الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الفرقان
سورة (الفرقان) وهي مكية، وآياتها سبع وسبعون، وكلماتها ثمانمئة واثنتان وتسعون، وحروفها ثلاثة آلاف وسبعمئة وثلاثون، وقال ابن عباس وقتادة-رضي الله عنهما:
السورة مكية إلا ثلاث آيات منها نزلت في المدينة، وهي قوله تعالى:{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ..} . إلى قوله: {
…
وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً}.
قال القرطبي: ومقصود هذه السورة ذكر موضع عظم القرآن، وذكر مطاعن الكفار في النبوة، والرد على مقالاتهم، فمن جملتها قولهم: إن القرآن افتراه محمد صلى الله عليه وسلم، وإنه ليس من عند الله.
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}
بسم الله الرحمن الرحيم
{تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1)}
الشرح: {تَبارَكَ الَّذِي:} تكاثر خيره من البركة، وهي كثرة الخير، وزيادته، ومعنى «تبارك الله» تزايد خيره، وتكاثر، أو تزايد عن كل شيء، وتعالى عنه في صفاته، وأفعاله، وهي كلمة تعظيم وتقديس، لم تستعمل إلا لله وحده، وهو ملازم للماضي، لا يأتي منه مضارع، ولا أمر، قال الطّرمّاح:[الطويل]
تباركت لا معط لشيء منعته
…
وليس لما أعطيت يا ربّ مانع
وقال آخر: [الطويل]
تباركت ما تقدر يقع ولك الشّكر
{نَزَّلَ الْفُرْقانَ:} القرآن سماه الله: فرقانا؛ لأنه فرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام بتقريره، أو بين المحق والمبطل بإعجازه، أو لكونه نزل مفرقا في ثلاث وعشرين سنة، ولهذا قال:
{نَزَّلَ} بالتشديد لتكثير التفريق، وينبغي أن تعلم: أن الفرقان يطلق على كل منزل من السماء، قال تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ..} . إلخ الآية رقم [48] من سورة (الأنبياء).
{عَلى عَبْدِهِ:} انظر الآية رقم [1] من سورة (الإسراء) ففيها الكفاية. {لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً:} النذير: المحذر من الهلاك، والنذير: المنذر من الشر، و (نذير) مخوف من غضب الله تعالى، وعقابه، والمراد ب:(العالمين) الإنس والجن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان أرسل إليهما،
ونذيرا لهما، ولم يكن غيره عام الرسالة إلا نوح، عليه الصلاة والسلام، فإنه عمّ برسالته جميع الإنس، والجن بعد الطوفان؛ لأنه بدأ به الخلق.
الإعراب: {تَبارَكَ:} ماض. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل. {نَزَّلَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد. {الْفُرْقانَ:} مفعول به. {عَلى عَبْدِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{نَزَّلَ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها. {لِيَكُونَ:} مضارع ناقص منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، واسمه مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {الَّذِي} وهو الله تعالى، أو عبده، وهو أوفق بالمقام، وأقوى في المعنى، كما أجيز عوده على الفرقان. {لِلْعالَمِينَ:} متعلقان بما بعدهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {نَذِيراً:} خبر (يكون)، و «أن» المضمرة والفعل (يكون) في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {نَزَّلَ،} وجملة: {تَبارَكَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية.
الشرح: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي: هو المتصرف فيهما كيف يشاء. {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً:} نزه سبحانه وتعالى نفسه عما قاله المشركون من أن الملائكة بنات الله، وعما قالته اليهود: عزير ابن الله، جل الله تعالى، وعما تقوله النصارى: المسيح ابن الله، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} أي: هو المنفرد بالإلهية، وفيه رد على الثنوية، والحلولية، وعبّاد الأوثان. {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} أي: مما تطلق عليه صفة المخلوق، أحدثه إحداثا مراعيا فيه التقدير حسب إرادته، كخلقه الإنسان من مواد مخصوصة، وصور، وأشكال معينة. {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} أي: سواه، وهيأه لما يصلح له، لا خلل فيه، ولا تفاوت. وقيل: قدر كل شيء تقديرا من الأجل، والرزق، فجرت المقادير على ما خلق. ولا شبهة فيه لمن يقول: إن الله شيء، ويقول بخلق القرآن؛ لأن الفاعل بجميع صفاته، لا يكون مفعولا له، على أن لفظ شيء اختص بما يصح أن يخلق بقرينة خلق، وهذا أوضح دليل لأهل السنة والجماعة في الرد على المعتزلة في خلق أفعال العباد. انتهى. نسفي بتصرف.
وقال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: فقدّر كل شيء، وهيأه لما أراد منه من الخصائص، والأفعال، كتهيئة الإنسان للإدراك، والفهم، والنظر، والتدبير، واستنباط الصنائع المتنوعة، ومزاولة الأعمال المختلفة، إلى غير ذلك. أو: فقدره للبقاء إلى أجل مسمى. وقد يطلق الخلق
لمجرد الإيجاد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق، فيكون المعنى: وأوجد كل شيء، فقدره في إيجاده، حتى لا يكون متفاوتا. انتهى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {الَّذِي:} بدل مما قبله، أو نعت له. أو عطف بيان عليه، أو هو خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو الذي، أو هو في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، التقدير: أمدح، أو أعني.
{لَهُ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مُلْكُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {السَّماواتِ} مضاف إليه. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية صلة الموصول لا محل لها. {وَلَمْ:}
الواو: حرف عطف. (لم يتخذ): مضارع مجزوم ب: (لم)، والفاعل يعود إلى {الَّذِي}. {وَلَداً:}
مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، لا محل لها مثلها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من الضمير المجرور باللام فلست مفندا، ويكون الرابط: الواو، والضمير. {وَلَمْ:}
الواو: حرف عطف. (لم يكن): مضارع ناقص مجزوم ب: (لم). {لَهُ:} متعلقان بمحذوف خبر يكن مقدم. {شَرِيكٌ:} اسمه مؤخر. {فِي الْمُلْكِ:} متعلقان بمحذوف صفة شريك، أو هما متعلقان به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {وَخَلَقَ:} الواو: حرف عطف. (خلق): ماض، وفاعله يعود إلى {الَّذِي}. {كُلَّ:} مفعول به، وهو مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {فَقَدَّرَهُ:} الفاء: حرف عطف. (قدره): ماض، ومفعوله، وفاعله يعود إلى {الَّذِي} أيضا. {تَقْدِيراً:} مفعول مطلق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها أيضا.
الشرح: {وَاتَّخَذُوا} أي: الكفار عبدة الأوثان. {مِنْ دُونِهِ:} من دون الله تعالى.
{آلِهَةً:} المراد بها: الحجارة، ونحوها مما كانوا يتخذونه آلهة. {لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً} أي:
عاجزون عن خلق أي شيء. {وَهُمْ يُخْلَقُونَ:} لأن عبدتهم ينحتونهم، ويصورونهم. {وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً:} وما فعله إبراهيم الخليل في الأصنام أكبر دليل على ذلك.
{وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً} أي: إماتة أي إنسان، أو حيوان، ونحوه. {وَلا حَياةً} أي: إحياء أي ميت من إنسان، أو غيره. {وَلا نُشُوراً} أي: بعثا بعد الموت، والمعنى: لا يميتون أحدا، ولا يحيونه، ولا بعثا له بعد موته.
الإعراب: {وَاتَّخَذُوا:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (اتخذوا): ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {مِنْ دُونِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {آلِهَةً،} كان نعتا له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . وقيل: في محل نصب مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة. {آلِهَةً:} مفعول
به. {لا:} نافية. {يَخْلُقُونَ:} مضارع مرفوع، والواو فاعله. {شَيْئاً:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب صفة {آلِهَةً}. {وَهُمْ:} الواو: واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَخْلُقُونَ:} مضارع مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وجملة:{وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً} معطوفة على جملة: {لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً} فهي في محل نصب مثلها، وجملة:{وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً:} معطوفة عليها أيضا. {حَياةً:} معطوف على {مَوْتاً،} وأيضا: {نُشُوراً} معطوف عليه، و {لا} في الجميع زائدة لتأكيد النفي، وجملة:{وَاتَّخَذُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها في الآية السابقة على الاعتبارين فيها، والرابط هنا: الضمير المجرور محلا بالإضافة، أو هي مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: كفار قريش، أو النضر بن الحارث. {إِنْ هَذا} أي: ما هذا القرآن. {إِلاّ إِفْكٌ} أي: كذب، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [11] من سورة (النور).
{اِفْتَراهُ} أي: اختلقه، واخترعه محمد صلى الله عليه وسلم من عند نفسه. {وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} أي:
اليهود، قاله مجاهد. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: المراد: أبو فكيهة مولى بني الحضرمي، وعداس، وجبر، وكان هؤلاء الثلاثة من أهل الكتاب. {فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً} أي: بظلم حيث اعتبروا الكلام المعجز إفكا مختلفا متلقفا من اليهود. {وَزُوراً:} بنسبة ما هو بريء منه إليه، واعتبارهم العربي يتلقن من العجمي كلاما عربيا، أعجز بفصاحته جميع الفصحاء، وأخرس ببلاغته جميع البلغاء.
الإعراب: {وَقالَ:} الواو: حرف عطف. (قال): ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {إِنْ:} حرف نفي بمعنى: «ما» . {هَذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {إِلاّ:} حرف حصر. {إِفْكٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {اِفْتَراهُ:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم المعبر عنه ب:{عَبْدِهِ} في الآية رقم [1]، أو هو محذوف لدلالة المقام عليه، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع صفة {إِفْكٌ}. (أعانه): ماض، والهاء مفعول به. {عَلَيْهِ:} متعلقان بما قبلهما. {قَوْمٌ:} فاعله. {آخَرُونَ:} صفة {قَوْمٌ} مرفوع مثله، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، وجملة:{وَأَعانَهُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي
في محل رفع مثلها، وجملة:{وَقالَ..} . إلخ معطوفة على جملة: (اتخذوا من دونه
…
) إلخ.
{فَقَدْ:} الفاء: حرف عطف. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {جاؤُ:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {ظُلْماً:} مفعول به على اعتبار «جاء» متعديا، أو هو منصوب بنزع الخافض، التقدير: جاؤوا بظلم. وأجاز فيه السمين أن يكون حالا بمعنى: ظالمين. {وَزُوراً:}
معطوف على ما قبله على الوجهين المعتبرين فيه، وجملة:{فَقَدْ جاؤُ..} . إلخ معطوفة على جملة: (قال الذين
…
) إلخ، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين، وقيل: الفاء الفصيحة، ولا معنى لها كما ترى.
{وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اِكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5)}
الشرح: {وَقالُوا:} القائل هو النضر بن الحارث، كان يقول: إن هذا القرآن ليس من عند الله، وإنما هو مما سطره الأولون، مثل حديث رستم، وإسفنديار. ومعنى {اِكْتَتَبَها} انتسخها محمد صلى الله عليه وسلم من جبر، ويسار، وعداس، وأبي فكيهة، وطلب أن تكتب له؛ لأنه كان لا يكتب، {فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ} أي: تقرأ عليه؛ لأنه كان لا يكتب. هذا؛ وانظر شرح (الآصال) في الآية رقم [36] من سورة (النور)، والبكرة: من طلوع الشمس إلى الضحوة الكبرى، وهي بضم الباء، وسكون الكاف، ومثله: الإبكار، وقد قوبل بالعشي في الآية رقم [41] من سورة (آل عمران). هذا؛ و {أَساطِيرُ} جمع: أسطورة، وإسطارة بكسر الهمزة، فالأول مثل: أحدوثة، وأضحوكة، وأعجوبة، وجمعها: أحاديث، وأضاحيك، وأعاجيب. وقيل: واحدها: سطر بفتح السين والطاء، وأسطار: جمع، وأساطير: جمع الجمع، مثل: أقوال، وأقاويل. هذا؛ وسطر الكتابة جمعه في القلة: أسطر، وفي الكثرة: سطور، مثل فلس، وأفلس، وفلوس. هذا؛ وقد قيل في معنى {أَساطِيرُ:} إنها الترهات وهي عند العرب غامضة، ومسالك وعرة مشكلة، يقول قائلها:
أخذنا في التّرّهات، بمعنى عدلنا عن الطريق الواضح إلى الطريق المشكل؛ الذي لا يعرف، فجعلت الترهات مثلا لما لا يعرف، ولا يتضح من الأمور المشكلة الغامضة؛ التي لا أصل لها.
{الْأَوَّلِينَ:} جمع أوّل، وفيه مسائل: الأولى: الصحيح: أن أصله (أوأل) بوزن: أفعل، قلبت الهمزة الثانية واوا، ثم أدغمت في الأولى، بدليل قولهم في الجمع: أوائل، وقيل: إن أصله (ووّل) بوزن: فوعل، قلبت الواو الأولى همزة، وإنما لم يجمع على أواول لاستثقالهم اجتماع الواوين بينهما ألف الجمع.
الثانية: الصحيح: أن أول لا يستلزم ثانيا، وإنما معناه ابتداء الشيء، ثم قد يكون له ثان، وقد لا يكون، تقول: هذا أول مال اكتسبته، وقد لا تكتسب بعده شيئا، وقد تكتسب، وقيل: إنه يستلزم ثانيا، كما أن الآخر يقتضي أولا، فلو قال: إن كان أول ولد تلدينه ذكرا، فأنت طالق، فولدت ذكرا، ولم تلد غيره، وقع الطلاق على الأول دون الثاني.
الثالثة: لأول استعمالان: أحدهما: أن يكون صفة، أي أفعل تفضيل بمعنى الأسبق، فيعطى هذا حكم أفعل التفضيل من منع الصرف، وعدم تأنيثه بالتاء، ودخول من عليه، نحو هذا أوّل من هذين، ولقيته عاما أوّل. والثاني: أن يكون اسما مصروفا، نحو لقيته عاما أولا، ومنه قولهم: ما له أول، ولا آخر، قال أبو حيان: في محفوظي: أن هذا يؤنث بالتاء، ويصرف أيضا، فيقال: أوّله، وآخره بالتنوين. انتهى. جمع الجوامع شرح همع الهوامع للسيوطي.
الإعراب: {وَقالُوا:} الواو: حرف عطف. (قالوا): ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق.
{أَساطِيرُ:} خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هذه أساطير، وهو مضاف، و {الْأَوَّلِينَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {اِكْتَتَبَها:} ماض، والفاعل يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يعنونه، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} و «قد» قبلها مقدرة، وقيل:{أَساطِيرُ} مبتدأ، والجملة الفعلية خبره. وليس بشيء. {فَهِيَ:} الفاء: حرف عطف. (هي): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {تُمْلى:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، ونائب الفاعل يعود إلى ما قبله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {بُكْرَةً:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. (أصيلا): معطوف عل ما قبله، وجملة:{وَقالُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
الشرح: {قُلْ:} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ..} . إلخ: ذكر السر دون الجهر؛ لأنه من علم السر فهو في الجهر أعلم، ولو كان القرآن مأخوذا من أهل الكتاب، وغيرهم لما زاد عليه، وقد أعجزكم عن آخركم بفصاحته، وتضمن أخبارا مغيبة مستقبلة، وأشياء مكنونة، لا يعلمها إلا عالم الأسرار؛ فكيف تجعلونه أساطير الأولين؟! وأيضا لو كان مأخوذا من هؤلاء لتمكن المشركون منه أيضا، كما تمكن محمد صلى الله عليه وسلم، وحينئذ كانوا يقدرون على معارضته، ولكنهم كانوا معاندين للحق، لا يهتدون إليه سبيلا.
{إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً:} فلذلك لا يعاجلكم بالعقوبة أيها المبطلون على ما تفترونه؛ مع كمال قدرته عليها، واستحقاقكم أن يصب عليكم العذاب صبا. هذا؛ و {كانَ} في هذه الآية، وأمثالها من أفعال الاستمرار ليس على بابه من المضي، وإن المعنى: كان، ولم يزل كائنا إلى يوم القيامة، وإلى أبد الآبدين في الدنيا، والآخرة.
قال المرحوم سليمان الجمل: ومعلوم: أن {كانَ} في القرآن الكريم على أوجه: بمعنى الأزل، والأبد، وبمعنى المضي المنقطع، وهو الأصل في معناها، وبمعنى الحال، وبمعنى
الاستقبال، وبمعنى: صار، وبمعنى: ينبغي، وبمعنى: حضر، أو: وجد، أو حصل، وترد للتأكيد، وهي زائدة. انتهى. نقلا عن كرخي.
الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {أَنْزَلَهُ:} ماض، والهاء مفعوله.
{الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل. {يَعْلَمُ:} مضارع، وفاعله يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد. {السِّرَّ:} مفعول به. {فِي السَّماواتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو بمحذوف حال من {السِّرَّ}. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، وجملة:{يَعْلَمُ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{أَنْزَلَهُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} .
إلخ مستأنفة، لا محل لها. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {كانَ:} ماض ناقص، واسمه يعود إلى {الَّذِي} أيضا. {غَفُوراً رَحِيماً:} خبران ل: {كانَ} وجملة:
{كانَ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَقالُوا} أي: كفار قريش. {مالِ هذَا الرَّسُولِ:} يعنون سيد الخلق، وحبيب الحق محمدا صلى الله عليه وسلم. {يَأْكُلُ الطَّعامَ:} كما نأكل. {وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ} أي: يلتمس المعاش، كما نلتمسه نحن، وإذا كان موصوفا بهذين الوصفين مثلنا؛ فمن أين له الفضل علينا؟ ولا يجوز أن يمتاز عنا بالنبوة، ولا يحق له أن يترفع علينا بشيء، وكانوا يقولون له: لست بملك؛ لأنك بشر مثلنا، والملك لا يأكل، ولا يملك؛ لأن الملك لا يتسوق، وأنت تتسوق، تبيع وتشتري في الأسواق. وما قالوه فاسد؛ لأن أكله الطعام لكونه آدميا، ولم يدّع أنه ملك، ومشيه في الأسواق لتواضعه. وكانت تلك صفته في التوراة، ولم يكن صخابا في الأسواق، وليس شيء من ذلك ينافي النبوة، ولم يدّع أنه ملك من الملوك. انتهى. خازن بتصرف.
وقال القرطبي: عيّروه بأكل الطعام؛ لأنهم أرادوا أن يكون الرسول ملكا، وعيّروه بالمشي في الأسواق حين رأوا الأكاسرة، والقياصرة، والملوك الجبابرة يترفعون عن الأسواق، وكان صلى الله عليه وسلم يخالطهم في أسواقهم، يأمرهم، وينهاهم، فقالوا: هذا يطلب أن يتملك علينا، فماله يخالف سيرة الملوك، فرد الله عليهم بقوله:{وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ..} . إلخ الآية رقم [20] الآتية، وإنما قالوا ما تقدم لعمههم، وقصور نظرهم على المحسوسات، فإن تميز الرسل عن سواهم ليس بأمور جسمانية، وإنما هو بأحوال نفسانية، كما أشار إليه قوله تعالى: {قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ
…
}. الآية آخر سورة (الكهف).
{لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} أي: يصدقه، ويشهد له، {فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} أي: داعيا إلى الله مرغبا في رحمته، مخوفا من عقابه، وانظر الآية رقم [1]. هذا؛ وفي الآية دليل على أن دخول الأسواق مباح للتجارة، وطلب المعاش لمن اتقى الله في بيعه، وشرائه، وكان صلى الله عليه وسلم يدخلها لحاجته، وليذكر الخلق بأمر الله، ودعوته، ويعرض نفسه فيها على القبائل لتؤمن برسالته، ولم يكن فظّا ولا غليظا، ولا صخّابا في الأسواق.
الإعراب: {وَقالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. (لهذا): متعلقان بمحذوف خبره، والهاء حرف تنبيه لا محل له مقحم بينهما. {الرَّسُولِ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه، وبعضهم يعربه صفة.
{يَأْكُلُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {الرَّسُولِ}. {الطَّعامَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {الرَّسُولِ،} والرابط: الضمير فقط، والعامل في الحال الاستفهام لتضمنه معنى الفعل: أستفهم، أو اسم الإشارة، وجملة:{وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ:} معطوفة على ما قبلها فهي في محل نصب حال مثلها. {لَوْلا:} حرف تحضيض. {أُنْزِلَ:} ماض مبني للمجهول.
{إِلَيْهِ:} متعلقان بما قبلهما. {مَلَكٌ:} نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، كالجملة الاسمية:{ما لِهذَا..} . إلخ. {فَيَكُونَ:} مضارع ناقص منصوب ب: «أن» مضمرة بعد الفاء السببية، واسمه يعود إلى {الرَّسُولِ}. {مَعَهُ:} ظرف مكان متعلق بما بعده، وقيل: متعلق بمحذوف حال. ولا وجه له. والهاء في محل جر بالإضافة. {نَذِيراً:} خبر (يكون)، و «أن» المضمرة والمضارع الناقص في تأويل مصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: فهلا نزول ملك من السماء، فيكون نذيرا معه؟! والجملة الفعلية {وَقالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ} أي: ينزل عليه كنز من السماء ينفقه، فلا يحتاج إلى المشي في الأسواق لتحصيل معاشه. {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ:} بستان فيه أنواع الثمار. {يَأْكُلُ مِنْها} أي: هو فلا أقل من ذلك إن لم يكن له كنز من ذهب، وانظر ما اقترحوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية رقم [90] من سورة (الإسراء) وما بعدها تجد ما يسرك. هذا؛ ويقرأ:
«(نأكل)» بالنون.
{وَقالَ الظّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً:} انظر الآية رقم [47] من سورة (الإسراء) تجد فيها الكلام كافيا شافيا، وانظر شرح «الظلم» و (البغي) في الآية رقم [60] من سورة (الحج)،
وانظر التعبير ب: {الظّالِمِينَ} عن الكافرين في الآية رقم [28] من سورة (المؤمنون). وقد وضع الظالمين موضع الضمير تسجيلا عليهم بوصف الظلم، وتجاوز الحد.
الإعراب: {أَوْ:} حرف عطف. {يُلْقى:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {إِلَيْهِ:} متعلقان بما قبلهما. {كَنْزٌ:} نائب فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{أُنْزِلَ..} . إلخ فهي في محل نصب مقول القول مثلها.
{أَوْ:} حرف عطف. {تَكُونُ:} مضارع ناقص. {لَهُ:} متعلقان بمحذوف خبر {تَكُونُ} مقدم. {جَنَّةٌ:} اسمها مؤخر، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وجملة:{يَأْكُلُ مِنْها} على القراءتين في محل رفع صفة {جَنَّةٌ} . {وَقالَ:} الواو: حرف عطف. (قال):
ماض. {الظّالِمُونَ:} فاعله، ومقتضى القياس الإضمار، غير أنه وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالظلم فيما قالوا. {إِنْ:} حرف نفي بمعنى «ما» . {تَتَّبِعُونَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {إِلاّ:} حرف حصر. {رَجُلاً:} مفعول به. {مَسْحُوراً:} صفة له، والجملة الفعلية:{إِنْ تَتَّبِعُونَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالَ الظّالِمُونَ..} . إلخ معطوفة على جملة: (قالوا ما لهذا
…
) إلخ لا محل لها مثلها.
{اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9)}
الشرح: {اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ} أي: اقترحوا عليك ما تقدم من نزول ملك من السماء يعاونك في تبليغ رسالتك، وإنزال كنز من السماء تنفقه على نفسك، أو يكون لك بستان فيه أنواع الثمار تتمتع فيه بحياتك، وتجد فيه هناءتك، وسرورك، كما أنهم مثلوك تارة بالساحر، وتارة بالشاعر، وتارة بالمجنون، وأخرى بالكاهن. {فَضَلُّوا} أي: فيما اقترحوا عليك، وفيما مثلوك به، وحاروا، وخرجوا عن جادة الحق والصواب في جميع تصرفاتهم، واقتراحاتهم، وأمثلتهم. {فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} أي: فلا يجدون طريقا وحيلة في صد الناس عنك، أو لا يجدون طريقا إلى الهدى والرشاد، والخطاب في ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وحده. هذا؛ وانظر شرح (مثل) في الآية رقم [60] من سورة (الحج)، وشرح (ضل) في الآية رقم [104] من سورة (الكهف)، ولا تنس: أن الآية مذكورة بحروفها كاملة برقم [48]. من سورة (الإسراء).
الإعراب: {اُنْظُرْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، وهو معلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام. {كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب حال، عامله ما بعده.
{ضَرَبُوا:} ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لَكَ:} متعلقان بما قبلهما. {الْأَمْثالَ:}
مفعول به، وجملة:{كَيْفَ ضَرَبُوا..} . إلخ في محل نصب مفعول به ل: {اُنْظُرْ} المعلق عن العمل لفظا، وتقدير الكلام: انظر كيفية ضرب الأمثال لك. {فَضَلُّوا:} فعل، وفاعل، والجملة
الفعلية مع المعلق بها المحذوف معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مثلها. (لا): نافية.
{يَسْتَطِيعُونَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {سَبِيلاً:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مثلها، والفاء في الجملتين حرف عطف وسبب.
الشرح: {تَبارَكَ الَّذِي:} انظر الآية رقم [1] والمعنى هنا: تكاثر خير الذي إن شاء وهب لك في الدنيا خيرا مما قالوا، وهو أن يجعل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات، والقصور.
{إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ} أي: من الذي قالوا وأفضل من البستان الذي ذكروا. {جَنّاتٍ تَجْرِي..} . إلخ: أي بيوتا مشيدة. فعن أبي أمامة-رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عرض عليّ ربّي ليجعل لي بطحاء مكّة ذهبا، قلت: لا يا ربّ، ولكن أشبع يوما، وأجوع يوما-أو قال: ثلاثا، أو نحو هذا-فإذا جعت؛ تضرعت إليك، وذكرتك، وإذا شبعت؛ حمدتك وشكرتك» . وعن عائشة رضي الله عنها-قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو شئت؛ لسارت معي جبال مكة ذهبا، جاءني ملك، إنّ حجرته لتساوي الكعبة، فقال: يا محمد! ربّك يقرئك السّلام، ويقول: إن شئت نبيّا عبدا، وإن شئت نبيّا ملكا! فنظرت إلى جبريل، فأشار إليّ: أن ضع نفسك، فقلت: نبيّا عبدا» .
قالت: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، لا يأكل متّكئا، يقول:«أنا عبد، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» . ذكر هذين الحديثين البغوي بسنده. انتهى. خازن. هذا؛ وذكر القرطبي: أن الملك الذي نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، وعرض عليه ما تقدم هو (رضوان) خازن الجنان، وساق الحديث مع تغيير في بعض ألفاظه، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
هذا؛ و {قُصُوراً} جمع قصر، وهو البناء المشيد المتميز عن غيره بضخامة بنائه، وزخرفته. سمي بذلك؛ لقصور الفقراء عن تحصيله، وحبسهم عن نيله، والوصول إليه، أو لأن من فيه مقصور عن أن يوصل إليه، وقيل: العرب تسمي بيوت الطين: القصر، وما يتخذ من الصوف والشعر: البيت.
الإعراب: {تَبارَكَ:} ماض. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {شاءَ:} ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى الله، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:
لأنها جملة شرط غير ظرفي. {جَعَلَ:} ماض مبني على الفتح في محل جزم جواب الشرط، والفاعل يعود إلى (الله). {لَكَ:} متعلقان ب: {جَعَلَ،} وقيل: هما المفعول الثاني تقدم على الأول. {خَيْراً:} مفعول به. {مِنْ ذلِكَ:} متعلقان ب: {خَيْراً} لأنه أفعل تفضيل، فاعله مستتر فيه، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، وجملة:{جَعَلَ..} . إلخ لا محل لها؛
لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية، والجملة الشرطية:{إِنْ شاءَ جَعَلَ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{تَبارَكَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، أو مستأنفة. {جَنّاتٍ:} بدل من {خَيْراً} منصوب مثله، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {تَجْرِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. {مِنْ تَحْتِهَا:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (ها): في محل جر بالإضافة. {الْأَنْهارُ:}
فاعل {تَجْرِي،} والجملة الفعلية هذه في محل نصب صفة {جَنّاتٍ} . {وَيَجْعَلْ:} الواو: حرف عطف. (يجعل): مضارع معطوف على جواب الشرط، وهو {جَعَلَ} أي: على محله. هذا؛ ويقرأ بالرفع، وفيه وجهان: أحدهما: أنه مستأنف، والثاني: أنه معطوف على جواب الشرط، وقال الزمخشري: لأن الشرط إذا وقع ماضيا جاز في جوابه الجزم، والرفع، وقال: وليس هذا مذهب سيبويه، بل مذهبه أن الجواب محذوف، وأن هذا المضارع منوي به التقديم، ومذهب المبرد والكوفيين: أنه جواب على حذف الفاء، ومذهب آخرين: أنه جواب لا على حذفها، بل لما كان الشرط ماضيا ضعيف تأثير:{إِنْ} فيه، فارتفع. قلت: فالزمخشري بنى قوله على هذين المذهبين. ثم قال الشيخ: وهذا التركيب جائز فصيح، وزعم بعض أصحابنا أنه لا يجيء إلا في الضرورة. انتهى. جمل نقلا عن السمين.
