيداً:}
صفة له. {أَوْ:} حرف عطف. {لَأَذْبَحَنَّهُ:} هذه الجملة معطوفة على ما قبلها، وإعرابها كإعرابها، وكذلك جملة:{لَيَأْتِيَنِّي،} معطوفة على ما قبلها، وسليمان عليه السلام لم يقسم ويحلف على فعل الهدهد، ولكن لما جاء في إثر قوله:{لَأُعَذِّبَنَّهُ} وهو مما جاز به القسم أجراه مجراه. {بِسُلْطانٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مُبِينٍ:} صفة (سلطان).
الشرح: {فَمَكَثَ:} يقرأ بفتح الكاف وضمها، والأول من الباب الأول كنصر، والثاني من الباب الخامس كقرب، وهو بمعنى: أقام ولبث. {غَيْرَ بَعِيدٍ:} غير زمن طويل ومديد، {فَقالَ} أي: الهدهد: {أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ} أي: علمت من الأمر ما لم تعلمه، وفي هذا رد على من قال: إن الأنبياء تعلم الغيب في كل الأوقات، وإنما يعلمون ما يطلعهم الله عليه في بعض الأوقات، والله قال لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم:{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ..} . إلخ الآية رقم [188] من سورة (الأعراف). وفيه رد ودليل على بطلان قول الرافضة: إن الإمام لا يخفى عليه شيء، ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه. انتهى. نسفي.
هذا؛ وفي مخاطبة الهدهد سليمان بهذا الكلام تنبيه له على أن في أضعف خلق الله تعالى من أحاط علما بما لم يحط به ليكون لطفا له في ترك الإعجاب، ولتتحاقر إليه نفسه، ويتصاغر لديه علمه، وقال القرطبي: فإن قلت: كيف خفي على سليمان مكانها؟ وكانت المسافة بينهما قريبة! وهي مسيرة ثلاث مراحل بين صنعاء ومأرب، فالجواب: أن الله عز وجل أخفى ذلك عنه لمصلحة رآها، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب. انتهى. وانظر ما ذكرته في الآية السابقة وأقول هنا: أرجع سليمان إلى مقر ملكه، وأخذ يراسلها وتراسله وهي في مقر ملكها، أم كان قريبا منها، كما ذكر القرطبي؟ فالله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
{وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} أي: بخبر يقين محقق، أعلم سليمان ما لم يكن يعلمه، ودفع عن نفسه ما توعده من العذاب أو الذبح. وقرأ الجمهور {سَبَإٍ} بالصرف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الهمزة، وترك الصرف، فالأول على أنه اسم رجل نسب إليه قوم، وعليه قول الشاعر:[البسيط]
الواردون، وتيم في ذرى سبأ
…
قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس
المعنى: الواردون هم وتيم في ذرى أرض سبأ مغلولين بأغلال من جلد الجواميس بحيث يعض أعناقهم، ومن لم يصرفه اعتبره اسما للقبيلة، أو للمدينة، وأنشد للنابغة الجعدي:[المنسرح]
من سبأ الحاضرين مارب إذ
…
يبنون من دون سيله العرما
فهو يمدح رجلا، ويقول: هو من قبيلة سبأ الحاضرين مدينة مأرب الذين بنوا السد، دون السيل، فالعرم هو السد، ومأرب اسم المدينة، وقيل: اسم قصر. هذا؛ وسبأ: اسم رجل، وهو سبأ بن يعرب بن قحطان أخي عدنان وقد جاء في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن سبأ، فقال:
«رجل له عشرة من البنين تيامن منهم ستة، وتشاءم أربعة» . ومعنى تيامن: سكن اليمن، ومعنى تشاءم: سكن الشام، فالذين تيامنوا هم: حمير، وكندة، والأزد، وأشعر، وقشعم، وبجيلة.
والذين تشاءموا هم: لخم وجذام، وعاملة وغسّان، وانظر الآية رقم [15] وما بعدها من سورة (سبأ) ففيها فضل زيادة.
الإعراب: {فَمَكَثَ:} الفاء: حرف عطف. (مكث): فعل ماض، وفاعله يعود إلى الهدهد.
{غَيْرَ:} صفة ظرف محذوف، أي: مكانا غير بعيد، أو وقتا غير بعيد، أو هو صفة مفعول مطلق محذوف، أي: مكثا غير بعيد، والجملة الفعلية معطوفة على جملة: (تفقد
…
) إلخ لا محل لها مثلها. {فَقالَ:} الفاء: حرف عطف. (قال): فعل ماض، والفاعل يعود إلى الهدهد أيضا.
{أَحَطْتُ:} فعل، وفاعل. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بالباء، {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {تُحِطْ:} فعل مضارع مجزوم ب {لَمْ،} والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره:
«أنت» . {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط هو الضمير المجرور محلا بالباء، وجملة:{أَحَطْتُ..} . إلخ، في محل نصب مقول القول، وجملة:{فَقالَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {وَجِئْتُكَ:}
الواو: حرف عطف. (جئتك): فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي مثلها في محل نصب مقول القول. {مِنْ سَبَإٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل:
متعلقان بمحذوف حال من (نبأ)؛ لأنه كان صفة له، وليس بقوي. {بِنَبَإٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {يَقِينٍ:} صفة (نبأ).
{إِنِّي وَجَدْتُ اِمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)}
الشرح: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ:} هي بلقيس بنت شراحيل، من نسل يعرب بن قحطان، وكان أبوها ملكا عظيما، قد ولد له أربعون ملكا هي آخرهم، وكان يملك أرض اليمن كلها، وكان يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منهم كفؤا لي، وأبى أن يتزوج منهم، فخطب إلى الجن، فزوجوه امرأة منهم، يقال لها: ريحانة بنت السكن، قيل في سبب وصوله إلى الجن حتى خطب منهم: أنه كان كثير الصيد، فربما اصطاد الجن، وهم في صورة الظباء، فإذا عرفهم خلّى عنهم، فظهر له ملك الجن، وشكره على ذلك، واتخذه صديقا، فخطب ابنته، فزوجه إياها، وقيل: إنه خرج متصيدا، فرأى حيتين تقتتلان بيضاء، وسوداء، وقد ظهرت السوداء على البيضاء، فقتل السوداء، وحمل البيضاء، وصب عليها الماء، فأفاقت، وأطلقها فلما رجع إلى داره، وجلس وحده منفردا، فإذا معه شاب جميل، فخاف منه، قال: لا تخف أنا الحية البيضاء التي أحييتني، والأسود الذي قتلته هو عبد لنا، تمرد علينا، وقتل عدة منا، وعرض عليه المال، فقال: لا حاجة لي به، ولكن إن كان لك بنت فزوجنيها، فزوجه ابنته، فولدت بلقيس.
وجاء في الحديث الشريف: أن أحد أبوي بلقيس، كان جنيا، فلما مات أبو بلقيس طمعت في الملك، وطلبت قومها أن يبايعوها، فأطاعها قوم، وأبى آخرون، وملكوا عليهم رجلا آخر، يقال:
إنه ابن أخي الملك، وكان خبيثا سيئ السيرة في أهل مملكته، حتى كان يمد يده إلى حريم رعيته، ويفجر بهن، فأراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه، فلما رأت بلقيس ذلك أدركتها الغيرة، فأرسلت إليه، فعرضت نفسها عليه، فأجابها الملك، وقال: ما منعني أن ابتدئك بالخطبة، إلا اليأس منك، فقالت: لا أرغب عنك؛ لأنك كفؤ كريم، فاجمع رجال أهلي، واخطبني منهم، فجمعهم، وخطبها، فقالوا: لا نراها تفعل. فقال: بلى إنها قد رغبت فيّ، فذكروا ذلك لها، فقالت: نعم، فزوجوها منه، فلما زفت إليه، خرجت في ملأ كثير من خدمها وحشمها، فلما خلت به سقته الخمر حتى سكر، ثم قتلته، وحزّت رأسه، وانصرفت إلى منزلها من الليل.
فلما أصبحت أرسلت إلى وزرائه، وأحضرتهم، وقرعتهم، وقالت لهم: أما كان منكم من يأنف لكريمته، أو كرائم عشيرته، ثم أرتهم إياه قتيلا، وقالت: اختاروا رجلا تملكونه عليكم، فقالوا: لا نرضى غيرك، فملكوها، وعلموا: أن ذلك النكاح كان مكرا وخديعة منها. انتهى.
خازن. أقول: ومثل هذه القصة قصة الزّبّاء ملكة تدمر مع جذيمة الأبرش.
فعن أبي بكر-رضي الله عنه: قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى، قال:«لن يفلح قوم ملّكوا عليهم امرأة» . أخرجه البخاري. وفي رواية أخرى: «ولّوا أمرهم امرأة» {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي: تحتاجه الملوك من رجال، وسلاح، ومال، وعدة. والمراد بالكية: الكثرة، لا الكلية الحقيقية، كما هو واقع الحياة الدنيا، {وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ:} عظمه بالنسبة إليها، أو إلى عروش أمثالها، والعرش: هو الكرسي الذي يجلس عليه الملك.
قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كان طول عرشها ثمانين ذراعا، وعرضه أربعين ذراعا، وارتفاعه في السماء ثلاثين، مكلل بالدر، والياقوت الأحمر، والزبرجد الأخضر. وقال قتادة:
وقوائمه لؤلؤ، وجواهر، وكان مستّرا بالديباج، والحرير، عليه سبعة مغاليق، أي سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب اسمها، {وَجَدْتُ:} فعل، وفاعل. {اِمْرَأَةً:} مفعول به. {تَمْلِكُهُمْ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {اِمْرَأَةً} تقديره:«هي» ، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب صفة (امرأة)، على تفسير {وَجَدْتُ} ب: لقيت، أو هي في محل نصب مفعول به ثان، وجملة:{وَجَدْتُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ مفسرة للنبأ.
{وَأُوتِيَتْ:} الواو: واو الحال، (أوتيت): فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث، ونائب الفاعل يعود إلى {اِمْرَأَةً،} والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل: {تَمْلِكُهُمْ،} والرابط: الواو، والضمير. وأجيز عطفها على ما قبلها بتأويل المضارع بالماضي. {مِنْ كُلِّ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و {كُلِّ} مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه.
{وَلَها:} الواو: واو الحال، (لها): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَرْشٌ:} مبتدأ مؤخر، {عَظِيمٌ:} صفة له، والجملة الاسمية في محل نصب حال من ضمير:{اِمْرَأَةً} في الفعلين السابقين، والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ:} وذلك: أنهم كانوا كفرة، يعبدون الشمس. قيل: كانوا مجوسا يعبدون الأنوار. {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ} أي: الخبيثة من
الكفر، وتحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، والمزين في الحقيقة هو الله تعالى. هذا؛ مذهب أهل السنة، وإنما جعل الشيطان آلة بإلقاء الوسوسة في قلوبهم، وليس له قدرة أن يضل أو يهدي أحدا، وإنما له الوسوسة فقط، فمن أراد الله شقاوته سلطه عليه حتى يقبل وسوسته.
وانظر ما ذكرته في الآية رقم [4].
هذا؛ وما ذكرته في هذه الآية مبني على أن العبد لا يخلق أفعال نفسه، وإنما يخلقها الله تعالى، كما قال:{وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ} وهو مذهب أهل السنة والجماعة، وما قاله الزمخشري في الآية المذكورة مبني على مذهبه في الاعتزال من أن العبد يخلق أفعال نفسه، وهو مبني على القاعدة الفاسدة في إيجاب رعاية الصلاح والأصلح للعبد، وامتناع أن يخلق الله تعالى للعبد، إلا ما هو مصلحة له، فمن ثم اعتبر التزيين من الله تعالى مجازا، ومن الشيطان حقيقة.
ولو عكس الجواب؛ لفاز بالصواب، وإلى الله المرجع والماب.
{فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ:} عن طريق الهدى، والحق، والصواب، {فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} إلى الحق، والصواب، ولا يبعد من الهدهد التهدي إلى معرفة الله تعالى، ووجوب السجود له، وحرمة السجود للشمس إلهاما من الله له، كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوان المعارف اللطيفة؛ التي لا يكاد العقلاء الرجاح العقول يهتدون لها.
هذا؛ ف: (صدّهم): منعهم، والمضارع:«يصد» يمنع، ويصرف، وهو بضم الصاد. هذا؛ ويأتي بمعنى: يعرضون ويميلون، كما في قوله تعالى:{رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} ويأتي بضم الصاد وكسرها، كما يأتي بمعنى يضجون فرحا، وهو بكسر الصاد، كما في قوله تعالى:{وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} . ومصدر الأولين: صد وصدود، ومصدر الأخير صديد. هذا؛ والصدد القرب، يقال: داري صدد داره، أي قبالتها وقربها، والصدد القصد، تقول: رجعنا إلى ما نحن بصدده، أي بقصده، وهو أيضا الميل-بفتح الياء والناحية-.
الإعراب: {وَجَدْتُها:} فعل، وفاعل، ومفعول به، {وَقَوْمَها:} الواو: حرف عطف.
(قومها): معطوف على الضمير المنصوب، و (ها): ضمير متصل في محل جر بالإضافة.
{يَسْجُدُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل. {لِلشَّمْسِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، {مِنْ دُونِ:} متعلقان به أيضا، أو هما متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، فتكون حالا متداخلة. و {يَسْجُدُونَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، وجملة:{يَسْجُدُونَ..} . إلخ في محل نصب مفعول به ثان، أو هي في محل نصب حال من ضمير المرأة، وجملة:{وَجَدْتُها..} . إلخ بدل من جملة: (وجدت
…
) إلخ في الآية السابقة. {وَزَيَّنَ:} الواو: واو الحال. (زين): فعل ماض، {لَهُمُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الشَّيْطانُ:} فاعل. {أَعْمالَهُمْ:} مفعول به، والهاء ضمير
متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَزَيَّنَ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وهي على تقدير «قد» قبلها، وجملة:{فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ:} معطوفة عليها، فهي في محل نصب حال مثلها. {فَهُمْ:} الفاء: حرف عطف، (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، وجملة:{لا يَهْتَدُونَ:} في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} معطوفة على ما قبلها فهي في محل نصب حال أيضا، وهي مؤكدة لمعنى الجملتين الفعليتين قبلها.
الشرح: {أَلاّ يَسْجُدُوا لِلّهِ:} قرئ في السبعة بتشديد اللام، وتخفيفها، وقرئ فوق السبعة:
«(هلاّ)» ، «(وهلا)» بقلب الهمزة هاء فيهما، وانظر الإعراب يتضح لك الأمر غاية الإيضاح. {يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي: المخبوء فيهما من مطر ونحوه في السماء، ومن كنوز، ونبات في الأرض. {وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ:} من أعمالكم، ونياتكم في ضمائركم. {وَما تُعْلِنُونَ:} وما تجهرون به من قول، أو عمل، وقرئ الفعلان بالتاء، والياء.
قال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: هذا الكلام وصف لله تعالى بما يوجب اختصاصه باستحقاق السجود من التفرد بكمال القدرة، والعلم حثا على سجوده، وردا على من يسجد لغيره، و {الْخَبْءَ} ما خفي في غيره، وإخراجه: إظهاره، وهو يعم إشراق الكواكب، وإنزال الأمطار، وإنبات النبات، بل الإنشاء، فإنه إخراج ما في الشيء بالقوة إلى الفعل، والإبداع، فإنه إخراج ما في الإمكان، والعدم إلى الوجوب، والوجود، ومعلوم: أنه يختص بالواجب لذاته. انتهى.
هذا؛ وقال الزمخشري: فإن قلت: أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعا أم في إحداهما؟ قلت: هي واجبة فيهما جميعا؛ لأن مواضع السجدة، إما أمر بها، أو مدح لمن أتى بها، أو ذم لمن تركها، وإحدى القراءتين أمر، والأخرى ذم للتارك، وانظر الإعراب يتضح لك المعنى غاية الإيضاح.
الإعراب: {أَلاّ:} (أن): حرف مصدري ونصب. (لا): نافية. {يَسْجُدُوا:} فعل مضارع منصوب ب (أن)، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل، والألف للتفريق، و (أن) والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام تعليل محذوفة، التقدير: لئلا يسجدوا، والجار والمجرور متعلقان بالفعل (زين). قاله الأخفش، أو هما متعلقان بالفعل (صدهم) قاله الكسائي. وعلى قول الأخفش لا يلزم تقدير الجار، فيكون التقدير: زين لهم عدم السجود، وهو في المعنى بدل من أعمالهم، وأجيز اعتبار المصدر في
محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هي عدم السجود. وقال أبو عمرو: المصدر المؤول في محل جر بدلا من {السَّبِيلِ} . هذا؛ وقيل: إن (لا) زائدة، والمصدر المؤول في محل جر ب إلى محذوفة، التقدير: إلى السجود، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{يَهْتَدُونَ} . وقيل:
المصدر المؤول مفعول صريح للفعل: {يَهْتَدُونَ} . وعلى هذا الاعتبار، فليست الآية بموضع سجدة. هذا؛ وعلى قراءة تخفيف اللام، فتكون (ألا) أداة استفتاح، وتنبيه يسترعى بها انتباه المخاطب لما يأتي بعدها من كلام، وتكون (يا) أداة نداء حذفت ألفها لالتقاء الساكنين، والمنادى محذوف، التقدير: ألا يا هؤلاء اسجدوا، وعليه فالفعل فعل أمر، مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وعلى هذا فالسجود واجب، كما قرئ شاذا:«(ألا هل تسجدون)» و «(ألا تسجدون)» . {لِلّهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة لفظ الجلالة، أو بدل منه. {يُخْرِجُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الذي) وهو العائد. {الْخَبْءَ:} مفعول به. {فِي السَّماواتِ:} جار ومجرور متعلقان ب {الْخَبْءَ،} أو هما متعلقان بالفعل قبلهما. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، وجملة:{يُخْرِجُ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها. {وَيَعْلَمُ:} الواو: حرف عطف. (يعلم): فعل مضارع، والفاعل يعود إلى الذي أيضا. {ما:} اسم موصول أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: يعلم الذي، أو شيئا تخفونه، وجملة:{وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ:} معطوفة على جملة الصلة لا محل لها، وإعراب:{وَما تُعْلِنُونَ} مثل إعراب ما قبله، ومعطوف عليه. تأمل.
{اللهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)}
الشرح: قال الخازن: هذه السجدة من عزائم السجود يستحب للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءتها، أقول: ويبتدئ الكلام بقوله {أَلاّ يَسْجُدُوا} وينتهي بالعظيم، وقال الخازن أيضا:
فإن قلت: قد وصف عرش بلقيس بالعظيم، وعرش الله بالعظيم، فما الفرق بينهما؟ قلت: وصف عرش بلقيس بالعظم بالنسبة إليها، وإلى أمثالها من ملوك الدنيا، وأما عرش الله تعالى، فهو بالنسبة إلى جميع المخلوقات من السموات والأرض، فحصل الفرق بينهما.
بعد هذا: قال الجرجاني: {أَلاّ يَسْجُدُوا..} . إلخ هو كلام معترض من الهدهد أو من كلام سليمان، أو من الله. وقال ابن عطية: هو من كلام الهدهد، وهو قول ابن زيد، وابن إسحاق ويعترض بأنه غير مخاطب فكيف يتكلم في معنى الشرع؟ ويحتمل: أنه من قول سليمان لما أخبره الهدهد عن القوم، ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى، فهو اعتراض بين الكلامين، وهو الثابت مع التأمل. أقول: المعتمد: أنه من كلام الهدهد، وخذ ما يلي:
قال أبو السعود رحمه الله تعالى: اعلم أن ما حكي عن الهدهد، من قوله {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ} إلى هنا ليس داخلا تحت قوله:{أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ} وإنما هو من المعارف والعلوم التي اقتبسها من سليمان عليه السلام، أورده بيانا لما هو عليه، وإظهارا لتصلبه في الدين، وكل ذلك لتوجيه قلبه عليه السلام نحو قبول كلامه، وصرف عنان عزيمته إلى غزوها، وتسخير ولايتها. انتهى.
قال الجمل: وقوله: ليس داخلا تحت قوله
…
إلخ، مراده بهذا: أن الذي اختص به الهدهد عن سليمان، وذكره بقوله:{أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ} قد انتهى بقوله: {أَلاّ يَسْجُدُوا لِلّهِ} وأما قوله: {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ..} . إلخ فهو وإن كان من مقول الهدهد، لكنه ليس مما علمه دون سليمان، بل سليمان يعلمه أيضا على وجه أتم، وأكمل من علم الهدهد، وإنما ذكره الهدهد بيانا لما هو عليه، أي لما هو معتقده، وإظهارا لتصلبه في الدين. انتهى.
الإعراب: {اللهُ:} مبتدأ. {لا:} نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» . {إِلهَ:} اسم {لا} مبني على الفتح في محل نصب، والخبر محذوف، تقديره: موجود. {إِلاّ:} حرف حصر لا محل له. {هُوَ:} فيه ثلاثة أوجه: الأول: كونه بدلا من اسم (لا) على المحل؛ إذ محله الرفع على الابتداء. والثاني: كونه بدلا من {لا} وما عملت فيه؛ لأنها وما بعدها في محل رفع بالابتداء.
والثالث: كونه بدلا من الضمير المستكن في الخبر المحذوف، وهو أقوى الثلاثة، وهو مبني على الفتح في محل رفع. {رَبُّ:} يجوز فيه أربعة أوجه: أحدها: أن يكون بدلا من {هُوَ} بدل ظاهر من مضمر. الثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هو {رَبُّ،} وحسن حذفه توالي اللفظ ب: (هو) مرتين، الثالث: أن يكون خبرا ثانيا لقوله: {اللهُ} والخبر الأول: الجملة الاسمية: {لا إِلهَ..} . إلخ، وذلك عند من يرى تعدد الخبر مختلفا بالإفراد، والجملة. الرابع:
أن يكون صفة للضمير، وذلك عند الكسائي، فإنه يجيز وصف الضمير الغائب بصفة مدح، فهو يشترط هذين الشرطين: أن يكون غائبا، وأن تكون الصفة صفة مدح. و {رَبُّ} مضاف، و {الْعَرْشِ} مضاف إليه من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {الْعَظِيمِ:} صفة (العرش) ويقرأ بالرفع، فيقال فيه ما قيل ب:{رَبُّ} من الأوجه الأربعة، واعتباره صفة له يتضمن الأوجه الأربعة، وإن أبقيته صفة ل:{الْعَرْشِ،} ورفعته فيكون خبر مبتدأ محذوف، وذلك على القطع، وهذا معروف في باب النعت، والجملة الاسمية {اللهُ..} . إلخ، تحتمل أن تكون من مقول الهدهد، وأن تكون من كلام سليمان فتكون مستأنفة متصل بها ما بعدها، وأن تكون من كلام الله تعالى، فتكون معترضة بين كلام الهدهد، وكلام سليمان الآتي. تأمل، وتدبر.
{قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27)}
الشرح: {قالَ سَنَنْظُرُ:} من النظر الذي هو التأمل، والتصفح. {أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ:} التقدير: أصدقت، أم كذبت؟ والتغيير لرعاية الفواصل، وللمبالغة أيضا، ولم يقل:
سننظر في أمرك؛ لأن الهدهد لما صرح بفخر العلم بقوله: {أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ} صرح له سليمان بقوله: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ} فكان ذلك مقابلة لما قاله، وكفاء له.
ثم إن الهدهد دلهم على الماء، فاحتفروا الركايا، وروي الناس، والدواب، ثم إن سليمان على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، كتب كتابا: من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ: (بسم الله الرحمن الرحيم، السّلام على من اتبع الهدى، أمّا بعد أن لا تعلو عليّ، وائتوني مسلمين). قيل: لم يزد على ما نص الله في كتابه، وكذلك الأنبياء؛ كانوا يكتبون جملا، لا يطيلون، ولا يكثرون. فلما كتب الكتاب طبعه بالمسك، وختمه بخاتمه، وقال للهدهد:
{اِذْهَبْ..} . إلخ. وقيل: لم يبدأ سليمان-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-كتابه باسم الله؛ لأنها كانت كافرة قارئة، فخاف من كفرها أن تستخف باسم الله، فجعل اسمه وقاية لاسم الله تعالى، وكانت عربية، والكتابة عربية، وهو الظاهر، وقيل: إنه كتبه بالعجمية، ولها ترجمان يترجم لها به؛ لأنها عربية، ويحتمل أنها كانت تعرف غير العربية. انتهى. جمل نقلا عن شيخه.
الإعراب: {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى «سليمان» تقديره:«هو» . {سَنَنْظُرُ:}
السين: حرف استقبال. (ننظر): فعل مضارع، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره:«نحن» ، وهو معلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام. {أَصَدَقْتَ:} الهمزة: حرف استفهام. (صدقت):
فعل، وفاعل، والمتعلق محذوف، تقديره: في قولك، والجملة الفعلية في محل نصب سدت مسد مفعول:(ننظر). {أَمْ:} حرف عطف. {كُنْتَ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {مِنَ الْكاذِبِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {كُنْتَ،} والجملة الفعلية هذه معطوفة على ما قبلها فهي في محل نصب مثلها، وجملة:{سَنَنْظُرُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {اِذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ:} إنما قال: (إليهم) بلفظ الجمع؛ لأنه جعله جوابا لقول الهدهد: {وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ} فقال: ألقه إلى الذين هذا دينهم، وقد قرئ:(ألقه) بقراآت كثيرة. {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} أي: تنح عنهم. أمره بالتولي حسن أدب حسب ما يتأدب به مع الملوك، أي: وكن قريبا منهم؛ حتى تسمع، وترى ما يقولون. {فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ:} بماذا يتداولون، كقوله تعالى:{يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ،} فأخذ الكتاب، وأتى به إلى بلقيس، وكانت بأرض مأرب من اليمن، على ثلاث مراحل من صنعاء، فوجدها نائمة، مستلقية على قفاها، وقد غلقت الأبواب، ووضعت المفاتيح تحت رأسها، وكذلك كانت
تفعل إذا رقدت، فأتى الهدهد، وألقى الكتاب على نحرها، وكان قد دخل عليها من كوة عالية في جدار قصرها، فاستيقظت فلما رأت الكتاب؛ دهشت.
وقيل: حمل الهدهد الكتاب بمنقاره، وطار حتى وقف على رأس المرأة، وحولها القادة، والوزراء، والجنود، فرفرف ساعة، والناس ينظرون إليه، فرفعت بلقيس رأسها، فألقى الكتاب في حجرها، فلما رأت الخاتم ارتعدت، وخضعت؛ لأن ملك سليمان كان في خاتمه، وعرفت أن الذي أرسل إليها الكتاب أعظم ملكا منها، فقرأت الكتاب؛ والهدهد غير بعيد متوار عنها، وجاءت هي؛ حتى قعدت على سرير ملكها، وجمعت الأشراف من قومها. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان مع بلقيس مئة قيل، مع كل قيل مئة ألف، والقيل ملك دون الملك الأعظم، وقيل: كان أهل مشورتها ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلا، كل رجل منهم على عشرة آلاف، فلما جاؤوا، وأخذوا مجالسهم؛ {قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ..} . إلخ.
الإعراب: {اِذْهَبْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {بِكِتابِي:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {هذا:}
الهاء: حرف تنبيه. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر صفة (كتابي)، وجملة:
{اِذْهَبْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول. (ألقه): فعل أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره: أنت، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به. {إِلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {ثُمَّ:} حرف عطف.
{تَوَلَّ:} فعل أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل: أنت. {عَنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال، وليس بشيء. {فَانْظُرْ:} الفاء: حرف عطف. (انظر): فعل أمر، وفاعله: أنت. {ماذا:} ما:
اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، (ذا): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبره، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف، التقدير: ما الذي يرجعونه.
هذا؛ ويجوز اعتبار: {ماذا} اسما مركبا مبتدأ، والجملة الفعلية خبره، كما يجوز اعتباره مفعولا مقدما، والجملة سواء أكانت اسمية أم فعلية في محل نصب مفعول به ل (انظر) المعلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام، هذا كله إذا كان (انظر) بمعنى تأمل وتفكر. وإن كان الفعل بمعنى انتظر من قوله تعالى:{اُنْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} كانت {ماذا} اسما مركبا بمعنى الذي، و {يَرْجِعُونَ} صلته، والعائد مقدر، كما مر تقديره، وتكون:{ماذا} مفعولا به ل (انظر)؛ أي: انتظر الذي يرجعونه، انتهى. جمل نقلا عن السمين. أقول والأول أقوى. هذا؛ والجمل المتعاطفة كلها من قول سليمان، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
الشرح: {قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي..} . إلخ: في الكلام حذف؛ إذ التقدير: فذهب الهدهد، فألقى إليهم الكتاب، فسمعها تقول:{يا أَيُّهَا الْمَلَأُ،} و {الْمَلَأُ:} الأشراف، والسادة. وانظر الآية رقم [34] من سورة (الشعراء). ثم وصفت الكتاب بالكريم، إما؛ لأنه من عند عظيم في نفسها، ونفوسهم، فعظمته إجلالا لسليمان، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وهذا قول ابن زيد. وإما أنها إشارة إلى أنه مطبوع عليه بالخاتم، فكرامة الكتاب ختمه، وروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن المقفع: من كتب إلى أخيه كتابا، ولم يختمه؛ فقد استخف به.
وقيل: لأنه بدأ فيه بالبسملة، وقد قال سيد الخلق، وحبيب الحق، الناطق بالصدق:«كل كلام لا يبدأ فيه ب: بسم الله الرحمن الرحيم، فهو أجذم. وفي رواية: فهو أقطع. وفي ثالثة: فهو أبتر» . وقيل: كريم لغرابة شأنه؛ حيث ألقي إليها من حيث لا تعلم. وقيل: كريم لكرم مضمونه، وهو مفهوم بعض ما تقدم. وانظر شرح {كَرِيمٌ} في الآية رقم [59] من سورة (الشعراء).
