الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الحجّ
وهي مكية غير ست آيات من قوله عز وجل: {هذانِ خَصْمانِ..} . إلى قوله: {
…
وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ} انتهى. بيضاوي، وخازن. وقال الجمهور: السورة مختلطة، منها مكي، ومنها مدني، وعدّ النقاش ما نزل بالمدينة عشر آيات، وقول الجمهور هو الأصح؛ لأن الآيات تقتضي ذلك؛ لأن:{يا أَيُّهَا النّاسُ} مكّيّ، و {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} مدنيّ، وهي من أعاجيب السور، نزلت ليلا ونهارا، سفرا، وحضرا، مكيّا، ومدنيّا، سلميا، وحربيا، ناسخا، ومنسوخا، محكما، ومتشابها مختلف العدد. انتهى. قرطبي.
وجاء في فضلها ما رواه الترمذي، وأبو داود، والدارقطني عن عقبة بن عامر-رضي الله عنه-قال: قلت: يا رسول الله! فضلت سورة (الحج) بأن فيها سجدتين، قال:«نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما» . وبه يقول ابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. ورأى بعضهم:
أن فيها سجدة واحدة فقط، وهو قول سفيان الثوري، وأبي حنيفة. روى الدارقطني عن عبد الله بن ثعلبة قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، سجد في الحج سجدتين. قلت: في الصبح؟ قال: في الصبح انتهى. قرطبي بتصرف.
أقول: من اعتبر السجدتين في هذه السورة اعتبر سجدة سورة (ص) سجدة شكر، لا سجدة تلاوة؛ فلا يسجد لها في الصلاة، فإن سجد لها مصل بطلت صلاته، ومن اعتبر سجدة واحدة في هذه السورة اعتبر سجدة سورة (ص) سجدة تلاوة، وشكر؛ فهو يسجد لها في الصلاة، وخارجها. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [77] من هذه السورة.
هذا؛ وسورة (الحج) ثمان وسبعون آية، وألف ومئتان وإحدى وتسعون كلمة، وخمسة آلاف وخمسة وسبعون حرفا انتهى. خازن.
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
{يا أَيُّهَا النّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)}
الشرح: {يا أَيُّهَا النّاسُ:} هذا النداء يعم جميع بني آدم. {اِتَّقُوا رَبَّكُمْ:} خافوه، واحذروا عقابه، واعملوا بطاعته. {إِنَّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ:} الزلزلة: شدة الحركة على
الحال الهائلة، وصفها الله بالعظم، ولا شيء أعظم مما عظمه الله تعالى، قيل: هي من أشراط الساعة قبل قيامها. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: زلزلة الساعة قيامها، فتكون معه.
هذا؛ وانظر شرح (الناس) في الآية رقم [1] من سورة (الأنبياء)، وشرح {شَيْءٌ} في الآية رقم [30] منها، وشرح {السّاعَةِ} في الآية رقم [49] منها أيضا. {اِتَّقُوا:} أمر من التقوى، وهي حفظ النفس من العذاب الأخروي، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه؛ لأن أصل المادة من الوقاية، وهي الحفظ، والتحرز من المهالك في الدنيا، والآخرة. وانظر ما وصف الله به المتقين في أول سورة (البقرة). هذا؛ وأصل {اِتَّقُوا:} «اتّقيوا» فحذفت الضمة التي على الياء للثقل، ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين، ثم قلبت كسرة القاف ضمة لمناسبة واو الجماعة.
الإعراب: (يا): حرف نداء ينوب مناب: «أدعو» ، أو «أنادي». (أيها): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب ب (يا). و (ها): حرف تنبيه لا محل له، وأقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه. {النّاسُ:} بعضهم يعرب هذا؛ وأمثاله نعتا، وبعضهم يعربه بدلا، والقول الفصل: أن الاسم الواقع بعد «أي» واسم الإشارة، إن كان مشتقا؛ فهو نعت، وإن كان جامدا كما هنا فهو بدل، أو عطف بيان، والمتبوع أعني:«أي» منصوب محلا، فكذا التابع، أعني (الناس) وأمثاله، فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الإتباع اللفظية، وإنما أتبعت ضمة البناء مع أنها لا تتبع؛ لأنها وإن كانت ضمة بناء، لكنها عارضة، فأشبهت ضمة الإعراب، فلذا جاز إتباعها. أفاده العلامة الصبان؛ لأنه قال، والمتجه وفاقا لبعضهم: أن ضمة التابع إتباع لا إعراب، ولا بناء، وقيل: إن رفع التابع المذكور، إعراب، واستشكل بعدم المقتضي للرفع، وأجيب بأن العامل يقدر من لفظ عامل المتبوع مبنيا للمجهول، نحو يدعى، وهو مع ما فيه من التكلف، يؤدي إلى قطع المتبوع، وقيل: إن رفع التابع المذكور بناء؛ لأن المنادى في الحقيقة هو المحلى بأل، ولكن لما لم يمكن إدخال حرف النداء عليه؛ توصلوا إلى ندائه ب:«أي» ، أي مع قرنها بحرف التنبيه، ورده بعضهم بأن المراعى في الإعراب اللفظ، وأن الأول منادى، والثاني تابع له، والإعراب السائد الآن أن تقول: مرفوع تبعا للفظ. انتهى.
هذا؛ والأخفش يعتبر «أيا» في مثل هذه الآية موصولة، و (الناس) خبرا لمحذوف، والجملة الاسمية صلة، وعائد، التقدير:«يا من هم الناس» على أنه قد حذف العائد حذفا لازما كما في قول امرئ القيس: [الطويل]
ألا ربّ يوم صالح لك منهما
…
ولا سيّما يوم بدارة جلجل
وما قاله الأخفش ضعيف، لا يعتد به عند جمهرة النحاة، والبيت هو الشاهد رقم [242] من كتابنا فتح القريب المجيب.
{اِتَّقُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {رَبَّكُمْ:}
مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {زَلْزَلَةَ:} اسم {إِنَّ،} وهو مضاف، و {السّاعَةِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، ويكتفي به إن كان من «زلزل» اللازم، وإن كان من المتعدي؛ فالمفعول محذوف، التقدير: إن زلزلة الساعة الناس، أو الأرض، وهو أحسن يدل عليه قوله تعالى:{إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها} أو الإضافة من إضافة المصدر للظرف، وإجرائه مجرى المفعول به، فيكون الفاعل محذوفا، {شَيْءٌ:} خبر {إِنَّ} . {عَظِيمٌ:} صفة {شَيْءٌ،} والجملة الاسمية:
{إِنَّ..} . إلخ تعليل لطلب «التقوى» لا محل لها.
الشرح: {يَوْمَ تَرَوْنَها:} يوم ترونها بأعينكم، وتشاهدون هولها. الخطاب للناس، والضمير المنصوب عائد على الزلزلة. {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أَرْضَعَتْ:} الذهول: الذهاب عن الأمر بدهشة؛ بحيث إذا دهشت التي ألقمت الرضيع ثديها نزعته من فيه وذهلت عنه.
و {مُرْضِعَةٍ} بالتاء لمن باشرت الإرضاع، وبلا تاء لمن شأنها الإرضاع، وإن تباشره. قال امرؤ القيس يخاطب ابنة عمه عنيزة:[الطويل]
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع
…
فألهيتها عن ذي تمائم محول
هذا؛ ويقال: لم يؤنث مرضع في بيت امرئ القيس؛ لأن المراد النسبة، أي: ذات إرضاع، أو: ذات رضيع، ومثلها: حائض، وطالق، وحامل. والاسم إذا كان من هذا القبيل؛ عرته العرب من علامة التأنيث، كما قالوا: امرأة لابن تامر، أي: ذات لبن، وذات تمر، ورجل لابن تامر، أي: ذو لبن، وذو تمر، ومنه قوله تعالى:{السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} نص الخليل على أن المعنى: السماء ذات انفطار به، لذلك تجرد لفظ منفطر من علامة التأنيث، بخلاف ما إذا بني الوصف على الفعل؛ أنث. فتقول: أرضعت، فهي مرضعة، كما في الآية الكريمة، والجمع:
مراضع، ومراضيع، ومرضعات، وانظر ما ذكرته في «عاقر» في الآية رقم [5] من سورة (مريم) على نبينا وعليها ألف صلاة وألف سلام.
{وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها} أي: تسقط من هول ذلك اليوم كل حامل حملها، قال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام، فعلى هذا
القول تكون الزلزلة في الدنيا؛ لأنه بعد البعث لا يكون حمل، ولا إرضاع. ومن قال: تكون الزلزلة في القيامة، قال: هذا على وجه تعظيم الأمر، وتهويله، لا على حقيقته.
هذا؛ و {حَمْلٍ} بفتح الحاء وسكون الميم، قال ابن السكيت: الحمل-بالفتح-: ما كان في بطن، أو على رأس شجرة. والحمل-بالكسر-: ما كان على ظهر، أو رأس. قال الأزهري: هذا هو الصواب، وهو قول الأصمعي، وقال القرطبي: وقد حكى يعقوب في حمل النخلة الكسرة. وقال أبو سعيد السيرافي: يقال في حمل المرأة: حمل وحمل يشبه مرة لا ستبطانه بحمل النخلة، ومرة لبروزه وظهوره بحمل الدابة.
{وَتَرَى النّاسَ سُكارى} أي: كأنهم سكارى من هول الزلزلة، ومما يدركهم من الخوف، والفزع، {وَما هُمْ بِسُكارى} أي: على الحقيقة. هذا؛ وقرئ: «(وترى الناس)» بضم التاء أي:
تظن، ويخيل إليك، وقرئ:«(سكرى)» وهما لغتان {وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ:} فأرهقهم هوله، بحيث طير عقولهم، وأذهب تمييزهم، ففي الآية الكريمة شبه الله الناس بسكارى الذين فقدوا التمييز، ثم نفى الله عنهم السكر الحقيقي الناتج عن شرب الخمر، ونحوه، وبيّن أن سببه شدة الهول، والخوف من العذاب الشديد، والعذاب الأليم.
أما {ذاتِ} فهي بمعنى صاحبة، وكثيرا ما تضاف للمصدر فجعلت صاحبة للصدور لملازمتها لها، وعدم انفكاكها عنها، نحو:(أصحاب الجنة، أصحاب النار) هذا؛ و (ذات) مؤنث: ذو، الذي بمعنى صاحب، وقد يثنى على لفظه، فيقال: ذاتا، أو ذاتي كذا من غير رد لام الكلمة، وهو القياس، كما يثنى «ذو» بذوا، أو ذوي على لفظه، ويجوز فيها:(ذواتا) على الأصل برد لام الكلمة، وهي الياء ألفا لتحرك العين، وهو الواو قبلها، وهو الكثير في الاستعمال؛ لأن أصلها (ذوية) الواو عين الكلمة، والياء لامها، والتاء للتأنيث؛ لأنه مؤنث «ذو» وذو أصله ذوي، فتحركت الياء، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فصار (ذوات) ثم حذفت الواو تخفيفا. وفي تثنيته وجهان: تارة ينظر للفظه الآن، فيقال: ذاتان، وتارة ينظر له قبل حذف الواو، فيقال: ذواتان فقوله تعالى في سورة (سبأ) رقم [16]{ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} وفي سورة (الرحمن) رقم [48]{ذَواتا أَفْنانٍ} جاء على الأصل برد لام الكلمة.
هذا؛ والتاء في (ذات) لتأنيث اللفظ، مثل تاء ثمّت، وربّت، ولات، ولكنها تعرب بالحركات الظاهرة على التاء، فالجر كما في الآية الكريمة، ومثلها كثير، والرفع جاء في قوله تعالى:{فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ} والنصب جاء في قوله تعالى: {سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ} وكل معانيها في القرآن الكريم صاحبة، إلا في موضعين، فإنها جاءت بمعنى الجهة، وذلك قوله تعالى:{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ} وقد رأيت تثنيتها في الآيتين المذكورتين في حالتي النصب، والجر، ولم ترد في القرآن الكريم بمعنى الجمع، هذا؛ ولم
يتعرض النحويون لها بهذا المعنى، مع كثرة تعرضهم ل:«ذي» بمعنى صاحب، وتثنيته، وجمعه، ولكنهم ذكروا (ذات) بمعنى «التي» و (ذوات) بمعنى اللواتي، وذلك في مبحث الاسم الموصول، قال ابن مالك رحمه الله في ألفيته:[الرجز]
وكالّتي أيضا لديهم ذات
…
وموضع اللاّتي أتى ذوات
قال الأشموني: أي عند طيئ ألحقوا ب: «ذو» تاء التأنيث مع بقاء البناء على الضم، حكى الفراء:(بالفضل ذو فضّلكم الله به، والكرامة ذات أكرمكم الله به) وقريب منه لابن هشام في أو ضحه، وكلاهما أورد بيت رؤبة شاهدا لذلك:[الرجز]
جمعتها من أينق موارق
…
ذوات ينهضن بغير سائق
والفرق بين الأولى، والثانية، الأولى لا تكون إلا مضافة لما بعدها كما رأيت بخلاف الثانية، فإنها لا تضاف؛ لأنها معرفة بالصلة التي تذكر بعدها كما رأيت في بيت رؤبة. تنبه لهذا؛ وافهمه، فإنه معنى دقيق، واسأل الله لي المزيد من التوفيق.
بعد هذا خذ ما يلي: روى الترمذي عن عمران بن حصين-رضي الله عنه-أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت: {يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ..} . إلى قوله: {وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ} قال: أنزلت عليه هذه الآية، وهو في سفر، فقال: أتدرون أيّ يوم ذلك؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال:«ذلك يوم يقول الله لآدم: ابعث بعث النار، قال: يا ربّ! وما بعث النار؟ قال: تسعمئة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنّة» . فأنشأ المسلمون يبكون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قاربوا، وسدّدوا، فإنّه لم تكن نبوّة قطّ إلاّ كان بين يديها جاهلية، قال: فيؤخذ العدد من الجاهلية، فإن تمّت وإلاّ كملت من المنافقين، وما مثلكم والأمم إلاّ كمثل الرّقمة في ذراع الدّابّة، أو كالشّامة في جنب البعير، ثمّ قال: إنّي لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة!» فكبّروا، ثم قال:«إني لأرجو أن تكونوا ثلاث أهل الجنّة!» فكبّروا ثمّ قال: «إنّي لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنّة» ، فكبّروا، قال:«لا أدري قال: الثّلثين أم لا؟» . قال: هذا حديث حسن صحيح.
وفي صحيح مسلم: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«يقول الله تعالى: يا آدم! فيقول: لبيك، وسعديك، والخير في يديك. قال، يقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كلّ ألف تسعمئة وتسعة وتسعون» . قال: «فذاك حين يشيب الصغير، وتضع كلّ ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكنّ عذاب الله شديد» ، قال: فاشتدّ ذلك على أصحابه، قالوا: يا رسول الله! أيّنا ذلك الرجل؟ فقال: «أبشروا، فإنّ من يأجوج ومأجوج ألفا، ومنكم رجل» . وذكر الحديث بنحو ما تقدم في حديث عمران بن حصين، رضي الله عنهم أجمعين.
الإعراب: {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل {تَذْهَلُ} بعده، أو هو متعلق ب:{عَظِيمٌ،} أو هو متعلق بفعل محذوف تقديره: اذكر، أو هو بدل من {السّاعَةِ،} فيكون مبنيا على الفتح في محل جر، أو هو بدل من {زَلْزَلَةَ} بدل اشتمال؛ لأن كلا من الحدث، والزمان يصدق عليه أنه مشتمل على الآخر، ولا يجوز أن يتعلق ب:{زَلْزَلَةَ} لما يلزم عليه من الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر. {تَرَوْنَها:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، و (ها): مفعوله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها. {تَذْهَلُ:} مضارع.
{كُلُّ:} فاعله، و {كُلُّ:} مضاف، و {مُرْضِعَةٍ} مضاف إليه. {عَمّا:} متعلقان بالفعل {تَذْهَلُ} . و (ما): تحتمل الموصولة، والمصدرية، فعلى الأول مبنية على السكون في محل جر ب:(عن)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف، التقدير: عن الذي أرضعته، وعلى الثاني تؤول (ما) مع الفعل بمصدر في محل جر ب:(عن)، التقدير: عن إرضاعها وليدها، وجملة:
{تَذْهَلُ..} . إلخ مستأنفة على الوجه الأول في تعليق الظرف، وهي في محل نصب حال على الأوجه الباقية من الضمير المنصوب، أو من «الزلزلة» ، أو من الضمير المستتر في {عَظِيمٌ} وإن كان مذكرا؛ لأنه هو الزلزلة في المعنى، أو من {السّاعَةِ} وعلى هذه الوجوه فلا بد من تقدير ضمير يربطها بصاحب الحال، تقديره: تذهل فيها. انتهى. جمل نقلا عن السمين.
(تضع): مضارع. {كُلُّ:} فاعله، وهو مضاف، و {ذاتِ} مضاف إليه، و {ذاتِ} مضاف، و {حَمْلٍ} مضاف إليه. {حَمْلَها:} مفعول به، و (ها): في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَتَضَعُ..} . إلخ معطوفة على جملة: {تَذْهَلُ..} . إلخ على جميع الوجوه المعتبرة فيها.
(ترى): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، والفاعل مستتر فيه تقديره:
«أنت» . {النّاسَ:} مفعول به، وعلى قراءة رفعه فهو نائب فاعله، والفعل مبني للمجهول.
{سُكارى:} حال منصوب
…
إلخ، وجملة {وَتَرَى..}. إلخ معطوفة على ما قبلها. {وَما:}
الواو: واو الحال. (ما): نافية حجازية تعمل عمل «ليس» أو هي مهملة. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع اسم (ما)، أو هو مبتدأ. {بِسُكارى:} الباء: حرف جر صلة.
(سكارى): خبر ما، أو خبر المبتدأ، والنصب، أو الرفع المحلّي مقدر على الألف للتعذر، والجملة الاسمية:{وَما هُمْ بِسُكارى} في محل نصب حال من الناس، وهذا على تقدير المستقبل حاضرا. {وَلكِنَّ:} الواو: حرف عطف. (لكن): حرف مشبه بالفعل. {عَذابَ:}
اسم (لكن) وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، ومفعوله محذوف. {شَدِيدٌ:} خبر لكن، والجملة الاسمية هذه معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها، وقال أبو حيان: معطوفة على محذوف مخالف لما بعد (لكن) في الحكم، لذا قدر الكلام كما يلي: فهذه الأحوال، وهي الذهول، والوضع، ورؤية الناس شبه السكارى هينة لينة، ولكن عذاب الله شديد، أي: ليس لينا وهينا.
{وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3)}
الشرح: نزلت الآية الكريمة في النضر بن الحارث، كان كثير الجدل، وكان يقول:
الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، وكان ينكر البعث، وإحياء من صار ترابا. انظر ما ذكرته بشأنه في الآية رقم [32/ 31] من سورة (الأنفال) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، ويقر عينك.
{وَيَتَّبِعُ} أي: في جداله، أو في عامة أحواله. {كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ:} المراد به: إبليس وجنوده، أو المراد: شياطين الإنس، وهم رؤساء الكفر الذين يدعون أتباعهم إلى الضلال، والفساد، و {مَرِيدٍ} متمرد مستمر في الإضلال، والإفساد يقال: مرد من بابي: نصر، وظرف:
إذا عتا وتجبر، فهو مارد، ومريد، وجمعه: مردة، ومرد، وماردون، ومرّاد، ومؤنثه: مرداء.
ومرد على الشيء: استمر عليه، قال تعالى:{وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ} رقم [101] من سورة (التوبة). انظر شرح شيطان في أول سورة (السجدة) في البسملة، والاستعاذة.
هذا، و (الله) علم على الذات الواجب الوجود، المستحق لجميع المحامد، وهو اسم الله الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، وإنما تخلفت الإجابة في بعض الأحيان عند الدعاء به؛ لتخلف شروط الإجابة التي أعظمها أكل الحلال، ولم يسم به أحد سواه، قال تعالى:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} أي: هل تعلم أحدا تسمى الله غير الله؟ وقد ذكر في القرآن الكريم في ألفين وثلاثمئة وستين موضعا، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [64] من سورة (مريم) عليهاالسّلام.
الإعراب: {وَمِنَ:} الواو: حرف استئناف. (من الناس): متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم. {مِنَ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. {يُجادِلُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (من). {فِي اللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما.
{بِغَيْرِ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، أي: ملتبسا بغير علم، وجملة:
{يُجادِلُ..} . إلخ صلة (من)، أو صفتها، والعائد أو الرابط رجوع الفاعل إليها، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، هذا هو الإعراب الظاهر، والمتعارف عليه في مثل هذه الجملة. وانظر ما ذكرته في مثلها في الآية رقم [45] من سورة (النور) تجد ما يسرك. (يتبع): مضارع، والفاعل يعود إلى (من). {كُلَّ:} مفعول به، و {كُلَّ} مضاف، و {شَيْطانٍ} مضاف إليه. {مَرِيدٍ:}
صفة {شَيْطانٍ،} وجملة {وَيَتَّبِعُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، والجملة الاسمية:{وَمِنَ النّاسِ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
{كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4)}
الشرح: {كُتِبَ عَلَيْهِ:} قضى الله على الشيطان: {أَنَّهُ مَنْ تَوَلاّهُ:} تبعه، وتبع وساوسه، وزخارفه، وأحابيله. {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ:} يضل من تولاه عن طرق الحق، والخير الموصل إلى
الجنة. {وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ:} يقوده إلى طريق الشر الموصل إلى جهنم وبئس المصير.
هذا؛ وقرئ (أنه) بفتح الهمزة، وكسرها في الموضعين.
هذا؛ و (السعير): النار الشديدة الاستعار، أي: الاحتراق، وهي واد في جهنم، أو دركة من دركات النار، وطبقاتها، والسّعير، كزبير بصيغة المصغر: اسم صنم لبني عنزة قال رشيد بن رميض العنزي: [الوافر]
حلفت بمائرات حول عوض
…
وأنصاب تركن لدى السّعير
فعوض عندهم صنم صغير، والسّعير صنم كبير، وخرج ابن أبي حلاس الكلبي على ناقته، فمرت به على ذلك الصنم، وقد ذبحت عنده قبيلة عنزة، فنفرت ناقته من الصنم، فأنشأ يقول:[الكامل]
نفرت قلوصي من عتائر صرّعت
…
حول السّعير يزوره ابنا يقدم
وجموع يذكر مهطعين جنابه
…
ما إن يحير إليهم بتكلّم
قال أبو المنذر: يقدم، ويذكر ابنا عنزة، فرأى بني هؤلاء يطوفون حول السّعير. انتهى بغدادي.
الإعراب: {كُتِبَ:} ماض مبني للمجهول. {عَلَيْهِ:} متعلقان به. {أَنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها، وهي ضمير الشأن. {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {تَوَلاّهُ:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر في محل جزم فعل الشرط، والهاء مفعول به، والفاعل يعود إلى {مَنْ}. {فَأَنَّهُ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.
(أنه): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {يُضِلُّهُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {مَنْ،} والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أنّ)، وجملة: (يهديه
…
) إلخ معطوفة عليها فهي في محل رفع مثلها، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ خبره محذوف، التقدير: فله أن يضله، أي فله إضلاله، أو في محل رفع خبر مبتدأ محذوف، التقدير:
فشأنه وحاله أن يضله، والجملة الاسمية على الاعتبارين في محل جزم جواب الشرط، وأيضا على قراءة الكسر فإنه ينتج جملة اسمية في محل جزم جواب الشرط، وجملة الشرط والجواب في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو {مَنْ،} هذا؛ وإن اعتبرت {مَنْ} موصولة فهي مبتدأ، وجملة:{تَوَلاّهُ} صلته، والجملة الاسمية {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} على الاعتبارين في محل رفع خبره، وزيدت الفاء في خبره؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية:{مَنْ تَوَلاّهُ..} . إلخ على الاعتبارين في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع نائب فاعل {كُتِبَ،} وعلى قراءته بالبناء للمعلوم، فالفاعل يعود إلى (الله)، والمصدر المؤول في محل نصب مفعول به. هذا؛ ويقرأ بكسر الهمزة في الموضعين، فالجملة الاسمية الأولى محكية بقول محذوف، أو هي محكية ب:{كُتِبَ} على تضمينه معنى القول،
وجملة: {كُتِبَ..} . إلخ في محل جر صفة ثانية ل: {شَيْطانٍ،} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم، وهي على تقدير «قد» قبلها، وتبقى الجملة:{فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {يا أَيُّهَا النّاسُ:} هذا النداء يعم جميع بني آدم. {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} أي: في شك من الإعادة، والإحياء بعد الموت. والمراد بالبعث: الخروج من القبور بعد النفخة الثانية، وما يعقبها من الحساب، والميزان، والصراط
…
إلخ، مما يكون يوم القيامة. {فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ:} هذا الخلق من التراب على قولين: غير مباشر، ومباشر، فالأول خلق أبينا آدم من تراب، كما رأيت في سورة (الحجر) الآية رقم [26]، والثاني: كل واحد منا خلق من التراب، وذلك إذا نظرنا إلى المادة التي يتخلق منها الإنسان، فإنها من الدم بلا ريب، والدم مصدره من الطعام، والشراب، وأنواع الغذاء، وكل ذلك مخرجه من التراب، كما هو معروف.
{ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ:} وهو المني، سمي نطفة لقلته، ويكون من الرجل، والمرأة، والجمع: نطاف، ونطف، والنطفة: الماء الصافي قل، أو كثر. {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} أي: من دم جامد غليظ، وذلك أن النطفة تصير دما غليظا بعد أربعين يوما من استقرارها في الرحم، والعلقة: دويبة سوداء تعيش في الأرض الرطبة، والجمع: علق. {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ:} وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ في الفم، وهذا يكون بعد ثمانين يوما من استقرار النطفة في الرّحم.
{مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: أي تامة الخلق، وغير تامة الخلق، وقيل: مصورة وغير مصورة، وقال ابن زيد: المخلقة التي خلق الله فيها الرأس، واليدين، والرجلين، {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} التي لم يخلق فيها شيء. وقيل: المخلقة: الولد الذي تأتي به المرأة لوقته، وغير المخلقة: السقط، فكأنه سبحانه قسم المضغة قسمين: أحدهما تام الصورة، والحواس، والتخطيط، والقسم الثاني هو الناقص عن هذه الأحوال كلها، وانظر الطورين الآخرين في الآية رقم [14] من سورة (المؤمنون).
هذا؛ وروى علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه-موقوفا عليه، قال: إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه، وقال: أي رب! مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة قذفها في الرحم دما، ولم تكن نسمة، وإن قال: مخلقة، قال الملك: أي رب! أذكر، أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ ما الأجل؟ ما العمل؟ ما الرزق؟ بأي أرض تموت؟ فيقال له: اذهب إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك، فيذهب، فيجدها في أم الكتاب، فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفته.
وعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدّق:«إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمّه أربعين يوما، ثمّ يكون علقة مثل ذلك، ثمّ يكون مضغة مثل ذلك، ثمّ يرسل الملك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيّ أو سعيد، فو الذي لا إله غيره! إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة حتّى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها، وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتّى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» . رواه البخاري، ومسلم.
{لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} أي: وإنما نقلناكم من حال إلى حال، ومن خلقة إلى خلقة؛ لنبين لكم بهذا التدريج كمال قدرتنا، وحكمتنا، وأن من قدر على خلق البشر من تراب أولا، ثم من نطفة ثانيا، ولا مناسبة بين الماء والتراب، وقدر أن يجعل النطفة علقة، والعلقة مضغة، والمضغة عظاما؛ قدر على إعادة ما بدأه. {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ} أي: نثبت في أرحام الأمهات. {ما نَشاءُ} أي:
الذي نشاء ثبوته، والتعبير ب:{ما} عن الحمل، والمراد به العاقل من بني آدم؛ لأن الكلام على العلقة، والمضغة، وهما جماد قبل نفخ الروح فلذا صح التعبير عنهما ب:{ما} التي هي لغير العاقل. {إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي: وقت الولادة، أي وما لم نشأ ثبوته؛ أسقطته الأرحام.
{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أي: وقت الولادة من بطون أمهاتكم، المراد ب:{طِفْلاً} الجنس، ولذا لم يجمع، وأيضا فإن العرب قد تسمي الجمع باسم الواحد، قال الشاعر:[الكامل]
يا عاذلاتي، لا تردن ملامتي
…
إنّ العواذل لسن لي بأمير
لم يقل: بأمراء. وقال المبرد: هو اسم يستعمل مصدر كالرضا، والعدل، فيقع على الواحد وعلى الجمع، قال الله تعالى:{أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ} وانظر شرح:
{سامِراً} في الآية رقم [67] من سورة (المؤمنون). والطفل: ولد كل وحشية، والمطفل: ذات الطفل من الإنسان، والحيوان، والوحش
…
إلخ، والجمع: مطافل، ومطافيل. {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} أي: كمال العقل، والقوة، والتمييز، والأشد جمع: شدة، كالأنعم جمع: نعمة، وقيل: هو من ألفاظ الجموع التي لا يستعمل لها واحد. {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى} أي: عند بلوغ
الأشد، أو قبله، أو بعده. {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً:}
انظر الآية رقم [70] من سورة (النحل) ففيها الكفاية لذوي الدراية.
{وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً:} هذا دليل آخر على قدرته تعالى على إعادة الخلق بعد الموت، ومعنى {هامِدَةً} يابسة ميتة، من: همدت النار: إذا صارت رمادا. {فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ:} تحركت بالنبات، والاهتزاز: شدة الحركة. {وَرَبَتْ} أي: ارتفعت وزادت. {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ:} من كل صنف من أصناف النبات. {بَهِيجٍ:} حسن جميل، والبهيج: هو الشيء المبهج، المشرق، النضير. ولا يخفى أن فاعل الاهتزاز، والربو، والإنبات إنما هو الله تعالى، وإسناده للأرض إنما هو من باب المجاز العقلي.
الإعراب: {يا أَيُّهَا النّاسُ:} انظر الآية رقم [1]{إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {فِي رَيْبٍ:} متعلقان بمحذوف خبر {كُنْتُمْ،} والجملة الفعلية هذه لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {مِنَ الْبَعْثِ:} متعلقان ب: {رَيْبٍ؛} لأنه مصدر، أو بمحذوف صفة له.
{فَإِنّا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنا): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، وحذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {خَلَقْناكُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ). {مِنْ تُرابٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان محذوف حال من الفاعل المستتر، التقدير: مبتدئا خلقكم من تراب. {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ:} معطوفان على ما قبلهما، وأيضا {مِنْ عَلَقَةٍ،} {مِنْ مُضْغَةٍ:} معطوفان على ما قبلهما. {مُخَلَّقَةٍ:} صفة مضغة.
{وَغَيْرِ:} معطوف على {مُخَلَّقَةٍ،} و (غير) مضاف، و {مُخَلَّقَةٍ} مضاف إليه.
{لِنُبَيِّنَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر تقديره:
«نحن» ، والمفعول محذوف، انظر الشرح، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور، قال الجمل: متعلقان ب: {خَلَقْناكُمْ} على أن اللام فيه للعاقبة، وأرجح تعليقهما بمحذوف، انظر تقدير الكلام في الشرح، و (إنّ) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له كالجملة الندائية قبله. {وَنُقِرُّ:} الواو: حرف استئناف. (نقر): مضارع مرفوع، والفاعل تقديره:«نحن» ، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. هذا؛ ويقرأ الفعل بالنصب عطفا على (نبين) كما يقرأ بالياء والتاء، وبالبناء للمعلوم، وبالبناء للمجهول قراآت. {فِي الْأَرْحامِ:}
متعلقان بالفعل قبلهما. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعده صلته، والعائد محذوف، التقدير: الذي نشاؤه. {إِلى أَجَلٍ:} متعلقان بالفعل (نقر) وقيل: متعلقان بمحذوف حال، فيكون التقدير: ممتدا، أو مستقرا الجنين إلى أجل.
{مُسَمًّى:} صفة {أَجَلٍ} مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف المحذوفة لا لتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها.
{ثُمَّ:} حرف عطف. {نُخْرِجُكُمْ:} معطوف على (نقر) على رفعه، ونصبه، والفاعل تقديره:«نحن» ، والكاف مفعول به. {طِفْلاً:} حال من الكاف، والميم، وانظر الشرح، وقيل:
هو تمييز. {ثُمَّ:} حرف عطف. {لِتَبْلُغُوا:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، أو العاقبة منصوب، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، التقدير: ثم نربيكم لبلوغكم. هذا؛ وقيل: {ثُمَّ} زائدة، وعليه فالجار والمجرور متعلقان بالفعل (نخرج) والأول أقوى. {أَشُدَّكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة.
{وَمِنْكُمْ:} الواو: حرف استئناف. (منكم): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنَ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. {يُتَوَفّى:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، ونائب الفاعل يعود إلى {مِنَ} وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة {مِنَ} أو صفتها. هذا؛ ويقرأ الفعل بالبناء للمعلوم، فيكون الفاعل عائدا إلى الله، وعائد من محذوف، التقدير: يتوفاه الله. هذا هو الإعراب المتعارف عليه في مثل هذه الجملة، وانظر الآية رقم [45] من سورة (النور)، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، وإعراب {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ} مثلها بلا فارق. {إِلى أَرْذَلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما و {أَرْذَلِ} مضاف، و {الْعُمُرِ} مضاف إليه. {لِكَيْلا} اللام: حرف تعليل وجر. و (كي): حرف مصدري، ونصب. (لا): نافية. {يَعْلَمَ:} مضارع منصوب ب: (كي)، والفاعل يعود إلى {مِنَ} .
{مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {بَعْدِ} مضاف {عِلْمٍ:} مضاف إليه. {شَيْئاً:} مفعول به، واكتفى الفعل {يَعْلَمَ} بمفعول واحد؛ لأنه بمعنى: يعرف، وقيل تنازعه الفعل، والمصدر {عِلْمٍ،} ولا أرى له وجها قويا. و (كي) والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {يُرَدُّ:} التقدير: يرد إلى أرذل العمر لعدم علمه بعد علم شيئا.
{وَتَرَى:} الواو: حرف استئناف. (ترى): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {الْأَرْضَ:} مفعول به. {هامِدَةً:} حال من الأرض، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {فَإِذا:} الفاء: حرف عطف، وتفريع. (إذا):
ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه، منصوب بجوابه صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {أَنْزَلْنا:} فعل، وفاعل. {عَلَيْهَا:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الْماءَ:}
مفعول به، وجملة:{أَنْزَلْنا..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذا) إليها على القول المشهور
المرجوح. {اِهْتَزَّتْ:} ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى الأرض، والجملة الفعلية جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله لا محل له مثله، وجملة:
{وَرَبَتْ} معطوفة على جواب (إذا) لا محل لها، وأيضا جملة:{وَأَنْبَتَتْ..} . إلخ معطوفة عليه لا محل لها. {مِنْ كُلِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، و {كُلِّ} مضاف، و {زَوْجٍ} مضاف إليه. {بَهِيجٍ:} صفة {زَوْجٍ} .
الشرح: {ذلِكَ:} إشارة إلى ما ذكر من خلق الإنسان في أطوار مختلفة، وتحويله على أحوال متضادة، وإحياء الأرض بعد موتها. {بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ} أي: الذي ذكر حاصل وموجود بسبب أن الله هو الثابت الذي لا يتغير، ولا يتبدل، ولا يحول، ولا يزول. {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى} أي: يعيد الأرواح إلى الأبدان التي تفتتت، وصارت رمما، بعد خلقها خلقا جديدا. {وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: ومن كان كذلك فإنه لا يعجز عن إعادة الخلق كما بدأه، وهو أهون عليه، وله المثل الأعلى.
الإعراب: {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {بِأَنَّ:} الباء: حرف جر. (أن): حرف مشبه بالفعل.
{اللهَ:} اسمها. {هُوَ:} ضمير فصل لا محل له، أو هو توكيد لاسم (أنّ) على المحل.
{الْحَقُّ:} خبر (أنّ). هذا؛ ويجوز اعتبار الضمير مبتدأ و {الْحَقُّ} خبره، وتكون الجملة الاسمية في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. (أنه): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {يُحْيِ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والفاعل يعود إلى {اللهَ}. {الْمَوْتى:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، وجملة:{يُحْيِ الْمَوْتى} في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر معطوف على ما قبله، فهو في محل جر مثله، وأيضا المصدر المؤول من {وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ..} . إلخ معطوف عليه، فهو في محل جر مثله. هذا؛ وقيل:{ذلِكَ} خبر مبتدأ محذوف، أي: الأمر ذلك. وقيل: مفعول به بفعل محذوف؛ أي: فعلنا ذلك. وعلى هذين القولين فالجار والمجرور متعلقان بالمحذوف المقدر. والأول هو المعتمد. تأمل!.
{وَأَنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)}
الشرح: المعنى ما ذكر الله من الدلائل فيما تقدم؛ لتعلموا علما حقيقا: أنّ الساعة كائنة لا شك فيها، وأنّها حق، وأنّ إخراج الموتى من قبورهم واقع لا محالة؛ لأنه تعالى قد وعد
بذلك، ولا يخلف الله وعده. وانظر شرح {السّاعَةَ} في الآية رقم [49] من سورة (الأنبياء)، وعلاماتها في الآية رقم [96] منها.
الإعراب: {وَأَنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ:} (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر، وهذا المصدر معطوف على ما قبله من حيث اللفظ، وليس عطفا في المعنى، بل لا بد من تقدير فعل يتضمنه؛ أي: وليعلموا: أن الساعة آتية، والجار والمجرور الناتجان من:«ليعلموا» معطوفان على قوله:
{بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ} وعلى هذا فالمصدر المؤول من: (أن الساعة آتية) في محل نصب سد مسد مفعول الفعل المقدر. وقيل: المصدر المؤول خبر مبتدأ محذوف. والأول أقوى. {لا:} نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» . {رَيْبَ:} اسم {لا} مبني على الفتح في محل نصب. {فِيها:}
متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر {لا،} والجملة الاسمية: {لا رَيْبَ فِيها} في محل رفع خبر ثان؛ ل: (أنّ)، أو هي في محل نصب حال من الضمير المستتر في {آتِيَةٌ،} وفيها معنى التوكيد. {وَأَنَّ:} الواو: حرف عطف. (أن): حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها.
{يَبْعَثُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهَ}. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {فِي الْقُبُورِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، وجملة:{يَبْعَثُ..} .
إلخ في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر معطوف على ما قبله على جميع الوجوه المعتبرة فيه.
{وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8)}
الشرح: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ:} هذا الكلام تقدم بحروفه في الآية رقم [3] وليس مكررا بمعناه، وإن تكرر لفظه؛ لأن الآية الأولى واردة في المقلّدين-بكسر اللام- لتقليدهم، واتباعهم للشيطان، وهذه واردة في المقلّدين-بفتح اللام-قال الزمخشري: وهو أوفق وأظهر في المقام. {وَلا هُدىً} أي: لا سند له في جداله، وليس معه بيان من الله، وليس هو على بينة من أمره. {وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ} أي: وليس معه كتاب منزل من الله ينير له طريقه، بل هو يخبط خبط عشواء في ليلة ظلماء.
تنبيه: قيل: نزلت الآية في أبي جهل الخبيث، والمعتمد: أنها نزلت في النضر بن الحارث كما في الآية رقم [3] وخصوص السبب لا يمنع التعميم، ففي كل زمان وفي كل مكان يوجد مجادلون في الله بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير، وما أكثرهم في هذا الزمن، الذي كثر فيه الملحدون، والمجرمون، ومن هذا الصنف من يدعي: أن الإيمان في القلب، وليس في الصوم، والصلاة، ومنهم من يدعي: أنه لا يكذب، ولا يؤذي الناس، وهذا هو الدين عنده، ويهمل ما أوجب الله من فرائض، وواجبات دينية زادهم الله خزيا، وندامة يوم القيامة.
الإعراب: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ..} . إلخ: انظر الآية المذكورة ففيها الكفاية. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): صلة لتأكيد النفي. {هُدىً:} معطوف على {عِلْمٍ} مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والثابتة دليل عليها، وليس عينها. {وَلا:} الواو:
حرف عطف. (لا): صلة لتأكيد النفي. {كِتابٍ:} معطوف على ما قبله. {مُنِيرٍ:} صفة {كِتابٍ} .
الشرح: {ثانِيَ عِطْفِهِ} أي: لاو جنبه، وعنقه متبخترا لتكبره، معرضا عمّا يدعى إليه من الحق تكبرا، فهو كقوله تعالى في الآية رقم [83] من سورة (الإسراء):{أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ} .
هذا؛ وقال المبرد: العطف: ما انثنى من العنق. وقال المفضل: والعطف: الجانب، ومنه قولهم: فلان ينظر في أعطافه؛ أي: في جوانبه، وعطفا الرجل: من لدن رأسه إلى وركيه. هذا؛ وكلّ بكسر العين، ويقرأ بفتح العين بمعنى: العطف، والشفقة، فيكون المعنى: مانع تعطفه، وشفقته على غيره. {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} أي: ليمنع الناس، ويصدهم عن دين الله، وهو بضم الياء من الرباعي، ويقرأ بفتحها من الثلاثي، فيكون المعنى: إن إعراضه عن الهدى المتمكن منه بالإقبال على الجدال الباطل خروج من الهدى إلى الضلال. هذا؛ ومصدر الثلاثي: الضلال، ومصدر الرباعي: الإضلال.
{لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ} أي: عذاب، وهوان، وهو وعد من العلي القدير، وقد حقق الله وعده؛ حيث قتل يوم بدر صبرا. انظر الآية رقم [31 و 32] من سورة (الأنفال). {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ} أي: عذاب النار المحرق، فقد جمع الله عليه خزي الدنيا، وعذاب الآخرة. هذا؛ وانظر شرح (سبيلا) في الآية رقم [43] من سورة (الإسراء) أما «الذوق» فيكون محسوسا، ومعنويا، وقد يوضع موضع الابتلاء والاختبار، تقول: اركب هذا الفرس فذقه؛ أي: اختبره، وانظر فلانا، فذق ما عنده. قال الشماخ يصف قوسا:[الطويل]
فذاق، فأعطته من اللّين جانبا
…
كفى ولها أن يغرق السّهم حاجز
وأصله من الذوق بالفم، و (ذوقوا) في كثير من الآيات للإهانة، وفيه استعارة تبعية تخييلية، وفي (العذاب) استعارة مكنية، حيث شبه العذاب بشيء يدرك بحاسة الأكل، وشبه الذوق بصورة ما يذاق، وأثبت للذوق تخييلا.
أما (يضل) من الثلاثي فأكثر استعماله في القرآن الكريم بمعنى الكفر، والخروج عن جادة الحق والصواب، وهو ضد: اهتدى، واستقام، ويأتي «ضل» بمعنى: غاب، كما في قوله
تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} وضل الشيء: ضاع وهلك، وضل: أخطأ، ولولا هذا المعنى؛ لكفر أولاد يعقوب بقولهم لأبيهم في حضرته:{تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} وقولهم في غيبته: {إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} . وضل: تحير، وهو أقرب ما يفسر به قوله تعالى لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم:{وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى} .
الإعراب: {ثانِيَ:} حال من فاعل {يُجادِلُ} المستتر، و {ثانِيَ} مضاف، و {عِطْفِهِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والهاء في محل جر بالإضافة. {لِيُضِلَّ:}
مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وفاعله يعود إلى (من)، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {يُجادِلُ} أو ب:
{ثانِيَ} . {عَنْ سَبِيلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {سَبِيلِ} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه.
{اللهِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فِي الدُّنْيا:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. {خِزْيٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. وأجيز اعتبارها حالا من فاعل {يُجادِلُ} أيضا. {وَنُذِيقُهُ:} الواو:
حرف عطف. (نذيقه): مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به أول. {يَوْمَ:}
ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، ويوم مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه. {عَذابَ:} مفعول به ثان، و {عَذابَ} مضاف، و {الْحَرِيقِ} مضاف إليه، من إضافة الموصوف لصفته، والجملة الفعلية {وَنُذِيقُهُ..} . إلخ معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، على الوجهين المعتبرين فيها.
{ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ (10)}
الشرح: {ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ:} الإشارة إلى العذاب المذكور في الآية السابقة، أي:
يقال له يوم القيامة إذا دخل النار: ذلك العذاب بما قدمت يداك من الكفر، والمعاصي. وعبر باليدين عن الجملة؛ لأن سائر الأعمال بهما، ولأن اليد هي التي تفعل، وتبطش للجملة. وفي الكلام التفات من الغيبة في الآية السابقة إلى الخطاب في هذه الآية، وانظر الالتفات في الآية رقم [34] من سورة (الأنبياء). {وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ:} ليس المراد ب {بِظَلاّمٍ} المبالغة حتى تنتفي المبالغة، ويبقى أصل الظلم، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وإنما المراد نفي نسبة الظلم إليه تعالى؛ إذ المعنى: ليس بذي ظلم، وينبغي أن تعلم: أن الآية الكريمة قد ذكرت بحروفها في سورة (آل عمران) برقم [182]، وفي سورة (الأنفال) برقم [51] مع اختلاف المراد في كل سورة، وانظر شرح «اليد» في الآية رقم [64] من سورة (مريم) على نبينا، وحبيبنا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام، وانظر شرح {عِبادِيَ} في الآية رقم [105] من سورة (الأنبياء). هذا؛ واسم الإشارة {ذلِكَ} بمعنى:«هذا» ودخلت عليه اللام للتهويل، والتفظيع.
الإعراب: {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له:{بِما:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، وهي مبنية على السكون في محل جر بالباء. {قَدَّمَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث. {يَداكَ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو بشيء قدمته يداك. {وَأَنَّ:} الواو: حرف عطف.
(أنّ): حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {لَيْسَ:} ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {اللهَ} . {بِظَلاّمٍ:} الباء: حرف جر صلة. (ظلام): خبر {لَيْسَ} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {لِلْعَبِيدِ:} متعلقان ب: (ظلام)، وجملة:{لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ} في محل رفع خبر (أنّ). وأن واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر معطوف على (ما)، والجملة الاسمية:{ذلِكَ بِما..} . إلخ في محل نصب مقول القول محذوف، انظر تقديره في الشرح، والقول المقدر ومقوله كلام مستأنف لا محل له، وإذا قدرت الفعل:«ونقول له» فالجملة الفعلية معطوفة على جملة (نذيقه
…
) إلخ وبدون تقدير الواو معها فالجملة تكون في محل نصب حال من فاعل (نذيقه).
الشرح: قال أبو سعيد الخدري-رضي الله عنه: أسلم رجل من اليهود فذهب بصره، وماله، فتشاءم بالإسلام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أقلني! فقال: «إن الإسلام لا يقال» فقال: إني لم أصب في ديني هذا خيرا، ذهب بصري، ومالي، وولدي، فقال:«يا يهوديّ! إن الإسلام يسبك الرجال، كما تسبك النار خبث الحديد، والفضة، والذهب» . فأنزل الله هذه الآية.
وروى إسرائيل عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس-رضي الله عنهم أجمعين-: أنها نزلت في قوم من الأعراب، كانوا يقدمون المدينة مهاجرين من باديتهم، فكان أحدهم إذا قدم المدينة، فصح بها جسمه، ونتجت بها فرسه مهرا، وولدت امرأته غلاما، وكثر ماله؛ قال: هذا دين حسن، وقد أصبت فيه خيرا، واطمأن له، وإن أصابه مرض، وولدت امرأته جارية، ولم تلد فرسه، وقل ماله؛ قال: ما أصبت منذ دخلت في هذا الدين إلا شرا، فينقلب عن دينه، فذلك هو الفتنة، فأنزل الله هذه الآية. وهذا يعني: أن الآية وما بعدها مدنيات، وانظر ما ذكرته في أول السورة.
ومعنى {عَلى حَرْفٍ:} على شك، وحقيقته: أنه على ضعف في عبادته، كضعف القائم على حرف مضطرب فيه، وحرف كل شيء طرفه، وشفيره، وحده، ومنه: حرف الجبل، والحائط الذي غير مستقر، فقيل للشاك في الدين: إنه يعبد الله على حرف؛ لأنه لم يدخل فيه على الثبات، والتمكن. {فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ} أي: صحة في جسمه، وسعة في معيشته. {اِطْمَأَنَّ بِهِ:}
رضي به، وسكن إليه. {وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ:} بلاء في جسمه، وضيق في معيشته. {اِنْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ} أي: ارتد، ورجع على عقبه إلى ما كان عليه من الكفر. هذا؛ و (أصاب) يحتمل معاني كثيرة، تقول: أصاب السهم، يصيب: لم يخطئ هدفه.
وأصاب الرجل في قوله، أو رأيه: أتى بالصواب. وأصاب فلانا البلاء، يصيبه: وقع عليه.
{خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ} أي: خسر في الدنيا العزة، والكرامة، ولا يبقى دمه وماله مصونا، وفي الآخرة ماله النار، وبئس القرار. {ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ} أي: الظاهر؛ الذي لا خسران مثله. هذا؛ وقد قيل في تفسير الخسران في الآخرة: أنه جعل لكل واحد من بني آدم منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل الكفار التي في الجنة، وجعل للكفار منازل المؤمنين التي في النار، فذلك هو الخسران، وأي خسران أعظم من هذا الخسران. وانظر الآية رقم [10] من سورة (المؤمنون) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
هذا؛ وفي الآية استعارة تمثيلية، وهي أنه نزّل من دخل في الإسلام، من غير اعتقاد، وصحة قصد منزلة الحالّ على طرف شيء في تزلزله، وعدم ثباته، وفي تقريره بيان للمعنى المراد المجازي انتهى
…
جمل نقلا عن كرخي.
بعد هذا انظر شرح الدنيا في الآية رقم [72] من سورة (طه)، والمراد ب (الآخرة) الحياة الثانية، التي تكون بعد الموت، ثم بعد الحساب، والجزاء، ودخول الجنة، والخلود فيها، أو دخول النار، والخلود فيها. وانظر شرح (العبادة) في الآية رقم [66] من سورة (الأنبياء)، وانظر شرح {النّاسِ} في الآية رقم [1] منها.
أما {الْمُبِينُ} فهو اسم فاعل من أبان الرباعي، أصله: المبين بسكون الباء، وكسر الياء، فنقلت كسرة الياء إلى الباء بعد سلب سكونها؛ لأن الحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، ولا تنس: أن اسم الفاعل من «بان» الثلاثي: «بائن» أصله باين، وإعلاله مثل إعلال:
قائم في الآية رقم [26] الآتية.
الإعراب: {وَمِنَ:} الواو: حرف استئناف. (من الناس): متعلقان بمحذوف خبر مقدم.
{مِنَ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. {يَعْبُدُ:}
مضارع، والفاعل يعود إلى (من)، وهو العائد، أو الرابط. {اللهَ:} مفعول به. {عَلى حَرْفٍ:}
متعلقان بمحذوف حال من فاعل {يَعْبُدُ} المستتر، أي: متزلزلا، وجملة:{وَمِنَ النّاسِ مَنْ..} . إلخ
مستأنفة لا محل لها، وانظر الآية رقم [45] من سورة (النور) تجد ما يسرك. {فَإِنْ:} الفاء:
حرف استئناف وتفريع. (إن): حرف شرط جازم. {أَصابَهُ:} ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والهاء مفعول به. {خَيْرٌ:} فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {اِطْمَأَنَّ:} ماض مبني على الفتح في محل جزم جواب الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {أَصابَهُ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف، ومفرع عما قبله لا محل له.
وإعراب: {وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ} مثلها بلا فارق. {عَلى وَجْهِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {خَسِرَ:} ماض، والفاعل يعود إلى {مِنَ}. {الدُّنْيا:} مفعول به منصوب. {وَالْآخِرَةَ:} معطوف على الدنيا، والجملة الفعلية:{خَسِرَ..} . إلخ تحتمل الاستئناف، فلا محل لها، وتحتمل الحالية من فاعل {اِنْقَلَبَ،} ولا حاجة إلى إضمار «قد» على الصحيح، وتحتمل البدلية من قوله {اِنْقَلَبَ،} كما أبدل المضارع من مثله في قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ} هذا؛ ويقرأ: «(خاسر)» على أنه اسم فاعل، وهو حال من فاعل {اِنْقَلَبَ،} وعليه فهو مضاف، و {الدُّنْيا} مضاف إليه، ويكون (الآخرة) معطوفا على {الدُّنْيا} مجرورا مثله. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.
{هُوَ:} ضمير فصل لا محل له، أو هو بدل من ذلك. {الْخُسْرانُ:} خبر المبتدأ. {الْمُبِينُ:}
صفته، هذا؛ وإن اعتبرت (هو) مبتدأ، و {الْخُسْرانُ} خبره. فتكون الجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12)}
الشرح: {يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ:} يعبد من دون الله، وانظر (يدعو) في الآية رقم [110] من سورة (الإسراء)، وانظر (دون) في الآية رقم [14] من سورة (الكهف)، وشرح لفظ الجلالة في الآية رقم [3] {ما لا يَضُرُّهُ:} المراد به: الصنم الذي لا يضره إن أعرض عن عبادته، وتقديسه، والذي لا ينفعه بشيء إن أطاعه، وعبده. {ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} أي: من الرشد، والحق، والصواب. و {الضَّلالُ} مصدر «ضل» الثلاثي: وانظر الآية رقم [9] فهو مستعار من ضلال من أبعد في التيه ضلالا، أو هو مجاز عقلي، على حد: جد جده؛ لأن البعيد في الحقيقة إنما هو الضال؛ لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق، فوصف به فعله.
الإعراب: {يَدْعُوا:} مضارع مرفوع. وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل يعود إلى {مِنْ}. {مِنْ دُونِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل: متعلقان بمحذوف حال،
و {دُونِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، وجملة:{لا يَضُرُّهُ} صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: رجوع الفاعل إليها. {وَما لا يَنْفَعُهُ} معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله بلا فارق، وجملة:{يَدْعُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من فاعل {خَسِرَ} العائد إلى {مِنْ} فتكون حالا متداخلة. {ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ:} إعراب هذه الجملة ومحلها مثل إعراب: {ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ} بلا فارق. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
{يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)}
الشرح: {يَدْعُوا} أي: يعبد ذلك الشخص المذكور في الآية رقم [11]. {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ:} لقد أثبت الله للصنم في هذه الآية الضر، والنفع، ونفاهما عنه في الآية السابقة، فحصل التعارض، والتناقض، والجواب: أن الصنم لا يضر، ولا ينفع بنفسه، ولكن بسبب عبادته، فنسب الضرر إليه، كما في قوله تعالى حكاية عن قول إبراهيم-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النّاسِ} حيث أضاف إلى الأصنام الإضلال، من حيث إنها سبب الضلال، وحاصله: أن الصنم لا ضرر له، ولا نفع له بنفسه، وله ذلك بسبب معبوديته، أما الضرر؛ فظاهر، وأما النفع؛ فبزعم عابديه، وانظر شرح الآية السابقة.