هذا؛ وذكر الزمخشري قول زهير بن أبي سلمى المزني في مدح هرم بن سنان: [البسيط]
وإن أتاه خليل يوم مسغبة
…
يقول لا غائب مالي ولا حرم
وقايس بينه وبين الآية، ولا وجه له؛ لأن الجواب في الآية مذكور، وفيها عطف (يجعل) على الجواب، والجواب في البيت غير مذكور، لذا قيلت فيه الأقوال الكثيرة، وأوّل التأويلات المتعددة. وينبغي أن تعلم أن بيت زهير هو الشاهد رقم [787] من كتابنا فتح القريب المجيب، انظر شرحه وإعرابه وما قيل فيه هناك؛ تجد ما يسرك. هذا؛ ولم يقرأ الفعل (يجعل) بالنصب، ولو قرئ؛ لطبقت القاعدة المشهورة عليها، وهي:«إذا عطف على جواب الشرط مضارع بالواو، أو بالفاء جاز جزمه، ورفعه، ونصبه» وآية البقرة رقم [283] هي التي طبقت القاعدة المذكورة عليها لقراءة الفعل (فيغفر) بالأوجه الثلاثة، وإذا عطف بالواو أو بالفاء مضارع على فعل الشرط جاز جزمه ونصبه، ويمتنع الرفع. قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته مقررا القاعدتين المذكورتين:[الرجز]
والفعل من بعد الجزا إن يقترن
…
بالفاء، أو الواو بتثليث قمن
وجزم أو نصب لفعل إثر فا
…
أو واو ان بالجملتين اكتنفا
وفاعل (يجعل) يعود إلى (الله) تعالى. {لَكَ:} متعلقان بما قبلهما، وقيل: هما في محل المفعول الثاني. {قُصُوراً:} مفعول به.
{بَلْ كَذَّبُوا بِالسّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسّاعَةِ سَعِيراً (11)}
الشرح: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسّاعَةِ} أي: فقصرت أنظارهم على الدنيا وحطامها الفاني، وظنوا:
أن الكرامة إنما هي بالمال، فطعنوا فيك بفقرك. أو المعنى: فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب؟ وكيف يصدقون بتحقيق ما وعدك في الآخرة، وهم لا يؤمنون بها؟ {وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسّاعَةِ سَعِيراً} أي: وهيأنا للمكذبين بها نارا شديدة الاستعار. وقيل: هو اسم لواد من أودية جهنم، فيكون صرفه باعتبار المكان. هذا؛ والمراد ب:(الساعة) يوم القيامة، وانظر الآية رقم [96] من سورة (الأنبياء) وانظر شرح (السعير) في الآية رقم [4] من سورة (الحج). هذا؛ و (أعتدنا) دليل واضح على وجود النار الآن كما أن الجنة موجودة الآن، لقوله تعالى:{أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} .
الإعراب: {بَلْ:} حرف إضراب، تبتدأ بعده الجمل. {كَذَّبُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {بِالسّاعَةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. (أعتدنا):
فعل، وفاعل. {لِمَنْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، وجملة:
{كَذَّبَ بِالسّاعَةِ:} صلة (من) أو صفتها، والعائد، أو الرابط رجوع الفاعل إليها. {سَعِيراً:}
مفعول به، وجملة:{وَأَعْتَدْنا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، الأولى بالاستئناف، والثانية بالإتباع.
{إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12)}
الشرح: {إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} أي: من مسيرة خمسمئة عام، وتأنيث الفاعل، وهو عائد على {سَعِيراً؛} لأنه بمعنى النار، أو جهنم. {سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} أي: سمعوا لها صوت التغيظ، شبّه صوت غليانها بصوت المغتاظ، وزفيره، وهو صوت يسمع من جوفه. هذا؛ وإن الحياة لما لم تكن مشروطة عندنا بالبنية؛ أمكن أن يخلق الله فيها حياة، فترى، وتتغيظ، وتزفر، وقيل: إن ذلك لزبانيتها، فنسب إليها على حذف المضاف. انتهى. بيضاوي.
قال القرطبي: والأول أصح لما روي مرفوعا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ بين عيني جهنم مقعدا!» . قيل: يا رسول الله! ولها عينان؟! قال: «أما سمعتم الله عز وجل يقول: {إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ..}. إلخ. يخرج عنق من النار، له عينان تبصران، ولسان ينطق، فيقول: وكّلت بكلّ من جعل مع الله إلها آخر، فلهو أبصر بهم من الطّير بحبّ السّمسم فيلتقطه» .
وخرج الترمذي من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، يقول: إني وكّلت بثلاثة: بكلّ جبّار عنيد، وبكلّ من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصوّرين» . انتهى. قرطبي.
بعد هذا انظر شرح {يَسْمَعُ} في الآية رقم [45] من سورة (الأنبياء). بقي أن تعلم: أن التغيظ يرى بظهوره على وجه المغتاظ، ولا يسمع، والزفير يسمع؛ لأنه صوت يخرج من الصدر حتى تنتفخ منه الضلوع، فكيف جمع بينهما في السماع؟! وهو مؤول على أن المعنى: رأوا لها تغيظا، وسمعوا لها زفيرا. قال الشاعر:[مجزوء الكامل]
ورأيت زوجك في الوغى
…
متقلّدا سيفا ورمحا
أي: وحاملا رمحا؛ لأن الرمح لا يتقلد. ولنا كلام طويل في آية (الحشر) في قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَالْإِيمانَ} إن شاء الله تعالى، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {رَأَتْهُمْ:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة، لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث التي هي حرف لا محل له، والفاعل يعود إلى {سَعِيراً} وانظر الشرح، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على القول المشهور المرجوح. {مِنْ مَكانٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل: متعلقان بمحذوف حال، ولا وجه له. {بَعِيدٍ:} صفة (مكان). {سَمِعُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {لَها:}
متعلقان به، أو هما متعلقان بمحذوف حال مما بعدها، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا.
{تَغَيُّظاً:} مفعول به. (زفيرا): معطوف على ما قبله، وانظر الشرح، وجملة:{سَمِعُوا..} . إلخ جواب {إِذا،} لا محل لها، و {إِذا} ومدخولها في محل نصب صفة {سَعِيراً} .
{وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13)}
الشرح: {وَإِذا أُلْقُوا مِنْها} أي: من النار. {مَكاناً ضَيِّقاً:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: تضيق عليهم النار، كما يضيق الزّج في الرمح. هذا؛ وإن الكرب يشتد مع الضيق، كما أن الراحة، والهدوء، والطمأنينة تزيد مع السعة؛ ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السموات والأرض. {مُقَرَّنِينَ:} قرن بعضهم مع بعض بحسب مشاركتهم في العقائد، والأعمال، لقوله تعالى:{وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ،} أو قرنوا مع الشياطين لقوله تعالى: {اُحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ} أي: قرناءهم من الشياطين، أو قرنوا مع ما اكتسبوا من العقائد الزائفة، والملكات الباطلة، لقوله تعالى:{وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ..} . إلخ. أو المعنى قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال، ومعنى {مُقَرَّنِينَ:} مشدودين في الأغلال والقيود، قال عمرو بن كلثوم في معلقته:[الوافر]
فآبوا بالنّهاب وبالسّبايا
…
وأبنا بالملوك مقرّنينا
قال تعالى في سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ} . {دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً} أي: هلاكا، يتمنون الهلاك، وينادونه، فيقولون: يا ثبوراه تعال، فهذا أوانك وحينك، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أوّل من يقوله إبليس، وذلك: أنّه أوّل من يكسى حلّة من النار، فتوضع على حاجبيه، ويسحبها من خلفه، وذرّيّته من خلفه، وهو يقول: واثبوراه» . انتهى. قرطبي. هذا؛ وإعلال {دَعَوْا} مثل {تَوَلَّوْا} في الآية رقم [109] من سورة (الأنبياء)، وأصل {أُلْقُوا:} «ألقيوا» فحذفت الضمة التي على الياء للثقل، ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين، ثم قلبت كسرة القاف ضمة لمناسبة واو الجماعة.
الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف عطف. (إذا): انظر الآية السابقة. {أُلْقُوا:} ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها. {مِنْها:} متعلقان بمحذوف حال من {مَكاناً} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . {مَكاناً:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والأصل: في مكان، فلما حذف الجار انتصب على الظرفية. {ضَيِّقاً:} صفة {مَكاناً} . {مُقَرَّنِينَ:} حال من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {دَعَوْا:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة التي هي فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب إذا، لا محل لها، وإذا ومدخولها معطوف على مثله في الآية السابقة فهو في محل نصب صفة مثله، والضمير في منها عائد على {سَعِيراً} في الآية رقم [11]، وانظر تأويله في الآية السابقة. {هُنالِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب على الظرفية المكانية، متعلق بالفعل قبله، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {ثُبُوراً:}
مفعول مطلق، عامله محذوف، أي: ثبرنا ثبورا، قاله الزجاج: وقال أبو البقاء عامله: {دَعَوْا} من غير لفظه. وقيل: هو مفعول به للفعل قبله، وقيل: هو منادى، انظر الشرح.
{لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَاُدْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14)}
الشرح: {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً} أي: يقال لهم: لا تدعوا
…
إلخ. {وَادْعُوا ثُبُوراً:}
هلاكا. {كَثِيراً} أي: لأن عذابكم أنواع كثيرة، كل نوع منها ثبور لشدته، أو لأنه يتجدد على حد قوله تعالى:{كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ} أو لأن العذاب لا ينقطع فهو في كل وقت ثبور. وقال القرطبي: وقال {ثُبُوراً} لأنه مصدر يقع للقليل والكثير، ولذلك لم يجمع، وهو كقولك: ضربته ضربا كثيرا، وقعد قعودا طويلا. ونزلت الآيات في ابن خطل وأصحابه.
الإعراب: {لا:} ناهية. {تَدْعُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {الْيَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله.
{ثُبُوراً:} يقال فيه: ما قيل في الآية السابقة. {واحِداً:} صفة له، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول محذوف، التقدير: يقال لهم: لا تدعوا، وهذه الجملة المقدرة معطوفة على جملة:{وَادْعُوا..} . إلخ، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين. {وَادْعُوا:} الواو:
حرف عطف. (ادعوا): فعل أمر مبني على حذف النون؛ لأن مضارعه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {ثُبُوراً:} هو مثل سابقه. {كَثِيراً:} صفة له. {وَادْعُوا..} . إلخ هذه الجملة معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها.
الشرح: {قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ:} الإشارة: إلى العذاب المذكور في الآيات السابقة، والاستفهام، والتفضيل، والترديد للتقريع مع التهكم. أو: إلى الكنز، والجنة المذكورين في الآية رقم [8]. وإضافة (الجنة) إلى {الْخُلْدِ} للمدح، أو للدلالة على خلودهم، وعدم فنائها، أو للتمييز عن جنات الدنيا. {كانَتْ لَهُمْ:} في علم الله القديم الأزلي، أو في اللوح المحفوظ، أو لأن ما وعده الله المتقين في تحققه كالواقع، كأنه قد كان مكتوبا في اللوح المحفوظ، قيل: أن يخلقهم الله بأزمنة متطاولة: أن الجنة مالهم، ومصيرهم جزاء لهم على أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا.
قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: إن قيل: كيف قال: {أَذلِكَ خَيْرٌ} ولا خير في النار؟! فالجواب أن سيبويه حكى عن العرب: الشقاء أحب إليك أم السعادة؟ وقد علم: أن السعادة أحبّ إليه. وقيل: ليس هو من باب: أفعل منك، وإنما هو كقولك: عنده خير، قال النحاس:
وهذا قول حسن، كما قال حسان-رضي الله عنه-يمدح النبي صلى الله عليه وسلم، ويهجو أبا سفيان:[الوافر]
أتهجوه، ولست له بكفء؟!
…
فشرّ كما لخير كما الفداء
وقيل: إنما قال ذلك على معنى: علمكم واعتقادكم أيها الكفار، وذلك أنهم لما كانوا يعملون عمل أهل النار، صاروا كأنهم يقولون: إن في النار خيرا. انتهى. أقول: وما آية (يوسف) رقم [39] منك ببعيد.
الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {أَذلِكَ:} الهمزة: حرف استفهام، وتوبيخ وتقريع. (ذلك): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {خَيْرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {أَمْ:} حرف عطف. {جَنَّةُ:} معطوف على اسم الإشارة، وهو مضاف،
و {الْخُلْدِ} مضاف إليه. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة الجنة.
{وُعِدَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {الْمُتَّقُونَ:} نائب فاعله مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وهو المفعول الأول، والمفعول الثاني محذوف، وهو العائد؛ إذ التقدير: وعدها المتقون، وهذه الجملة صلة الموصول لا محل لها. {كانَتْ:} فعل ماض ناقص، والتاء للتأنيث، واسمه ضمير مستتر تقديره:«هي» يعود إلى (الجنة). {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل {كانَتْ؛} لأنه يصح التعليق بالفعل الناقص على المعتمد، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {جَزاءً،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا. {جَزاءً:} خبر (كانت). {وَمَصِيراً:} معطوف عليه بالواو العاطفة، وجملة:{كانَتْ..} . إلخ في محل نصب حال من {جَنَّةُ الْخُلْدِ،} والرابط: الضمير فقط، وساغ ذلك؛ لأن الفعل كان من أفعال الاستمرار، كما قد نبهت عليه مرارا، وجملة:{قُلْ أَذلِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16)}
الشرح: {لَهُمْ:} للمتقين. {فِيها:} في جنة الخلد. {ما يَشاؤُنَ:} من النعيم، ولعله يقصر همّ كل طائفة على ما يليق برتبتها؛ لأن الظاهر: أن الناقص لا يدرك شيئا مما هو للكامل بالتشهي. وفيه تنبيه على أن كل المرادات لا تحصل إلا في الجنة، وما فيها من النعيم دائم؛ لأن من تمام النعيم أن يكون دائما؛ إذ لو انقطع لكان مشوبا بضرب من الغم، وأنشد في المعنى:[الوافر]
أشدّ الغمّ عندي في سرور
…
تيقّن عنه صاحبه انتقالا
وينبغي أن تعلم: أن الله يزيل كل خاطر عن أهل الجنة مما هو مستحيل وجوده في الجنة كتشهي الولد، بل كل واحد من أهل الجنة مشتغل بما هو فيه من اللذات الشاغلة عن الالتفات إلى غيره. {كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً} أي: وعد الله عباده المؤمنين إذا دعوه، وسألوه من كرمه، وجوده أن ينيلهم مسؤولهم، فلذا سألوه بقولهم:{رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} وقالوا: {رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ،} وكذلك الملائكة طلبوا للمؤمنين، وسألوا ربهم بقولهم:{رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ..} . إلخ وما في: {عَلى} من معنى الوجوب لامتناع الخلف في وعده، ولا يلزم منه الإلجاء إلى الإنجاز، فإن تعلق الإرادة بالموعود مقدم على الوعد الموجب للإنجاز.
الإعراب: {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم. {فِيها:}
متعلقان بالخبر المحذوف، أو هما متعلقان بمحذوف خبر ثان، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع
مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، أو هي في محل نصب حال ثانية من جنة الخلد.
و {يَشاؤُنَ:} فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: الذي يشاؤونه. {خالِدِينَ:} حال من واو الجماعة منصوب فهي حال متداخلة من وجه، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، وفاعله ضمير مستتر فيه.
{كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر، تقديره:«هو» يعود إلى {ما،} أو يعود على الوعد المفهوم من قوله: {وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} . {عَلى رَبِّكَ:} متعلقان بمحذوف حال من وعدا، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، وقال أبو البقاء: متعلقان بخبر {كانَ} والمعنى لا يؤيده، ولو قال: متعلقان ب: {كانَ} نفسها؛ لكان مقبولا، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَعْداً:} خبر {كانَ} . {مَسْؤُلاً:} صفة وعدا، وجملة:{كانَ عَلى رَبِّكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ:} يقرأ الفعل بالياء، والنون، والحشر: الجمع، والمراد: بعثهم للحساب، والجزاء. {وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} أي: غير الله من الملائكة، وعيسى، وعزير، والجن، فيكون قد خص العقلاء لقرينة السؤال، والجواب، فتكون (ما) مستعملة في العقلاء فقط، وهذا وجه أول، والوجه الثاني: أن المراد: ما عبد من دون الله جميعا العقلاء وغيرهم، وغلب غير العاقل على العاقل. والوجه الثالث: أن المراد: ما لا يعقل فقط، والله قادر على أن ينطق الحجارة التي عبدت من دون الله تعالى، أو تتكلم بلسان الحال، كما قيل: في شهادة الأيدي والأرجل، كما رأيت في الآية رقم [24] من سورة (النور). {فَيَقُولُ} أي: الله تعالى للمعبودين. وقرئ الفعل بالنون. {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي:} أو قعتموهم في الضلال بأمركم إياهم بعبادتكم. {أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} أي: خرجوا عن الصراط المستقيم بإرادتهم. والمراد ب:
{السَّبِيلَ} دين الإسلام، وتعاليمه السمحة.
تنبيه: قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: فالله سبحانه قد سبق في علمه بالمسؤول عنه؛ فما فائدة هذا السؤال؟ قلت: فائدته: أن يجيبوا بما أجابوا به حتى يبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم، فيبهتوا، وينخذلوا، وتزيد حسرتهم، ويكون ذلك نوعا مما يلحقهم من غضب الله، وعقابه، ويغتبط المؤمنون، ويفرحوا بحالهم، ونجاتهم من فضيحة أولئك، وليكون حكاية ذلك في القرآن لطفا للمكلفين، وفيه كسر بيّن لقول من يزعم: أن الله يضل عباده على الحقيقة حيث يقول للمعبودين من دونه: أأنتم أضللتموهم أم هم ضلوا بأنفسهم؟ فيتبرؤون من
إضلالهم، ويستعيذون به أن يكونوا مضلين، ويقولون: بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وآبائهم تفضل جواد كريم، فجعلوا النعمة التي حقها أن تكون سبب الشكر سبب الكفر، ونسيان الذكر، وكان ذلك سبب هلاكهم، فإذا برأت الملائكة، والرسل أنفسهم من نسبة الإضلال الذي هو عمل الشياطين إليهم، واستعاذوا منه؛ فهم لربهم الغني العدل أشد تبرئة، وتنزيها منه، ولقد نزهوه حين أضافوا إليه التفضيل بالنعمة، والتمتيع بها، وأسندوا نسيان الذكر، والتسبب للبوار إلى الكفرة، فشرحوا الإضلال المجازي الذي أسنده الله إلى ذاته في قوله:{يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ} ولو كان هو المضل على الحقيقة؛ لكان الجواب العتيد أن يقولوا: بل أنت أضللتهم. انتهى. كشاف، وهذا مبني على مذهبه في الاعتزال وهو أن العبد يخلق أفعال نفسه، وهذا بخلاف مذهب أهل السنّة، وهو أن الله خالق للعبد، ولعمله. انظر ما ذكرته في الآية رقم [24] من سورة (النمل) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
الإعراب: {وَيَوْمَ:} الواو: حرف عطف. (يوم): مفعول به لفعل محذوف، تقديره: اذكر.
{يَحْشُرُهُمْ:} فعل مضارع، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والفاعل تقديره:
«هو» يعود إلى الله، أو تقديره:«نحن» على قراءته بالنون، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (يوم) إليها. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب معطوف على الضمير المنصوب، والجملة الفعلية بعده صلته، والعائد محذوف، التقدير:
والذي يعبدونه. {مِنْ دُونِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب المحذوف، و {يَعْبُدُونَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، وجملة: «اذكر يوم
…
» إلخ المقدرة معطوفة على جملة: {قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ..} . إلخ لا محل لها مثلها. {فَيَقُولُ:} الفاء: حرف عطف. (يقول): فعل مضارع، والفاعل تقديره:«هو» ، أو:«نحن» على القراءتين. {أَأَنْتُمْ:}
الهمزة: حرف استفهام وتقرير. (أنتم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.
{أَضْلَلْتُمْ:} فعل، وفاعل. {عِبادِي:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {هؤُلاءِ:} الهاء حرف تنبيه لا محل له. و (أولاء) اسم إشارة مبني على الكسر في محل نصب بدل من {عِبادِي،} أو هو نعت له، أو عطف بيان عليه، وجملة:{أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ} في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:
(يقول
…
) إلخ معطوفة على جملة: {يَحْشُرُهُمْ..} . إلخ فهي في محل جر مثلها. {أَمْ:} حرف عطف. {يَحْشُرُهُمْ:} مبتدأ. {ضَلُّوا:} فعل ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {السَّبِيلَ:}
مفعول به، أو هو منصوب بنزع الخافض؛ إذ الأصل:«عن السبيل» . وجملة: {ضَلُّوا السَّبِيلَ} في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{يَحْشُرُهُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها.
الشرح: {قالُوا} أي: قال المعبودون من دون الله. {سُبْحانَكَ:} تنزيها لك عن الأنداد، والشركاء. وقال البيضاوي: تعجبا مما قيل لهم؛ لأنهم إما ملائكة، أو أنبياء معصومون، أو جمادات لا تقدر على شيء، أو إشعار بأنهم الموسومون بتسبيحه، وتوحيده، فكيف يليق بهم إضلال عبيده، أو تنزيها لله عن الأنداد. {ما كانَ يَنْبَغِي لَنا} أي: ما صح، وما استقام لنا أن نوالي أعداءك، بل أنت ولينا من دونهم. وقيل: معناه: ما كان لنا أن نأمرهم بعبادتنا، ونحن عبيدك. {وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ:} بطول العمر، والصحة، والنعمة في الدنيا على جميع أنواعها، فاستغرقوا في الشهوات. {حَتّى نَسُوا الذِّكْرَ} أي: أعرضوا عن المواعظ، والإيمان بالقرآن، وقيل: تركوا ذكرك، وغفلوا عنه، فأشركوا بك بطرا، وجهلا، حتى عبدونا من غير أن نأمرهم به. {وَكانُوا قَوْماً بُوراً} أي: هلكى، قاله ابن عباس-رضي الله عنهما-مأخوذ من البوار، وهو الهلاك، وقال بعضهم: الواحد: بائر، والجمع: بور، كما يقال: عائذ، وعوذ، وقيل:
{بُوراً} عميا عن الحق، والبوار: الهلاك.
وفي المصباح: بار الشيء يبور بورا بالضم: هلك، وبار الشيء بوارا: كسد على الاستعارة؛ لأنه إذا ترك صار غير منتفع به، فأشبه الهالك من هذا الوجه، ورجل بائر: فاسد، لا خير فيه، وفي الأساس:(فلان له نوره، وعليك بوره) أي: هلاكه، ونزلت بوار على الكفار، أي: هلاك، ومن المجازات: بارت البياعات: كسدت، وسوق بائرة، وبارت الأيم: إذا لم يرغب فيها، وكان الرسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من بوار الأيم. وبارت الأرض: إذا لم تزرع، وأرض بوار، وأرضون بور. ودار البوار: جهنم، قال تعالى في حق زعماء الكفار:{وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ} الآية رقم [28] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
الإعراب: {قالُوا:} ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {سُبْحانَكَ:} مفعول مطلق لفعل محذوف، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو من إضافته لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا، والجملة الفعلية الحاصلة منه، ومن فعله المحذوف في محل نصب مقول القول. {ما:} نافية. {كانَ:}
فعل ماض ناقص، واسمه ضمير الشأن محذوف. {يَنْبَغِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. {لَنا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {كانَ:} حرف مصدري ونصب. {نَتَّخِذَ:} مضارع منصوب ب: {كانَ} والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره:
«نحن» . {مِنْ دُونِكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما المفعول الثاني له، والكاف
في محل جر بالإضافة. هذا؛ ويجوز اعتبار الجار والمجرور متعلقين بمحذوف حال من أولياء، كان صفة له فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» .
{مِنْ:} حرف جر صلة. {أَوْلِياءَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. هذا؛ وقرئ:«(نتّخذ)» بالبناء للمجهول، وعليه فنائب الفاعل ضمير مستتر تقديره:«نحن» ، وهو المفعول الأول، والمصدر المؤول من:{أَنْ نَتَّخِذَ} في محل رفع فاعل {يَنْبَغِي،} وجملة: {يَنْبَغِي لَنا..} . إلخ في محل نصب خبر {كانَ،} وجملة: {ما كانَ يَنْبَغِي..} . إلخ في محل نصب مقول القول. هذا؛ وإن اعتبرت {كانَ} زائدة فالمعنى لا يأباه، وتكون جملة:{ما كانَ يَنْبَغِي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وتكون الجملة، والكلام مثل قوله تعالى:{وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} الآية رقم [92] من سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام. وإن اعتبرت الكلام من باب التنازع؛ فتكون {كانَ} و {يَنْبَغِي} قد تنازعا في المصدر المؤول، فيعمل فيه أحدهما، ويضمر في الآخر على الاختلاف بين البصريين، والكوفيين أيهما أولى، فالمعنى لا يأباه، وتبقى جملة:{يَنْبَغِي} في محل نصب خبر {كانَ} . {وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف. (لكن): حرف استدراك، مهمل لا عمل له. {مَتَّعْتَهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول. {وَآباءَهُمْ:} الواو: حرف عطف. (آباءهم):
معطوف على الضمير المنصوب، والهاء في محل جر بالإضافة. {حَتّى:} حرف غاية، وجر.
{نَسُوا:} ماض مبني على الضم في محل نصب ب: «أن» مضمرة بعد {حَتّى،} والواو فاعله، والألف للتفريق. {الذِّكْرَ:} مفعول به، و «أن» المضمرة والفعل {نَسُوا} في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {وَكانُوا:} الواو: واو الحال.
(كانوا): ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {قَوْماً:} خبر كان. {بُوراً:} صفة له، وجملة (كانوا
…
) إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وساغ ذلك؛ لأن الفعل (كان) من أفعال الاستمرار، وإن اعتبرت الجملة الفعلية مستأنفة؛ فلست مفندا، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ} أي: يقول الله عند تبري المعبودين. والخطاب مع المشركين. وقال ابن زيد: المعنى: فقد كذبكم أيها المؤمنون هؤلاء الكفار بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا فمعنى: {بِما تَقُولُونَ} أي: من الحق. {فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً} أي:
للعذاب. وهذا على القول الأول، والمعنى على قول ابن زيد: فما يستطيعون لكم صرفا عن الحق الذي هداكم الله إليه. {وَلا نَصْراً} أي: من الله، وهذا على القول الأول، وعلى القول الثاني: ولا نصرا؛ لأنفسهم مما ينزل بهم من العذاب بتكذيبهم إياكم، وقرئ الفعل:
{تَقُولُونَ} بالتاء والياء. {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ} أي: يشرك؛ لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ومن جعل المخلوق شريك خالقه؛ فقد ظلم، ويؤيده قوله تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} . هذا؛ وقيل: إن الخطاب يعم جميع المكلفين من المسلمين والكافرين، فيكون الشرط للعموم، ويشمل الظلم الشرك، وجميع المنكرات. {نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً:} فسر العذاب بالخلود في النار، وهو يليق بالمشرك، دون الفاسق إلا على قول المعتزلة والخوارج القائلين بتخليد الفاسق في النار. هذا؛ وينبغي أن تعلم: أن بقوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ..} . إلخ التفاتا من الغيبة إلى الخطاب.
الإعراب: {فَقَدْ:} الفاء: زائدة على تقدير: «القول» قبلها، وقيل: الفاء الفصيحة، وليس بقوي. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {كَذَّبُوكُمْ:} ماض، والواو فاعله، والكاف مفعوله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول لقول محذوف؛ أي: فيقول الله لهم: فقد كذبوكم
…
إلخ. والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {بِما:}
الباء: حرف جر. (ما): اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {تَقُولُونَ:} مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو: بشيء تقولونه. {فَما:} الفاء: حرف تفريع وعطف. (ما): نافية. {تَسْتَطِيعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {صَرْفاً:} مفعول به. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): زائدة لتأكيد النفي.
{نَصْراً:} معطوف على ما قبله. {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَظْلِمْ:} مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من) تقديره:«هو» ، والمفعول محذوف، تقديره: نفسه، أو غيره. {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر العائد على (من)، و (من) بيان لما أبهم فيها. {نُذِقْهُ:} فعل مضارع جواب الشرط، والفاعل تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به أول. {عَذاباً:} مفعول به ثان. {كَبِيراً:} صفة له، والجملة الفعلية:{نُذِقْهُ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: جملة الشرط، وقيل: جملة الجواب، وقيل: الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين.
والجملة الاسمية: {وَمَنْ..} . إلخ مستأنفة بالنسبة لما قبلها، وهي من مقول الله تعالى المقدر.
الشرح: {وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ..} . إلخ: هذا رد لقول المشركين في الآية رقم [7]. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لمّا عير المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة، وقالوا:{مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ..} . إلخ حزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، فنزلت تعزية له، فقال جبريل عليه السلام:
السّلام عليك يا رسول الله! الله ربك يقرئك السّلام، ويقول لك:{وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ..} . إلخ.
ومعنى الآية: أن هذه عادة مستمرة من الله تعالى على رسله، فلا وجه لهذا الطعن، وما أنا إلا رسول، وما كنت بدعا من الرسل، وهم كانوا مثلي (يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق).
{وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} أي: إن الدنيا دار ابتلاء، وامتحان، فأراد سبحانه أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم في جميع الناس: مؤمن، وكافر، فالصحيح فتنة للمريض، والغني فتنة للفقير، والفقير الصابر فتنة للغني. ومعنى هذا: أن كل واحد مختبر بصاحبه، فالغني ممتحن بالفقير، عليه أن يواسيه، ولا يسخر منه، والفقير ممتحن بالغني، عليه ألا يحسده، ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق.
فعن أبي الدرداء-رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ويل للعالم من الجاهل، وويل للجاهل من العالم، وويل للمالك من المملوك، وويل للمملوك من المالك، وويل للشديد من الضعيف، وويل للضعيف من الشديد، وويل للسلطان من الرعية، وويل للرعية من السّلطان، وبعضهم لبعض فتنة وهو قوله تعالى: {وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ» }. أسنده الثعلبي، تغمده الله برحمته.
وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل، وغيره من الزعماء حين رأوا أبا ذر، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما من فقراء المسلمين، فقالوا على سبيل الاستهزاء: أنسلم، فنكون مثل هؤلاء؟! ولا تنس: الالتفات من المفرد إلى الجمع.