{أَلاّ تَعْلُوا عَلَيَّ:} لا تترفعوا علي، ولا تتكبروا عن متابعتي، ولا تأنفوا عن الانقياد إلى طاعتي، فإني رسول من رب العالمين، وقرئ:«(ألا تغلوا)» بالغين شاذا، من: غلا، يغلو: إذا تجاوز، وتكبر، وهي راجعة إلى قراءة الجماعة. {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ:} موحدين، منقادين، طائعين، وليس المراد ملة الإسلام الحادثة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، ولو قلنا بذلك؛ لرد علينا بما رددنا به على اليهود والنصارى من أن ملة الإسلام الحادثة حدثت بعد سليمان بزمن طويل، فكيف يكون سليمان عليها، ومثل ذلك قل في إسلام نوح وغيره من الأنبياء من أن المراد بإسلامهم التوحيد.
وردنا على اليهود هو ما تضمنه قوله تعالى: {ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . الآية رقم [67] من سورة (آل عمران)، وقوله تعالى في الآية التي قبلها:{وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
قال البيضاوي رحمه الله تعالى: وهذا الكلام-أي: ما تضمنه الكتاب-في غاية الوجازة مع كمال الدلالة على المقصود، لاشتماله على البسملة، الدالة على ذات الصانع، وصفاته صريحا، أو التزاما، والنهي عن الترفع الذي هو أم الرذائل، والأمر بالإسلام، الجامع لأمهات الفضائل، وليس الأمر فيه الانقياد قبل إقامة الحجة على رسالته حتى يكون استدعاء للتقليد، فإن إلقاء الكتاب إليها على تلك الحالة من أعظم الأدلة. انتهى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {قالَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل مستتر تقديره:«هي» يعود إلى بلقيس، (يا): أداة نداء، تقوم مقام: أدعو، أو أنادي، (أيها): نكرة مقصودة مبنية على الضم في
محل نصب ب (يا)، و (ها): حرف تنبيه لا محل له، وأقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه. {الْمَلَأُ:} بعضهم يعرب هذا؛ وأمثاله نعتا، وبعضهم يعربه بدلا، والقول الفصل: أن الاسم الواقع بعد (أي)، أو بعد اسم الإشارة، إن كان مشتقا فهو نعت، وإن كان جامدا، كما هنا، فهو بدل، أو عطف بيان، والمتبوع: أعني (أي) منصوب محلا، فكذا التابع أعني {الْمَلَأُ} وأمثاله، فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الإتباع اللفظية
…
إلخ. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب اسمها. {أُلْقِيَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {إِلَيَّ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {كِتابٌ:} نائب فاعل: {أُلْقِيَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر: (إن)، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ، والجملة الندائية كلتاهما في محل نصب مقول القول.
وجملة: {قالَتْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {كَرِيمٌ:} صفة: {كِتابٌ} .
{إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها، {مِنْ سُلَيْمانَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (إنّ) وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ} مستأنفة، وهي جواب لسؤال مقدر، فكأن سائلا قال لها: ممّن الكتاب، وما هو؟ فقالت: إنه من سليمان. وقرئ بفتح الهمزة (أنّه) وعليه فالمصدر المؤول من (أن) واسمها وخبرها في محل رفع بدل من: {كِتابٌ،} أو في محل جر بلام تعليل مقدرة، أي؛ لأنه من سليمان، والجار والمجرور على هذا متعلقان ب:{كَرِيمٌ،} وإنه الثانية معطوفة على ما قبلها على القراءتين، وفيما بعدها وجهان للإعراب.
الوجه الأول بالنسبة لكلام بلقيس، فالكلام:{بِسْمِ اللهِ..} . إلى {مُسْلِمِينَ} كله في محل رفع خبر (إنّ) على الحكاية؛ لأنها أرادت إن ما تضمنه الكتاب: بسم الله
…
إلخ، وبالنسبة لكلام سليمان التفصيلي فالإعراب كما يلي {بِسْمِ:} جار ومجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أفتتح كتابي، أو ابتدئ كلامي باسم، و:(اسم) مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:} بدلان من لفظ الجلالة على اعتبارهما اسمين من أسماء الله الحسنى، وهو المعتمد، وقيل: هما صفتان للفظ الجلالة، وانظر إعراب البسملة في أول سورة (الفاتحة) وغيرها.
{أَلاّ:} (أن): حرف مصدري ونصب. (لا): نافية. {تَعْلُوا:} فعل مضارع منصوب ب (أن)، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {عَلَيَّ:}
جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (أن) المصدرية، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل رفع بدل من:{كِتابٌ،} أو في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، يليق بالمقام، أي: مضمونه {أَلاّ تَعْلُوا..} . إلخ، أو في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: ب {أَلاّ تَعْلُوا} . هذا؛ وأجيز اعتبار: (أن)، مفسرة، فيكون الفعل مجزوما ب (لا) على أنها ناهية، والجملة الفعلية مفسرة ل {كِتابٌ} لتضمنه معنى القول دون حروفه. {وَأْتُونِي:} الواو: حرف عطف. (ائتوني): فعل أمر
مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وهذا يرجح اعتبار (أن) تفسيرية، ليصح عطف الإنشاء على مثله. {مُسْلِمِينَ:} حال من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ.
الشرح: {قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ..} . إلخ: أجيبوني في أمري، واذكروا ما تستصوبونه فيه، وهذا حسن أدب مع قومها، ومشاورتهم في أمرها، وبينت أن ذلك شأنها، وعادتها في كل ما يعرض لها من معضلات الأمور. هذا؛ والفتوى: الجواب في الحادثة، اشتقت على طريق الاستعارة من الفتاء في السن، والمراد هنا بالفتوى: الإشارة عليها بما عندهم من الرأي. وقصدها بالرجوع إلى استشارتهم تطييب أنفسهم، وكذلك لتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم، وإمضائهم على الطاعة لها، لعلمها بأنهم إذا لم يبذلوا أنفسهم، وأموالهم دونها لم يكن لها طاقة على مقاومة عدوها، وإن لم يجتمع أمرهم، كان ذلك عونا لعدوهم عليهم، أما مشاورتهم، واجتماع رأيهم وانقيادهم لطاعتها؛ فهو عون لها على عدوهم، وكذلك ينبغي أن يكون ولاة الأمور في كل زمان ومكان.
الإعراب: {قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ:} انظر الآية رقم [29] ففيها الكفاية. {أَفْتُونِي:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم في محل نصب مفعول به. {فِي أَمْرِي:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {ما:} نافية. {كُنْتُ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه.
{قاطِعَةً:} خبر (كان) وفاعله مستتر تقديره: «أنا» . {أَمْراً:} مفعول به ل: {قاطِعَةً؛} لأنه اسم فاعل. {حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها: «أن» مضمرة. {تَشْهَدُونِ:} فعل مضارع منصوب ب:
«أن» المضمرة بعد {حَتّى،} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة المدلول عليها بكسرة النون في محل نصب مفعول به، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان ب: {قاطِعَةً،} وجملة: {ما كُنْتُ..} . إلخ تعليل للأمر، لا محل لها، والكلام {يا أَيُّهَا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَتْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {قالُوا} أي: الملأ مجيبين لها، {نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ:} في الحرب، والقتال. {وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ:} في الطعان، والنزال. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كان من قوة أحدهم: أنه يركض
فرسه حتى إذا احتد؛ ضم فخذيه عليه، فحبسه بقوته. {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ:} سلّموا الأمر إليها مع ما أظهروا لها من القوة والبأس والشدة مع إظهار الطاعة، والانقياد لها، كأنهم أشاروا عليها بالقتال، أو أرادوا: نحن من أبناء الحرب، لا من أبناء الرأي، والمشورة، وأنت صاحبة الرأي والتدبير، فانظري ما ذاترين؛ نتبع أمرك. فلما أحست منهم الميل إلى الحرب؛ مالت إلى المهادنة، والموادعة، ورتبت الجواب، فزيفت ما ذكروه، وأرتهم الخطأ فيه حيث قالت:{إِنَّ الْمُلُوكَ..} . إلخ.
هذا؛ {وَأُولُوا} بمعنى أصحاب، وهو جمع لا واحد له من لفظه، وإنما واحده:«ذو» المضاف إن كان مرفوعا، و «ذا» المضاف إن كان منصوبا، و «ذي» المضاف إن كان مجرورا، ومؤنثه:«ذات» وجمعها: «أولات» من غير لفظها أيضا، انظر ما ذكرته في الآية رقم [2] من سورة (الحج) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
الإعراب: {قالُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {نَحْنُ:}
ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع مبتدأ. {أُولُوا:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة. {وَأُولُوا} مضاف، و {قُوَّةٍ} مضاف إليه. {وَأُولُوا بَأْسٍ:} معطوف على ما قبله. وإعرابه مثله. {شَدِيدٍ:} صفة {بَأْسٍ،} والجملة الاسمية: {نَحْنُ..} . إلخ، في محل نصب مقول القول. {وَالْأَمْرُ:} الواو: حرف عطف. (الأمر): مبتدأ. {إِلَيْكِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {فَانْظُرِي:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا منك فانظري
…
إلخ، (انظري):
فعل أمر مبني على حذف النون؛ لأن مضارعه من الأفعال الخمسة، والياء ضمير متصل في محل رفع فاعل، وهو معلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام. {ماذا تَأْمُرِينَ:} هو مثل: {ماذا يَرْجِعُونَ} في الآية رقم [28] ويضاف إليه: أنه يجوز اعتبار {ماذا} مفعولا ثانيا مقدما على اعتبار الفعل ناصبا مفعولين، ويكون التقدير: ماذا تأمريننا؟ والجملة سواء أكانت اسمية، أم فعلية في محل نصب سدت مسد مفعول (انظري)، وجملة:{فَانْظُرِي..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب للشرط المقدر، والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها:} فهذا رد منها بادعائهم القوة، والبأس الشديد، وإشعار منها بأنها تريد الصلح مخافة أن يتعدى سليمان حدودهم، فيسرع إلى إفساد ما يصادفه من أموالهم، وزروعهم، وعمارتهم. ثم إن الحرب عاقبتها مجهولة، لا تعلم نتائجها.
{وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها:} كرام أهلها. {أَذِلَّةً:} بسبب نهب أموالهم، وتخريب ديارهم، وغير ذلك من القتل، والأسر، يفعلون ذلك ظلما وعدوانا؛ كي يستقيم لهم الأمر، ويستتب لهم الملك. {وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ:} تأكيد لما وصفت من حالهم، وتقرير بأن ذلك من عادتهم الثابتة المستمرة، أو هو من قول الله تعالى، فيكون تصديقا منه-جل ذكره، وتعالى شأنه-لما قالت، وتعريفا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته بذلك، وإخبارا به.
قال وهب بن منبه: لما قرأت عليهم الكتاب؛ لم تعرف اسم الله، فقالت: ما هذا؟ فقال بعض القوم: ما نظن هذا إلا عفريتا عظيما من الجن، يقتدر به هذا الملك على ما يريده، فسكّتوه، وقال آخر: أراهم ثلاثة من العفاريت، فسكّتوه. فقال شاب قد علم: يا سيدة الملوك، إن سليمان ملك قد أعطاه ملك السماء ملكا عظيما، فهو لا يتكلم بكلمة إلا بدأ فيها بتسمية إلهه، و «الله» اسم مليك السماء، و {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} نعوته. فعند ذلك قالت: أفتوني في أمري
…
إلخ. انتهى. قرطبي باختصار منه.
الإعراب: {قالَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى بلقيس تقديره:«هي» .
{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الْمُلُوكَ:} اسم {إِنَّ} . {إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك مبني على السكون في محل نصب.
{دَخَلُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {قَرْيَةً:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله عند بعض النحاة، وفي مقدمتهم سيبويه، والمحققون، وعلى رأسهم الأخفش ينصبونه على التوسع في الكلام بإسقاط الخافض، لا على الظرفية، فهو منتصب عندهم انتصاب المفعول به على السعة بإجراء اللازم مجرى المتعدي، ومثل ذلك قل في:(دخلت، ونزلت البلد، وسكنت الشام) وجملة: {دَخَلُوا قَرْيَةً} في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على المشهور المرجوح. {أَفْسَدُوها:} ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية جواب (إذا) لا محل لها.
(جعلوا): ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {أَعِزَّةَ:} مفعول به أول، و {أَعِزَّةَ} مضاف، و {أَهْلِها} مضاف إليه، و (ها): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {أَذِلَّةً:} مفعول به ثان، وجملة:{وَجَعَلُوا..} . إلخ معطوفة على جواب: {إِذا} لا محل لها أيضا، و {إِذا} ومدخولها في محل رفع خبر:{إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قالَتْ} مستأنفة، لا محل لها. {وَكَذلِكَ:} الواو: حرف استئناف (كذلك) الكاف: حرف تشبيه وجر، و (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف عامله ما بعده، التقدير: يفعلون فعلا كائنا مثل ذلك، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها؛ إن كانت من قول الله تعالى ابتداء، وفي محل نصب مقول القول؛ إن كانت من قول بلقيس. والأول أقوى، ومثل هذا يسميه المحدّثون مدرجا.
{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)}
الشرح: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ:} بيان لما ترى تقديمه للمهادنة، والموادعة. والمعنى:
إني مرسلة رسلا بهدية أدفعه بها عن ملكي. {فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} أي: ما يقولونه عن حال هذا الرجل حتى أعمل بحسب ذلك. وهذا يدل على كمال عقلها، وحسن تدبيرها. وقالت في نفسها: إن كان ملكا؛ قبل الهدية، واتخذت عنده يدا، وإن كان نبيا؛ لم يقبل إلا الاتباع لدينه، والانقياد لطاعته، وأوامره. قال قتادة: يرحمها الله أن كانت لعاقلة في إسلامها، وشركها، قد علمت: أن الهدية تقع موقعا من الناس.
فبعثت إليه خمسمئة غلام عليهم ثياب الجواري وحليهنّ، راكبي خيل مغشاة بالديباج، محلاة اللجم، والسروج بالذهب المرصع بالجواهر، وخمسمئة جارية على براذين في زيّ الغلمان، وألف لبنة من ذهب وفضة، وتاجا مكللا بالدر، واليواقيت، وحقّا فيه درة عذارء؛ أي غير مثقوبة، وخرزة معوجة الثقب، وبعثت رسلا، وأمرت عليهم المنذر بن عمرو، وكتبت كتابا إلى سليمان، وذكرت فيه أنواع الهدايا، وقالت: إن كنت نبيا فميز بين الوصفاء، والوصائف، وأخبر بما في الحق، واثقب الدرة ثقبا، واسلك في الخرزة خيطا، ثم قالت للمنذر: إن نظر إليك نظر غضبان؛ فهو ملك، فلا يهولنّك منظره، وإن رأيته بشاشا لطيفا؛ فهو نبي، فأقبل الهدهد، وأخبر سليمان الخبر كله.
فأمر سليمان-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-الجنّ، فضربوا لبنات الذهب والفضة، وفرشوها في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائطا، شرفه من الذهب، والفضة، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر، فربطوها عن يمين الميدان، ويساره على اللبنات، وأمر بأولاد الجن، وهم خلق كثير، فأقيموا على اليمين، واليسار، ثم قعد على سريره، والكراسي من جانبيه، واصطفت الشياطين صفوفا فراسخ، والإنس صفوفا فراسخ، والوحش، والسباع، والطيور، والهوام كذلك.
فلما دنا رسل بلقيس، ورأوا الدواب تروث على اللّبن، رموا بما معهم من الهدايا، ولما وقفوا بين يديه نظر إليهم سليمان بوجه طلق، فأعطوه كتاب الملكة، فنظر فيه، وقال: أين الحقّة؟ فأمر الأرضة، فأخذت شعرة، ونفذت في الدرة، وأخذت دودة بيضاء الخيط بفيها، ونفذت فيها، ودعا بالماء، فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها، فتجعله في الأخرى، ثم تضرب به وجهها، والغلام يأخذ الماء بيديه، ويغسل به وجهه، فميز بين الغلمان، والجواري بذلك. ثم رد الهدية، وقال للمنذر: ارجع إليهم. انتهى. نسفي بحروفه. وهو موجز ما في الخازن، والقرطبي، والكشاف. والله ولي التوفيق.
هذا؛ وأما: {بِمَ} فهي كلمة مؤلفة من حرف، واسم، فالحرف الباء الجارة، والاسم (ما) الاستفهامية، وقد حذفت ألفها، كما تحذف مع كل جار، نحو قوله تعالى:{فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها} {عَمَّ يَتَساءَلُونَ،} {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ} للفرق بين الموصولة، والاستفهامية، ويقال: للفرق بين الخبر، والاستخبار.
الإعراب: {وَإِنِّي:} الواو: حرف عطف. (إني): حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب اسمها. {مُرْسِلَةٌ:} خبر: (إنّ)، وفاعله ضمير مستتر تقديره:«أنا» .
{إِلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان ب {مُرْسِلَةٌ} . {بِهَدِيَّةٍ:} متعلقان ب {مُرْسِلَةٌ} أيضا. هذا؛ وإن اعتبرت الباء زائدة؛ فلست مفندا، والمعنى يؤيده، فيكون مفعولا به ل:{مُرْسِلَةٌ} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية:{وَإِنِّي..} . إلخ معطوفة على جملة: {إِنَّ الْمُلُوكَ..} . إلخ فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {فَناظِرَةٌ:} الفاء: حرف عطف. (ناظرة): معطوفة على {مُرْسِلَةٌ،} وفاعله مستتر تقديره:
«أنا» . {بِمَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما، وقد رأيت في الشرح كيف حذفت ألف (ما)، وقيل: متعلقان ب (ناظرة) ويرده: أن الاستفهام له الصدر فلا يعمل فيه ما قبله. {يَرْجِعُ:} فعل مضارع. {الْمُرْسَلُونَ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الفعلية:{بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} في محل نصب سدت مسد مفعول (ناظرة) المعلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام.
الشرح: {فَلَمّا جاءَ سُلَيْمانَ} أي: جاء الرسول، أو ما أهدته إليه، وقرئ:«(فلما جاؤوا إليه)» قال: {أَتُمِدُّونَنِ} أي: أتزيدونني مالا إلى ما تشاهدونه من أموالي، والخطاب للرسول ومن معه، وقرئ الفعل بقراآت كثيرة. {فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمّا آتاكُمْ} أي: فما أعطاني من الإسلام، والملك، والنبوة خير مما أعطاكم، فلا أفرح بالمال. {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ:} والمعنى: إن ما عندي خير مما عندكم، وذلك: أن الله آتاني الدين الذي فيه الحظ الأوفر، والغنى الأوسع، وآتاني من الدنيا ما لا يستزاد عليه، فكيف يرضى مثلي بأن يمد بمال؟ بل أنتم قوم لا تعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، فلذلك تفرحون بما تزادون، ويهدى إليكم؛ لأن ذلك مبلغ همتكم، وحالي خلاف حالكم، لا أرضى منكم بشيء، ولا أفرح بشيء منكم إلا بالإيمان، وتوحيد الله، وترك الشرك به، والوثنية. هذا؛ وانظر (الفرح) في سورة (الروم) رقم [32] فإنه جيد جدا.
تنبيه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ويثيب عليها، ولا يقبل الصدقة، وكذلك كان سليمان وسائر الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وإنما رد سليمان هدية بلقيس؛ لأنها جعلت
هديتها علامة على ما في نفسها على ما ذكرناه من كون سليمان ملكا، أو نبيا؛ لأنه قال في كتابه:{أَلاّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} وهذا لا تقبل فيه فدية، ولا تؤخذ عنه هدية، وليس هذا من الباب الذي تقرر في الشريعة المحمدية عن قبول الهدية بطريق من الطرق المعوجة لأجل غاية عند حاكم، أو موظف، وإنما هي رشوة لأجل إماتة حق، وإحياء باطل، وقد لعن الرسول صلى الله عليه وسلم الرّاشي، والمرتشي، والرائش بينهما، وأما الهدية المطلقة للتحبب والتواصل فإنها جائزة من كل أحد، وعلى كل حال؛ لأنها لا يقصد بها إضاعة حق، ولا إحياء باطل.
والهدية على هذا الشكل مندوب إليها، وهي مما تورث المودة، وتذهب العداوة. روى مالك عن عطاء بن عبد الله الخراساني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تصافحوا يذهب الغلّ، وتهادوا تحابّوا، وتذهب الشّحناء» . وعن ابن شهاب قال: بلغنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«تهادوا بينكم، فإنّ الهديّة تذهب السخيمة» . وعلى الجملة فقد ثبت: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية، وفيه الأسوة الحسنة، ومن فضل الهدية مع اتباع السنة: أنها تزيل حزازات النفوس، وتكسب المهدي والمهدى إليه رنّة في اللقاء، والجلوس، ولقد أحسن من قال:[الوافر]
هدايا الناس بعضهم لبعض
…
تولّد في قلوبهم الوصالا
وتزرع في الصّدور هوى وودّا
…
وتكسبهم إذا حضروا جمالا
وقال آخر: [البسيط]
إنّ الهدايا لها حظّ إذا وردت
…
أحظى من الابن عند الوالد الحدب
هذا؛ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «جلساؤكم شركاؤكم في الهدية» . واختلف في معناه، فقيل: هو محمول على ظاهره، وقيل: يشاركهم على وجه الكرم، والمروءة، فإن لم يفعل فلا يجبر عليه، وقال أبو يوسف: ذلك في الفواكه، ونحوها. وقال بعضهم: هم شركاؤه في السرور لا في الهدية. والخبر محمول في أمثال أصحاب الصفة، والخوانق، والرباطات، أما إذا كان فقيها من الفقهاء؛ اختص بها، فلا شركة فيها لأصحابه، فإن أشركهم فذلك كرم وجود منه. انتهى. قرطبي بتصرف من التنبيه إلى هنا، وينبغي أن تعلم أنه لم تذكر الهدية في غير هذه السورة.
الإعراب: {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لما): انظر الآية رقم [8]. {جاءَ:} فعل ماض، وفاعله ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى الرجل المرسل من قبل بلقيس. {سُلَيْمانَ:} مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها على اعتبار (لما) حرفا، وفي محل جر بإضافة:(لما) إليها على اعتبارها ظرفا. {قالَ:} فعل ماض، وفاعله يعود إلى:{سُلَيْمانَ} . تقديره: هو. {أَتُمِدُّونَنِ:}
الهمزة: حرف استفهام إنكاري. (تمدونن): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة، أو الثابتة في بعض
القراآت في محل نصب مفعول به. {بِمالٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ جواب: (لمّا)، لا محل لها، و (لما) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.
{فَما:} الفاء: حرف عطف، وقيل: حرف تعليل، ولا وجه له، ولو قيل: استئناف لكان أولى. (ما): اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ. {آتانِيَ:}
فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به أول، والثاني محذوف، وهو العائد، أو الرابط. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية صلة:(ما)، أو صفتها، وتقدير الكلام: فالذي، أو: فشيء آتانيه الله. {خَيْرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان ب: {خَيْرٌ،} و (ما) تحتمل الموصوفة والموصولة، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: من الذي، أو: من شيء آتاكموه. {بَلْ:} حرف عطف وانتقال. {أَنْتُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {بِهَدِيَّتِكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الفعلية:«تفرحون بهديتكم» في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي من جملة كلام سليمان، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
الشرح: {اِرْجِعْ إِلَيْهِمْ} أي: قال سليمان للمنذر بن عمرو أمير الوفد: ارجع إلى بلقيس وقومها بهديتهم. {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها:} لا طاقة لهم بها، وقرئ:«(بهم)» . {وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها} أي: من أرض سبأ. {أَذِلَّةً:} بذهاب ما كانوا فيه من العز، والمجد. {وَهُمْ صاغِرُونَ:}
أسراء مهانون، إن لم تأتوني مسلمين.
قال وهب بن منبه، وغيره من أهل الكتاب: لما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان، وبلغوها ما قال سليمان، وذكروا لها ما رأوا من عظمة ملكه، وسلطانه، قالت: لقد عرفت أن هذا ليس بملك، وما لنا به من طاقة، فبعثت إلى سليمان: إني قادمة عليك بملوك قومي، حتى أنظر ما أمرك، وما الذي تدعو إليه من دينك؟ ثم أمرت بعرشها، فجعلته في آخر سبعة أبيات بعضها داخل بعض، ثم أغلقت عليه سبعة أبواب، ووكلت به حراسا يحفظونه، ثم قالت لمن خلفت على ملكها: احتفظ بما هو قبلك، وسرير ملكي لا يخلص إليه، ثم أمرت مناديا ينادي في أهل مملكتها، تؤذنهم بالرحيل، وشخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن، كل قيل تحت يده ألوف كثيرة وسمي قيلا بفتح القاف؛ لأنه ينفذ كل ما يقول. قال ابن
عباس-رضي الله عنهما: وكان سليمان رجلا مهيبا لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه، فخرج يوما، فجلس على سريره، فسمع رهجا قريبا منه، قال: ما هذا؟ قالوا: بلقيس قد نزلت منا بهذا المكان، وكان على مسيرة فرسخ من سليمان، فأقبل سليمان على جنوده، فقال:
{يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا..} . إلخ ولا تنس: أن «رجع» يكون متعديا، ولازما.
الإعراب: {اِرْجِعْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {إِلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ:} الفاء: حرف تعليل وقيل: حرف استئناف، والأول أقوى.
اللام: واقعة في جواب قسم مقدر، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. (نأتينهم): فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، التي هي حرف لا محل، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره:«نحن» ، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به. {بِجُنُودٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية جواب القسم المقدر، لا محل لها. {لا:} نافية للجنس تعمل عمل «إن» . {قِبَلَ:} اسم {لا} مبني على الفتح في محل نصب. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {لا} . {بِها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ثان. وقيل متعلقان ب: {قِبَلَ} لتضمنه معنى المصدر، وتعليقهما بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف جيد معنى. تأمل. والجملة الاسمية:
{لا قِبَلَ..} . إلخ في محل جر صفة: (جنود). {وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها} هذه الجملة معطوفة على ما قبلها. وهي في التقدير جواب لقسم مقدر، وإعرابها مثل إعراب سابقتها. {أَذِلَّةً:} حال من الضمير المنصوب. {وَهُمْ:} الواو: واو الحال، (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {صاغِرُونَ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الاسمية:{وَهُمْ صاغِرُونَ} في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الواو، والضمير، وقد تعددت الحال مختلفة في الإفراد والجملة، بعد هذا: فالآية كلها في محل نصب مقول القول؛ لأنها من جملة كلام سليمان، على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
الشرح: {قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا:} هذا النداء لكلّ من هو عنده في قبضته من الجن، والإنس، والطير، وغير ذلك. {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها:} يحضره إليّ. {قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ:} طائعين منقادين، وكان سليمان إذ ذاك في بيت المقدس، وعرشها في سبأ، بلدة في اليمن، وبينها وبين بيت المقدس مسيرة شهرين.
هذا؛ ولقد اختلف في فائدة إحضار عرشها قبل حضورها. قيل: غرض سليمان في ذلك ليريها قدرة الله تعالى، وإظهار معجزة دالة على نبوته. وقيل: أراد أن ينكّره، ويغيّره قبل مجيئها
ليختبر بذلك عقلها؛ لأن الجن قالوا له: إن في عقلها خللا، وقيل: إن سليمان علم: أنها إن أسلمت حرم عليه مالها، فأراد أن يستولي عليه قبل أن يحرم عليه أخذه؛ لأنها حربية، ومال الحربي يحل أخذه بأية وسيلة كانت. وقيل: أراد أن يعرف صدق الهدهد في قوله {وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ} وقيل: أراد أن يعرف قدر ملكها؛ لأنّ السرير على قدر الملك. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا:} انظر الآية رقم [29] ففيها الكفاية. {أَيُّكُمْ:} اسم استفهام مبتدأ. والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {يَأْتِينِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {أَيُّكُمْ،} والنون للوقاية، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. {بِعَرْشِها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ها): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {قَبْلَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله أيضا. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب.
{يَأْتُونِي:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم في محل نصب مفعول به، و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بإضافة {قَبْلَ} إليه، التقدير: قبل إتيانهم. {مُسْلِمِينَ:}
حال من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، والكلام:{يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ:} مارد من الجن، يقرأ بكسر العين، وفتحها، وهي قراءة الجمهور، وقرأ أبو رجاء، وعيسى الثقفي:«(عفرية)» ورويت عن أبي بكر الصديق-رضي الله عنه ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله يبغض العفرية النّفرية» . قال قتادة: هي الداهية. وقال النحاس:
يقال للشديد إذا كان معه خبث ودهاء: عفر، وعفرية، وعفريت، وعفارية، وقيل: عفريت؛ أي:
رئيس، وكان اسم هذا العفريت ذكوان، أو صخرا، ومن هذا الاسم قول ذي الرمة:[البسيط]
كأنّه كوكب في إثر عفرية
…
مصوّب في سواد الليل منقضب
وأنشد الكسائي قول رؤبة من قصيدة مدح بها مسلمة بن عبد الملك: [الرجز]
إذ قال شيطانهم العفريت
…
ليس لكم ملك ولا تثبيت
هذا؛ ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم أيضا: «إن الله ليبغض العفريت النفريت» . قيل: هو الجموع المنوع من الناس. وقال أبو عثمان النهدي-رضي الله عنه: دخل رجل عظيم على النبي صلى الله عليه وسلم،
فقال له: «متى عهدك بالحمّى؟» . قال: ما أعرفها، قال:«فبالصّداع؟» . قال: ما أدري ما هو، قال:«أفأصبت بمالك؟» قال: لا، قال:«أفرزئت بولدك؟» . قال: لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله ليبغض العفريت النفريت، وهو الذي لا يرزأ» .
{أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ} أي: من مجلسك للحكم، وكان يجلس إلى نصف النهار. {وَإِنِّي عَلَيْهِ} أي: على العرش. {لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} أي: قوي على حمله، أمين على ما فيه من الجواهر وغيرها، وكان هذا المارد مثل الجبل يضع قدمه عند منتهى طرفه، فقال سليمان: أريد أسرع من ذلك، عند ذلك {قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ..} . إلخ.
تنبيه: فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ عفريتا من الجنّ تفلّت عليّ البارحة؛ ليقطع عليّ الصّلاة، وإنّ الله أمكنني منه، فدعتّه» . رواه البخاري، ومعنى «تفلّت»:
تعرض لي فلتة؛ أي: بغتة، ومعنى «دعته»: دفعته دفعا شديدا. وفي رواية قذعته؛ أي: خنقته.