هذا؛ والضر-بفتح الضاد-شائع في كل ضرر، ومصيبة، وبضم الضاد خاص بما في النفس كمرض، وهزال. وفي القاموس المحيط: الضر، والضرر: ضد النفع، والشدة، والضيق، وسوء الحال والنقصان يدخل في الشيء، والجمع: أضرار، وانظر ما ذكرته في رقم [83] من سورة (الأنبياء). أما {الْمَوْلى،} فإنه يطلق ويراد به الإله المعبود بحق، كما يطلق على السيد، والعبد، والحليف، والنصير، والصاحب، وابن العم، وانظر شرح (بئس) في الآية رقم [78]. {الْعَشِيرُ:} المصاحب، والمعاشر..
الإعراب: {يَدْعُوا:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {لَمَنْ} أيضا. {لَمَنْ ضَرُّهُ..} . إلخ: قال أبو البقاء رحمه الله تعالى: هذا موضع اختلفت فيه آراء النحاة، وسبب ذلك: أن اللام تعلق الفعل الذي قبلها عن العمل إذا كان من أفعال القلوب، و (يدعو) ليس منها، وهم في ذلك على طريقين:
أحدهما: أن يكون {يَدْعُوا} غير عامل فيما بعده، لا لفظا، ولا تقديرا، وفيه على هذا ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون تكريرا ل: {يَدْعُوا} الأولى، فلا يكون له معمول، قال ابن هشام: وهذا خلاف الأصل مرتين؛ إذ الأصل عدم التوكيد، والأصل أن لا يفصل المؤكد من توكيده، ولا سيما في التوكيد اللفظي. الثاني: أن يكون {ذلِكَ} [الحج: 10] بمعنى «الذي»
في موضع نصب. ب: {يَدْعُوا} أي: يدعو الذي هو الضلال. ولكنه قدم المفعول، قال ابن هشام: وهذا الإعراب لا يستقيم عند البصريين؛ لأن (ذا) لا تكون عندهم موصولة إلا إذا وقعت بعد (ما) أو (من) الاستفهاميتين. انتهى. أي وهذا يجيزه الكوفيون. الثالث: أن يكون التقدير: ذلك هو الضلال البعيد يدعوه، فالجملة الفعلية في محل نصب حال، والمعنى: ذلك هو الضلال البعيد مدعوا. وقال أبو البقاء: وفيه ضعف، ولم يضعفه ابن هشام، وعلى هذه الأوجه الكلام بعده مستأنف و (من) مبتدأ، والخبر جملة:{لَبِئْسَ الْمَوْلى..} . إلخ.
الطريق الثاني: أن {يَدْعُوا} متصل بما بعده، وفيه على هذا ثلاثة أوجه أيضا: أحدها: أنّ {يَدْعُوا} يشبه أفعال القلوب؛ لأن معناه: يسمي من ضرّه أقرب من نفعه إلها، ولا يصدر ذلك إلا عن اعتقاد، فكأنه قال: يظن. والأحسن أن تقديره: يزعم؛ لأن «يزعم» قول مع اعتقاد، والثاني: أن يكون {يَدْعُوا} بمعنى يقول، و (من) مبتدأ، و (ضره) مبتدأ ثان، و (أقرب) خبره، والجملة الاسمية صلة (من)، وخبر (من) محذوف، تقديره: إله، أو إلهي، وموضع الجملة نصب بالقول، وجاء (يدعو) بمعنى «يقول» في قول عنترة:[الكامل]
يدعون عنتر والرماح كأنها
…
أشطان بئر في لبان الأدهم
{لَبِئْسَ..} . إلخ، مستأنف؛ لأنه لا يصح دخوله في الحكاية؛ لأن الكفار لا يقولون عن أصنامهم: لبئس المولى، والوجه الثالث: قول الفراء، وهو أن التقدير: يدعو من لضره، ثم قدم اللام على موضعها. وهذا بعيد؛ لأن ما في صلة «الذي» لا يتقدم عليها. انتهى.
بتصرف كما رأيت.
هذا؛ وقيل: إن اللام زائدة، ورده ابن هشام بقوله: وهذا مردود؛ لأن زيادة اللام في غاية الشذوذ، فلا يليق تخريج التنزيل عليه، ونقل الجمل عن السمين قوله: وزيدت اللام فيه، كما زيدت في قوله تعالى:{رَدِفَ لَكُمْ} في أحد القولين. وقرأ عبد الله: «(يدعو من ضره
…
)» إلخ بغير لام الابتداء، وهي مؤيدة لهذا الوجه. انتهى. هذا؛ وقال القرطبي: وقال الفراء، والكسائي، والزجاج: معنى الكلام القسم، والتأخير، أي: يدعو والله لمن ضره أقرب من نفعه، فاللام مقدمة في غير موضعها، و (من) في موضع نصب ب:{يَدْعُوا،} واللام جواب القسم. وضعف النحاس تأخير اللام، وقال: ليس للام من التصرف ما يوجب أن يكون فيها تقديم، ولا تأخير، وأخيرا استحسن النحّاس اعتبار {يَدْعُوا} بمعنى يقول. انتهى. بتصرف كبير. {لَبِئْسَ:} اللام: لام الابتداء، أو هي واقعة في جواب قسم محذوف. (بئس): ماض جامد دال على إنشاء الذم.
{الْمَوْلى:} فاعله، والمخصوص بالذم محذوف. والجملة الفعلية لا محل لها على الاعتبارين في اللام، والكلام مستأنف لا محل له، وجملة:{يَدْعُوا..} . إلخ بدل مما قبلها.
الشرح: قال القرطبي: لما ذكر الله حال المشركين، وحال المنافقين، والشياطين؛ ذكر حال المؤمنين في الآخرة أيضا. وقال الجمل: وعبارة أبي حيان: لما ذكر تعالى من يعبده على حرف، وسفّه رأيه، وتوعّده بخسرانه في الآخرة، عقّبه بذكر حال مخالفهم من الإيمان، وما وعدهم به من الوعد الحسن، ثم أخذ في توبيخ أولئك الأولين، كأنه يقول: هؤلاء العابدون على حرف صحبهم القلق، وظنوا: أن الله لن ينصر محمدا صلى الله عليه وسلم وأتباعه، ونحن أمرناهم بالصبر، وانتظار وعدنا فمن ظن غير ذلك فليمدد
…
إلخ. الآية الآتية.
وأنا أقول: لقد اقتضت سنة الله في كتابه، وحكمته، ورحمته ألاّ يذكر التكذيب من الكافرين، والمنافقين؛ إلا ويذكر التصديق من المؤمنين، ولا يذكر الإيمان إلا ويذكر الكفر، ولا يذكر الجنة؛ إلا ويذكر النار، ولا يذكر الرحمة؛ إلا ويذكر الغضب، والسخط؛ ليكون المؤمن راغبا، راهبا، خائفا، راجيا.
هذا؛ والإيمان الصحيح هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان، والعمل بالأركان، ولما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عنه قال:«الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره، وشرّه من الله تعالى» . والإيمان يزيد، وينقص على المعتمد، كما رأيت في الآية رقم [2] من سورة (الأنفال) وله شعب كثيرة، هي سبع وسبعون شعبة، أعلاها: لا إله إلا الله
…
وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وهو بفتح الهمزة جمع: يمين، بمعنى الحلف بالله، أو بصفة من صفاته، أو باسم من أسمائه. واليمين أيضا: اليد اليمنى، وتجمع أيضا على:
أيمان، كما في قوله تعالى:{أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} وهو كثير في القرآن الكريم.
{إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ} أي: من إثابة الموحّد الصالح، وعقاب المشرك، لا دافع له، ولا مانع، فالأول بحكم وعده الصدق، وبفضله، والثاني بما سبق من عدله، لا أنّ فعله تعالى معلل بفعل العبيد. هذا؛ والإرادة: نزوع النفس، وميلها إلى الفعل بحيث يحملها عليه، ويقال للقوة التي هي مبدأ النزوع، والأول مع الفعل، والثاني قبله، وكلا المعنيين غير متصور اتصاف الباري تعالى به، ولذا اختلف في معنى إرادته، فقيل: إرادته لأفعاله: أنه غير ساه، ولا مكره، ولأفعال غيره أمره بها، فعلى هذا لم تكن المعاصي بإرادته، وقيل: علمه باشتمال الأمر على النظام الأكمل، والوجه الأصلح، وهذا الأخير هو المقبول؛ لأن الله تعالى لا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، وانظر الآية رقم [18].
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {يُدْخِلُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهَ}. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به. {آمَنُوا:}
ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها، وما بعدها معطوف عليها، لا محل لها مثلها. {الصّالِحاتِ:}
مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {جَنّاتٍ:}
مفعول به ثان ليدخل، ويقال فيه مثل ما قيل في قوله تعالى:{اُسْكُنُوا الْأَرْضَ} في الآية رقم [104] من سورة (الإسراء). {تَجْرِي:} مضارع مرفوع
…
إلخ. {مِنْ تَحْتِهَا:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (ها): في محل جر بالإضافة. {الْأَنْهارُ:} فاعل {تَجْرِي،} والجملة الفعلية في محل نصب صفة {جَنّاتٍ،} وجملة: {يُدْخِلُ..} . إلخ في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ اللهَ..} . إلخ ابتدائية، أو مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل.
{اللهَ:} اسمها. {يَفْعَلُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (الله). {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: يفعل الذي، أو شيئا يريده، وجملة:{يَفْعَلُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ..} . إلخ مستأنفة، وفيها معنى التوكيد للجملة قبلها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: في مرجع الضمير المنصوب اختلاف، فقيل: المراد به النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يجر له ذكر، والمعنى عليه: من كان يظن ممّن يعادي محمدا صلى الله عليه وسلم، ومن يعبد الله على حرف: أنا لا ننصره؛ فليفعل كذا، وكذا. ونصره في الدنيا بإعلاء كلمته، وإظهار دينه. وفي الآخرة بإعلاء درجته، والانتقام ممن كذبه بعذاب النار. وقيل: الضمير يعود إلى الدين، والمعنى لا يختلف عن الأول، وقيل: يعود الضمير إلى {مَنْ} ومعنى النصر: الرزق، وعليه فالمعنى: من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة، فليبلغ غاية الجزع، وهو الاختناق، فإن ذلك لا يجعله مرزوقا. تقول العرب: من نصرني؛ نصره الله، أي من أعطاني؛ أعطاه الله.
هذا؛ وأرى: أن الآية تشمل كل من لم يرض بقضاء الله وقدره، ويتبرم بما يصيبه في هذه الدنيا من متاعب، ومصائب في جسمه، أو ولده، أو ماله. فإذا لم يرض بذلك فليفعل ما أرشده إليه ربه في هذه الآية من الانتحار بأيّ سبب من الأسباب؛ ليرى هل ينفعه ذلك شيئا، أو يخلصه من متاعبه، ومصائبه؟! وخصوص السبب لا يمنع التعميم، كما بينته كثيرا فما مضى.
{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ:} بحبل. والسبب: ما يتوصل به إلى الشيء، وجمعه: أسباب. وأسباب السموات: طرقها، ونواحيها، قال تعالى:{وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ} هذا؛ والمراد بالسماء: سقف البيت، والمعنى: فليمدد إلى سقف بيته، ثم ليختنق؛ حتى يموت. {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ:} والمعنى: فليفعل كل ما يستطيع من الكيد، وليصور في نفسه: أنه فعل ذلك؛ هل يذهب عنه الذي يغيظه؟ وسمي فعله كيدا على سبيل الاستهزاء؛ لأنه لم يكد به غيره، وإنما كاد به نفسه، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {كانَ:} ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، واسمه ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {مَنْ} . {يَظُنُّ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {مَنْ} أيضا. {كانَ:} حرف مشبه بالفعل مخفف من الثقيلة، واسمه ضمير الشأن محذوف، التقدير: أنه. {لَنْ:} حرف نفي، ونصب، واستقبال.
{يَنْصُرَهُ:} مضارع منصوب ب: {لَنْ،} والهاء مفعوله. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {كانَ،} و {كانَ} واسمها المحذوف، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي {يَظُنُّ،} وجملة: {يَظُنُّ..} . إلخ في محل نصب خبر {كانَ} . {فِي الدُّنْيا:} متعلقان بالفعل قبلهما. (الآخرة): معطوف على {الدُّنْيا} . {فَلْيَمْدُدْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.
(ليمدد): مضارع مجزوم بلام الأمر، والفاعل يعود إلى {مَنْ}. {بِسَبَبٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {إِلَى السَّماءِ:} متعلقان بمحذوف صفة (سبب)، وجملة:{فَلْيَمْدُدْ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط، وخبر المبتدأ الذي هو {مَنْ} مختلف فيه، فقيل: جملة الشرط، وقيل: هو جملة جواب الشرط، وقيل: هو الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين، هذا؛ وأجيز اعتبار {مَنْ} موصولة مبتدأ، والجملة بعدها صلتها، والخبر جملة:{فَلْيَمْدُدْ..} . إلخ، وزيدت الفاء في خبره؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، وهو ضعيف؛ لأن الجملة الإنشائية لا يجيز كثير من النحاة وقوعها خبرا، كما ذكرته فيما مضى، وانظر الآية رقم [2] من سورة (النور).
{ثُمَّ:} حرف عطف. {لْيَقْطَعْ:} مضارع مجزوم بلام الأمر، والفاعل يعود إلى {مَنْ،} والمفعول محذوف، التقدير: ليقطع السبب، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وجملة:
{فَلْيَنْظُرْ..} . إلخ معطوفة عليها أيضا. {هَلْ:} حرف استفهام. {يُذْهِبَنَّ:} مضارع مبني على الفتح لا تصاله بنون التوكيد الثقيلة، وهي حرف لا محل له. {كَيْدُهُ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {يَغِيظُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (ما) وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، التقدير: الذي، أو: شيئا يغيظه، هذا؛ وأجيز اعتبار {ما} مصدرية تؤول مع الفعل بمصدر، التقدير: هل يذهبن كيده غيظه، وجملة:{هَلْ..} .
إلخ في محل نصب سدت مسد مفعول (ينظر) المعلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام.
{وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)}
الشرح: {وَكَذلِكَ..} . إلخ المعنى: أنزلنا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم إنزالا كائنا مثل إنزال الكتب السابقة على الرسل السابقين قبله. وقيل: المعنى: أنزلنا القرآن الباقي. {آياتٍ بَيِّناتٍ:} واضحات ظاهرات الدلالة. {وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ:} له الهداية، والتوفيق للإيمان، أو من يريد ثباته على الإيمان. وانظر شرح (أنزل) و (نزل) في الآية رقم [2] من سورة (طه) وشرح (آية) في الآية رقم [5] من سورة (الأنبياء) وانظر شرح الإرادة في الآية رقم [14] وشرح {يُرِيدُ} في الآية رقم [18] الآتية.
الإعراب: {وَكَذلِكَ:} الواو: حرف استئناف. الكاف: حرف تشبيه وجر، و (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف واقع مفعولا مطلقا، عامله ما بعده. انظر الشرح. واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له.
{أَنْزَلْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {آياتٍ:} حال من الضمير المنصوب، وهي حال موطئة؛ لأن المقصود الصفة، وهي {بَيِّناتٍ،} وكلتاهما منصوب، وعلامة نصبهما الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنهما جمعا مؤنث سالما. {وَأَنَّ:} الواو: حرف عطف.
(أن): حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {يَهْدِي:} مرفوع
…
إلخ، والفاعل يعود إلى {اللهَ} .
{مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبني على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلة {مَنْ} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: يهدي الذي، أو:
شخصا يريده، وجملة:{يَهْدِي..} . إلخ في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر معطوف على الضمير المنصوب، التقدير: وأنزلنا: أن الله يهدي
…
إلخ، وأجيز أن يكون المصدر المؤول في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: والأمر: أن الله، وهذا يعني: أن الجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، أو هي في محل نصب حال، كما أجيز اعتبار المصدر مجرورا بحرف جر محذوف، التقدير: ولأن الله
…
إلخ، والأول أقوى معنى، وأتمّ سبكا. تأمّل.
الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: بالله تعالى ربا، وبالقرآن إماما، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، وشفيعا. {وَالَّذِينَ هادُوا:} هم اليهود سموا بذلك لمّا تابوا من عبادة العجل، من:
هاد بمعنى: تاب، ورجع، ومنه قوله تعالى حكاية عن قولهم:{إِنّا هُدْنا إِلَيْكَ} أو سموا بذلك نسبة إلى يهوذا بن يعقوب، وهو أكبر أولاده. (الصابئين): جمع: صابئ، قيل: إنهم من اليهود، وقيل: إنّهم من النصارى، ولكنهم عبدوا الملائكة، وقيل: عبدوا الكواكب، والصابئ: هو التارك
لدينه، من: صبأ يصبأ، صبأة، وقد كان كفار قريش، يقولون لمن يسلم منهم: صبأ. (النصارى):
جمع: نصراني، سموا بذلك؛ لأنهم نصروا عيسى على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. أو لأنهم كانوا معه في قرية، يقال لها: نصران، أو ناصرة، فسموا باسمها، أو باسم من أسسها، قال سيبويه-رحمه الله تعالى-: لا يستعمل نصراني في الكلام إلا مع ياء النسب.
(المجوس): هم عبدة النار، القائلين: إن للعالم أصلين: نور، وظلمة. {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا:} هم العرب عبدة الأوثان. قيل: الأديان ستة، واحد لله، وهو الإسلام، وخمسة للشيطان، وهي ما عدا الإسلام. {إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} أي: بالحكومة بينهم، وإظهار المحق منهم من المبطل، أو الجزاء، فيجازي كلاّ ما يليق به، ويدخله المحلّ المعدّ له، وقيل: يفصل بينهم في الأحوال، والأماكن جميعا، فلا يجازيهم جزاء واحدا بغير تفاوت، ولا يجمعهم في موطن واحد، وانظر الآية رقم [19] الآتية.
{إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ:} عالم حاضر، فلا يعزب عنه شيء من أعمال خلقه، وحركاتهم، وأقوالهم. هذا؛ وانظر شرح {شَيْءٍ} في الآية رقم [30] من سورة (الأنبياء)، وشرح {الْقِيامَةِ} في الآية رقم [47] منها، وشرح لفظ الجلالة في الآية رقم [3].
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسم {إِنَّ} . {آمَنُوا:} ماض مبني على الضم لا تصاله بواو الجماعة، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب (قالوا) في الآية رقم [27] من سورة (مريم) عليهاالسّلام، والجملة الفعلية مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، {وَالَّذِينَ هادُوا:} معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله. {وَالصّابِئِينَ:} معطوف على اسم {إِنَّ} منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم
…
إلخ. {وَالنَّصارى:} معطوف أيضا على اسم {إِنَّ} منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا:} معطوفان على اسم {إِنَّ} أيضا. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {يَفْصِلُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهَ}. {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {يَوْمَ:}
ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، و {يَوْمَ} مضاف، و {الْقِيامَةِ:} مضاف إليه، وجملة:{يَفْصِلُ..} .
إلخ في محل رفع خبر {إِنَّ،} وجملة: {إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ..} . إلخ في محل رفع خبر {إِنَّ} الأولى، قال الزمخشري: وأدخلت {إِنَّ} على كل واحد من جز أي الجملة لزيادة التوكيد، ونحوه قال جرير من قصيدة يمدح بها عبد العزيز بن الوليد، بن عبد الملك:[البسيط]
إنّ الخليفة إنّ الله سربله
…
سربال عزّ به ترجى الخواتيم
قال الجمل: وحسن دخول {إِنَّ} في الخبر، وإن كان جملة واقعة خبرا عن {إِنَّ} طول الفصل بينهما بالمعاطيف. وقال أبو البقاء: وقيل: الخبر محذوف، تقديره: مفترقون يوم
القيامة، أو نحو ذلك، والمذكور تفسير له. انتهى. والمعتمد الأول. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {عَلى كُلِّ:} متعلقان ب: {شَهِيدٌ} بعدهما و {كُلِّ} مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه. {شَهِيدٌ:} خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. هذا؛ وأجيز اعتبارها خبرا ل: {إِنَّ} الأولى، والجملة الثانية توكيدا للأولى. والمعتمد الأول.
الشرح: {أَلَمْ تَرَ} أي: ألم تعلم. وقال القرطبي: أي: ألم تر بقلبك، وعقلك. {أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ:} {مَنْ} في الأصل للعاقل، واستعملت هنا للعاقل، وغيره تغليبا. {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ..}. إلخ: قيل: السجود في هذه الآية تحول ظلال هذه الأشياء، فتكون كآية (الرعد) رقم [15]، وآية (النحل) رقم [48] وقيل: ما في السماء نجم، ولا شمس، ولا قمر إلا يقع ساجدا حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له، فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه. وقيل: معنى سجودها: الطاعة، والانقياد، فإنه ما من جماد إلا وهو مطيع لله تعالى، خاشع، ومسبح له، كما وصفهم بالخشية، والتسبيح، كما رأيت في الآية رقم [44] من سورة (الإسراء)، وهذا مذهب أهل السنة، وهو: أن الأجسام لما كانت قابلة لجميع الأعراض التي خلقها الله تعالى فيها من غير امتناع ألبتة؛ أشبهت بمطاوعتها أفعال المكلف، وهو السجود الذي كل خضوع دونه، وأفرد الشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، والشجر، والدواب بالذكر لشهرتها، واستبعاد السجود منها.
{وَكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ} أي: ويسجد له كثير من الناس سجود عبادة، وطاعة، وتخصيص (كثير من الناس) بالذكر مع كونه من جملة الموجودات في الأرض ليذكر بعده: أن كثيرا من الناس لا يعبدون الله، ولا يطيعونه، وهم الذين استحقوا العذاب، وهو قوله جل شأنه:{وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ} . {وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} أي: من أهانه بالشقاء والكفر لا يقدر أحد على دفع الهوان عنه، وهذا يعود إلى تقدير العزيز العليم في الأزل على من كتب له الشقاوة، وانظر الآية رقم [27] من سورة (الرعد) فالبحث فيها جيد. {إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ} أي: يكرم بالسعادة من يشاء، ويهين بالشقاوة من يشاء، فلا اعتراض عليه {لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} هذا؛ وهذه الآية يسن السجود عند تلاوتها للقارئ، والمستمع، والسامع. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [57] من سورة (مريم)، والآية رقم [50] من سورة (النحل) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. وانظر ما ذكرته برقم [77] الآتية.
بعد هذا انظر شرح {السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} في الآية رقم [30] من سورة (الأنبياء)، وانظر شرح (الناس) في الآية رقم [1] منها، أما (الدواب) فهو جمع: دابة، وهي تشمل كل ما يدب على وجه الأرض من إنسان، وحيوان. هذا؛ و {يَشاءُ} ماضيه: شاء، فلم يرد له أمر، ولا ل:«أراد» فيما أعلم، فهما ناقصا التصرف، وأصل (شاء): شيء على فعل بكسر العين، بدليل شئت شيئا، وقد قلبت الياء ألفا؛ لتحركها، وانفتاح ما قبلها، وقد كثر حذف مفعوله، وحذف مفعول (أراد) حتى لا يكاد ينطق به إلا في الشيء المستغرب، مثل قوله تعالى:{لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا} وقال الشاعر الخزيمي: [الطويل]
فلو شئت أن أبكي دما لبكيته
…
عليه ولكن ساحة الصّبر أوسع
وقيد بعضهم حذف مفعول هذين الفعلين بعد «لو» وليس كذلك.
الإعراب: {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وتقرير. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم.
{تَرَ:} مضارع مجزوم ب: (لم) وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:}
اسمها. {يَسْجُدُ:} مضارع. {اللهَ:} متعلقان به. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل: {يَسْجُدُ} . {فِي السَّماواتِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، وهو مثله في إعرابه. {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ:} هذه الأسماء معطوفة على {مَنْ} الأولى، وجملة:{يَسْجُدُ..} . إلخ في محل رفع خبر {أَنَّ،} و {أَنَّ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعول، أو مفعولي الفعل {تَرَ،} وجملة: {أَلَمْ تَرَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
{وَكَثِيرٌ:} فيه أوجه: أحدها: أنه مرفوع بفعل محذوف، تقديره: ويسجد له كثير من الناس.
الثاني: أنه معطوف على ما قبله، وفي ذلك ثلاث تأويلات: أحدها: أن المراد بالسجود: القدر المشترك بين الكل العقلاء وغيرهم، وهو الخضوع، والطواعية، وهو من الاشتراك المعنوي، والتأويل. الثاني: أنه مشترك اشتراكا لفظيا، ويجوز استعمال المشترك في معنييه. والتأويل الثالث:
أن السجود المسند للعقلاء حقيقة، ولغيرهم مجاز، ويجوز الجمع بين الحقيقة، والمجاز.
الثالث من الأوجه المتقدمة: أن يكون (كثير) مرفوعا بالابتداء، وخبره محذوف، تقديره:
مثابون، أو: مطيعون، ونحو ذلك. {مِنَ النّاسِ:} متعلقان ب: (كثير) أو بمحذوف صفة له.
{وَكَثِيرٌ:} الواو: حرف استئناف. (كثير): مبتدأ، ومتعلقه محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: وكثير منهم. {حَقَّ:} ماض. {عَلَيْهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الْعَذابُ:} فاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَكَثِيرٌ حَقَّ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وقيل: إن (كثير) معطوف على {مَنْ،} وجاز ذلك؛ لأن السجود هو التذلل، والانقياد،
فالكفار الذين حق عليهم العذاب أذلاء تحت قدر الله، وتدبيره، فهم منقادون لما سبق فيهم من علم الله، لا يخرجون عما سبق في علم الله تعالى فيهم. انتهى. مكي. والمعتمد الأول. تأمل.
{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم لفعل شرطه، أو هو مبتدأ. {يُهِنِ:} مضارع فعل الشرط مجزوم، وحرك بالكسرة لالتقاء الساكنين. {اللهَ:} فاعله، والجملة الفعلية ابتدائية لا محل لها على اعتبار (من) مفعولا مقدما. {فَما:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (ما): نافية. {اللهَ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَنْ:} حرف جر صلة. {مُكْرِمٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية:{فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} في محل جزم جواب الشرط، وخبر (من) على اعتباره مبتدأ مختلف فيه كما رأيت في الآية رقم [15]، وعلى الاعتبارين في (من) فالجملة الشرطية مستأنفة لا محل لها.
{أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {يَفْعَلُ} مضارع، والفاعل يعود إلى الله.
{فَما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: يفعل الذي، أو:
شيئا يشاؤه، وجملة:{يَفْعَلُ..} . إلخ في محل رفع خبر {أَنَّ،} والجملة الاسمية: {أَنَّ..} .
إلخ تعليل للكلام قبلها، أو هي مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين. تأمل، وتدبر.