{أَتَصْبِرُونَ} أي: على هذه الحالة من الفقر، والشدة، والأذى. ولهمزة الاستفهام معادل، تقديره: أم لا تصبرون، وهو يقتضي جوابا، كما قال المزني: بلى ربنا! نصبر، ونحتسب. ونظير هذه الجملة قوله تعالى:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} . ولما صبر المؤمنون الأولون؛ أنعم الله عليهم بنعم لا تعد، ولا تحصى، قال تعالى:{إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا} . {وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً} أي: بكل امرئ، وبمن يصبر، أو يجزع، ومن يؤمن، ومن لا يؤمن، وبمن أدى ما عليه من الحق، ومن لا يؤدي. وخذ ما يلي:
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه، يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا نظر أحدكم إلى من فضّل عليه بالمال والجسم، فلينظر إلى من هو دونه في المال والجسم» . أخرجه البخاري، وغيره. ولمسلم
«انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» .
الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {أَرْسَلْنا:} فعل، وفاعل.
{قَبْلَكَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. وقيل: متعلق بمحذوف حال، وليس بقوي، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {مِنَ الْمُرْسَلِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، واعتبرت مثله في الآية رقم [25] من سورة (الأنبياء) مفعولا به.
{إِلاّ:} حرف حصر. {إِنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {لَيَأْكُلُونَ:} اللام: هي المزحلقة. (يأكلون): مضارع مرفوع، والواو فاعله. {الطَّعامَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّهُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من {الْمُرْسَلِينَ،} والرابط: الضمير فقط، قال أبو البقاء: إذ المعنى إلا وهم يأكلون، وهو قول ابن هشام في المغني. وقال الزمخشري، وتبعه البيضاوي، والنسفي كعادتهما: الجملة صفة لموصوف محذوف. والمعنى عندهم: وما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلا آكلين، وماشين.
وإنما حذف اكتفاء بالجار والمجرور، أي:{مِنَ الْمُرْسَلِينَ} ونحوه قوله تعالى: {وَما مِنّا إِلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ} والأول أقوى، وجملة:{وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ} معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها، وجملة:{وَما أَرْسَلْنا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. (جعلنا): فعل، وفاعل.
{بَعْضَكُمْ:} مفعول به أول، والكاف في محل جر بالإضافة. {لِبَعْضٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من (فتنة) كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا. {فِتْنَةً:} مفعول به ثان، وجملة:{وَجَعَلْنا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {أَتَصْبِرُونَ:} الهمزة: حرف استفهام.
(تصبرون): فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، وانظر الشرح.
{وَكانَ:} الواو: حرف استئناف. (كان): فعل ماض ناقص. وهو من أفعال الاستمرار.
{رَبُّكَ:} اسم (كان) والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {بَصِيراً:} خبر (كان) والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ:} لا يؤملون، وأصل الرجاء: الأمل في الشيء، والطماعية فيه، قال الشاعر:[الوافر]
أترجو أمّة قتلت حسينا
…
شفاعة جدّه يوم الحساب
وقيل: معنى {لا يَرْجُونَ} هنا: لا يبالون، قال خبيب بن عدي-رضي الله عنه:[الطويل]
لعمرك ما أرجو إذا كنت مسلما
…
على أيّ جنب كان في الله مصرعي
وقد يأتي الرجاء بمعنى الخوف، وبه فسر كثير من المفسرين الآية هنا، وهي لغة تهامة، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي في صفة عسّال، أي الذي يقطف عسل النحل:[الطويل]
إذا لسعته الدّبر لم يرج لسعها
…
وخالفها في بيت نوب عواسل
وقال بعض العلماء: لا يقع الرجاء بمعنى الخوف إلا مع الجحد، أي: النفي، كقوله تعالى:{ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلّهِ وَقاراً} وقال بعضهم: بل يقع في كل موضع دل عليه المعنى، وهو المعتمد. {لِقاءَنا} أي: بالبعث، والحشر، والنشر، ولا يؤملون خيرا، أو لا يخافون لقاءنا بالشر، وأصل اللقاء: الوصول إلى الشيء، ومنه الرؤية، فإنه وصول إلى المرئي، وأصل «لقاء» لقاي؛ لأنه من: لقي، فقل في إعلاله: تحركت الياء، وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، ولم يعتد بالألف الزائدة؛ لأنها حاجز غير حصين.
{لَوْلا:} هلا. {أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ} فيخبروننا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، أو يكونون رسلا إلينا من دونه. {أَوْ نَرى رَبَّنا} أي: جهرة، وعيانا، فيأمرنا بتصديقه، واتباعه. ونظيره الآية رقم [94] و [95] من سورة (الإسراء).
{لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا} أي: تعظموا. {فِي أَنْفُسِهِمْ} أي: في شأنها حتى أرادوا لها ما يتفق للأفراد من الأنبياء، الذين هم أكمل خلق الله في أكمل أوقاتها، وما هو أعظم من ذلك. {وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً} أي: تجاوزوا الحد في الظلم تجاوزا بالغا أقصى مراتبه؛ حيث عاينوا المعجزات القاهرة، فأعرضوا عنها، واقترحوا لأنفسهم الخبيثة ما سدت دونه مطامح النفوس القدسية؛ لأن الملائكة لا ترى إلا عند الموت، أو عند نزول العذاب، والله تعالى لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، فلا عين تراه. هذا؛ والعتو: العناد، والطغيان، والعاتي: المجاوز للحد في الاستكبار، والعاتي: الجبار أيضا. وقيل: العاتي: هو المبالغ في ركوب المعاصي، المتمرد الذي لا يقع منه الوعظ، والتنبيه موقعا. انتهى. مختار. وانظر الآية رقم [8] من سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام. هذا؛ وقال الزمخشري: وفي فحوى هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ التعجب، ألا ترى: أن المعنى: ما أشد استكبارهم، وما أكبر عتوهم!. انتهى.
الإعراب: {وَقالَ:} الواو: حرف استئناف. (قال): فعل ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، وجملة:{لا يَرْجُونَ لِقاءَنا} صلة الموصول لا محل لها.
{لَوْلا:} حرف تحضيض. {أُنْزِلَ:} ماض مبني للمجهول. {عَلَيْنَا:} جار ومجرور متعلقان
بالفعل قبلهما. {الْمَلائِكَةُ:} نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {أَوْ:}
حرف عطف. {نَرى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«نحن» . {رَبَّنا:} مفعول به، و (نا): في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، وجملة:{وَقالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {لَقَدِ:} اللام:
واقعة في جواب قسم محذوف، تقديره: والله. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال.
{اِسْتَكْبَرُوا:} فعل ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {فِي أَنْفُسِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وأجيز تعليقهما بمحذوف حال، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا..} . إلخ جواب القسم المقدر، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. (عتوا): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والواو فاعله، والألف للتفريق. {عَتَوْا:} مفعول مطلق. {كَبِيراً:} صفة له، وجملة:{وَعَتَوْا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. تأمل، وتدبر.
الشرح: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ} أي: عند الموت، وقيل: يوم القيامة، وعلى الأول فالمراد:
ملائكة الموت، وعلى الثاني فالمراد: ملائكة العذاب. {لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ:} وذلك أن ملائكة الرحمة تبشر المؤمنين بالجنة، والرحمة، ويقولون للمجرمين: لا بشرى لكم بالخير، ولا بشارة لكم بالجنة، كما بشر المؤمنون. {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: تقول الملائكة: حراما محرما أن يدخل الجنة إلا من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وقيل: إذا خرج الكفار من قبورهم تقول الملائكة لهم: حراما محرما عليكم أن تكون لكم البشرى. وقيل: هذا قول الكفار للملائكة، وذلك أن العرب كانت إذا نزلت بهم شدة، ورأوا ما يكرهون قالوا: حجرا محجورا، فهم يقولون ذلك إذا عاينوا الملائكة.
ومعنى الآية على ذلك: أنهم يطلبون نزول الملائكة، وهم إذا رأوهم عند الموت أو يوم القيامة؛ كرهوا لقاءهم، وفزعوا منهم؛ لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون، وقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدو الموتور وشدة النازلة. هذا؛ وانظر شرح الملائكة في الآية رقم [103] من سورة (الأنبياء) أما {يَوْمَئِذٍ} فالتنوين ينوب عن جملة محذوفة دل عليها ما قبلها؛ أي: يرون الملائكة و (إذ) مضافة لهذه الجملة في الأصل، فحذفت الجملة، وعوض عنها التنوين، وكسرت الذال لالتقاء الساكنين، كما كسرت الهاء في: صه، ومه عند تنوينهما، ومثل ذلك قل في: حينئذ، وساعتئذ، ونحوهما.
هذا؛ والحجر يطلق على أشياء كثيرة: حجر الإنسان بفتح الحاء وكسرها، وهو ما بين يديه من ثوبه، ويقال: نشأ فلان في حجر فلان؛ أي: تحت رعايته، وعنايته، وهو بفتح الحاء: المنع من التصرفات المالية لصغر، أو سفه، أو فلس، وغير ذلك، والحجر بكسر الحاء، يطلق على الفرس الأنثى، وعلى العقل، قال تعالى:{هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ،} ويطلق على حجر إسماعيل بجوار الكعبة المعظمة، وعلى حجر ثمود؛ أي: بلادهم، وعلى الحرام، كما في هذه الآية، وقال الشاعر:[الطويل]
ألا أصبحت أسماء حجرا محرّما
…
وأصبحت من أدنى حموّتها حما
أراد: ألا أصبحت أسماء حراما محرما. قاله رجل كانت له امرأة، فطلقها، وتزوجها أخوه. أي: أصبحت أخا زوجها بعد ما كنت زوجها. وقد نظم بعضهم المعاني المتقدمة بقوله: [البسيط]
ركبت حجرا، وطفت البيت خلف الحجر
…
وحزت حجرا عظيما في دخول الحجر
لله حجر منعني من دخول الحجر
…
ما قلت حجرا، ولو أعطيت ملء الحجر
الإعراب: {يَوْمَ:} قال أبو البقاء: في العامل فيه ثلاثة أوجه: أحدها: اذكر يوم، والثاني:
يعذبون يوم، والكلام الذي بعده يدل عليه، والثالث: لا يبشرون يوم يرون، ولا يجوز أن تعمل فيه البشرى لأمرين: أحدهما: أن المصدر لا يعمل فيما قبله. والثاني: أن المنفي لا يعمل فيما قبل «لا» . {يَرَوْنَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها. {الْمَلائِكَةَ:} مفعول به. {لا:} نافية للجنس تعمل عمل: «إن» . {بُشْرى:} اسم {لا} مبني على فتح مقدر على الألف في محل نصب. {يَوْمَئِذٍ:} فيه أوجه: أحدها: هو تكرير ل: {يَوْمَ} الأول، أي: تأكيد له. والثاني: هو خبر {بُشْرى} فيعمل فيه المحذوف، والجار والمجرور {لِلْمُجْرِمِينَ} تبيين، أو خبر ثان. والثالث: أن يكون الخبر {لِلْمُجْرِمِينَ} والعامل في {يَوْمَئِذٍ} ما يتعلق به اللام. والرابع: أن يعمل فيه {بُشْرى} إذا قدرت أنها منونة غير مبنية مع {لا،} ويكون الخبر {لِلْمُجْرِمِينَ،} وسقط التنوين لعدم الصرف، ولا يجوز أن يعمل فيه بشرى؛ إذا بنيتها مع {لا}. انتهى. وقال ابن هشام في المغني: ألا ترى أن اليوم لو علق ب: {بُشْرى} لم يصح من وجهين: أنه مصدر، وأنه اسم ل {لا،} انتهى. و (إذ) ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وحرك بالكسر لالتقاء الساكنين.
والجملة الاسمية: {لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ..} . إلخ في محل نصب مقول القول لقول محذوف، تقديره: تقول الملائكة، أو يقولون، فعلى الأول: الجملة في محل نصب حال من {الْمَلائِكَةَ} وعلى الثاني: الجملة في محل نصب حال من واو الجماعة، وعلى الوجهين الرابط الضمير فقط. (يقولون): فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {حِجْراً:} مفعول مطلق لفعل محذوف
واجب الحذف. {مَحْجُوراً:} تأكيدا لما قبله؛ أي: فهو صفة مؤكدة، والجملة الناتجة من المصدر، وفعله المحذوف في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَيَقُولُونَ..} . إلخ معطوفة على جملة: {يَرَوْنَ..} . إلخ فهي في محل جر مثلها.
{وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23)}
الشرح: {وَقَدِمْنا..} . إلخ: أي: وعمدنا إلى ما عمل الكفار في كفرهم من أعمال صالحات كقرى الضيف، وصلة الرحم، وإغاثة الملهوف، وبر الوالدين، والإحسان إلى اليتيم، والأرملة، والمسكين، فأحبطناه لفقد الشرط الأساسي لقبول عمل البر، وهو الإيمان بالإسلام، وبمحمد صلى الله عليه وسلم. ففي الآية الكريمة تشبيه حال الكفار، وأعمالهم بحال قوم استعصوا سلطانهم، فقدم إلى أشيائهم، وقصد إلى ما تحت أيديهم، فأفسدها، فمزقها وأبطلها، ولم يبق لها أثرا.
والهباء: غبار يرى في شعاع الشمس يدخل من كوة في بيت مظلم. فقد شبه عملهم المحبط في حقارته، وعدم نفعه بالهباء المنثور الذي لا يمكن نظمه، والانتفاع به، ولا يمس بالأيدي، ولا يرى في الظل. ولا تنس: أن في الكلام استعارة عن كونه لا يقبل الاجتماع، ولا يقع به الانتفاع، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [39] من سورة (النور) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
هذا؛ ومثل هذه الآية في معناها، ومغزاها قوله تعالى في الآية رقم [18] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ} .
الإعراب: {وَقَدِمْنا:} الواو: حرف استئناف. (قدمنا): فعل، وفاعل. {إِلى:} حرف جر.
{ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر ب {إِلى،} والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: إلى الذي، أو إلى شيء عملوه، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ عَمَلٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب المحذوف، و {مِنْ} بيان لما أبهم في (ما)، وجملة:{وَقَدِمْنا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَجَعَلْناهُ:} الفاء: حرف عطف. (جعلناه): فعل ماض، وفاعله، ومفعوله الأول. {هَباءً:} مفعول به ثان. {مَنْثُوراً:} صفة {هَباءً،} وقيل: من تعدد المفعول الثاني، ولا وجه له، وجملة:{فَجَعَلْناهُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.
{أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24)}
الشرح: {أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ:} يوم القيامة. {خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا:} مكانا يستقر فيه في أكثر الأوقات للتجالس، والتحادث، و {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً:} مكانا يأوون إليه للاسترواح بالأزواج،
والتمتع بهن، تجوزا له من مكان القيلولة على التشبيه، كما أن المترفين في الدنيا يعيشون على ذلك الترتيب، ولا نوم في الجنة، ولكن الله تعالى سمى مكان استراحتهم إلى الحور العين، وأزواجهم اللاتي دخلن معهم الجنة مقيلا على طريق التشبيه، وانظر ما ذكرته في مثل هذا التفضيل في الآية رقم [15]. هذا؛ وقد جعل المؤمنون المطيعون ربّهم أصحاب الجنة؛ بمعنى:
مالكيها؛ لملازمتهم لها، وعدم انفكاكهم عنها. وقل مثله في أصحاب النار. والمقيل: مكان القيلولة.
الإعراب: {أَصْحابُ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {الْجَنَّةِ} مضاف إليه. {يَوْمَئِذٍ:} (يوم):
ظرف زمان متعلق بمحذوف خبر أول، و (إذ) ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وحرك بالكسر لالتقاء الساكنين، ووقع ظرف الزمان خبرا عن الجثة؛ لأنه أفاد فائدة، قال ابن مالك رحمه الله تعالى:[الرجز]
ولا يكون اسم زمان خبرا
…
عن جثّة، وإن يفد فأخبرا
{خَيْرٌ:} خبر ثان، {مُسْتَقَرًّا:} تمييز. {وَأَحْسَنُ:} معطوف على ما قبله. {مَقِيلاً:} تمييز أيضا، وقد حذف المفضل عليه، والتقدير: خير مستقرا من مستقر أهل النار، وأحسن مقيلا من مقيل أهل النار. هذا؛ وقيل: إن التفضيل ليس على بابه، وليس مرادا هنا وعليه ف:{مُسْتَقَرًّا} ظرف مكان متعلق ب {خَيْرٌ،} و {مَقِيلاً} ظرف مكان متعلق ب (أحسن)، والجملة الاسمية:
{أَصْحابُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. هذا؛ وقيل: الظرف متعلق ب {خَيْرٌ،} والأول أقوى معنى، وأولى اعتبارا.
{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25)}
الشرح: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ:} أصله: تتشقق فحذفت إحدى التاءين للتخفيف، وهو كثير في القرآن الكريم، والكلام العربي. {بِالْغَمامِ} أي: بسبب طلوع الغمام منها، وهو الغمام المذكور في قوله تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ} . والغمام: سحاب أبيض مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم. {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} أي: ينزلون بصحائف العباد إلى الأرض، وذلك لحساب الثقلين من الإنس، والجن. قال ابن عباس-رضي الله عنه:
تتشقق سماء الدنيا، فينزل أهلها، وهم أكثر ممن في الأرض من الجن، والإنس، ثم تشقق السماء الثانية، فينزل أهلها، وهم أكثر ممن في سماء الدنيا، ثم كذلك حتى تنشق السماء السابعة؛ وأهل كل سماء يزيدون على أهل السماء التي تليها، ثم ينزل الكروبيون، ثم حملة العرش. هذا؛ وقرئ الفعل:(نزّل) بقراآت كثيرة، وإذا نزل ملائكة سماء الدنيا؛ اصطفوا حول العالم المجموع في المحشر صفا، وإذا نزل ملائكة السماء الثانية؛ اصطفوا خلف هذا الصف،
وهكذا حتى تصير الصفوف سبعة، كلهم يحرسون أهل المحشر من الفرار والهرب، قال تعالى في سورة (الفجر):{وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وقد تقدم لهذا مزيد بسط في آخر سورة (إبراهيم) عند قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ..} . إلخ، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَيَوْمَ:} الواو: حرف استئناف. (يوم): مفعول به لفعل محذوف، تقديره:
اذكر. {تَشَقَّقُ:} فعل مضارع. {السَّماءُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (يوم) إليها. {بِالْغَمامِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {السَّماءُ،} وجملة:
اذكر يوم
…
إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَنُزِّلَ:} الواو: حرف عطف. (نزل): ماض مبني للمجهول. {الْمَلائِكَةُ:} نائب فاعله. {تَنْزِيلاً:} مفعول مطلق، وجملة:{وَنُزِّلَ..} . إلخ معطوفة على جملة: {تَشَقَّقُ..} . إلخ فهي في محل جر مثلها.
{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26)}
الشرح: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ:} يوم القيامة. {الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ} أي: الملك الثابت له تعالى؛ لأن كل ملك يبطل يومئذ ولا يبقى إلا ملكه؛ لأن السلطان الظاهر، والاستيلاء الكلي العام الثابت صورة ومعنى، ظاهرا، وباطنا بحيث لا زوال له أصلا، ولا يكون إلا لله تعالى، وهو فحوى قوله تعالى في آخر سورة (الانفطار):{وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ} . {وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً:} شديدا لما ينالهم فيه من الأهوال، ويلحقهم من الخزي والهوان، وهو على المؤمنين أخف من صلاة مكتوبة.
فعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] فقلت: ما أطول هذا اليوم، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«والّذي نفسي بيده، إنّه ليخفّف عن المؤمن حتّى إنّه يكون أخفّ عليه من صلاة المكتوبة يصلّيها في الدّنيا» .
الإعراب: {الْمُلْكُ:} مبتدأ. {يَوْمَئِذٍ:} ظرف زمان متعلق بما قبله؛ لأنه مصدر. {الْحَقُّ:}
صفة {الْمُلْكُ} . {لِلرَّحْمنِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {وَكانَ:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (كان): فعل ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى (يوم القيامة). {يَوْماً:} خبر (كان). {عَلَى الْكافِرِينَ:}
متعلقان ب {عَسِيراً} بعدهما. {عَسِيراً:} صفة {يَوْماً،} وجملة: {وَكانَ..} . إلخ معطوفة على الجملة الاسمية السابقة، أو هي مستأنفة، ولا محل لها على الاعتبارين.
الشرح: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظّالِمُ عَلى يَدَيْهِ} من فرط الحسرة، وشدة الندامة، وعض اليدين، وأكل البنان، وحرق الأسنان، ونحوها كنايات عن شدة الغيظ، والحسرة؛ لأنها من روادفهما. هذا؛
والظالم هو الذي يظلم غيره بالاعتداء على حقوقه، أو على كرامته، وحرماته، والظالم هو الذي يظلم نفسه بالكفر، أو بالمعاصي، وارتكاب الفواحش والمنكرات، وكثيرا ما يعبر القرآن عن الكافرين بالظالمين، والمجرمين، والمعتدين، والفاسقين، والمسرفين، وغير ذلك، ويتهددهم بالعذاب الأليم، ويتوعدهم بالعقاب الشديد، وإننا نجد الكثير من المسلمين يتصفون بهذه الصفات، فهل يوجه إليهم هذا التهديد، وهذا الوعيد؟ الحق أقول: نعم يتوجه إليهم ما ذكر، وهم أحق بذلك، ولا سيما من قرأ القرآن منهم، واطلع على أحوال الأمم السابقة، وما جرى لهم مع رسلهم، وكيف نكل الله بهم، وجعلهم عبرة للمعتبرين، وما يتذكر إلا أولو الألباب.
{يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً:} طريقا إلى النجاة، أو طريقا واحدا، وهو طريق الحق، ولم تتشعب بي طرق الضلالة، والمراد بالرسول هنا: محمد صلى الله عليه وسلم.
تنبيه: نزلت الآية الكريمة وما بعدها في عقبة بن أبي معيط بن أمية، بن عبد شمس بن عبد مناف، وكان قد نطق بالشهادتين، ثم ارتد عن الإسلام، وسبب نطقه بهما أنه صنع يوما طعاما، ودعا الناس إليه، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم الطعام، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«لا آكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله» . فنطق بهما، وأكل صلى الله عليه وسلم من طعامه، وكان عقبة صديقا لأبيّ بن خلف الجمحي، فلما أخبر أبيّ بما وقع لعقبة، قال له: يا عقبة! صبأت، قال: لا والله ما صبأت، ولكن دخل بيتي رجل، فأبى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي، ولم يطعم، فشهدت له، فطعم، فقال: لا أرضى عنك أبدا، حتى تأتيه فتبزق في وجهه، ففعل ذلك عقبة، فعاد بزاقه على وجهه، فحرقه، وبقي أثره في وجهه حتى قتل يوم بدر، وأما أبيّ فقد ضربه النبي يوم أحد بنبل فطعنه، وكان ذلك سبب موته وذهابه إلى جهنم وبئس المصير، وعقاب عقبة في جهنم كما هو نص الآية أنه يأكل يديه حتى يبلغ مرفقيه، ثم ينبتان ثم يأكلهما وهكذا كلما نبتت يده أكلها تحسرا وندامة على ما فعل.
الإعراب: {وَيَوْمَ:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (يوم): مفعول به لفعل محذوف، تقديره: اذكر. {يَعَضُّ:} فعل مضارع. {الظّالِمُ:} فاعله. {عَلى يَدَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الياء، نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{يَعَضُّ..} . إلخ في محل جر بإضافة (يوم) إليها، وجملة: (اذكر يوم
…
) إلخ معطوفة على جملة: اذكر يوم تشقق
…
إلخ المقدرة، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين. {يَقُولُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {الظّالِمُ}. (يا): حرف تنبيه، وقيل: أداة نداء، والمنادى محذوف، تقديره: يا قوم ونحوه، والأول أقوى، كما يؤخذ من قول ابن هشام في المغني. (ليتني): حرف مشبه بالفعل، والنون للوقاية، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب اسمها. {اِتَّخَذْتُ:} فعل، وفاعل. {مَعَ:}
ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، أو هو متعلق بمحذوف حال من:{سَبِيلاً،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، وقيل: مفعول ثان، وليس بشيء، و (مع) مضاف، و {الرَّسُولِ} مضاف إليه.
{سَبِيلاً:} مفعول به، وجملة:{اِتَّخَذْتُ..} . إلخ في محل رفع خبر (ليت)، والجملة الاسمية:
{يا لَيْتَنِي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{يَقُولُ..} . إلخ في محل نصب حال من {الظّالِمُ،} والرابط: الضمير فقط.
{يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28)}
الشرح: {يا وَيْلَتى:} دعاء بالثبور والهلاك على محالفة الكافر ومتابعته، قال الزجاج:
أصلها يا ويلتي، فأبدل من الياء ألفا؛ لأنها أخف من الياء والكسرة. هذا؛ وقرئ بالياء على الأصل، قال البيضاوي: أصله في الشر، فأطلق في كل أمر فظيع. انتهى. أقول: وهي كلمة تحسر وتلهف على ما فات، وتستعمل عند الداهية العظيمة، وجاءت للتعجب في الآية رقم [72] من سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً:} فلان كناية عن الأعلام، وإن أريد به الجنس، فكل من اتخذ من المضلين خليلا، كان اسم علم لخليله لا محالة، فجعله كناية عنه، وقيل: هو كناية عن الشيطان بدليل الآية التالية، وفي الجمل نقلا عن السمين: فلان كناية عن علم من يعقل من الذكور، وهو منصرف، و «فل» كناية عن نكرة من يعقل من الذكور، وفلانة كناية عن علم من يعقل من الإناث، و «فلة» كناية عن نكرة من يعقل من الإناث، والفلان والفلانة بالألف واللام كناية عن غير العاقل، ولام فل وفلان فيها وجهان:
أحدهما: أنها واو، والثاني: أنها ياء انتهى. والخليل: الصاحب، والصديق الذي صفت مودته، فتجد من خلاله مثل ما يجد من خلالك، ويسعى لمصلحتك، كما يسعى لمصلحته، بل قد يؤثرك على نفسه، ويبذل روحه من أجلك، كما قال ربيعة بن مقروم الضبي:[الوافر]
أخوك أخوك من يدنو وترجو
…
مودّته، وإن دعي استجابا
إذا حاربت حارب من تعادي
…
وزاد سلاحه منك اقترابا
وهو معدوم في هذا الزمن الذي فسد أهله، وصاروا خلاّ ودودا كما قال القائل:[الوافر]
سألت النّاس عن خلّ ودود
…
فقالوا النّاس من خلّ ودود
فقلت أليس فيهم ذو وفاء؟
…
فقالوا كان ذلك في الجدود
احفظ هذين البيتين، ولا تنس ما فيهما من الجناس التام. لذا فإنه لا وجود للصديق، بالمعنى الحقيقي، بل صار وجوده مستحيلا كما قال القائل:[الكامل]
قد قيل إنّ المستحيل ثلاثة
…
الغول والعنقاء والخلّ الوفي
وقال الآخر: [الوافر]
سألت النّاس عن خلّ وفيّ
…
فقالوا ما إلى هذا سبيل
تمسّك إن ظفرت بذيل حرّ
…
فإنّ الحرّ في الدنيا قليل
ومما هو جدير بالذكر: أن كل صداقة لا تكون على أساس من التقوى تنقلب عداوة في الدنيا والآخرة، خذ قوله تعالى:{الْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} الآية رقم [67] من سورة (الزخرف) انظر شرحها هناك. وانظر نتيجة صداقة إبليس في الآية رقم [22] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وفي سورة (ق) أيضا.
الإعراب: (يا): حرف نداء ينوب مناب: أدعو. (ويلتا): منادى منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، وقد قلبت الياء ألفا في إحدى القراءتين كما رأيت، والياء في محل جر بالإضافة، وأصل النداء أن يكون لمن يعقل، وقد ينادى ما لا يعقل مجازا، مثل: يا أسفي ونحوه، والمعنى هنا: أيها الويل احضر، فهذا أوان حضورك. {لَيْتَنِي:} حرف مشبه بالفعل، والنون للوقاية، وياء المتكلم اسمها. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {أَتَّخِذْ:} فعل مضارع مجزوم ب {لَمْ،} والفاعل مستتر تقديره: «أنا» . {فُلاناً:} مفعول به أول. {خَلِيلاً:} مفعول به ثان، وجملة:{لَمْ أَتَّخِذْ..} . إلخ في محل رفع خبر (ليت)، والجملة الاسمية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها، والآية بكاملها في محل نصب مقول القول.
{لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29)}
الشرح: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} أي: يقول الظالم النادم، لقد أضلني من اتخذته في الدنيا صديقا، وصاحبا عن القرآن، والإيمان به. وقيل:{عَنِ الذِّكْرِ} أي: عن الرسول، والأول أقوى لوروده في كثير من الآيات بمعنى الذكر. {بَعْدَ إِذْ جاءَنِي} أي: هديت إليه، وتمكنت منه. {وَكانَ الشَّيْطانُ} أي: الخليل المضل، أو إبليس؛ لأنه حمله على مصاحبته، وطاعته فيما أراد منه، ومخالفته للرسول صلى الله عليه وسلم، أو كل من تشيطن، وتمرد عن الحق فهو يدعو إلى الضلال سواء أكان من الجن، أو من الإنس. {لِلْإِنْسانِ خَذُولاً:} الخذل: الترك من الإغاثة، وهذا دأب الضالين المضلين من الإنس، والجن، يوالون الإنسان، ويتقربون إليه؛ حتى يودون به إلى الهلاك، ثم يتركونه ولا ينفعونه بشيء، ومنه خذلان إبليس للمشركين لما ظهر لهم في صورة سراقة بن مالك يوم غزوة بدر، فلما رأى الملائكة؛ تبرأ منهم، وقوله تعالى:{كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ} أكبر دليل على ذلك.