الإعراب: {قالَ:} فعل ماض. {عِفْرِيتٌ:} فاعله. {مِنَ الْجِنِّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {عِفْرِيتٌ} . {أَنَا:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {آتِيكَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. والفاعل ضمير مستتر تقديره:«أنا» .
والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به. والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. هذا؛ ويحتمل أن يكون {آتِيكَ:} اسم فاعل، فهو خبر مفرد مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. وانظر مثله في الآية رقم [95] من سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام.
{بِهِ:} جار ومجرور متعلقان ب: {آتِيكَ} على الوجهين المعتبرين فيه. {قَبْلَ:} ظرف زمان متعلق به أيضا. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {تَقُومَ:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ،} والفاعل مستتر تقديره: «أنت» . {مِنْ مَقامِكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة. و {أَنْ} والفعل (تقوم) في تأويل مصدر في محل جر بإضافة: {قَبْلَ} إليه.
والجملة الاسمية: {أَنَا آتِيكَ} في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَإِنِّي:} الواو: واو الحال. (إني): حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم ضمير متصل في محل
نصب اسمها، {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما على التنازع. {لَقَوِيٌّ:} اللام: هي المزحلقة. (قوي أمين): خبران ل (إن)، والجملة الاسمية: (إني عليه
…
) إلخ في محل نصب حال من الضمير المستتر ب: {آتِيكَ،} والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ:} قيل: هو ملك بيده كتاب المقادير، أرسله الله عند قول العفريت. وقيل: هو جبريل عليه السلام، والكتاب على هذا هو: اللوح المحفوظ. وقيل:
هو الخضر، وقيل: هو آصف بن برخيا، وهو الأصح، وعليه الجمهور، وكان عنده اسم الله الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب. وإذا سئل به أعطى. روي: أنه صلى ركعتين، ثم قال لسليمان:
يا نبي الله! امدد بصرك، فمد بصره، نحو اليمن فإذا بالعرش، فما رد بصره إلا وهو عنده. وقيل:
هو سليمان نفسه، وعليه؛ فالخطاب في:{أَنَا آتِيكَ} للعفريت، وكأنه استبطأه، فقال له ذلك.
والمعتمد: أنه آصف، كما قدمت. فهو كرامة له، ومعجزة لسليمان، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام؛ لأن كرامة الولي معجزة لنبيه الذي كان سببا في هدايته إلى الدين القويم، وقد اختلف في الكيفية التي كان فيها إحضار العرش، فالله أعلم أي ذلك كان، فالتفويض أولى.
هذا؛ وقد قالت عائشة-رضي الله عنها-قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ اسم الله الأعظم الّذي دعا به آصف بن برخيا يا حيّ يا قيّوم» . وقال الزهري: دعاء الذي عنده اسم الله الأعظم: يا إلهنا وإله كل شيء، إلها واحدا، لا إله إلا أنت ايتني بعرشها! فمثل بين يديه. وقال مجاهد: دعا، فقال:
يا إلهنا، وإله كل شيء، يا ذا الجلال والإكرام!.
{طَرْفُكَ:} الطرف: تحريك جفن العين إذا نظرت، فوضع موضع النظر، ولما كان الناظر موصوفا بإرسال الطرف في نحو قول الشاعر:[الطويل]
وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا
…
لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الّذي لا كلّه أنت قادر
…
عليه ولا عن بعضه أنت صابر
وصف برد الطرف، ووصف الطرف بالارتداد، وقد يراد بالطرف: الجفن خاصة، كما في قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:[الطويل]
أشارت بطرف العين خيفة أهلها
…
إشارة مخزون، ولم تتكلّم
فأيقنت أنّ الطّرف قد قال مرحبا
…
وأهلا وسهلا بالحبيب المتيّم
ويقال: ما طبق طرفه، أي جفنه على الآخر، والطرف بالمعنى السابق لا يثنى، ولا يجمع؛ لأنه في الأصل مصدر، فيكون واحدا، وجمعا، قال تعالى في سورة (إبراهيم):{لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ} رقم [43] وهو هنا بفتح الطاء وسكون الراء، وهو بفتحهما: حرف الشيء، ومنتهاه، وجمعه: أطراف، قال تعالى في سورة (طه) رقم [130]:{وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى} . وهو بكسر الطاء، وسكون الراء: الكريم من الخيل، وقد يراد به أيضا الكريم الطرفين؛ أي: الأب، والأم، ويجمع على أطراف أيضا.
{فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا:} ثابتا بين يديه غير متقلقل، وليس بمعنى الحصول المطلق؛ إذ لو كان كذلك لم يذكر، فهو كون خاص، انتهى. مغني. {قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} أي: هذا النصر، والتمكين من حصول المراد. {لِيَبْلُوَنِي:} ليختبرني ربي {أَأَشْكُرُ} أي: نعمته عليّ؛ بأن أرى ذلك فضلا بلا حول ولا قوة مني، وأقوم بحقه، {أَمْ أَكْفُرُ} أي: أجحد نعمته عليّ، وأقصر بالقيام في حقه. {وَمَنْ شَكَرَ} أي: النعمة، وأدى حق الله فيها، {فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ:} يرجع نفع ذلك إلى نفسه، لا إلى غيره، حيث يستوجب بشكره تمام النعمة ودوامها، والمزيد منها، كما قال تعالى:
{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} والشكر قيد النعمة الموجودة، وبه تنال النعمة المفقودة، {وَمَنْ كَفَرَ} أي: جحد النعمة. ولم يقم بشكرها. {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ} أي: عن العباد، وعن شكرهم. {كَرِيمٌ:}
يتفضل على العباد لا يقطع نعمة عنهم إذا أعرضوا عن شكره، وقصروا في واجب النعمة، وفي سورة (لقمان) رقم [12]. {فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} انظر شرحها هناك، فإنه جيد.
هذا؛ وسمى الله سبحانه جحود النعمة: كفرا؛ لأن معنى الكفر الغوي: الستر، والتغطية.
كما في الآية رقم [43] الآتية. أما الفعل: شكر، فيتعدى بنفسه، وبحرف الجر، تقول: شكرته، وشكرت له، كما تقول: نصحته، ونصحت له، وانظر شرح الشكر لغة، واصطلاحا في الآية رقم [15].
الإعراب: {قالَ:} فعل ماض، {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل. {عِنْدَهُ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {عِلْمٌ:} مبتدأ مؤخر. {مِنَ الْكِتابِ:} جار ومجرور متعلقان ب {عِلْمٌ؛} لأنه مصدر، أو بمحذوف صفة له، والجملة الاسمية صلة الموصول، لا محل لها. هذا؛ ويجوز اعتبار الظرف متعلقا بمحذوف صلة الموصول، فيكون {عِلْمٌ} فاعلا به، أي: بمتعلقه، وهذا لا غبار عليه. {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} إعراب هذا الكلام مثل إعراب:{أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ:} بلا فارق، وهو في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لما): انظر الآية رقم [8]، {رَآهُ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«هو» ، يعود إلى سليمان، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به. {مُسْتَقِرًّا:} حال من الضمير المنصوب، وفاعله مستتر فيه. {عِنْدَهُ:} ظرف مكان متعلق ب: (مستقرا). انظر الشرح فإنه جيد، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{رَآهُ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية على اعتبار (لما) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لما) إليها على اعتبارها ظرفا {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى سليمان أيضا. {هذا:} الهاء: حرف تنبيه لا محل له. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {مِنْ فَضْلِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر المبتدأ، و {فَضْلِ} مضاف، و {رَبِّي} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.
{لِيَبْلُوَنِي:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف مدلول عليه بما قبله، التقدير: تفضل عليّ ليبلوني.
{أَأَشْكُرُ:} الهمزة: حرف استفهام. (أشكر): فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية في محل نصب بدلا من ياء المتكلم، {أَمْ:} حرف عطف، وجملة:{أَكْفُرُ:} مع المفعول المحذوف معطوفة على ما قبلها، والكلام:{هذا مِنْ فَضْلِ..} .
إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ هذا..} . إلخ جواب (لما)، لا محل لها، و (لما) ومدخولها كلام مستأنف لا محل لها.
{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَشْكُرُ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، وفاعله مستتر تقديره:
«هو» يعود إلى (من)، ومفعوله محذوف. {فَإِنَّما:} الفاء: واقعة في جواب الشرط، (إنما):
كافة، ومكفوفة، {يَشْكُرُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (من). {لِنَفْسِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. وقيل:(ما) مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل نصب اسم:
(إنّ)، التقدير: فإن ثواب شكره
…
و {لِنَفْسِهِ} متعلقان بمحذوف خبر: (إن)، وبذلك تكون الجملة اسمية في محل جزم جواب الشرط، ويرجحه قوله تعالى:{فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} في الجملة التالية، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط، وقيل: جملة الجواب، وقيل: الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين.
هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا مبتدأ، وجملة:{أَشْكُرُ} صلته، والجملة الفعلية:{فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} خبره؛ فهو جيد، وتكون الفاء زائدة دخلت على الخبر؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم. {وَمَنْ كَفَرَ:} مثل: (من شكر). {فَإِنَّ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إن): حرف مشبه بالفعل. {رَبِّي:} اسم (إن) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
إلخ، {غَنِيٌّ كَرِيمٌ:} خبران ل: (إن)، والجملة الاسمية:{فَإِنَّ رَبِّي..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط، وتتمة الكلام مثل سابقه بلا فارق، والكلام:{وَمَنْ شَكَرَ..} . إلخ مستأنف، وهو في محل نصب مقول القول؛ لأنه من جملة قول سليمان على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
{قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41)}
الشرح: {قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها:} بتغيير شكله، وهيئته. وقيل: هو أن يزاد فيه، أو ينقص منه. وقيل: هو أن يجعل أعلاه أسفله، ويجعل مكان الجوهر الأحمر أخضر، ومكان الأخضر أحمر، {نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي} إلى معرفته، {أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ} إلى معرفته، والجواب الصواب. وقيل: أتهتدي إلى الإيمان بالله ورسوله؛ إذا رأت عرشها عندنا، وقد خلفته في قصرها مغلقة عليه الأبواب، موكلة عليه الحراس.
قال الفراء وغيره: إنما أمر سليمان بتنكير عرشها؛ لأن الشياطين قالوا له: إن في عقلها شيئا، فأراد أن يمتحنها. وقيل: خافت الجن أن يتزوجها سليمان، فيولد له منها ولد، فيبقون مسخرين لآل سليمان أبدا؛ لأن أمها جنية كما ذكرته لك فيما سبق. فقالوا لسليمان: إنها ضعيفة العقل.
ورجلها كرجل الحمار، وإنها شعراء الساقين، فقال:{نَكِّرُوا لَها عَرْشَها} لنعرف عقلها، وكان لسليمان-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-ناصح من الجن، فقال: كيف لي أن أرى قدميها من غير أن أسألها كشفهما؟ فقال: أنا أجعل لك في هذا القصر ماء، وأجعل فوق الماء زجاجا، تظن: أنه ماء، فترفع ثوبها، فترى قدميها، فهذا هو الصرح المذكور في الآية رقم [44].
الإعراب: {قالَ:} فعل ماض، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى سليمان، {نَكِّرُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون؛ لأنّ مضارعه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لَها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {عَرْشَها:} مفعول به، و (ها): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {نَنْظُرْ:} فعل مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للطلب، وقرئ برفعه على الاستئناف، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا، تقديره:«نحن» ، وهو معلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام. {أَتَهْتَدِي:} الهمزة: حرف استفهام. (تهتدي): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«هي» يعود إلى بلقيس، والمتعلق محذوف، انظر الشرح، والجملة الفعلية في محل نصب مفعول به للفعل {نَنْظُرْ} المعلق عن العمل لفظا بسبب
الاستفهام. {أَمْ:} حرف عطف. {تَكُونُ:} فعل مضارع ناقص، واسمه يعود إلى بلقيس. {مِنَ الَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {تَكُونُ،} وجملة: {لا يَهْتَدُونَ} صلة الموصول، لا محل لها، والكلام:{نَكِّرُوا لَها..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. وقال الجمل: معطوفة على المعنى، على قوله:{قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} .
والمقصود عطف المتعلق، فكان يكفي أن يقال: ونكروا لها عرشها، وإنما أعيد ذكر القول لكون المتعلق مختلفا لكونه أولا ثناء على الله تعالى، وثانيا متعلقا بشأن عرشها.
الشرح: {فَلَمّا جاءَتْ} أي: حضرت، ودخلت على سليمان. {قِيلَ} أي: لها. {أَهكَذا عَرْشُكِ:} تشبيها عليها، زيادة في امتحان عقلها. {قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ:} لم تقل: هو؛ لا حتمال أن يكون مثله، وذلك من كمال عقلها. وقيل: إنها عرفته، لكن شبهت عليهم كما شبهوا عليها.
وقيل: إنها كانت حكيمة، لم تقل: نعم؛ خوفا من الكذب، ولا قالت: لا؛ خوفا من التكذيب أيضا، فقالت: كأنه هو، فعرف سليمان كمال عقلها بحيث لم تقر، ولم تنكر، وقيل: اشتبه عليها أمر العرش؛ لأنها تركته في بيت، عليه سبعة أبواب مغلقة، والمفاتيح معها. قيل لها: فإنه عرشك، فما أغنى عنك إغلاق الأبواب.
{وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها} أي: من قبل هذه الآية في العرش، {وَكُنّا مُسْلِمِينَ} أي: منقادين خاضعين طائعين لأمر سليمان. وقيل: المعنى، أوتينا العلم بالله وبصحة نبوة سليمان بالآيات المتقدمة من أمر الهدهد، والرسل من قبل هذه الآية، وهذا على أن الكلام من كلام بلقيس. وقيل: هو من كلام سليمان، فيكون المعنى: أوتينا العلم بالله وبقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة، وقبل مجيئها. {وَكُنّا مُسْلِمِينَ} موحدين مؤمنين بالله، فيكون الغرض من هذا الكلام مزيد شكر الله على نعمته حيث خصه بمزيد من العلم، والتقدم في الإيمان، والتوحيد. وقيل: معناه: أوتينا العلم بإسلامها، ومجيئها طائعة من قبل وصولها إلينا، وهذا ضعيف، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لما): انظر الآية رقم [8]، {جاءَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«هي» يعود إلى بلقيس، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية على اعتبار:(لما) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لما) إليها على اعتبارها ظرفا. {قِيلَ:} فعل ماض مبني للمجهول {أَهكَذا:} الهمزة: حرف استفهام، والهاء:
حرف تنبيه لا محل له، والكاف حرف تشبيه، وجر، و (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وقد فصل في هذا التركيب بين (ها) التنبيه، واسم الإشارة بحرف الجر، وهو الكاف، والأصل اتصال (ها) التنبيه باسم
الإشارة، وهذا الفصل لا يجوز بغير الكاف من حروف الجر. {عَرْشُكِ:} مبتدأ مؤخر، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل رفع نائب فاعل:{قِيلَ،} وهذا جار على قول من يجيز وقوع الجملة فاعلا، ويكون جاريا على القاعدة في بناء الفعل للمجهول:
«يحذف الفاعل، ويقام المفعول به مقامه» وهذا لا غبار عليه. و {قِيلَ:} نائب الفاعل ضمير مستتر، تقديره:«هو» يعود إلى المصدر المفهوم من الفعل، أو هو محذوف يدل عليه المقام، التقدير: وقيل قول، وقيل: الجار والمجرور المقدران في الشرح في محل رفع نائب فاعل، وجملة:{قِيلَ} جواب (لما)، لا محل لها، و (لما) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.
{قالَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى بلقيس أيضا، {كَأَنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها، {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع خبر: (كأن)، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قالَتْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَأُوتِينَا:} الواو: حرف عطف. (أوتينا): فعل ماض مبني للمجهول مبني على السكون، و (نا): ضمير متصل في محل رفع نائب فاعل، وهو المفعول الأول. {الْعِلْمَ:} مفعول به ثان. {مِنْ قَبْلِها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {الْعِلْمَ،} والجملة الفعلية: {وَأُوتِينَا..} . إلخ في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: وقالت بلقيس: وأوتينا
…
إلخ، أو قال سليمان:
وأوتينا
…
إلخ، حسب ما رأيت في الشرح، وهذا الكلام معطوف على جملة:{قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} لا محل له مثلها. {وَكُنّا:} الواو: حرف عطف. (كنا): فعل ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): ضمير متصل في محل رفع اسمه. {مُسْلِمِينَ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، وجملة:{وَكُنّا مُسْلِمِينَ} معطوفة على ما قبلها، فمحلها مثل محل ما قبلها.
{وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43)}
الشرح: {وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ:} صرفها عن الإيمان بالله، وتوحيده، وعبادته ما كانت تعبده من دون الله من عبادة الشمس، وغيرها. وقيل المعنى: وصدها سليمان عن ما كانت تعبده من دون الله، وذلك بسبب إسلامها على يديه، فحال بينها، وبين ذلك. {إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ:} قرئ بكسر الهمزة وفتحها، وهذا الكلام من إخبار الله تعالى بأنها كانت كافرة؛ لأنها نشأت بين قوم كافرين.
هذا؛ والعبادة غاية التذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال، وهو الله تعالى؛ ولذا يحرم السجود لغيره تعالى. وقيل: العبودية أربعة: الوفاء بالعهود، والرضا بالموجود، والحفظ للحدود، والصبر على المفقود. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: أنا، والإنس، والجن في
نبأ عظيم، أخلق، ويعبد غيري، وأرزق، ويشكر غيري». هذا؛ وانظر (الكفر) في الآية رقم [19] من سورة (الشعراء).
الإعراب: {وَصَدَّها:} الواو: حرف عطف. (صدها): فعل ماض، و (ها) ضمير متصل في محل نصب مفعول به. {ما:} اسم موصول، أو نكره موصوفة مبنية على السكون في محل رفع فاعل. {كانَتْ:} فعل ماض ناقص، واسمها ضمير مستتر تقديره:«هي» يعود إلى بلقيس، والتاء للتأنيث حرف لا محل له. {تَعْبُدُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى بلقيس أيضا، ومفعوله محذوف، وهو عائد الموصول، أو رابط النكرة الموصوفة. وجملة:{كانَتْ تَعْبُدُ} صلة: {ما،} أو صفتها، التقدير: وصدها الذي، أو: شيء كانت تعبده. {مِنْ دُونِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب المحذوف. و {دُونِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. هذا؛ وأجيز اعتبار:{ما} مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل رفع فاعل، فيكون التقدير:
وصدها كونها عابدة من دون الله، أو التقدير: وصدها عبادة الشمس عن التقدم إلى الإيمان، والإسلام. هذا؛ وقيل: الفاعل يعود إلى سليمان، أو إلى:{اللهِ} ويكون التقدير: وصدها سليمان، أو {اللهِ} عن الذي كانت تعبده من دون الله، وذلك بهدايتها إلى الإسلام.
{إِنَّها:} حرف مشبه بالفعل، و (ها): ضمير متصل في محل نصب اسمها. {كانَتْ:} فعل ماض ناقص، والتاء للتأنيث، واسمه يعود إلى بلقيس أيضا. {مِنْ قَوْمٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {كانَتْ} . {كافِرِينَ:} صفة {قَوْمٍ} مجرور
…
إلخ، والجملة الاسمية:{إِنَّها..} .
إلخ مستأنفة، لا محل لها. هذا؛ وعلى قراءة فتح الهمزة تؤول مع اسمها وخبرها بمصدر على أنه بدل من:{ما،} أو على أنه في محل جر بلام تعليل محذوفة، التقدير: لكونها من قوم كافرين، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:(صدها)، وجملة:{وَصَدَّها..} . إلخ معطوفة على جملة (أوتينا
…
) إلخ في الآية السابقة.
الشرح: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ:} القصر، وذلك: أن سليمان لما اختبر عقلها بتنكير العرش، وأراد أن ينظر إلى ساقيها، وقدميها من غير أن يسألها كشفهما؛ لما أخبرته الجن: أن رجليها كحافر الحمار، وهي شعراء الساقين؛ أمر الشياطين أن يعملوا له قصرا من الزجاج الأبيض كالماء. وقيل:{الصَّرْحَ:} صحن الدار، وأجرى تحته الماء، وألقى فيه السمك، والضفادع،
ونحوهما من دواب البحر، ثم وضع سريره في صدر المجلس، وجلس عليه، ولما جاءت قيل لها: ادخلي الصرح، وهذا بخلاف صرح فرعون المذكور في الآية رقم [38] من سورة (القصص).
{فَلَمّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً:} أي ظنته ماء عظيما راكدا. هذا؛ ولجة الماء: معظمه، وجمعه:
لجج، ولما رأت لجة الماء؛ فزعت، وظنت: أن سليمان قصد بها الغرق، وتعجبت من كون كرسيه على الماء، ورأت ما هالها، ولم يكن لها من امتثال الأمر بدّ. هذا؛ وفي هذه الجملة تشبيه مأخوذ من معنى:{حَسِبَتْهُ،} فقد شبهت الصرح بلجة الماء فهو قسم من أقسام التشبيه جاءت فيه الأداة فعلا من أفعال الظن، ومثله آية (الكهف) رقم [18]، وآية (الدهر) رقم [19].
{وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها:} فإذا هي من أحسن الناس ساقا، سليمة مما قالت الجن، غير أنها كثيرة الشعر، فلما بلغت هذا الحد، قال لها سليمان بعد أن صرف نظره عنها:{إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ} والممرّد: المملّس المحكوك، ومنه: الأمرد لملاسة وجهه، أي: نعومته لعدم وجود الشعر به، والقوارير: الزجاج الأبيض الجميل.
هذا؛ والقوارير جمع: القارورة. وفي المصباح: القارورة: إناء من زجاج، والجمع:
القوارير، والقارورة أيضا: وعاء الرطب والتمر، وهي القوصرّة، وتطلق القارورة على المرأة؛ لأن الولد، أو المني يقر في رحمها، كما يقر الشيء في الإناء، أو تشبيها بآنية الزجاج لضعفها.
وفي الحديث الشريف: «رفقا بالقوارير» . قال الأزهري: والعرب تكني عن المرأة بالقارورة والقوصرة انتهى. وفي القاموس: القارورة: حدقة العين، وما قرّ فيه الشراب، أو نحوه، أو يخصّ بالزجاج، و {قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ} أي: من زجاج في بياض الفضة وصفاء الزجاج.
وعند ذلك استسلمت، وأذعنت، وأقرت على نفسها بالظلم؛ حيث قالت:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي..} . إلخ. ولما رأى سليمان-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-قدميها؛ قال لناصحه من الشياطين: كيف لي أن أقلع هذا الشعر من غير مضرة بالجسد؟ فدله على عمل النورة، فكانت النورة، والحمامات من يومئذ. هذا؛ وقيل في معنى ظلمها لنفسها: إنها ظنت:
أن سليمان يريد أن يغرقها في الماء. والأصح: أنها أرادت ظلمات نفسي بعبادة غير الله تعالى، ونحوها؛ والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
واختلفوا في أمر بلقيس بعد إسلامها، فقيل: انتهى أمرها إلى قولها: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} ولا علم لأحد وراء ذلك؛ لأنه لم يذكر في الكتاب، ولا في خبر صحيح. وقال بعضهم: تزوجها سليمان، وأحبها حبا شديدا، وأقرها على ملكها، وأمر الجن فابتنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون، لم ير الناس مثلها ارتفاعا وحسنا، وهي سلحين، وبينون، وغمدان، ثم كان يزورها في كل شهر مرة، ويقيم عندها ثلاثة أيام، يبكر من الشام إلى اليمن، ومن اليمن إلى الشام، وولدت له ولدا ذكرا، أسماه داود، مات في حياته.
وقال وهب بن منبه: زعموا أن بلقيس لما أسلمت، قال لها سليمان: اختاري رجلا من قومك حتى أزوجك إياه، فقالت: ومثلي يا نبي الله ينكح الرجال، وقد كان لي من قومي الملك والسلطان؟! قال: نعم، إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك، ولا ينبغي لك أن تحرمي ما أحل الله، قالت: فإن كان ولا بد فزوجني ذا تبّع ملك همدان، فزوجها إياه، وذهب بها إلى اليمن، وملك زوجها على اليمن، ودعا زوبعة ملك الجن، وقال له: اعمل ل: «ذي تبّع» ما استعملك فيه، فلم يزل يعمل له ما أراده إلى أن مات سليمان، وحال الحول، وعلم الجن موته، فأقبل رجل منهم حتى بلغ جوف اليمن، وقال بأعلى صوته: يا معشر الجن إن الملك سليمان قد مات، فارفعوا أيديكم، فرفعوا أيديهم، وتفرقوا، وانقضى ملك سليمان، وملك «ذي تبع» وملك بلقيس، وبقي الملك لله الواحد القهار. قيل: إن سليمان-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة. انتهى. خازن بتصرف.
الإعراب: {قِيلَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {لَهَا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.
{اُدْخُلِي:} فعل أمر مبني على حذف النون؛ لأن مضارعه من الأفعال الخمسة، والياء ضمير متصل في محل رفع فاعل. {الصَّرْحَ:} مفعول فيه ظرف مكان متعلق بالفعل قبله عند بعض، وفي مقدمتهم سيبويه، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [24]. وجملة:{اُدْخُلِي الصَّرْحَ} في محل رفع نائب فاعل {قِيلَ،} وانظر ما ذكرته في الآية رقم [42] ففيها الكفاية، وجملة:{قِيلَ لَهَا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لما): انظر الآية رقم [8]، {رَأَتْهُ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث الساكنة التي هي حرف لا محل له، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به، وقد اكتفى الفعل به؛ لأنه بصري، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«هي» يعود إلى بلقيس، والجملة الفعلية لا محل لها على اعتبار (لما) حرفا؛ لأنها ابتدائية، وفي محل جر بإضافة (لما) إليها على اعتبارها ظرفا، {حَسِبَتْهُ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى بلقيس أيضا، والتاء للتأنيث، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به أول. {لُجَّةً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية جواب (لما)، لا محل لها، و (لما) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَكَشَفَتْ:} الواو: حرف عطف. (كشفت): فعل ماض، والفاعل يعود إلى بلقيس أيضا، والتاء للتأنيث، {عَنْ ساقَيْها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، و (ها): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها:} معطوفة على جواب (لما)، لا محل لها مثلها.
{قالَ:} فعل ماض، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى (سليمان). {إِنَّهُ:}
حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها. {الصَّرْحَ:} خبر (إن).
{مُمَرَّدٌ:} صفة: {الصَّرْحَ،} {مِنْ قَوارِيرَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ثانية ل {الصَّرْحَ،} أو بمحذوف حال منه بعد وصفه بما تقدم على حد قوله تعالى: {وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ}
أَنْزَلْناهُ وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف لصيغة منتهى الجموع، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها مستأنفة، {قالَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى بلقيس، تقديره:
«هي» . {رَبِّ:} منادى حذفت منه أداة النداء، وانظر الآية رقم [169] من سورة (الشعراء) الشرح والإعراب تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {ظَلَمْتُ:} فعل، وفاعل. {نَفْسِي:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، وجملة:{ظَلَمْتُ نَفْسِي:} في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَتْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَأَسْلَمْتُ:}
الواو: حرف عطف. (أسلمت): فعل، وفاعل. {مَعَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله أو هو متعلق بمحذوف حال من تاء الفاعل، وهو أولى، و {مَعَ} مضاف، و {سُلَيْمانَ} مضاف إليه مجرور وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون. هذا؛ وقيل:{مَعَ} حرف جر، ولا أعتمده. {لِلّهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {رَبِّ:}
صفة لفظ الجلالة، أو هو بدل منه، و {رَبِّ} مضاف، و {الْعالَمِينَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وجملة:{وَأَسْلَمْتُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها.
الشرح: {ثَمُودَ:} قبيلة عربية مثل قبيلة: «عاد» سميت باسم أبيها الأكبر، ثمود بن غابر، بن سام، بن نوح، وهو أخو جديس بن غابر، وكانت منازل ثمود الحجر بين الحجاز، والشام إلى وادي القرى وما حوله. قال أبو عمرو بن العلاء: سميت ثمود لقلة مائها، والثمد:
الماء القليل، والأول هو المعتمد. فإن جعلته اسما لمذكر صرفته، وإن جعلته اسما لمؤنث منعته، وقرئ بصرفه شاذا. (صالح): هو ابن عبيد بن آسف، بن ماشخ، بن عبيد بن حاذر، بن ثمود، وليس من أنبياء بني إسرائيل ك:(هود)، وكان بينهما مئة سنة، وعاش صالح مئتي سنة، كما في التحبير للسيوطي، وأخوته لقومه إخوة نسب، لا أخوة دين، كأخوة هود ونوح، وغيرهما إلى أقوامهم. هذا؛ وعاش هود أربعمئة وأربعا وستين سنة وبين هود، ونوح ثمانمئة سنة.
{فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ:} ذكر هذين الفريقين جاء في سورة (الأعراف) في قوله تعالى:
كافِرُونَ هذا؛ والفريق: الطائفة من الناس، والفريق أكثر من الفرقة، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه، كرهط، وقوم.
الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله. والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. اللام: واقعة في جواب القسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَرْسَلْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها، والقسم، وجوابه كلام مستأنف لا محل له. وانظر الآية رقم [23] من سورة (السجدة)، أو الآية رقم [37] من سورة (طه) لتتمة الإعراب. {إِلى ثَمُودَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {أَخاهُمْ:}
مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الألف نيابة عن الفتحة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {صالِحاً:} بدل، أو عطف بيان على:{أَخاهُمْ،} {أَنِ:} مفسرة؛ لأن الإرسال يتضمن معنى القول. {اُعْبُدُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهَ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية مفسرة للإرسال، لا محل لها. هذا؛ وأجيز اعتبار:{أَنِ} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بعبادة الله. {فَإِذا:} انظر الآية رقم [32] من سورة (الشعراء) ففيها الكفاية.
{أَخاهُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {فَرِيقانِ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الألف نيابة الضمة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على اعتبارها ظرفا. {يَخْتَصِمُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر ثان للمبتدأ، وأجيز اعتبارها صفة ل:{فَرِيقانِ} على المعنى، كقوله تعالى:{هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا} وقوله تعالى:
{وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا..} . إلخ. هذا؛ وأجيز تعليق (إذا) بالفعل: {يَخْتَصِمُونَ،} فيكون المعنى: فإذا قوم صالح فريقان: مؤمن به، وكافر به يختصمون. وقال ابن هشام: ويحتمل الحالية أيضا، أي: فإذا هم فريقان مختصمين.