الشرح: لقد ذكر في سبب نزول هذه الآيات ثلاثة أقوال:
الأول: أنها في الذين تبارزوا يوم بدر: حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث، رضي الله عنهم، وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، لعنهم الله، وأخزاهم، قال محمد بن إسحاق:
خرج يوم بدر عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، ودعوا إلى المبارزة، فخرج إليهم فئة من الأنصار ثلاثة: عوف، ومعوذ ابنا الحارث، وأمهما عفراء، وعبد الله بن رواحة، فقالوا:
من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار، فقالوا: أكفاء كرام، ثم نادى مناديهم: يا محمد! أخرج لنا أكفاءنا من قومنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قم يا عبيدة بن الحارث، ويا حمزة بن عبد المطلب، ويا علي بن أبي طالب» فلما دنوا منهم، قالوا: من أنتم؟ فذكروا أنفسهم، قالوا: نعم أكفاء كرام، فبارز عبيدة، وكان أسن القوم عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد، فأما حمزة فلم يمهل أن قتل شيبة، وعليّ الوليد، واختلف عبيدة، وعتبة بينهما ضربتان، كلاهما أثخن صاحبه،
فكر حمزة، وعلي بأسيافهما على عتبة، فذفّفا عليه، واحتملا عبيدة إلى أصحابه، وقد قطعت رجله، ومخها يسيل، فلما أتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألست شهيدا يا رسول الله! قال: «بلى!» ، فقال عبيدة: لو كان أبو طالب حيّا لعلم: أنّا أحق بما قال منه، حيث يقول:[الطويل]
ونسلمه حتّى نصرّع حوله
…
ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: نزلت الآيات في المسلمين، وأهل الكتاب، قال أهل الكتاب، أي: اليهود: نحن أولى بالله، وأقدم كتابا منكم، ونبيّنا قبل نبيكم. وقال المسلمون:
نحن أحقّ بالله، آمنّا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ونبيّكم، وبما أنزل الله من كتاب، وأنتم تعرفون نبينا، وكتابنا؛ وقد كفرتم حسدا، وبغضا. فهذه هي خصومتهم.
وقال عكرمة: المراد بالخصمين: الجنة، والنار، فقد اختصمتا، فقالت النار: خلقني الله لعقوبته، وقالت الجنة: خلقني لرحمته. فعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احتجّت الجنة، والنار، فقالت النار: فيّ الجبّارون، والمتكبّرون. وقالت الجنّة: فيّ ضعفاء المسلمين، ومساكينهم. فقضى الله بينهما: إنك الجنّة رحمتي، أرحم بك من أشاء، وإنّك النّار عذابي، أعذّب بك من أشاء، ولكليكما عليّ ملؤها» . رواه مسلم، وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه رواها البخاري، ومسلم:«فأمّا النار فلا تمتلئ حتّى يضع الله تبارك وتعالى رجله فتقول: قط، قط، فهنالك تمتلئ، ويزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم ربّك أحدا من خلقه. وأمّا الجنة فإنّ الله تعالى ينشئ لها خلقا» .
وقيل: هم المؤمنون، والكافرون من أيّ ملة كانوا، فالمؤمنون خصم، والكفار خصم.
والمعتمد من هذه الأقوال هو القول الأول، فقد روي عن علي-رضي الله عنه-أنه قال: إني لأول من يجثو للخصومة بين يدي الله تعالى، يريد قصته في مبارزته، هو وصاحباه. ذكره البخاري.
بعد هذا ف: {خَصْمانِ} تثنية خصم، وهو هنا بمعنى فريق، أو فوج، على حد قوله تعالى:
{وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا؛} ولذا جمع في قوله تعالى: {اِخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} ومعنى {فِي رَبِّهِمْ} في دينه، أو في ذاته، أو في صفاته. {فَالَّذِينَ كَفَرُوا:} -وهو فصل الخصومة المعني بقوله تعالى في الآية رقم [17]: {إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} - {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ:} قال سعيد بن جبير-رضي الله عنه: ثياب من نحاس مذاب، وليس من الآنية شيء إذا حمي أشد حرا منه، وسمي باسم الثياب؛ لأنها تحيط بهم كإحاطة الثياب، وهي السرابيل المذكورة في الآية رقم [50] من سورة (إبراهيم) عليه السلام. هذا؛ وقيل: في الكلام استعارة تمثيلية، وليس بشيء؛ لأنه حقيقة، كما رأيت من قول سعيد بن جبير.
{يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ} أي: الماء الحار الذي انتهت حرارته. {يُصْهَرُ بِهِ:}
يذاب بالحميم، والصهر: إذابة الشحم، وغيره من المعادن على اختلاف أنواعها، ولا سيما في هذا العصر، قال ابن أحمر يصف فرخ قطاة:[الرجز]
تروي لقى ألقي في صفصف
…
تصهره الشمس فما ينصهر
أي: تذيبه الشمس، فيصبر على ذلك، واللقى: الشيء الملقى لهوانه، والصفصف:
المستوي من الأرض. فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الحميم ليصبّ على رؤوسهم، فينفذ حتّى يخلص إلى جوف أحدهم، فيسلت ما في جوفه حتّى يمرق من قدميه، وهو الصّهر، ثمّ يعاد كما كان» . أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب. ولا تنس: قوله في سورة (محمد) صلى الله عليه وسلم: {وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ} . {وَالْجُلُودُ} أي: تحرق الجلود، أو تشوى الجلود، فإن الجلود لا تذاب، ولكن يضم في كل شيء ما يليق به، فهو كما تقول: أتيته فأطعمني ثريدا، أي والله ولبنا قارصا، قال الشاعر:[الرجز]
علفتها تبنا وماء باردا
…
حتّى غدت همّالة عيناها
ولنا كلام طويل في تفسير قوله تعالى في سورة (الحشر): {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَالْإِيمانَ} إن شاء الله تعالى. وانظر الآية رقم [12] من سورة (الفرقان)، ففيها بحث جيد. بعد هذا انظر شرح:{رَبُّكُمْ} في الآية رقم [8] من سورة (الإسراء)، وشرح (الكفر) في الآية رقم [30] من سورة (الأنبياء)، وشرح (النار) في الآية رقم [10] من سورة (طه). أما {ثِيابٌ} فهو جمع:
ثوب، والقياس: ثواب، فقلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة قبلها. انظر إعلال الصيام في الآية رقم [183] من سورة (البقرة)، فالبحث فيها جيد.
الإعراب: {هذانِ:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة؛ لأنه مثنى، وبعضهم يقول: مبني على الألف يعتبره مبنيا كباقي أسماء الإشارة، والهاء حرف تنبيه لا محل له.
{خَصْمانِ:} خبر المبتدأ مرفوع
…
إلخ، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.
{اِخْتَصَمُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {فِي رَبِّهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، ومن إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة:{اِخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} في محل رفع صفة {خَصْمانِ} على المعنى كقوله تعالى: {فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ} وقوله: {وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا،} وقال الجمل: حالية، ولا أراه وجيها؛ لأن خصمان نكرة، إلا إذا كان يريد من الضمير المستتر في خصمان على تأويله بفرق ونحوه، وأجيز اعتبارها خبرا، وخصمان بدلا من {هذانِ} والمعتمد الأول. {فَالَّذِينَ:} الفاء: حرف تفريع واستئناف.
(الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق
المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {قُطِّعَتْ:} ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث حرف لا محل له. {لَهُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، {ثِيابٌ:} نائب فاعل. {مِنْ نارٍ:} متعلقان بمحذوف صفة ثياب، وجملة:{قُطِّعَتْ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:
{فَالَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة كالجملة الاسمية قبلها لا محل لهما. هذا؛ وعلى اعتبار الجملة الاسمية: {فَالَّذِينَ..} . إلخ تفصيلا، وبيانا لفصل الخصومة في الآية رقم [17] فيكون ما بينهما كلاما معترضا، تأمل. {يُصَبُّ:} مضارع مبني للمجهول. {مِنْ فَوْقِ:} متعلقان به، و {فَوْقِ} مضاف، و {رُؤُسِهِمُ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة. {الْحَمِيمُ:} نائب فاعل {يُصَبُّ،} والجملة الفعلية هذه تحتمل أن تكون خبرا ثانيا للموصول، وأن تكون حالا من الضمير في {لَهُمْ،} وأن تكون مستأنفة لا محل لها. {يُصْهَرُ:} مضارع مبني للمجهول.
{بِهِ:} متعلقان به. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع نائب فاعل. {فِي بُطُونِهِمْ:} متعلقان بمحذوف صلة {ما} والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{يُصْهَرُ..} . إلخ في محل نصب حال من {الْحَمِيمُ،} والرابط: الضمير المجرور بالباء. {وَالْجُلُودُ:} معطوف على {ما} الواقعة نائب فاعل، هذا؛ وقيل: هو نائب فاعل لفعل محذوف، التقدير: وتحرق الجلود، وعليه فالجملة الفعلية معطوفة على جملة:{يُصْهَرُ..} . إلخ فهي في محل نصب حال مثلها.
الشرح: {وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} أي: للذين كفروا. و {مَقامِعُ} جمع: مقمعة بكسر الميم؛ لأنها آلة القمع، يقال: قمعه، يقمعه من باب: قطع: إذا ضربه بشيء يزجره به، ويذله، والمقمعة:
المطرقة، وقيل: السوط، وفي الخبر:«لو وقع مقمع من حديد في الأرض، ثم اجتمع عليه الثقلان ما أقلّوه من الأرض» . {كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها} أي: من النار. {مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها} أي:
ردوا إليها بالمقامع. قيل: إن جهنم لتجيش بهم، فتلقيهم إلى أعلاها، فيريدون الخروج منها، فتضربهم الزبانية بمقامع الحديد، فيهوون فيها سبعين خريفا، وقيل: إذا اشتد غمهم فيها؛ فروا، فمن خلص منهم إلى شفيرها؛ أعادتهم الملائكة فيها بالمقامع، ويقولون لهم:{وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ} أي: المحرق، مثل: الأليم، والوجيع. بعد هذا انظر (نذيقه) والاستعارة فيه في الآية رقم [9]، وشرح {عَذابَ} في الآية رقم [46] من سورة (الأنبياء). هذا؛ والتعبير بالأفعال الماضية عن شيء مستقبل إنما هو لتحقق وقوعه، وهذا التعبير مستعمل في القرآن الكريم بكثرة.
الإعراب: {وَلَهُمْ:} الواو: حرف استئناف. (لهم): متعلقان بمحذوف خبر مقدم.
{مَقامِعُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {مِنْ حَدِيدٍ:} متعلقان بمحذوف
صفة {مَقامِعُ} . {كُلَّما} (كلّ): ظرفية متعلقة بجوابها؛ إذ هي تحتاج إلى جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه. (ما): مصدرية توقيتية. {أَرادُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، و (ما) والفعل (أراد) في تأويل مصدر في محل جر بإضافة (كل) إليه، التقدير: كل وقت إرادة، وهذا التقدير، وهذه الإضافة هما اللذان سببا الظرفية ل:(كل)، وقيل:(ما) نكرة موصوفة، والجملة الفعلية بعدها صفة لها، وهي بمعنى وقت أيضا. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {يَخْرُجُوا:} مضارع منصوب ب: {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِنْها:} متعلقان بما قبلهما. {مِنْ غَمٍّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما بدل من {مِنْها} بدل الاشتمال، و {أَنْ يَخْرُجُوا} في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به. {أُعِيدُوا:} ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب {كُلَّما} لا محل لها. {فِيها:} متعلقان بما قبلهما، و {كُلَّما} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. (ذوقوا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {عَذابَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الْحَرِيقِ} مضاف إليه من إضافة الموصوف لصفته، وجملة: (ذوقوا
…
) إلخ في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: وقيل لهم: ذوقوا
…
إلخ، وهذه الجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، ويدل على هذا المحذوف التصريح به في سورة (السجدة) آية رقم [20].
الشرح: {إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ}
…
{مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ:} انظر شرح هذا الكلام وما يتعلق به في الآية رقم [14] وأضيف هنا: أنه يشمل العاملين الصالحين من الذكور، والإناث، وأن الله تعالى لما ذكر حال الخصم الكافر في الآيات السابقة؛ ذكر حال المؤمن في هذه الآية.
{يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً:} انظر شرح هذه الكلمات في الآية رقم [31] من سورة (الكهف). هذا؛ ويقرأ بجر (لؤلؤ) ونصبه، ويقرأ بهمز ودونه، وبقلب الهمزتين ياء، وغير ذلك. {وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ} أي: وجميع ما يلبسونه من فرشهم، ولباسهم، وستورهم حرير، وهو أعلى مما في الدنيا بكثير.
هذا؛ وروى النسائي عن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لبس الحرير في الدّنيا؛ لم يلبسه في الآخرة. ومن شرب الخمر في الدّنيا؛ لم يشربه في الآخرة. ومن شرب في آنية الذّهب والفضّة في الدّنيا؛ لم يشرب فيها في الآخرة» . ثم قال صلى الله عليه وسلم: «لباس أهل الجنّة، وشراب أهل الجنّة، وآنية أهل الجنّة» . وانظر «السندس والإستبرق» في الآية رقم [31] من سورة (الكهف).
هذا؛ وقد غير سبحانه وتعالى الأسلوب؛ حيث لم يقل: (ويلبسون حريرا) للمحافظة على الفواصل، على رؤوس الآي، وللدلالة على أن الحرير ثيابهم المعتادة في الجنة، فإن العدول إلى الجملة الاسمية يدل على الثبوت، والدوام بخلاف الجملة الفعلية، فإنها تدل على التجدد، كما هو مقرر في علم المعاني، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} انظر إعراب هذا الكلام إفرادا وجملا في الآية رقم [14]. {يُحَلَّوْنَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو نائب فاعله وهو المفعول الأول. {فِيها:} متعلقان بما قبلهما. {مِنْ أَساوِرَ:} متعلقان بمحذوف صفة مفعول به ثان، أي: شيئا كائنا من أساور، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف لصيغة منتهى الجموع، وهي علة تقوم مقام علتين من موانع الصرف، هذا؛ ويجوز على مذهب الأخفش اعتبار {مِنْ} زائدة في الإيجاب، فيكون {أَساوِرَ} مفعولا ثانيا، مجرورا لفظا، منصوبا محلا. {مِنْ ذَهَبٍ:} متعلقان بمحذوف صفة {أَساوِرَ} . {وَلُؤْلُؤاً:} مفعول به لفعل محذوف، التقدير: ويؤتون لؤلؤا، أو هو معطوف على محل {مِنْ أَساوِرَ؛} لأنه يقدر: ويحلون شيئا كائنا من أساور، ولؤلؤا. هذا؛ وعلى قراءته بالجر، فهو معطوف على {ذَهَبٍ،} فيكون المراد أساور من ذهب مرصعة باللؤلؤ. وجملة: {يُحَلَّوْنَ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط. {وَلِباسُهُمْ:} الواو: حرف استئناف. (لباسهم): مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {فِيها:} متعلقان بالمصدر. {حَرِيرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، أو هي معطوفة على ما قبلها، فتكون في محل نصب حال مثلها، وهو قوي معنى، وسبكا.
{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24)}
الشرح: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما-وهو: شهادة أن لا إله إلا الله، وقيل: هو: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله اكبر. {وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ} أي: إلى دين الله، وهو الإسلام، والحميد هو الله المحمود في أفعاله، والمحمود في كل لسان، الممجد في كل مكان على كل حال. هذا؛ وقيل: الأول في الآخرة حيث يلهمهم الله أن يقولوا: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ..} . إلخ، وأن يقولوا:(الحمد لله الّذي أذهب عنّا الحزن) والثاني في الآخرة أيضا، والمراد به طريق الجنة المحمود عاقبته. هذا؛ ومعنى (هدوا) أرشدوا، أو: وفّقوا.
الإعراب: {وَهُدُوا:} الواو: حرف استئناف. (هدوا): ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق. {إِلَى الطَّيِّبِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة
الفعلية مستأنفة لا محل لها. {مِنَ الْقَوْلِ:} متعلقان بمحذوف حال من {الطَّيِّبِ} وقيل: من الضمير المستتر، والجملة الثانية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، وإعرابها مثلها أيضا.
الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ:} قال القرطبي: أعاد الكلام إلى مشركي العرب حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام عام الحديبية، وذلك: أنه لم يعلم لهم صدّ قبل ذلك الجمع، إلا أن يريد صدّهم لأفراد من الناس، فقد وقع ذلك في صدر المبعث، هذا؛ والمراد ب:(المسجد الحرام) نفسه، وهو ظاهر القرآن. وقيل: بل المراد الحرم كله، والأول هو المعتمد، هذا؛ ووصف المسجد بالحرام تنويها بشأنه، ورفعة لقدره، وتعظيما لحرمته، ومعنى (الحرام): المحرم فيه اللغو، والرفث، والإيذاء، وكل فعل قبيح، وعمل فاحش، وإن كان في غيره حراما، فهو أشد فيه حرمة، وكذلك محرم على الكفار، فلا يجوز أن يدخله كافر أبدا.
وانظر شرح (الحرام) في الآية رقم [95] من سورة (الأنبياء)، وانظر الآية رقم [1] من سورة (الإسراء) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
{الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنّاسِ} أي: قبلة لصلاتهم، ومنسكا، ومتعبدا. {سَواءً الْعاكِفُ} أي: المقيم فيه، وقال بعضهم: يدخل فيه الغريب إذا جاور، وأقام به، ولزم التعبد فيه. {وَالْبادِ} أي: من يقدم عليه من خارج مكة، واختلف الفقهاء والمحدثون في هذه التسوية بين المقيم، والقادم.
فقيل: التسوية في تعظيم الكعبة، وفي فضل الصلاة فيه، والطواف به، فعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت، وصلّى أيّة ساعة شاء من ليل، أو نهار» . أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي.
وقيل: المراد: جميع الحرم، ومعنى التسوية: أن المقيم، والبادي سواء في النزول به، وليس أحدهما أحق بالمنزل من الآخر؛ غير أنه لا يزعج أحد أحدا إذا كان قد سبق إلى منزله، وهو قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن زيد. قالوا: هما سواء في البيوت، والمنازل، قال عبد الرحمن بن سابط: كان الحجاج إذا قدموا، لم يكن أحد من أهل مكة بأحق بمنزله منهم، وكان عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-ينهى الناس أن يغلقوا أبوابهم في الموسم.
فعلى هذا القول، لا يجوز بيع دور مكة، وإجارتها. قالوا: إن أرض مكة لا تملك؛ لأنها لو ملكت لم يستو فيها العاكف والبادي، فلما استويا؛ ثبت: أن سبيلها سبيل المساجد، وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى، وعلى القول الأول، وهو الأقرب إلى الصواب، ولا سيما في
هذا العصر، الذي يبلغ فيه عدد الحجاج كل عام مئات الألوف، وقد تطورت فيه الأوضاع الاجتماعية والسياسية، والعمرانية: أنه يجوز بيع دور مكة، وإجارتها، وهو قول طاووس، وعمرو بن دينار، وإليه ذهب الشافعي، رحمه الله تعالى، وقد احتج في ذلك بقوله تعالى:{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} فقد أضاف الديار إلى مالكيها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة:«من أغلق بابه، فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» . فنسب الديار إليهم نسبة ملك، واشترى عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-دار صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، وجعلها سجنا، فدلت هذه النصوص على جواز بيعها.
{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ} أي: في المسجد الحرام. {بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ:} الإلحاد: الميل، والعدول عن القصد. قيل: المراد فيه هنا: الشرك، وعبادة غير الله تعالى. وقيل: هو كل شيء كان منهيا عنه من قول، أو فعل؛ حتى شتم الخادم، وهو المعتمد، وقيل: هو دخول الحرم بغير إحرام، أو ارتكاب شيء من محظورات الحرم، من قتل صيد، وقطع شجر. والمعتمد ما ذكرته. {نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ:} انظر الاستعارة في الآية رقم [9].
هذا؛ و (يصدون) بمعنى: يمنعون، ويصرفون، وهو بضم الصاد. هذا؛ ويأتي بمعنى:
يعرضون، ويميلون، كما في قوله:{رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} ويأتي بضم الصاد، وكسرها، كما يأتي بمعنى: يضجون فرحا، وهو بكسر الصاد، كما في قوله تعالى:{وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} ومصدر الأولين: صد، وصدود، ومصدر الأخير: صديد.
أما {سَواءً} فهو مصدر بمعنى الاستواء، فلذا صح الإخبار به عن متعدد في كثير من الآيات. وقيل: هو بمعنى مستو. وهو لا يثنى، ولا يجمع، قالوا: هم، وهما سواء، فإذا أرادوا لفظ المثنى؛ قالوا: سيان، وإن شئت قلت: سواآن، وفي الجمع: هم أسواء، وهذا كله ضعيف، ونادر، وأيضا على غير القياس: هم سواس، وسواسية، أي: متساويان، ومتساوون، هذا؛ والسّواء أيضا: العدل، والوسط، كما في قوله تعالى:{وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ} وانظر الآية رقم [109] من سورة (الأنبياء).
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها. {كَفَرُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها. (يصدون): مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، ومفعوله محذوف. {عَنْ سَبِيلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {سَبِيلِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، وجملة:{وَيَصُدُّونَ..} . إلخ معطوفة على جملة الصلة، على تأويل الفعل بالماضي، أي:
وصدوا، أو على تأويل الأول بالمضارع، أي: يكفرون، ويصدون، وقيل: جملة:
(يصدون
…
) إلخ في محل نصب حال، وهذا لا يسوغ إلا على تقدير مبتدأ، أي: وهم
يصدون؛ لأن الجملة المضارعية الواقعة حالا لا تقترن بالواو، وعلى هذه الاعتبارات؛ فخبر {إِنَّ} محذوف، يقدر بعد {وَالْبادِ} معذبون. هذا؛ وقيل: الواو زائدة، والجملة الفعلية خبر {إِنَّ} وهو أقوى معنى مما تقدم، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [31] من سورة (الرعد) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، والجملة الاسمية:{إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
{وَالْمَسْجِدِ:} معطوف على ما قبله. {الْحَرامِ:} صفة (المسجد). {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة أو بدل من (المسجد). {جَعَلْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول. هذا؛ وأجيز اعتبار الموصول مفعولا به لفعل محذوف، تقديره: أعني الذي، واعتباره خبر مبتدأ محذوف. {لِلنّاسِ:} متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب. {سَواءً:} بالنصب حال من الضمير المنصوب، أو هو مفعول به ثان. {الْعاكِفُ:} فاعل بسواء، ويقرأ بالجر على أنه بدل من الناس. {فِيهِ:} متعلقان بالعاكف. {وَالْبادِ:} معطوف على {الْعاكِفُ} مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة، وقرئ بإثباتها، هذا؛ ويقرأ برفع سواء على أنه خبر مقدم، و {الْعاكِفُ} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب مفعول به ثان، أو هي في محل نصب حال من الضمير المنصوب.
{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبتدأ. {يُرِدْ:} مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {فِيهِ:} متعلقان بما قبلهما. {بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ:} قال البيضاوي: حالان مترادفان، أو الثاني بدل من الأول بإعادة الجار وصلة له، أي: ملحدا بسبب الظلم، وهذا يعني: أن الحال من فاعل {يُرِدْ} المستتر، هذا؛ والمعتمد: أن الباء زائدة، و (إلحاد) مفعول به مجرور لفظا، منصوب محلا، و {بِظُلْمٍ} متعلقان بمحذوف صفة له.
{نُذِقْهُ} جواب الشرط، والفاعل تقديره:«نحن» . والهاء مفعول به. {مِنْ عَذابٍ:} متعلقان بما قبلهما. {أَلِيمٍ:} صفة {عَذابٍ،} وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه كما رأيت في الآية رقم [15] والجملة الاسمية: {وَمَنْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ:} يقال: بوأته منزلا، وبوأت له، كما يقال:
مكنتك ومكنت لك، والمبوأ: المنزل الملزوم، ومنه بوأه الله منزلا، أي: ألزمه إياه، وأسكنه فيه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار» . أخرجه البخاري عن أبي هريرة، رضي الله عنه. هذا؛ وقيل: المعنى: أرينا إبراهيم مكان البيت ليبنيه، وكان قد درس بالطوفان،
وغيره، فلما جاءت مدة إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف ألف صلاة، وألف ألف سلام-أمره الله ببنيانه، فجاء إلى موضعه، وجعل يطلب أثرا، فبعث الله ريحا، فكشفت عن أساس آدم على نبينا وعليه ألف صلاة وألف سلام، فرتب قواعده كما رأيت في الآية رقم [127] من سورة (البقرة).
{أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً:} الخطاب لإبراهيم عليه السلام، وهذا على سبيل الفرض والتقدير، فحاشاه من الشرك. هذا؛ ويقرأ:«(أن لا يشرك بي شيئا)» : وانظر الإعراب فإنه يوضح المعنى.
{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} أي: من الشرك، والأوثان، والأقذار. {لِلطّائِفِينَ} أي: الذين يطوفون بالبيت. {وَالْقائِمِينَ} أي: المقيمين فيه. {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أي: المصلين، جمع: راكع، وساجد. هذا؛ وينبغي أن تعلم: أن إبراهيم عليه السلام قد أمر ببناء البيت بعد أن أسكن ولده إسماعيل وأمه هاجر في مكة بسنوات، وهي يومئذ أرض، لا ماء فيها، ولا أنيس، انظر ما ذكرته في الآية رقم [37] من السورة المسماة باسمه، فبعد أن شب إسماعيل، وترعوع ذهب أبوه إلى مكة، وأخبره: أن الله أمره ببناء الكعبة، انظر ما ذكرته في الآية رقم [127] وما قبلها وما بعدها من سورة (البقرة).
هذا؛ وقد سها القرطبي-رحمه الله تعالى-حيث قال: وقيل: عنى به التطهير من الأوثان، كما قال تعالى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ} وذلك أن جرهما والعمالقة كانت لهم أصنام في محل البيت وحوله قبل أن يبنيه إبراهيم عليه السلام. انتهى. فهل كان يوجد في مكة ناس قبل سكنى إسماعيل، وأمه؟! وهل كان يوجد ماء فيها؟! وهل سكنت قبيلة جرهم في مكة قبل سكنى إسماعيل وأمه؟!
بعد هذا انظر عمر إبراهيم، وانظر أولاده، وأحفاده في الآية رقم [71] من سورة (هود) عليه السلام، وانظر شرح {شَيْءٍ} في الآية [30] من سورة (الأنبياء). أما القائمين فهو جمع: قائم، فهو اسم فاعل من: قام، يقوم، وأصله قاوم، فقلبت الواو ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها، ولم يعتد بالألف الزائدة، لكونها حاجزا غير حصين، فالتقى ساكنان: الألف الزائدة، والألف المنقلبة، فأبدلت الثانية منهما همزة، ومثله قل: في: بائع، فإن أصله: بايع.
الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف استئناف. (إذ): ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بفعل محذوف، تقديره: اذكر، أو هو مفعول به لهذا المقدر.
{بَوَّأْنا:} فعل، وفاعل. {لِإِبْراهِيمَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وقال أكثر المعربين: اللام:
حرف جر صلة، و (إبراهيم) مفعول به مجرور لفظا منصوب محلا، وهذا يعود إلى معنى (بوأنا) فمن قال: معناه: أرينا إبراهيم؛ فهو مفعول به، ومن قال: معناه: بينا؛ فاللام غير زائدة.
{مَكانَ:} مفعول به ثان على اعتبار اللام زائدة، ومفعول به على اعتبار اللام غير زائدة.
وقيل: هو ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والمعتمد الأول بدليل قوله تعالى:{تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ}
{مَقاعِدَ لِلْقِتالِ} . و {مَكانَ} مضاف، و {الْبَيْتِ} مضاف إليه، وجملة:{بَوَّأْنا..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذ) إليها، وجملة: «اذكر إذ
…
» إلخ المقدرة مستأنفة لا محل لها.