تنبيه: نزلت الآيات الثلاث في عقبة بن أبي معيط وأبيّ بن خلف، وخصوص السبب لا يمنع التعميم، والحكم عام في كل خليلين ومتحابين اجتمعا على معصية الله تعالى إلى يوم القيامة. وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم الفوائد، والمنافع التي يكتسبها الإنسان من مجالسة الأخيار، والمفاسد والمضار التي تتسبب من مخالطة الأشرار. وخذ ما يلي: فعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك إمّا أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإمّا أن تجد منه ريحا طيّبة. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإمّا أن تجد منه ريحا خبيثة» . متفق عليه. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» . أخرجه أبو داود، والترمذي.
ولهما عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصاحب إلاّ مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلاّ تقيّ» . وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قيل: يا رسول الله! أيّ جلسائنا خير؟ قال: «من ذكّركم بالله رؤيته، وزاد في علمكم منطقه، وذكّركم بالآخرة عمله» . رواه البزار. وقال مالك بن دينار: إنك إن تنقل الأحجار مع الأبرار خير لك من أن تأكل الخبيص مع الفجار. والخبيص: حلواء تصنع من التمر، والسمن، وأنشد:[الطويل]
وصاحب خيار الناس تنج مسلّما
…
وصاحب شرار النّاس يوما فتندما
وقال عدي بن زيد العبادي، وهما في معلقة طرفة بن العبد:[الطويل]
عن المرء لا تسأل؛ وسل عن قرينه
…
فكلّ قرين بالمقارن يقتدي
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم
…
ولا تصحب الأردى فتردى مع الرّدي
الإعراب: {لَقَدْ:} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف، تقديره: والله. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَضَلَّنِي:} فعل ماض، والنون للوقاية، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والفاعل ضمير مستتر يعود إلى (فلان)، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه في محل نصب مقول القول أيضا. {عَنِ الذِّكْرِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله أيضا، وقيل: متعلق بمحذوف حال، ولا وجه له. و {بَعْدَ} مضاف، و {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل جر بالإضافة. {جاءَنِي:} فعل ماض، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والفاعل يعود إلى {الذِّكْرِ،} والجمل الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها.
{وَكانَ:} الواو: حرف استئناف. (كان): فعل ماض ناقص. {الشَّيْطانُ:} اسم (كان).
{لِلْإِنْسانِ:} متعلقان بما بعدهما. {خَذُولاً:} خبر (كان)، وهو مبالغة اسم الفاعل، وجملة {وَكانَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها؛ لأنها من كلام الله، وليست من مقول الظالم، وقيل:
في محل نصب حال، ولا وجه له. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.
{وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اِتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30)}
الشرح: {وَقالَ الرَّسُولُ:} النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله هذا في الدنيا بثا إلى الله، أو في الآخرة شكوى إليه تعالى. {إِنَّ قَوْمِي} أي: قريشا. {اِتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً:} أعرضوا عنه، واستكبروا، وقالوا فيه غير الحق من أنه سحر، وشعر، وكهانة، وأساطير الأولين
…
إلخ، فعزاه الله بالآية التالية. وعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من تعلّم القرآن، وعلّق مصحفه ولم يتعاهده، ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلّقا به، يقول: يا ربّ العالمين، إنّ عبدك هذا اتّخذني مهجورا، فاقض بيني وبينه» . ذكره الثعلبي، وانظر سورة (الإسراء) رقم [78] فهو جيد.
الإعراب: {وَقالَ:} الواو: حرف استئناف. (قال): فعل ماض. {الرَّسُولُ:} فاعله. (يا):
أداة نداء تنوب مناب: أدعو. (رب): منادى منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، وانظر شرح (رب) في الآية رقم [94] من سورة (المؤمنون)، وإعراب مثله في الآية رقم [23] منها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {قَوْمِي:} اسم {إِنَّ} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة. {اِتَّخَذُوا:} فعل ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {هذَا:} الهاء: حرف تنبيه لا محل له. ذا: اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب مفعول به أول. {الْقُرْآنَ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه. {مَهْجُوراً:} مفعول به ثان، وجملة:{اِتَّخَذُوا..} . إلخ في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ قَوْمِي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، كالجملة الندائية قبلها، وجملة:{وَقالَ الرَّسُولُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَكَذلِكَ جَعَلْنا..} . إلخ أي: كما جعلنا لك يا محمد عدوا من مشركي قومك، وهو أبو جهل وغيره، فكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من مشركي قومه، فاصبر لأمري كما صبروا، فإني متوليك بالهداية، والتوفيق لما أحبه، وأرضاه، وناصرك على أعدائك، والعدو يكون واحدا، ويكون جمعا، وانظر شرحه في الآية رقم [39] من سورة (طه)، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَكَذلِكَ:} الواو: حرف استئناف. الكاف: حرف تشبيه وجر، و (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله الفعل بعده، التقدير: جعلنا لكل نبي عدوّا جعلا كائنا مثل جعل أبي جهل وأمثاله عدوّا لك، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {جَعَلْنا:} فعل، وفاعل.
{لِكُلِّ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني تقدم على الأول، وكل مضاف، و {نَبِيٍّ} مضاف إليه. {عَدُوًّا:} مفعول به أول. {مِنَ الْمُجْرِمِينَ:} متعلقان ب {عَدُوًّا،} أو بمحذوف صفة له، والجملة الفعلية:{وَكَذلِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{وَكَفى:} الواو: واو الاستئناف. (كفى): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر.
{بِرَبِّكَ:} الباء: حرف جر صلة. (ربك): فاعل (كفى) مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله ضمير مستتر فيه. {هادِياً:} تمييز، وأجيز اعتباره حالا. {وَنَصِيراً:} معطوف على ما قبله، وجملة:{وَكَفى..} . إلخ مستأنفة، أو معطوفة على ما قبلها لا محل لها على الاعتبارين، والحالية ضعيفة فيها.
الشرح: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً:} اختلف في قائل ذلك على قولين: أحدهما: أنهم كفار قريش، قاله ابن عباس-رضي الله عنهما. الثاني: أنهم اليهود حين رأوا نزول القرآن مفرقا، قالوا: هلا أنزل عليه جملة واحدة، كما أنزلت التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود على نبينا، وعليهم أجمعين ألف صلاة، وألف سلام، فقال الله تعالى ردّا عليهم:{كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ} أي: نقوي به قلبك، فتعيه، وتحمله؛ لأن الكتب المتقدمة إنما أنزلت على أنبياء يكتبون ويقرؤون، والقرآن إنما أنزل على نبي أمي، ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ، فالمتأخر قد نسخ كثيرا من الآيات المتقدمة، أو نسخ بعض أحكامها، ولأن منه ما هو جواب لمن سأل عن شيء، ولأن منه ما نزل لحل مشكلة حصلت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فتفريقه كان أوعى للنبي صلى الله عليه وسلم، وأيسر على العامل به، وحفظه أسهل، فكان كلما نزل وحي جديد زاد قلب النبي صلى الله عليه وسلم قوة وثباتا، وازداد المؤمنون به إيمانا فوق إيمانهم، كما قال تعالى:{وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً} . رقم [2] من (الأنفال).
فإن قيل: هلا أنزل دفعة واحدة وحفظه؛ إذ كان ذلك في قدرته، فالجواب: أن في قدرة الله أن يعلم نبيه القرآن كله في لحظة واحدة، ولكنه لم يفعل، ولا معترض عليه تعالى في حكمه، وقد بينا وجه الحكمة ظاهرا في ذلك، ولله في كتابه، وقضائه، وقدره أسرار حيرت ذوي العقول، والأبصار. {وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً} أي: وقرأناه عليك شيئا بعد شيء على تؤدة وتمهل في ثلاث وعشرين سنة.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى: وأمرنا بترتيل قراءته، وذلك قوله:{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} أي: اقرأه بترسل، وتثبت، ومنه حديث عائشة-رضي الله عنها-في صفة قراءته صلى الله عليه وسلم:«لا كسردكم هذا، لو أراد السامع أن يعدّ حروفه لعدّها» . انتهى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَقالَ:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (قال): فعل ماض.
{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها. {لَوْلا:} حرف تحضيض. {نُزِّلَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الْقُرْآنُ:} نائب فاعل {نُزِّلَ} .
{جُمْلَةً:} حال من {الْقُرْآنُ} أي: مجتمعا. {واحِدَةً:} صفة لها، وجملة:{لَوْلا نُزِّلَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالَ الَّذِينَ..} . إلخ معطوفة على جملة: (قال الرسول
…
) إلخ فتكون الآية: {وَكَذلِكَ جَعَلْنا..} . إلخ معترضة بين المتعاطفتين، أو هي مستأنفة، ولا محل لها على الاعتبارين. {كَذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف مع عامله، التقدير: نزلنا تنزيلا مثل ذلك التنزيل. هذا؛ وإن اعتبرت الكاف اسما فالمحل لها، وتكون مضافة، واسم الإشارة في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لِنُثَبِّتَ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«نحن» . {بِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {فُؤادَكَ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، و «أن» المضمرة والفعل نثبت في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل المقدر المحذوف، وجملة: «نزلناه كذلك
…
» إلخ المقدرة في محل نصب مقول القول لقول محذوف، أي قال الله تعالى: (نزلناه كذلك
…
) إلخ؛ لأنها ليست من مقول الذين كفروا، وجملة: قال الله تعالى
…
إلخ مستأنفة، لا محل لها.
(رتلناه): فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:«نزلناه» المقدرة فهي من مقول الله تعالى المحذوف المقدر. {تَرْتِيلاً:} مفعول مطلق.
{وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33)}
الشرح: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} أي: بسؤال عجيب كأنه مثل في البطلان يريدون به القدح في نبوتك. {إِلاّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ} أي: إلا أتيناك بالجواب الحق الدامغ لما يسألونه، وقيل:
(لا يأتونك بمثل) كقولهم في صفة عيسى: إنه خلق من غير أب، وألحق ما فيه نقض حجتهم كآدم؛ إذ خلق من غير أب وأم. {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً:} تفصيلا، والمعنى: أحسن من مثلهم تفصيلا، وبيانا، فحذف لفهمه من المقام، أو المعنى: لا يأتونك بحال، وصفة عجيبة، مثل قولهم:
هلا أنزل عليك القرآن جملة واحدة إلا أعطيناك من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا أن تعطاه،
وما هو أحسن تكشيفا لما بعثت عليه، ودلالة على صحته، يعني: إن تنزيله مفرقا، وتحديهم بأن يأتوا ببعض تلك التفاريق، كلما نزل شيء منها دخل في الإعجاز من أن ينزل كله جملة.
الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف استئناف. (لا): نافية. {يَأْتُونَكَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والكاف مفعوله. {بِمَثَلٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {إِلاّ:} حرف حصر. {جِئْناكَ:} فعل ماض، و (نا): فاعله، والكاف مفعول به. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الفاعل، أو من المفعول، والجملة الفعلية:{جِئْناكَ بِالْحَقِّ} في محل نصب حال مستثنى من عموم الأحوال، وهي على تقدير قد قبلها. (أحسن): معطوف على (الحق) مجرور مثله، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للصفة ووزن أفعل. {تَفْسِيراً:} تمييز.
الشرح: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ:} فعن أنس بن مالك-رضي الله عنه: أن رجلا قال: يا رسول الله! قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ} أيحشر الكافر على وجهه؟! فقال صلى الله عليه وسلم: «أليس الّذي أمشاه على الرّجلين في الدّنيا قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟!» قال قتادة رحمه الله تعالى حين بلغه: بلى وعزة ربنا! رواه البخاري ومسلم، وانظر الآية رقم [97] من سورة (الإسراء)، والآية رقم [102] من سورة (طه) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
{أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً} أي: مكانة ومنزلة، أو مسكنا ومنزلا. {وَأَضَلُّ سَبِيلاً} أي: أخطأ طريقا، والطريق لا تضل، وإنما هو من الإسناد المجازي للمبالغة، والمعنى: إن حاملكم على هذه الأسئلة أنكم تضلون سبيله، وتحتقرون منزلته ومكانته، ولو نظرتم بعين الإنصاف، وأنتم من المسحوبين على وجوههم؛ لعلمتم أن مكانكم شر من مكانه، ومنزلة سبيلكم أضل من سبيله.
هذا؛ وانظر الآية رقم [97] من سورة (الإسراء).
الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، تقديره: أعني، أو أذم. أو هو في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هم الذين، أو هو في محل رفع مبتدأ خبره ما يأتي. {يُحْشَرُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، والواو نائب فاعله، والجمل الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {عَلى وُجُوهِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، التقدير: يحشرون مكبوبين على وجوههم، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِلى جَهَنَّمَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {أُوْلئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {شَرٌّ:} خبر المبتدأ. {مَكاناً:}
تمييز. {وَأَضَلُّ:} معطوف على {شَرٌّ} . {سَبِيلاً:} تمييز، والجملة الاسمية:{أُوْلئِكَ..} .
إلخ مستأنفة على الأوجه المتقدمة في الموصول، وفي محل رفع خبره على اعتباره مبتدأ، وجملة:{الَّذِينَ..} . إلخ سواء أكانت فعلية، أم اسمية، فهي مستأنفة، لا محل لها.
{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35)}
الشرح: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ} أي: التوراة. {وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ..} . إلخ: الواو في هذه الآية لمطلق الجمع، ولا تفيد ترتيبا؛ لأن من المعلوم أن إيتاء التوراة، كان بعد إيتاء الرسالة لموسى وهارون بنحو من ثلاثين سنة، وكذلك الفاء في الآية التالية لا تفيد تعقيبا ولا ترتيبا؛ لأن كلا من الجعل والقول، كان قبل إيتاء التوراة كما علمت. وانظر شرح الآية رقم [29] من سورة (طه) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. هذا؛ وقال البيضاوي في معنى {وَزِيراً:} يوازره في الدعوة، وإعلاء الكلمة، ولا ينافي ذلك مشاركته في النبوة، فإن المتشاركين في الأمر متوازران عليه، وأيضا فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء، ويؤمرون بأن يوازر بعضهم بعضا.
الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. اللام: واقعة في جواب القسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {آتَيْنا:} فعل، وفاعل. {مُوسَى:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف. {الْكِتابَ:} مفعول به ثان. وجملة: {وَلَقَدْ..} . إلخ جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له، المراد منه تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بحكاية ما جرى بين الأنبياء وبين أقوامهم حكاية إجمالية كافية فيما هو المقصود. (جعلنا):
فعل، وفاعل. {مَعَهُ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {أَخاهُ:} مفعول به أول منصوب، وعلامة نصبه الألف نيابة عن الفتحة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء في محل جر بالإضافة. {هارُونَ:} بدل من {أَخاهُ،} أو عطف بيان عليه. {وَزِيراً:} مفعول به ثان. هذا؛ وقيل: {وَزِيراً} حال، والمفعول الثاني (معه) ولا وجه له، وجملة:{وَجَعَلْنا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. هذا؛ وانظر إعراب:
{وَلَقَدْ} في سورة (طه) رقم [37] فهو جيد.
{فَقُلْنَا اِذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36)}
الشرح: {فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ} أي: إلى فرعون وقومه. {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} أي:
فذهبا إليهم، فأبلغاهم الرسالة، فكذبوهما. هذا؛ وقال الجمل: إن كان المراد بالآيات مصنوعات الله تعالى الدالة على انفراده بالملك والعبادة، فالأمر ظاهر، وإن كان المراد بها
خصوص الآيات التسع التي جاء بها موسى للقبط لم يظهر، وذلك؛ لأن وقت الأمر بالذهاب إلى القبط، لم يكونوا قد رأوا شيئا من الآيات التسع حتى يكلموا بها؛ لأن الأمر بالذهاب إليهم كان في واقعة الطور، وهي كانت قبل مجيء مصر، ومخاطبة فرعون وقومه، فلا تخلص إلا بحمل الماضي على معنى الاستقبال، أي: سيكذبوا بآياتنا انتهى. نقلا عن شيخه. {فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً:} قال البيضاوي: أي: فذهبا إليهم، فكذبوهما، فدمرناهم تدميرا، فاقتصر على حاشيتي القصة اكتفاء بما هو المقصود، وهو إلزام بالحجة ببعثة الرسل، واستحقاق التدمير بتكذيبهم.
هذا؛ والتدمير الإهلاك بأمر عجيب، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {فَقُلْنَا:} الفاء: حرف عطف. (قلنا): فعل، وفاعل. {اِذْهَبا:} فعل أمر مبني على حذف النون؛ لأن مضارعه من الأفعال الخمسة، وألف الاثنين فاعله. {إِلَى الْقَوْمِ:} متعلقان بما قبلهما. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر صفة {الْقَوْمِ،} وجملة:
{كَذَّبُوا بِآياتِنا} صلة الموصول لا محل لها. (دمرناهم): ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة، انظر تقديرها في الشرح، وجملة:{اِذْهَبا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة: (فقلنا
…
) إلخ معطوفة على جواب القسم في الآية السابقة، لا محل لها مثلها، وجملة:{فَدَمَّرْناهُمْ..} . إلخ معطوفة على جملة (قلنا
…
) إلخ لا محل لها أيضا.
الشرح: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ:} ذكر الله جنس الرسل، والمراد: نوح وحده؛ لأنه لم يكن في ذلك الوقت رسول إليهم إلا نوح وحده، فنوح-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-إنما بعث بلا إله إلا الله، وبالإيمان بما ينزل الله، فلما كذبوه؛ كان في ذلك تكذيب لكل من بعث بعده بهذه الكلمة، وقيل: إن من كذب رسولا فقد كذب جميع الرسل؛ لأنهم لا يفرق بينهم في الإيمان، ولأنه ما من نبي إلا يصدق سائر أنبياء الله، فمن كذب منهم نبيا، فقد كذب كل من صدقه من النبيين. انتهى. قرطبي. {وَجَعَلْناهُمْ} أي: جعلنا إغراقهم، أو قصتهم. {لِلنّاسِ آيَةً} أي: علامة ظاهرة على قدرتنا. {وَأَعْتَدْنا:} هيأنا. {لِلظّالِمِينَ:} قوم نوح ومن سار على طريقتهم، وانظر التعبير عن الكافرين، في الآية رقم [27]. {عَذاباً أَلِيماً} أي: في الآخرة، وتلك سنة الله في الكافرين والجاحدين، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولا تحويلا. هذا؛ وانظر قصة نوح مع قومه مفصلة في سورة (هود) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
الإعراب: {وَقَوْمَ:} الواو: حرف عطف. (قوم): في نصبه أربعة أقوال: الأول: العطف على الضمير المنصوب، فيكون المعنى: ودمرنا قوم نوح. الثاني: أنه منصوب بفعل محذوف،
تقديره: اذكر. الثالث: أنه منصوب بفعل محذوف يفسره ما بعده، التقدير: وأغرقنا قوم نوح أغرقناهم. الرابع: أنه منصوب ب: {أَغْرَقْناهُمْ} قاله الفراء، ورده النحاس، قال: لأن «أغرقنا» ليس مما يتعدى إلى مفعولين، فيعمل في المضمر وفي (قوم نوح)، وأقوى هذه الأقوال أولها:
و (قوم) مضاف، و {نُوحٍ} مضاف إليه. {لَمّا:} حرف وجود لوجود. عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف بمعنى «حين» عند ابن السراج، والفارسي، وابن جني، وجماعة، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وصوب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني. {كَذَّبُوا:} فعل ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية على القول بحرفية {لَمّا،} وهي في محل جر بإضافة {لَمّا} إليها على اعتبارها ظرفا. {الرُّسُلَ:} مفعول به. {أَغْرَقْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية جواب {لَمّا،} لا محل لها، و {لَمّا} ومدخولها في محل نصب حال من (قوم نوح)، والرابط: الضمير في الجملتين، وعلى هذا فلا يتأتى الوجه الثالث في قوم نوح، لأن أغرقناهم حينئذ جواب {لَمّا،} جوابها لا يفسر غيره، وإنما يتأتى على اعتبار {لَمّا} ظرف زمان متعلقا بالفعل (أغرقنا) مجردا من معنى الشرطية. تأمل. (جعلناهم): فعل، وفاعل، ومفعول به أول. {لِلنّاسِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {آيَةً،} كان نعتا له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . {آيَةً:}
مفعول به ثان، وجملة:{وَجَعَلْناهُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها.
{وَأَعْتَدْنا:} الواو: واو الحال. (أعتدنا): فعل، وفاعل. {لِلظّالِمِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان ب {أَلِيماً} بعدهما. {عَذاباً:} مفعول به. {أَلِيماً:} صفته، وجملة:
(أعتدنا
…
) إلخ في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الواو، وإعادة (الظالمين) بلفظه بدلا من الضمير، وضعا للظاهر موضعه تسجيلا عليهم بوصف الظلم للمبالغة، و «قد» مقدرة قبل الجملة.
{وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38)}
الشرح: {وَعاداً} أي: قوم عاد الذين كذبوا نبيهم هودا، فأهلكهم الله بالريح العقيم.
{وَثَمُودَ:} هم قوم صالح، فأهلكهم الله بالرجفة، وقد كثر ذكر هاتين القبيلتين في كثير من السور، وانظر سورة (هود) وسورة (الأعراف) ففيهما تفصيل أكثر من غيرهما. {وَأَصْحابَ الرَّسِّ:}
الرس في كلام العرب البئر التي تكون غير مطوية، والجمع: رساس، قال الشاعر:[المتقارب]
وهم سائرون إلى أرضهم
…
فيا ليتهم يحفرون الرّساسا
والرس: اسم واد في قول زهير بن أبي سلمى المزني في معلقته: [الطويل]
بكرن بكورا، واستحرن بسحرة
…
فهنّ لوادي الرّسّ كاليد للفم
ورسست رسا: حفرت بئرا، ورسّ الميت: أي قبر، والرس: الإصلاح بين الناس، والإفساد، أيضا، فهو من الأضداد. هذا؛ وفي الرس وفي أصحابه أقوال كثيرة أنقلها لك من القرطبي وغيره، قال ابن عباس-رضي الله عنهما: سألت كعبا عن أصحاب الرس، قال:
صاحب (يس) الذي قال: (يا قوم اتّبعوا المرسلين) قتله قومه، ورسّوه في بئر لهم، يقال له:
الرّس، طرحوه فيها. وكذا قال مقاتل. وقال السدي: هم أصحاب قصة (يس) أهل أنطاكية، والرس: بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار مؤمن آل (يس) فنسبوا إليها.
وقال علي-رضي الله عنه: هم قوم كانوا يعبدون شجرة صنوبر، فدعا عليهم نبيهم، وكان من ولد يهوذا، فيبست الشجرة، فقتلوه، ورسّوه في بئر، فأظلتهم سحابة سوداء، فأحرقتهم.
وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: هم قوم بأذربيجان، قتلوا أنبياء، فجفت أشجارهم وزروعهم، فماتوا جوعا، وعطشا.
وقال وهب بن منبه: كانوا أهل بئر يقعدون عليها، وأصحاب مواش، وكانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم شعيبا، فكذبوه وآذوه، وتمادوا على كفرهم وطغيانهم، فبينما هم حول البئر في منازلهم، انهارت بهم، وبديارهم، فخسف الله بهم، فهلكوا جميعا.
وقال قتادة: أصحاب الرس وأصحاب الأيكة أمّتان، أرسل الله إليهما شعيبا، فكذبوه، فعذبهما الله بعذابين. قال قتادة: والرس قرية بفلج اليمامة. وقال الكلبي: أصحاب الرس قوم أرسل الله إليهم نبيا فقتلوه، وهم أول من عمل نساؤهم السّحق؛ ذكره الماوردي. وقيل: هم أصحاب الأخدود، الذين حفروا الأخاديد، وحرقوا فيها المؤمنين. وقيل: هم بقايا من قوم ثمود، وأن الرس البئر المذكورة في الحج رقم [45].
وقال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: كان نبي يقال له: حنظلة بن صفوان، فقتلوه، فأهلكهم الله تعالى. وأخيرا أذكر أنه يوجد بين الحجاز ونجد قرية تسمى: الرس، وهي مأهولة بالسكان، فيكون حنظلة بن صفوان-وهو عربي-أرسل إلى هذه القرية، ولا تزال معالمها قائمة إلى أيامنا هذه.
هذا؛ وزاد البيضاوي في أصحاب حنظلة النبي: ابتلاهم الله بطير عظيم كان فيها من كل لون، وسموها عنقاء لطول عنقها، وتسكن جبلهم الذي يقال له: فتخ، أو دمخ، وتنقض على صبيانهم، فتخطفهم إذا أعوزها الصيد، ولذلك سميت مغربا، فدعا عليها حنظلة، فأصابتها الصاعقة، ثم إنهم قتلوه، فأهلكوا، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
{وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ} أي: وأهلكنا قرونا كثيرا بين عاد، وثمود، وأصحاب الرس لا يعلمها إلا الله. والإشارة راجعة إلى تلك القرون الكثيرة فلذا صح دخول «بين» عليها؛ لأنها لا تدخل
إلا على متعدد لفظا، أو حكما، وهي ظرف مكان بمعنى: وسط بسكون السين، تقول: جلست بين القوم، كما تقول: جلست وسط القوم. هذا؛ والبين: الفراق، والبعاد، وهو أيضا:
الوصل، فهو من الأضداد، كالجون يطلق على الأسود، والأبيض، ومن استعماله بمعنى الوصل ما قرئ به في سورة (الأنعام) الآية رقم [94]:{لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} حيث قرئ برفعه، ومن استعماله بمعنى الفراق، والبعاد قول كعب بن زهير-رضي الله عنه-في قصيدته التي مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم:[البسيط]
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا
…
إلاّ أغنّ غضيض الطّرف مكحول
هذا؛ والقرون جمع قرن، بفتح القاف وسكون الراء، وهو مئة سنة على الصحيح، وقيل:
ثمانون، وقيل: ثلاثون. ويقال: القرن في الناس أهل زمان واحد، وهو المراد في الآية الكريمة ونحوها، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «خير القرون قرني
…
إلخ». ومنه قول الشاعر: [الطويل]
إذا ذهب القرن الّذي أنت فيهم
…
وخلّفت في قرن فأنت غريب
وخذ قول لبيد بن ربيعة الصحابي-رضي الله عنه: [الطويل]
فإن أنت لم ينفعك علمك فانتسب
…
لعلّك تهديك القرون الأوائل
والقرن بفتح القاف أيضا: الزيادة العظيمة التي تنبت في رؤوس بعض الحيوانات، ومنه إسكندر ذو القرنين. والقرن: الجبل الصغير، وذؤابة المرأة من الشعر، والقرن من القوم:
سيدهم، ومن السيف: حده ونصله، وجمعه في كل ما تقدم: قرون. هذا؛ وهو بكسر القاف، وسكون الراء: الكفؤ في الشجاعة، والعلم، ونحوهما، والجمع على هذا: أقران.
الإعراب: {وَعاداً:} الواو: حرف عطف. (عادا): معطوف على (قوم نوح) وهو على معنى:
وأهلكنا عادا، أو هو معطوف على الضمير المنصوب بقوله (دمرناهم) أو بقوله (جعلناهم) كما جوز اعتباره منصوبا بفعل محذوف تقديره: اذكر عادا. {وَثَمُودَ:} معطوف على ما قبله، ويقرأ بتنوينه مصروفا على إرادة الأب، أو الحي. {وَأَصْحابَ:} معطوف على ما قبله، و (أصحاب) مضاف، و {الرَّسِّ} مضاف إليه. (قرونا): معطوف على ما قبله. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صفة: (قرونا)، و {بَيْنَ} مضاف، و {ذلِكَ} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {كَثِيراً:} صفة ثانية ل (قرونا).
{وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39)}
الشرح: {وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ} أي: بينا له القصص العجيبة من قصص الأولين، ووصفنا لهم ما فعلوا من تكذيب الأنبياء، وجرى عليهم ما جرى من عذاب الله، وتدميره.
{وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً:} أهلكناه إهلاكا، والتتبير: التفتيت، والتكسير، ومنه: التبر، وهو كسار الفضة، والذهب، وانظر شرح المثل في الآية رقم [60] من سورة (الحج).
الإعراب: {وَكُلاًّ:} الواو: حرف عطف. (كلا): مفعول به لفعل محذوف، دل عليه ما بعده، التقدير: وأنذرنا، أو حذرنا، أو خوفنا. {ضَرَبْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية مفسرة لما قبلها؛ لأنها دالة عليها، والأولى معطوفة على ما قبلها من جمل. {لَهُ:} متعلقان بما قبلهما. و {الْأَمْثالَ:} مفعول به. {وَكُلاًّ:} الواو: حرف عطف. (كلا): مفعول به مقدم.
{تَبَّرْنا:} فعل، وفاعل. {تَتْبِيراً:} مفعول مطلق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.
الشرح: {وَلَقَدْ أَتَوْا} يعني: قريشا مروا مرارا في متاجرهم إلى الشام، و «أتى» يستعمل متعديا بنفسه، أو ب:«إلى» وقد عدّاه هنا ب: «على» ؛ لأنه بمعنى: مروا كما رأيت. {عَلَى الْقَرْيَةِ:}
أراد جنس القرى، وعبر بواحدة عن الجميع، وهي خمس قرى؛ لأنها عظمى قرى قوم لوط، واسمها سذوم بالذال، أو بالدال. {أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} أي: بالحجارة من السماء، أي: بعد جعل عاليها سافلها، فأهلك الله أربعا من القرى، ونجت واحدة، وهي أصغرها، وقد كان أهلها لا يعملون العمل الخبيث. {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها:} في مرورهم عليها، فيتعظون بما يرون فيها من آثار عذاب الله تعالى، قال تعالى:{وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ،} وقال جل شأنه: {وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ} الأولى رقم [137] من سورة (الصافات)، والثانية رقم [79] من سورة (الحجر). {بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ} أي: لا يؤملون، أو: لا يخافون، وانظر الآية رقم [21]. {نُشُوراً} أي: بعثا، وحسابا؛ لأنهم كانوا كفرة، لا يتوقعون ذلك، فلذلك لم ينظروا، ولم يتعظوا، فمروا بها كما مرت ركابهم، وانظر شرح {الْقَرْيَةِ} في الآية رقم [6] من سورة (الأنبياء)، وشرح {السَّوْءِ} في الآية رقم [74] منها. هذا؛ وانظر قصة لوط في سورة (الأعراف) وفي سورة (هود) مفصلة تفصيلا كافيا.