الشرح: {قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ} أي: بالعقوبة، وهو قولهم:{وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} . {قَبْلَ الْحَسَنَةِ:} قبل التوبة، وطلب الرحمة، فتؤخرونها إلى نزول العذاب، فإنهم كانوا يقولون: إن صدق إيعاده؛ تبنا حينئذ. {لَوْلا:} هلا. {تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ:} تتوبون، وتطلبون المغفرة لذنوبكم. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ:} بقبول التوبة، وشمول
الرحمة؛ إن تبتم، ورجعتم إلى الله، وعبادته، وترك عبادة الأوثان، والأصنام. وانظر العجلة في الآية رقم [204] من سورة (الشعراء).
الإعراب: {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى صالح تقديره:«هو» . (يا): أداة نداء تنوب مناب أدعو. (قوم): منادى منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، والياء المحذوفة في محل جر بالإضافة، وحذف الياء هذه إنما هو بالنداء خاصة؛ لأنه لا لبس فيه، ومنهم من يثبت الياء ساكنة فيقول: يا قومي، ومنهم من يثبتها ويحركها بالفتحة، فيقول: يا قومي، ومنهم من يقلبها ألفا بعد فتح ما قبلها، فيقول: يا قوما. ومنهم من يحذف الياء بعد قلبها ألفا، وإبقاء الفتحة على الميم دليلا عليها، فيقول: يا قوم، ويزاد لغة سادسة، وهي لغة القطع، فتقول: يا قوم، {لِمَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما، و (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل جر باللام، وحذفت ألفها للفرق بين الخبر والاستخبار كما رأيت في الآية رقم [35]، {تَسْتَعْجِلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله. {بِالسَّيِّئَةِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {قَبْلَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، أو هو متعلق بمحذوف حال من السيئة.
و {قَبْلَ} مضاف، و {الْحَسَنَةِ} مضاف إليه. {لَوْلا:} حرف تحضيض. {تَسْتَغْفِرُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {اللهَ:} مفعول به منصوب على التعظيم. {لَعَلَّكُمْ:}
حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {تُرْحَمُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع
…
إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعل)، والجملة الاسمية:{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} تعليل للحض على الاستغفار، والكلام:{يا قَوْمِ..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {قالُوا} أي: مجيبين لصالح، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. {اِطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ:} تشاءمنا بك، وبمن معك؛ إذ تتابعت علينا الشدائد، وكانوا قد قحطوا، وجاعوا، وكذلك ما أصابهم من التفرق بسبب من آمن مع صالح. {قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ} أي:
سبب خيركم، وشركم عند الله، وهو حكمه، ومشيئته، أو سبب شؤمكم عند الله، وهو أعمالكم المكتوبة عنده، فإنها هي التي ساقت لكم ما يسوءكم. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما:
طائرهم: ما قضي لهم، وقدر عليهم. انتهى. هذا؛ وقد سمي ما قضي عليهم بذلك؛ لأنه لا شيء أسرع من نزول القضاء المحتوم. وقيل: طائركم: عملكم عند الله، سمي طائرا لسرعة صعوده إلى السماء، وقد استعير الطائر لما كان سبب الخير والشر من قدر الله، وقسمته، أو من عمل العبد الذي هو السبب في الرحمة، والنقمة.
{بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ:} تختبرون، وتمتحنون بتعاقب السراء، والضراء، هل تنتبهون إلى أن ما أصابكم من حسنة؛ فبفضل الله، وأن ما أصابكم من سيئة؛ فبسوء أعمالكم. وتشاؤمهم إغراق منهم بالغباوة، وقسوة القلب، فإن الشدائد ترقق القلوب، وتلين العرائك، سيما بعد مشاهدة المعجزة، وهي لم تؤثر فيهم، بل زادوا عتوا، وانهماكا في الغيّ، والضلال.
هذا؛ وقد كانت العرب في الجاهلية أكثر الناس طيرة، وكان أحدهم: إذا أراد سفرا نفّر الطير صباحا، فإن طار يمنة تيمن، وسار، وإن طار يسرة؛ أي: شمالا؛ رجع، وتشاءم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «لا عدوى، ولا طيرة
…
إلخ». رواه أبو هريرة.
وعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه: -أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الطّيرة شرك» . وانظر ما ذكرته في الآية رقم [19] من سورة (يس) ففيها فضل زيادة.
هذا؛ وأصل {اِطَّيَّرْنا} تطيرنا، أدغمت التاء في الطاء؛ لأنهما من مخرج واحد، واجتلبت همزة الوصل لأجل التوصل للنطق بالساكن الذي هو الطاء المدغمة؛ لأن المدغم ساكن دائما، وقد قرئ:«(تطيّرنا)» على الأصل، وانظر رقم [66].
الإعراب: {قالُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق.
{اِطَّيَّرْنا:} فعل، وفاعل. {بِكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {وَبِمَنْ:} الواو: حرف عطف، (بمن): جار ومجرور معطوفان على {بِكَ} . {مَعَكَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (صالح) تقديره:«هو» . {طائِرُكُمْ:} مبتدأ، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، و {عِنْدَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {بَلْ:} حرف عطف، وانتقال.
{أَنْتُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {قَوْمٌ:} خبره. {تُفْتَنُونَ:}
فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع
…
إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع صفة {قَوْمٌ} .
وهذه الصفة وطئ لها بلفظ {قَوْمٌ،} فهي المرادة؛ لا لفظ {قَوْمٌ؛} لأنهم معلومون بأنهم قوم، ولهذا أعيد الضمير بعد {قَوْمٌ} إلى ما قبله لا إليه، وإلا لقيل:(يفتنون) بالغيبة فيه؛ لأن {قَوْمٌ} اسم ظاهر وهو من قبيل الغيبة، ومثل هذه الآية قوله تعالى في الآية رقم [55]:{بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} وقل مثل ذلك في الحال الموطئة في قوله تعالى: {إِنّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} الآية رقم [2] من سورة (يوسف) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. والجملة
الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها؛ لأنها وما قبلها وما أشبههما بمنزلة جواب لسؤال مقدر؛ إذ التقدير: فما كان الجواب من صالح
…
إلخ.
{وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48)}
الشرح: {وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ:} مدينة ثمود، وهي الحجر المصرح بها في كثير من الآيات، {تِسْعَةُ رَهْطٍ:} وإنما جاز تمييز التسعة بالرهط؛ لأنه في معنى الجماعة، فكأنه قيل:
تسعة أنفس. هذا؛ و «رهط» : اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل: نفر ومعشر
…
إلخ، والفرق بين الرهط، والنفر: أن الرهط من الثلاثة إلى العشرة، أو من السبعة إلى العشرة، والنفر من الثلاثة إلى التسعة، من الرجال، وليس فيهم امرأة. هذا؛ وجمع رهط: أرهط، وأراهط.
وأسماؤهم عن وهب بن منبه: الهذيل بن عبد رب، غنم بن غنم، رياب بن مهرج، مصدع بن مهرج، عمير بن كردبة، عاصم بن مخرمة، سبيط بن صدقة، سمعان بن صيفي، قدار بن سالف، وهم الذين سعوا في عقر الناقة، وكانوا عتاة قوم صالح، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. وكانوا من أبناء أشرافهم. انتهى. كشاف. وقيل في أسمائهم غير ذلك، والله أعلم.
{يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} أي: بالكفر، وارتكاب المعاصي، والمنكرات لا يتورعون عن شيء، {وَلا يُصْلِحُونَ} أي: شأنهم الإفساد الخالص، الخالي من شوائب الصلاح، كما ترى بعض المفسدين، قد يندر منهم بعض الصلاح في هذه الأيام. قيل: فسادهم: أنهم كانوا يتبعون عورات الناس، ولا يسترون عليهم؛ والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَكانَ:} الواو: حرف استئناف. (كان): فعل ماض ناقص. {فِي الْمَدِينَةِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: (كان). تقدم على اسمها. {تِسْعَةُ:} اسم (كان) مؤخر، وهو مضاف، و {رَهْطٍ} مضاف إليه. {يُفْسِدُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع صفة:{تِسْعَةُ،} أو في محل جر صفة {رَهْطٍ} . {فِي الْأَرْضِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {يُصْلِحُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، ومتعلقه محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل صفة مثلها، التقدير: تسعة رهط مفسدون، أو مفسدين في الأرض، وغير مصلحين، وجملة:{وَكانَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها؛ لأنها ليست من قول قوم صالح، ولا من قول صالح، وإنما من إخبار الله تعالى.
الشرح: {قالُوا} أي: المتآمرون على قتل صالح، أي: قال بعضهم لبعض. {تَقاسَمُوا بِاللهِ:} يحتمل الأمر، والماضي، والمعنى: تحالفوا بالله، وفيه دليل على أن الكفار يعتقدون بوجود إله يسمونه الله، وإن كان لهم فيه اعتبارات حسب المعبودات التي كانوا ينصبونها للعبادة، ويعظمونها، ويقدسونها في كل زمان ومكان، حتى الملحدين في هذه الأيام، فإنهم يلهجون بحركاتهم، وسكناتهم بكلمة (يا الله) من حيث لا يشعرون. {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ:} لنباغتن صالحا، وأهله ليلا. وقرئ الفعل بالنون، والياء، والتاء، ومثله (لنقولن) وعلى قراءتهما بالنون مفتوح ما قبل النون، وعلى قراءتهما بالتاء والياء مضموم ما قبل النون، وانظر الإعراب.
{ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} أي: لأقربائه الذين لهم ولاية الدم، وحق المطالبة بدمه. {ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ:} ما حضرنا، ولا ندري من قتله وأهله؛ أي: لا علم لنا بذلك قطعا. {وَإِنّا لَصادِقُونَ:} فيما نقول من إنكارنا العلم بقتله، وقتل أهله. هذا؛ ويقرأ:{مَهْلِكَ} بضم الميم وفتح اللام على زنة المفعول، ويقرأ بفتح الميم مع كسر اللام وفتحها، فالقراآت ثلاث سبعيات، وانظر شرح {أَهْلَهُ} في الآية رقم [169] من سورة (الشعراء).
تنبيه: قال السدي، وغيره: أوحى الله تعالى إلى صالح-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-: إن قومك سيعقرون ناقتك، فقال لهم ذلك، فقالوا: ما كنا لنفعل، فقال لهم: إنه سيولد في شهركم هذا غلام يعقرها، ويكون هلاككم على يديه، فقالوا: لا يولد في هذا الشهر غلام إلا قتلناه، فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر أولاد ذكور، فذبحوا أبناءهم، ثم ولد للعاشر، فأبى أن يذبح ولده، وكان لم يولد له قبل ذلك ذكر، وكان ابن العاشر أزرق أحمر، فنبت نباتا سريعا، وكان إذا مر بالتسعة، فرأوه؛ قالوا: لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا، وغضب التسعة على صالح؛ لأنه كان سبب قتلهم أبناءهم، فتعصبوا، وتقاسموا بالله
…
إلخ.
قالوا لما عزموا على قتله: نخرج إلى سفر، فنري الناس سفرنا، فنكون في غار، حتى إذا كان الليل، وخرج صالح إلى مسجده؛ أتيناه، فقتلناه، ثم قلنا: ما شهدنا مهلك أهله، وإنا لصادقون، فيصدقوننا، ويعلمون أننا خرجنا إلى سفر، وكان صالح-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-لا ينام معهم في القرية، وكان يأوي إلى مسجده، فإذا أصبح أتاهم، فوعظهم، فلما دخلوا الغار أرادوا أن يخرجوا، فسقط عليهم الغار، فقتلهم.
فرأى ذلك ناس ممن كان قد اطلع على ذلك، فصاحوا في أهل بلدتهم: يا عباد الله! أما رضي صالح أن أمر بقتل أولادهم حتى قتلهم، فأجمع أهل البلد على قتل الناقة. انتهى. قرطبي
من سورة (الشعراء) وكان الذي باشر قتلها قدار بن سالف برضاهم، انظر ما ذكرته في الآية رقم [157] من سورة (الشعراء). هذا؛ وما تقدم يفيد: أن قوم صالح بقوا مدة طويلة بعد خروج الناقة من الصخرة، التي هي المعجزة التي اقترحوها عليه، وهذه المدة كانت من قبل ولادة قدار إلى بلوغه سن الشباب، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [158] من سورة (الشعراء).
الإعراب: {قالُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق.
{تَقاسَمُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. هذا؛ وأجيز اعتباره فعلا ماضيا مبنيا على الضم، والواو فاعله، وحينئذ يجوز أن يكون مفسرا ل:{قالُوا،} كأنه قيل: ما قالوا؟ فقيل: تقاسموا، ويجوز أن تكون الجملة في محل نصب حال من واو الجماعة على تقدير «قد» قبلها، أي قد قالوا ذلك متقاسمين.
{لَنُبَيِّتَنَّهُ:} اللام: واقعة في جواب القسم. (نبيتنه): فعل مضارع مبني على الفتح لا تصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره:«نحن» . هذا؛ وعلى قراءته بالتاء والياء فهو مرفوع، وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة المدلول عليها بالضمة في محل رفع فاعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية جواب:{تَقاسَمُوا،} لا محل لها. {وَأَهْلَهُ:} الواو: حرف عطف، (أهله):
معطوفة على الضمير المنصوب، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {ثُمَّ:} حرف عطف. {لَنَقُولَنَّ:} إعرابه مثل إعراب سابقه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {لِوَلِيِّهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وانظر الشرح، {ما:} نافية، {شَهِدْنا:} فعل ماض، و (نا) فاعله. {مَهْلِكَ:} مفعول به، أو هو ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و {مَهْلِكَ} مضاف، و {أَهْلَهُ} مضاف إليه من إضافة اسم المفعول لنائب فاعله، أو من إضافة المصدر لفاعله، أو من إضافة اسم المكان للحال فيه، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{ما شَهِدْنا..} . إلخ في محل نصب مقول القول. {وَإِنّا:} الواو: واو الحال. (إنا):
حرف مشبه بالفعل، و (نا): ضمير متصل في محل نصب اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {لَصادِقُونَ:} اللام: هي المزحلقة. (صادقون): خبر (إن) مرفوع
…
إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من (نا)، والرابط: الواو، والضمير، والكلام:{تَقاسَمُوا..} . إلخ، كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50)}
الشرح: {وَمَكَرُوا مَكْراً:} مكرهم الذي مكروه هو ما روي: أن قوم صالح-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-لما توعدهم بالهلاك بعد ثلاثة أيام من عقر الناقة كما رأيت في
سورة (الشعراء) اتفقوا وتحالفوا على أن يأتوا داره ليلا، ويقتلوه وأهله المختصين به، والمؤمنين الذين اتبعوه، واهتدوا بهديه؛ وقد قالوا: إذ كان كاذبا في وعيده؛ أوقعنا به ما يستحق، وإن كان صادقا؛ كنا قد عجلناه قبلنا، وشفينا قلوبنا. قاله مجاهد، وغيره.
{وَمَكَرْنا مَكْراً} أي: جازيناهم على مكرهم بتعجيل العذاب. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: أرسل الله الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح يحرسونه، فأتت تلك التسعة دار صالح، شاهرين سلاحهم وسيوفهم، فرمتهم الملائكة بالحجارة، وهم يرون الحجارة، ولا يرون الملائكة، فقتلتهم، وأهلك الله جميع القوم بالصيحة. انتهى. خازن. وهذا يخالف ما ذكرته في الآية السابقة عن القرطبي، والنتيجة واحدة، وهي نجاة صالح، وإهلاك قومه، كما رأيت في سورة (الأعراف) وسورة (هود) وغيرهما.
{وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ:} أن وبال مكرهم عائد عليهم بالويل، والثبور، وعظائم الأمور. هذا؛ والشعور: إدراك الشيء من وجه يدق، ويخفى، مشتق من الشعر لدقته، وسمي الشاعر شاعرا لفطنته، ودقة معرفته. هذا؛ و (المكر) معناه: الخبث، والخداع والاحتيال، والكيد، والتدبير الحرام. وهو مستحيل في حقه تعالى، وإنما نسبه الله إلى نفسه في هذه الآية وأمثالها من باب المقابلة، وهذا يسمى عند البلغاء بالمشاكلة؛ أي: ذكر الله جزاءهم، وعقابهم من جنس صنعهم، ومنه قوله تعالى:{نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ} وقوله: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} . وذلك كثير في كتاب الله تعالى: هذا؛ وخذ قول الشاعر: [الطويل]
قهرت العدا لا مستعينا بعصبة
…
ولكن بأنواع الخديعة والمكر
وأيضا قول زياد بن يسار: [الطويل]
تعلّم شفاء النّفس قهر عدوّها
…
فبالغ بلطف في التّحيّل والمكر
وهذا هو الشاهد رقم [1021] من كتابنا فتح القريب المجيب.
الإعراب: {وَمَكَرُوا:} الواو: حرف عطف. (مكروا): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مَكْراً:} مفعول مطلق؛ لأنه مصدر ميمي، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{قالُوا..} . إلخ لا محل لها مثلها. {وَمَكَرْنا:} الواو: حرف عطف. (مكرنا):
فعل، وفاعل. {مَكْراً:} مفعول مطلق أيضا، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {وَهُمْ:} الواو: واو الحال، (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لا:} نافية. {يَشْعُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.
{فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)}
الشرح: {فَانْظُرْ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل من يتأتى منه النظر نظر تبصر، واعتبار، فيعتبر العاقل وينزجر بذلك الاعتبار عن الأفعال القبيحة والأعمال الخبيثة، {كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ:} عاقبة كل شيء آخره ونتيجته، ولم يؤنث الفعل {كانَ؛} لأن {عاقِبَةُ} مؤنث مجازي، وما كان منه يستوي فيه التذكير والتأنيث، أو لأن {عاقِبَةُ} اكتسب التذكير من المضاف إليه، {أَنّا دَمَّرْناهُمْ..} . إلخ أهلكناهم بسبب كفرهم، وخروجهم عن طاعة ربهم بعقرهم الناقة، وغير ذلك من قبيح الفعال. هذا؛ ويقرأ بفتح همزة (أن) وكسرها، قراءتان سبعيتان.
هذا؛ وتدميرهم كان بإهلاك التسعة بالحجارة، وإهلاك الباقين بالصيحة.
الإعراب: {فَانْظُرْ:} الفاء: حرف استئناف، (انظر): فعل أمر، وفاعله مستتر فيه وجوبا، تقديره:«أنت» ، وهو معلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام. {كَيْفَ كانَ..}. إلخ: في {كانَ} وجهان: أحدهما: هي الناقصة، و {عاقِبَةُ} مرفوعة على أنها اسمها، وفي الخبر وجهان: أحدهما {كَيْفَ} و {أَنّا دَمَّرْناهُمْ:} إن كسرت الهمزة كان مستأنفا، وهو مفسر لمعنى الكلام، وإن فتحت ففيه أوجه: أحدها: أن يكون بدلا من ال {عاقِبَةُ} . والثاني: أن يكون المصدر المؤول من (أنّ) واسمها، وخبرها في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف. التقدير: هي كوننا دمرناهم. والثالث: أن يكون في محل نصب بدلا من {كَيْفَ} عند بعضهم. وقال آخرون: لا يجوز ذلك؛ لأن البدل من الاستفهام، يلزم فيه إعادة حرفه، كقولك: كيف زيد؟ أصحيح أم مريض؟ والرابع: هو في موضع نصب على نزع الخافض، التقدير: بكوننا دمرناهم، أو لكوننا دمرناهم، والوجه الثاني: أن يكون خبر {كانَ} هو المصدر المؤول من {أَنّا دَمَّرْناهُمْ} إذا فتحت الهمزة، وإذا كسرت الهمزة لم يجز؛ لأنه ليس في الجملة ضمير يعود على {عاقِبَةُ،} و {كَيْفَ} على هذا في محل نصب حال من: {عَقِبِهِ،} والعامل في الحال {كانَ} أو ما يدل عليه الخبر، والوجه الثاني من وجهي (كان) أن تكون التامة، و {كَيْفَ} على هذا حال، و {أَنّا دَمَّرْناهُمْ} بالكسر مستأنف، وبالفتح، فالمصدر المؤول من (أنّ) واسمها، وخبرها على ما تقدم في محله من اعتبارات. إلا في كونها خبرها، انتهى. أبو البقاء بتصرف كبير مني. هذا؛ وأجاز ابن هشام في المغني في {كانَ} ثلاثة أوجه: نقصان {كانَ،} وتمامها، وزيادتها، وقال: إلا أن الناقصة لا تكون شأنية لأجل الاستفهام، ولتقدم الخبر، و {كَيْفَ} حال على التمام، وخبر ل:{كانَ} على النقصان، وللمبتدأ على الزيادة. انتهى. أقول: وتبقى الاعتبارات المذكورة في {أَنّا دَمَّرْناهُمْ..} . إلخ على حالها.
و {عاقِبَةُ:} مضاف، و {مَكْرِهِمْ:} مضاف إليه، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر الميمي لفاعله، وجملة:{كَيْفَ كانَ..} . إلخ في محل نصب
مفعول به للفعل: (انظر)، المعلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام، وجملة:{فَانْظُرْ..} . إلخ مستأنفة لا محل له. {أَنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): ضمير متصل في محل نصب اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {دَمَّرْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والميم حرف دال على جماعة الذكور، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(أنّ)، ومحل المصدر المؤول، أو الجملة الناتجة منها، ومن اسمها، وخبرها هو ما رأيته سابقا. {وَقَوْمَهُمْ:} الواو: حرف عطف.
(قومهم): معطوف على الضمير المنصوب، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة.
{أَجْمَعِينَ:} توكيد لما قبله منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ.
{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)}
الشرح: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ:} بيوت قوم صالح، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. {خاوِيَةً:} خالية، من: خوى البطن: إذا خلا، أو: ساقطة متهدمة، من خوى النجم:
إذا سقط {بِما ظَلَمُوا:} بسبب ظلمهم؛ لأنفسهم حيث أعرضوا عن عبادة ربهم، وتعدوا حدوده، وأهملوا أوامره. {إِنَّ فِي ذلِكَ} أي: في الذي وقع في قوم صالح من الهلاك، والدمار. {لَآيَةً:} لدلالة واضحة على قدرة الله تعالى، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض، ولا في السماء، وأنه سبحانه وتعالى ينتقم من العاصين، وإن أمهل؛ فهو لا يهمل. {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ:} يعرفون الحق، فيعتبرون بقوم صالح، وأمثالهم ممن أهلك الله في العصور السابقة.
هذا؛ والفعل {يَعْلَمُونَ} من المعرفة، لا من العلم اليقيني، والفرق بينهما: أن المعرفة تكتفي بمفعول واحد، قال ابن مالك رحمه الله في ألفيته:[الرجز]
لعلم عرفان وظنّ تهمه
…
تعدية لواحد ملتزمه
بخلافه من العلم اليقيني، فإنه ينصب مفعولين، أصلهما مبتدأ وخبر، وأيضا فالمعرفة تستدعي سبق جهل، وأن متعلقها الذوات دون النّسب، بخلاف العلم، فإن متعلقه المعاني والنّسب.
فائدة: يحكى: أن بعض الملوك الظالمين أغاز على قرية، فنهبها، وفتك بأهلها، فخرجت إليه عجوز، وقالت له: يا ويلك من ديان يوم الدين! فقال لها: يا عجوز، أما سمعت قول الله تعالى:{إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً،} فقالت له: يا هذا لقد حفظت شيئا، وغابت عنك أشياء، أو نسيت الآية التي بعدها {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا} فاتعظ الملك، وردّ أموال الناس إليهم.
الإعراب: {فَتِلْكَ:} الفاء: حرف استئناف. (تلك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ. واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {بُيُوتُهُمْ:} خبر المبتدأ، والهاء
ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {خاوِيَةً:} حال من: {بُيُوتُهُمْ} . والعامل في الحال اسم الإشارة لما فيه من معنى الفعل، ويقرأ بالرفع، وفيه خمسة أوجه: الأول: أن يكون {بُيُوتُهُمْ} بدلا من اسم الإشارة، و {خاوِيَةً} خبر: البيوت. والثاني: أن تكون: {خاوِيَةً} خبرا ثانيا.
والثالث: أن ترفع {خاوِيَةً} على إضمار مبتدأ، أي هي {خاوِيَةً}. والرابع: أن تجعل {خاوِيَةً} بدلا من البيوت. والخامس: أن تجعل: {بُيُوتُهُمْ} عطف بيان على (تلك)، و {خاوِيَةً} خبر المبتدأ؛ الذي هو (تلك). {بِما:} الباء: حرف جر. (ما): مصدرية.
{ظَلَمُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. و (ما) المصدرية والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالباء. والجار والمجرور متعلقان ب {خاوِيَةً،} وفاعلها ضمير مستتر، تقديره: هي، والجملة الاسمية:{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {فِي ذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {إِنَّ} تقدم على اسمها. واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لَآيَةً:} اللام: لام الابتداء.
(آية): اسم {إِنَّ} مؤخر. {لِقَوْمٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: (آية). وجملة:
{يَعْلَمُونَ} مع المفعول المقدر في محل جر صفة (قوم). والجملة الاسمية: {إِنَّ فِي..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
{وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53)}
الشرح: {وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي: الذين آمنوا بالله تعالى، وصدقوا برسالة صالح، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. {وَكانُوا يَتَّقُونَ:} الله، ويخافون عذابه، ويبتعدون عن الكفر، والمعاصي. هذا؛ وفي ذكر التقوى بعد الإيمان إشارة إلى أن العمل قرين الإيمان، وأن الإيمان وحده قد لا يجدي إذا لم يقرن بالعمل الصالح. وهذا يسمى: احتراسا، وقد نبهت عليه مرارا، وانظر شرح (نا) في الآية رقم [7] من سورة (الشعراء). وشرح:{يَتَّقُونَ} في الآية رقم [10] منها أيضا.
تنبيه: آمن بالله، وبرسالة صالح أربعة آلاف من قومه، وهلك الباقون، وكان صالح قد أنذرهم بعد أن عقروا الناقة بالهلاك بعد ثلاثة أيام. وقال لهم: تصبح وجوهكم غدا مصفرة، وبعد غد محمرة، وفي اليوم الثالث مسودة، ثم يصبّحكم العذاب، فلما رأوا العلامات؛ طلبوه؛ ليقتلوه، فأنجاه الله إلى أرض فلسطين، ولما كانت ضحوة اليوم الرابع؛ تحنطوا، وتكفنوا بالأنطاع، فأتتهم صيحة جبريل من السماء، فتقطعت قلوبهم، فهلكوا، وكان عقر الناقة يوم الأربعاء، وهلاكهم يوم الأحد، ثم بعد هلاكهم خرج صالح بمن آمن معه من فلسطين إلى حضرموت، فلما دخلوها؛ مات صالح، فسميت الأرض: أرض حضرموت، ثم بنوا فيها أربعة
آلاف مدينة، وسموها: حاضوراء، وقال قوم من أهل العلم: توفي صالح بمكة، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [45].
الإعراب: {وَأَنْجَيْنَا:} الواو: حرف عطف. (أنجينا): فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: فأهلكنا الكافرين، و (أنجينا). {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به. {آمَنُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، ومتعلقه محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {وَكانُوا:} الواو: حرف عطف.
(كانوا): فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:
{يَتَّقُونَ} مع المفعول المحذوف في محل نصب خبر (كان). وجملة: {وَكانُوا يَتَّقُونَ:}
معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من الموصول، أو من واو الجماعة، فلست مفندا، وتكون «قد» قبلها مقدرة، والرابط: الواو، والضمير.
{وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)}
الشرح: {وَلُوطاً:} هو ابن أخي إبراهيم، على نبينا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام.
آمن به، وهاجر معه من بلاد العراق، قال تعالى:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي..} . إلخ فأقام إبراهيم في فلسطين، وأقام لوط في الأردن، فأرسله الله إلى أهل سدوم، يدعوهم إلى الله، وينهاهم عن فعلهم القبيح. هذا؛ وقال الجمل: سذوم بالذال المعجمة، وهي بلد بحمص، نقلا من أبي السعود، وأين حمص من الأردن؟!. انتهى. في سورة (الأعراف):{أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ:} سؤال توبيخ وتقريع على تلك الفعلة المتمادية في القبح، والشناعة. {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ:} تعلمون فحشها، وقبحها، وذلك أعظم لذنوبكم. وقيل: يأتي بعضكم بعضا، وأنتم تنظرون إليه، وكانوا لا يستترون عتوا منهم، وتمردا، وخلاعة، ومجانة، وانهماكا في المعصية، وكأن أبا نواس بنى على مذهبهم قوله، الذي يمثل مجونه وفسوقه:[الطويل]
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر
…
ولا تسقني سرّا إذا أمكن الجهر
وبح باسم من تهوى ودعني من الكنى
…
فلا خير في اللّذّات من دونها ستر
وهذه الآية وغيرها دالة على وجوب الحد في اللواطة؛ لأنها اشتركت مع الزنى في كونها فاحشة، وقد قال تعالى:{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً} وهذا؛ وإن كان قياسا إلا أن الجامع مستفاد من الآية. انتهى. جمل. هذا؛ وقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم في النكير على من فعل هذه الفعلة الشنيعة، وأباح قتله، فعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل، والمفعول به» . رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والبيهقي.
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله سبعة من خلقه من فوق سبع سمواته، وردّد اللعنة على واحد منهم ثلاثا، ولعن كلّ واحد منهم لعنة تكفيه، قال: ملعون من عمل عمل قوم لوط، ملعون من عمل عمل قوم لوط، ملعون من عمل عمل قوم لوط، ملعون من ذبح لغير الله، ملعون من أتى شيئا من البهائم، ملعون من عقّ والديه، ملعون من جمع بين امرأة وابنتها، ملعون من غيّر حدود الأرض، ملعون من ادّعى إلى غير مواليه» . رواه الطبراني في الأوسط.