{مَكانَ:} قيل: مفسرة على تقدير فعل: وأمرناه، وقيل: هي زائدة على تقدير فعل. وقلنا له:
{لا تُشْرِكْ} . وقيل: هي مصدرية على تقدير: فعلنا ذلك لئلا تشرك بعبادتي
…
إلخ. واعتبرها أبو حيان، وابن عطية مخففة من الثقيلة، وهو ضعيف كما ترى؛ لأنها لم يسبقها فعل من أفعال القلوب، ونحوها. {لا:} ناهية. {تُشْرِكْ:} مضارع مجزوم ب: {لا} الناهية، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {بِي:} متعلقان بالفعل قبلهما. {شَيْئاً:} مفعول به، والجملة الفعلية:
{لا تُشْرِكْ..} . إلخ لا محل لها على اعتبار {مَكانَ} تفسيرية، وفي محل نصب مقول القول لقول محذوف على اعتبارها زائدة، وتؤول مع {مَكانَ} بمصدر في محل جر بحرف جر محذوف، على اعتبارها مصدرية، ويقويه قراءة:«(أن لا يشرك)» بالياء؛ إذ التقدير: لئلا يشرك. (طهر): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {بَيْتِيَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {لِلطّائِفِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الياء؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {وَالْقائِمِينَ:} معطوف على ما قبله. وأيضا {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} معطوف أيضا، وهما صفتان لموصوف محذوف؛ إذ التقدير: الرجال الركع السجود، وجملة:{وَطَهِّرْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها على جميع الاعتبارات فيها.
الشرح: {وَأَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ:} هذا الخطاب لإبراهيم، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، فإنه لما فرغ من بناء الكعبة بمعاونة ابنه إسماعيل، عليه السلام، كما رأيت فيما سبق؛ أمره ربه بأن ينادي في الناس، فقال: وما يبلغ صوتي؟ فقال الله له: عليك الأذان، وعلي الإبلاغ، فصعد جبل أبي قبيس، حتى صار كأطول الجبال، فأدخل أصبعيه في أذنيه، وأقبل بوجهه يمينا وشمالا، وشرقا وغربا، وقال: يا أيها الناس! ألا إن ربكم قد بنى بيتا، وكتب عليكم الحج إليه، فأجيبوا ربكم. فأجابه كل من يحج من أصلاب الرجال، وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك، فمن أجاب يومئذ حج، إن أجاب مرة فمرة، وإن أجاب مرتين فمرتين
…
إلخ.
هذا؛ وزعم الحسن-رحمه الله تعالى-أن المأمور بالتأذين هو محمد صلى الله عليه وسلم، أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أيّها الناس قد فرض الله عليكم الحجّ فحجّوا» . فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى
قالها ثلاثا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم
…
». إلخ الحديث رواه مسلم. هذا؛ والمعتمد: أن الأمر في الآية لإبراهيم.
{يَأْتُوكَ رِجالاً} أي: مشاة على أرجلهم، جمع: راجل. وإنما قال: {يَأْتُوكَ} وإن كانوا يأتون الكعبة؛ لأن المنادي إبراهيم، فمن أتى الكعبة حاجا، فكأنما أتى إبراهيم عليه السلام؛ لأنه أجاب نداءه، وفيه تشريف، وتعظيم له، هذا؛ وفي {رِجالاً} قراآت كثيرة، قال النحاس:
في جمع (راجل) خمسة أوجه. وإنما قدم الرجال على الركبان لزيادة تعبهم في المشي، ودل ذلك على أنّ حج الراجل أفضل من حج الراكب. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: ما آسى على شيء فاتني إلا أن لا أكون حججت ما شيا. هذا؛ والركوب أفضل إذا كانت المسافة بعيدة، ويلحق الحاج بالمشي مشقة شديدة.
{وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ} أي: على كل بعير مهزول ضعيف أتعبه السفر، وهو بمعنى: ضوامر، ودلت {كُلِّ} على العموم، فلذا جمع الضمير في {يَأْتِينَ} أي: جماعة الإبل. هذا؛ وقرئ «(يأتون)» صفة الرجال، والركبان. {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} أي: من كل طريق بعيد، وانظر ما ذكرته في (مرضع) في الآية رقم [2].
قال النسفي: قال محمد بن ياسين: قال لي شيخ في الطواف: من أين أنت؟ قلت: من خراسان، قال: كم بينكم وبين البيت؟ قلت: مسيرة شهرين، أو ثلاثة، قال: فأنتم جيران البيت، فقلت: أنت من أين جئت؟ قال: من مسيرة خمس سنوات، خرجت وأنا شاب، فاكتهلت، قلت: والله هذه الطاعة الجميلة، والمحبة الصادقة، فقال:[البسيط]
زر من هويت، وإن شطّت بك الدّار
…
وحال من دونه حجب وأستار
لا يمنعنّك بعد عن زيارته
…
إنّ المحبّ لمن يهواه زوّار
هذا؛ ومن المعلوم: أنه لم يبق بعد في هذه الأيام.
الإعراب: {وَأَذِّنْ:} الواو: حرف عطف. (أذن): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {فِي النّاسِ بِالْحَجِّ:} كلاهما متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل:{بِالْحَجِّ} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، التقدير: معلنا بالحج، وجملة:{وَأَذِّنْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها في الآية السابقة.
{يَأْتُوكَ:} مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للأمر، وهو عند الجمهور مجزوم بشرط مقدر، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والكاف مفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب للطلب. {رِجالاً:} حال من واو الجماعة، وساغ ذلك؛ لأنه بمعنى:
«ماشين» كما رأيت. {وَعَلى كُلِّ:} متعلقان بحال محذوفة معطوفة على ما قبلها، التقدير:
وركبانا على كل، و {كُلِّ} مضاف، و {ضامِرٍ} مضاف إليه. {يَأْتِينَ:} مضارع مبني على
السكون، والنون فاعله. {مِنْ كُلِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما و {كُلِّ} مضاف، و {فَجٍّ:} مضاف إليه. {عَمِيقٍ:} صفة {فَجٍّ،} وجملة: {يَأْتِينَ..} . إلخ في محل جر صفة (كل ضامر).
الشرح: {لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ:} ليحضروا منافع لهم دينية، ودنيوية على تفاوتها، واختلاف أنواعها. {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ:} قيل: المراد: أيام عشر ذي الحجة، وأعتمد: أنها يوم عيد الأضحى، وأيام التشريق بعده، وهي ثلاثة أيام، وهي المرادة بقوله تعالى:{وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ} الآية رقم [203] من سورة (البقرة). {عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ:} المراد بها: الضحايا، والهدايا تكون من النّعم، وهي: الإبل، والبقر، والغنم. وانظر رقم [34]. وهذا يقوي: أن الأيام المعلومات هي: يوم النحر، وأيام التشريق؛ لأن التسمية على بهيمة الأنعام تكون عند نحرها، ونحر الهدايا يكون في هذه الأيام، وانظر شرح {الْأَنْعامِ} في الآية رقم [21] من سورة (المؤمنون).
{فَكُلُوا مِنْها:} هذا الأمر للإباحة، وليس بواجب، وذلك؛ لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم شيئا، فأمر الله بمخالفتهم. واتفق العلماء على أن الهدي إذا كان تطوعا، يجوز للمهدي أن يأكل منه، وكذلك أضحية التطوع؛ لما روى جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-في قصة حجة الوداع: قال: وقدم علي رضي الله عنه ببدن من اليمن، وساق رسول الله صلى الله عليه وسلم مئة بدنة، فنحر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين بدنة، ونحر علي رضي الله عنه ما بقي منها، وأشركه في بدنه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، وطبخت، فأكل من لحمها، وشرب من مرقها. أخرجه مسلم.
واختلف العلماء في الهدي الواجب بالشرع، مثل دم التمتع والقران، والدم الواجب بإفساد الحج، وفوته، وجزاء الصيد، هل يجوز للمهدي أن يأكل منها شيئا. فقال الشافعي رضي الله عنه: لا يأكل منها شيئا، وكذلك ما أوجبه على نفسه بالنذر. وقال ابن عمر-رضي الله عنهما:
لا يأكل من جزاء الصيد، والنذر، ويأكل مما سوى ذلك. وبه قال أحمد، وإسحاق، وقال مالك رضي الله عنه: يأكل من هدي التمتع، ومن كل هدي وجب عليه إلا من فدية الأذى، وجزاء الصيد المنذور. وقال أصحاب الرأي: إنه يأكل من دم التمتع، والقرآن، ولا يأكل من واجب سواهما. انتهى. خازن.
{وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ:} الذي أصابه بؤس شديد. {الْفَقِيرَ:} المحتاج، والأمر فيه للوجوب، وأصل «فقير» في اللغة: الذي انكسر فقار ظهره، ثم يطلق على المعدم الذي لا يجد حاجته من
المال؛ لأنه يشبه الذي انبتّ ظهره، وعدم الحول والقوة، وهو أسوأ حالا من المسكين عندنا معاشر الشافعية، ويدل عليه قوله تعالى:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} فسماهم مساكين مع كونهم يملكون سفينة يتجرون فيها، وينقلون فيها بضائع للناس من صقع إلى صقع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله المسكنة، ويتعوذ بالله من الفقر، فعن أنس بن مالك-رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«اللهمّ أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة» . رواه الترمذي، فلو كان المسكين أسوأ حالا من الفقير؛ لما تعوذ من الفقر، وسأل المسكنة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {لِيَشْهَدُوا:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل (أذّن) أو ب:{يَأْتُوكَ} . {مَنافِعَ:} مفعول به. {لَهُمْ:} متعلقان ب: {مَنافِعَ،} أو بمحذوف صفة له.
{وَيَذْكُرُوا:} معطوف على ما قبله منصوب مثله
…
إلخ. {اِسْمَ:} مفعول به، وهو مضاف، {اللهِ:} مضاف إليه. {فِي أَيّامٍ:} متعلقان بالفعل (يذكروا). {مَعْلُوماتٍ:} صفة {أَيّامٍ} .
{عَلى:} حرف جر. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر ب: {عَلى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل (يذكروا) وتعليقهما بمحذوف حال من اسم الله لا بأس به، وجملة:
{رَزَقَهُمْ} صلة {ما} والعائد محذوف، التقدير: على الذي رزقهم الله إياه. {مِنْ بَهِيمَةِ:}
متعلقان بمحذوف حال من العائد المحذوف، و {مِنْ} بيان لما أبهم في {ما،} و {بَهِيمَةِ} مضاف، و {الْأَنْعامِ} مضاف إليه.
{فَكُلُوا:} الفاء: هي الفصيحة. (كلوا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك واقعا وحاصلا؛ فكلوا، والكلام كله مستأنف لا محل له. {مِنْها:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:{وَأَطْعِمُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {الْفَقِيرَ:} صفة (البائس) وهي صفة مؤكدة.
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)}
الشرح: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} أي: ليزيلوا أدرانهم، وأوساخهم، والمراد منه: الخروج عن الإحرام بالحلق، وقص الشارب، ونتف الإبط، وقلم الأظفار، والاستحداد، ولبس الثياب.
والحاج أشعث أغبر إذا لم يزل هذه الأوساخ. هذا؛ وتفسير «القضاء» بالإزالة تفسير مجازي؛ لأن «القضاء» في الأصل: القطع، والفصل، فأريد به هنا الإزالة. وقال ابن عمر وابن عباس
-رضي الله عنهما: قضاء التفث مناسك الحج كلها. وقال قطرب: تفث الرجل: إذا كثر وسخه. قال أمية بن أبي الصلت: [البسيط]
حفّوا رؤوسهم لم يحلقوا تفثا
…
ولم يسلّوا لهم قملا وصئبانا
وقال أيضا: [البسيط]
ساخين آباطهم لم يقذفوا تفثا
…
وينزعوا عنهم قملا وصئبانا
ساخين: تاركين آباطهم؛ أي: لم يزيلوا عنها وسخها. {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ:} أراد به جميع ما ينذره المسلم من حج، وهدي، أمروا بوفاء النذر مطلقا إلا ما كان معصية، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا وفاء لنذر في معصية» . وقال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» .
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ:} أراد به طواف الإفاضة الواجب، ووقته يوم النحر بعد الرمي، والحلق، والطواف ثلاثة أنواع: طواف القدوم، وهو أنّ من قدم مكة يطوف بالبيت سبعا، وهذا الطواف تحية البيت، وهو سنة مؤكدة كتحية غيره من المساجد في الدنيا، وهي ركعتان. عن عائشة-رضي الله عنها-أن أول شيء بدأ به حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توضأ، ثم طاف، ثم لم تكن عمرة، ثم حج أبو بكر، وعمر مثله. متفق عليه. والثاني: طواف الركن، وهو طواف الإفاضة المتقدم. والثالث: طواف الوداع، وهو واجب، لا رخصة لمن أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر في أن يفارقها حتى يطوف بالبيت سبعا، فمن تركه؛ فعليه دم إلا المرأة الحائض، فإنه يجوز لها تركه، قال ابن عباس-رضي الله عنهما: أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يكون الطّواف آخر عهدهم بالبيت إلاّ أنّه رخّص للمرأة الحائض. متفق عليه..
وفي معنى {الْعَتِيقِ} أقوال كثيرة، فقال مجاهد، والحسن: العتيق: القديم، ويعضده قوله تعالى في سورة (آل عمران):{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ} الآية رقم [96] وفي الحديث الصحيح: أنه أول مسجد وضع في الأرض، وقيل: سمي عتيقا؛ لأن الله أعتقه من أن يتسلط عليه جبار بالهوان إلى انقضاء الزمان. وفي الترمذي عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما-قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنّما سمّي البيت عتيقا؛ لأنّه لم يظهر عليه جبّار» . فإن قال قائل: إن الحجاج الفاسق نصب المنجنيق على الكعبة حتى هدم قسما منها، قيل له: إنما أعتقها الله عن جبابرة الكفار؛ لأنهم أتوا بأنفسهم متمردين، ولحرمة البيت غير معتقدين، وقصدوا الكعبة بالسوء، فعصمت منهم، ولم تنلها أيديهم، وأما الحجاج فإنه لم يكن قصده الكعبة، وإنما كان قصده مضايقة عبد الله بن الزبير الذي اعتصم بها، ومع ذلك له عند الله ما يستحق من الخزي، والوبال، والمقت، والنكال.
وقالت طائفة: سمي عتيقا؛ لأنه لم يملك موضعه قط. وقالت فرقة: سمي عتيقا؛ لأن الله عز وجل يعتق فيه رقاب المذنبين من النار. وقيل: سمي عتيقا؛ لأنه أعتق من غرق الطوفان.
هذا؛ والعتيق: الكريم، والعتق: الكرم. قال طرفة يصف أذني فرس: [الطويل]
مؤلّلتان تعرف العتق فيهما
…
كسامعتي مذعورة وسط ربرب
وعتق الرقيق: خروجه من ذل الرق إلى كرم الحرية، والعتيق: الكريم الأصل، قال الشاعر يهجو غيره:[الوافر]
أما والله أن لو كنت حرّا
…
وما بالحرّ أنت ولا العتيق
أي ولست بالكريم الأصل. ومن أسماء أبي بكر الصديق-رضي الله عنه-عتيق؛ أي:
معتوق من النار، وقيل: بيت عتيق من قولهم: عتاق الخيل، والطير، أي: كرامها. والعواتق:
النساء الشريفات اللاتي لم يخرجن من بيوت أهلهن قط. جاء في الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر يوما وقال بصوت رفيع سمعته العواتق في المنازل، فقال:«يا معشر من آمن بلسانه، ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتّبعوا عوراتهم، فإنّه من تتّبع عورة أخيه تتّبع الله عورته، ومن تتّبع الله عورته فضحه، ولو في جوف بيته» .
الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {لْيَقْضُوا:} مضارع مجزوم بلام الأمر، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {تَفَثَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية مرتبطة بكلام محذوف؛ أي: ثم بعد حلهم، وخروجهم من الإحرام، وبعد الإتيان بما عليهم من النسك؛ ليزيلوا أو ساخهم وأدرانهم. وما بعدها معطوف عليها، وإعرابها مثلها بلا فارق. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {ذلِكَ:} الإشارة إلى ما ذكر في الآيات السابقة. {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ:}
المراد بذلك هنا: أفعال الحج، ومناسكه، ويدخل في ذلك تعظيم الأماكن المقدسة جميعها، ويجمع ذلك أن تقول: الحرمات: امتثال الأمر، والنهي. ومعنى التعظيم: العلم بأنه يجب على الإنسان القيام بمراعاتها، وحفظ حرمتها. {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} أي: التعظيم خير له عند ربه من التهاون بشيء منها. وقيل: ذلك التعظيم خير من خيراته ينتفع به، وليست {خَيْرٌ}
للتفضيل، وإنما هي عدة بخير، وانظر شرح (الحرام) في الآية رقم [95] من سورة (الأنبياء)، والعندية عندية تشريف، وتكريم، لا عندية مكان، وقرب.
{وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ} أي: أكل لحمها، والانتفاع بجميع أجزائها؛ لأن الحكم الشرعي؛ وإن نسب إلى ذات؛ فالطلب لا يتعلق إلا بالأفعال، نحو قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ} أي: الاستمتاع بهن. و: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} أي: أكلها، و:{حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ} أي: تناولها، لا أكلها؛ لتناول شرب ألبان الإبل، وقوله تعالى:{وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها} أي:
منافعها: الركوب، والتحميل. {إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ} أي: إلا المتلو عليكم في القرآن تحريمه، وهو ما ذكر في الآية رقم [145] من سورة (الأنعام)، والآية رقم [4] من سورة (المائدة).
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ:} {الرِّجْسَ:} الشيء القذر، وصفها الله بالرجس، و {الرِّجْسَ:} النجس، فهي نجسة حكما، و {الْأَوْثانِ:} جمع: وثن، وهو التمثال من خشب، أواحديد، أو ذهب، أو فضة، ونحوها، انظر الآية رقم [52] من سورة (الأنبياء)، وكانت العرب تنصبها، وتعبدها. والنصارى تنصب الصليب، وتعبده، وتعظمه، فهو كالتمثال أيضا. قال عدي بن حاتم الطائي-رضي الله عنه: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عنقي صليب من ذهب، فقال:«يا عدي ألق عنك هذا الوثن!» . أي: الصليب. وأصله من: وثن الشيء أي: أقام في مقامه، وسمي الصنم وثنا؛ لأنه ينصب، ويركز في مكان، فلا يبرح عنه، والمراد: اجتنبوا عبادة الأوثان.
{وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ:} اتركوا قول الزور، واجتنب الشيء: ابتعد عنه، والزور:
الباطل، والكذب، وسمي زورا؛ لأنه ميل عن الحق، وكل ما عدا الحق فهو كذب، وباطل، وزور، ولا تنس: أن الحكيم العليم قد قرن قول الزور-أي شهادة الباطل-بعبادة الأوثان، وأيده النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أيمن بن خريم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيبا، فقال:«أيّها الناس عدلت شهادة الزّور الإشراك بالله. ثمّ قرأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ.» أخرجه الترمذي، وأخرجه أبو داود عن خريم بن فاتك بنحوه، وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر-ثلاثا-» قلنا: بلى يا رسول الله! قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين» . وكان متّكئا فجلس، فقال:«ألا وقول الزّور، وشهادة الزّور» . فما زال يكرّرها؛ حتّى قلنا: ليته سكت. أخرجه البخاري.
وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الطّير لتضرب بمناقيرها، وتحرّك أذنابها من هول يوم القيامة، وما يتكلّم به شاهد الزّور، ولا تفارق قدماه على الأرض حتى يقذف به في النّار» . رواه الطبراني في الأوسط، وكان عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، ويسخم وجهه، ويطوف به في الأسواق. هذا؛ وكتمان الشهادة-أي: الامتناع عن أدائها-كشهادة الزور، قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [283]:
{وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«من كتم شهادة إذا دعي إليها؛ كان كمن شهد بالزّور» . رواه الطبراني في الكبير، والأوسط.
تنبيه: لقد ذكرت في الآية رقم [90] من سورة (المائدة) الرد على الفسقة، والفجرة الذين يقولون: إن الله لم يحرم الخمر تحريما قاطعا؛ لأنه لم يذكر مادة (حرّم) في تحريمها، انظرها تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، والله الموفق، والمعين، وبه أهتدي، وأستعين.
الإعراب: {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: الأمر، أو الشأن ذلك، أو في محل مبتدأ، والخبر محذوف؛ أي: ذلك أمر الله، وحكمه، وأجاز القرطبي اعتباره مفعولا به لفعل محذوف، التقدير: امتثلوا ذلك، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، واسم الإشارة يذكر للفصل بين كلامين، أو بين وجهي كلام واحد، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبتدأ. {يُعَظِّمْ:} مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {حُرُماتِ:}
مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، و {حُرُماتِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {فَهُوَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {خَيْرٌ:} خبره. {اللهِ:} متعلقان ب: {خَيْرٌ،} والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه كما رأيت في الآية رقم [15]، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق ب:
{خَيْرٌ} أيضا، وقيل: متعلق بمحذوف حال، وهو غير وجيه. و {عِنْدَ} مضاف، و {رَبِّهِ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.
{وَأُحِلَّتْ:} الواو: حرف استئناف. (أحلت): ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث.
{لَكُمُ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الْأَنْعامُ:} نائب فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {إِلاّ:} أداة استثناء. {ما:} تحتمل الموصولة، والمصدرية، فعلى الأول مبنية على السكون في محل نصب على الاستثناء، وهو يحتمل الاتصال، والانقطاع. {يُتْلى:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، ونائب الفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {ما} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة {ما} لا محل لها. وينبغي أن تعلم: أن أصل الكلام: إلا ما يتلى عليكم تحريمه، فحذف المضاف، واستتر الضمير في الفعل، وهو المضاف إليه في الأصل. {عَلَيْكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، هذا؛ وعلى اعتبار {ما} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب على الاستثناء، التقدير: إلا المتلو عليكم تحريمه.
{فَاجْتَنِبُوا:} الفاء: حرف عطف على رأي من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها، وأمثالها الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط محذوف.
(اجتنبوا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك متلوا عليكم؛ فاجتنبوا.
{الرِّجْسَ:} مفعول به. {مِنَ الْأَوْثانِ:} متعلقان بمحذوف حال من {الرِّجْسَ} على اعتبار «أل» للتعريف، أو بمحذوف صفة له على اعتبار «أل» للجنس، والكلام «وإذا كان
…
» إلخ المقدر معطوف على ما قبله، أو هو مستأنف لا محل له على الاعتبارين، والجملة الفعلية بعدها معطوفة عليها، لا محل لها مثلها. {قَوْلَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الزُّورِ} مضاف إليه من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، التقدير: قولكم الزور.
الشرح: {حُنَفاءَ لِلّهِ:} مسلمين. وقيل: مخلصين. وهو جمع مفرده: حنيف، وتكرر الكلام على إبراهيم-عليه الصلاة والسلام-بأنه كان حنيفا، وفسر بحقه بأنه مائل عن كل دين باطل إلى دين الحق قال الشاعر:[الوافر]
ولكنّا خلقنا إذ خلقنا
…
حنيفا ديننا عن كلّ دين
هذا؛ والحنف: الميل في القدمين. هذا؛ وقال القرطبي: ولفظة «حنفاء» من الأضداد تقع على الاستقامة، وتقع على الميل. أقول: وهذا يكون بالمعنى المأخوذ منه، وهو الميل، وقد ذكرت لك فيما مضى: أن الفعل «مال» يتغير معناه بتغير الجار، تقول: ملت إليه، وملت عنه، وهو ظاهر.
{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ} أي: بعبادة غيره، أو في صفة من صفاته، أو في فعل من أفعاله. وما أحراك أن تنظر ما ذكرته في الآية رقم [110] من سورة (الكهف) ففيها الدواء الشافي لقلبك.
{فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ:} سقط، والفعل من باب ضرب. {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ:} تسلبه، وتذهب به. {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ} أي: تميل، وتذهب به الرياح العاتية. {فِي مَكانٍ سَحِيقٍ:} بعيد، وفي الفعل (تخطف) قراآت كثيرة.
قيل في معنى الآية: من أشرك بالله؛ فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس وراءه إهلاك بأن صور حاله بصورة حال من خرّ من السماء، فاختطفته الطير، ففرقت أجزاءه في حواصلها، أو عصفت به الرياح العاتية؛ حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة، فالمراد من الآية تصوير تلك الحالة العجيبة، لا وقوعها في الوقت الحاضر، قال ابن هشام: إنهم يعبرون عن الماضي والآتي، كما يعبرون عن الشيء الحاضر قصدا لإحضاره في الذهن؛ حتى كأنه مشاهد حالة الإخبار.
قال الزمخشري في كشافه: يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب، والمفرق، فإن كان تشبيها مركبا؛ فكأنه قال: من أشرك بالله؛ فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده إهلاك بأن صور
حاله بصورة حال من خر من السماء، فاختطفته الطير متفرقا موزعا في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض الأماكن البعيدة. وإن كان مفرقا؛ فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء، والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المهلكة.
هذا؛ و {الطَّيْرُ} اسم جمع، مثل: غنم، وخيل، وقيل: بل هو جمع طائر، مثل: صحب، وصاحب، ويصح إطلاقه على المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، وجمع الطير:
طيور، وأطيار، مثل فرخ، وفروخ، وأفراخ. وقال قطرب، وأبو عبيدة: الطير قد يقع أيضا على الواحد، كما في قوله تعالى:{فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ} وطائر الإنسان: عمله الذي قلّده، قال تعالى:{وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} . والطير أيضا: الاسم من التطير، ومنه قولهم:
لا طير إلاّ طير الله. كما يقال: لا أمر إلاّ أمر الله. انتهى. مختار الصحاح.
الإعراب: {حُنَفاءَ:} حال من واو الجماعة. {لِلّهِ:} متعلقان به. {غَيْرَ:} حال ثانية فيها معنى التوكيد، و {غَيْرَ} مضاف و {مُشْرِكِينَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد. {بِهِ:} متعلقان بمشركين؛ لأنه جمع اسم فاعل، ففاعله مستتر فيه. {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ:} مثل: {وَمَنْ يُعَظِّمْ..} .
إلخ. {فَكَأَنَّما:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (كأنما): كافة ومكفوفة. {خَرَّ:} ماض، وفاعله يعود إلى (من) وهو بمعنى:«يخر» ليصح العطف عليه. {مِنَ السَّماءِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة: (كأنما
…
) إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول:
لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما في الآية السابقة، والجملة الاسمية:{وَمَنْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {فَتَخْطَفُهُ:} الفاء: حرف عطف. (تخطفه): مضارع، والهاء مفعول به. {الطَّيْرُ:} فاعله. والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {أَوْ:} حرف عطف. {تَهْوِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعة ضمة مقدرة على الواو. {بِهِ:} متعلقان بما قبلهما. {الرِّيحُ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها أيضا. {فِي مَكانٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {سَحِيقٍ:} صفة {مَكانٍ} .
{ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)}
الشرح: {ذلِكَ:} الإشارة إلى ما ذكر في الآيتين السابقتين من اجتناب الرجس، وقول الزور
…
إلخ. {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ:} جمع شعيرة، أو شعارة: وهي كل شيء لله تعالى فيه أمر، أشعر به، وأعلم، فشعائر الله: أعلام دينه؛ لا سيما ما يتعلق بالمناسك، لذا فسرت
الشعائر هنا بدين الله، أو فرائض الحج، أو مواضع نسكه، أو ما يقدم إلى الحرم من الهدايا؛ لأنها من معالم الحج، وهو أوفق لظاهر ما بعده. وتعظيمها أن تختار حسانا، سمانا، غالية الأثمان، فقد روي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أهدى مئة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب، وأنّ عمر رضي الله عنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمئة دينار. هذا؛ وسميت البدن شعائر؛ لإشعارها بما يعرف به: أنها هدي، كطعن حديدة بسنامها.
{فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} أي: فإن تعظيم شعائر الله من أعمال أصحاب القلوب التقية المتقية، ففيه حذف هذه المضافات، وإضافة الصفة للموصوف، ومثل الآية الكريمة قول كلحبة العرني اليربوعي:[الطويل]
فأدرك إرقال العرادة ظلعها
…
وقد جعلتني من حزيمة إصبعا
إذ التقدير: جعلتني منه ذا مسافة إصبع واحدة، وهذا هو الشاهد رقم [1057] من كتابنا فتح القريب المجيب. وانظر (التقوى) في الآية رقم [1]. هذا؛ وقد ذكرت القلوب؛ لأنها مراكز للتقوى، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«التّقوى ها هنا» . ثلاث مرات، وأشار إلى صدره، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ:} انظر إعراب مثل هذه الكلمات في الآية رقم [30].
{فَإِنَّها:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنها): حرف مشبه بالفعل، و (ها) اسمه. {مِنْ تَقْوَى:} متعلقان بمحذوف خبر (إنّ) وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف للتعذر، وتقوى مضاف، و {الْقُلُوبِ} مضاف إليه. قال القرطبي: وقرئ برفع القلوب على أنها فاعلة بالمصدر الذي هو (تقوى). ولم أره لغيره. هذا؛ والجملة الاسمية: (إنها
…
) إلخ في محل جزم جواب الشرط وهي خالية من ضمير يعود إليه، فيقدر: فإنها من تقوى القلوب منهم على معنى (من)، أو تقديره: فإن تعظيمها منه على لفظ (من). وانظر حذف المضافات في الشرح، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما رأيت في الآية رقم [15].
{لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)}
الشرح: {لَكُمْ فِيها:} أي: في البدن المهداة إلى البيت. {مَنافِعُ} أي: من الركوب والدرّ، والنسل، والصوف، وغير ذلك. {إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي: إلى أن يسميها هديا، فإذا فعل ذلك لم يكن له شيء من منافعها، وهذا قول مجاهد، وقتادة، والضحاك، ورواية عن ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين-وقيل: المراد بالأجل المسمى: هو نحرها، وهو قول عطاء، وعلى القول الأول يركبها بعد تسميتها هديا عند الحاجة، ويشرب لبنها بعد ري فصيلها.
واختلف العلماء في ركوب الهدي، فقال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق: يجوز ركوبها، والحمل عليها من غير ضرر بها؛ لما روي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة، فقال:«اركبها» فقال: يا رسول الله! إنّها بدنة، فقال:«اركبها» . قال: إنّها بدنة، قال:«اركبها ويلك!» . في الثانية، أو في الثّالثة. أخرجاه في الصحيحين. وروى جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-وسئل عن ركوب الهدي، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتّى تجد ظهرا» وهذا يؤيد حجة أهل الرأي الذين يقولون: لا يركبها إلاّ أن يضطر إليها.
{ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أي: محل نحر الهدايا عند البيت العتيق، والمراد به: جميع أرض الحرم. روي عن جابر-رضي الله عنهما-في حديث حجة الوداع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نحرت هاهنا، ومنى كلّها منحر، فانحروا في رحالكم» . ومن قال الشعائر: المناسك، فالمراد: التحلل منها إلى البيت، أي: يطوفون به طواف الإفاضة، ويحلقون بعد رمي جمرة العقبة، ويلبسون ثيابهم، ويحل لهم ما كان محظورا عليهم من محرمات الإحرام. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والماب.
الإعراب: {لَكُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فِيها:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. {مَنافِعُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {إِلى أَجَلٍ:} متعلقان بمحذوف صفة {مَنافِعُ} .
{مُسَمًّى:} صفة {أَجَلٍ} مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها. {ثُمَّ:} حرف عطف. {مَحِلُّها:} مبتدأ، و (ها): في محل جر بالإضافة. {إِلَى الْبَيْتِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {الْعَتِيقِ:} صفة (البيت)، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
الشرح: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} أي: جماعة مؤمنة سلفت قبلكم. {جَعَلْنا مَنْسَكاً:} قرئ بكسر السين؛ أي: مذبحا وهو موضع ذبح القربان. وقرئ بفتح السين على أنه مصدر، بمعنى: إراقة الدم، وذبح القرابين. {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ:} المراد بها:
الضحايا، والهدايا للبيت تكون من النّعم، وهي: الإبل، والبقر، والغنم، والماعز، سماها الله بهيمة؛ لأنها لا تتكلم، وقيد بالأنعام؛ لأن ما سواها لا يجوز ذبحه في القرابين؛ وإن جاز أكله من حيوانات البر والبحر. {فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ} أي: لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فاذكروا على ذبح قرابينكم اسمه وحده. {فَلَهُ أَسْلِمُوا} أي: أخلصوا له العبادة،
وانقادوا لأوامره، وأطيعوا. {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما:
المتواضعين، وقيل: المطمئنين إلى الله، وقيل: الخاشعين الرقيقة قلوبهم. وقيل: هم الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لا ينتصرون، وانظر صفاتهم فيما يلي.
هذا؛ وفي الآية التفات من الغيبة إلى خطاب الجمع، ومنه إلى خطاب المفرد، انظر الالتفات في الآية رقم [34] من سورة (الأنبياء). هذا؛ والبشارة: عبارة عن الخبر السار الذي يظهر على بشرة الوجه أثر الفرح به، ولما كان ذلك الفرح، والسرور يوجبان تغير بشرة الوجه؛ كان كذلك الحزن، والغم يظهر أثرهما على الوجه وهو الكمودة التي تعلو الوجه عند حصول الغم والحزن، فثبت بهذا: أن البشارة لفظ مشترك بين الخبر السار، والخبر المحزن، فصح قوله تعالى في سورة (النحل):{وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} ولكن قد تستعمل البشارة بالشر وبما يسوء على سبيل التهكم، والاستهزاء، كما في قوله تعالى:{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} وهو كثير في القرآن الكريم.
هذا؛ وأما {أُمَّةٍ} فهي بمعنى الجماعة، كما رأيت، ولا واحد لها من لفظها، وتكون واحدا إذا كان ممن يقتدى به، كقوله تعالى:{إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً} انظر شرح هذه الآية برقم [120] من سورة (النحل)، والأمة: الطريقة، والملة في الدين، كقوله تعالى حكاية عن قول المشركين:{إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ} . وبها فسرت الآية رقم [92] من سورة (الأنبياء) وقال النابغة: [الطويل]
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
…
وهل يأثمن ذو أمّة وهو طائع؟!
هذا؛ وكل جنس من الحيوان أمة، كقوله تعالى:{وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ} والأمة: الحين، والوقت، كقوله تعالى:{وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي بعد وقت، وحين.
الإعراب: {وَلِكُلِّ:} الواو: حرف استئناف. (لكل): متعلقان بالفعل بعدهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني تقدم عليه، و (كل) مضاف، و {أُمَّةٍ} مضاف إليه. {جَعَلْنا:} فعل، وفاعل. {مَنْسَكاً:} مفعول به أول، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {لِيَذْكُرُوا:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {اِسْمَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ} انظر الآية رقم [28] ففيها الكفاية. {فَإِلهُكُمْ:} الفاء: حرف استئناف. (إلهكم):
مبتدأ. {إِلهٌ:} خبره. {واحِدٌ:} صفة (إله)، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.
{فَلَهُ:} الفاء: هي الفصيحة: وانظر الآية رقم [30]. (له): متعلقان بما بعدهما، والتقديم يفيد الاختصاص. {أَسْلِمُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق،
والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك هو الواقع؛ فله أسلموا، والكلام كله مستأنف، لا محل له. {وَبَشِّرِ:} الواو: حرف عطف. (بشر): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {الْمُخْبِتِينَ:} مفعول به منصوب
…
إلخ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.
الشرح: {الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ:} فزعت لذكر الله، وخافت استعظاما له، وتهيبا من جلاله. وقيل: هو الرجل يهم بمعصية، فيقال له: اتق الله، فينزع عنها خوفا من عقابه.
هذا؛ وانظر ما ذكرته في الآية رقم [2] من سورة (الأنفال) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، وهذه الإحالة مني على ما ذكرت من أجل الاختصار. {وَالصّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ:} من ضر، ومتاعب في هذه الدنيا. وانظر (الصبر) في الآية رقم [85] من سورة (الأنبياء).
{وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ} أي: المؤدين لها على الوجه الأكمل، وانظر الآية رقم [31 و 59] من سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام. {وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} أي: ينفقون بعض المال الذي رزقناهم إياه في وجوه الخير، والإحسان، والمعروف.
تنبيه: لقد وصف الله المتقين في مطلع سورة (البقرة) بخمس صفات، وجعلهم جديرين بالفلاح، والنجاح، ووصف المؤمنين في مطلع سورة (الأنفال) بخمس صفات، واعتبرهم مؤمنين حقا، ووصف المخبتين في هذه الآية بأربع صفات، ولم يذكر جزاءهم، ولكنه جلّت قدرته، وتعالت حكمته وصف المؤمنين في مطلع سورة (المؤمنون) بسبع صفات، وجعلهم جديرين بوراثة الفردوس، والخلود فيها. تأمل، وتدبر. وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب بدلا من {الْمُخْبِتِينَ،} أو صفة له، أو هو مفعول به لفعل محذوف، تقديره: أعني، ونحوه، أو هو في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هم الذين
…
إلخ. والجر لا وجه له هنا. {إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {ذُكِرَ:} ماض مبني للمجهول. {اللهُ:} نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها. {وَجِلَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث. {قُلُوبُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية جواب {إِذا} لا محل لها، و {إِذا} ومدخولها صلة الموصول.
(الصابرين): منصوب على المدح بفعل محذوف، تقديره: أمدح الصابرين. {عَلى ما:} متعلقان ب: (الصابرين). {أَصابَهُمْ:} ماض: وفاعله يعود إلى {ما} وهو العائد، والهاء مفعول به،
والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {وَالْمُقِيمِي:} معطوف على (الصابرين) فهو منصوب مثله، وعلامة النصب فيهما الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنهما جمعا مذكر، وفاعلهما مستتر فيهما، وحذفت النون من الثاني للإضافة، وهو مضاف، و {الصَّلاةِ} مضاف إليه من إضافة جمع اسم الفاعل لمفعوله، هذا؛ وقرئ:«(والمقيمين الصلاة)» بإثبات النون ونصب الصلاة على الأصل، كما قرئ بحذف النون ونصب الصلاة على توهم النون، وأن حذفها للتخفيف لطول الاسم، وأنشد سيبويه قول الشاعر:[المنسرح]
الحافظو عورة العشيرة لا
…
يأتيهم من ورائنا نطف
هذا، وجملة «أمدح الصابرين
…
» إلخ مستأنفة، وعطفها على صلة الموصول غير منسجم معنى. {وَمِمّا:} الواو: حرف عطف. (مما): متعلقان بالفعل {يُنْفِقُونَ} بعدهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب:(من) والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: ينفقون من الذي، أو: من شيء رزقناهم إياه، وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها. هذا؛ ويظهر لي صحة عطف الجمل الثلاث على الموصول، وصلته، وذلك على اعتبار «أل» ب:(الصابرين) و (المقيمي) موصولة فيكون المعنى: والذين يصبرون، والذين يقيمون الصلاة، والذين ينفقون مما رزقناهم. وهذا حل معنى، لا حل إعراب. تأمل.
الشرح: {وَالْبُدْنَ:} جمع بدنة وهي الناقة من الإبل، وقد سميت بها الإبل لعظم بدنها، مأخوذة من: بدن الرجل، يبدن بدنا، وبدانة، فهو بادن، أي: ضخم. والصحيح: أن البدنة لا تطلق على البقرة، وإن كانت تشاركها في الإجزاء عن سبعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة-رضي الله عنه-في فضل التبكير لصلاة الجمعة: «من راح في الساعة الأولى؛ فكأنّما قرّب بدنة، ومن راح في السّاعة الثانية؛ فكأنّما قرّب بقرة
…
» إلخ فتفريقه صلى الله عليه وسلم بين البقرة، والبدنة يدل على أن البقرة، لا يقال لها بدنة. والله أعلم. هذا؛ ويقرأ (البدن) بضم الدال وسكونها.
{جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ} أي: من أعلام دينه. قيل: لأنها تشعر؛ أي: تطعن بحديدة في سنامها فتعرف بذلك: أنها هدي، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [32]. {لَكُمْ فِيها خَيْرٌ:} المراد بهذا الخير: المنافع التي ذكرت في الآية [33]. والصواب عمومه هنا في خيري الدنيا والآخرة.
{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ} بأن تقولوا عند ذبحها: بسم الله، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر. اللهم إنّ هذا منك وإليك. و {صَوافَّ} قائمة معقولة إحدى قوائمها، توقف، وقد صفت رجلاها ويدها اليمنى، والأخرى معقولة، أي: مربوطة ركبتها، فتنحر كذلك، وهو سنة. عن زياد بن جبير قال: رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنة ينحرها، قال: ابعثها قياما مقيّدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم. متفق عليه.
{فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها} أي: سقطت بعد النحر، ووقع جنبها على الأرض، وهو كناية عن الموت. كما كنى عن النحر، والذبح بقوله:{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها} . {فَكُلُوا مِنْها:} أمر معناه الندب، فقال كل الفقهاء: يستحب أن يأكل من هديه، وفيه أجر، وثواب، ومخالفة لما كان الجاهليون من الامتناع من أكلها. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [28] فإنه جيد.
{وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ:} فالأول: هو الراضي بما عنده، وبما يعطى من غير مسألة، فهو جالس في بيته متعفف عن ذلّ المسألة، والثاني: هو الذي يريك نفسه، ويتعرض، ولا يسأل.
وقيل: القانع: السائل، وعليه يكون قانع من الأضداد، فإن كان فعله: قنع، يقنع من باب:
سلم، وعلم؛ فهو من القناعة، وهو الرضا، والعفة عن التذلل بالسؤال، وإن كان فعله: قنع، يقنع من باب: فتح، وقطع، فهو من التذلل بالسؤال، وعليه قولهم: والعبد حرّ إن قنع، والحر عبد إن قنع، ومصدر الأول: قنعا، وقناعة، ومصدر الثاني: قنوع بضم القاف. وقال بعض أهل العلم: إن القنوع بضم القاف أيضا قد يكون بمعنى: الرضا، والقانع بمعنى: الراضي، وأنشد قول الشاعر:[الوافر]
وقالوا: قد زهيت فقلت كلاّ
…
ولكنّي أعزّني القنوع
وقال لبيد بن ربيعة الصحابي رضي الله عنه: [الطويل]
فمنهم سعيد آخذ بنصيبه
…
ومنهم شقيّ بالمعيشة قانع
وفي المثل: خير الغنى القنوع، وشرّ الفقر الخضوع. انتهى. مختار. وخذ قول أبي ذؤيب الهذلي:[الكامل]
والنّفس راغبة، إذا رغّبتها
…
وإذا تردّ إلى قليل تقنع
هذا؛ والقنوع بفتح القاف بوزن «فعول» هو مبالغة اسم الفاعل: قانع على الاعتبارين اللذين رأيتهما. هذا؛ والأمر للوجوب عند الشافعي، رضي الله عنه.
{كَذلِكَ:} أي: مثل ما وصفنا من نحرها قياما. {سَخَّرْناها لَكُمْ:} ذللناها لكم مع عظمها، وقوتها حتى تأخذونها منقادة، فتعقلونها، وتحبسونها صافّة قوائمها، ثم تطعنون في لباتها.
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ:} إنعامنا عليكم بالهداية، والإيمان، والتوفيق، والإذعان لما يرضي الواحد
الديان. هذا؛ و «الشكر» : صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله. وفعله يتعدى بنفسه، وبحرف الجر، تقول: شكرته، وشكرت له، كما نصحته، ونصحت له.
هذا؛ والترجي في هذه الآية وأمثالها، إنما هو بحسب عقول البشر؛ لأن الله تعالى لا يحصل منه ترج، ورجاء لعباده. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
الإعراب: {وَالْبُدْنَ:} الواو: حرف استئناف. (البدن): مفعول به لفعل محذوف يفسره المذكور بعده، ويقرأ بالرفع على أنه مبتدأ. {جَعَلْناها:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية مفسرة على نصب (البدن) وفي محل رفع خبره على رفعه، والكلام مستأنف على الاعتبارين لا محل له. {لَكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ شَعائِرِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما مفعوله الثاني في المعنى، و {شَعائِرِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {لَكُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فِيها:} متعلقان بمحذوف خبر ثان، أو بالخبر المحذوف، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. {خَيْرٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المنصوب، أو من {شَعائِرِ اللهِ،} والرابط: الضمير فقط، وأجيز اعتبارها مستأنفة لا محل لها. {فَاذْكُرُوا:} الفاء: هي الفصيحة، وانظر الآية رقم [30]. (اذكروا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب (اشربي) في الآية رقم [26] من سورة (مريم) عليهاالسّلام، {اِسْمَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {عَلَيْها:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{فَاذْكُرُوا..} . إلخ لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء.
{صَوافَّ:} حال من الهاء في (عليها) فهو منصوب، ولم ينصرف؛ لأنه على وزن: فواعل، وهي صيغة منتهى الجموع، وهي علة تقوم مقام علتين من موانع الصرف. هذا؛ ويقرأ:«(صوافن)» على أنّ واحده: صافن، ويقرأ:«(صوافي)» أي: خوالص لله تعالى، ويقرأ:«(صواف)» بكسر الفاء وتنوينها مخففة، وهي بمعنى التي قبلها، لكن حذفت الياء تخفيفا على غير قياس على لغة من يسكن الياء مطلقا، كقولهم: أعط القوس باريها، قال مجنون ليلى:[الطويل]
ولو أنّ واش باليمامة داره
…
وداري بأعلى حضرموت اهتدى ليا
وهذا هو الشاهد، رقم [538] من كتابنا فتح القريب المجيب. والقراءة بالتسكين شاذة، لكن ذكرتها؛ لأن المفسرين ذكروها. {فَإِذا:} الفاء: حرف استئناف. (إذا): انظر الآية السابقة {وَجَبَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث. {جُنُوبُها:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها. {فَكُلُوا:} الفاء: واقعة في جواب (إذا). (كلوا): أمر، وفاعله، {مِنْها:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما مفعوله في المعنى، وجملة:(كلوا منها) جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، وجملة:(أطعموا القانع والمعتر) معطوفة على جواب (إذا) لا محل لها مثله. {كَذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف عامله ما بعده، التقدير: سخرناها لكم تسخيرا كائنا مثل وصفنا إياها فيما
تقدم، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، وانظر تفصيل الإعراب في الآية رقم [16].
{سَخَّرْناها:} فعل، وفاعل، ومفعول به. {لَكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، وأجيز اعتبارها حالا؛ أي: حالة كونها مسخرة. {لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {تَشْكُرُونَ:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، تقديره: إنعامنا، وتفضلنا عليكم، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعلّ)، والجملة الاسمية:
{لَعَلَّكُمْ..} . إلخ مفيدة للتعليل لا محل لها.
الشرح: {لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها} أي: لن يصل إلى الله لحومها، ولا دماؤها؛ ولكن يصل إليه، ويرفع لديه التقوى، أي: ما أريد به وجهه، فذلك الذي يقبله، ويرفع إليه، ويثيب عليه، قال الرسول المعظم صلى الله عليه وسلم:«إنّما الأعمال بالنّيات، وإنما لكلّ امرئ ما نوى» . هذا؛ ويقرأ الفعلان بالتاء، نظرا إلى اللحوم. هذا؛ و {لُحُومُها} جمع: لحم، ويجمع أيضا على:
لحام، قال لبيد-رضي الله عنه-في معلقته:[الكامل]
أدعو بهنّ لعاقر أو مطفل
…
بذلت لجيران الجميع لحامها
هذا؛ ويقال: لحم، وألحم، ولحمان، ولحام، ورجل لحيم شحيم: إذا كان قرما إلى اللحم، والشحم. {كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ..}. إلخ: أي: سخر البدن، وذللها للذبح، ومكننا من التصرف فيها، وهي أعظم منا أبدانا، وأقوى منا أعضاء؛ ذلك ليعلم ابن آدم: أن الأمور ليست على ما تظهر للعبد من التدبير، وإنما هي بحسب ما يريدها العزيز القدير، فيغلب الصغير الكبير؛ ليعلم الخلق: أن الغالب هو الله الواحد القهار فوق عباده انتهى. قرطبي بتصرف. هذا؛ وكرر ذكر التسخير للتأكيد، وزيادة التذكير بالنعمة.
{لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ:} ذكر سبحانه في الآية السابقة ذكر اسمه على البدن ونحوها التي تذبح تقربا إليه، وذكر هنا التكبير ليجمع المسلم بينهما عند ذبح القربة، بل وغيرها من الذبائح، وكان عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-يجمع بينهما إذا نحر هديه، فيقول:
باسم الله، والله أكبر، وهذا من فقهه رضي الله عنه،، كيف لا وقد روى أبو داود عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: ذبح النبي صلى الله عليه وسلم يوم الذّبح كبشين أقرنين، موجوءين، خصيّين، أملحين، فلمّا وجّههما؛ قال: «إنّي وجّهت وجهي للّذي فطر السّموات والأرض
…
إلى قوله:
وأنا أوّل المسلمين، اللهمّ منك، ولك، عن محمد، وأمّته، باسم الله، والله أكبر». ثم ذبح.
ومعنى {هَداكُمْ:} أرشدكم، ووفقكم لذبح الذبائح، والتقرب به إليه.
{وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ:} بجناب النعيم، ورضا رب العالمين، و (محسنين) جمع: محسن، وهو من أحسن العمل، وأخلص فيه النية لله تعالى، وانظر «البشارة» في الآية رقم [34]. وانظر شرح {التَّقْوى} في الآية [1]، وشرح لفظ الجلالة في الآية رقم [3].
أما {دِماؤُها} فهو جمع: دم، وأصله: دميّ، وقيل: دمو، حذفت لامه، فيثنى على لفظه:
دمان بدون رد لامه، ويثنى: دميان، أو: دموان برد لامه، أما في الجمع فلا بدّ من ردّ لامه، فيقال:
دماي أو دماو، فيقال في إعلاله: تحركت الياء، أو الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، ولم يعتدّ بالألف الزائدة؛ لأنها حاجز غير حصين، فالتقى ساكنان: الألف الزائدة، والألف المنقلبة، فأبدلت الثانية همزة. وأضيف: أن أهل الجاهلية كانوا إذا ذبحوا القرابين؛ لطخوا الكعبة بدمائها تقربا إلى الله، فهمّ المسلمون بذلك، فنزلت الآية الكريمة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {لَنْ:} حرف نفي، ونصب، واستقبال. {يَنالَ:} مضارع منصوب ب: {لَنْ} .
{اللهَ:} منصوب على التعظيم. {لُحُومُها:} فاعل، و (ها): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): صلة للتأكيد. {دِماؤُها:}
معطوف على ما قبله. {وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف. (لكن): حرف استدراك. {يَنالُهُ:}
مضارع، والهاء مفعول به. {التَّقْوى:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {مِنْكُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من التقوى. {كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ} انظر إعراب مثلها في الآية السابقة.
{لِتُكَبِّرُوا:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {عَلى:} حرف جر.
{ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر ب: {عَلى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {هَداكُمْ:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى الله، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: على الذي هداكم إليه. هذا؛ ويجوز اعتبار {ما} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب: {عَلى} التقدير: على هدايته إياكم. {وَبَشِّرِ:} الواو: حرف استئناف. (بشر): أمر، وفاعله مستتر تقديره:
«أنت» . {الْمُحْسِنِينَ:} مفعول به منصوب
…
إلخ، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها.
{إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوّانٍ كَفُورٍ (38)}
الشرح: {إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: مبالغ في الدفع عنهم مبالغة من يغالب فيه. ويقرأ «(يدفع)» والمفعول محذوف على هذه القراءة؛ أي: يدفع غائلة المشركين، وكيدهم عن المؤمنين
منهم، وينصرهم عليهم. {إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوّانٍ كَفُورٍ} أي: خوان في أمانة الله، كفور لنعمته، قال ابن عباس-رضي الله عنهما: خانوا الله، فجعلوا معه شريكا، وكفروا نعمه. هذا؛ وكل من أشرك مع الله أحدا في ذاته، أو في أفعاله، فهو خائن، و {خَوّانٍ} صيغة مبالغة، و {كَفُورٍ} كذلك، وانظر (الكفر) في الآية رقم [30]، وانظر خيانة الله والرسول في الآية رقم [27] من سورة (الأنفال).
تنبيه: في الآية الكريمة مسألة بيانية لم يتعرض لها المفسرون، وهي أنه إذا وقعت «كل» في حيز النفي-أي: بعده-كان النفي موجها إلى الشمول خاصة، وأفاد بمفهومه ثبوت الفعل لبعض الأفراد، كقولك:(ما جاء كلّ القوم، ولم آخذ كلّ الدراهم، وكلّ الدّراهم لم آخذ). وإن وقع النفي في حيزها-أي: بعدها لفظا، ومحلا-اقتضى السلب عن كل فرد، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له ذو اليدين: أنسيت أم قصرت الصلاة يا رسول الله؟!: «كلّ ذلك لم يكن» وقد يشكل على قولهم قوله تعالى في هذه الآية: {إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوّانٍ كَفُورٍ،} وكقوله تعالى في سورة (لقمان) رقم [18]: {وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ،} وقوله في سورة (البقرة) رقم [276]: {وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفّارٍ أَثِيمٍ،} وقوله تعالى في سورة (ن) رقم [10]: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاّفٍ مَهِينٍ،} حيث وقعت (كل) في حيز النفي، فتفيد أن المنفي الشمول، وأن البعض ثابت له المحبة من الله تعالى.
والجواب عن الآيات: أن دلالة المفهوم، إنما يعول عليها عند عدم المعارض، وهو هنا موجود؛ إذ دل الدليل وهو الإجماع على تحريم الخيانة، والكفر، والاختيال، والفخر، والحلف، ومستند هذا الإجماع الآيات القرآنية، والأحاديث الشريفة الكثيرة. وأخيرا: فمعنى عدم محبة الله لهؤلاء كناية عن بغضهم، والسخط عليهم، وطردهم من رحمة الله، وأما محبته تعالى للعبد؛ فكناية عن رضاه عنه، وغفر ذنوبه، وستر عيوبه.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {يُدافِعُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهَ} والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية ابتدائية، أو مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين. {عَنِ الَّذِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها. وإعراب الجملة الثانية واضح إن شاء الله تعالى. هذا؛ و {كَفُورٍ} صفة ل: {خَوّانٍ} في الظاهر، وفي الحقيقة إنما هما صفتان لموصوف محذوف، التقدير: إن الله لا يحب كل شخص أو عبد خوان كفور، فهما صيغتا مبالغة، كما رأيت، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها مثل سابقتها. والله أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على الهادي، وسلّم.
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)}
الشرح: {أُذِنَ لِلَّذِينَ..} . إلخ: أي: أذن الله للمسلمين بالجهاد؛ ليقاتلوا المشركين. قال المفسرون: كان المشركون من أهل مكة يؤذون المؤمنين، فلا يزالون يجيئون من بين مضروب،
ومشجوج، ويشكون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول لهم:«اصبروا، فإني لم أؤمر بقتال» . حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، فاعترضهم المشركون، فأذن الله لهم في قتال الكفار، وهي أول آية في القتال بعد ما نهى الله عنه في نيف وسبعين آية، وهذا الإذن من الله كان بسبب ظلم الكفار لهم، والاعتداء عليهم. هذا؛ ويقرأ الفعلان {أُذِنَ} و {يُقاتَلُونَ} بالبناء للمجهول والبناء للمعلوم.
{وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ:} هذا وعد من العلي القدير بنصر المستضعفين من المسلمين، وقد أنجز الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده. هذا؛ والآية الكريمة تتضمّن الإذن بالجهاد، كما رأيت، وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، وحذر من تركه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجهاد واجب مع كلّ أمير، برّا كان أو فاجرا.
والصلاة واجبة عليكم خلف كلّ مسلم، برا كان أو فاجرا، وإن عمل الكبائر». رواه أبو داود.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم، وأنفسكم، وألسنتكم» . رواه أبو داود، والنسائي.
وعن عبد الرحمن بن جبر-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اغبرّت قدما عبد في سبيل الله، فتمسه النّار» . أخرجه البخاري. وعن معاذ بن جبل-رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قاتل في سبيل الله فواق ناقة؛ فقد وجبت له الجنة. ومن سأل الله القتل من نفسه صادقا، ثمّ مات، أو قتل؛ فإنّ له أجر شهيد، ومن جرح جرحا في سبيل الله، أو نكب نكبة؛ فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها لون الزّعفران، وريحها ريح المسك» . رواه أبو داود، والترمذي. وعن عبادة بن الصامت رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جاهدوا في سبيل الله، فإنّ الجهاد في سبيل الله باب من أبواب الجنّة ينجّي الله تبارك وتعالى به من الهمّ، والغمّ» . رواه أحمد.
وعن النعمان بن بشير-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصّائم نهاره، القائم ليله حتى يرجع متى رجع» رواه أحمد. وانظر ما ذكرته في (النساء) رقم [95]، وفي (الأنفال) رقم [61]، وفي (التوبة)[121] تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلّط الله عليكم ذلاّ لا ينزعه حتّى ترجعوا إلى دينكم» . أخرجه أبو داود، وغيره. وعن ثوبان-رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها» .
قالوا: أمن قلّة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: «بل أنتم يومئذ كثيرون، ولكنكم غثاء كغثاء السّيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوّكم المهابة منكم، وليقذفنّ في قلوبكم الوهن» . قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: «حبّ الدنيا وكراهية الموت» . أخرجه أبو داود، وأحمد وغيرهما.
الإعراب: {أُذِنَ:} ماض مبني للمجهول. {لِلَّذِينَ:} متعلقان بمحذوف في محل رفع نائب فاعل، وقيل: نائب الفاعل محذوف؛ إذ التقدير: أذن في القتال للذين، وهو جيد معنى، وعلى
البناء للمعلوم فالفاعل يعود إلى (الله)، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {يُقاتَلُونَ:} مضارع مرفوع على القراءتين، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعل، أو نائب فاعل، وعلى الأول فالمفعول به محذوف، التقدير: يقاتلون أعداءهم.
{بِأَنَّهُمْ:} الباء: حرف جر، (أنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {ظُلِمُوا:} ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعل، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {أُذِنَ} .
{وَإِنَّ:} الواو: حرف استئناف. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمه. {عَلى نَصْرِهِمْ:}
متعلقان ب: (قدير) بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. {لَقَدِيرٌ:} خبر (إنّ)، واللام هي المزحلقة، والجملة الاسمية:{وَإِنَّ اللهَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ:} هم المهاجرون من أهل مكة، خرجوا مكرهين من ديارهم بسبب مضايقة المشركين لهم. وقد استدل بهذه الآية وأمثالها على جواز بيع دور مكة، وإجارتها، كما رأيت في الآية رقم [25]. {بِغَيْرِ حَقٍّ} أي: بغير موجب استحقوا به الإخراج من ديارهم. {إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ:} هذا هو السبب الوحيد في إخراجهم من ديارهم، وهو التوحيد، والإيمان بالله، ورسوله، ونبذ عبادة الأوثان. وهذا ينبغي أن يكون سبب التمكين، وموجبه لا موجب الإخراج، وما أشبه هذا بقول السحرة لفرعون:{وَما تَنْقِمُ مِنّا إِلاّ أَنْ آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا لَمّا جاءَتْنا} وقوله تعالى: {وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ،} وذكرته في سورة (الأعراف)، وسأذكره في سورة (البروج) إن شاء الله تعالى؛ لأنه مدح بما يشبه الذم.
{وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي: لولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء، والمؤمنين من قتال الأعداء؛ لا ستولى أهل الشرك، والضلال، وعطلوا ما بيّنته أرباب الديانات من مواضع العبادات، ولكنه دفع ذلك بأن أوجب الجهاد؛ ليتفرغ أهل الدين للعبادة، فالجهاد أمر متقدم في الأمم، ومستمر إلى يوم القيامة، وبه صلحت، وتصلح الشرائع، وتثبت أمور العبادات، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [250] من سورة (البقرة).
{لَهُدِّمَتْ:} خربت، وأزيلت، ويقرأ بالتشديد، والتخفيف. {صَوامِعُ:} هي معابد الرهبان المتخذة في الجبال، والوديان، جمع: صومعة. {وَبِيَعٌ:} هي معابد النصارى، وكنائسهم في
البلد، جمع: بيعة، وتجمع أيضا على: بيعات، وقيل: البيع للصابئين، والصوامع للنصارى.
وقيل: العكس. {وَصَلَواتٌ} هي كنائس اليهود، ويسمونها بالعبرانية صلوتا، فعربت، فقيل:
صلوات، وفيها تسع قراآت ذكرها ابن عطية. {وَمَساجِدُ} أي: ومساجد للمسلمين، ومعاني هذه الأسماء هي في الأمم التي لها كتاب على قديم الدهر، ولم يذكر في هذه الآية المجوس، ولا أهل الشرك؛ لأن هؤلاء ليس لهم ما يجب حمايته، ولا يوجد ذكر الله إلا عند أهل الشرائع، والوثنيون في هذه الأيام مثلهم في الهند، وغيرها.
{وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} أي: من ينصر دينه ونبيه، وقد أنجز الله وعده بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب، وأكاسرة العجم، وقياصرتهم، وأورثهم أرضهم، وديارهم. {إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ:} قادر مقتدر. {عَزِيزٌ:} لا يغلبه شيء في الأرض، ولا في السماء.
هذا؛ أما «الدار» فهي منزل الإنسان، ومسكنة في الدنيا، وهي مؤنثة، وقد تذكّر، أصلها:
دور بفتحتين، قلبت الواو ألفا؛ لتحركها، وانفتاح ما قبلها، وجمعها: ديار، ودور، وأدؤر، وأدور، وأدورة، وأدوار، ودورات، وديارات، ودوران، وديران، وأصل ديار: دوار، قلبت الواو ياء؛ لأنها وقعت عينا في جمع على وزن فعال، لمفرد اعتلت عينه بالقلب. هذا؛ والدار أيضا البلد، والقبيلة، ودار القرار في الآخرة، إما الجنة، وأما النار، والداران: الدنيا والآخرة، ودار الحرب: بلاد العدو. هذا؛ وقد قال أبو حاتم: إن الديار العساكر، والخيام، لا البنيان والعمران، وإن الدار البنيان، والعمران، وعليه قوله تعالى:{فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ} أي:
في عساكرهم، وخيامهم ميتين. وقال جل شأنه:{فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ} أي: في مدينتهم المعمورة، ولو أراد غير ذلك؛ لجمع الدار، فعلم من كلامه: أن الديار مخصوصة بالخيام، انتهى. قال صاحب الخزانة: وهذا غفلة عن قول الشاعر، وهو مجنون ليلى:(أقبّل ذا الجدار) وهو حائط البيت، وذلك في قوله:[الوافر]
أمرّ على الدّيار ديار ليلى
…
أقبّل ذا الجدار، وذا الجدارا
وما حبّ الدّيار شغفن قلبي
…
ولكن حبّ من سكن الدّيارا
الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بدل مما قبله، أو في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، تقديره: أعني الذين. أو في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هم الذين. {أُخْرِجُوا:} ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {مِنْ دِيارِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {بِغَيْرِ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، و (غير) مضاف، و {حَقٍّ} مضاف إليه. {إِلاّ:} أداة استثناء. {أَنْ يَقُولُوا:} مضارع منصوب ب: {أَنْ،}
وعلامة نصبه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمصدر المؤول من {أَنْ يَقُولُوا} في محل جر بدلا من {حَقٍّ،} والمعنى: ما أخرجوا من ديارهم، إلا بسبب قولهم، واعتبره السمين في محل نصب على الاستثناء المنقطع. {رَبُّنَا:} مبتدأ، و (نا) في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {اللهُ:} خبره، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول.
{وَلَوْلا:} الواو: حرف استئناف. (لولا): حرف امتناع لوجود. {دَفْعُ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {اللهُ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {النّاسَ:} مفعول به للمصدر. {بَعْضَهُمْ:} بدل من {النّاسَ،} والهاء في محل جر بالإضافة. {بِبَعْضٍ:} متعلقان بالمصدر {دَفْعُ} على أنهما مفعوله الثاني، وخبر المبتدأ محذوف، كما هو الغالب بعد «لولا» ، والجملة الاسمية ابتدائية لا محل لها.
{لَهُدِّمَتْ:} اللام: واقعة في جواب (لولا). (هدمت): ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث.
{صَوامِعُ:} نائب فاعل، ولم يصرف؛ لأنه صيغة منتهى الجموع، وما بعده معطوف عليه، وجملة:
{لَهُدِّمَتْ..} . إلخ جواب (لولا)، و (لولا) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له.
{يُذْكَرُ:} مضارع مبني للمجهول. {فِيهَا:} متعلقان به. {اِسْمُ:} نائب فاعله، و {اِسْمُ} مضاف، و {اللهُ} مضاف إليه. {كَثِيراً:} صفة مفعول مطلق محذوف؛ أي: ذكرا كثيرا، واعتباره حالا من {اِسْمُ اللهِ} لا بأس به، وجملة:{يُذْكَرُ..} . إلخ في محل رفع صفة (مساجد)، وبعضهم يعتبرها صفة للأماكن الأربعة، فيكون من باب التنازع. تأمل، والمعتمد الأول؛ لأن هذه الأمة هي المشهورة بكثرة ذكر الله تعالى في المساجد، وغيرها. {وَلَيَنْصُرَنَّ:}
الواو: حرف استئناف. اللام: واقعة في جواب قسم محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. (ينصرن): مضارع مبني على الفتح؛ لا تصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية جواب القسم المقدر لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. {مِنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {يَنْصُرُهُ:} مضارع، وفاعله يعود إلى {مِنْ} وهو العائد، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {إِنَّ اللهَ..}. إلخ: انظر مثل هذه الجملة في الآية السابقة، فهي مثلها في إعرابها.
الشرح: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} أي: نصرناهم على عدوهم؛ حتى تمكنوا من البلاد.
وهو ثناء قبل بلاء، واختبار. قال البيضاوي: وفيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين؛ إذ لم
يستجمع ذلك غيرهم من المهاجرين. هذا؛ وقال قتادة: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: المراد: المهاجرون، والأنصار، والتابعون لهم بإحسان. وقال عكرمة: هم أهل الصلوات الخمس. والأصح التعميم؛ وإن نزلت الآية في حق الأولين؛ إذ دل الدليل على أن المسلمين الأولين الذين أتوا بعد السابقين لم يفتحوا بلدا، وتمكنوا منه إلا نشروا الإسلام في ربوعه، وفعلهم في الأندلس، وغيرها من بلاد العجم شاهد صدق على ما أقول.
{أَقامُوا الصَّلاةَ:} أدوها على الوجه الأكمل، وانظر الآية رقم [31 و 58] من سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام. {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ:} وهو ما استحسنه الشرع، والعقل، والفطرة السليمة، والمنكر: ما استقبحه الشرع، والعقل، والفطرة السليمة. {وَلِلّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ} أي: آخر أمور الخلق، ومصيرها إليه تعالى؛ لأنه يبطل فيها كل ملك سوى ملكه، فتصير الأمور إليه بلا منازع. هذا؛ وإعلال (آتوا) و (نهوا) مثل إعلال:{تَوَلَّوْا} في الآية رقم [109] من سورة (الأنبياء).
الإعراب: {الَّذِينَ:} بدل من {الَّذِينَ أُخْرِجُوا..} . إلخ، أو بدل من {مِنْ} انظر التفسير، والشرح يتضح لك ذلك، أو هو في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، تقديره: أعني، أو هو خبر مبتدأ محذوف، التقدير: هم الذين، والبدلية أقوى؛ لشدة ارتباط الكلام بعضه ببعض.
تأمل. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {مَكَّنّاهُمْ:} ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، و (نا): فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:
لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بما قبلهما. {أَقامُوا:} ماض مبني على الضم في محل جزم جواب الشرط، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية. {الصَّلاةَ:} مفعول به، والجملة: (آتوا الزكاة
…
) إلخ كلها معطوفة على جملة جواب الشرط، و {إِنْ} ومدخولها صلة الموصول، فهو كلام لا محل له من الإعراب. {وَلِلّهِ:} الواو: حرف استئناف. (لله):
متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عاقِبَةُ:} مبتدأ مؤخر، و {عاقِبَةُ} مضاف، و {الْأُمُورِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.
الشرح: في هذا الكلام تسلية للنبي، وتعزية عما كان يلقاه من أذى قومه له. أي: كان قبلك أنبياء كذّبوا، فصبروا، وأوذوا، فاحتملوا إلى أن أهلك الله المكذبين، فاقتد بهم، واصبر، فإنك منصور على قومك، كما نصرت الرسل على أقوامهم، وما أكثر مثل هذه التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنك تجدها واضحة كل وضوح في سورة (الأنعام)، وإن أردت أن تعرف تفصيل ما جرى بين هؤلاء
الأقوام وبين رسلهم؛ فانظر سورة (الأعراف)، وسورة (هود) عليه السلام، وسورة (الشعراء).
وانظر شرح {قَوْمُ} في الآية رقم [74] من سورة (الأنبياء)، و (عاد) قوم هود، و (ثمود) قوم صالح، واستغنى فيهما عن ذكر قومهما لا ستشهارهم بهذا الاسم الأخصر، والأصل في التعبير العلم، ولا علم لغيرهما هذا؛ وفي الآية دليل على تأنيث {قَوْمُ} لأن الفعل {كَذَّبَتْ} أنث.
الإعراب: {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {يُكَذِّبُوكَ:} مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والكاف مفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية
…
إلخ، وجواب الشرط محذوف؛ إذ التقدير:
فاصبر، وتأسّ. {فَقَدْ:} الفاء: حرف تعليل. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال.
{كَذَّبَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث. {قَبْلَهُمْ:} ظرف متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {قَوْمُ:} فاعل، وهو مضاف، و {نُوحٍ} مضاف إليه. {وَعادٌ وَثَمُودُ:} معطوفان على {قَوْمُ نُوحٍ} . {وَقَوْمُ:} معطوف على ما قبله، وهو مضاف، و {إِبْراهِيمَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة، وجملة:{فَقَدْ كَذَّبَتْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها تعليل للجواب المحذوف، وهو أولى من اعتبارها جوابا للشرط، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَقَوْمُ لُوطٍ} معطوف أيضا، وهو مضاف ومضاف إليه.
الشرح: {وَأَصْحابُ مَدْيَنَ:} المراد: من أرسل إليهم شعيب عليه السلام، ولم يقل: وقوم شعيب؛ لأن قومه يشملون أصحاب مدين، وأصحاب الأيكة، وأصحاب مدين سابقون على أصحاب الأيكة في التكذيب له، فخصوا بالذكر لسبقهم في التكذيب، وانظر {أَصْحابُ الْأَيْكَةِ} في سورة (الشعراء) الآية رقم [176] وما بعدها. {وَكُذِّبَ مُوسى:} غيّر النظم، وبنى الفعل للمفعول؛ لأن قومه بني إسرائيل لم يكذبوه، وإنما كذبه فرعون، وقوم فرعون، ولأن تكذيبه كان أشنع، وكانت آياته أعظم وأشيع، ولا تنس: أنه لقي من عنت بني إسرائيل، وفسادهم، وفجورهم، وفسوقهم ما لقي، وأكثر ما تجد ذلك في سورة (الأعراف)، وسورة (البقرة).
{فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ} أي: أمهلتهم، وأخرت العقوبة عنهم إلى انتهاء آجالهم، وهذا كقوله تعالى في سورتي (الأعراف) و (ن):{وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} أي: عاقبتهم.
{فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ:} استفهام معناه التعجب، ومفاده التغيير، أي: فانظر كيف كان تغييري ما كانوا فيه من النعم، والرخاء بالعذاب، والهلاك؟! فكذلك أفعل بالمكذبين من قريش. قال الجوهري: النكير، والإنكار تغيير المنكر. أو المعنى: فكيف كان عقابي للمكذبين الأولين؟!
فليحذر كفار قريش من مثله، أي: فحين كذبوا رسلهم جاءهم إنكاري بالتدمير، والإهلاك، والاستئصال، ولم تغن عنهم قوتهم، ولا أموالهم، ولا أولادهم شيئا، فما لكفار قريش لا يهتدون، ولا يعتبرون بهؤلاء؟! فلا يرتدعون عما هم عليه من الكفر، والعصيان، والطغيان.
بعد هذا انظر شرح (الكفر) في الآية رقم [30] من سورة (الأنبياء)، وشرح (صاحب) في الآية رقم [34] من سورة (الكهف)، وشرح {ثُمَّ} في الآية رقم [65] من سورة (الأنبياء).
الإعراب: {وَأَصْحابُ:} معطوف على {قَوْمُ نُوحٍ..} . إلخ، و (أصحاب) مضاف، و {مَدْيَنَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. (كذّب): ماض مبني للمجهول. {مُوسى:} نائب فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، والجملة الفعلية معطوفة على جملة: (قد كذبت
…
) إلخ أو هي مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين. (أمليت): فعل، وفاعل. {لِلْكافِرِينَ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {ثُمَّ:} حرف عطف. {أَخَذْتُهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {فَكَيْفَ:} الفاء: حرف استئناف. (كيف):
اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب خبر {كانَ} تقدم عليها، وعلى اسمها، ومفاد الاستفهام الإنكار، والتعجب. {كانَ:} ماض ناقص. {نَكِيرِ:} اسم كان مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء المحذوفة في محل جر بالإضافة، وجملة:{فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ} مستأنفة لا محل لها، أو هي معطوفة على ما قبلها.
الشرح: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} أي: كثير من القرى. {أَهْلَكْناها:} أهلكنا أهلها، ويقرأ:
«(أهلكتها)» . {وَهِيَ ظالِمَةٌ} أي: لنفسها بالكفر، وارتكاب المعاصي. {فَهِيَ خاوِيَةٌ:} ساقطة.
{عَلى عُرُوشِها:} على سقوفها، وقيل: إن أشجار العنب المعرشة سقطت عروشها على الأرض.
ومثله في (البقرة) الآية رقم [259]، وفي الكهف [42]. {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} أي: وكم من بئر عامرة في البوادي متروكة مخلاة، لا يسقى منها أحد لهلاك أهلها. {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} أي: رفيع طويل، وقيل: مشيد بالجص، وأصحاب القصور ملوك الحضر، وأصحاب الآبار ملوك البوادي، والمعنى: أهلكنا هؤلاء، وهؤلاء، ول:(قصر) صفة محذوفة، أي: معطل غير مسكون.
هذا؛ وقيل: إن البئر المعطلة، والقصر المشيد باليمن، أما القصر فعلى قلّة جبل، والبئر في سفحه، ولكل واحد منهما قوم، كانوا في نعمة، فكفروا، فأهلكهم الله، وبقي القصر، والبئر
خاليين. وقيل: إن هذه البئر كانت بحضرموت في بلدة يقال لها: حاضوراء، وذلك أن أربعة آلاف نفر ممن آمن بصالح عليه السلام لما نجوا من العذاب أتوا إلى حضرموت، ومعهم صالح، فلما وصلوا إلى حضرموت؛ مات صالح، فسمّي المكان حضرموت لذلك، ولما مات صالح؛ بنوا حاضوراء، وقعدوا على هذا البئر، وأمّروا عليهم رجلا منهم، فأقاموا دهرا، وتناسلوا حتى كثروا، وعبدوا الأصنام، فأرسل الله تعالى إليهم نبيا يقال له: حنظلة بن صفوان، فوعظهم، ونهاهم، فقتلوه في السوق، فأهلكهم الله، وعطلت بئرهم، وخرب قصرهم. انتهى. خازن.
هذا؛ وقال السهيلي. وأما القصر المشيد؛ فقصر بناه شدّاد بن عاد بن إرم، لم يبن مثله في الأرض-فيما ذكروا، وزعموا-. وحاله أيضا كحال هذه البئر المذكورة في إيحاشه بعد الأنيس. انتهى. قرطبي. أقول وهذا القصر ذكره الله تعالى في سورة (الفجر)، كما ستعرفه إن شاء الله تعالى. هذا؛ وسمي القصر قصرا؛ لقصور الفقراء عن تحصيله، وحبسهم عن نيله، والوصول إليه، والأظهر أن البئر، والقصر على العموم من غير تعيين.
هذا؛ وأما (كأين): أصلها: «أي» الاستفهامية، دخلت عليها كاف التشبيه، فصارت بمعنى «كم» الخبرية التكثيرية، وهي كناية عن عدد مبهم مثل:«كم» و «كذا» وفيها خمس لغات، كلها قرئ بها: إحداها: (كأيّن) وهي الأصل، وبها قرأ الجماعة إلا ابن كثير. والثانية:«(كائن)» بوزن: كاعن، وبها قرأ ابن كثير، وجماعة، وهي أكثر استعمالا من (كأيّن) وإن كانت الأصل، وهو كثير في الشعر العربي. الثالثة:«(كئين)» بوزن: كريم. الرابعة: «(كيئن)» بياء ساكنة، وهمزة مكسورة. والخامسة:«(كأن)» بوزن: كفن. هذا؛ والجلال المحلي اعتبر (كأيّن) بسيطة غير مركبة، وأن آخرها نون من نفس الكلمة لا تنوين؛ لأن هذه الدعاوى المتقدمة لا يقوم عليها دليل، والشيخ رحمه الله تعالى سلك في ذلك الطريق الأسهل، والنحويون ذكروا هذه الأشياء محافظة على أصولهم مع ما ينضم إلى ذلك من الفوائد، وتشحين الذهن، وتمرينه. انتهى.
جمل.
هذا؛ و (البئر) ركية الماء التي تطوى بالحجارة، قال سنان بن الفحل الطائي:[الوافر]
فإنّ الماء ماء أبي وجدّي
…
وبئري ذو حفرت وذو طويت
فإذا لم تبن بالحجارة فهي: جب، كما رأيت في الآية رقم [10] من سورة (يوسف) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وهي مؤنثة، وجمعها في القلة: أبؤر، وأبآر، ومن العرب من يقلب الهمزة، فيقول: آبار، فإذا كثرت فهي البئار، كالديار.
الإعراب: {فَكَأَيِّنْ:} الفاء: حرف استئناف. (كأين): اسم كناية بمعنى كثير مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، وأجاز السمين اعتباره مفعولا به لفعل محذوف يفسره المذكور بعده. {مِنْ:} حرف جر صلة. {قَرْيَةٍ:} تمييز ل: (كأين) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة
على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {أَهْلَكْناها:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، أو هي مفسرة لا محل لها على الوجه الثاني، والكلام مستأنف لا محل له، وانظر ما نقلته عن الزمخشري في الآية رقم [48] الآتية. {وَهِيَ:} الواو: واو الحال. (هي): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {ظالِمَةٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الواو، والضمير. وجملة:{فَهِيَ خاوِيَةٌ} معطوفة على جملة: {أَهْلَكْناها} فهي في محل رفع خبر مثلها. {عَلى عُرُوشِها:} متعلقان ب: {خاوِيَةٌ} وأجاز الزمخشري تعليقهما بمحذوف خبر ثان للمبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَبِئْرٍ:} معطوف على {قَرْيَةٍ} .
{مُعَطَّلَةٍ:} صفة (بئر). {وَقَصْرٍ:} معطوف على ما قبله. {مَشِيدٍ:} صفة (قصر) وله صفة أخرى محذوفة، مدلول عليها بصفة (بئر) أي: قصر مشيد معطل.
الشرح: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ:} حث لكفار قريش على أن يسافروا، فيشاهدوا هذه القرى المهلكة، فيعتبروا، ويتعظوا، ويحذروا عقاب الله أن ينزل بهم كما نزل بمن قبلهم. {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها:} ما يجب أن يعقل من التوحيد بما حصل لهم من الاستبصار، والاستدلال.
وأضاف العقل، -أي الفهم-إلى القلب؛ لأنه محله، كما أن السمع محله الأذن.
{فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ:} الضمير ضمير القصة، والجملة الفعلية بعده مفسرة له، ويقرأ:
«(فإنه)» بالتذكير على أن الضمير ضمير الشأن. {وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ..} . إلخ: المعنى فما عميت أبصارهم عن الإبصار، بل عميت قلوبهم عن الاستبصار، والاعتبار، ولكل إنسان أربع أعين:
عينان في رأسه، وعينان في قلبه، فإذا أبصر ما في القلب، وعمي ما في الرأس؛ لم يضره، وإن أبصر ما في الرأس، وعمي ما في القلب؛ لم ينفعه، كيف لا؛ وقد اعتبر الله الكفار أهل جهنم كالأنعام بل هم أضل، لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، انظر الآية رقم [179] من سورة (الأعراف) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، واستعمال العمى في القلب استعمارة. هذا؛ وفي قوله تعالى:{الَّتِي فِي الصُّدُورِ} زيادة تصوير وتقرير، فإن القلوب في الصدور كما هو معروف. وفيه إشعار: أن عيونهم سليمة لا عيب فيها، إنما الخلل في عقولهم، وفي قلوبهم. هذا؛ ولما عمي عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما-أنشد يقول:[البسيط]
إن يأخذ الله من عينيّ نورهما
…
فإنّ قلبي مضيّ ما به ضرر
أرى بقلبي دنياي وآخرتي
…
والقلب يدرك ما لا يدرك البصر
فاحفظهما فإنهما درة ثمينة، وخذ قول بشار بن برد الأعمى:[مجزوء البسيط]
قالوا العمى منظر قبيح
…
قلت بفقدانكم يهون
والله ما في الوجود شيء
…
تبكي على فقده العيون
وله أيضا، وهي فائدة عظيمة:[الطويل]
شفاء العمى طول السّؤال وإنّما
…
دوام العمى طول السّكوت على الجهل
فكن سائلا عمّا عناك فإنّما
…
دعيت أخا عقل لتبحث بالعقل
هذا؛ وقال ابن عباس، ومقاتل، وقتادة، وابن جبير-رضي الله عنهم أجمعين-: لما نزل قوله تعالى: {وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى..} . إلخ الآية رقم [72] من سورة (الإسراء) قال عبد الله بن أم مكتوم-رضي الله عنه: يا رسول الله! أنا في الدنيا أعمى، أفأكون في الآخرة أعمى؟! فنزلت هذه الآية التي نحن بصدد شرحها، أي: من كان أعمى في الدنيا عن الحق، أو أعمى بقلبه عن الإسلام، فهو في الآخرة في النار، وأعمى عن طريق الجنة. هذا؛ وطلب السير في الأرض، والأمر فيه متكرر في القرآن الكريم بكثرة، والغرض منه الحث على التفكر والاعتبار، بما جرى للأمم السابقة التي كذبت رسلها من الهلاك، والاستئصال، وما يعتبر إلا ذوو البصيرة، والألباب. انظر مثل:{أَفَلَمْ} في الآية رقم [30] من سورة (الأنبياء).