الإعراب: {وَلَقَدْ:} انظر الآية رقم [35]. {أَتَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والواو فاعله، والألف للتفريق، وجملة: (لقد أتوا
…
) إلخ جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه مستأنف لا محل له، وهو في المعنى معطوف على مثله في الآية رقم [35]. {عَلَى الْقَرْيَةِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة: {الْقَرْيَةِ} . {أُمْطِرَتْ:} ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث، ونائب الفاعل يعود إلى:{الْقَرْيَةِ} تقديره: «هي» . {مَطَرَ:} مفعول مطلق مبين للهيئة، وأجاز أبو البقاء اعتباره مفعولا ثانيا، ولا وجه له، و {مَطَرَ} مضاف، و {السَّوْءِ} مضاف إليه، والجملة
الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {أَفَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام متضمن معنى التوبيخ والتقريع، الفاء: حرف عطف، أو حرف استئناف. لم: حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَكُونُوا:}
فعل مضارع ناقص مجزوم ب: (لم) وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو ضمير متصل في محل رفع اسمه، والألف للتفريق. {يَرَوْنَها:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو فاعله. و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:
{يَكُونُوا،} وهذه الجملة معطوفة على جملة محذوفة يقتضيها المقام، التقدير: ألم يكونوا ينظرون إليها، فلم يكونوا يرونها، أو أكانوا ينظرون إليها، فلم يكونوا يرونها في مرات مرورهم ليتعظوا بما كانوا يشاهدونه من آثار العذاب. انتهى. جمل نقلا من أبي السعود، والكلام كله مستأنف لا محل له. {بَلْ:} حرف إضراب، أو حرف انتقال. {كانُوا:} ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {لا:} نافية. {يَرْجُونَ:} فعل مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان). {نُشُوراً:} مفعول به، وجملة:{كانُوا..} . إلخ مستأنفة، أو معطوفة على ما قبلها، لا محل لها على الاعتبارين.
{وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (41)}
الشرح: {وَإِذا رَأَوْكَ} أي: أبو جهل، وأمثاله، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً:} سخرية واستهزاء، وقد أخذ الله المستهزئين بالرسول صلى الله عليه وسلم أخذ عزيز مقتدر، كما قال تعالى:{إِنّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} الآية رقم [95] من سورة (الحجر). هذا؛ وهزوا مصدر: هزأ يهزأ هزأ من باب فتح، ويأتي أيضا من باب: تعب، والمصدر يأتي بضم الزاي، وسكونها، وتخفيف الهمزة، فتقلب واوا، وقد قرئ بهما، وهما قراءتان سبعيتان. هذا؛ والاستهزاء بالناس حرام قطعا، وآية (الحجرات) الناهية عن السخرية، والاستهزاء بالناس معروفة، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الناهية عن ذلك كثيرة، ومسطورة، ومشهورة. {أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً:} أرادوا بهذا الاستفهام التقرير والتحقير. نزلت الآية الكريمة في أبي جهل، وغيره من المستهزئين، وهي شبيهة بالآية رقم [36] من سورة (الأنبياء).
الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف. (إذا): انظر الآية رقم [12]. {رَأَوْكَ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والواو فاعله، والكاف مفعوله، وقد اكتفى الفعل به؛ لأنه بصري، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح. {إِنْ:} نافية. {يَتَّخِذُونَكَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو فاعله، والكاف مفعول به أول. {إِلاّ:} حرف حصر. {هُزُواً:} مفعول به ثان، وجملة:
{إِنْ يَتَّخِذُونَكَ..} . إلخ جواب (إذا) لا محل لها من الإعراب، وهي مخالفة لأدوات الشرط في
ذلك، فإن أدوات الشرط متى أجيبت ب:«إن» النافية، أو ب:«ما» أو ب: «لا» وجب اقترانها بالفاء، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له من الإعراب. {أَهذَا:} الهمزة: حرف استفهام وتقرير وتحقير. الهاء: حرف تنبيه لا محل له. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.
{الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبره. {بَعَثَ:} فعل ماض. {اللهُ:}
فاعله. {رَسُولاً:} حال من الضمير المنصوب، وقيل: هو مفعول مطلق؛ لأن معنى بعث: أرسل، ويكون معنى رسولا: رسالة، وجملة:{بَعَثَ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: الذي بعثه الله رسولا، والجملة الاسمية:{أَهذَا..} . إلخ في محل نصب مقول القول لقول محذوف، يقع حالا من واو الجماعة، التقدير: قائلين: {أَهذَا الَّذِي..} . إلخ.
هذا؛ وأجيز اعتبار الجملة الاسمية: {أَهذَا..} . إلخ في محل نصب مقول القول لقول محذوف، تقديره: يقولون: أهذا الذي
…
إلخ، وهذه الجملة جواب (إذا) لا محل لها، وعليه فجملة:{إِنْ يَتَّخِذُونَكَ..} . إلخ معترضة بين شرط (إذا) وجوابها.
الشرح: {إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا:} قولهم هذا دليل على شدة مجاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوتهم، وبذله قصارى الوسع والطاقة في استعطافهم، مع عرض الآيات والمعجزات عليهم، حتى شارفوا بزعمهم أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام لولا فرط لجاجهم، واستمساكهم بعبادة آلهتهم. {لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها} أي: لولا أن ثبتنا عليها، واستمسكنا بعبادتها. {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ..}. إلخ: وعيد وتهديد ودلالة على أنهم لا يفوتونه، وإن طالت مدة الإمهال، فلا بد للوعيد أن يلحقهم، فلا يغرنهم التأخير. {مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً:} هو كالجواب عن قولهم: {إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا} لأن نسبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الضلال من حيث لا يضل غيره إلا من هو ضال في نفسه، ويروى: أن هذا الكلام من قول أبي جهل الخبيث. وانظر شرح {كادَ} في الآية رقم [73] من سورة (الإسراء) فإنه جيد.
الإعراب: {إِنْ:} مخففة من الثقيلة مهملة لا عمل لها عند البصريين، وقال الكوفيون: هي حرف نفي بمعنى ما. {كادَ:} فعل ماض من أفعال المقاربة، واسمها ضمير مستتر تقديره:
«هو» يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. {لَيُضِلُّنا:} اللام: هي الفارقة بين النفي والإثبات عند البصريين، وهي بمعنى «إلا» عند الكوفيين. (يضلنا): فعل مضارع، والفاعل يعود إلى الرسول أيضا، و (نا): ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {كادَ} .
{عَنْ آلِهَتِنا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (نا): في محل جر بالإضافة. {لَوْلا:}
حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط. {إِنْ:} حرف مصدري، ونصب. {صَبَرْنا:} فعل ماض مبني على السكون، و (نا): فاعله. {عَلَيْها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و {إِنْ} والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ، والخبر محذوف، وجواب {لَوْلا} محذوف أيضا، وتقدير الكلام لولا صبرنا موجود لأضلنا عن آلهتنا. والكلام:{إِنْ كادَ..} .
إلخ في محل نصب مقول القول المحذوف المقدر في الآية السابقة قبل: {أَهذَا..} . إلخ.
{وَسَوْفَ:} الواو: حرف استئناف. (سوف): حرف استقبال. {يَعْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {حِينَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. {يَرَوْنَ:}
فعل مضارع، والواو فاعله. {الْعَذابَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:
{حِينَ} إليها. {مَنْ:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَضَلُّ:} خبر المبتدأ. {سَبِيلاً:} تمييز، والجملة الاسمية:{مَنْ أَضَلُّ..} . إلخ في محل نصب مفعول به للفعل: {يَعْلَمُونَ} المعلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام. هذا؛ ويجوز اعتبار {مَنْ} اسما موصولا مفعولا به، فيكون:{أَضَلُّ} خبرا لمبتدأ محذوف، تقديره: هو أضل، والجملة الاسمية صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الفعلية:{وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها؛ لأنها ليست من مقولهم. تأمل، وتدبر، والله أعلى، وأعلم، وأجل، وأكرم.
{أَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43)}
الشرح: {أَرَأَيْتَ:} أخبرني. {مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ:} بأن أطاع هواه، وبنى عليه دينه، لا يسمع حجة، ولا يبصر دليلا؛ وقد طبع على قلبه. وقال القرطبي: عجّب نبيه صلى الله عليه وسلم من إصرارهم على الشرك مع إقرارهم بأنه خالقهم، ورازقهم، ثم يعمد أحدهم إلى حجر يعبده من غير حجة. قال الكلبي وغيره: كان العرب إذا هوي الرجل منهم شيئا عبده من دون الله، فإذا رأى أحسن منه؛ ترك الأول، وعبد الأحسن. انتهى. ويروى: أن أحدهم إذا كان في سفر، وأراد أن ينام، فإنه يأخذ ثلاثة أحجار، فيختار إحداهن، وينصبها إلها، ويتوسد الثانية في نومه، ويستنجي بالثالثة من غائطه وبوله.
{أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً:} حفيظا تمنعه من الشرك والمعاصي، أفتتوكل عليه وتجبره على الإسلام، وتقول له: لا بد أن تسلم شئت، أو أبيت، ولا إكراه في الدين، وهذا كقوله تعالى:
{وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ} وقوله جل شأنه: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} والخطاب كله للنبي صلى الله عليه وسلم.
هذا؛ و «الهوى» يقصر، ويمد، والمراد بالأول: الحب، والعشق، والغرام، وهو أيضا محبة الإنسان للشيء، وغلبته على قلبه، ومنه ما في الآية الكريمة، وقد نهى الله عنه بقوله:{فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى} ومدح من يخافه، ويخشاه بقوله:{وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى} أي: نهاها عن شهواتها، وما
تدعو إليه من معاصي الله تعالى، ويراد بالممدود: ما بين السماء والأرض، وقد جاء الهوى بمعنى العشق ممدودا في الشعر، ومنه قول الشاعر:[الطويل]
وهان على أسماء إن شطّت النّوى
…
نحنّ إليها والهواء يتوق
وإليك هذين البيتين فإنهما من النكت الحسان: [الكامل]
جمع الهواء مع الهوى في مهجتي
…
فتكاملت في أضلعي ناران
فقصرت بالممدود عن نيل المنى
…
ومددت بالمقصور في أكفاني
وقال أبو عبيدة: لم نجد الهوى يوضع إلا موضع الشر؛ لأنه لا يقال: فلان يهوى الخير، بل يقال: فلان يحب الخير، وجمعه: أهواء، وجمع الممدود: أهوية.
الإعراب: {أَرَأَيْتَ:} الهمزة: حرف استفهام تعجبي. (رأيت): فعل، وفاعل. {مَنِ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به أول. {اِتَّخَذَ:} ماض، وفاعله ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {مَنِ} . {إِلهَهُ:} مفعول به أول، والهاء في محل جر بالإضافة.
{هَواهُ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. هذا؛ وأجيز اعتبار:{إِلهَهُ} مفعولا ثانيا مقدما، و {هَواهُ} مفعولا أولا مؤخرا، (أنت): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {تَكُونُ:} فعل مضارع ناقص، واسمه ضمير مستتر تقديره:«أنت» . {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {وَكِيلاً:} خبر {تَكُونُ،} وجملة: {تَكُونُ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{أَفَأَنْتَ..} . إلخ في محل نصب مفعول به ثان للفعل {أَرَأَيْتَ،} والجملة الفعلية هذه مستأنفة، لا محل لها. والجملة الفعلية:{اِتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ} صلة الموصول، لا محل لها.
الشرح: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ:} المعنى: بل أتظن: أن أكثرهم يسمعون الكلام سماع قبول، أو يفهمون ما تقول لهم، فيجدي معهم الكلام، وتفيد الحجج، والبراهين، فتهتم بشأنهم، وتطمع في إيمانهم، وهو أشد مذمة مما قبله حتى حقّ بالإضراب عنه إليه، وتخصيص الأكثر؛ لأنه كان منهم من آمن، ومنهم من عقل الحق ولم يقبله استكبارا، وعنادا، أو خوفا على الرياسة، والزعامة أن تذهب منه، وهذا يشمل كل من كابر وعاند، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلى قيام الساعة.
{إِنْ هُمْ إِلاّ كَالْأَنْعامِ:} في عدم الانتفاع بقرع الآيات آذانهم، وعدم تدبرهم فيما شاهدوا من الدلائل، والمعجزات. {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً:} من الأنعام؛ لأنها تنقاد لمن يتعهدها، وتميز من يحسن إليها ممن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها، وتتجنب ما يضرها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم، ولا يفرقون بين إحسانه وإساءة الشيطان، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع، ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار؛ ولأنها إن لم تعتقد حقا، ولم تكتسب خيرا؛ لم تعتقد باطلا، ولم تكتسب شرا، بخلاف هؤلاء؛ ولأن جهالتها لا تضر بأحد، وجهالة هؤلاء تؤدي إلى تهييج الفتن، وصد الناس عن الحق؛ ولأنها غير متمكنة من طلب الكمال، فلا تقصير منها ولا ذم، وهؤلاء مقصرون مستحقون أعظم العقاب على تقصيرهم. انتهى. بيضاوي بتصرف بسيط. هذا؛ وانظر الآية رقم [179] من سورة (الأعراف).
الإعراب: {أَمْ:} حرف عطف، وهي بمعنى بل التي للإضراب كما رأيت في الشرح.
{تَحْسَبُ:} فعل مضارع، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {أَكْثَرَهُمْ:} اسم {أَنَّ،} والهاء في محل جر بالإضافة. {يَسْمَعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{أَنَّ،} وجملة:
{يَعْقِلُونَ} معطوفة عليها، فهي في محل رفع مثلها، و {أَنَّ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي الفعل {تَحْسَبُ،} والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {أَنَّ:}
حرف نفي بمعنى «ما» . {أَكْثَرَهُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {إِلاّ:} حرف حصر. {كَالْأَنْعامِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، وجملة:{هُمْ أَضَلُّ} معطوفة عليها لا محل لها مثلها. {سَبِيلاً:} تمييز.
الشرح: {أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ} أي: ألم تنظر إلى صنعه سبحانه وتعالى. {كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} أي: بسطه، فعم الأرض، وذلك من حين طلوع الفجر إلى وقت طلوع الشمس في قول الجمهور؛ لأنه ظل ممدود لا شمس معه، ولا ظلمة شديدة، وهو أطيب الأحوال؛ لأن الظلمة الشديدة تنفر الطبع، وتمنع النظر، وشعاع الشمس يسخن الجو، ويبهر البصر، ولذلك وصف به الجنة، فقال جل شأنه:{وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} . {وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً:} أي دائما ثابتا لا يزول، ولا يذهب بالشمس، قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يريد إلى يوم القيامة، وقيل: المعنى لو شاء لمنع الشمس الطلوع؛ أي: ولكنه لم يشأ ذلك. {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} أي: جعلنا الشمس بنسخها الظل عند مجيئها دالة على أن الظل شيء؛ لأن الأشياء تعرف بأضدادها، فلولا الشمس ما عرف الظل، ولولا النور ما عرفت الظلمة، والأشياء تعرف بأضدادها، والدليل هنا
فعيل بمعنى الفاعل، وقيل: بمعنى المفعول، كالقتيل، والدهين، أي دللنا الشمس على الظل حتى ذهبت به، وأزالته، ولم يؤنث (الدليل)؛ لأنه في معنى الاسم، كما يقال: الشمس برهان، والشمس حق. هذا؛ ولا تنس: أن في الآية الكريمة التفاتا من الغيبة إلى التكلم.
الإعراب: {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام تقريري. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم.
{تَرَ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم) وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف المقصورة، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {إِلى رَبِّكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب على الحال تقدم على عامله وصاحبه. {مَدَّ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{رَبِّكَ} . {الظِّلَّ:}
مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بدل اشتمال من:{رَبِّكَ،} والمعنى: ألم تر إلى ربك كيفية مد الظل. ومثل ذلك قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [259]: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها} فالجملة الفعلية: {كَيْفَ نُنْشِزُها} بدل اشتمال من العظام، وانظر الشاهد [373] من كتابنا فتح القريب المجيب، والجملة الفعلية:{أَلَمْ تَرَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{وَلَوْ:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.
{شاءَ:} فعل ماض، وفاعله يعود إلى {رَبِّكَ،} ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَجَعَلَهُ:} اللام: واقعة في جواب (لو). (جعله): فعل ماض، والهاء مفعوله الأول، والفاعل يعود إلى {رَبِّكَ}. {ساكِناً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية جواب (لو)، لا محل لها، و (لو) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، أو هو مستأنف لا محل له على الاعتبارين، وقيل: الكلام في محل نصب حال. {ثُمَّ:} حرف عطف. {جَعَلْنَا:} فعل، وفاعل. {الشَّمْسَ:} مفعول به أول. {عَلَيْهِ:} متعلقان بما بعدهما، وقيل: متعلقان بمحذوف حال، وليس بشيء. {دَلِيلاً:} مفعول به ثان، وجملة:{جَعَلْنَا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا.
تنبيه: الإعراب المتقدم إنما هو إعراب ابن هشام في مغني اللبيب وتقديره، كما في الشاهد الذي ذكرته لك في كتابنا، وبعضهم يعتبر الجملة الفعلية {كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} في محل نصب سدت مسد مفعول الفعل:(ترى) المعلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام. والله أعلم، وأجل، وأكرم.
{ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46)}
الشرح: {ثُمَّ قَبَضْناهُ} أي: أخذنا ذلك الظل الممدود. {إِلَيْنا:} إلى حيث أردنا وشئنا.
{قَبْضاً يَسِيراً} أي: سهلا غير عسير، أو قليلا قليلا، أي جزآ فجزآ بالشمس التي تأتي عليه، فالظل مكثه في هذا الجو بمقدار طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فإذا طلعت الشمس صار الظل
مقبوضا. هذا؛ وقيل: معنى {يَسِيراً} سريعا؛ قاله الضحاك. وقال قتادة: خفيا، أي إذا غابت الشمس قبض الظل قبضا خفيا، كلما قبض جزء منه جعل مكانه جزء من الظلمة، وليس يزول دفعة واحدة. هذا؛ وجاء ب:{ثُمَّ} العاطفة التي هي للتراخي في هذه الآية وسابقتها لتفاضل ما بين الأمور، فكان الثاني أعظم من الأول، والثالث أعظم من الثاني، شبه سبحانه وتعالى تباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت. هذا؛ ولا تنس: الحكمة المترتبة على مد الظل وقبضه بواسطة الشمس، أي بشروقها، وغروبها، وهي انتظام مصالح الكون، وتحصيل ما لا يحصر من منافع الخلق به. هذا؛ وفي قوله تعالى:{قَبَضْناهُ} استعارة تصريحية تبعية، استعير فيها لفظ المشبه به، وهو البعد، والتراخي للمشبه، وهو تفاضل الأمور.
الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف وتراخ. {قَبَضْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {إِلَيْنا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.
{قَبْضاً:} مفعول مطلق. {يَسِيراً:} صفة له.
الشرح: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً} أي: سترا للخلق يقوم مقام اللباس في ستر البدن. قال الطبري: وصف الليل باللباس تشبيها من حيث يستر الأشياء، ويغشاها. {وَالنَّوْمَ سُباتاً:} راحة للأبدان بالانقطاع عن الأشغال، وأصل السبات من التمدد، وقيل للنوم: سبات؛ لأنه بالتمدد يكون، وفي التمدد معنى الراحة. وقيل: السبت: القطع، فالنوم انقطاع عن الأعمال، ومنه سبت اليهود لانقطاعهم عن الأعمال فيه. {وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً} أي: ذا نشور، أي انتشار ينتشر الناس فيه للمعاش، أو هو بعث من النوم كبعث الأموات، وفيه إشارة إلى أن النوم واليقظة أنموذج للموت، والبعث يوم القيامة، ومن وصية لقمان عليه السلام لابنه: يا بني كما تنام، فتوقظ، كذلك تموت، فتنشر. هذا؛ وسبت الشيء: قطعه، وسبت الرأس: حلقه، والسبت: مصدر ويوم من أيام الأسبوع، وجمعه: أسبت، وسبوت، والسبت أيضا: النوام، والفرس، والجواد، والرجل الداهية. هذا؛ والسّبت بكسر السين: الجلد المدبوغ، قال عنترة في وصف الشجاع الذي افتخر بقتله:[الكامل]
بطل كأنّ ثيابه في سرحة
…
يحذى نعال السّبت ليس بتوءم
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: «الحمد لله الّذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النّشور» . وهذه الآية مع دلالتها على قدرة الخالق، فيها إظهار لنعمته على خلقه؛ لأن في الاحتجاب بستر الليل فوائد دينية، ودنيوية، وقد كثر هذا الامتنان من الله على خلقه مثل قوله تعالى:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ..} . إلخ الآية رقم [12]
من سورة (الإسراء)، وقوله تعالى:{وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} الآية رقم [23] من سورة (الروم).
هذا؛ والنوم قسمان: نوم العين، ونوم القلب، فنوم العين فترة طبيعية تعتري الحيوان، وتتعطل حواسه بها. وأما نوم القلب فهو تعطيل القوى المدركة. والثاني لم يقع منه صلى الله عليه وسلم؛ لأن قلبه لا ينام، كما في حديث الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «إنّ عينيّ تنامان ولا ينام قلبي» .
ورحم الله البوصيري إذ يقول: [البسيط]
لا تنكر الوحي من رؤياه إنّ له
…
قلبا إذا نامت العينان لم ينم
هذا؛ والمنام مصدر ميمي بمعنى النوم، أو هو اسم مكان بمعنى موضعه، أو اسم زمان بمعنى زمانه؛ لأن «مفعلا» يصلح لهذا كله. هذا؛ والنوم هو الموتة الصغرى، لذا أرشدنا سيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم أن نقول عند القيام من النوم:«سبحان من أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النّشور» .
الإعراب: {وَهُوَ:} الواو: حرف استئناف. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ. {جَعَلَ:}
فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الَّذِي،} وهو العائد. {لَكُمُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {لِباساً،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا.
{اللَّيْلَ:} مفعول به. {لِباساً:} مفعول به ثان، وجملة:{وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً} معطوفة على جملة الصلة، لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَهُوَ الَّذِي..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ} بمعنى: بعث، وفي آية (الأعراف) رقم [57] بالمضارع.
{الرِّياحَ:} ويقرأ: «(الريح)» بالإفراد. هذا؛ وذكر سبحانه وتعالى في الآية رقم [164] من سورة (البقرة) أن من الآيات الدالة على قدرته تصريف الرياح، وتصريفها: تقليبها شمالا، وجنوبا، وقبولا، ودبورا، وانظر الآية رقم [69] من سورة (الإسراء).
{بُشْراً:} جمع بشير، وهو بضم الباء وسكون الشين، ويقرأ بضمتين، مثل: رسل، وسبل ونحوهما. قال عيسى بن عمر: كل اسم على ثلاثة أحرف، أوله مضموم، وأوسطه ساكن، فمن العرب من يخففه، ومنهم من يثقله، وذلك مثل: عسر، ويسر، وأسد، ورحم. هذا؛ ويقرأ:
«(نشرا)» بضم النون، مع ضم الشين وسكونها، على أنه جمع: نشور بمعنى: ناشر وبمعنى:
طاهر، ويجوز أن يكون جمع: نشور بمعنى: منشور، ويقرأ:«(نشرا)» بفتح النون وسكون الشين على أنه مصدر نشر بعد الطي، والقراآت كلها سبعية، كما يقرأ:«(بشرى)» على وزن: حبلى، أي: ذات بشارة، وكما يقرأ:«(بشرا)» بفتح الباء وسكون الشين، وهو مصدر بشرته: إذا بشرته.
وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما: إن الرياح ثمان: أربع منها عذاب، وهي القاصف، والعاصف، والصرصر، والعقيم. وأربع منها رحمة، وهي: الناشرات، والمبشرات، والمرسلات، والذاريات. {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} يعني: أمام المطر الذي هو رحمته سبحانه وتعالى؛ وإنما سماه رحمة؛ لأنه سبب لحياة الأرض. هذا؛ و {بَيْنَ يَدَيْ} بمعنى: أمام، وقدام مستعمل في القرآن الكريم بكثرة، وكل ذلك من باب الاستعارة. {وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً:}
انظر الآية رقم [30] من سورة (الأنبياء). {طَهُوراً:} مطهرا، قال تعالى:{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} وهو اسم لما يتطهر به، كالوضوء والوقود بفتح الواو، لما يتوضأ به، ويوقد به، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«التّراب طهور المؤمن طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسل سبعا، إحداهنّ بالتّراب» . ووصف الماء به إشعار بالنعمة فيه، وتتميم للنعمة فيما بعده، فإن الماء الطهور أنفع وأهنأ مما خالطه ما يزيل طهوريته. هذا؛ والطهور بضم الطاء: المصدر، ولا تنس: الالتفات في الآية من الغيبة إلى جمع المتكلم.
الإعراب: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ:} هذه الجملة مثل الجملة في الآية السابقة في إعرابها.
{بُشْراً:} حال من الرياح، وقيل: مفعول مطلق، وهذا على قراءته بالنون؛ لأن أرسل وأنشر متقاربان في المعنى. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق ب {بُشْراً،} أو بمحذوف صفة له، و {بَيْنَ} مضاف، و {يَدَيْ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء لأنه مثنى لفظا، وحذفت النون للإضافة، و {يَدَيْ:} مضاف، و {رَحْمَتِهِ} مضاف إليه، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {وَأَنْزَلْنا:} الواو: حرف استئناف. (أنزلنا): فعل، وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، والالتفات يمنع العطف. {مِنَ السَّماءِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، ويجوز تعليقهما بمحذوف حال من {السَّماءِ،} كان صفة له فلمّا قدّم عليه؛ صار حالا. {السَّماءِ:} مفعول به. {طَهُوراً:} صفة له.
{لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49)}
الشرح: {لِنُحْيِيَ بِهِ:} بالمطر. {بَلْدَةً مَيْتاً} أي: بالجدب، والمحل، وعدم النبات. قال كعب: المطر روح الأرض يحييها الله به، وقال في سورة (الحج):{وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} وإنما ذكر {مَيْتاً؛} لأن البلدة في معنى البلد. قاله الزجاج، وقيل: أراد بالبلدة المكان، وقد أنثها الأعشى في قوله:[البسيط]
وبلدة مثل ظهر التّرس موحشة
…
للجنّ باللّيل في حافاتها زجل
وقال جران العود أيضا: [الرجز]
وبلدة ليس بها أنيس
…
إلاّ اليعافير، وإلاّ العيس
و (نسقيه): يقرأ بضم النون من الرباعي، وبفتح النون من الثلاثي، ومن الأول قوله تعالى:
{وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً} ومن الثاني قوله تعالى: {وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً} وانظر الآية رقم [21] من سورة (المؤمنون)، وكذلك شرح (ميت) في الآية رقم [15] منها. {أَنْعاماً:} الأنعام تطلق على المأكول من الحيوانات: البقر، والغنم، والإبل، والماعز، والمراد هنا المأكول وغيره. {وَأَناسِيَّ كَثِيراً} أي: بشرا كثيرا، واحده: إنسيّ، وهو قول الأخفش، والمبرد، وأحد قولي الفراء، وله قول آخر، وهو أن يكون واحده إنسانا، ثم تبدل من النون ياء، فتقول: أناسي، والأصل أناسين، مثل: سرحان، وسراحين، وبستان، وبساتين، فجعلوا الياء عوضا من النون، وعلى هذا يجوز سراحيّ وبساتيّ لا فرق بينهما، وقال: لا فرق بينهما. انتهى. قرطبي. وقال الجمل:
أناسين، كسرحان، وسراحين وهذا مذهب سيبويه، وهو الراجح. وجزم ابن هشام، وابن مالك بأنه جمع: إنسان لا جمع إنسي، وقد قال:{كَثِيراً} ولم يقل: كثيرين؛ لأن فعيلا قد يراد به الكثرة، وهو يطلق على المفرد والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، نحو قوله تعالى:
{وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً} قال الجمل نقلا عن شيخه: خص الأنعام بالذكر؛ لأنها ذخيرتنا، ومدار معاش أكثر المدر، ولذلك قدم سقيها على سقيهم، كما قدم عليها إحياء الأرض، فإنها سبب لحياتها وتعيشها، فقدم ما هو سبب حياتهم، ومعاشهم. انتهى.
الإعراب: {لِنُحْيِيَ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره:«نحن» ، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل (أنزلنا) في الآية السابقة. {بِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {بَلْدَةً:} مفعول به. {مَيْتاً:} صفة: {بَلْدَةً} . {وَنُسْقِيَهُ:} فعل مضارع معطوف على الفعل قبله منصوب مثله، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره:«نحن» ، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به أول. {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من: {أَنْعاماً،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، على القاعدة
…
إلخ، {خَلَقْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: من الذي خلقناه.