قال البغوي: اختلف أهل العلم في حد اللّوطي، فذهب قوم إلى أن حد الفاعل حد الزنى، إن كان محصنا يرجم، وإن لم يكن محصنا يجلد مئة، وهو قول سعيد بن المسيب، وعطاء، وقتادة، والنخعي، وبه قال الثوري، والأوزاعي، وهو قول الشافعي، ويحكى أيضا عن أبي يوسف، ومحمد بن الحسن. وعلى المفعول به عند الشافعي على هذا القول جلد مئة وتغريب عام رجلا كان، أو امرأة، محصنا كان، أو غير محصن. وذهب قوم إلى أن اللّوطي يرجم محصنا كان، أو غير محصن. رواه سعيد بن جبير، ومجاهد عن ابن عباس، وهو قول مالك، وأحمد، وإسحاق، والقول الآخر للشافعي: أنه يقتل الفاعل، والمفعول به، كما جاء في الحديث. انتهى. الترغيب.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أتى النّساء في أعجازهنّ، فقد كفر» . رواه الطبراني. وعنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ملعون من أتى امرأة في دبرها» . رواه أحمد، وأبو داود.
الإعراب: {وَلُوطاً:} الواو: حرف عطف. (لوطا): مفعول به لفعل محذوف، تقديره:
اذكر، أو: وأرسلنا لوطا، لدلالة:(ولقد أرسلنا) عليه. {إِذْ:} بدل على التقدير الأول من (لوطا)، وظرف لما مضى من الزمان، مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل {أَرْسَلْنا} على التقدير الثاني. {قالَ:} فعل ماض. والفاعل يعود إلى (لوط). {لِقَوْمِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {أَتَأْتُونَ:}
الهمزة: حرف استفهام وتوبيخ، (تأتون): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو فاعله. {الْفاحِشَةَ:} مفعول به، وجملة:{أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ} في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {وَأَنْتُمْ:}
الواو: واو الحال. (أنتم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، وجملة:
{تُبْصِرُونَ} في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ..} . إلخ: هذا من قول لوط-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-مخاطبا لقومه بذلك. {الرِّجالَ:} جمع: رجل، وهو مأخوذ من الرجولة، وهي البطولة،
والشجاعة، والقوة، وغير ذلك. {شَهْوَةً:} قال البيضاوي: وفي التقييد بها وصفهم بالبهيمية الصرفة، وتنبيه على أنّه ينبغي للعاقل أن يكون الداعي إلى المباشرة طلب الولد، وبقاء النوع، لا قضاء الوطر. انتهى.
قال عمرو بن دينار-رحمه الله تعالى-: ما نزا ذكر على ذكر في الدنيا إلا كان من قوم لوط.
هذا؛ وقد لعن الرسول صلى الله عليه وسلم من عمل عمل قوم لوط ثلاثا، كما لعن من أتى امرأته في دبرها أيضا.
{النِّساءِ:} أصله: النساي، تحركت الياء، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، ولم يعتد بالألف الزائدة؛ لأنها حاجز غير حصين، فالتقى ساكنان: الألف الزائدة، والياء المنقلبة ألفا، فأبدلت الثانية همزة. هذا؛ ونساء اسم جمع، لا واحد له من لفظه؛ لأن مفرده: امرأة، وتجمع المرأة أيضا على نسوة، بضم النون، وكسرها، ونسوان، بكسر النون، ونسنون، ونسنين، وهذه الجموع كلها مأخوذة من النسيان، فهي مطبوعة عليه، إما إهمالا، وإما كذبا. هذا؛ والمرأة مشتقة من المرء، وهو الرجل؛ لأنها خلقت منه.
{بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} أي: تفعلون فعل من يجهل قبحها، ويكون سفيها، لا يميز بين الحسن والقبيح، قال الزمخشري في الكشاف: فإن قلت: فسرت {تُبْصِرُونَ} بالعلم، وبعده:
{بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} فكيف يكونون علماء جهلاء؟! قلت: أراد: تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة، مع علمكم بذلك، أو تجهلون العاقبة وأراد بالجهل: المجانة التي كانوا عليها، فإن قلت:{تَجْهَلُونَ} صفة ل: {قَوْمٌ،} والموصوف لفظه الغائب، فهلا طابقت الصفة الموصوف، فقرئ بالياء، دون التاء، وكذلك:{بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ؟} قلت: اجتمعت الغيبة، والمخاطبة، فغلبت المخاطبة؛ لأنها أقوى، وأرسخ من الغيبة. وانظر شرح الجاهل في الآية رقم [63] من سورة (الفرقان).
تنبيه: ذكرت الآية بكاملها في سورة (الأعراف) برقم [81] بإبدال: {لَمُسْرِفُونَ} هناك بالفعل: {تَجْهَلُونَ} هنا. وإنما وصفهم الله بالإسراف هناك، وبالجهل هنا؛ لفعلهم ذلك العمل الخبيث؛ لأن الله خلق الإنسان، وركب فيه الشهوة لبقاء النسل، وعمران الدنيا، وجعل النساء محلا للشهوة، وموضع النسل، فإذا تركهن الرجل، وعدل عنهن إلى غيرهن من الرجال، فكأنما جهل الحكمة الإلهية، وتجاوز الحد، واعتدى، فكان جديرا بهذين الوصفين؛ لأنه وضع الشيء في غير موضعه الذي خلق له؛ لأن أدبار الذكور ليست محلا للولادة، التي هي مقصودة بتلك الشهوة المركبة في الإنسان.
وكانت قصة لوط على ما ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل الأخبار، والسير: أنه كانت قرى قوم لوط مخصبة، ذات زروع وثمار، لم يكن في الأرض مثلها، فقصدهم الناس، وآذوهم، وضيقوا عليهم، فعرض لهم إبليس في صورة شيخ، وقال لهم: إذا فعلتم بهم كذا، وكذا؛ نجوتم
منهم، فأبوا، فلما ألح عليهم الناس قصدوهم، فأصابوا منهم غلمانا حسانا صباحا، فأخبثوا، واستحكم ذلك فيهم، قال الحسن: كانوا لا ينكحون إلا الغرباء، وقيل: استحكم ذلك فيهم حتى نكح بعضهم بعضا. أقول: وهو الصحيح ويؤيده قوله تعالى في سورة (العنكبوت) رقم [29]: {وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} وقال الكلبي: إن أول من عمل عمل قوم لوط إبليس أخزاه الله، وذلك: أن بلادهم أخصبت، فقصدها أهل البلدان، فتمثل لهم إبليس في صورة شاب أمرد، فدعا إلى نفسه، فكان أول من نكح في دبره، فأمر الله السماء أن تحصبهم، والأرض أن تخسف بهم. انتهى من الخازن في سورة (الأعراف).
الإعراب: {أَإِنَّكُمْ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي، (إنكم): حرف مشبه بالفعل، والكاف ضمير متصل في محل نصب اسمها. {لَتَأْتُونَ:} اللام: هي المزحلقة. (تأتون): فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {الرِّجالَ:} مفعول به. {شَهْوَةً:} مفعول لأجله، أو هو حال بمعنى مشتهين، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(إنّ). {مِنْ دُونِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الواو. أو من {الرِّجالَ،} و {دُونِ} مضاف، و {النِّساءِ} مضاف إليه.
{بَلْ:} حرف عطف انتقالي من الإنكار عليهم إلى الإخبار عن حالهم التي أدت إلى ارتكاب أمثالها، وهي: اعتياد الجهل، والإسراف في كل شيء، أو عن الإنكار عليها إلى الذم على جميع معايبهم، أو عن محذوف، مثل: لا عذر لكم فيه، بل أنتم قوم عادتكم الجهل، والإسراف. وانظر باقي الإعراب في الآية رقم [47]، والآية بكاملها في محل نصب مقول القول؛ لأنها من قول لوط، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
الشرح: {فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ:} أتى الكلام هنا، وفي الآية رقم [29] من سورة (العنكبوت) مبتدأ بالفاء، وأتى في الآية رقم [81] من سورة (الأعراف) مبتدأ بالواو، وقد قال سليمان الجمل نقلا عن السمين-رحمهما الله تعالى-في سورة (الأعراف): أتى هنا بقوله:
(وما) وفي (النمل) و (العنكبوت) بقوله: {فَما} والفاء هي الأفضل في هذا الباب؛ لأن المراد:
أنهم لم يتأخر جوابهم عن نصيحته، وأما الواو، فالتعقيب أحد محاملها، فتعين هنا: أنها للتعقيب لأمر خارجي، وهو القرينة في السورتين المذكورتين، لا أنها اقتضت ذلك بوضعها. انتهى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
{قَوْمِهِ} أي: المستكبرين منهم عن الإيمان، وانظر الآية رقم [10] من سورة (الشعراء).
{أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ:} لوطا، والمؤمنين معه من أهله. {مِنْ قَرْيَتِكُمْ:} هي: سدوم؛ التي ذكرتها
لك في الآية السابقة. {إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أي: من الفواحش، ومن أدبار الرجال، وهذا استهزاء منهم بلوط، وأتباعه، وانظر شرح الناس في الآية رقم [39] من سورة (الشعراء)، وانظر قولهم في سورة (العنكبوت) رقم [29].
هذا؛ وأما {آلَ} فأصله: أهل، فأبدلت الهاء همزة ساكنة، فصار (أأل) ثم أبدلت الهمزة الثانية الساكنة مدا مجانسا لحركة الهمزة الأولى على القاعدة:«إذا اجتمع همزتان الأولى متحركة، والثانية ساكنة، قلبت الثانية مدا مجانسا لحركة الهمزة الأولى» ، وذلك مثل: آدم، وإيمان، وأومن، فإن الأصل أأدم، وإإمان، وأؤمن، وقلب الهمزة سائغ مستعمل لغة في:
أراق، فإن أصله هراق، وهو كثير مستعمل في الشعر العربي، وغيره، وهذا مذهب سيبويه.
وقال الكسائي: أصله: (أول) كجمل من آل يؤول، تحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، وقد صغروه على (أهيل) وهو يشهد للأول، وعلى (أويل) وهو يشهد للثاني، ولا يستعمل {آلَ} إلا فيمن له خطر وشأن، بخلاف: أهل، يقال: آل النبي، وآل الملك، ولا يقال: آل الحجام، ولكن أهله، ولا ينتقض بآل فرعون، فإن له شرفا باعتبار الدنيا، واختلف في جواز إضافته إلى المضمر، فمنعه الكسائي، والنحاس، وزعم أبو بكر الزبيدي: أنه من لحن العوام، والصحيح جوازه، كما في قول عبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم:[مجزوء الكامل]
لا همّ إنّ المرء يم
…
نع رحله فامنع رحالك
وانصر على آل الصّلي
…
ب وعابديه اليوم آلك
{قَرْيَتِكُمْ:} القرية: اسم للمكان الذي يجتمع فيه القوم، وهو يطلق على المدينة الكبيرة، وغيرها، كيف لا؟ وقد جعل الله مكة المكرمة أم القرى في قوله:{وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها} الآية رقم [92] من سورة (الأنعام) كما تطلق على الضيعة الصغيرة، وهي مأخوذة من: قريت الماء في المكان: جمعته، وفي القاموس المحيط: القرية: بكسر القاف وفتحها، وبالنسبة إليها قرويّ وقرييّ.
الإعراب: {فَما:} الفاء: حرف استئناف، وقيل: عاطفة، وليس بشيء. (ما): نافية.
{كانَ:} فعل ماض ناقص. {جَوابَ:} خبر {كانَ} مقدم، و {جَوابَ} مضاف، و {قَوْمِهِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة.
{إِلاّ:} حرف حصر. {كانَ:} حرف مصدري، ونصب. {قالُوا:} فعل ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. ومحل الفعل في محل نصب ب:{كانَ،} و {كانَ} والفعل في تأويل مصدر في محل رفع اسم {كانَ} مؤخرا. هذا؛ وقرئ برفع (جواب) على: أنه اسم {كانَ،} والمصدر المؤول في محل نصب خبرها، وهو ضعيف والأول أفصح؛ لأن فيه جعل الأعراف اسما، لذا فالقراءة شاذة، وليست سبعية. {أَخْرِجُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {آلَ:} مفعول به، و {آلَ} مضاف، و {لُوطٍ} مضاف إليه. {مِنْ قَرْيَتِكُمْ:} جار
ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{أَخْرِجُوا..} .
إلخ في محل نصب مقول القول. {إِنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها. {أُناسٌ:} خبر (إنّ). {يَتَطَهَّرُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع صفة:{أُناسٌ،} والجملة الاسمية: {إِنَّهُمْ..} . إلخ تعليل للأمر، وهي في محل نصب مقول القول، وجملة:{فَما كانَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاّ اِمْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57)}
الشرح: {فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ} أي: أنجى الله لوطا، ومن آمن معه من أهله. {إِلاّ امْرَأَتَهُ:}
فإنها كانت كافرة تسر الكفر، وتخبر قومها بما يكون في بيت لوط، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. واسمها: واهلة. {كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ} أي: الذين بقوا في العذاب، والتذكير لتغليب الذكور على الإناث، مثل قوله تعالى في حق مريم-على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام-:
{وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ} . هذا؛ والغابر: اسم فاعل من: غبر الشيء بقي، وغبر أيضا: مضى، فهو من الأضداد، وبابه: دخل. انتهى. مختار. هذا؛ ولذا يمكن أن يقال: في غابر الأزمان، أي: في ماضيها، وحاضرها. وقال أبو ذؤيب الهذلي من قصيدة في رثاء أولاده:[الكامل]
فغبرت بعدهم بعيش ناصب
…
وإخال أنّي لا حق مستتبع
هذا؛ واللغة العربية غنية بالكلمات التي تعني الضدين، وتحتمل معنيين متقابلين، منها:
ما رأيته من لفظ الغابرين، ومنها: جلل للعظيم، والحقير، فمن الأول: قول الحارث بن وعلة بن ذهل بن شيبان الذهلي، وهو الشاهد رقم [192] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الكامل]
فلئن عفوت لأعفون جللا
…
ولئن سطوت لأوهنن عظمي
ومن الثاني قول امرئ القيس لما قتل أبوه، وهو الشاهد رقم [193] من كتابنا المذكور:[المتقارب]
بقتل بني أسد ربّهم
…
ألا كلّ شيء سواه جلل
أي: هين، وحقير، لا قيمة له. ومنها: الجون للأبيض، والأسود. والبين: للقرب، والبعد. والصريم: للّيل، والنهار. وبهما فسر قوله تعالى في سورة:(ن): {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} والناصح: للأبيض، والأسود، والناهل: للرّيّان، والظمان. والسليم: للديغ، والصحيح، ووراء بمعنى: خلف، وأمام. وشعبت الشيء: أصلحته، وشققته. والصّارخ: للمغيث، والمستغيث.
والهاجد: للمصلي في الليل، والنائم. والوهدة: للانحدار والارتفاع. والتعزير: للإكرام، والإهانة. والتقريظ: للمدح، والذم. وترب: للغني والفقير. والإهماد: للسرعة في السير، والإقامة. وعسعس: إذا أقبل، وإذا أدبر. قال تعالى في سورة (التكوير):{وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ} والقرء: للحيض، والطهر.
ومنه قيل في قوله تعالى في الآية رقم [62] من سورة (طه)، وفي الآية رقم [3] من سورة (الأنبياء):{وَأَسَرُّوا النَّجْوى:} إنّ أسروا يحتمل أن يكون بمعنى: أظهروا، وأن يكون بمعنى:
أخفوا، فهو من الأضداد. وأيضا قوله تعالى في الآية رقم [54] من سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمّا رَأَوُا الْعَذابَ} . كما قيل به في قول امرئ القيس، وهو الشاهد رقم [472] من كتابنا فتح القريب المجيب:[الطويل]
تجاوزت أحراسا عليها ومعشرا
…
عليّ حراصا لو يسرّون مقتلي
الإعراب: {فَأَنْجَيْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، أو هي معطوفة على محذوف، يتطلبه المقام. {وَأَهْلَهُ:} الواو: حرف عطف. (أهله): معطوف على الضمير المنصوب، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {إِلاّ:} أداة استثناء.
{اِمْرَأَتَهُ:} مستثنى ب: {إِلاّ} والهاء في محل جر بالإضافة. {قَدَّرْناها:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {اِمْرَأَتَهُ،} والرابط: الضمير فقط، وهي على تقدير:«قد» قبلها. {مِنَ الْغابِرِينَ:} متعلقان بما قبلهما.
{وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)}
هذه الآية ذكرت بحروفها كاملة برقم [173] من سورة (الشعراء) فلا حاجة إلى إعادة شيء من شرحها، وإعرابها، والله الموفق والمعين، وبه نستهدي ونستبين.
الشرح: قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعد ما قص عليه القصص، الدالة على كمال قدرته، وعظيم شأنه أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته، وحكمته، وأن يستفتح بتحميده، والسّلام على أنبيائه، والمصطفين من عباده. وفيه تعليم حسن، وتوقيف على أدب جميل، وبعث على التّيمّن بالذّكرين، والتبرك بهما، والاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين، وإصغائهم إليه، ولقد توارث العلماء، والخطباء، والوعاظ كابرا عن كابر هذا الأدب، فحمدوا الله عز وجل، وصلوا على رسوله صلى الله عليه وسلم أمام كل علم مفاد، وقبل كل تذكرة، وموعظة، وفي مفتتح كل خطبة، وتبعهم المترسلون، فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح، والتهاني، وغير ذلك من الحوادث؛ التي لها شأن. انتهى. بتصرف. هذا؛ وقال الفراء: الخطاب ل: (لوط) والمعتمد الأول؛ لأن القرآن منزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما فيه فهو مخاطب به عليه السلام، إلا ما لم يصح معناه إلا لغيره.
{عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى} أي: اختار الله لرسالته، وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام، وقال عبد الله بن عباس، وسفيان-رضي الله عنهما: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. والمعتمد الأول؛ لقوله تعالى: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} . {آللهُ خَيْرٌ أَمّا يُشْرِكُونَ:} ف: {خَيْرٌ} هنا ليس بمعنى أفضل، وإنما هو مثل قول حسان-رضي الله عنه-في هجاء أبي سفيان:[الوافر]
أتهجوه، ولست له بكفء
…
فشرّ كما لخير كما الفداء
إذ المعنى: فالذي فيه الشر فداء للذي فيه خير. وقيل: هو على بابه من التفضيل، والمعنى:
{آللهُ خَيْرٌ أَمّا يُشْرِكُونَ} أي: أثوابه خير، أم عقاب ما تشركون، أي: ما يتسبب من عبادة الأصنام من عقاب، وقيل: قال لهم ذلك؛ لأنهم كانوا يعتقدون: أن في عبادة الأصنام خيرا، فخاطبهم الله عز وجل على اعتقادهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه الآية يقول:«بل الله خير، وأبقى، وأجلّ، وأكرم» . وقال البيضاوي رحمه الله تعالى: هذا الكلام إلزام لهم، وتهكم بهم، وتسفيه لرأيهم؛ إذ من المعلوم أن لا خير فيما أشركوه رأسا؛ حتى يوازن بينه وبين من هو مبدأ كل الخير.
{آللهُ:} الهمزة: حرف استفهام، وقد مدت مدا لازما بقدر ست حركات، ولولا مدها لم يظهر الاستفهام، ويسمى هذا المد في أحكام التجويد بمد الفرق؛ لأنه يفرق بين الاستفهام والخبر؛ لأنه لولا المد لتوهم أنه خبر لا استفهام، وانظر الآية رقم [51] من سورة (يونس). أما {خَيْرٌ} فهو أفعل تفضيل، أصله: أخير، نقلت حركة الياء إلى الخاء قبلها؛ لأن الحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، ثم حذفت الهمزة استغناء عنها بحركة الخاء، ومثله قل في: حبّ، وشرّ اسمي تفضيل؛ إذ أصلهما: أحبب، وأشرر، فنقلت حركة الباء الأولى، والراء الأولى إلى ما قبلهما، ثم أدغم الحرفان المتماثلان في بعضهما، ثم حذفت الهمزة من أولهما، استغناء عنها بحركة الخاء والشين، وقد يستعمل: خير، وشر على الأصل، كقراءة بعضهم قوله تعالى:{سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذّابُ الْأَشِرُ} بفتح الشين، ونحو قول رؤبة:[الرجز]
يا قاسم الخيرات وابن الأخير
…
ما ساسنا مثلك من مؤمّر
وخير، وشر، وحب يستعملن بصيغة واحدة للمذكر، والمؤنث، والمفرد، والمثنى، والجمع؛ لأنه بمعنى: أفعل كما رأيت. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الإعراب: {قُلِ:} فعل أمر، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {الْحَمْدُ:} مبتدأ.
{لِلّهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلِ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَسَلامٌ:} الواو: حرف عطف.
(سلام): مبتدأ. {عَلى عِبادِهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول
مثلها. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر صفة عباده، أو في محل جر بدل منه. {اِصْطَفى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل يعود إلى {آللهُ،} والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: الذين اصطفاهم الله.
{آللهُ:} الهمزة حرف استفهام، وتوبيخ، وتقريع. (الله): مبتدأ. {خَيْرٌ:} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، وهي في محل نصب مقول القول أيضا. {أَمّا:} أم: حرف عطف وهي متصلة بخلافها في الآيات التالية، فإنها منقطعة. (ما): اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع معطوفة على لفظ الجلالة، والمعادل محذوف؛ لدلالة (خير) عليه، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: أم الذي، أو:
شيء يشركونه مع الله تعالى. هذا؛ وأجيز اعتبار (ما) مصدرية. ولا أعتمده.
الشرح: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ:} قال أبو حاتم تقديره: آلهتكم خير أم من خلق
…
إلخ؟ وقيل: المعنى: أعبادة ما تعبدون من أوثانكم خير، أم عبادة من خلق السموات والأرض؟ فهو مردود على ما قبله من المعنى، وفيه معنى التوبيخ، والتقريع لهم، والتنبيه على قدرة الله تعالى، وعجز آلهتهم، وقرئ:«(آمن)» بتخفيف الميم. {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ:} فيه التفات من الغيبة إلى التكلم. هذا؛ والحدائق: جمع:
حديقة، وهي البستان الذي عليه حائط، فإن لم يكن عليه حائط، فهو البستان، وليس بحديقة، وقيل: الحدائق: النخل، والبهجة: الزينة والحسن، يبهج به من رآه. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (طه):{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتّى} .
{ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها} أي: ما ينبغي لكم ذلك؛ لأنكم لا تقدرون عليه؛ لأن الإنسان يقول: أنا المنبت للشجرة بأن أغرسها، وأسقيها الماء، فأزال الله هذه الشبهة بقوله:{ما كانَ..} . إلخ؛ لأن إنبات الحدائق المختلفة الأصناف، والطعوم، والروائح المختلفة، والزروع المتنوعة، تسقى بماء واحد، لا يقدر عليه إلا الله تعالى ولا يتأتّى لأحد، وإنّ تأتّي ذلك لغيره محال. انتهى. خازن. وانظر ما ذكرته في الأحزاب [36]:{وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ..} . إلخ.
قال القرطبي رحمه الله تعالى: وقد يستدل من هذا على منع تصوير شيء، سواء كان له روح أم لم يكن؟ وهو قول مجاهد، ويعضده قول النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: «ومن أظلم ممّن ذهب يخلق خلقا كخلقي، فليخلقوا ذرّة، أو ليخلقوا حبّة، أو ليخلقوا شعيرة» . رواه مسلم في
صحيحه من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه، فعم بالذم، والتهديد، والتقبيح كل من تعاطى تصوير شيء مما خلقه الله، وضاهاه في التشبيه في خلقه؛ فيما انفرد به سبحانه من الخلق، والاختراع، وهذا واضح. وذهب الجمهور إلى أن تصوير ما ليس فيه روح، يجوز تصويره والاكتساب به، وقد قال ابن عباس-رضي الله عنهما-للذي سأله أن يصنع الصور:(إن كنت لا بدّ فاعلا، فاصنع الشجر، وما لا نفس له) أخرجه مسلم أيضا، والمنع أولى، -والله أعلم- لما ذكرنا.
{أَإِلهٌ مَعَ اللهِ} أي: هل مع الله معبود أعانه على ذلك. {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} أي: ليس معه معين على خلق ما ذكر، ولكنهم قوم يميلون عن الحق إلى الباطل، وهذا الفعل أحد الأفعال التي يتغير معناها بتغير الجار، تقول: عدلت عنه، بمعنى: أعرضت عنه. وتقول: عدلت إليه، بمعنى: أقبلت عليه. وقد جاء في قوله تعالى: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا} محتملا لمعنى الميل ومعنى العدل، وقد يجيء محتملا لمعنى الميل، ومعنى التسوية، وذلك كما في قوله تعالى:
{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} فإن جعلت الجار والمجرور {بِرَبِّهِمْ} متعلقين بيعدلون، كان المعنى إن الكفار يسوون الأصنام بربهم، وإن جعلتهما متعلقين بالفعل كفروا، كان يعدلون بمعنى يميلون، والمعنى: إن الكفار يميلون وينحرفون عن إفراد الله بالوحدانية، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
هذا؛ وللالتفات فوائد كثيرة: منها تطرية الكلام، وصيانة السمع عن الضجر، والملال لما جبلت عليه النفوس من حب التنقلات، والسآمة من الاستمرار على منوال واحد، هذه فوائده العامة، ويختص كل موضع بنكت، ولطائف باختلاف محله، كما هو مقرر في علم البديع، ووجهه حث السامع، وبعثه على الاستماع؛ حيث أقبل المتكلم عليه، وأعطاه فضل عنايته، وخصصه بالمواجهة. وانظر شرح {ذاتَ} في الآية رقم [2] من سورة (الحج).
الإعراب: {أَمَّنْ:} (أم): حرف إضراب بمعنى: «بل» ؛ لأنها منقطعة عما قبلها بخلافها في الآية السابقة فإنها متصلة، كما رأيت. (من): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، خبره محذوف، وتقدير الكلام: أمّن خلق السموات والأرض كمن لا يخلق. وقد أظهر في غير هذه المواضع ما أضمر في هذه الآية كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} الآية رقم [17] من سورة (النحل)، وعلى تقدير أبي حاتم: آلهتكم خير، أم من خلق السموات والأرض؟ يكون تقدير الخبر: خير، وعلى هذا تكون (أم) متصلة، وهو مردود، فالمعتمد: أنها منقطعة، وتقدير الكلام:
بل الذي خلق السموات خير. هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسم استفهام في محل رفع مبتدأ، وجملة:
{خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} في محل رفع خبره، فالمعنى صحيح، والكلام تام، لا يحتاج إلى تقدير خبر محذوف. هذا؛ وعلى قراءة:(أمن) فالهمزة للاستفهام وفي (من) وجهان: أحدهما: أن تكون
مبتدأ، والخبر محذوف، تقديره ما تقدم، والثاني: أنها بدل من: {اللهِ} كأنه قيل: (أمن خلق السموات والأرض خير أم ما يشركون){خَلَقَ:} فعل ماض، وفاعله يعود إلى (من) وهو العائد، والجملة الفعلية صلة (من) لا محل لها. {السَّماواتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم. (الأرض): معطوف على ما قبله. {وَأَنْزَلَ:}
الواو: حرف عطف. (أنزل): فعل ماض، وفاعله يعود إلى (من). {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان به. {مِنَ السَّماءِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من {السَّماءِ،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا. {السَّماءِ:} مفعول به، وجملة:{وَأَنْزَلَ..} . إلخ معطوفة على جملة الصلة، لا محل لها مثلها، والجملة الاسمية:{أَمَّنْ خَلَقَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَأَنْبَتْنا:}
الفاء: حرف عطف، أو حرف استئناف. (أنبتنا): فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الوجهين. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {حَدائِقَ:} مفعول به. {ذاتَ:} صفة {حَدائِقَ} منصوب مثله، و {ذاتَ} مضاف، و {بَهْجَةٍ} مضاف إليه. {ما:} نافية. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل نصب خبر {كانَ} تقدم على اسمها. {كانَ:} حرف مصدري، ونصب. {تُنْبِتُوا:} فعل مضارع منصوب ب: {كانَ،} وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، و {كانَ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل رفع اسم {كانَ} مؤخر.
{شَجَرَها:} مفعول به، و (ها): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{ما كانَ..} .
إلخ في محل نصب صفة {حَدائِقَ،} أو في محل نصب حال منها بعد وصفها بما تقدم، على حد قوله تعالى:{وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ} .
{أَإِلهٌ:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي تقريعي. (إله): مبتدأ. {مَعَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، و {مَعَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {بَلْ:} حرف إضراب وانتقال. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {قَوْمٌ:} خبر المبتدأ. {يَعْدِلُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع صفة (قوم) والجملة الاسمية:{بَلْ هُمْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً} أي: بسطها، وسواها للاستقرار عليها، أي: يستقر على سطحها الإنسان، والحيوان. {وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً} أي: شق في الأرض أنهارا يستفيد منها الإنسان، والحيوان، والنبات. {وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ:} جبالا راسية ثابتة، واحدتها: راسية؛ لأن
الأرض ترسو بها، أي: تثبت وتستقر، وفي غير ما آية:{أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ،} وانظر ما أذكره في الآية رقم [10] من سورة (لقمان). {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً} أي: مانعا من اختلاط الأجاج بالعذب. وانظر الآية رقم [53] من سورة (الفرقان). {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي: الحق، فيشركون مع الله أحقر خلقه. هذا؛ وذكر الأكثر؛ إما لأن بعضهم لم يعرف الحق لنقصان عقله، أو لتقصيره في النظر، أو لم تقم عليه الحجة؛ لأنه لم يبلغ مبلغ التكليف، أو؛ لأنه يقام مقام الكل، وانظر سورة (الروم) رقم [6].
الإعراب: {أَمَّنْ:} إعرابه مثل إعراب ما قبله بلا فارق، ولذا قال البيضاوي والنّسفي: بدل من {أَمَّنْ خَلَقَ} فكان حكمهما حكمه. {جَعَلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (من)، وهو من أفعال التصيير، لذا فقد نصب مفعولين، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً} معطوفة عليها، و {خِلالَها} ظرف مكان في محل نصب مفعوله الثاني، وكذا (جعل لها رواسي) فالجار والمجرور:{خِلالَها} في محل نصب مفعوله الثاني، وكذا جملة:{وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً} ف: {بَيْنَ} ظرف مكان في محل نصب مفعوله الثاني، وكلّ متعلق بالفعل قبله. هذا؛ وإن جعلته متعلقا بمحذوف حال مما بعده على اعتباره صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» فلست مفندا.