{أَنْعاماً:} مفعول به ثان للفعل (نسقي). (أناسي): معطوف على {أَنْعاماً} منصوب مثله، وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة، إن كان جمع: إنسي، والياء نيابة عن الفتحة إن كان جمع إنسان؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وأصله أناسين، وتكون النون قد قلبت ياء، وأدغمت الياء في الياء. {كَثِيراً:} صفة أناسي على الوجهين المعتبرين فيه.
{وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النّاسِ إِلاّ كُفُوراً (50)}
الشرح: {وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ} أي: صرفنا المطر بين الناس، مرة ببلدة، ومرة ببلدة أخرى في البلدان المختلفة، والأوقات المتغايرة، والصفات المتفاوتة، من وابل، وطل، وغيرهما، وعن
ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: ما عام بأمطر من عام، ولكن الله يصرفه في الأرض، وقرأ هذه الآية. وهذا كما روي مرفوعا:«ما من ساعة من ليل، ولا نهار؛ إلا والسماء تمطر فيها يصرفه الله حيث يشاء» . وروي عن ابن مسعود يرفعه قال: «ليس من سنة بأمطر من سنة أخرى، ولكن الله عز وجل قسم هذه الأرزاق، فجعلها في هذه السماء الدنيا، في هذا القطر ينزل منه كل سنة بكيل معلوم، ووزن معلوم، وإذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم، وإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك المطر إلى الفيافي والبحار» .
وقال القرطبي: الضمير المنصوب يعود إلى القرآن، وقد جرى ذكره في الآية رقم [1]، وفي الآية رقم [29]، وفي الآية رقم [30] وهي على التوالي {تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ}. {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي}. {اِتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} فيكون كما في الآية رقم [41] من سورة (الإسراء) ولم يوافق القرطبي عليه أحد من المفسرين. {لِيَذَّكَّرُوا:} ليتعظوا، ويعتبروا، وقرئ الفعل بالتخفيف هنا، وفي سورة (الإسراء) فيكون بمعنى الذكر.
{فَأَبى أَكْثَرُ النّاسِ إِلاّ كُفُوراً} أي: جحودا لنعم الله تعالى، وقلة الاكتراث لها، أو جحودها بأن يقولوا: مطرنا بنوء كذا، ومن لا يرى الأمطار إلا بالأنواء كافر، بخلاف من يرى أنها من خلق الله، والأنواء وسائط، وأمارات يجعله جل ذكره وتعالى شأنه، فعن زيد بن خالد الجهني-رضي الله عنه: أنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في إثر ماء من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال:«هل تدرون ماذا قال ربكم؟» . قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: يقول: «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأمّا من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي، وكافر بالكواكب، وأمّا من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب» . متفق عليه. انتهى. خازن.
الإعراب: {وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ:} انظر الآية رقم [35] ففيها الكفاية. {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {لِيَذَّكَّرُوا:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ..} . إلخ جواب القسم المقدر لا محل لها، والقسم، وجوابه كلام مستأنف لا محل له.
{فَأَبى:} الفاء: حرف عطف. (أبى): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر.
{أَكْثَرُ:} فاعله، و {أَكْثَرُ} مضاف، و {النّاسِ} مضاف إليه. {إِلاّ:} حرف حصر.
{كُفُوراً:} مفعول به، وقيل: مفعول مطلق، ولا وجه له البتة، وجملة:{فَأَبى..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
الشرح: {وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً} أي: رسولا ينذرهم، كما قسمنا المطر بين الناس، ولكننا لم نفعل، بل جعلناك نذيرا لجميع البشر لترتفع درجتك، ويزداد فضلك وقدرك، وفضلناك على سائر الرسل، وهذا معنى قوله تعالى:{وَما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} {وَما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ} .
{فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ:} فيما يريدونك عليه، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يطيع الكافرين، وإنما أراد سبحانه وتعالى بهذا تهييجه، وتهييج أصحابه، وتحريكهم. {وَجاهِدْهُمْ بِهِ} أي: بالقرآن، أي جادلهم به، وقرعهم بالعجز عن معارضته. {جِهاداً كَبِيراً:} جامعا لكل أنواع المجاهدة.
والمراد: أن الكفار يجدّون، ويجتهدون في معارضتك، ومحاربتك، وتوهين أمرك، وصد الناس عنك، فقابلهم بما تقدر عليه من جدك واجتهادك، وعضك على نواجذك بما تغلبهم به، وترد كيدهم في نحورهم، وإن مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيف، ومنه قوله تعالى:{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ..} . إلخ.
الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.
{شِئْنا:} فعل، وفاعل، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَبَعَثْنا:} اللام: واقعة في جواب (لو). (بعثنا): فعل، وفاعل. {فِي كُلِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان ب {نَذِيراً} بعدهما. و {كُلِّ} مضاف، و {قَرْيَةٍ} مضاف إليه. {نَذِيراً:} مفعول به، وجملة:{لَبَعَثْنا..} . إلخ جواب (لو)، لا محل لها، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {فَلا:} الفاء: حرف عطف على رأي من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا وواقعا؛ فلا
…
إلخ. (لا):
ناهية جازمة. {تُطِعِ:} فعل مضارع مجزوم ب (لا)، والفاعل مستتر فيه وجوبا، تقديره:«أنت» {الْكافِرِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{فَلا تُطِعِ..} . إلخ لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء. {وَجاهِدْهُمْ:} فعل أمر، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.
{جِهاداً:} مفعول مطلق. {كَبِيراً:} صفة له.
الشرح: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي: الله الذي
…
إلخ، فكنى جلّت قدرته عن نفسه بضمير الغيبة. و {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ:} أرسلهما، وخلاهما متجاورين متلاصقين بحيث لا يختلطان، ولا يتمازجان من: مرج دابته: إذا خلاها وأرسلها في المرعى، ومرج الدين والأمر: اختلط واضطرب؛ ومنه قوله تعالى: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ،} وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: «إذا رأيت النّاس مرجت عهودهم، وخفّت أماناتهم، وكانوا هكذا، وهكذا، -وشبّك بين أصابعه-» فقال: كيف أصنع عند ذلك، جعلني الله فداك؟! قال:«الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بخاصّة أمر نفسك، ودع عنك أمر العامّة» .
خرجه النسائي، وأبو داود، وغيرهما. هذا؛ ومصدر «مرج» المرج، وهو أيضا أرض ذات نبات، ومرعى، والجمع: مروج مثل: فلس، وفلوس. وانظر ما ذكرته في سورة (المائدة) رقم [105].
{هذا عَذْبٌ فُراتٌ} أي: أحدهما حلو شديد العذوبة قاطع للعطش لشدة عذوبته. {وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ} أي: شديد الملوحة، ولشدة ملوحته فيه مرارة. وفي القاموس: فرت الماء ككرم فروتة:
عذب، وفيه أيضا أجّ الماء أجوجا بالضم يأجج، كيسمع، ويضرب، وينصر، أي: فيأتي فعله من ثلاثة أبواب: إذا اشتدت ملوحته. هذا؛ وفي قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} استعارة تصريحية حيث شبههما جلت قدرته، وتعالت حكمته بطائفتين معاديتين، تريد كل منهما الإيقاع بالأخرى، وتتربص بها الدوائر، ولكنها عند ما تحصل على ما تريد تمتنع من البغي، فجعل المعنى المستعار كاللفظ المقول. {وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً} أي: حاجزا من قدرته؛ فلا يختلط أحدهما بالآخر فلا يرى، ولا يشاهد، كما قال جل شأنه في سورة (الرحمن):{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ} . {وَحِجْراً مَحْجُوراً} أي: سترا مستورا يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر، فالبرزخ الحاجز، والحجر المانع، وقيل: حراما محرما أن يعذب هذا الملح بالعذب، أو يملح هذا العذب بالملح، وانظر الآية رقم [22].
الإعراب: {وَهُوَ:} الواو: حرف استئناف، أو حرف عطف. (هو): ضمير رفع منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ. {مَرَجَ:} فعل ماض، وفاعله يعود إلى {الَّذِي،} وهو العائد، والجملة صلة الموصول لا محل لها. {الْبَحْرَيْنِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {هذا:} الهاء: حرف تنبيه لا محل له.
(ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {عَذْبٌ:} خبر المبتدأ. {فُراتٌ:}
صفة: {عَذْبٌ،} صفة كاشفة على حد: أحمر قان، وأبيض ناصع، ونحو ذلك، والجملة الاسمية في محل نصب حال من {الْبَحْرَيْنِ}. والرابط: اسم الإشارة، واعتبرها السمين مستأنفة، وجوز الحالية، وأعتمد الحالية، أو هي مقولة لحال محذوفة، أي مقولا فيهما: هذا عذب
…
إلخ، وهو أظهر. وجملة:{وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ} معطوفة عليها، وإعرابها مثلها، بلا فارق.
(جعل): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الَّذِي}. {بَيْنَهُما:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية وهو في موضع المفعول الثاني. هذا؛ ويجوز اعتبار الظرف متعلقا بمحذوف حال من {بَرْزَخاً،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . {بَرْزَخاً:} مفعول به.
{وَحِجْراً:} معطوف عليه. {مَحْجُوراً:} تأكيد لما قبله، أي: فهو صفة مؤكدة، وجملة:
{وَجَعَلَ..} . إلخ معطوفة على جملة الصلة، لا محل لها مثلها، وهذا ممّا يؤكد الحالية في الجملة الاسمية:{هذا عَذْبٌ..} . إلخ، وإذا لم نعتبرها حالا فهي معترضة بين المتعاطفين.
الشرح: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً:} يحتمل الماء أمرين: أحدهما: المراد به الماء الذي خمر به طينة آدم، عليه الصلاة والسلام. والثاني: المراد به النطفة. وعلى الاحتمالين فقد جعل الله الماء جزآ من مادة البشر لتجتمع وتسلس، وتقبل الأشكال والهيئات بسهولة. {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} أي: خلق الله من الماء المذكور بشرا وقسمه قسمين: ذوي نسب، أي: ذكور ينسب إليهم، وذوات صهر، أي: إناثا يصهر بهن، وهو كقوله تعالى:{فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى} .
{وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً:} حيث خلق مادة واحدة بشرا، ذا أعضاء مختلفة، وطباع متباعدة، وجعله قسمين متقابلين، لا يمكن التعايش إلا باجتماعهما، ولا يعمر الكون إلا بتمازجهما واختلاطهما. هذا؛ واشتقاق الصهر من صهرت الشيء: إذا خلطته، فكل واحد من الصهرين قد خالط صاحبه، فسميت المناكح صهرا لاختلاط الناس بها، وتقاربهم بسببها، وانظر شرح كان في الآية رقم [6]. قال ابن سيرين-رحمه الله تعالى-: نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه؛ لأنه جمعه معه نسب، وصهر. هذا؛ وجمع الصهر: أصهار.
تنبيه: قال الخليل: الصهر: أهل بيت المرأة، وقال: ومن العرب من يجعل الأحماء، والأختان جميعا أصهارا. وقال الأزهري: الصهر يشتمل على قرابات النساء ذوي المحارم، وذوات المحارم، كالأبوين، والإخوة، وأولادهم، والأعمام، والأخوال، والخالات، فهؤلاء أصهار زوج المرأة، ومن كان من قبل الزوج من ذوي قرابته المحارم، فهم أصهار المرأة أيضا، وقال ابن السكيت: كل من كان من قبل الزوج من أبيه، أو أخيه، أو عمه، فهم الأحماء، ومن كان من قبل
المرأة؛ فهم الأختان، ويجمع الصنفين: الأصهار، وصاهرت إليهم، ولهم، وفيهم: إذا تزوجت فيهم. هذا؛ ولا تنس: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً:} انظر الآية السابقة ففيها الكفاية. (جعله): فعل ماض، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به أول، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {الَّذِي} . {نَسَباً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية:{فَجَعَلَهُ..} . إلخ معطوفة على جملة: {خَلَقَ..} . إلخ لا محل لها مثلها. (صهرا): معطوف على ما قبله. {وَكانَ:} الواو:
حرف استئناف. (كان): فعل ماض ناقص. {رَبُّكَ:} اسم (كان)، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {قَدِيراً:} خبر (كان)، وجملة:{وَكانَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ..} . إلخ: لما عدد الله النعم وبيّن كمال قدرته؛ عجب من المشركين في إشراكهم به من لا يقدر على نفع، ولا ضر؛ أي: إن الله هو الذي خلق ما ذكره، ثم إن هؤلاء لجهلهم يعبدون من دونه أمواتا جمادات، لا تنفع، ولا تضر.
{وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً:} روي عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنه قال: الكافر هو إبليس ظهر على عداوة ربه. والمعنى: معينا للشيطان على المعاصي. وقيل: المعنى: وكان الكافر على ربه هينا ذليلا، لا قدر له، ولا وزن عنده، من قول العرب: ظهرت به، أي: جعلته خلف ظهرك، ولم تلتفت إليه، ومنه قوله تعالى:{وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا} وهو نحو قوله تعالى: {أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} فيكون المعنى: كفر الكافرين هين على الله تعالى، والله مستهين به؛ لأن كفر الكافر لا يضره.
وقيل: المعنى: وكان الكافر على ربه الذي يعبده، وهو الصنم قويا غالبا يعمل به ما يشاء؛ لأن الجماد لا قدرة له على دفع ضر، وجلب نفع، وانظر الآية رقم [3] وشرحها. هذا؛ والظهير: المعين، والمعاون، والمساعد، فهو فعيل بمعنى مفاعل، يطلق على المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، قال تعالى في سورة (التحريم):{وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ} ومثله: الخليط والصديق، قال الشاعر في وصف النساء:[الرجز]
هنّ صديق للّذي لم يشب
الإعراب: {وَيَعْبُدُونَ:} الواو: حرف استئناف. (يعبدون): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو فاعله. {مِنْ دُونِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما،
و {يَعْبُدُونَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، وجملة:{لا يَنْفَعُهُمْ} صلة {ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط، رجوع الفاعل إليها، وجملة:{وَلا يَضُرُّهُمْ} معطوفة عليها، وجملة:{وَكانَ الْكافِرُ..} .
إلخ معطوفة على ما قبلها، أو مستأنفة، لا محل لها، والجار والمجرور:{عَلى رَبِّهِ} متعلقان ب {ظَهِيراً} بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. هذا؛ وأجيز اعتبار الجار والمجرور متعلقين بمحذوف خبر (كان)، و {ظَهِيراً} حالا، أو خبرا ثانيا ل (كان)، والأول أقوى.
{وَما أَرْسَلْناكَ إِلاّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56)}
الشرح: الخطاب في هذه الآية للرسول صلى الله عليه وسلم، يقول الله له: إنما أنت مبشر للمؤمنين الطائعين بالجنة ونعيمها الدائم، ومنذر للكافرين، والفاسدين المفسدين بنار السموم وعذاب الجحيم. هذا؛ وفي قوله تعالى:{إِلاّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} قصر إضافي، وهو هنا قصر موصوف على صفة، وهو كثير في كتاب الله تعالى. ولا تنس: المطابقة بين {مُبَشِّراً} و (نذيرا).
الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {أَرْسَلْناكَ:} فعل، وفاعل، ومفعول به أول. {إِلاّ:} حرف حصر. {مُبَشِّراً:} مفعول به ثان، أو هو حال مستثنى من عموم الأحوال. (نذيرا): معطوف على ما قبله بالواو العاطفة. هذا؛ وعبارة الشهاب: أي ما أرسلناك في حال من الأحوال إلا حال كونك مبشرا ونذيرا فلا تحزن على عدم إيمانهم. انتهى. جمل، وهو يفيد الحالية. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {قُلْ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي: على تبليغ الرسالة الذي يدل عليه قوله تعالى: {إِلاّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً،} أو على ما جئتكم به من الوحي، والقرآن. {مِنْ أَجْرٍ:} فتقولوا حينئذ: إنما يطلب محمد أموالنا بما يدعوننا إليه فلا نتبعه. {إِلاّ مَنْ شاءَ:}
والمراد إلا فعل من شاء. {أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً:} أن يتقرب إليه، ويطلب الزلفى عنده بالإيمان والطاعة، فصور سبحانه ذلك بصورة الأجر من حيث إنه مقصود فعله، أو المعنى: لكن من شاء أن يتخذ بإنفاق ماله سبيلا إلى ربه، وعليه فالمعنى: لا أسألكم لنفسي أجرا، ولكن أمنع من إنفاق المال إلا في طلب مرضاة الله، واتخاذ السبيل إلى جنته.
هذا؛ والسبيل: الطريق، يذكر، ويؤنث بلفظ واحد، فمن التذكير قوله تعالى:{وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} ومن التأنيث قوله تعالى: {قُلْ هذِهِ سَبِيلِي}
أَدْعُوا إِلَى اللهِ والجمع على التأنيث: سبول، وعلى التذكير: سبل بضمتين، وقد تسكن الباء، كما في: رسل، وعسر، ويسر. قال عيسى بن عمر: كل اسم على ثلاثة أحرف، أوله مضموم وأوسطه ساكن، فمن العرب من يخففه، ومنهم من يثقله، وذلك مثل: حلم، ورحم، وعسر
…
إلخ.
الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {ما:} نافية.
{أَسْئَلُكُمْ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنا» ، والكاف مفعول به أول.
{عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وأجيز تعليقهما بمحذوف حال من {أَجْرٍ،} كان صفة له
…
إلخ. {مِنْ:} حرف جر صلة. {أَجْرٍ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {إِلاّ:} أداة استثناء منقطع بمعنى: لكن. {مِنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب على الاستثناء المنقطع. {شاءَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {مِنْ،} والمصدر المؤول من: {أَنْ يَتَّخِذَ} في محل نصب مفعول به. {إِلى رَبِّهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{سَبِيلاً} كان صفة له، فلما قدم عليه؛ صار حالا. وقيل: في محل نصب مفعول ثان ل {يَتَّخِذَ،} وليس بشيء، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {سَبِيلاً:} مفعول به، وجملة:{شاءَ أَنْ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها، وجملة:
{ما أَسْئَلُكُمْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} أي: في استكفاء شرور الكافرين المجرمين، والاستغناء عن أجورهم، فإن الله هو الحقيق بأن يتوكل عليه دون الأحياء الذين يموتون، فإنهم إذا ماتوا ضاع من توكل عليهم، وأما الله تعالى فإنه حي لا يموت، فلا ينقطع توكل من توكل عليه، ولا يضيع البتة. {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ:} نزهه سبحانه عن صفات النقصان، مثنيا عليه بأوصاف الكمال، طالبا لمزيد الإنعام بالشكر على فضله، وكرمه، وجوده.
{وَكَفى بِهِ:} فهو هنا بمعنى: اكتف، فالباء زائد عند الجمهور في الفاعل، وهو لازم لا ينصب المفعول به، ومثله مضارعه، كما في قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ،} وأما إذا كان بمعنى: جزى، وأغنى؛ فيكون متعديا لمفعول واحد، وإذا كان بمعنى: وقى؛ فإنه يكون متعديا لمفعولين، كما في قوله تعالى:{وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ} .
(ذنوب): جمع ذنب، وهو يطلق على مخالفة الله فيما أمر، أو فيما نهى عنه، وهو على درجات، منها الصغائر، ومنها الكبائر، وتفصيلها معروف في محالها. هذا؛ وذنوب بالمعنى
المتقدم بضم الذال، وهو بفتحها بمعنى النصيب، قال تعالى في سورة (الذاريات) رقم [59]:
{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} وذنوب بفتحها: الدلو العظيمة في الأصل، قال الراجز:[الرجز]
إنّا إذا شاربنا شريب
…
له ذنوب، ولنا ذنوب
فإن أبى كان له القليب
الإعراب: {وَتَوَكَّلْ:} الواو: حرف استئناف. وقيل: عاطفة. (توكل): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {عَلَى الْحَيِّ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة {الْحَيِّ،} وجملة: {لا يَمُوتُ} صلة الموصول، لا محل لها من الإعراب. (سبح): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {بِحَمْدِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، التقدير: سبح ملتبسا بحمده تعالى. وهو أولى، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَسَبِّحْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {وَكَفى:} الواو: حرف استئناف. (كفى): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {بِهِ:} الباء: حرف جر زائد، والضمير فاعل (كفى)، فهو مجرور لفظا مرفوع محلا.
{بِذُنُوبِ:} متعلقان ب: {خَبِيراً} بعدهما، و (ذنوب) مضاف، و {عِبادِهِ} مضاف إليه، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، {خَبِيراً:} تمييز لجملة (كفى به)، وقيل: حال، والأول أعرف في مثل ذلك، وجملة:{وَكَفى..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيّامٍ:} من أيام الدنيا، أي في قدرها؛ لأنه لم يكن ثمة شمس، ولو شاء لخلقهن في لمحة البصر، والعدول عنه لتعليم خلقه التثبت، والتأني في الأمور. هذا؛ وما ذكر من أن الله ابتدأ الخلق يوم الأحد، وفرغ منه يوم الجمعة عصرا، فخلق الأرض في يومين: الأحد، والاثنين، وما بينهما في يومين: الثلاثاء، والأربعاء، والسموات في يومين: الخميس، والجمعة، كل ذلك لم يثبت، قاتل الله اليهود، فإنهم يقولون: استراح ربنا يوم السبت؛ فلذا اختاروه للراحة والعبادة، وقال {بَيْنَهُما،} ولم يقل: بينهن؛ لأنه أراد الصنفين، أو النوعين، أو الشيئين، كقول القطامي:[الوافر]
ألم يحزنك أنّ حبال قيس
…
وتغلب قد تباينت انقطاعا
أراد: وحبال تغلب، فثنى، والحبال: جمع؛ لأنه أراد الشيئين، والنوعين. وانظر الآية رقم [24] من سورة (الشعراء) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. وعن سعيد بن جبير-رضي الله عنهما-قال: إنما خلقهما في ستة أيام، وهو يقدر على أن يخلقهما في لحظة تعليما لخلقه الرفق، والتثبت.
{ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} أي: استولى، ولا يجوز تفسيره باستقر، وثبت، فيكون صفة لله من صفات الحوادث، وهناك من يقول: استوى استواء يليق به، وهو مذهب السلف، والأول مذهب الخلف، وهذا التأويل ينبغي أن يقال في كل ما يوهم وصفا، لا يليق به تعالى، وانظر الآية رقم [22] من سورة (الأنبياء) لشرح العرش؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. {الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ:} اسأل عنه {خَبِيراً} قاله الزجاج، وقد حكى هذا جماعة من أهل اللغة: أن الباء تكون بمعنى عن، كما قال تعالى:{سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ} وقال علقمة بن عبدة: [الطويل]
فإن تسألوني بالنّساء فإنّني
…
خبير بأدواء النّساء طبيب
أي: عن النساء. ورده، وأنكره جماعة. وقال البيضاوي: فاسأل عما ذكر من الخلق والاستواء عالما يخبرك بحقيقته، وهو الله تعالى، أو جبرائيل، أو من وجده في الكتب المتقدمة ليصدقوك فيه.
وقيل: الضمير ل: {الرَّحْمنُ} والمعنى: إن أنكروا إطلاقه على الله تعالى؛ فاسأل عنه من يخبرك من أهل الكتاب ليعرفوا مجيء ما يرادفه في كتبهم انتهى، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة ثانية ل {الْحَيِّ،} أو هو بدل من: {الَّذِي لا يَمُوتُ،} أو في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو الذي، أو في محل رفع مبتدأ، خبره {الرَّحْمنُ،} أو في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، تقديره:
أعني الذي. {خَلَقَ:} فعل ماض، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {الَّذِي،} وهو العائد. {السَّماواتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم. {وَالْأَرْضَ:} معطوف على ما قبله. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب معطوف على السموات. {بَيْنَهُما:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم، والألف حرفان دالان على التثنية. {فِي سِتَّةِ:} متعلقان بالفعل {خَلَقَ،} و {سِتَّةِ} مضاف، و {أَيّامٍ} مضاف إليه، وجملة:{خَلَقَ..} .
إلخ صلة الموصول لا محل لها. {ثُمَّ:} حرف عطف. {اِسْتَوى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {الَّذِي،} والجملة الفعلية معطوفة على جملة: {خَلَقَ..} . إلخ لا محل لها. {عَلَى الْعَرْشِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الرَّحْمنُ:} بالرفع يجوز فيه ثلاثة أوجه: أن يكون بدلا من فاعل: {اِسْتَوى} المستتر، وأن يكون خبرا ل:{الَّذِي} على وجه فيه، أو خبرا لمبتدأ محذوف، تقديره: هو الرحمن، وأن يكون مبتدأ خبره جملة:
{فَسْئَلْ} والفاء زائدة على رأي الأخفش، وهو أحد وجهين في الآية رقم [2] من سورة (النور).
هذا؛ وقرئ بالجر على أنه بدل من: {الْحَيِّ} . ويجوز فيه النصب على تقدير: أعني الرحمن، ولم يقرأ به أحد. {فَسْئَلْ:} الفاء: زائدة على وجه رأيته، وهي حرف استئناف على غيره، ويكون الوقف على {الرَّحْمنُ}. (اسأل): فعل أمر، وفاعله مستتر وجوبا تقديره:«أنت» .
{بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما على اعتبار الباء بمعنى «عن» ، ومتعلقان بما بعدهما على إبقائها على ظاهرها. {خَبِيراً:} مفعول به، وقيل: حال، ولا وجه له، وجملة:
{فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} مستأنفة، لا محل لها، أو هي خبر المبتدأ على وجه مر ذكره في الرحمن.
الشرح: {وَإِذا قِيلَ لَهُمُ} أي: لمشركي قريش. {اُسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ} أي: لله تعالى، ومن أسمائه: الرحمن. {قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ:} على جهة الإنكار، والتعجب، أي: ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة. يعنون: مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنهم فهموا:
أن تعدد الأسماء يدل على تعدد المسمى، وقد رد الله عليهم بقوله:{قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى} الآية رقم [110] من سورة (الإسراء).
{أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا} أي: تأمرنا أنت يا محمد، وقرئ بالياء، يعنون الرحمن، أو الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكون من قول بعضهم لبعض، وعلى القراءتين فالاستفهام تعجبي إنكاري. {وَزادَهُمْ نُفُوراً} أي:
زادهم قول القائل لهم: {اُسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ} نفورا عن الدين، وكان سفيان الثوري رحمه الله تعالى يقول في هذه الآية: إلهي زادني لك خضوعا ما زاد عداك نفورا؟. انتهى. وأنا أقول: اللهم زدني لك خضوعا ما زاد الفاسدين المفسدين نفورا عن الحق والدين. هذا؛ وفي هذه الآية سجدة، فيسن للقارئ، والسامع، والمستمع السجود عند تلاوتها. وانظر ما ذكرته في الآية الأخيرة من سورة (الأعراف)، والآية رقم [50] من سورة (النحل) أيضا.
الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف، (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {قِيلَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره:«هو» ، يعود إلى المصدر المفهوم من الفعل، أو هو محذوف يدل عليه المقام، التقدير: وإذا قيل قول، وقيل: الجار، والمجرور {لَهُمُ} متعلقان بمحذوف في محل رفع نائب فاعل. وقيل: جملة: {اُسْجُدُوا..} . إلخ في محل رفع نائب فاعل، وهذا على قول من يجيز وقوع الجملة فاعلا، ويكون جاريا على القاعدة في بناء الفعل للمجهول:«يحذف الفاعل، ويقام المفعول به مقامه» . وهذا كلام لا غبار عليه، انظر الشاهد رقم [793] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» والكلام عليه. {لَهُمُ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما في محل نائب فاعل.
{اُسْجُدُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون؛ لأن مضارعه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لِلرَّحْمنِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، أو هي في محل رفع نائب فاعل على نحو ما رأيت، وجملة:
{قِيلَ..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذا) إليها. {قالُوا:} ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {وَمَا:} الواو: زائدة مقوية للكلام. (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، أو في محل رفع خبر مقدم. {الرَّحْمنُ:} خبر، أو مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {أَنَسْجُدُ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري تعجبي. (نسجد): فعل مضارع، والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره:«نحن» . {لِما:} اللام: حرف جر. (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {تَأْمُرُنا:} فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره:
«أنت» ، أو هو على حسب قراءته، بالتاء، أو بالياء، و (نا): ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: تأمرناه، أو تأمرنا به، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر باللام، التقدير:
أنسجد من أجل أمرك، والجملة الفعلية:{أَنَسْجُدُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قالُوا..} . إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.
{وَزادَهُمْ:} الواو: حرف عطف. (زادهم): فعل ماض، والهاء مفعوله الأول. {نُفُوراً:} مفعوله الثاني، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى المفهوم من الكلام السابق، أي: زادهم قول القائل، والجملة الفعلية معطوفة على جواب (إذا)، لا محل لها مثله.
{تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61)}
الشرح: {تَبارَكَ الَّذِي:} انظر الآية رقم [1]. {جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً} أي: منازل للكواكب السبعة السيارة. وأصل البروج: القصور العالية، قال تعالى:{أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} سميت هذه المنازل بروجا؛ لأنها للكواكب السيارة كالمنازل الرفيعة التي هي القصور لسكانها، وهي اثنا عشر: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. والكواكب السيارة هي المريخ، وله: الحمل، والعقرب. والزهرة، ولها: الثور، والميزان. وعطارد-ويمنع من الصرف لصيغة منتهى الجمع- وله: الجوزاء، والسنبلة. والقمر، وله السرطان. والشمس، ولها: الأسد. والمشتري، وله:
القوس، والحوت. وزحل-ويمنع من الصرف للعلمية والعدل-وله: الجدي، والدلو، وانظر
الآية رقم [16] من سورة (الحجر)، وسورة يس [39] لمعرفة منازل القمر. {وَجَعَلَ فِيها سِراجاً:}
يعني: الشمس؛ لقوله تعالى: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً} . {وَقَمَراً مُنِيراً:} مضيئا بالليل.
تنبيه: البروج الاثنا عشر مقسمة على فصول السنة كما يلي: فللربيع: الحمل، والثور، والجوزاء، وللصيف: السرطان، والأسد، والسنبلة. وللخريف: الميزان، والعقرب، والقوس.
وللشتاء: الجدي، والدلو، والحوت.
الإعراب: {تَبارَكَ:} فعل ماض. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل. {جَعَلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الَّذِي}. {فِي السَّماءِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{بُرُوجاً،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا. {بُرُوجاً:} مفعول به، وجملة:{جَعَلَ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها، وجملة:
{تَبارَكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وجملة:{وَجَعَلَ فِيها سِراجاً} معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها، وإعرابها واضح. (قمرا): معطوف على: {سِراجاً} . {مُنِيراً:} صفة له.
تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: معناه:
خلفا وعوضا، يقوم أحدهما مقام صاحبه، فمن فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر. قال شقيق-رحمه الله تعالى-: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-فقال: فاتتني الصلاة الليلة، قال: فأدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك، فإن الله تعالى جعل الليل، والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر، وروى مسلم عن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من نام عن حزبه، أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر، وصلاة الظّهر، كتب له كأنّما قرأه من اللّيل» . فيكون معنى {خِلْفَةً} يخلف أحدها الآخر، ومن هذا المعنى قول زهير بن أبي سلمى المزني في معلقته:[الطويل]
بها العين والأرآم يمشين خلفة
…
وأطلاؤها ينهضن من كلّ مجثم
وقيل: جعل كل واحد منهما مخالفا لصاحبه، فجعل هذا أسود، وهذا أبيض، وقيل:
يخلف أحدهما صاحبه: إذا ذهب هذا جاء هذا، فهما يتعاقبان في الضياء، والظلمة، والزيادة، والنقصان. انتهى. خازن.
{لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} أي: يتذكر، فيعلم: أن الله لم يجعله كذلك عبثا، فيعتبر في مصنوعات الله، ويشكر الله تعالى على نعمه عليه في العقل، والفكر، والفهم. {أَوْ أَرادَ}
شُكُوراً: أن يشكر الله على ما أولاه من النعم، أو ليكون الليل والنهار وقتين للذاكرين، والشاكرين. هذا؛ و {يَذَّكَّرَ} أصله: يتذكر، فقلبت التاء ذالا، وأدغمت الذال في الذال، ومثله كثير في القرآن الكريم، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [53] إفرادا، وجملا.
{وَالنَّهارَ:} معطوف على ما قبله. {خِلْفَةً:} مفعول به ثان، وقيل: هو على حذف مضاف، التقدير: ذوي خلفة. وقيل: هو حال. {لِمَنْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل {جَعَلَ،} أو هما متعلقان بمحذوف صفة {خِلْفَةً} . {أَرادَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (من) وهو العائد، والمصدر المؤول من:{أَنْ يَذَّكَّرَ} في محل نصب مفعول به، ومفعول يذكر محذوف، التقدير:
أن يذكر ما فاته ونحو ذلك، وجملة:{أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ..} . إلخ: صلة الموصول لا محل لها.
{أَوْ:} حرف عطف، وجملة:{أَرادَ شُكُوراً} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
الشرح: قال القرطبي رحمه الله تعالى: لما ذكر جهالات المشركين، وطعنهم في القرآن، والنبوة؛ ذكر عباده المؤمنين أيضا، وذكر صفاتهم، وأضافهم إلى عبوديته تشريفا لهم، كما قال في أول سورة (الإسراء):{سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ..} . إلخ فمن أطاع الله، وعبده، وشغل سمعه، وبصره، ولسانه، وقلبه بما أمره به؛ فهو الذي يستحق اسم العبودية، ومن كان بعكس هذا؛ شمله قوله تعالى:{أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ} الآية رقم [179] من سورة (الأعراف)، وأيضا الآية رقم [44] من هذه السورة.
{الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ:} عبارة عن عيشهم، ومدة حياتهم، وتصرفاتهم، فذكر من ذلك المهم، وهو المشي. {هَوْناً} أي: بالسكينة، والوقار، متواضعين، غير أشرين، ولا مرحين، ولا متكبرين، بل علماء حكماء، أصحاب وقار وعفة، ولذا كره الإسراع في المشي، قال الزهري: سرعة المشي تذهب بهاء الوجه. قال ابن عطية: يريد الإسراع الحثيث؛ لأنه يخل بالوقار؛ والخير في التوسط.
{وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ} أي: السفهاء بما يكرهونه. {قالُوا سَلاماً:} تسلّما منكم، ومتاركة لكم، فأقيم السّلام مقام التسلم، أي: وإن سفه عليهم جاهل؛ حلموا، ولم يجهلوا، وليس المراد السّلام المعروف، فالإغضاء عن السفهاء مستحسن شرعا ومروءة، قال القرطبي: هذه الآية كانت قبل آية السيف، نسخ منها ما يخص الكفرة، وبقي أدبها في المسلمين إلى يوم القيامة، فالإعراض عن الجاهلين في كل وقت، وحين هو المطلوب من المسلم؛ ليسلم له
شرفه، وتبقى له كرامته، ويسلم له عرضه، وورعه، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم المرغبة في الحلم، والإعراض عن الجاهلين كثيرة، والشعر العربي طافح بذلك، أذكر من ذلك قول رجل من بني سلول:[الكامل]
ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني
…
فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني
غضبان ممتلئا عليّ إهابه
…
إنّي وربّك سخطه يرضيني
وروى الأصمعي بيتين في هذا المعنى، وهما:[السريع]
لا يغضب الحرّ على سفلة
…
والحرّ لا يغضبه النّذل
إذا لئيم سبّني جهده
…
أقول زدني فلي الفضل
وما أحسن قول الآخر: [الوافر]
يشافهني السّفيه بكلّ عيب
…
فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة فأزيد حلما
…
كعود زاده الإحراق طيبا
وأخيرا؛ فالجاهل من يجهل ما يتعلق به من المكروه والمضرة، ومن حق الحكيم أن لا يقدم على شيء حتى يعلم كيفيته، وحاله، ولا يشتري الحلم بالجهل، ولا الأناة بالطيش، ولا الرفق بالخرق، كما قال أبو ذؤيب الهذلي:[الطويل]
فإن تزعميني كنت أجهل فيكم
…
فإنّي شريت الحلم بعدك بالجهل
وإن لم يكن كذلك يصدق عليه: أنه من أكبر الجهال، والحمار أفضل منه، كما قال الشاعر الحكيم:[الكامل]
فضل الحمار على الجهول بخلّة
…
معروفة عند الّذي يدريها
إنّ الحمار إذا توهّم لم يسر
…
وتعاود الجهال ما يؤذيها
الإعراب: {وَعِبادُ:} الواو: حرف استئناف. (عباد): مبتدأ، وهو مضاف، و {الرَّحْمنِ:}
مضاف إليه. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبر المبتدأ، وقال الأخفش: في محل رفع صفة: (عباد)، والخبر محذوف. وقال الزجاج: في محل رفع صفة (عباد الرحمن)، والخبر الجملة الاسمية:{أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ} الآتية في الآية رقم [75]، وما بين المبتدأ والخبر أوصاف لهم، وما تعلق بها. {يَمْشُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {عَلَى الْأَرْضِ:}
جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {هَوْناً:} حال من واو الجماعة بمعنى: هينين؛ أو هو صفة مفعول مطلق محذوف، التقدير: يمشون مشيا هونا. (إذا): انظر الآية رقم [60].
{خاطَبَهُمُ:} فعل ماض، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به. {الْجاهِلُونَ:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح. {قالُوا:} فعل ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {سَلاماً:} مفعول به ل: {قالُوا،} وإن كان مصدرا، فأعمل فيه القول؛ لأنه لم يحك قولهم بعينه، إنما حكى معنى قولهم، ولو حكى قولهم بعينه؛ لكان محكيا، ولم يعمل فيه القول: انتهى. مكي. وقيل: هو مفعول مطلق، عامله {قالُوا} من غير لفظه، وقيل: صفة مفعول مطلق محذوف، التقدير: قالوا قولا سلاما، والمعتمد الأول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام معطوف على جملة الصلة، لا محل له مثلها، والجملة الاسمية:{وَعِبادُ الرَّحْمنِ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64)}
الشرح: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ:} قال الزجاج: بات الرجل، يبيت: إذا أدركه الليل، نام، أو لم ينم، ويقال: بات فلان يفعل كذا: إذا فعل ليلا، وليس بات بمعنى نام في الليل، تقول: بات فلان يصلي: إذا لم يزل يصلي بالليل، ومنه الآية الكريمة. قال زهير بن أبي سلمى المزني:[الطويل]
فبتنا قياما عند رأس جوادنا
…
يزاولنا عن نفسه ونزاوله
{سُجَّداً وَقِياماً:} المعنى: يبيتون لربهم في الليل بالصلاة سجدا على وجوههم، وقياما على أقدامهم. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: من صلى ركعتين، أو أكثر بعد العشاء الأخيرة، فقد بات لله ساجدا، وقائما. وقال الكلبي: من أقام ركعتين بعد المغرب، وأربعا بعد العشاء، فقد بات ساجدا قائما. وعن عثمان بن عفان-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من صلّى العشاء في جماعة؛ فكأنّما قام نصف اللّيل، ومن صلّى الصّبح في جماعة؛ فكأنّما صلّى اللّيل كلّه» . رواه مالك ومسلم. هذا؛ وانظر ما ذكرته في الآية رقم [78] و [79] من سورة (الإسراء)، وما ذكرته في الآية رقم [38] من سورة (النور). ورحم الله من يقول في صفة عباد الرحمن الذين يبيتون لربهم سجدا وقياما:[الكامل]
امنع جفونك أن تذوق مناما
…
واذر الدّموع على الخدود سجاما
واعلم بأنّك ميّت ومحاسب
…
يا من على سخط الجليل أقاما
لله قوم أخلصوا في حبّه
…
فرضي بهم واختصّهم خدّاما
قوم إذا جنّ الظّلام عليهم
…
باتوا هنالك سجّدا وقياما
خمص البطون من التّعفّف ضمّرا
…
لا يعرفون سوى الحلال طعاما
هذا؛ و {سُجَّداً} جمع: ساجد، وهو اسم فاعل لذا تعلق به الجار والمجرور، و (قياما) جمع قائم، وقدم السجود على القيام، وإن كان قبله في الفعل لمراعاة رؤوس الآي، كما ترى.
الإعراب: (الذين): معطوف على مثله في الآية السابقة، وجملة:{يَبِيتُونَ} صلة الموصول لا محل لها. {لِرَبِّهِمْ:} متعلقان بما بعدهما على التنازع، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {سُجَّداً} خبر:
{يَبِيتُونَ} على اعتباره ناقصا، وحال من واو الجماعة على اعتباره تاما. (قياما): معطوف على ما قبله بالواو العاطفة.
الشرح: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ:} هذه صفة ثالثة من صفات: {وَعِبادُ الرَّحْمنِ} . {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنّا عَذابَ جَهَنَّمَ} أي: هم مع طاعتهم، وسجودهم، وقيامهم لربهم مشفقون خائفون من عذاب الله تعالى، يدعون بهذا الدعاء، وذلك لعدم اعتدادهم بأعمالهم، وعدم وثوقهم بنجاتهم من عذاب جهنم على ما هم عليه من العبادة، والطاعة، وحسن الحال. {إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً:} لازما لزوما كليا في حق الكفار، ولزوما بعد إطلاقهم إلى الجنة في حق عصاة المسلمين، وفي المختار: الغرام: الشر الدائم، والعذاب، وقوله تعالى:{إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً} أي: هلاكا لازما. انتهى. ومنه سمي الغريم لملازمته من له عليه حق، من دم أو مال، أو نحوهما، وفلان مغرم بكذا، أي: ملازم له ومولع به، وهذا معناه في كلام العرب فيما ذكر ابن الأعرابي، وابن عرفة وغيرهما، وقال الأعشى:[الخفيف]
إن يعاقب يكن غراما وإن يع
…
ط جزيلا فإنّه لا يبالي
وقال الحسن: كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم هذا؛ والمغرم بفتح الميم والراء:
الخسران، والضياع، ومن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم:«اللهمّ إنّي أعوذ بك من المأثم والمغرم، وأعوذ بك من الفتن، ما ظهر منها، وما بطن» . وقال تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً..} .
إلخ الآية رقم [98] من سورة (التوبة)، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه-: «إذا كانت الأمانة مغنما، والزّكاة مغرما
…
». والمغرم بزنة المفعول: أسير الحب، والعشق، وقول الله تعالى في سورة (الواقعة) {إِنّا لَمُغْرَمُونَ} معناه: إنا لملزمون غرامة ما أنفقنا. {إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً} أي: بئس المستقر، وبئس المقام، وقد أنث الفعل {ساءَتْ} مع كون الفاعل مميز بمذكر، وهو: مستقر؛ لأن «المستقر» عبارة عن جهنم، ولفظها
مؤنث، فلذلك جاز تأنيث فعله. هذا؛ والمستقر، والمقام بمعنى واحد، أي: فهما مترادفان، وقال بعضهم: مستقرّا لعصاة المؤمنين، ومقاما للكافرين، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَالَّذِينَ:} معطوف على ما قبله، وجملة:{يَقُولُونَ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها. {رَبَّنَا:} منادى حذف منه أداة النداء، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {اِصْرِفْ:} فعل دعاء، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {عَنّا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {عَذابَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {جَهَنَّمَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة، والإضافة من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، وأصل الكلام: التعذيب في جهنم. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {عَذابَها:} اسم {إِنَّ،} و (ها): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف
…
إلخ. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر فيه تقديره:«هو» . {غَراماً:}
خبر {كانَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر: {إِنَّ،} والجمل كلها في محل نصب مقول القول. {إِنَّها:} حرف مشبه بالفعل، و (ها): ضمير متصل في محل نصب اسمها. {ساءَتْ:}
فعل ماض لإنشاء الذم، والتاء للتأنيث حرف لا محل له، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«هي» دل عليه التمييز بعده، وهو:{مُسْتَقَرًّا} . {وَمُقاماً:} معطوف على ما قبله، وجملة:{ساءَتْ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{إِنَّها ساءَتْ..} . إلخ تعليل لجملة: {إِنَّ عَذابَها..} .
إلخ، أو تعليل ثان، وهي بدورها في محل نصب مقول القول. وقال الزمخشري في الكشاف:
والتعليلان يصح أن يكونا متداخلين، ومترادفين، وأن يكونا من كلام الله تعالى، وحكاية لقولهم.
ولا تنس: أن المخصوص بالذم محذوف، التقدير: ساءت مستقرا هي هي، ف: هي الثاني هو المخصوص. هذا؛ وأجيز اعتبار: {ساءَتْ} بمعنى: أحزنت، فتكون متصرفة ناصبة للمفعول، وهو هنا محذوف أي: إن جهنم أحزنت أصحابها، وداخليها، ويكون:{مُسْتَقَرًّا} تمييزا، أو حالا. وهو تكلف لا داعي له. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
{وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67)}
الشرح: قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: اختلف المفسرون في تأويل هذه الآية، فقال النحاس: ومن أحسن ما قيل في معناها: أن من أنفق في غير طاعة الله فهو الإسراف، ومن أمسك عن طاعة الله عز وجل فهو الإقتار، ومن أنفق في طاعة الله فهو القوام. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من أنفق مئة ألف في حق فليس بسرف، ومن أنفق درهما في غير حقه فهو سرف، ومن منع من حق عليه فقد قتر. وقاله مجاهد، وابن زيد، وغيرهما. وقال عون بن عبد الله: الإسراف: أن تنفق مال غيرك.
وقال ابن عطية: هذا؛ ونحوه غير مرتبط بالآية، والوجه أن يقال: إن النفقة في معصية أمر قد حظرت الشريعة قليله وكثيره، وكذلك التعدي على مال الغير، وهؤلاء الموصوفون منزهون عن ذلك، وإنما التأديب في هذه الآية هو في نفقة الطاعات في المباحات، فأدب الشرع فيها أن لا يفرط الإنسان حتى يضيع حقا آخر، أو عيالا ونحو ذلك، وألا يضيق أيضا ويقتر حتى يجيع العيال، ويفرط في الشح، والحسن في ذلك هو القوام، أي: العدل.
وقال أبو عبيدة: لم يزيدوا على المعروف، ولم يبخلوا، كقوله تعالى:{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ} الآية رقم [29] من سورة (الإسراء). وقال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} الآية رقم [31] من سورة (الأعراف)، انظر تفسير الآيتين في محالهما. وقال الشاعر الحكيم:[الطويل]
ولا تغل في شيء من الأمر، واقتصد
…
كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقال آخر: [الطويل]
إذا المرء أعطى نفسه كلّ ما اشتهت
…
ولم ينهها تاقت إلى كلّ باطل
وساقت إليه الإثم والعار بالّذي
…
دعته إليه من حلاوة عاجل
وقال عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-لابنه عاصم: كل في نصف بطنك، ولا تطرح ثوبا حتى تستخلقه، ولا تكن من قوم يجعلون ما رزقهم الله في بطونهم وعلى ظهورهم. وقال حاتم الطائي:[الطويل]
إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله
…
وفرجك نالا منتهى الذّمّ أجمعا
هذا؛ ويقرأ {يَقْتُرُوا} بقراآت كثيرة، والمعنى، والإعراب لا يتغيران، و {قَواماً:} بفتح القاف: عدلا، ويقرأ بكسر القاف، أي: سدادا، وملاك حال. وقال البيضاوي: هو ما يقام به الحاجة، لا يزيد عليها، ولا ينقص. هذا؛ وقد حث الله على الاعتدال، والتوسط في كل شيء حتى في المشي، ورفع الصوت، قال تعالى حكاية عن وصية لقمان لابنه، وهو يعظه:{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} .
الإعراب: {وَالَّذِينَ:} معطوف على ما قبله، {إِذا:} انظر الآية رقم [60]. {أَنْفَقُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمفعول محذوف، تقديره: المال، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على المشهور المرجوح. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يُسْرِفُوا:} فعل مضارع مجزوم ب {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، التقدير: لم يسرفوا في إنفاقه، والجملة الفعلية جواب:{إِذا} لا محل لها، وجملة:{وَلَمْ يَقْتُرُوا} معطوفة عليها،
لا محل لها مثلها، و {إِذا} ومدخولها صلة الموصول لا محل له. {وَكانَ:} الواو: حرف استئناف. (كان): فعل ماض ناقص، واسمها ضمير مقدر فيها، أي: كان الإنفاق، دل عليه الكلام السابق. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر أول ل (كان)، و {قَواماً} خبر ثان، أو هو حال من الضمير المستتر في متعلق:{بَيْنَ،} فهو حال مؤكدة، وأجاز الفراء أن تكون {بَيْنَ} اسم (كان) مبني على الفتح مثل قوله تعالى:{وَمِنّا دُونَ ذلِكَ} الآية رقم [11] من سورة (الجن) ف {دُونَ} مفتوح وهو مبتدأ، وإنما جاز ذلك؛ لأن هذه الألفاظ كثر استعمالها بالفتح، فتركت على حالها في موضع الرفع، وكذلك يقول في قوله تعالى:{لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} الآية رقم [94] من سورة (الأنعام) وهو مرفوع بالفعل: {تَقَطَّعَ،} لكنه ترك مفتوحا لكثرة وقوعه كذلك، وخالفه البصريون في ذلك. انتهى. من قول مكي بن أبي طالب القيسي. هذا؛ وقد قرئ في سورة (الأنعام) بالرفع، وفسر بالوصل، انظر شرح الآية في محلها من سورة (الأنعام)، و {بَيْنَ} مضاف، و {ذلِكَ} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، وجملة:{وَكانَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وقيل: معطوفة على ما قبلها، وقيل: في محل نصب حال، ولا وجه لهما البتة.
الشرح: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ..} . إلخ: قال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: نفى الله عن عباده المؤمنين أمهات المعاصي بعد أن أثبت لهم أصول الطاعات إظهارا لكمال إيمانهم، وإشعارا بأن الأجر المذكور موعود للجامع بين ذلك، أي: فعل الطاعات، وترك المنهيات، وتعريضا للكفرة بأضداد ذلك، أي إنهم جمعوا بين ترك الطاعات والمأمورات، وفعل المنهيات، ولذلك عقبه بالوعيد تهديدا لهم، فعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: قلت: يا رسول الله! أيّ الذنب أكبر عند الله؟ قال: «أن تدعو لله ندّا، وهو خلقك» . قلت: ثم أيّ؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» . قلت: ثم أي؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك» . فأنزل الله تصديقه الآية الكريمة {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ..} . إلخ. أخرجه مسلم. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-أن ناسا من أهل الشرك قتلوا، فأكثروا، وزنوا، فأكثروا، فأتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول، وتدعو إليه لحسن، وهو يخبرنا بأن لما عملنا كفارة، فنزلت الآية الكريمة:{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ..} .
إلخ، ونزل قوله تعالى:{قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ..} . إلخ الآية رقم [53] من سورة (الزمر) انظر شرحها، وتفسيرها، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [48] من سورة (النساء) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
هذا؛ وانظر ما ذكرته في حق الزاني، وبشاعة الزنى في الآية رقم [2] من سورة (النور)، والآية رقم [32] من سورة (الإسراء)، والآية رقم [5] من سورة (المؤمنون)، وانظر ما ذكرته في حق قاتل النفس بغير حق في الآية رقم [33] من سورة (الإسراء)، وانظر شرح (دعا) في الآية رقم [110] منها أيضا، وشرح (النفس) في الآية رقم [35] من سورة (الأنبياء).
{وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ:} الإشارة إلى الثلاثة المذكورة: الشرك، وقتل النفس، والزنى. والوعيد، والتهديد لا يتوقفان على فعل الثلاثة، بل المراد، -والله أعلم-: ومن يفعل شيئا من ذلك يلق أثاما؛ لأن كل واحد من الثلاثة كبيرة من الكبائر تستوجب العقاب الشديد، والعذاب الأليم في نار الجحيم، و (الأثام) في كلام العرب: العقاب بوزن الوبال، والنكال، ومنه قول الشاعر:[الوافر]
جزى الله ابن عروة حيث أمسى
…
عقوقا، والعقوق له أثام
أي: جزاء، وعقوبة. وقال عبد الله بن عمرو، وعكرمة ومجاهد-رضي الله عنهم: إن {أَثاماً} واد في جهنم، جعله الله عقابا للكفرة، قال الشاعر:[المتقارب]
لقيت المهالك في حربنا
…
وبعد المهالك تلقى أثاما
وقال السدي: هو جبل في جهنم، قال الشاعر:[الوافر]
وكان مقامنا ندعو عليهم
…
بأبطح ذي المجاز له أثام
هذا؛ والحق الذي تقتل به النفس هو واحد من ثلاثة أمور بيّنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّي رسول الله إلاّ بإحدى ثلاث: الثيّب الزّاني، والنّفس بالنّفس، والتّارك لدينه المفارق للجماعة» . أخرجه الخمسة ما عدا ابن ماجه عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه.
الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع معطوف على ما قبله. {لا:} نافية. {يَدْعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل. {مَعَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، وتعليقه بمحذوف حال من (إلها) ضعيف، و {مَعَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {إِلهاً:} مفعول به. {آخَرَ:} صفة له، وجملة:{لا يَدْعُونَ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{وَلا يَقْتُلُونَ..} . إلخ معطوفة عليها، لا محل لها مثلها. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون صفة: {النَّفْسَ،} وجملة: {حَرَّمَ اللهُ} صلة: {الَّتِي،} والعائد محذوف، التقدير: حرم الله قتلها. {إِلاّ:} حرف حصر. {بِالْحَقِّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب المقدر، أي: إلا مقتولة بالحق، وجملة:{وَلا يَزْنُونَ} معطوفة على جملة الصلة لا محل لها. {وَمَنْ:} الواو: واو الاعتراض، وقيل: حرف عطف.
(من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، وهو مفيد للعموم، ولذا صح الاستثناء منه كما ستقف عليه. {يَفْعَلْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل ضمير مستتر فيه تقديره:«هو» يعود إلى (من). {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب مفعول به، واللام للبعد، والكاف للخطاب حرف لا محل له. {يَلْقَ:} فعل مضارع جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى (من) أيضا. {أَثاماً:} مفعول به. وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، قيل: هو جملة الشرط، وقيل: جملة الجواب، وقيل: الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين، والجملة الاسمية: (من
…
) إلخ معترضة مع ما يتعلق بها بين الصفات المتعاطفة، لا محل لها، وقيل: معطوفة. وليس بشيء.
{يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69)}
الشرح: {يُضاعَفْ:} يقرأ بالجزم، والرفع على الاستئناف. ويقرأ:«(يضعّف)» بتشديد العين، والجزم، والرفع أيضا، فهذه أربع قراآت سبعية. وقرئ:«(نضعّف)» بالنون وتشديد العين المكسورة، ومضاعفة العذاب لانضمام المعصية إلى الكفر، ويدل عليه الآية التالية. هذا؛ والمضاعفة المكاثرة، وضعف الشيء بكسر الضاد وسكون العين مثله، وضعفاه: مثلاه.
وأضعافه: أمثاله. هذا هو الأصل في الضعف، ثم استعمل في المثل، وما زاد عليه، وليس للزيادة حد، فيقال: هذا ضعف هذا، أي مثله، أو مثلاه، أو ثلاثة أمثاله، وهكذا. ويقال:
أضعفت الشيء، وضعفته، وضاعفته، فمعناه ضممت إليه مثله فصاعدا، وقال بعضهم: ضاعفت أبلغ من ضعّفت، ولذا قرأ أكثرهم في هذه الآية:{يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ} وفي الآية رقم [40] من سورة (النساء): {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها} .
{يَوْمَ الْقِيامَةِ:} هو اليوم الذي يقوم فيه الناس من قبورهم للحساب والجزاء، وكثر التعبير عنه بألفاظ كثيرة، مثل القارعة، والحاقة، والطامة، والصاخة، وغير ذلك، وأصل القيامة:
القوامة؛ لأنها من قام يقوم، قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة. و (يخلد): يقرأ بالجزم والرفع، وبالبناء للمعلوم، وللمجهول، وبالتاء خطابا للكافر. {مُهاناً:} ذليلا محتقرا، جامعا للعذاب الروحاني والجسماني. والخلود في العذاب: عدم الخروج منه أبدا. هذا؛ ويقرأ بمد الضمير بقوله (فيه) مبالغة في الوعيد، والعرب تمدّه للمبالغة.
الإعراب: {يُضاعَفْ:} فعل مضارع مبني للمجهول بدل من الفعل {يَلْقَ،} وإبدال الفعل مستعمل في اللغة العربية، قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته:[الرجز]
ويبدل الفعل من الفعل كمن
…
يصل إلينا يستعن بنا يعن
ومن شواهده الشعرية قول عبيد الله بن الحر الجعفي في رجل تقاعد عن مبايعة الملك، وهو الشاهد رقم [168] من كتابنا فتح رب البرية:[الرجز]
إنّ عليّ الله أن تبايعا
…
تؤخذ كرها أو تجيء طائعا
حيث أبدل تؤخذ من تبايع، والمعنى: إن علي والله، فلما حذف الجار نصب لفظ الجلالة وأيضا قول عبيد الله بن الحر الجعفي:[الطويل]
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا
…
تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا
فالفعل تلمم بدل من تأتنا فكل فعل يبدل من سابقه إذا كان بمعناه، قال الشاعر:[مجزوء الكامل]
إن يجبنوا أو يغدروا
…
أو يبخلوا لا يحفلوا
يغدوا عليك مرجّلي
…
ن كأنّهم لم يفعلوا
فقوله: يغدوا بدل من قوله: لا يحفلوا. وخذ قول وداك بن ثميل المازني شاعر إسلامي.
هذا؛ والأبيات الثلاثة هي الشاهد رقم [827] من كتابنا فتح القريب المجيب: [الطويل]
رويد بني شيبان بعض وعيدكم
…
تلاقوا غدا خيلي على سفوان
تلاقوا جيادا لا تحيد عن الوغى
…
إذا ما غدت في المأزق المتداني
تلاقوهم، فتعرفوا كيف صبرهم
…
على ما جنت فيهم يد الحدثان؟
فقد أبدل «تلاقوا» الثاني من الأول، والثالث من الثاني. هذا؛ وتبدل الجملة من الجملة، كما ستعرفه في الآية رقم [133] من سورة (الشعراء) إن شاء الله تعالى. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الْعَذابُ:} نائب فاعل، على قراءة الفعل بالرفع، فالجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من فاعل {يَفْعَلْ} المستتر، وعلى قراءة الفعل بالنون فالعذاب مفعول به، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره:«نحن» . {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، و {يَوْمَ} مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه. {وَيَخْلُدْ:} الواو: حرف عطف. (يخلد): معطوف على ما قبله على جميع القراآت. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مُهاناً:} حال من فاعل: (يخلد)، أو من نائب فاعله. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {إِلاّ مَنْ تابَ} أي: من الشرك، ومن قتل النفس، ومن الزنى؛ أي: ومن جميع المعاصي. {وَآمَنَ} أي: بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبالقرآن كتابا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيّا،
وشفيعا، ورسولا، {وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً} أي: يرضي الله، ورسوله؛ بأن صلى، وصام، وحج، وزكى، وعمل أنواع البر والخيرات، فقد شرط الله لقبول التوبة الإيمان الصحيح، والعمل الصالح، وكلّ منهما احتراس يفيد عدم قبول التوبة إلا بوجودهما معا. ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (طه) رقم [82]. {وَإِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى} هذا؛ والتوبة المقبولة هي التوبة النصوح التي ذكرها الله في سورة (التحريم) ولها شروط: الندم بالجنان، والاستغفار باللسان، والإقلاع بالأركان، ورد الحقوق لأصحابها بحسب الإمكان. وانظر نص الآيتين رقم [17] و [18] من سورة (النساء).
{فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ:} معنى إبدال السيئات حسنات: أن الله يمحوها بالتوبة المقبولة، ويثبت مكانها الحسنات: الإيمان، والطاعة، والتقوى. وقيل: يبدلهم بالشرك إيمانا، وبقتل المسلمين قتل المشركين، وبالزنى عفة وإحصانا. وقيل: يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة، ويثبت مكانها لواحق طاعاتهم، أو يبدل ملكة المعصية ودواعيها في النفس بملكة الطاعة بأن يزيل الأولى، ويأتي بالثانية مكانها. هذا؛ وقد قال الله تعالى في سورة (هود):{إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ} . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ-رضي الله عنه: «اتّق الله حيثما كنت، وأتبع السّيّئة الحسنة تمحها، وخالق النّاس بخلق حسن» . {وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً:} انظر الآية رقم [6].
هذا؛ وقد أفرد الضمير في الأفعال الثلاثة، وجمع اسم الإشارة العائد إلى (من) وأفرد الضمير في الأول مراعاة للفظ (من)، وجمع في الثاني مراعاة لمعناها.
الإعراب: {إِلاّ:} أداة استثناء. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب على الاستثناء من فاعل (يلقى) العائد إلى {مَنْ} الأولى. {تابَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {مَنْ،} وهو العائد، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، وجملة:(آمن) مع المتعلق المحذوف معطوفة عليها، لا محل لها مثلها، وكذلك جملة:{وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً} . و {عَمَلاً} مفعول به، أو هو مفعول مطلق معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {فَأُوْلئِكَ:} الفاء: حرف تفريع، واستئناف. (أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ. والكاف حرف خطاب لا محل له. {يُبَدِّلُ:} فعل مضارع. {اللهُ:} فاعله.
{سَيِّئاتِهِمْ:} مفعول به أول. {حَسَناتٍ:} مفعول به ثان، فهما منصوبان، وعلامة نصبهما الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنهما جمعا مؤنث سالمان، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:
{يُبَدِّلُ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{فَأُوْلئِكَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها مفرعة، ومستأنفة، وهذا الإعراب يجعل هذه الجملة غير مرتبطة بما قبلها؛ لذا فالوجه اعتبار:{مَنْ} مبتدأ، والجملة الاسمية:{فَأُوْلئِكَ..} . إلخ في محل رفع خبره، والفاء زائدة لتحسين اللفظ، ومضمون الجملة الاسمية:{إِلاّ مَنْ تابَ..} . إلخ مستثنى من مضمون الكلام
السابق. هذا، وأجيز في مثل هذه الآية اعتبار:{مَنْ} شرطية، جوابها الجملة الاسمية الآتية، وتبقى الجملة الاسمية في محل نصب على الاستثناء. ومثل هذه الجملة في إعرابها الآية رقم [160] من سورة (البقرة)، والآية رقم [60] من سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام. وجملة:{وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً} مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط إعادة الاسم الكريم بلفظه.
{وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (71)}
الشرح: {وَمَنْ تابَ} أي: من الشرك، والمعاصي، بتركها، والندم على فعلها. {وَعَمِلَ صالِحاً} أي: عملا صالحا، يتلافى به ما فرط من الطاعات، أو خرج من المعاصي، ودخل في الطاعات. {فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ} أي: يرجع إليه تعالى؛ إذ التوبة: الرجوع عن الذنوب إلى علام الغيوب. {مَتاباً} أي: مرضيا عند الله، ماحيا للعقاب، محصلا للثواب، أو يرجع إلى الله مرجعا حسنا. وفي كلام بعض العرب: لله أفرح بتوبة العبد من المضل الواجد، والظمان الوارد، والعقيم الوالد.
وعن الحارث بن سويد عن عبد الله-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دويّة مهلكة، معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام، فاستيقظ، وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتّى إذا اشتدّ عليه الحرّ والعطش، أو ما شاء الله تعالى، قال: أرجع إلى مكاني الّذي كنت فيه، فأنام حتّى أموت، فوضع يده على ساعده ليموت، فاستيقظ، فإذا راحلته عنده، عليها زاده وشرابه، فالله أشدّ فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته» . أخرجه البخاري، ومسلم، ومعنى فرح الله بتوبة العبد: رضاه عنه، وغفر ذنوبه، وستر عيوبه.
هذا؛ وقد قال القفال: يحتمل أن تكون الآية الأولى فيمن تاب من المشركين، ثم عطف عليه من تاب من المسلمين، وأتبع توبته عملا صالحا، فله حكم التائبين، ولا تنس: الاحتراس في الآيتين، وهو: اشتراط الإيمان الصحيح، والعمل الصالح لقبول التوبة؛ ولذلك قيل: من تاب بلسانه، ولم يحقق ذلك بفعله، فليست تلك التوبة نافعة، بل من تاب وعمل صالحا، فحقق توبته بالأعمال الصالحة، فهو الذي تاب إلى الله متابا، أي تاب حق التوبة، وهي النصوح، ولذا أكد بالمصدر، ف:{مَتاباً} مصدر معناه التأكيد، كقوله تعالى:{وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً} أي:
فإنه يتوب إلى الله حقّا، فيتقبل الله توبته حقّا، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَمَنْ:} الواو: حرف عطف، أو استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {تابَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط
ومتعلقه محذوف، والفاعل يعود إلى (من). {وَعَمِلَ:} فعل ماض معطوف على ما قبله، والفاعل يعود إلى (من) أيضا. {صالِحاً:} مفعول به. {فَإِنَّهُ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.
(إنه): حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها. {يَتُوبُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (من) أيضا، تقديره:«هو» . {إِلَى اللهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بالمصدر بعدهما. {مَتاباً:} مفعول مطلق، وهو مصدر ميمي مؤكد لفعله، والجملة الفعلية:{يَتُوبُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية: (إنه
…
) إلخ في محل جزم جواب الشرط، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه كما رأيت في الآية رقم [68].
هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا فهو مبتدأ، وجملة:{تابَ} مع المتعلق المحذوف صلته، وخبره: الجملة الاسمية: {فَإِنَّهُ..} . إلخ ودخلت الفاء عليها، وهي خبر؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية: (من تاب
…
) إلخ مستأنفة، لا محل لها، وهو أقوى من العطف على ما قبلها. تأمل.
{وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72)}
الشرح: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} أي: لا يحضرون مجالس الباطل، وعن ابن الحنفية: اللهو، والغناء. وعن مجاهد: أعياد المشركين. والزور: كل باطل زوّر وزخرف وزين، وأعظمه الشرك، وتعظيم الأنداد، والمعاندين لله. وقال علي بن أبي طلحة ومحمد بن علي: المعنى لا يشهدون بالزور. وقال الزمخشري: ويحتمل: أنهم لا يشهدون شهادة الزور، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. هذا؛ وانظر ما ذكرته في شهادة الزور في الآية رقم [30] من سورة (الحج).
{وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ:} اللغو: ما ينبغي أن يلغى ويطرح. والمعنى: إذا مروا بأهل اللغو، والمشتغلين به؛ مروا معرضين عنهم، مكرمين أنفسهم عن التوقف عليهم، والخوض معهم، كقوله تعالى:{وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ} الآية رقم [55] من سورة (القصص). هذا؛ ومن ترك اللغو: الإغضاء عن الفواحش، والصفح عن الذنوب، والكناية عما يستهجن التصريح به.
{كِراماً} أي: مروا مرّ الكرام الذين لا يدخلون في الباطل، يقال: تكرم فلان عما يشينه، أي: تنزه، وأكرم نفسه عنه. روي أن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-سمع غناء، فأسرع، وذهب، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«لقد أصبح ابن أمّ عبد كريما» . كيف لا؟ وقد قال-رضي الله عنه: الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء الزرع. قال القرطبي: من الغناء ما ينتهي سماعه إلى التحريم، وذلك كالأشعار التي توصف فيها الصور
المستحسنات، والخمر، وغير ذلك مما يحرّك الطباع، ويخرجها عن الاعتدال، أو يثير فيها كامنا من حب اللهو. انتهى.
الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع معطوف على مثله في الآيات السابقة. {لا:} نافية. {يَشْهَدُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو فاعله، {الزُّورَ:} مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {وَإِذا:} الواو: حرف عطف. (إذا): انظر الآية رقم [60].
{مَرُّوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بِاللَّغْوِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على القول المشهور المرجوح، وجملة:{مَرُّوا كِراماً} جواب (إذا) لا محل لها. {كِراماً:} حال من واو الجماعة، و (إذا) ومدخولها كلام معطوف على جملة الصلة، لا محل له مثلها.
{وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73)}
الشرح: {وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ} أي: قرئ عليهم القرآن، أو وعظوا. {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها..}. إلخ: قيل: إن المعنى: إذا تليت عليهم آيات الله؛ وجلت قلوبهم، فخروا سجدا، وبكيا، ولم يخروا عليها صما وعميانا، بل هم سامعون بآذان واعية، مبصرون بعيون راعية لما أمروا به، ونهوا عنه، لا كالمنافقين، وأشباههم. دليله قوله تعالى في سورة (مريم) رقم [58]:{وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا،} وقوله تعالى في سورة (الإسراء) رقم [107]: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً} . {صُمًّا:}
جمع: أصم، وهو الذي لا يسمع ما يقال له. {وَعُمْياناً:} جمع: أعمى، ومؤنثه عمياء، ويجمع أيضا على: عمي، وأعماء، وعماة.
الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. (الذين): معطوف على ما قبله. {إِذا:} انظر الآية رقم [60]. {ذُكِّرُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على المشهور المرجوح.
{بِآياتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (آيات) مضاف، و {رَبِّهِمْ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَخِرُّوا:} فعل مضارع مجزوم ب {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {عَلَيْها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.
{صُمًّا:} حال من واو الجماعة. (عميانا): معطوف على ما قبله، وجملة:{لَمْ يَخِرُّوا..} . إلخ جواب: {إِذا} لا محل لها، و {إِذا} ومدخولها صلة الموصول، كلام لا محل له.
الشرح: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا..} . إلخ: في هذه الآية إرشاد كريم من الله تعالى، وتعليم لعباده أن يسألوا الله الذرية الصالحة، والزوجة المطيعة، والمتقية، كيف لا؟ وقد قال الله تعالى حكاية عن قول زكريا-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} . وقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنس بن مالك بقوله: «اللهمّ أكثر ماله وولده، وبارك له فيه» .
وذلك أن الإنسان إذا بورك له في ماله وولده، قرت عينه بأهله وعياله؛ حتى إذا كانت عنده زوجة صالحة مطيعة، اجتمعت له فيها أمانيه من جمال وعفة، وكانت عنده ذرية محافظون على الطاعة، معاونون له على وظائف الدين والدنيا، لم يلتفت إلى زوجة غيره، ولا إلى ولده، فقد قيل: ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته، وأولاده مطيعين لله عز وجل، فيطمع أن يحلّوا معه في الجنة، فيتم سروره، وتقر عينه بذلك. هذا؛ ويقرأ «(ذريتنا)» بالإفراد، و (هب) ماضيه وهب، فتحذف الواو من مضارعه وأمره، مثل وعد، يعد، عد. ووزن، يزن، زن. والقياس من كسر الهاء؛ لأن الواو لا تسقط إلا على هذا التقرير، مثل عد، وزن ونحوهما، إلا أن الهاء فتحت من يهب؛ لأنها حرف حلق، فهي عارضة، فلذلك لم تعد الواو كما لم تعد في يسع ويدع.
{وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً} أي: أئمة يقتدون بنا في الخير. وفيه دليل على أن الرياسة في الدين مطلوبة، وطلبها من الله مندوب، وكان القشيري أبو القاسم شيخ الصوفية يقول: الإمامة بالدعاء لا بالدعوى، أي: بتوفيق الله، وتيسيره ومنته، لا بما يدعيه كل واحد لنفسه. وقال إبراهيم النخعي: لم يطلبوا الرياسة في الدنيا، بل بأن يكونوا قدوة في الدين.
هذا؛ و {أَزْواجِنا} جمع: زوج، وهو يطلق على الرجل، والمرأة، والقرينة تبين الذكر، والأنثى، ويقال لها أيضا: زوجة، وحذف التاء منها أفصح إلا في الفرائض، فإنها بالتاء أفصح لتوضيح الوارث. هذا؛ والزوج: القرين، قال تعالى:{اُحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ} أي:
وقرناءهم، الآية رقم [22] من سورة (الصافات). والزوج: ضد الفرد، وكل واحد منهما يسمى زوجا أيضا، يقال للاثنين هما زوجان، وهما زوج، كما يقال: هما سيان، وهما سواء، وقال تعالى:{قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أي: من كل نوع ذكرا وأنثى، الآية رقم [40] من سورة (هود) وقال تعالى:{ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ..} . إلخ الآية رقم [143] من سورة (الأنعام)، والمعنى:
ثمانية أفراد، والزوج: الصنف، والنوع، قال تعالى في سورة (لقمان) رقم [10]:{فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} أي: صنف من النبات، وقال تعالى في سورة (الحج) رقم [5]:{فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} . (ذرياتنا): جمع: ذرية، وهي النسل من بني
آدم، وهي تقع على الجمع، كما في قوله تعالى:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً} وعلى الواحد كما في قوله تعالى حكاية عن قول زكريا عليه السلام: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} . قيل: هي مشتقة من الذّرا بفتح الذال، وهو كل ما استذريت به، يقال: أنا في ظل فلان، وفي ذراه، أي في كنفه وستره، وتحت حمايته، وهو بضم الذال: أعلى الشيء، وقيل:
هي مشتقة من الذّرء، وهو الخلق، قال تعالى:{قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ،} وقال تعالى: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} أبدلت همزة الذّرء ياء، ثم شددت الياء، وتبعتها الراء في التشديد.
{قُرَّةَ أَعْيُنٍ:} يحتمل أن تكون من القرار، وهو السكون، والهدوء، ويحتمل أن تكون من القرّ، وهو الأشهر، والقرّ: البرد؛ لأن العرب تتأذى بالحر، وتستريح إلى البرد، وأيضا فإن دمع السرور بارد، ودمع الحزن ساخن؛ فمن هذا يقال: أقر الله عينك، وأسخن الله عين العدو.
قال الشاعر: [الطويل]
فكم سخنت بالأمس عين قريرة
…
وقرّت عيون دمعها اليوم ساكب
وانظر ما ذكرته في الآية رقم [13] من سورة (القصص) وقد وحد {قُرَّةَ} لأنه مصدر، والمصدر يصلح للمفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، وإنما قال:{أَعْيُنٍ} وهو جمع قلة بخلاف: «عيون» وهو جمع كثرة؛ لأنه أراد أعين المتقين، وهي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم، قال تعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ} . هذا؛ ولفظ (إمام) يستوي فيه المفرد، والجمع، فالمطابقة حاصلة. وقال البيضاوي: وتوحيد {إِماماً} لدلالته على الجنس، وعدم اللبس كقوله جل ذكره في الآية رقم [5] من سورة (الحج):{ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أو لأنه مصدر في أصله، أو لأن المراد، واجعل كل واحد منا إماما، أو لأنهم كنفس واحدة، لاتحاد طريقتهم، واتفاق كلمتهم. وقيل: هو جمع آم، كصائم، وصيام، ومعناه: قاصدين لهم، مقتدين بهم. انتهى. بتصرف. هذا؛ و (إمام): قدوة، وهو أيضا الكتاب، والرسول، قال تعالى:{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} والإمام: الطريق الذي يؤتم به، قال تعالى في سورة (الحجر):
{وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ} وخذ قول لبيد في معلقته: [الكامل]
من معشر سنّت لهم آباؤهم
…
ولكلّ قوم سنّة وإمامها
الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. (الذين): معطوف على ما قبله. {يَقُولُونَ:}
فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، الواو ضمير متصل في محل رفع فاعل. {رَبَّنا:} منادى حذفت منه أداة النداء، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {هَبْ:} فعل دعاء، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {لَنا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ أَزْواجِنا:} متعلقان بالفعل: {هَبْ} أيضا، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{قُرَّةَ}
{أَعْيُنٍ،} على القاعدة (نعت النكرة؛ إذا تقدم عليها صار حالا) و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {وَذُرِّيّاتِنا:} معطوف على ما قبله. {قُرَّةَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {أَعْيُنٍ} مضاف إليه. {وَاجْعَلْنا:} فعل دعاء، وفاعله أنت، و (نا): مفعول به.
{لِلْمُتَّقِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من (إماما)، كان نعتا له فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة التي رأيتها. {إِماماً:} مفعول به. هذا؛ والجملة: {رَبَّنا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{يَقُولُونَ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها.
{أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75)}
الشرح: {أُوْلئِكَ:} إشارة إلى المتصفين بما فصل في جيز الموصولات الثمانية، وهي إحدى عشرة خصلة: التواضع، والحلم، والتهجد في الليل، والخوف من نار جهنم وعذابها، وترك الإسراف في الإنفاق، والتقتير فيه، والنزاهة عن الشرك، وترك الزنى، وعدم قتل النفس، والتوبة، وتجنب الكذب، والعفو عن المسيء، وقبول المواعظ، والابتهال إلى الله، والتضرع إليه بطلب الزوجات الصالحات، والذرية المستقيمة على الصراط المستقيم.
{يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ:} يكافؤون على اتصافهم بتلك الصفات الحميدة بالغرفة، وهي الدرجة الرفيعة، وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها، كما أن الغرفة أعلى مساكن الدنيا، و {الْغُرْفَةَ} اسم جنس أريد به الجمع لقوله تعالى في الآية رقم [37] من سورة (سبأ):{وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ} وقوله تعالى في الآية رقم [20] من سورة (الزمر): {لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} وتجمع على: غرف، وغرفات، كما في هاتين الآيتين. {بِما صَبَرُوا} أي: ينالون الغرف والنعيم المقيم في الجنة بسبب صبرهم على الطاعات، وعن المعاصي، وعن السيئات، وعلى أنواع البلاء، وكل ذلك مستقى من هدي القرآن الكريم، وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ أهل الجنّة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدّرّيّ الغابر من الأفق من المشرق، أو المغرب لتفاضل ما بينهم» . قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء، لا يبلغها غيرهم، قال:«بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله، وصدّقوا المرسلين» . وخرج الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه-قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ في الجنّة لغرفا يرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها» . فقام إليه أعرابيّ، فقال: لمن هي يا رسول الله؟! قال: «هي لمن أطاب الكلام، وأطعم الطّعام، وأدام الصّيام، وصلّى لله باللّيل، والناس نيام» . انتهى. قرطبي. وهذا الحديث يروى بروايات كثيرة في «الترغيب والترهيب» للمنذري، وغيره.
{وَيُلَقَّوْنَ فِيها} أي: يعطون في الجنة، كما في قوله تعالى:{وَلَقّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً،} ويقرأ بالتخفيف، ومعناه: يجدون، ويصادفون، وكل شيء استقبل شيئا، أو صادفه فقد لقيه؛ لأن ما لقيك فقد لقيته، وما لقيته فقد لقيك، ومثله: ما نالك فقد نلته، وما نلته فقد نالك. {تَحِيَّةً وَسَلاماً:} هما اسمان مترادفان على المعتمد، وقيل: التحية البقاء الدائم، والملك العظيم، وهذه التحية، والسّلام من الملائكة، كما أخبر الله في الآيتين رقم [23 و 24] من سورة (الرعد) بقوله:{وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ} وقيل: هذه التحية، والسّلام من الله تعالى. وقيل: يحيى بعضهم بعضا، ويسلم بعضهم على بعض. هذا؛ والتحية: مصدر: حيّاه بتشديد الياء، وأصل معناه: الدعاء له بالحياة، ثم عم في كل كلام يلقيه بعض الناس على بعض بقصد الدعاء، كقولهم: أبيت اللعن، وأنعموا صباحا، ونحوه، ثم خصته الشريعة الإسلامية بكلام معين، وهو قول القائل: السّلام عليكم. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟» . قالوا: بلى، قال:«أفشوا السّلام بينكم» . وفي سورة (النساء) رقم [86] قوله تعالى: {وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها} . هذا؛ وإذا ورد على إنسان كتاب بالتحية ونحوها ينبغي أن يرد الجواب؛ لأن الكتاب من الغائب كالسلام من الحاضر. وروي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-أنه كان يرى رد الكتاب واجبا، كما يرى رد السّلام للإنسان الحاضر. والتحية: الملك أيضا، من ذلك «التحيات لله» معناه: الملك لله تعالى، قال عمرو بن معديكرب:[الوافر]
أسير به إلى النّعمان حتّى
…
أنيخ على تحيّته بجند
وتكون التحية بمعنى البقاء، قال زهير بن جناب الكلبي:[مجزوء الكامل]
أبنيّ إن أهلك فإ
…
نّي قد بنيت لكم بنيّه
وتركتكم أولاد سا
…
دات زنادكم وريّه
من كلّ ما نال الفتى
…
قد نلته إلاّ التّحيّه
معناه: إلا البقاء، فإنه لا ينال، ويقال: حيّاك الله وبيّاك، فمعنى حيّاك: ملكك، ومعنى بيّاك: أضحكك.
الإعراب: {أُوْلئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسرة في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {يُجْزَوْنَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول. {الْغُرْفَةَ:} مفعول به ثان. {بِما:} الباء: حرف جر. (ما): مصدرية. {صَبَرُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، و (ما) المصدرية، والفعل:{صَبَرُوا} في
تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. انظر الشرح، وجملة:{يُجْزَوْنَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{أُوْلئِكَ..} . إلخ في محل رفع خبر: (عباد الرحمن) على اعتبار الاسم الموصول خبرا له. {وَيُلَقَّوْنَ:} الواو:
حرف عطف. (يلقون): فعل مضارع مبني للمجهول على قراءته بالتشديد، والواو نائب فاعله، ومبني للمعلوم على قراءته بالتخفيف، والواو فاعله. {فِيها:} متعلقان بالفعل قبلهما.
{تَحِيَّةً:} مفعول به. {وَسَلاماً:} معطوف على ما قبله، وجملة:{وَيُلَقَّوْنَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
{خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76)}
الشرح: {خالِدِينَ فِيها:} مقيمين في تلك الغرفة لا يخرجون، ولا يموتون. {حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا} أي: نعم المستقر، ونعم المقام، وانظر تأنيث الفعل:{ساءَتْ} في الآية رقم [66] ف: {حَسُنَتْ} مثله. هذا؛ ومقام أصله: مقوم، فقل في إعلاله: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت فتحة الواو إلى القاف قبلها، ثم قل: تحركت الواو بحسب الأصل، وانفتح ما قبلها الآن، فقلبت ألفا.
الإعراب: {خالِدِينَ:} حال من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وفاعله مستتر فيه.
{فِيها:} جار ومجرور متعلقان ب {خالِدِينَ} . {حَسُنَتْ:} فعل ماض لإنشاء المدح، وفاعله مستتر مميز بما بعده. {مُسْتَقَرًّا:} تمييز، والتقدير: حسن المستقر مستقرا. هذا؛ وقال أبو البقاء: الفاعل في: {حَسُنَتْ} ضمير: {الْغُرْفَةَ} وعليه فلا مدح في هذه الجملة، والمعتمد الأول. {وَمُقاماً:} معطوف على ما قبله، والمخصوص بالمدح محذوف؛ إذ التقدير:«حسنت مستقرّا ومقاما هي» . والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، وقيل: في محل نصب حال ثانية من الغرفة، والحال الأولى:{خالِدِينَ،} ولا أسلمه، بل أعتمد اعتبار {خالِدِينَ} حالا من واو الجماعة، وأجيز اعتبار الجملة الفعلية حالا من الضمير المجرور ب:(في) وهو عائد على {الْغُرْفَةَ} ويكون الرابط: الواو فقط. والمعتمد الأول.
هذا؛ والحال في هذه الآية حال مقدرة؛ إذ الحال بالنسبة للزمان على ثلاثة أقسام: حال مقارنة، وهي الغالبة، نحو قوله تعالى، حكاية عن قول امرأة إبراهيم-على نبينا وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{وَهذا بَعْلِي شَيْخاً} . وحال مقدرة، وهي المستقبلة، نحو قوله تعالى:{فَادْخُلُوها خالِدِينَ،} ومثلها الحال في هذه الآية. وحال محكية، وهي الحال الماضية،
نحو: جاء زيد أمس راكبا. وهناك الحال الموطئة، وهي التي تذكر توطئة للصفة بعدها، بمعنى أن المقصود الصفة، وهذا كثير في القرآن الكريم، خذ قوله تعالى:{وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ} . وانظر ما ذكرته في الآية رقم [183] من سورة (الشعراء) ففيها بحث آخر.
{قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)}
الشرح: {قُلْ:} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي} أي: ما يصنع وما يفعل بكم؛ فوجودكم وعدمكم سواء. انتهى. خازن. وقال القرطبي: هذه آية مشكلة تعلقت بها الملاحدة، يقال: ما عبأت بفلان؛ أي: ما باليت به، أي ما كان له عندي وزن، ولا قدر. وأصل يعبأ من العبء، وهو الثقل، قال أبو زبيد الطائي، يصف أسدا:[الوافر]
كأنّ بصدره وبجانبيه
…
عبيرا بات يعبؤه عروس
أي: يجعل بعضه على بعض، فالعبء: الحمل الثقيل، والجمع: أعباء، و «العبء» المصدر.
وقال الزمخشري: لما وصف عبادة العباد، وعدّد صالحاتهم وحسناتهم، وأثنى عليهم من أجلها، ووعدهم الرفع من درجاتهم في الجنة؛ أتبع ذلك ببيان: أنه إنما اكترث لأولئك، وعبأ بهم، وأعلى ذكرهم، ووعدهم ما وعدهم؛ لأجل عبادتهم، فأمر رسوله أن يصرح للناس، ويجزم لهم القول بأن الاكتراث لهم عند ربهم، إنما هو للعبادة وحدها، لا لمعنى آخر، ولولا عبادتهم لم يكترث لهم البتة، ولم يعتد بهم، ولم يكونوا عنده شيئا يبالي به. انتهى. وهو جيد جيد جدا.
{لَوْلا دُعاؤُكُمْ:} لولا عبادتكم، فإن شرف الإنسان، وكرامته بالمعرفة والطاعة، وإلا فهو وسائر الحيوانات سواء، وقيل: معناه: ما يصنع بعذابكم لولا دعاؤكم معه آلهة، فيكون كقوله تعالى في الآية رقم [147] من سورة (النساء):{ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} .
{فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} أي: بما أخبرتكم حيث خالفتموه، وإذا كان الخطاب لمشركي قريش؛ فيكون في الكلام التفات من خطاب المؤمنين الصادقين إلى خطاب المشركين المعاندين، وهذا على رأي الزمخشري. وإذا كان الخطاب في الأول، والثاني لكفار قريش، فلا التفات في الكلام.
{فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً} أي: يكون جزاء التكذيب-وهو العذاب-لازما لكم، يحيق بكم لا محالة، أو أثره لازما لكم؛ حتى يكبكم في النار، واللّزام بالفتح: اللزوم، وبكسر اللام:
الملازمة، وقد قرئ بفتح اللام، وكسرها، كالثبات، والثبوت، وقد فسر بالعذاب في الآخرة، وفسر بالقتل يوم بدر. ولزام على القراءتين مصدر، وقد وقع على القراءتين موقع اسم الفاعل، فعلى الكسر وقع موقع ملازم، وعلى الفتح وقع موقع لازم، فيكون مثل قوله تعالى في آخر سورة (الملك):{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً} أي: غائرا.
تنبيه: فقد روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه: أنه قال: (خمس قد مضين: الدخان، واللزام، والروم، والبطشة، والقمر. وفي رواية: الدخان، والقمر، والروم، والبطشة، واللزام) وقوله: خمس أي: خمس علامات دالة على قيام الساعة. قد مضين، أي:
وقعن، الأول: الدخان المذكور في سورة (الدخان) في قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ} وعلى هذا فالمراد به شيء يشبه الدخان. وذلك: أنه لما نزل بقريش الجوع، صار الواحد منهم يرى كأن بينه وبين السماء دخانا. والقمر، أي: في قوله تعالى: {اِقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} . والروم، أي: المذكور في قوله تعالى سورة (الروم): {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} .
والبطشة، أي: المذكورة بسورة (الدخان) في قوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى} وهي القتل يوم بدر. واللزام، أي: في قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً} .
الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {ما:} اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب مفعول مطلق عامله ما بعده، التقدير: أي عبء يعبأ بكم، وقيل:{ما} نافية. {يَعْبَؤُا:} فعل مضارع. {بِكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.
{رَبِّي:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لَوْلا:} حرف امتناع لوجود. {دُعاؤُكُمْ:} مبتدأ، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، وخبر المبتدأ محذوف، التقدير: موجود، وجواب {لَوْلا} محذوف أيضا دل عليه ما قبله، والكلام:{ما يَعْبَؤُا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَقَدْ:} الفاء:
حرف استئناف، وقيل: هي الفصيحة، والمعنى يؤيده. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {كَذَّبْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، أو هي معطوفة على ما قبلها، وهي في محل نصب مقول القول على الاعتبارين. {فَسَوْفَ:} الفاء: حرف عطف، أو حرف استئناف. (سوف): حرف استقبال وتسويف. {يَكُونُ:} فعل مضارع ناقص، واسمه ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى المفهوم من التكذيب، انظر تقديره في الشرح. {لِزاماً:} خبر:
{يَكُونُ،} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، أو مستأنفة، وهي في محل نصب مقول القول أيضا. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
انتهت سورة الفرقان شرحا، وإعرابا، والله الموفق، والمعين، وبه أستعين.
والحمد لله رب العالمين.