{أَإِلهٌ مَعَ اللهِ} هو مثل ما تقدم في إعرابه. {بَلْ:} حرف إضراب، وانتقال. {أَكْثَرُهُمْ:}
مبتدأ، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{لا يَعْلَمُونَ} مع المفعول المحذوف في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها من الإعراب.
الشرح: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ:} الاضطرار: افتعال من الضرورة، وهي الحالة المحوجة الملجئة. يقال: اضطره إلى كذا. واسم الفاعل والمفعول: مضطر، والمضطر: هو الذي أحوجه مرض، أو فقر، أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللجأ، والتضرع إلى الله، أو المذنب إذا استغفر، أو المظلوم إذا دعا، أو من رفع يديه، ولم ير لنفسه حسنة غير التوحيد، وهو منه على خطر. هذا؛ وأل في المضطر للجنس، لا للاستغراق، فلا يلزم منه إجابة كل مضطر.
{وَيَكْشِفُ السُّوءَ} أي: الضر؛ لأنه لا يقدر على تغيير حال من فقر إلى غنى، ومن مرض إلى صحة، ومن ضيق إلى سعة إلا القادر الذي لا يعجز، والقاهر الذي لا يغلب، ولا ينازع.
{وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ} أي: خلفاء فيها بأن ورّثكم سكناها، والتصرف فيها قرنا بعد قرن، وكذلك يرثها منكم من بعدكم. {أَإِلهٌ مَعَ اللهِ} أي: أيوجد إله مع الله الذي خصكم بهذه النعم،
العامة، والخاصة، الباطنة، والظاهرة. {قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ} أي: تذكرون نعم الله تذكرا قليلا، وقرئ الفعل بالياء والتاء، وأيضا بتسكين الذال، وتخفيف الكاف، ولا يتغيّر المعنى، ولا الإعراب، ولكن يكون على قراءته بالياء التفات من الخطاب إلى الغيبة، عكس ما في الآية السابقة.
تنبيه: جاء رجل إلى مالك بن دينار-رحمه الله تعالى-، فقال: أنا أسألك بالله أن تدعو لي، فأنا مضطر، قال: إذا فاسأله، فإنه يجيب المضطر إذا دعاه. قال الشاعر:[الطويل]
وإنّي لأدعو الله والأمر شيّق
…
عليّ فما ينفكّ أن يتفرّجا
وربّ أخ سدّت عليه وجوهه
…
أصاب لها لمّا دعا الله مخرجا
هذا؛ وعن أبي بكرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعاء المضطر: «اللهمّ رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كلّه، لا إله إلاّ أنت» . وينبغي أن تعلم: أن الله ضمن إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه، والسبب في ذلك: أن الضرورة إليه باللجاء ينشأ عنها الإخلاص، وقطع القلب عما سواه، وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمة، وجد من مؤمن، أو كافر، طائع، أو فاجر، كما ذكر الله عنهم بقوله:{حَتّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ..} . إلخ. الآية رقم [22] من سورة (يونس)، وقوله تعالى:{فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ..} . إلخ الآية رقم [65] من سورة (العنكبوت)، وقوله تعالى:{وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ..} . إلخ الآية رقم [32] من سورة (لقمان) فيجيب المضطر لموضع اضطراره، وإخلاصه، وإن كان كافرا، وكذلك إن كان فاجرا، فكفر الكافر، وفجوز الفاجر، لا يعود بنقص، ولا عيب في حقّه تعالى، وإنما يعود على صاحبه. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال لمعاذ بن جبل-رضي الله عنه-لما وجهه إلى أرض اليمن: «واتّق دعوة المظلوم؛ فإنّها ليس بينها وبين الله حجاب» . وعن أبي ذر الغفاري-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن رب العزة في دعوة المظلوم:«فإنّي لا أردّها، ولو كانت من كافر» .
الإعراب: {أَمَّنْ} قل فيه ما رأيته في الآية السابقة. {يُجِيبُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (من) وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {إِذا:} ظرف زمان مجرد من الشرطية مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل قبله. {دَعاهُ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، وفاعله مستتر، تقديره:«هو» يعود إلى المضطر، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها، وجملة:{وَيَكْشِفُ السُّوءَ} معطوفة على جملة: {يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ} لا محل لها مثلها، (يجعلكم): فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (من) أيضا، والكاف مفعول به أول. {خُلَفاءَ:}
مفعول به ثان، وهو مضاف، و {الْأَرْضِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:
{يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ} لا محل لها مثلها. {أَإِلهٌ مَعَ اللهِ:} انظر الآية رقم [60].
{قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ:} لقد ذكر ابن هشام رحمه الله تعالى في مغني اللبيب في هذه الجملة وأمثالها إعرابا، فأنا أنقله لك باختصار، فقال-رحمه الله تعالى-:{ما:} محتملة لثلاثة أوجه:
أحدها: الزيادة، فتكون لمجرد تقوية الكلام، فتكون حرفا باتفاق، وقليلا في معنى النفي، وإما لإفادة التقليل، مثلها في:(أكلت أكلا ما) وعلى هذا فيكون تقليلا بعد تقليل.
الوجه الثاني: النفي، وقليلا نعت لمصدر محذوف، أو لظرف محذوف، أي تذكرا قليلا، أو زمنا قليلا.
الثالث: أن تكون مصدرية، وهي وصلتها فاعل ب:(قليل)، وقليلا حال معمول لمحذوف دل عليه المعنى؛ أي: تذكروا فأخروا قليلا تذكرهم. أجازه ابن الحاجب، ورجّح معناه على غيره. انتهى. بتصرف كبير، ولم يذكر إعراب قليلا على الوجه الأول، وذكر سليمان الجمل الوجه الأول واعتبر قليلا نعتا لمصدر محذوف، مثل اعتباره في الوجه الثاني، وذكر أبو البقاء الثاني، وقال: التقدير: فما يتذكرون قليلا، ولا كثيرا. وجملة:{قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ} تعليلية لا محل لها من الإعراب، وهذا الإعراب مأخوذ من إعراب ابن هشام لقوله تعالى:{فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ} وهي الآية رقم [88] من سورة (البقرة).
الشرح: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ:} يرشدكم، ويدلكم. {فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ:} إذا سافرتم إلى البلاد التي تتوجهون إليها بالليل والنهار. وقيل: جعل مفاوز البر؛ التي لا أعلام لها، ولجج البحار كأنها ظلمات؛ لأنها ليس لها علم يهتدى به، والاهتداء في تلك الظلمات يكون بالنجم، وغيره، كما قال تعالى:{وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} وانظر شرح البر والبحر في الآية رقم [59] من سورة (الأنعام).
{وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ:} يبعثها. ويقرأ: «(الريح)» بالإفراد. {بُشْراً:} جمع: بشير، وهو بضم الباء وسكون الشين، ويقرأ بضمتين، ويقرأ:«(نشرا)» بضم النون مع ضم الشين وسكونها على أنه جمع: نشور بمعنى: ناشر، كطهور بمعنى: طاهر، ويجوز أن يكون جمع: نشور بمعنى:
منشور، ويقرأ:«(نشرا)» ، بفتح النون، وسكون الشين على أنه مصدر نشر بعد الطي كما يقرأ:
«(بشرى)» على وزن: حبلى، أي: ذات بشارة، وكما يقرأ:«(بشرا)» بفتح الباء، وسكون الشين، وهو مصدر: بشرته: إذا بشرته.
{بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي: أمام المطر؛ الذي هو رحمته، وإنما سماه الله: رحمة؛ لأنه سبب لحياة الأرض، وحياتها حياة للإنسان والحيوان، وكل شيء، كما هو مشاهد. و {بَيْنَ يَدَيْ}
بمعنى: أمام، وقدام مستعمل في القرآن الكريم بكثرة، وهذه الجملة مذكورة في الآية رقم [57] من سورة (الأعراف)، وانظر شرح {الرِّياحَ} في الآية رقم [69] من سورة (الإسراء)، أو الآية رقم [9] من سورة (الأحزاب).
{أَإِلهٌ مَعَ اللهِ} أي: يقدر على ذلك، ويعينه عليه. {تَعالَى اللهُ عَمّا يُشْرِكُونَ} أي:
تقدس الله، وتنزه عن الذي يشركونه معه من الحجارة، والأوثان.
الإعراب: {أَمَّنْ} انظر الآية رقم [60] ففيها الكفاية. {يَهْدِيكُمْ:} فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى (من)، والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية صلة (من) على اعتبارها موصولة، والخبر محذوف، وفي محل رفع خبرها على اعتبارها استفهامية. {فِي ظُلُماتِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و {ظُلُماتِ} مضاف، و {الْبَرِّ} مضاف إليه. {وَالْبَحْرِ:} معطوف على ما قبله. {وَمَنْ:} الواو: حرف عطف.
(من): معطوفة على ما قبلها. {يُرْسِلُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (من). {الرِّياحَ:}
مفعول به. {بُشْراً:} حال من الرياح، وقيل: مفعول مطلق، وهذا على قراءته بالنون، لأن أرسل، وأنشر متقاربان في المعنى. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق ب: {بُشْراً،} أو بمحذوف صفة له، و {بَيْنَ} مضاف، و {يَدَيْ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء؛ لأنه مثنى لفظا، وصورة، وحذفت النون للإضافة، و {يَدَيْ} مضاف، و {رَحْمَتِهِ} مضاف إليه، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، وجملة:{يُرْسِلُ..} . إلخ صلة (من) على اعتبارها موصولة، وفي محل رفع خبرها على اعتبارها استفهامية، ويكون العطف عطف جملة على جملة.
{أَإِلهٌ مَعَ اللهِ} انظر الآية رقم [60]. {تَعالَى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {اللهِ:} فاعله. {عَمّا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:(عن)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: عن الذي، أو: عن شيء يشركونه مع {اللهِ} . وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب: (عن)، التقدير: تعالى الله عن شركهم، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ:} يبدأ الخلق: يوجده من العدم، مثل خلق الإنسان من النطفة، ومثله كثير، ثم يبعثه، وينشره بعد موته، وفنائه، والكفرة وإن أنكروا الإعادة؛ فهم معترفون بالإيجاد من العدم، وليس البعث، والإعادة بأصعب على الله من الإيجاد من العدم، بل هو أهون
عليه. {وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ} أي: بأسباب سماوية، وأرضية، من السماء بسبب المطر، ومن الأرض بسبب النبات. {أَإِلهٌ مَعَ اللهِ} يخلق، ويرزق، ويبدئ ويعيد؟ لا، وألف لا، لا يوجد معه معين، ولا مساعد. {قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ:} حجتكم على أنه صنع أحد شيئا من هذه الأشياء غير الله. {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} أي: في ادعائكم: أن مع الله إلها آخر.
تنبيه: {هاتُوا:} بمعنى: أحضروا. قال ابن هشام-رحمه الله تعالى-في قطر الندى:
وأما (هات وتعال) فعدّهما جماعة من النحويين في أسماء الأفعال، والصواب: أنهما فعلا أمر، بدليل أنهما دالان على الطلب، وتلحقهما ياء المخاطبة، تقول: هاتي، وتعالي. ثم قال: واعلم أنّ آخر (هات) مكسور أبدا، إلا إذا كان لجماعة المذكورين، فإنه يضم، فتقول: هات يا زيد، وهاتي يا هند، وهاتيا يا زيدان، أو هاتيا يا هندان، وهاتين يا هندات، كل ذلك بكسر التاء، وتقول: هاتوا يا قوم بضمها. انتهى. أقول: ومما ينبغي التنبه له: أنهما ملازمان للأمرية، فهما جامدان، لا ماضي، ولا مضارع لهما.
الإعراب: {أَمَّنْ:} هو مثل الآية رقم [60] بلا فارق. {يَبْدَؤُا:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (من). {الْخَلْقَ:} مفعول به، والجملة الفعلية صلة (من) على اعتبارها موصولة، والخبر محذوف، وفي محل رفع خبرها على اعتبارها استفهامية. {ثُمَّ:} حرف عطف. {يُعِيدُهُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (من)، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. على الوجهين المعتبرين فيها. {وَمَنْ:} الواو: حرف عطف. (من): معطوفة على ما قبلها. {يَرْزُقُكُمْ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (من) والكاف مفعول به، والجملة الفعلية صلة (من)، أو في محل رفع خبرها، على اعتبارها استفهامية، ويكون العطف عطف جملة على جملة.
{مِنَ السَّماءِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله. {أَإِلهٌ:}
الهمزة: حرف استفهام توبيخي تقريعي. (إله): مبتدأ. {مَعَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر المبتدأ. و {مَعَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.
{قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {هاتُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بُرْهانَكُمْ:} مفعول به، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {إِنْ} حرف شرط جازم.
{كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه.
{صادِقِينَ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جمع مذكر سالم
…
إلخ، وجملة:
{كُنْتُمْ صادِقِينَ} لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: إن كنتم صادقين؛ فهاتوا
…
إلخ، والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {قُلْ:} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ:} العلم هنا من المعرفة، لا من اليقين. والغيب: هو ما لم يقم عليه دليل، ولا اطلع عليه مخلوق، والغيب:
ما غاب عن المخلوقات من معلومات لا يعلمها إلا الله تعالى، وقد ذكرها ربنا في آخر آية من آيات سورة (لقمان)، وقال سبحانه في سورة (الرعد):{اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ} . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مفاتح الغيب خمس، لا يعلمها إلاّ الله تعالى: لا يعلم أحد ما يكون في غد إلاّ الله، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلاّ الله، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا، ولا تدري نفس بأيّ أرض تموت، ولا يدري أحد متى يأتي المطر» . وفي رواية أخرى: «لا يعلم ما تغيض الأرحام إلاّ الله، ولا يعلم ما في غد إلاّ الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلاّ الله، ولا تدري نفس بأيّ أرض تموت إلاّ الله، ولا يعلم متى تقوم السّاعة إلاّ الله» . أخرجه البخاري. هذا؛ والغيب: ما غاب عن الإنسان، ولم تدركه حواسه، قال الشاعر المسلم:[الطويل]
وبالغيب آمنّا، وقد كان قومنا
…
يصلّون للأوثان قبل محمّد
أقول: وما اخترع من أشياء، وما اكتشف من أمور في هذا العصر، وما يتحدثون عنه من مغيبات، مثل نزول المطر، وغير ذلك، إنما هو قائم على التجربة، والتخمين، كثيرا ما يخطئ، وقد يصيب فيبقى من غيب الله تعالى.
{وَما يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ:} وما يعلمون في أي وقت يبعثون من قبورهم للحساب، والجزاء. وعن بعضهم: أخفى غيبه عن الخلق، ولم يطّلع عليه أحد، لئلا يأمن عبد من عبيده مفاجأة عقابه، وحسابه. وقالت عائشة-رضي الله عنها: من زعم أن محمدا يعلم ما في غد؛ فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول:{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ} .
أخرجه مسلم. وأخيرا أقول: نزلت الآية الكريمة في المشركين حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة، وعليه؛ فالمعنى: أن الله هو الذي يعلم الغيب وحده، ويعلم متى تقوم الساعة؟
وأخيرا أذكر ما قاله البيضاوي-رحمه الله تعالى-: لما بين الله تعالى اختصاصه بالقدرة التامة الفائقة العامة؛ أتبعه ما هو كاللازم له، وهو التفرد بعلم الغيب، والاستثناء منقطع، ورفع المستثنى على اللغة التميمية؛ للدلالة على: أنه تعالى إن كان ممن في السموات والأرض؛ ففيها من يعلم الغيب مبالغة في نفيه عنهم. أو متصل على أن المراد ممن في السموات والأرض من تعلق علمه بها، واطلع عليها اطلاع الحاضر فيها، فإنه يعمّ الله تعالى، وأولي العلم من خلقه.
وهو موصول، أو موصوف.
الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لا:} نافية. {يَعْلَمُ:} فعل مضارع. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل. {فِي السَّماواتِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله. {الْغَيْبَ:}
مفعول به. {إِلاَّ:} حرف حصر. {اللهُ:} بدل من: {مَنْ} قاله أبو البقاء، ومكي، والمعنى:
لا يعلم أحد الغيب إلا الله. وقيل: {إِلاَّ} بمعنى: غير، وهي صفة ل:{مَنْ،} فتكون مثل الآية رقم [22] من سورة (الأنبياء)، ظهر إعرابها على ما بعدها بطريق العارية، لكونها على صورة الحرف، و {إِلاَّ} مضاف، ولفظ الجلالة مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة:{إِلاَّ،} التي على صورة الحرف.
هذا؛ وقال السمين: {اللهُ:} مبتدأ، خبره محذوف، تقديره: يعلمه، و {إِلاَّ} بمعنى:«لكن» إشارة إلى انقطاع الاستثناء. وقال ابن هشام في مغنيه: وفي الآية وجه آخر، وهو أن يقدر {مَنْ} مفعولا به، والغيب بدل اشتمال، والله فاعل، والاستثناء مفرغ. وأعتمد الوجه الثاني من الأوجه الأربعة المتقدمة. {وَما:} الواو: واو الحال. (ما): نافية. {يَشْعُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو فاعله. {أَيّانَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب على الظرفية الزمانية متعلق بالفعل بعده، وهو معلق لما قبله عن العمل لفظا. {يُبْعَثُونَ:}
فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع
…
إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب سدت مسد مفعول الفعل (يشعرون)، وهذه الجملة في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط:
الواو فقط، والكلام:{لا يَعْلَمُ..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
{بَلِ اِدّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66)}
الشرح: {بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ:} قال البيضاوي رحمه الله تعالى: لما نفى عنهم علم الغيب، وأكد ذلك بنفي شعورهم، بما هو مالهم لا محالة؛ بالغ فيه بأن أضرب عنه، وبين: أنّ ما انتهى، وتكامل فيه أسباب علمهم من الحجج والآيات، وهو أن يوم القيامة كائن لا محالة، لا يعلمونه كما ينبغي. انتهى. وقال النسفي: والإضرابات الثلاث تنزيل لأحوالهم، وتكرير لجهلهم. وصفهم أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث، ثم بأنهم لا يعلمون: أن القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية، فلا يزيلونه، والإزالة مستطاعة. انتهى. وكلاهما اختصره من الكشاف. هذا؛ و:{اِدّارَكَ} بمعنى لحق وتتابع.
وخذ تتمة ما قاله الزمخشري-رحمه الله تعالى-: ألا ترى أن من لم يسمع اختلاف المذاهب، وتضليل أربابها بعضهم لبعض؛ كان أمره أهون ممن سمع بها، وهو جاثم لا يشخص به طلب
التمييز بين الحق والباطل. انتهى. أي: لا يبحث عن سبب الاختلاف بين المذاهب، ويتعرف دليل كل مذهب، ووجهة نظر إمام المذهب، وهذا يعني: أن الإنسان إذا تعرف أسباب الاختلاف بين المذاهب الأربعة، لا يبقى عنده شك في أن كل مذهب على حق، ولكلّ وجهة الله مولّيه إياها.
{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها} أي: من الآخرة، فهم كمن تحيّر في أمر لا يجد عليه دليلا، ولا يهتدي إليه سبيلا، ولكنهم إذا أبصروا القيامة؛ أيقنوا بها، وزال شكهم فيها.
{بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ:} لا يدركون دلائلها؛ لاختلال بصيرتهم؛ وإن كانت لهم أبصار: {فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} . هذا؛ وواحد {عَمُونَ} عمو، وقيل: عم، أصله عمي، وقد مر معنا إعلال مثله، وعليه فجمعه: عميون، حذفت الياء لالتقاء الساكنين، ولم يجز تحريكها لثقل الحركة فيها، وعليه فقد تصرف فيه بحذف لامه كقاض إذا جمع، وهو صفة مشبهة.
وفي السمين، يقال: عم: إذا كان أعمى البصيرة، غير عارف بأموره، وأعمى، أي: في البصر، وهذا قول الليث، وقيل: عم، وأعمى، كخضر، وأخضر. هذا؛ ولم يذكر هذا اللفظ في غير هذه السورة، وذكر بلفظ:{عَمِينَ} في الآية رقم [64] من سورة (الأعراف).
بعد هذا في الفعل (ادّارك) اثنتا عشرة قراءة، أذكر بعضها والمعتمد منها:(ادّارك): أصله:
تدارك، وقد قرئ به أيضا، فأدغمت التاء في الدال بعد قلبها دالا، وتسكينها، ثم اجتلبت همزة الوصل ليمكن النطق بالساكن، ولهذه الكلمة نظائر، مثل: ادّكر، واطّلع، والطّيّر، وادّارأتم، وازّيّن؛ إذ الأصل: تدارأتم، وتزيّن، وقال تعالى في سورة (الأعراف) الآية رقم [38]. {حَتّى إِذَا ادّارَكُوا فِيها جَمِيعاً} ومعنى القراءتين واحد، وفي معناه قولان: أحدهما: أن المعنى: بل تكامل علمهم في الآخرة؛ لأنهم رأوا كل ما وعدوا به معاينة، فتكامل علمهم به. والقول الآخر: أن المعنى: بل تتابع علمهم اليوم في الآخرة، فقالوا: تكون، وقالوا: لا تكون،
وقرئ: «(أدرك)» من الإدراك، وفي معناه قولان: أيضا: أحدهما: أن معناه: كمل في الآخرة، وهو مثل الأول، قال مجاهد: معناه: يدرك علمهم في الآخرة، ويعلمونها إذا عاينوها حين لا ينفعهم علمهم؛ لأنهم كانوا في الدنيا مكذبين. والقول الآخر: أنه على معنى الإنكار، وهو مذهب أبي إسحاق، واستدل على هذا القول بأن بعده:{بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ} أي: لم يدرك علمهم علم الآخرة. وقيل: بل ضلّ، وغاب علمهم في الآخرة، فليس لهم فيها علم انتهى. قرطبي بتصرف كبير.
هذا؛ وقد تفرد الجلال رحمه الله تعالى بقوله: {بَلِ} بمعنى «هل» التي للاستفهام الإنكاري، ومعناه: ليس الأمر كذلك. ولم يسلك هذا التقرير غيره، بل أبقوا «بل» على أصلها من الإضراب الانتقالي، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {بَلِ:} حرف إضراب، وانتقال. {اِدّارَكَ:} فعل ماض {عِلْمُهُمْ:} فاعل، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {فِي الْآخِرَةِ:} جار ومجرور
متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بالمصدر علمهم، وهو أولى، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {بَلِ:} حرف إضراب وانتقال أيضا. {عِلْمُهُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {فِي شَكٍّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {مِنْها:} جار ومجرور متعلقان ب: {شَكٍّ،} أو بمحذوف صفة له، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها أيضا. {بَلِ:} حرف إضراب، وانتقال. {عِلْمُهُمْ:} مبتدأ. {مِنْها:} متعلقان بما بعدهما.
{عَمُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية مستأنفة
…
إلخ.
{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنّا لَمُخْرَجُونَ (67)}
الشرح: في الآية قراآت كثيرة، وأوجه متعددة، وأقتصر على هذه القراءة شرحا، وإعرابا، فالمراد بالذين كفروا: كفار قريش، والآية بيان لضلالهم، وإنكارهم للبعث، والحساب، والجزاء، وعمههم عن طريق الحق، والصواب، والمراد بالإخراج: الإخراج من القبور، أو من حال الفناء بعد الموت إلى الحياة، والوجود. ومعنى الآية رقم [82] من سورة (المؤمنون) قريب من معنى هذه الآية، فهو تعجب منها، واستبعاد للبعث، والإحياء بعد الموت، وفناء الجسد، ولكنهم لم يتأملوا: أنهم كانوا قبل ذلك ترابا، فخلقهم الله، وأظهرهم إلى الوجود، وهم كانوا يظنون: أن البعث، والإعادة إنما يكونان في الدنيا، وهم لم يروا أحدا رجع إلى الدنيا ممن تقدمهم. وتكرير حرف الاستفهام إنكار بعد إنكار، وجحود عقيب جحود، ودليل على كفر مؤكد، مبالغ فيه.
الإعراب: {وَقالَ:} الواو: حرف استئناف. (قال): فعل ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، {كَفَرُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {أَإِذا:}
الهمزة: حرف استفهام إنكاري. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب، وهذا عند سيبويه. {كُنّا:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمه. {تُراباً:} خبر (كان)، وجملة:{كُنّا تُراباً} في محل جر بإضافة (إذا) إليها على القول المشهور المرجوح، وجواب (إذا) محذوف دل عليه الجملة الآتية، التقدير: أئذا كنا ترابا نخرج، ولا يجوز أن يعمل فيها مخرجون؛ لأن كلا من الهمزة و (إنّ) واللام مانعة من عملها فيما قبلها.
{وَآباؤُنا:} الواو: حرف عطف. (آباؤنا): معطوف على (نا) وجاز ذلك للفصل بينهما ب: {تُراباً،} و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والكلام {أَإِذا..}. إلخ في محل نصب مقول القول. {أَإِنّا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. (إنا): حرف مشبه بالفعل، و (نا): ضمير
متصل في محل نصب اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {لَمُخْرَجُونَ:} اللام:
هي المزحلقة. (مخرجون): خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الاسمية:
{أَإِنّا} مؤكدة لما قبلها، والاستفهام فيها مبالغة بالإنكار، وقرئ بدون الاستفهام فيها. فيكون الإنكار حصل بالأولى، وهذه مرتبطة فيها من جهة التوكيد، فالإنكار بالأولى إنكار فيها أيضا، والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالَ..} . مستأنفة، لا محل لها.
{لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)}
الشرح: {لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ} أي: هذا الوعد، وهو: البعث بعد الموت، والحساب، والجزاء. {وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ} أي: وعد آباءنا قوم زعموا أنهم رسل من قبل مجيء محمد، فلم نرهم بعثوا، ولم نر لذلك حقيقة قولهم هذا؛ لأنهم ظنوا: أن البعث، والإعادة بعد الموت إنما يكونان في الدنيا، وهم لم يروا، ولم يسمعوا: أن أحدا خرج من قبره بعد موته. {إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أي: ما هذا الذي يقوله محمد: «إننا نبعث بعد الموت» إلا أكاذيب الأولين، وترهاتهم، وخرافاتهم؛ التي سطروها. هذا؛ والآية بحروفها مذكورة في سورة (المؤمنون) برقم [83] مع ملاحظة تقديم، {هذا} على {نَحْنُ} هنا؛ لأن المقصود بالذكر هو البعث، وأخر في سورة (المؤمنون){هذا} على {نَحْنُ} فالمقصود به المبعوثون نظرا إلى الاهتمام. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه، وانظر شرح (أساطير) في الآية رقم [5] من سورة (الفرقان).
الإعراب: {لَقَدْ:} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف، أو هي لام الابتداء. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {وُعِدْنا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على السكون، و (نا): ضمير متصل في محل رفع نائب فاعله، وهو المفعول الأول. {هذا:} الهاء: حرف تنبيه لا محل له. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب مفعول به ثان. {نَحْنُ:} ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع توكيد ل: (نا). {وَآباؤُنا:} الواو: حرف عطف. (آباؤنا):
معطوف على (نا) بعد توكيدها، و (نا): في محل جر بالإضافة. {مِنْ قَبْلُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: {وُعِدْنا،} أو بمحذوف صفة: (آباؤنا)، أي: الكائنون من قبلنا، ومقتضى القاعدة أن يكونا متعلقين بمحذوف حال منه؛ لأنه معرفة بالإضافة للضمير، ولكن المراد به الماضي، وهو لا يتفق مع الحال. تأمل، وبني (قبل) على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى، وجملة:{لَقَدْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب القسم المقدر، أو لأنها ابتدائية. {إِنْ:} حرف نفي بمعنى «ما» . {هذا:} اسم إشارة مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {إِلاّ:} حرف حصر.
{أَساطِيرُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {الْأَوَّلِينَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء
…
إلخ، والآية بكاملها في محل نصب مقول القول؛ لأنها من مقول الذين كفروا.
{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)}
الشرح: {قُلْ:} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {سِيرُوا فِي الْأَرْضِ:} هذا أمر لكفار قريش؛ لينظروا ما فعل الله بالأقوام الذين كذبوا رسلهم؛ حيث أهلكهم بسبب ذلك، وفيه تهديد، ووعيد لا يخفيان لأهل مكة ولكلّ المكذبين المجرمين. هذا؛ وقد قال الله تعالى هنا:{فَانْظُرُوا} ومثلها الآية رقم [36] من سورة (النحل)، والآية رقم [137] من سورة (آل عمران) بينما قال تعالى في الآية رقم [11] من سورة (الأنعام):{ثُمَّ انْظُرُوا} والفرق بينهما: أن النظر في السور الثلاث جعل مسببا عن السير، فكأنه قيل: سيروا لأجل النظر، ولا تسيروا سير الغافلين، ومعنى السير في سورة (الأنعام) إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها، وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ونبه على ذلك ب:{ثُمَّ،} التي هي للتراخي لتباعد ما بين الواجب، والمباح، وانظر التعبير عن الكافرين بالمجرمين، ونحوه في الآية رقم [200] من سورة (الشعراء)، ورحم الله البيضاوي حيث قال: والتعبير عن الكافرين بالمجرمين ليكون لطفا للمؤمنين في ترك الجرائم، وانظر عدم تأنيث {كانَ} في الآية رقم [51].
الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {سِيرُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {فِي الْأَرْضِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {فَانْظُرُوا:} الفاء: حرف عطف. (انظروا):
فعل أمر وفاعله، والألف للتفريق، وهو معلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام. {كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب خبر (كان)، تقدم عليها، وعلى اسمها، وإن اعتبرت {كانَ} تامة فهو في محل نصب حال من {عاقِبَةُ،} والعامل في الحال {كانَ} . {عَقِبِهِ:} اسم (كان) أو فاعل بها، و {عاقِبَةُ} مضاف، و {الْمُجْرِمِينَ} مضاف إليه مجرور، وجملة:{كَيْفَ كانَ..} . إلخ في محل نصب سدت مسد مفعول الفعل: (انظروا)، وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها فهي في محل نصب مقول القول مثلها. وجملة:{قُلْ سِيرُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ (70)}
الشرح: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لا تحزن على الكافرين الذين ناصبوك العداء، ولم يتبعوك، وآذوك، وأصحابك بأنواع الأذى. {وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ} أي: لا تغتم يا محمد، ولا يضيق صدرك بسبب مكرهم، وتدبير الكيد لك، فإن الله مذلهم، وخاذلهم، وناصرك عليهم.
هذا؛ وقرئ (ضيق) بفتح الضاد وكسرها، وهما لغتان كالقول، والقيل، ويجوز أن يكون بالفتح مخففا من المشدد مثل تخفيف: هين، ولين، ونحوهما، وقال الفراء: الضّيق: ما ضاق
عنه صدرك، والضّيق ما يكون في الذي يتسع، ويضيق، مثل الدار، والثواب. والمكر: تدبير الأمر في الخفاء. ولا تنس: أن الآية مذكورة بحروفها في الآية رقم [127] من سورة (النحل).
الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تَحْزَنْ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لا)، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{قُلْ..} .
إلخ لا محل لها مثلها. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تَكُنْ:} فعل مضارع ناقص مجزوم ب: (لا)، واسمه مستتر فيه تقديره:«أنت» . {فِي ضَيْقٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {تَكُنْ،} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {مِمّا:} (من): حرف جر. (ما): مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب (من)، التقدير: من مكرهم، والجار والمجرور متعلقان ب:{ضَيْقٍ} أو بمحذوف صفة له. هذا؛ واعتبار (ما) موصولة أو موصوفة فيه ضعف لا يخفى. تأمل، وتدبر.
{وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71)}
الشرح: والمعنى يقول كفار قريش: {مَتى هذَا الْوَعْدُ} أي: الذي تعدنا به يا محمد من نزول العذاب؟! وقيل: قيام الساعة. وإنما قالوا ذلك على وجه التكذيب، والاستبعاد، والاستهزاء. {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} أي: فيما تعدوننا به، وإنما قالوا بلفظ الجمع؛ لأن كل أمة من الأمم السابقة قالت لرسولها كذلك، أو المعنى: إن كنتم صادقين أنت، وأتباعك يا محمد صلى الله عليه وسلم! وينبغي أن تعلم: أن هذه الآية تكررت بحروفها في كثير من السور، وفيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
الإعراب: {وَيَقُولُونَ:} الواو: حرف استئناف. (يقولون): فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {مَتى:} اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب على الظرفية الزمانية متعلق بمحذوف خبر مقدم. {هذَا:} الهاء: حرف تنبيه لا محل له. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. {الْوَعْدُ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {صادِقِينَ:} خبره منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: إن كنتم صادقين؛ فمتى يتحقق صدقكم، والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة {وَيَقُولُونَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)}
الشرح: {قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ:} تبعكم، ولحقكم. {بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ:} حلوله ونزوله، وهو عذاب يوم بدر، ولعل، وعسى، وسوف في مواعيد الملوك كالجزم بها، وإنما
يطلقونها إظهارا لوقارهم، وإشعارا بأن الرمزة منهم كالتصريح من غيرهم، وعليه جرى وعد الله تعالى، ووعيده، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر وجوبا، تقديره:«أنت» . {عَسى:} فعل ماض جامد مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {يَكُونَ:} فعل مضارع ناقص منصوب ب: «أن» ، والمصدر المؤول من {أَنْ يَكُونَ} في محل رفع فاعل {عَسى،} وهو تام هنا، وإن كان من أفعال الرجاء. هذا؛ وقيل: هي الناقصة هنا، واسمها ضمير، والمصدر المؤول خبرها، وهو غير وجيه. تأمل. {رَدِفَ:} فعل ماض. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهذا على اعتبار الفعل لازما، واعتباره بمعنى: دنا، واقترب، وقد تعدى باللام، وأما على اعتباره متعديا بمعنى: تبع ولحق، فاللام زائدة، ويسميها ابن هشام لام التقوية، والكاف في محل نصب مفعول به، وإن كانت مجرورة لفظا باللام. هذا؛ وقيل: الفعل متعد، والمفعول محذوف، واللام أصلية، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، التقدير:
ردف الخلق لأجلكم، وهذا ضعيف كما ترى. {بَعْضُ:} فاعل: {رَدِفَ،} والجملة الفعلية في محل نصب خبر {يَكُونَ،} وعلى هذا فاسم {يَكُونَ} ضمير شأن محذوف، وهو قول الزمخشري، والبيضاوي، والنسفي في الآية رقم [185] من سورة (الأعراف)، وجوز السمين اعتبار {بَعْضُ} اسم {يَكُونَ} مؤخرا. وجملة:{رَدِفَ لَكُمْ} في محل نصب خبر مقدم، وعليه ففاعل:{رَدِفَ لَكُمْ} ضمير مستتر تقديره: «هو» يعود إلى متأخر لفظا، وأرى: أن الفعلين {يَكُونَ} و {رَدِفَ لَكُمْ} قد تنازعا {بَعْضُ} فالمسألة من باب التنازع، تأمل جيدا يظهر لك ذلك جليا بعونه تعالى، و {بَعْضُ} مضاف، و {الَّذِي} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية بعده صلته، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: الذي تستعجلونه، وجملة:{عَسى..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73)}
الشرح: {وَإِنَّ رَبَّكَ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويعم كل عاقل. {لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ:} صاحب إنعام، وجود، وإفضال على الناس حيث لم يعاجلهم بالعقاب، والانتقام على المعاصي، والمنكرات، والفضل، والفاضلة: الإفضال، وجمعهما: فضول، وفواضل. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} أي: لا يعرفون حق النعمة، ولا يشكرون الله على فضله، وجوده، وكرمه، فهم يستعجلون العذاب بجهلهم. هذا؛ وقد قال تعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ} سورة (سبأ) رقم [13].
الإعراب: {وَإِنَّ:} الواو: حرف استئناف (إن): حرف مشبه بالفعل. {رَبَّكَ:} اسم (إن)، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.
{لَذُو:} اللام: هي المزحلقة. (ذو): خبر (إن) مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و (ذو) مضاف، و {فَضْلٍ} مضاف إليه. {عَلَى النّاسِ:} جار ومجرور متعلقان ب {فَضْلٍ،} أو هما متعلقان بمحذوف صفه له، والجملة الاسمية:{وَإِنَّ رَبَّكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَلَكِنَّ:} الواو: حرف عطف.. (لكن): حرف مشبه بالفعل. {أَكْثَرَهُمْ:}
اسمها، والهاء في محل جر بالإضافة. {لا:} نافية. {يَشْكُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لكن)، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، وقيل: في محل نصب حال، والمعنى لا يؤيده قطعا.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74)}
الشرح: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ:} تخفي صدورهم، وقرئ:«(ما تكنّ)» بفتح التاء وضم الكاف، من: كننت الشيء، وأكننته: إذا سترته، وأخفيته. {وَما يُعْلِنُونَ:} يظهرون من عداوتك، فليس تأخير العذاب لخفاء حالهم، ولكن له وقت مقدر أوانه، فهو سبحانه وتعالى يعلم ما يخفون، وما يعلنون من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكايدهم، وهو معاقبهم على ذلك بما يستحقون. وقد حقق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده؛ حيث قال تعالى:{وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ} . هذا؛ وقد ذكرت الآية بحروفها كاملة في سورة (القصص) برقم [69] والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَإِنَّ:} الواو: حرف عطف. (إن): حرف مشبه بالفعل. {رَبَّكَ:} اسم (إن)، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة
…
إلخ. {لَيَعْلَمُ:} اللام: هي المزحلقة (يعلم):
فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{رَبَّكَ} . {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {تُكِنُّ:} فعل مضارع. {صُدُورُهُمْ:} فاعله، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة {ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: ليعلم الذي، أو شيئا تكنه صدورهم، وجملة:{لَيَعْلَمُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{وَإِنَّ رَبَّكَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.
{وَما:} الواو: حرف عطف. {ما:} معطوفة على سابقتها، وباقي الإعراب لا خفاء فيه، فهو مثل سابقه بلا فارق.
{وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75)}
الشرح: أي: وما من شيء يغيب في السماء، والأرض عن أعين الناس، ومشاهدتهم إلا هو مسجل، ومكتوب في اللوح المحفوظ، سمي الشيء الذي يغيب، ويخفى: غائبة، وخافية،
والتاء فيهما كالتاء في العاقبة والعافية، ونظائرهما: الرمية، والنطيحة، والذبيحة في أنها أسماء غير صفات. ويجوز أن يكونا صفتين، وتاؤهما للمبالغة كالراوية، وإذا كان الله يعلم كل شيء في السموات، والأرض؛ فكيف يخفى عليه ما يسر هؤلاء، وما يعلنونه، فأما عذابهم، وعقابهم، فله أجل مضروب مسجل لا يتأخر عنه، ولا يتقدم، فلماذا يستعجلونه؟!.
الإعراب: {وَما:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (ما): نافية. {مِنْ:} حرف جر صلة. {غائِبَةٍ:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {فِي السَّماءِ:} متعلقان ب {غائِبَةٍ،} أو بمحذوف صفة لها.
{وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله. {إِلاّ:} حرف حصر. {فِي كِتابٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {مُبِينٍ:} صفة: {كِتابٍ،} والجملة الاسمية: {وَما مِنْ غائِبَةٍ..} . إلخ لا محل لها على الوجهين المعتبرين في الواو.
الشرح: إن هذا القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم يبين لليهود، والنصارى-الذين هم من أولاد يعقوب-الكثير مما اختلفوا فيه، وتخاصموا بشأنه، فإنهم اختلفوا في شأن عيسى على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، كما رأيت في سورة (التوبة) و (المائدة) وغيرهما؛ حيث تحزبوا فيه أحزابا، ووقع التناكر بينهم في أشياء كثيرة، حتى لعن بعضهم بعضا، قال تعالى:{وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ} وقد نزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه لو أنصفوا، وأخذوا به وأسلموا؛ لنالوا خيري الدنيا، والآخرة، ولفازوا بالحسنيين.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {هذَا:} الهاء: حرف تنبيه لا محل له. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب اسم {إِنَّ} . {الْقُرْآنَ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه. {يَقُصُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{الْقُرْآنَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ} . {عَلى بَنِي:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {بَنِي} مضاف، و {إِسْرائِيلَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة.
{أَكْثَرَ:} مفعول به، و {أَكْثَرَ} مضاف، و {الَّذِي} اسم موصول مبني على السكون، في محل جرّ بالإضافة. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {يَخْتَلِفُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ:} صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الاسمية:{إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ..} . إلخ مبتدأة أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.
{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)}
الشرح: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ:} أمره بالتوكل عليه تعالى في جميع أموره، وكافة شؤونه، وعدم المبالاة بأعداء الله، وأعدائه، وانظر (التوكل) في الآية رقم [217] من سورة (الشعراء). {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ:} هذا تعليل للتوكل بأنه على الحق الأبلج، وهو الدين الواضح، والصراط
المستقيم؛ الذي لا شك، ولا ريب فيه. وفيه بيان: أن صاحب الحق حقيق بالوثوق بالله وبنصرته؛ لأن للباطل جولة، ثم يضمحل. وقيل: للباطل جولة، وللحق ألف جولة، قال تعالى:
{وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً} .
هذا؛ والحق ضد الباطل، قال الراغب: أصل الحق المطابقة والموافقة، كمطابقة رجل الباب في حقّه لدورانه على الاستقامة. والحق يقال لموجد الشيء بسب ما تقتضيه الحكمة، ولذلك قيل في الله تعالى: هو الحقّ، للموجد بحسب مقتضى الحكمة حقّ؛ ولذلك يقال: فعل الله كلّه حقّ، نحو قولنا: الموت حقّ، والحساب حقّ
…
إلخ، وللاعتقاد في الشيء المطابق لما عليه ذلك الشيء في نفسه، نحو اعتقاد زيد في الجنة حق، وللفعل والقول الواقعين بحسب ما يجب، وقدر ما يجب، في الوقت الذي يجب، نحو: قولك حق، وفعلك حق، ويقال:
أحققت ذا، أي: أثبتّه حقّا، أو: حكمت بكونه حقّا. انتهى. بغدادي.
الإعراب: {فَتَوَكَّلْ:} الفاء: حرف استئناف، أو هي الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ذلك واقعا، ومحققا، فتوكل
…
إلخ. (توكل): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية لا محل لها على الوجهين المعتبرين في الفاء. {عَلَى اللهِ:}
جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {إِنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف ضمير متصل في محل نصب اسمها. {عَلَى الْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف خبر (إنّ). {الْمُبِينِ:} صفة الحق، والجملة الاسمية:{إِنَّكَ..} . إلخ تعليل للأمر، لا محل لها من الإعراب.
{إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)}
الشرح: لما كان الكفار، لا يفهمون ما يسمعون، ولا به ينتفعون؛ شبهوا بالموتى، وهم أحياء صحاح الحواس، وبالصم الذين ينعق بهم فلا يسمعون، وبالعمي حيث يضلون الطريق، ولا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم، ويجعلهم هداة بصراء إلا الله تعالى. ثم أكد حال الصم بقوله:{إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ؛} لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن تولى عنه مدبرا؛ كان أبعد عن إدراك صوته. انتهى. نسفي.
هذا؛ وأقول: إن الله قال عنهم في سورة (البقرة): {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ؛} وهم لم يكونوا في الحقيقة كذلك، ولكن المعنى: هم صم عن سماع الحق، وهم خرس عن النطق بالحق، وهم عمي عن طريق الحق، فلا يهتدون، وهذا تكرر في القرآن الكريم، وآية الأعراف رقم [179] ذكرت أن لهم قلوبا، ولكن لا يفقهون بها، وأن لهم أعينا؛ ولكن لا يبصرون بها طريق الخير، والهدى، وأن لهم آذانا، ولكن لا يسمعون بها الحق سماع قبول، وتدبر. هذا؛ والموتى جمع:
ميت ويجمع على أموات، وكلاهما جمع تكسير، ويجمع جمع سلامة أيضا: ميتون، قال تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} .
الإعراب: {إِنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف ضمير متصل في محل نصب اسمها. {لا:}
نافية، {تُسْمِعُ:} فعل مضارع، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {الْمَوْتى:} مفعول به أول منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والمفعول الثاني محذوف، تقديره:
الدعاء، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ) وما بعدها معطوفة عليها، فهي في محل رفع مثلها، والجملة الاسمية:{إِنَّكَ..} . إلخ تعليل للأمر قبلها. {إِذا:} ظرف زمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل {تُسْمِعُ} . {وَلَّوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة التي هي فاعل، والألف للتفريق. {مُدْبِرِينَ:} حال من واو الجماعة، وهي حال مؤكدة منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، وجملة:{وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} في محل جر بإضافة {إِذا} إليها. هذا؛ والآية مذكورة برقم [52] من سورة (الروم).
الشرح: {وَما أَنْتَ:} يا محمد. {بِهادِي الْعُمْيِ:} عمى البصيرة لا عمى البصر، والمعنى:
ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى، وأعمى قلبه عن الإيمان. {إِنْ تُسْمِعُ إِلاّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا:} لا تسمع سماع قبول، وتدبر إلا من يؤمن، ويصدق بالقرآن: أنه منزل من عند الله.
{فَهُمْ مُسْلِمُونَ:} مخلصون، من قوله تعالى:{بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ} أي: جعله سالما لله خالصا له، أي: لا رياء، ولا حب سمعة، ومحمدة. وانظر الآية رقم [53] من سورة (الروم).
الإعراب: {وَما:} الواو: واو الحال، أو حرف استئناف. (ما): نافية حجازية تعمل عمل «ليس» . {أَنْتَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع اسم (ما). {بِهادِي:} الباء:
حرف جر زائد. هادي: خبر (ما) مجرور لفظا، منصوب محلا، وهو مضاف، و {الْعُمْيِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {عَنْ ضَلالَتِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: (هادي)، وأجاز أبو البقاء تعليقهما ب:(العمي)، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الاسمية:{وَما أَنْتَ..} . إلخ في محل نصب حال من فاعل: {تُسْمِعُ} المستتر، والرابط: الواو، والضمير، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها.
{إِنْ:} حرف نفي بمعنى: «ما» . {تُسْمِعُ:} فعل مضارع، والفاعل ضمير مستتر تقديره:
«أنت» . {إِلاّ:} حرف حصر. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به ثان، والمفعول الأول محذوف. {يُؤْمِنُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {مَنْ،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة:{مَنْ،} لا محل لها. {بِآياتِنا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{إِنْ}
{تُسْمِعُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَهُمْ:} الفاء: حرف عطف. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {مُسْلِمُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
الشرح: {وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} أي: وجب عليهم العذاب، وقيل: إذا غضب الله عليهم.
وقيل: إذا وجبت الحجة عليهم؛ وذلك: أنهم إذا لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر.
وقيل: إذا لم يرج صلاحهم، وذلك في آخر الزمان قبل قيام الساعة.
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال قبل ستّ: طلوع الشمس من مغربها، والدّخان، والدجّال، والدّابّة، وخويصّة أحدكم، وأمّ العامريّة» . رواه مسلم. انتهى. خازن ولدى مراجعة صحيح مسلم وجدت الحديث بسنده إلى أبي هريرة كما يلي: «بادروا بالأعمال ستّا: طلوع الشّمس من مغربها، والدّخان، والدّجّال، والدّابّة، وخاصّة أحدكم، وأمر العامّة» . بروايتين: الأولى بأو، والثانية بالواو العاطفة. وفسرت «خويصّة أحدكم» و «خاصّة أحدكم» بالموت، وفسرت «أمّ العامريّة» و «أمر العامّة» بالفتنة التي تعم الناس، أو الأمر الذي يستبد به العوام، ويكون من قبلهم دون الخواص من تأمير الأمة. هذا؛ وفي القاموس المحيط: والخويصّة تصغير الخاصّة، ياؤها ساكنة؛ لأن ياء التصغير لا تتحرك، وفسرت الخاصة بشواغل النفس، وأمر العامة بيوم القيامة.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ أوّل الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدّابّة على النّاس ضحى، وأيّتهما كانت قبل صاحبتها؛ فالأخرى على أثرها قريبا» . أخرجه مسلم.
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تخرج الدّابّة ومعها خاتم سليمان وعصا موسى، فتجلو وجه المؤمن، وتخطم أنف الكافر بالخاتم، حتّى إنّ أهل الخوان ليجتمعون، فيقول هذا: يا مؤمن، ويقول هذا: يا كافر» . أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن، وروى البغوي بإسناده عن الثعلبي وأوصله القرطبي إلى حذيفة بن اليمان-رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يكون للدّابّة ثلاث خرجات من الدّهر، فتخرج خروجا بأقصى اليمن، فيفشو ذكرها في البادية، لا يدخل ذكرها القرية-يعني: مكّة-ثم تمكث زمانا طويلا، ثمّ تخرج خرجة أخرى، قريبا من مكة، فيفشو ذكرها في البادية، ويدخل ذكرها القرية-يعني: مكة-ثمّ بينا
النّاس يوما في أعظم المساجد على الله حرمة، وأكرمها على الله-يعني الحرام-لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد تدنو، وتدنو كذا-وقال القرطبي: ترغو، وترغو-قال عمر: وما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج في وسط من ذلك، فارفضّ الناس عنها، وتثبت لها عصابة عرفوا أنهم لم يعجزوا الله، فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب، فمرت بهم، فجلت وجوههم، حتى تركتها كأنها الكواكب الدرية، ثم ولت في الأرض، لا يدركها طالب، ولا يعجزها هارب، حتى إن الرجل ليقوم، فيتعوّذ منها بالصلاة، فتأتيه من خلفه، فتقول: يا فلان الآن تصلي، فيقبل عليها بوجهه، فتسمه بوجهه، فيتجاور الناس في ديارهم، ويصطحبون في أسفارهم، ويشركون في الأموال، يعرف المؤمن من الكافر، فيقال للمؤمن:
يا مؤمن! ويقال للكافر: يا كافر!».
وبإسناد الثعلبي عن حذيفة بن اليمان-رضي الله عنه-ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة، قلت:
وروي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-أنه قرع الصفا بعصاه؛ وهو محرم، وقال: إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه. وعن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: تخرج الدابة ليلة جمع، والناس يسيرون إلى منى. وعن أبي هريرة-رضي الله عنهما-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: «بئس الشّعب شعب أجياد مرّتين، أو ثلاثا، قيل: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: تخرج منه الدابة، تصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين.»
وروي عن ابن الزبير-رضي الله عنهما: أنه وصف الدابة، فقال: رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيل، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هرّ، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعا. انتهى. خازن ببعض تصرف، وهذا كله في القرطبي وزاد: أن الدابة فصيل ناقة صالح على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وصححه، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
{تُكَلِّمُهُمْ} أي: بكلام عربي فصيح. قيل: تقول: هذا مؤمن، وهذا كافر. وقيل: تقول ما أخبر الله به {أَنَّ النّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ} أي: بخروجي؛ لأن خروجها من الآيات. وتقول:
{أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظّالِمِينَ} وقولها هذا حكاية لقول الله عز وجل، أو على معنى: بآيات ربنا، أو لاختصاصها بالله، وأثرتها عنده، وأنها من خواص خلقه أضافت آيات الله إلى نفسها، كما يقول
بعض خاصة الملك: خيلنا وبلادنا، وإنما هي خيل مولاه، وبلاده. انتهى. كشاف بتصرف. هذا؛ والدابة التي الكلام فيها يطلق عليها اسم: الجسّاسة، وتنوينها، وتنكيرها لإبهامها، وتفخيمها، لتسترعي الانتباه إليها، وتلفت الأنظار إلى ترقب خروجها، وهي من الأمور المغيبة التي نؤمن بها، ونعتقد بخروجها؛ لأن القرآن جاء بها، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم نوّهت بشأنها.
تنبيه: خروج الدابة من الأرض، وطلوع الشمس من مغربها، وغير ذلك من مبادئ وقوع الساعة، وقيامها كما هو ثابت في الأحاديث الصحيحة، وقد ثبت: أن للساعة علامات تتقدمها، وتدل عليها، وهي علامات صغرى، وعلامات كبرى، فالصغرى قد ظهر جميعها، كقبض العلم الشرعي، وتقارب الزمان، وفيض المال، وكثرة الزلازل، وكثرة القتل، وتطاول البدو في البنيان، وكثرة الفسوق، والفجور، وغير ذلك مما هو واقع، ومشاهد الآن. وأما العلامات الكبرى؛ فعشرة، وهي: الدجال، وظهور المهدي، ونزول عيسى على نبينا، وعليه ألف صلاة وألف سلام، وخروج يأجوج ومأجوج، والخسوف الثلاثة الكبرى: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وخروج النار، وطرد الناس إلى أرض المحشر، والدخان، ثم خروج الدابة، ثم طلوع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها؛ أغلقت أبواب الرحمة، ولم تقبل توبة. وهذا فحوى قوله تعالى:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً} . (الأنعام)[158] انظر شرحها هناك.
الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {وَقَعَ:} فعل ماض. {الْقَوْلُ:} فاعله. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها، على المشهور المرجوح. {أَخْرَجْنا:} فعل، وفاعل. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {دَابَّةً:} مفعول به. {مِنَ الْأَرْضِ:} متعلقان بمحذوف صفة {دَابَّةً،} وجملة: {أَخْرَجْنا..} . إلخ جواب (إذا)، لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.
{تُكَلِّمُهُمْ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{دَابَّةً،} والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر صفة:{دَابَّةً،} أو هي في محل نصب حال منها بعد وصفها بما تقدم على حد قوله تعالى: {وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ} . {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل.
{النّاسَ:} اسم {أَنَّ} . {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {بِآياتِنا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {لا:} نافية. {يُوقِنُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كانُوا..} . إلخ في محل رفع
خبر {أَنَّ،} و {أَنَّ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير:
تكلمهم بكونهم لا يوقنون. هذا؛ وأجيز اعتبار المصدر في محل نصب مفعول به ثان على تضمين {تُكَلِّمُهُمْ:} «تخبرهم» وهو جيد. هذا؛ ويقرأ بكسر همزة (إن). وفي الجملة الاسمية قولان:
أحدهما: الاستئناف، والثاني: على تضمين {تُكَلِّمُهُمْ:} «تقول لهم» ولا بأس به أيضا.
{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)}
الشرح: أي: واذكر يوم نجمع من كل أمة من الأمم زمرة من الكافرين الذين كذبوا رسلهم، ولم يؤمنوا بآيات ربهم؛ التي أنزلها على تلك الرسل. {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي: يدفعون، ويساقون إلى موضع الحساب، قال الشماخ:[الرجز]
وكم وزعنا من خميس جحفل
…
وكم حبونا من بئيس مسحل
وقال قتادة: {يُوزَعُونَ} أي: يردّ أولهم على آخرهم. وانظر الآية رقم [17]، وانظر شرح {أُمَّةٍ} في الآية رقم [34] من سورة (الحج). هذا؛ وفوج: اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل:
قوم، ورهط
…
إلخ، وجمعه: أفواج، وفؤوج، وجمع الجمع: أفاوج، وأفايج، وأفاويج.
الإعراب: {وَيَوْمَ:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (يوم): مفعول به لفعل محذوف، تقديره: اذكر يوم، والجملة الفعلية لا محل لها على الوجهين المعتبرين في الواو.
{نَحْشُرُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر فيه وجوبا، تقديره:«نحن» . {مِنْ كُلِّ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {فَوْجاً،} كان صفة له، فلما قدم عليه؛ صار حالا
…
إلخ، و {كُلِّ} مضاف، و {أُمَّةٍ} مضاف إليه. {فَوْجاً:} مفعول به، {مِمَّنْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {فَوْجاً} على تعليق: {مِنْ كُلِّ} بالفعل قبلهما، و {مِمَّنْ} بدل من {كُلِّ أُمَّةٍ} على تعليقهما بمحذوف حال من:{فَوْجاً} كما رأيت.
وقول الزمخشري، وغيره:{مِنْ} الأولى للتبعيض، و (من) الثانية للتبيين، ولا يبين الإعراب الحقيقي فيهما، و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب:(من). {يُكَذِّبُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى من، وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة (من)، أو صفتها. {بِآياتِنا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{نَحْشُرُ..} . إلخ في محل جر بإضافة (يوم) إليها.
{فَهُمْ:} الفاء: حرف تفريع وعطف. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُوزَعُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
الشرح: {حَتّى إِذا جاؤُ:} يوم القيامة إلى المحشر. {قالَ} أي: الله تعالى لهم:
{أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي} أي: لم تصدقوا بما أنزلت على رسلي من كتب، وتعاليم سماوية. {وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً} أي: ولم تعرفوها حق معرفتها. {أَمّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: أم أي شيء كنتم تعملونه بعد ذلك، وهو للتبكيت؛ لأنهم لم يفعلوا غير التكذيب من الجهل، فلا يقدرون أن يقولوا: فعلنا غير ذلك، فكأنهم لم يخلقوا إلا للكفر، والمعصية، وإنما خلقوا للإيمان والطاعة، يخاطبون بهذا الكلام قبل كبهم في النار، ثم يكبون فيها، وذلك قوله:{وَوَقَعَ الْقَوْلُ..} . إلخ.
الإعراب: {حَتّى:} حرف ابتداء، ويعتبرها الأخفش في مثل ذلك حرف جر، وقد رده ابن هشام في المغني، وعلى الوجهين؛ فهي غاية، لما قبلها من كلام. {إِذا:} انظر الآية رقم [82].
{جاؤُ:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف؛ أي: جاؤوا إلى مكان الحساب، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على القول المرجوح، وهو المشهور. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الله). {أَكَذَّبْتُمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وتوبيخ، وتقريع. (كذبتم): فعل، وفاعل. {بِآياتِي:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قالَ..} . إلخ جواب {إِذا،} لا محل لها، و {إِذا} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.
{وَلَمْ:} الواو: واو الحال. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {تُحِيطُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم) وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب حال من تاء الفاعل مع الميم، والرابط: الواو، والضمير. {بِها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {عِلْماً:} مفعول به. {أَمّا ذا:} (أم): حرف إضراب، وانتقال. (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. (ذا): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه، وجملة:{تَعْمَلُونَ} في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف، وهو مفعول تعملون. هذا؛ ويجوز اعتبار (ماذا) كله في محل رفع مبتدأ، وجملة:{كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في محل رفع خبره، كما يجوز اعتباره اسما مركبا في محل نصب مفعولا به مقدما ل:{تَعْمَلُونَ،} وسواء أكانت الجملة اسمية، أو فعلية، فهي مستأنفة، وهي في محل نصب مقول القول.
{وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85)}
الشرح: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} أي: حل بهم العذاب الموعود على ألسنة الرسل، عليهم الصلاة والسّلام، وهو كبهم في النار. {بِما ظَلَمُوا} أي: بسبب التكذيب، وقد ظلموا أنفسهم به، حيث كان شؤمه عليهم. {فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ} أي: بحجة تدفع عنهم العذاب، وقيل: يختم على أفواههم، فلا ينطقون، وقد ذكرت لك فيما مضى مرارا: أن الكفار في مواطن يتكلمون، وفي مواطن لا يتكلمون يوم القيامة.
هذا؛ والقول يطلق على خمسة معان: أحدها: اللفظ الدال على معنى. الثاني: حديث النفس، ومنه قوله تعالى:{وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللهُ} . الثالث: الحركة، والإمالة، يقال:
قالت النخلة؛ أي: مالت. الرابع: ما يشهد به الحال، كما في قوله تعالى:{قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ} .
الخامس: الاعتقاد، كما تقول: هذا قول المعتزلة، وهذا قول الأشاعرة، أي: ما يعتقدونه.
وانظر شرح الكلام في الآية رقم [109] من سورة (المؤمنون) أو [35] من سورة (الروم).
الإعراب: {وَوَقَعَ:} الواو: حرف عطف. (وقع): فعل ماض. {الْقَوْلُ:} فاعله. {عَلَيْهِمْ:}
جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا.
{بِما:} الباء: حرف جر. (ما): مصدرية. {ظَلَمُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. و (ما) المصدرية، والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ} معطوفة على ما قبلها، وإعرابها مثل إعراب:{فَهُمْ يُوزَعُونَ} .
الشرح: {أَلَمْ يَرَوْا..} . إلخ: أي: ألم يعلموا علما يقينا لا شك فيه: أن الله سبحانه وتعالى قد جعل الليل للهدوء، والاستقرار بالنوم، والراحة. {وَالنَّهارَ مُبْصِراً} أي: جعل النهار مبصرا؛ أي: جعلنا شمسه مضيئة للإبصار. فيكون المعنى مبصرا فيه بالضوء؛ لأن النهار لا يبصر، بل يبصر فيه، فهو من إسناد الحدث إلى زمانه، فهو مجاز عقلي، مثل: ليله قائم، ونهاره صائم.
{إِنَّ فِي ذلِكَ} أي: بتقلب الليل، والنهار، واختلافهما. {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي: لعلامات، ودلالات على قدرة الله تعالى، فيهتدوا بذلك إلى الإيمان بالحشر، والنشر، وبعثة الرسل؛ لأن تعاقب الظلمة، والنور على وجه مخصوص غير متعين بذاته، لا يكون إلا بقدرة قادر قاهر، وأن من قدر على إبدال الظلمة بالنور في مادة واحدة؛ قدر على إبدال الموت بالحياة في مواد
الأبدان، وأن من جعل النهار؛ ليبصروا فيه سببا من أسباب معاشهم، لعله لا يخل بما هو مناط جميع مصالحهم في معاشهم، ومعادهم. انتهى. بيضاوي بتصرف.
تنبيه: في الكلام حذف وتقدير؛ إذ التقدير: ألم يروا أنا جعلنا الليل مظلما؛ ليسكنوا فيه، وجعلنا النهار مبصرا؛ ليتحركوا فيه، ويسعوا إلى معايشهم. فحذف من أحدهما ما أثبته في الآخر، ويسمى هذا احتباكا في الكلام. هذا؛ ولا تنس: أن (جعل) هنا بمعنى: خلق، فلذا تعدى إلى مفعول واحد فقط.
هذا؛ والليل واحد بمعنى الجمع، واحدته: ليلة، مثل: تمر وتمرة، وقد جمع على ليال، فزادوا فيه الياء على غير قياس، ونظيره: أهل، وأهال، والليل الشرعي: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق، وهو أحد قولين في اللغة، والقول الآخر من غروبها إلى طلوعها. هذا؛ والنهار ضد الليل، وهو لا يجمع: كما لا يجمع العذاب، والسراب، فإن جمعته قلت في الكثير: نهر بضمتين كسحاب، وسحب، وأنشد ابن كيسان:[الرجز]
لولا الثّريدان لمتنا بالضّمر
…
ثريد ليل، وثريد بالنّهر
وفي القليل: أنهر، والنهار: من طلوع الشمس، أو من طلوع الفجر على ما تقدم في نهاية الليل إلى غروب الشمس. وقد يطلق عليهما اسم اليوم، كما رأيت في الآية رقم [135] من سورة (الشعراء). هذا؛ و (الليل) يطلق على الحبارى، أو على فرخها، وفرخ الكروان، والنهار يطلق على فرخ القطا. انتهى. قاموس. وقد ألغز بعضهم بقوله:[الوافر]
إذا شهر الصّيام إليك وافى
…
فكل ما شئت ليلا أو نهارا
الإعراب: {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام وتقرير. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم.
{يَرَوْا:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم) وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): ضمير متصل في محل نصب اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {جَعَلْنَا:} فعل، وفاعل. {اللَّيْلَ:}
مفعول به، {لِيَسْكُنُوا:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{جَعَلْنَا..} . إلخ في محل رفع خبر: (أن)، و (أن) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سدت مسد مفعول، أو مفعولي {يَرَوْا،} وجملة: {أَلَمْ يَرَوْا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. (النهار): معطوف على الليل. {مُبْصِراً:}
حال من النهار، أو هو مفعول ثان للفعل المقدر. تأمل. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {فِي:}
حرف جر. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر ب: {فِي،} والجار والمجرور
متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر {إِنَّ} تقدم على اسمها، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لَآياتٍ:} اللام: لام الابتداء. (آيات): اسم {إِنَّ} مؤخر منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {لِقَوْمٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (آيات)، وجملة:{يُؤْمِنُونَ} في محل جر صفة: قوم، والجملة الاسمية:
{إِنَّ..} . إلخ مستأنفة، أو ابتدائية، لا محل لها على الاعتبارين.
الشرح: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ:} الصور: كهيئة البوق، قاله مجاهد. ويدل على صحته ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنه-قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما الصّور؟ قال: «قرن ينفخ فيه» . أخرجه أبو داود والترمذي، قال أبو هريرة-رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنّ الله لمّا فرغ من خلق السموات والأرض خلق الصّور، فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه، شاخص ببصره إلى العرش، ينتظر متى يؤمر بالنفخة» . قلت:
يا رسول الله! ما الصّور؟ قال: «قرن والله عظيم، والّذي بعثني بالحقّ إنّ عظم دارة فيه كعرض السماء والأرض» . وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنتم؟ وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته، وأصغى سمعه، ينتظر أن يؤمر أن ينفخ» .
وكأنّ ذلك ثقل على أصحابه، فقالوا: كيف نفعل يا رسول الله؟! وكيف نقول؟ فقال: «قولوا:
حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكّلنا، وربّما قال: توكّلنا على الله». أخرجه الترمذي.
وينبغي أن تعلم: أن الذي ينفخ في الصور إنما هو إسرافيل عليه السلام، أحد الملائكة العشرة المقربين، وهو ينفخ نفختين، بينهما أربعون عاما على الصحيح، الأولى لإماتة جميع الخلق، والثانية لإحيائهم، وبعثهم للحساب والجزاء، خذ قوله تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ} بعد هذا أذكر أن الزمخشري-رحمه الله تعالى-قال: إن كل ما فاؤه نون، وعينه فاء يدل على معنى الخروج والذهاب، مثل: نفق، ونفث، ونفش
…
إلخ.
{فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ:} التعبير بالماضي لتحقق وقوعه، وثبوته، وأنه كائن لا محالة. هذا؛ وفي هذا الفزع قولان: أحدهما: أنه الإسراع، والإجابة إلى النداء من قولهم:
فزعت إليك في كذا: إذا أسرعت إلى ندائك في معونتك، والقول الثاني: أنه الفزع المعهود من الخوف، والحزن؛ لأنهم أزعجوا من قبورهم، وخافوا. وهذا أشبه القولين، ولذا يقولون مرعوبين:{مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟!} .
{إِلاّ مَنْ شاءَ اللهُ:} روى أبو هريرة-رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم، سئل عن قوله تعالى {إِلاّ مَنْ شاءَ اللهُ}. قال:«هم الشهداء متقلّدون أسيافهم حول العرش» . وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هم الشهداء؛ لأنهم أحياء عند ربهم، لا يصل إليهم الفزع. وقيل: يعني:
جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، فلا يبقى بعد النفخة الأولى إلا هؤلاء الأربعة.
ويروى: أن الله تعالى يقول لملك الموت: خذ نفس إسرافيل، فيأخذ نفسه، ثم يقول: من بقي يا ملك الموت؟ فيقول: سبحانك ربي، تباركت، وتعاليت يا ذا الجلال، والإكرام، بقي وجهك الباقي الدائم، وبقي جبريل وميكائيل، وملك الموت. فيقول: خذ نفس ميكائيل، فيقع كالطود العظيم، فيقول: من بقي من خلقي؟ فيقول: سبحانك ربي، تباركت، وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام! بقي وجهك الدائم الباقي، وجبريل الميت الفاني. فيقول الله: يا جبريل لا بد من موتك، فيقع ساجدا يخفق بجناحيه.
ويروى: أنه يبقى مع هؤلاء الأربعة حملة العرش، فيقبض روح جبريل، ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم أرواح حملة العرش، ثم روح ملك الموت، فإذا لم يبق أحد إلا الله تبارك وتعالى طوى السماء كطي السجل للكتاب، ثم يقول: أنا الجبار، لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد، فيقول: لله الواحد القهار!.
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينفخ في الصّور، فيصعق من في السّموات ومن في الأرض إلاّ من شاء الله، ثمّ ينفخ فيه أخرى، فأكون أوّل من رفع رأسه، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان ممّن استثنى الله عز وجل، أم رفع رأسه قبلي، ومن قال: أنا خير من يونس بن متّى فقد كذب» . وقيل الذين استثنى الله هم: رضوان، والحور العين، ومالك، والزبانية. انتهى. خازن. وأقول: الله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
{وَكُلٌّ} أي: وكل المخلوقات الذين أحيوا بعد النفخة الثانية، وسواء الذين ماتوا بالنفخة الأولى، ومن مات من آلاف السنين. {أَتَوْهُ:} جاؤوا، ووقفوا بين يديه جلّت قدرته، وتعالت حكمته. وقرئ:«(أتاه)» بالإفراد حملا على لفظ كل، وقرئ:«(آتوه)» على أنه جمع اسم فاعل:
(آت). {داخِرِينَ:} صاغرين ذليلين، وقرئ:«(دخرين)» .
الإعراب: {وَيَوْمَ:} الواو: حرف عطف. (يوم): معطوف على (يوم نحشر) وقبله فعل مقدر مثله. {يُنْفَخُ:} فعل مضارع مبني للمجهول. {فِي الصُّورِ:} جار ومجرور في محل رفع نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (يوم) إليها. {فَفَزِعَ:} الفاء: حرف عطف وسبب.
(فزع): فعل ماض، {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها. {فِي السَّماواتِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {وَمَنْ:} الواو: حرف عطف. {مَنْ:} معطوفة على ما قبلها، فهي
في محل رفع مثلها. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول أيضا. {إِلاّ:} أداة استثناء. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب على الاستثناء من: {مَنْ} الأولى؛ لأنها بمعنى الجمع، وهذه بمعنى البعض، لذا فقد صح الاستثناء. {شاءَ:} فعل ماض. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير:
«شاءه الله» . {وَكُلٌّ:} الواو: حرف استئناف. (كل): مبتدأ، والمضاف إليه محذوف. {أَتَوْهُ:}
فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة التي هي فاعله، والهاء مفعول به، وعلى قراءة «(أتاه)» فهو فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل يعود إلى (كلّ)، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية على الوجهين في محل رفع خبر المبتدأ، وعلى قراءة:«(آتوه)» فهو خبر مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية:{وَكُلٌّ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {داخِرِينَ:} حال من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه
…
إلخ.
الشرح: {وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل أحد. و {الْجِبالَ} مفرده:
جبل، ويجمع على أجبل، وأجبال أيضا، ومعنى:{جامِدَةً:} ثابتة قائمة، {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ:} قال القتبي: وذلك: أن الجبال تجمع، وتسير، فهي في رؤية العين كالقائمة؛ وهي تسير، وكذلك كل شيء عظيم، وجمع كثير يقصر عنه النظر لكثرته وبعد أطرافه، وهو في حسبان الناظر كالواقف، وهو يسير قال النابغة في وصف جيش:[الطويل]
بأرعن مثل الطّود تحسب أنّهم
…
وقوف لحاج والرّكاب تهملج
هذا؛ ويقال: إن الله تعالى وصف الجبال يوم القيامة بصفات مختلفة ترجع كلها إلى تفريغ الأرض منها، وإبراز ما كانت تواريه، فأول الصفات الاندكاك، وذلك قبل الزلزلة، ثم تصير كالعهن المنفوش، وذلك إذا صارت السماء كالمهل، وقد جمع الله بينهما في سورة (المعارج) فقال:{يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ} والحالة الثالثة: أن تصير كالهباء، وذلك أن تتقطع بعد أن كانت كالعهن، قال تعالى:{وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا} . والحالة الرابعة: أن تنسف؛ لأنها مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها، والأرض تحتها غير بارزة، فتنسف عنها لتبرز، قال تعالى في سورة (طه):{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً} وقال جل ذكره في سورة (الكهف) الآية [47]:
{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً..} . إلخ، والحالة الخامسة: أن الرياح ترفعها على وجه الأرض، فتظهرها شعاعا في الهواء كأنها غبار، فمن نظر إليها من بعد حسبها لتكاثفها أجسادا جامدة، وهي في الحقيقة مارّة إلا أن مرورها من وراء الرياح كأنها مندكة متفتتة. والحالة السادسة: أن تكون سرابا فمن نظر إلى مواضعها لم يجد فيها شيئا منها كالسراب، قال تعالى في سورة (النبأ):{وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً} هذا؛ ونقل عن أبي السعود: أن ما ذكر مما يقع بعد النفخة الثانية. وهو غير مسلم له، وإنما هو بعد النفخة الأولى. هذا؛ وانظر شرح (السحاب) في الآية رقم [40] من سورة (النور).
{صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} أي: أحكم خلقه وسواه على ما ينبغي. والمعنى: أن الله تعالى لما ذكر ما فعل، وما يفعل في المستقبل، وكل ذلك لا يقدر عليه غيره؛ جعل خلق ما ذكر من الأشياء التي أتقنها، وأحكمها، وأتى بها على وجه الحكمة، والصواب. {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ:} عالم بظواهر الأمور، وبواطنها، فيجازيكم عليها، كما بينه في الآية التالية، ويقرأ الفعل بالياء.
قال الزمخشري رحمه الله تعالى: انظر إلى بلاغة هذا الكلام، وحسن نظمه، وترتيبه، ومكانة إضماده، ورصانة تفسيره، وأخذ بعضه بحجزة بعض، كأنما أفرغ إفراغا واحدا، ولأمر ما أعجز القوى، وأخرس الشقاشق، ونحو هذا المصدر إذا جاء عقيب كلام جاء كالشاهد بصحته، والمنادي على سداده، وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا كما قد كان، ألا ترى إلى قوله تعالى:{صُنْعَ اللهِ} و {صِبْغَةَ اللهِ} و {وَعَدَ اللهُ} و {فِطْرَتَ اللهِ} بعد ما وسمها بإضافتها إليه بسمة التعظيم، كيف تلاها بقوله:{الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} و {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً} و {لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ} و {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ} . انتهى. هذا؛ وفي الآية طباق عجيب بين الجمود والحركة السريعة، فجعل ما يبدو لعين الناظر كالجبل في جموده ورسوخه، ولكنه سريع يمر مرا حثيثا، كما يمر السحاب.
الإعراب: {وَتَرَى:} الواو: حرف عطف. (ترى): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«أنت» . {الْجِبالَ:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} فهي في محل جر مثلها. {تَحْسَبُها:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، و (ها): ضمير متصل في محل نصب مفعول به أول. {جامِدَةً:}
مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الجبال، والرابط: الضمير فقط.
{وَهِيَ:} الواو: واو الحال. (هي): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ.
{تَمُرُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى الجبال، تقديره:«هي» . {تَمُرُّ:} مفعول مطلق، وهو مضاف، و {السَّحابِ} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الفعلية:{تَمُرُّ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَهِيَ تَمُرُّ..} . إلخ في محل نصب حال من الضمير المنصوب أيضا، والرابط: الواو، والضمير، وتعددت الحال مختلفة بالإفراد والجملة.
{صُنْعَ:} مفعول مطلق مؤكد لنفسه، وهو مضمون الجملة المتقدمة، كقوله تعالى:{وَعَدَ اللهُ} .
وقال أبو البقاء: عمل فيه ما دل عليه {تَمُرُّ؛} لأن ذلك من صنعه سبحانه. ويجوز نصبه على الإغراء؛ أي: انظروا صنع الله. ويجوز رفعه على الخبر، التقدير: ذلك صنع. ولم أر من قرأ به.
و {صُنْعَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة لفظ الجلالة، أو هو بدل منه. {أَتْقَنَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {كُلَّ:} مفعول به، وهو مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه، {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {خَبِيرٌ:} خبر (إنّ). {بِما:} الباء: حرف جر. (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية صلة ما، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: خبير بالذي، أو: بشيء تفعلونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بفعلكم، أو بفعلهم، والجار والمجرور متعلقان ب:{خَبِيرٌ،} والجملة الاسمية: {إِنَّهُ خَبِيرٌ..} . إلخ مستأنفة، أو تعليلية لا محل لها من الإعراب.
{مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)}
الشرح: {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ:} لقد اختلف في هذه الحسنة، فقيل: هي كلمة (لا إله إلا الله)، وقيل: هي الإخلاص، والتوحيد، وقيل: هي الطاعات جميعها على اختلاف أنواعها، وتفاوت مراتبها. وهو أولى. {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها:} قيل: المعنى يصل إليه خير بسببها، بمعنى: أنه له من تلك الحسنة خير يوم القيامة، وهو الثواب، والأمن من العذاب، أما أن يكون له شيء خير من الإيمان فلا؛ لأنه لا شيء خير من: لا إله إلا الله. وقيل: هو جزاء الأعمال، والطاعات الثواب والجنة، وجزاء الإيمان والإخلاص رضوان الله، والنظر إليه؛ لقوله تعالى:{وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ} وقيل: الخيرية ثبتت باستبدال الخسيس بالشريف، والباقي بالفاني، وسبعمئة بواحدة، وهي مضاعفة الثواب التي نص الله عليها في غير ما آية.
{وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} أي: من فزع مفرط الشدة، وهو خوف النار، وغضب الجبار، فالمؤمنون المخلصون آمنون منه. وأما الفزع المذكور في الآية السابقة؛ فهو ما يلحق كل إنسان من التهيب لما يرى من الأهوال، والعظائم، وهذا يعم المؤمن، والكافر، والصالح، والطالح، فلا ينفك منه أحد، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [103] من سورة (الأنبياء)، وانظر شرح:
{يَوْمَئِذٍ} في الآية رقم [22] من سورة (الفرقان).
الإعراب: {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {جاءَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى {مَنْ} تقديره:«هو» .
{بِالْحَسَنَةِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الفاعل
المستتر؛ أي: جاء ملتبسا بالحسنة. {فَلَهُ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (له): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {خَيْرٌ:} مبتدأ مؤخر. {مِنْها:} جار ومجرور متعلقان ب {خَيْرٌ،} أو بمحذوف صفة له، وقيل: هما في محل نصب مفعول به ل: {خَيْرٌ} . وخبر المبتدأ الذي هو {مَنْ} مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط، وقيل: هو جملة الجواب، وقيل هو الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين.
هذا؛ وإن اعتبرت {مَنْ} موصولا، فهو في محل رفع مبتدأ، والجملة الفعلية:{جاءَ بِالْحَسَنَةِ} صلته، وجملة:{فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها} في محل رفع خبره، واقترنت بالفاء؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية:{مَنْ جاءَ..} . إلخ على الاعتبارين مستأنفة، لا محل لها. {وَهُمْ:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {مِنْ فَزَعٍ:} جار ومجرور متعلقان ب: {آمِنُونَ} بعدهما، ويقرأ بتنوين:
{فَزَعٍ،} وبدونه، فعلى التنوين ف:{يَوْمَئِذٍ} ظرف زمان متعلق ب: {آمِنُونَ} بعده، وعلى عدم التنوين، فيكون (يوم) في محل جر بإضافة (فزع) إليه، و (إذ) مبني على السكون في محل جر بالإضافة. {آمِنُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الاسمية:
{وَهُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.
الشرح: {وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ} أي: بالشرك على أرجح الأقوال. {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النّارِ:}
عبر بالوجه عن جميع البدن، كأنه قال: كبوا، وطرحوا في النار جميعهم. وهذا كقوله تعالى {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فعبر بالأيدي عن جميع البدن، وانظر شرح (كب وأكب) في الآية رقم [94] من سورة (الشعراء). {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: تقول لهم الملائكة:
لا تجزون إلا جزاء عملكم السّيّئ في الدنيا، ويجوز أن يكون من كلام الله لهم، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه، وانظر شرح الحسنة والسيئة برقم [84] من سورة (القصص).
الإعراب: {وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ} هو مثل الآية السابقة بلا فارق، وأضيف: أن هذه الآية ترجح اعتبار الموصولية على الشرطية في: (من)؛ لأن جملة: {فَكُبَّتْ} تصلح؛ لأن تكون جوابا للشرط، فلو تمحضت للشرطية؛ لما احتيج إلى اقترانها بالفاء؛ لأنها ليست من الجمل التي يجب اقترانها بالفاء، وهو المنظومة في قول بعضهم:[الكامل]
اسميّة طلبيّة وبجامد
…
وبما ولن وقد وبالتّنفيس
(كبت): فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث حرف لا محل له. {وُجُوهُهُمْ:} نائب فاعل، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {فِي النّارِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل
قبلهما. {هَلْ:} حرف استفهام معناه النفي. {تُجْزَوْنَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو ضمير متصل في محل رفع نائب فاعل، وهو المفعول الأول. {إِلاّ:} حرف حصر لا محل له. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان، وهي في الأصل مضاف إليه، والمضاف محذوف.
{كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون. والتاء اسمه، وجملة:{تَعْمَلُونَ} في محل نصب خبر (كان)، والجملة:{كُنْتُمْ..} . إلخ صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: إلا مثل الذي، أو مثل شيء كنتم تعملونه، وجملة:{هَلْ تُجْزَوْنَ..} .
إلخ في محل نصب مقول القول لقول محذوف، انظر الشرح، وجملة القول، ومقوله مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من وجوههم، التقدير: فكبت وجوههم مقولا لهم.
الشرح: {إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ:} أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم ذلك، بعد ما بين أحوال المبدأ والمعاد، وشرح أحوال القيامة، إشعارا بأنه قد أتم الدعوة، وقد كملت، وما عليه بعد ذلك إلا الاشتغال بشأنه، والاستغراق في عبادة ربه. والمعنى: قل: إنما أمرت أن أخص بعبادتي، وتوحيدي الله الذي هو رب هذه البلدة، وهي مكة المكرمة. وإنما خصها بالذكر من بين سائر البلاد؛ لأنها مضافة إليه، وأحب البلاد، وأكرمها عليه. وأشار إليها إشارة تعظيم؛ لأنها موطن نبيه، ومهبط وحيه.
{الَّذِي حَرَّمَها} أي: جعلها حرما آمنا، لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد، ولا يصاد صيدها، ولا يختلى خلاها، ولا يدخلها إلا محرم، وإنما ذكر: أنه هو الذي حرمها؛ لأن العرب كانوا معترفين بفضيلة مكة، وأن تحريمها من الله، لا من الأصنام. هذا؛ وقرئ:«(التي حرمها)» .
{وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} أي: مالك الدنيا، والآخرة خلقا، وعبيدا، فليس له شريك في ذلك أبدا. {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي: المنقادين له، والثابتين على ملة الإسلام. هذا؛ و «أمر» من الأفعال التي تنصب مفعولين، الثاني منهما مجرور بحرف جر في الغالب، وجاء منصوبا في الشعر كقول عمرو بن معدي كرب الزبيدي:[البسيط]
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
…
فقد تركتك ذا مال وذا نشب
ومثله: استغفر، واختار، وكنى، وسمّى، ودعا، وصدق، وزوج، وكال، ووزن، قال الشاعر:[البسيط]
أستغفر الله ذنبا لست محصيه
…
ربّ العباد إليه الوجه والقبل
الإعراب: {إِنَّما:} كافة، ومكفوفة. {أُمِرْتُ:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على السكون، والتاء نائب فاعله، وهي المفعول الأول، والمصدر المؤول من:{أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ} في محل نصب مفعول به ثان للفعل «أمر» ، أو هو منصوب بنزع الخافض، أو هو في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: أمرت بعبادة رب
…
إلخ، هذه الاعتبارات تجوز في الأفعال التي ذكرتها لك في الشرح، وهي منقولة عن سيبويه وغيره من العلماء، وقد ورد الجر بقوله تعالى:{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} رقم [12] من سورة (الزمر)، وفيها أقوال، وأوجه، سأذكرها في محلها إن شاء الله تعالى، و {رَبَّ} مضاف، واسم الإشارة مبني على الكسر في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {الْبَلْدَةِ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة {رَبَّ،} وعلى قراءة:
«(التي)» فهو في محل جر صفة: {الْبَلْدَةِ} . {حَرَّمَها:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الَّذِي،} أو إلى {رَبَّ،} و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول على القراءتين، وجملة:{إِنَّما أُمِرْتُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، لقول محذوف؛ إذ التقدير: قل لأهل مكة: إنما أمرت
…
إلخ، والقول، ومقوله كلام مستأنف لا محل له. {وَلَهُ:} الواو: واو الحال. (له): جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم، {كُلُّ:} مبتدأ مؤخر، و {كُلُّ} مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل:{حَرَّمَها} المستتر، والرابط: الواو، والضمير. {وَأُمِرْتُ:} الواو: حرف عطف. (أمرت): مثل سابقه في إعرابه.
{أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {أَكُونَ:} فعل مضارع ناقص، منصوب ب:{أَنْ،} واسمه ضمير مستتر تقديره: «أنا» . {مِنَ الْمُسْلِمِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {أَكُونَ،} والمصدر المؤول من {أَنْ أَكُونَ..} . إلخ يقال فيه ما قيل بالمصدر المؤول من {أَنْ أَعْبُدَ..} . إلخ.
الشرح: {وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ} أي: أواظب على قراءته، لتنكشف لي حقائقه الرائعة المخزونة في تضاعيفه شيئا فشيئا، أو على تلاوته على الناس بطريق تكرير الدعوة، وتثنية الإرشاد، فيكون ذلك تنبيها على كفايته في الهداية، والإرشاد من غير حاجة إلى إظهار معجزة أخرى.
{فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} أي: فمن اهتدى بالإيمان به، والعمل بما فيه من الشرائع والأحكام؛ فنفع اهتدائه عائد إليه، لا إليّ. {وَمَنْ ضَلَّ} أي: عن طريق الإيمان، وأخطأ طريق الهدى؛ {فَقُلْ إِنَّما..}. إلخ: أي: فلا يضرني، وليس علي من وبال ضلاله شيء؛ إذا ما على الرسول إلا البلاغ، وهو فحوى قوله تعالى:{إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ} . هذا؛ وقرئ: «(واتل عليهم)» و «(وأن أتل)» .
الإعراب: {وَأَنْ:} الواو: حرف عطف. (أن): حرف مصدري ونصب. {أَتْلُوَا:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» ، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والمصدر المؤول معطوف على ما قبله على جميع الوجوه المعتبرة فيه. {الْقُرْآنَ:} مفعول به. هذا؛ وعلى قراءة «(اتل)» فهو فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، الفاعل تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، والقول ومقوله في محل نصب حال من تاء الفاعل، وعلى قراءة «(أن أتل)» فتؤول أن مع فعل الأمر بمصدر معطوف على ما قبله. {فَمَنِ:} الفاء: حرف تفريع، واستئناف.
(من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {اِهْتَدى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من) ومتعلقه محذوف. {فَإِنَّما:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنما): كافة، ومكفوفة {يَهْتَدِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى (من) أيضا.
{لِنَفْسِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:
{فَإِنَّما..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه كما رأيت في الآية رقم [89]. هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا؛ فهي مبتدأ، وجملة:{اِهْتَدى} صلة الموصول، وجملة:{فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} في محل رفع خبره، واقترنت بالفاء؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية:{فَمَنِ اهْتَدى..} . إلخ لا محل لها على الاعتبارين؛ لأنها مفرعة عما قبلها، ومستأنفة. {وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ} إعرابه مثل إعراب سابقه بلا فارق. (إنما): كافة، ومكفوفة. (أنا): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.
{مِنَ الْمُنْذِرِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول.
الشرح: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ:} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أمره ربه أن يحمده على نعمة النبوة، أو على ما علّمه، ووفقه للعمل به. {سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها} أي: آياته الباهرة، ودلائله القاهرة، فتعرفون:
أنها آيات الله. قيل: هي يوم بدر، وهو ما أراهم فيه من القتل، والسبي، وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم. وقيل: آياته في السموات، والأرض، وفي أنفسكم، وهو المعتمد، لقوله تعالى في الآية [35] من سورة (فصلت):{سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} وقال تعالى في سورة (الذاريات): {وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} . وقيل: المراد بالآيات علامات الساعة التي ذكرتها في الآية رقم [82] وليس بشيء، {وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ..}. إلخ: فيه تهديد، ووعيد لا يخفيان؛ إذ المعنى: فلا تحسبوا: أن تأخير العذاب لغفلة الله عنكم؛ والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه. هذا؛ ويقرأ الفعل {تَعْمَلُونَ} بالتاء والياء، وهذا على الالتفات.
الإعراب: {وَقُلِ:} الواو: حرف عطف. (قل): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» .
{الْحَمْدُ:} مبتدأ. {لِلّهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر المبتدأ.
{سَيُرِيكُمْ:} السين: حرف استقبال، وهي تفيد تحقيق الوعد بحقه جل ذكره. (يريكم): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى الله، والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به أول. {آياتِهِ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. وينبغي أن تعلم: أن الفعل: (يري) من رأى البصرية، فلما دخلت عليه الهمزة عدته إلى المفعول الثاني.
{فَتَعْرِفُونَها:} الفاء: حرف عطف (تعرفونها): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
إلخ، والواو فاعله، و (ها): مفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقُلِ..} . إلخ معطوفة على مثلها في الآية السابقة، فهي في محل جزم مثلها.
{وَما:} الواو: واو الحال، (ما): نافية حجازية تعمل عمل: «ليس» . {رَبُّكَ:} اسم (ما)، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.
{بِغافِلٍ:} الباء: حرف جر صلة. (غافل): خبر (ما) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وفاعله مستتر فيه. هذا؛ وأجاز بعضهم اعتبار:(ما) مهملة تميمية، والباء زائدة في خبر المبتدأ. والمعتمد الأول؛ لأن الخبر بعد «ما» لم يجيء في التنزيل مجردا من الباء؛ إلا وهو منصوب نحو قوله تعالى:{ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ} {ما هذا بَشَراً} .
{عَمّا:} جار ومجرور متعلقان: ب: (غافل)، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:(عن)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: بغافل عن الذي، أو: عن شيء تعملونه. وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب: (عن)، والجار والمجرور متعلقان: ب: (غافل)، التقدير: وما ربك بغافل عن عملكم، أو عن عملهم، والجملة الاسمية:{وَما رَبُّكَ..} . إلخ في محل نصب حال من فاعل (قل) المستتر، أو من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير على الاعتبارين، أو هي مستأنفة، لا محل لها.
انتهت سورة النمل، بحمد الله وتوفيقه، شرحا وإعرابا.
والحمد لله رب العالمين.