الإعراب: {أَفَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري؛ إن كانوا قد سافروا، ولم يعتبروا. أو للحث على السفر؛ ليروا مضارع من تقدمهم؛ إن كانوا لم يسافروا. الفاء: حرف عطف، أو استئناف. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَسِيرُوا:} مضارع مجزوم ب: (لم) وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: أغفلوا فلم يسيروا؟! أو هي مستأنفة، والكلام على الاعتبارين مستأنف لا محل له. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {فَتَكُونَ:} مضارع ناقص منصوب ب:
«أن» مضمرة بعد الفاء السببية. {لَهُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر (تكون) مقدم. {قُلُوبٌ:} اسمه مؤخر، و «أن» المضمرة، والفعل (تكون) في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: ألا سير يحصل منهم في الأرض، ففهم لقلوبهم. {يَعْقِلُونَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو فاعله. {بِها:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صفة {قُلُوبٌ}. {أَوْ:} حرف عطف. {آذانٌ:} معطوف على {قُلُوبٌ،} والجملة الفعلية {يَسْمَعُونَ بِها} صفة {آذانٌ} . {فَإِنَّها:} الفاء: حرف تعليل. (إنها): حرف مشبه بالفعل (ها):
اسمها. {لا:} نافية. {تَعْمَى:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر.
{الْأَبْصارُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية {فَإِنَّها..} . إلخ
للتعليل لا محل لها، وجملة {وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها.
{الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة {الْقُلُوبُ} . {فِي الصُّدُورِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ} أي: يطلبون منك يا محمد أن تعجل لهم ما وعدتهم به من العذاب. والمراد: النضر بن الحارث، وأبو جهل، وأضرابهما، الذين قالوا:{فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ} . {وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ} أي: في إنزال العذاب. قال الزجاج: استعجلوا العذاب، فأعلمهم الله: أنه لا يفوته شيء، وقد نزل بهم في الدنيا يوم بدر. وانظر ما ذكرته في «العجلة» في الآية رقم [37] من سورة (الأنبياء).
{وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ:} قال ابن عباس، ومجاهد: يعني من الأيام التي خلق الله فيها السموات، والأرض. وقال عكرمة: يعني من أيام الآخرة.
أعلمهم الله إذ استعجلوه بالعذاب في أيام قصيرة: أنه يأتيهم به في أيام طويلة. وقال الفراء:
هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم في الآخرة. هذا؛ ويوم النعيم في الآخرة كألف سنة أيضا، يدل عليه ما روي عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنّور التّامّ يوم القيامة، تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم، وذلك مقدار خمسمئة سنة» . أخرجه أبو داود، والترمذي. هذا؛ وقال تعالى في سورة (المعارج):
{مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} وقيل: المراد به يوم القيامة، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى هناك، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
هذا؛ وقرئ: «(يعدون)» بالياء، فيكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة، وقيل:
التفات على قراءته بالتاء. تأمل، انظر الآية رقم [34] من سورة (الأنبياء)، وشرح {عَذابِ} في الآية رقم [46] منها، وانظر شرح {سَنَةٍ} في الآية رقم [25] من سورة (الكهف)، وانظر شرح {يَوْماً} في الآية رقم [14] من سورة (الإسراء)، وشرح (ربك) في رقم [8] منها.
الإعراب: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ:} الواو: حرف استئناف. (يستعجلونك): مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والكاف مفعوله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {بِالْعَذابِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَلَنْ:} الواو: حرف عطف. (لن): حرف نفي، ونصب، واستقبال. {يُخْلِفَ:}
مضارع منصوب ب: (لن). {اللهُ:} فاعله. {وَعْدَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل
لها مثلها. {وَإِنَّ:} الواو: حرف استئناف، أو حرف عطف. (إن): حرف مشبه بالفعل.
{يَوْماً:} اسم إنّ. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صفة {يَوْماً،} و {عِنْدَ} مضاف، و {رَبِّكَ} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {كَأَلْفِ:} متعلقان بمحذوف خبر (إنّ) و (ألف) مضاف، و {سَنَةٍ} مضاف إليه.
{مِمّا:} متعلقان بمحذوف صفة {سَنَةٍ} و (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل جر ب: (من)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف، التقدير: من الذي تعدونه في الدنيا، واعتبار (ما) مصدرية ضعيف، والجملة الاسمية:{وَإِنَّ يَوْماً..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين، وقيل: هي في محل نصب حال، وهو ضعيف أيضا.
الشرح: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} أي: وكم من أهل قرية، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب، ورجوع الضمائر. هذا؛ وقال الزمخشري: فإن قلت: لم عطفت الأولى بالفاء، أي التي في الآية رقم [45] وهذه بالواو؟ قلت: الأولى وقعت بدلا من قوله تعالى:
{فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ،} وأما هذه فحكمها حكم الجملتين قبلها، المعطوفتين بالواو، أعني قوله تعالى:{وَلَنْ يُخْلِفَ..} . إلخ.
{أَمْلَيْتُ لَها:} أمهلتها كما أمهلتكم. {وَهِيَ ظالِمَةٌ} أي: مثلكم، وانظر الآية رقم [44 و 45] {ثُمَّ أَخَذْتُها} أي: بالعذاب، والانتقام. {وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} أي: مصير أهلها إليّ في الآخرة، ومالهم، ومرجعهم إليّ ففيه وعيد، وتهديد.
الإعراب: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ:} انظر الآية رقم [45] ففيها الكفاية. {أَمْلَيْتُ:} فعل، وفاعل.
{لَها:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:
{وَكَأَيِّنْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. والجملة الاسمية: {وَهِيَ ظالِمَةٌ} في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا باللام، والرابط: الواو، والضمير. {أَخَذْتُها:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{أَمْلَيْتُ لَها} فهي في محل رفع مثلها.
(إلي): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْمَصِيرُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من تاء الفاعل، والرابط: الواو، والضمير.
{قُلْ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49)}
الشرح: {قُلْ:} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لأهل مكة: إني منذر لكم من غضب الله، وسخطه، وانتقامه؛ إن أعرضتم عن الإيمان، والتوحيد، وإنما لم يقل:«بشير ونذير» لذكر
الفريقين بعده؛ لأن الحديث مسوق للمشركين، والنداء خاص بهم، وهم الذين قيل فيهم:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا،} ووصفوا بالاستعجال، وإنما أقحم المؤمنون، وثوابهم؛ ليغاظوا، وانظر إعلال {مُبِينٌ} في الآية رقم [11].
الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {يا أَيُّهَا النّاسُ:} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [1] وهي هنا في محل نصب مقول القول. {إِنَّما:} كافة، ومكفوفة. {أَنَا:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَكُمْ:} متعلقان بنذير بعدهما. {نَذِيرٌ:} خبر المبتدأ. {مُبِينٌ:} صفة له، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وإنما أفادت الحصر، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ:} على اختلاف أنواعها، وتفاوت درجاتها. وانظر الاحتراس في الآية رقم [94] من سورة (الأنبياء). {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ:} لذنوبهم. {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي:
لا ينتهي عدده، ولا ينقطع مدده، صاف عن كد الاكتساب، وخوف الحساب، لا منة فيه، ولا عذاب. والكريم من كل نوع ما يجمع فضائله، وهو صفة لكل ما يرضي في بابه، يقال:
وجه كريم؛ أي: مرض بحسنه وجماله. وكتاب كريم: مرض في معانيه، وفوائده. ونبات كريم:
مرض فيما يتعلق به من المنافع، قال تعالى:{كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} وقس على ذلك الإنسان، والحيوان
…
إلخ، وانظر شرح {رِزْقاً حَسَناً} في الآية رقم [58] الآتية.
{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ:} مغالبين، أو معاندين، أو مثبطين الناس عن الإسلام، يقولون لهم: محمد صلى الله عليه وسلم ساحر، وما جاء به سحر، أو يقولون لهم: هو كاهن، أو شاعر
…
إلخ، هذا؛ وعاجزه: سابقه؛ إذا كان كل واحد منهما يسعى في طلب إعجاز الآخر عن اللّحاق به، فإذا سبقه؛ قيل: أعجزه، وعجّزه. ويقرأ:«(معجّزين)» بتشديد الجيم. هذا؛ ومعنى: {سَعَوْا:}
اجتهدوا. {أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ:} النار الموقدة التي تشتعل بهم. هذا؛ وقد قابل سبحانه بين المؤمنين المطيعين وبين الكافرين المعاندين، وذكر جزاء كل فريق منهم. انظر الآية رقم [14].
هذا؛ ولا تنس: أن الوعد، والوعيد يشملان الذكور، والإناث من بني آدم، كما قد صرحت به بعض الآيات القرآنية، وانظر مثل إعلال (سعوا) في الآية رقم [109] من سورة (الأنبياء).
الإعراب: {فَالَّذِينَ:} الفاء: حرف استئناف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلته، وجملة:{وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ} معطوفة عليها لا محل لها مثلها. {لَهُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَغْفِرَةٌ:} مبتدأ
مؤخر. {وَرِزْقٌ:} معطوف على ما قبله. {كَرِيمٌ:} صفة (رزق)، والجملة الاسمية:{لَهُمْ..} .
إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَالَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
(الذين): مبتدأ. {سَعَوْا:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة التي هي فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها.
{فِي آياتِنا:} متعلقان بما قبلهما، و (نا): في محل جر بالإضافة. {مُعاجِزِينَ:} حال من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم
…
إلخ.
{أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له.
{أَصْحابُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {الْجَحِيمِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية:
{أُولئِكَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَالَّذِينَ سَعَوْا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، وانظر دخول الفاء في خبر (الذين) في الآية رقم [56] الآتية.
الشرح: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاّ إِذا تَمَنّى:} قرأ، وتلا. {أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ:} في قراءته وتلاوته. قال الشاعر في عثمان-رضي الله عنه: [الطويل]
تمنّى كتاب الله أوّل ليلة
…
تمنّي داود الزّبور على رسل
أي: قرأ كتاب الله، ومثله قول حسان بن ثابت فيه-رضي الله عنهما:[الطويل]
تمنّى كتاب الله أوّل ليلة
…
وآخرها لاقى حمام المقادر
{فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ:} فيبطله، ويذهب به، بل ويمحقه. {ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ:} يثبتها، ويحفظها من لحوق الزيادة من الشيطان. {وَاللهُ عَلِيمٌ:} بما أوحى إلى نبيه، وبقصد الشيطان، لا يعزب عن علمه شيء في الأرض، ولا في السماء. {حَكِيمٌ:} فيما يفعله، لا يدع لبسا؛ حتى يكشفه، ويزيله.
تنبيه: لقد كثر القيل والقال في سبب نزول هذه الآية، وما تضمنته من معنى، وكثرت الروايات فيها حتى زلت قدم بعض المفسرين في ذلك حيث نسبوا للرسول المعظم ما يحط من مكانته عند ربه، وما لا يليق بمقامه العظيم في الدنيا، والآخرة! ولقد أحسن الإمام النسفي القول في ذلك جزاه الله خيرا، وأكرم مثواه، حيث ذكر باختصار بعض الروايات التي عنيتها، ثمّ فنّدها ثمّ وصل إلى وجه الحقيقة منزها الرسول صلى الله عليه وسلم عن كل ما لا يليق بمقامه الكريم، وهاك قوله بحروفه.
قالوا: إنه عليه السلام كان في نادي قومه يقرأ: {وَالنَّجْمِ،} فلما بلغ: {وَمَناةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرى} جرى على لسانه تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى. ولم يفطن له؛ حتى أدركته العصمة، فتنبه عليه، وقيل: نبهه جبريل عليه السلام، فأخبره: أن ذلك كان من الشيطان. وهذا القول غير مرض؛ لأنه لا يخلو إما أن يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بها عمدا، وهذا لا يجوز؛ لأنه كفر، ولأنه بعث طاعنا للأصنام، لا مادحا لها. أو أجرى الشيطان ذلك على لسان النبي صلى الله عليه وسلم جبرا، بحيث لا يقدر على الامتناع منه. وهو ممتنع؛ لأن الشيطان لا يقدر على ذلك في حق غيره، لقوله تعالى:{إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ} ففي حقه أولى. أو أجرى ذلك على لسانه سهوا، وغفلة، وهو مردود أيضا؛ لأنه لا يجوز مثل هذه الغفلة عليه في حال تبليغ الوحي، ولو جاز ذلك؛ لبطل الاعتماد على قوله؛ ولأنه تعالى قال في صفة المنزل عليه:{لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} وقال: {إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ} .
فلما بطلت هذه الوجوه لم يبق إلا وجه واحد، وهو أنه عليه الصلاة والسلام سكت عند قوله:{وَمَناةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرى} فتكلم الشيطان بهذه الكلمات متصلا بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم، فوقع عند بعضهم: أنه عليه السلام هو الذي تكلم بها، فيكون هذا إلقاء في قراءة النبي عليه السلام، وكان الشيطان يتكلم في زمن النبي عليه السلام، ويسمع كلامه، فقد روي: أنه نادى يوم أحد: ألا إن محمدا قد قتل، وقال يوم بدر كما حكى الله تعالى عنه:{لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ} . هذا؛ وانظر شرح هذه الآية برقم [48] من سورة (الأنفال)، وقد رأيت: أنه تشخص بشخص رجل كبير السن ليلة الهجرة المباركة، ودخل على المؤتمرين، واشترك في المشاورة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم. انظر الآية رقم [30] من سورة (الأنفال).
هذا؛ ولمّا قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة (النجم)؛ سجد في آخرها لآية سجدتها، وسجد معه من حضر من المسلمين، والمشركين. فعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ {وَالنَّجْمِ} فسجد فيها، وسجد من كان معه غير أنّ شيخا من قريش أخذ كفّا من حصى، أو تراب فرفعه إلى جبهته، قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافرا. أخرجه البخاري، ومسلم.
وهذا صريح بأن المشركين سجدوا معه صلى الله عليه وسلم، وهذه القصة حدثت بعد هجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة، فأشيع أن أهل مكة أسلموا جميعا، وبلغ الخبر الذين كانوا بأرض الحبشة ففرح المسلمون، ورجعوا إلى مكة، ولكنهم رأوا قريشا لا تزال على دينها، وقد اشتدوا، وأمعنوا في إيذاء المسلمين المستضعفين، ولمّا تبيّن لهم: أن قريشا لم يسلموا؛ رجعوا إلى الحبشة، وتسمى هذه الرجعة بالهجرة الثانية، فهاجر غالب المسلمين، فكانوا عند النجاشي ثلاثة وثمانين رجلا، وثماني عشرة امرأة، فبقوا عنده؛ حتى هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة المنورة، وحصلت غزوة بدر، وأحد، فذهبوا من الحبشة إلى المدينة، وكان يرأسهم جعفر بن أبي طالب، رضي الله عنهم أجمعين-.
هذا؛ وفي عطف {نَبِيٍّ} على {رَسُولٍ} إشارة واضحة على أنه غيره، وقيل: هو أعم منه؛ لأن كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا. وتعريفهما، فالرسول: ذكر، حرّ من بني آدم، سليم عن منفر طبعا، أوحي إليه بشرع يعمل به، ويؤمر بتبليغه، فإن لم يؤمر بالتبليغ؛ فهو نبي، وليس رسولا. هذا؛ والنبي مأخوذ من النبأ: وهو الخبر، انظر الآية رقم [13] من سورة (الكهف).
وقيل: بل هو مأخوذ من النّبوة: وهو الارتفاع: لأنّ رتبة النبي ارتفعت عن رتبة سائر الخلق.
وهو يقرأ بالهمز، وبدونه هذا؛ ويروى: أن أبا ذر-رضي الله عنه-سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عدد الأنبياء، فقال:«مئة ألف وأربعة وعشرون ألفا» . قال: كم عدد الرسل منهم؟ قال: «ثلاثمئة وثلاثة عشر، أول الرّسل آدم، وآخرهم نبيّكم محمد، عليه السلام» .
هذا؛ وأربعة منهم من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ومحمد، صلّى الله عليهم جميعا، وسلم. وإسماعيل مستعرب، والمذكور منهم في القرآن بأسمائهم خمسة وعشرون، ومعرفتهم بأسمائهم واجبة، على كل مسلم، ومسلمة من المكلفين، وأعني بمعرفتهم: أنه لو عرض اسم رسول على مسلم، فيجب أن يعرف، أهو من المرسلين، أم لا؟ هذا؛ وقد ذكر الله في آيات الأنعام ثمانية عشر رسولا بأسمائهم من غير ترتيب، لا بحسب الزمان، ولا بحسب الفضل؛ لأن الواو العاطفة لا تقتضي الترتيب، انظر الآية رقم [83] وما بعدها من سورة (الأنعام)، وبقي سبعة لم يذكروا في سورة (الأنعام)، وذكروا في غيرها، وهم: إدريس، وشعيب، وصالح، وهود، وذو الكفل، وهو ابن أيوب الذي ذكر في سورة (الأنبياء)، ومحمد صلّى الله عليهم جميعا، وسلم، فهؤلاء الخمسة والعشرون رسولا هم الذين يجب الإيمان بهم تفصيلا، وقد نظموا في قول بعضهم:[البسيط]
حتم على كلّ ذي التّكليف معرفة
…
بأنبياء على التّفصيل قد علموا
في تلك حجّتنا منهم ثمانية
…
من بعد عشر، ويبقى سبعة وهمو
إدريس هود شعيب صالح وكذا
…
ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا
ويعني بقوله في {وَتِلْكَ حُجَّتُنا} آيات الأنعام المذكورة. هذا؛ وفي الآية تسلية ثانية للرسول صلى الله عليه وسلم.
الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {أَرْسَلْنا:} فعل، وفاعل. {مِنْ:}
حرف جر صلة. {قَبْلِكَ:} ظرف زمان منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وهو متعلق بالفعل قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {مِنْ:} حرف جر صلة. {رَسُولٍ:} مفعول به منصوب
…
إلخ. {وَلا:} الواو:
حرف عطف. (لا): زائدة لتأكيد النفي. {نَبِيٍّ:} معطوف على ما قبله. {إِلاّ:} أداة استثناء، أو حرف حصر. {إِذا:} انظر الآية رقم [35]. {تَمَنّى:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف
للتعذر، والفاعل يعود إلى {نَبِيٍّ} و {رَسُولٍ} والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها، وجملة:{أَلْقَى الشَّيْطانُ} جواب {إِذا،} لا محل لها. {فِي أُمْنِيَّتِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما.
والهاء في محل جر بالإضافة، و (إذا) ومدخولها في محل نصب على الاستثناء المنقطع، أو في محل جرّ صفة {نَبِيٍّ} أفاده أبو البقاء، وقيل: في محل نصب حال، ولا وجه له ألبتة. والكلام:
{وَما أَرْسَلْنا..} . إلخ مستأنف لا محل له. {فَيَنْسَخُ:} الفاء: حرف استئناف، أو عطف.
(ينسخ): مضارع. {اللهُ:} فاعله. {ما:} اسم موصول أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: الذي أو شيئا يلقيه الشيطان، وأجيز اعتبار ما مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: فينسخ الله إلقاء الشيطان، وجملة {فَيَنْسَخُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين. {يُحْكِمُ اللهُ:} مضارع، وفاعله.
{آياتِهِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، والجملة الاسمية:{وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} مستأنفة لا محل لها. تأمل، وتدبر.
الشرح: {لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً:} محنة، وابتلاء، واختبارا، والله يختبر عباده بما يشاء. {لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ:} شك، ونفاق، فهو يمرض القلوب؛ أي: يضعفها بضعف الإيمان فيها، والمرض حقيقة فيما يعرض للبدن، فيخرجه عن الاعتلال اللائق به، ويوجب الخلل في أفعاله، وهو يؤدي إلى الموت، واستعير هنا وفي كثير من الآيات لما في القلوب من الجهل، وفساد العقيدة، والمراد بالذين في قلوبهم مرض ضعفاء الإيمان الذين ارتدوا عن الإسلام حين حصلت الحادثة؛ التي رأيتها في الآية السابقة.
{وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ:} المراد بهم: المشركون الذين سجدوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم عادوا إلى عتوهم، وعنادهم. {وَإِنَّ الظّالِمِينَ} أي: لأنفسهم من مشركين، ومن حذا حذوهم، وانظر التعبير ب:{الظّالِمِينَ} ونحوه عن المشركين في الآية رقم [74] من سورة (طه). {لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ} أي: لفي خلاف وعصيان ومشاقة لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين، ومعنى {بَعِيدٍ} شديد، وقول الجلال رحمه الله تعالى: لفي خلاف طويل مع النبي، والمؤمنين حيث جرى على لسانه ذكر آلهتهم بما يرضيهم، ثم أبطل ذلك انتهى. أقول: هذا كلام قد بينت بطلانه في الآية السابقة، فليتنبه له. ونقل الجمل عن الخازن ما تدارك الخازن نفسه بطلانه أيضا، فليتنبه له أيضا.
هذا؛ ول (الشقاق) ثلاثة معان: أحدها: العداوة، كما في قوله تعالى حكاية عن قول شعيب عليه السلام لقومه:{وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي..} . إلخ [89] من سورة (هود). والثاني:
الضلال، والكفر كما في هذه الآية التي نحن بصدد شرحها. والثالث: الخلاف، كما في قوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما..} . إلخ [35](النساء).
هذا؛ وقد قال الثعلبي: وفي الآية دليل على أن الأنبياء يجوز عليهم السهو، والنسيان، والخطأ بوسواس الشيطان، أو عند شغل القلب حتى يغلط، ثم ينبه، ويرجع إلى الصحيح، وهو معنى قوله:{فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ} ولكن إنما يكون الغلط على حسب ما يغلط أحدنا، فأما ما يضاف إليه من قولهم: تلك الغرانيق العلا، فكذب على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن فيه تعظيم الأصنام، ولا يجوز ذلك على الأنبياء، كما لا يجوز أن يقرأ بعض القرآن، ثم ينشد شعرا، ويقول: غلطت، وظننته قرآنا. انتهى. قرطبي.
الإعراب: {لِيَجْعَلَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى (الله)، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل (يحكم) وإليه نحا الحوفي، فتكون الجملة الاسمية:{وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} معترضة، أو هما متعلقان بالفعل (ينسخ) وإليه ذهب ابن عطية، أو هما متعلقان بالفعل {أَلْقَى،} وليس بظاهر. انتهى. جمل. {ما يُلْقِي الشَّيْطانُ:} انظر الآية السابقة، ففيها الكفاية.
{فِتْنَةً:} مفعول به ثان. {لِلَّذِينَ:} متعلقان ب: {فِتْنَةً،} أو بمحذوف صفة لها. {فِي قُلُوبِهِمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَرَضٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية صلة الموصول لا محل لها؛ هذا؛ ويجوز اعتبار الجار والمجرور متعلقين بمحذوف صلة الموصول، و {مَرَضٌ} فاعلا بمتعلقهما، التقدير: للذين استقر في قلوبهم مرض. {وَالْقاسِيَةِ:} معطوف على الموصول. {قُلُوبِهِمْ:} فاعل له، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَإِنَّ:} الواو: حرف استئناف. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {الظّالِمِينَ:} اسم (إن) منصوب، وعلامة نصبه الياء
إلخ. {لَفِي:} اللام: هي المزحلقة. (في شقاق): متعلقان بمحذوف خبر (إنّ). {بَعِيدٍ:}
صفة (شقاق) والجملة الاسمية: {وَإِنَّ الظّالِمِينَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {وَلِيَعْلَمَ:} وليوقن، ويعتقد. {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ:} وهم من المؤمنين الموحدين الذين ليس في قلوبهم مرض، ولا زيغ عن الإيمان، والتوحيد:{أَنَّهُ} أي: القرآن، والذي أحكم، وأثبت من آياته. {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ:} الحق النازل من عند الله، لا ريب فيه، ولا يشوبه تحريف،
ولا تزييف، ولا يتلاعب به مخلوق من شيطان، وغيره من الجن، والإنس إلى يوم القيامة؛ لأن الله تعالى تكفل بحفظه، ورعايته. {فَيُؤْمِنُوا بِهِ} أي: يؤمن أهل العلم بالقرآن، ويعترفوا: أنه من عند الله. {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} أي: تخضع، وتطيع، وتشخع عند تلاوته، أو سماعه.
{وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: لموفق لهم ومثبت أقدامهم على الطريق المستقيم، الذي لا اعوجاج فيه، ولا انحراف، وهو دين الإسلام الذي جاء به سيد الأنام محمد عليه الصلاة والسلام.
أما {أُوتُوا} فأصله: أوتيوا، فاستثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فصار أوتوا، ثم قلبت الكسرة ضمة لمناسبة الواو، والفعل «أتى» يستعمل لازما إن كان بمعنى: حضر، وأقبل، وقرب، كما في قوله تعالى:{أَتى أَمْرُ اللهِ..} . إلخ، ويستعمل متعديا لمفعول واحد إن كان بمعنى:
وصل، وبلغ، كما في قوله تعالى:{ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ..} . إلخ، وكما في الآية التالية، وأما «أتى» بمعنى: أعطى، ومنح؛ فهو ينصب مفعولين كما في هذه الآية، فإن معنى أوتوا: أعطوا، ومنحوا، ولا تنس: أن الله ذكر حال الظالمين في الآية السابقة، ثم ذكر حال المؤمنين في هذه الآية، وذلك من باب المقابلة، والمقارنة بين حال الفريقين، انظر رقم [14].
الإعراب: {وَلِيَعْلَمَ:} معطوف على {لِيَجْعَلَ} وهو مثله في إعرابه، وتأويل المصدر وجره
…
إلخ. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعله. {أُوتُوا:} ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والعائد، والألف للتفريق. {الْعِلْمَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والمصدر المؤول من:{أَنَّهُ الْحَقُّ} في محل نصب سد مسد مفعولي الفعل (يعلم). {مِنْ رَبِّكَ:}
متعلقان بمحذوف حال من {الْحَقُّ،} والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {فَيُؤْمِنُوا:} معطوف على (ليعلم) بالفاء العاطفة منصوب مثله، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، واعتبار الفاء للسببية، والنصب ب:«أن» مضمرة بعدها لا بأس به. {بِهِ:} متعلقان بما قبلهما.
{فَتُخْبِتَ:} مضارع معطوف على ما قبله. {لَهُ:} متعلقان به. {قُلُوبُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَإِنَّ:} الواو: حرف استئناف. (إن): حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:}
اسمها {لَهادِ:} خبر إن مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، واللام هي المزحلقة، و (هادي) مضاف، و {الَّذِينَ} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. هذا؛ ويقرأ «(لهاد الّذين)» بتنوين الدال، فيكون الموصول مفعولا صريحا. تأمل. والكسرة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين.
وجملة: {آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول. {إِلى صِراطٍ:} متعلقان ب: (هاد).
{مُسْتَقِيمٍ:} صفة {صِراطٍ،} والجملة الاسمية: {وَإِنَّ اللهَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ:} في شك، وريب. {مِنْهُ:} من القرآن، أو من الرسول، أو من الدّين، أو مما تكلم به الشيطان على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، يقولون: ما باله ذكر آلهتنا بخير، ثم ارتدّ عنه؟ {حَتّى تَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً:} فجأة، وانظر الآية رقم [49 و 96] من سورة (الأنبياء) تجد شرح الساعة، وعلاماتها. {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ:} يعني: يوم بدر، فهو عقيم عن أن يكون للكافرين فيه فرج، أو راحة، كالريح العقيم، لا تأتي بخير، لا تنشئ مطرا، ولا تلقح شجرا، أو عذاب يوم شديد لا رحمة فيه، أو لا مثل له في عظم شأنه لقتال الملائكة فيه، وعن الضحاك: إنه يوم القيامة، فهو يوم لا ليلة بعده. انتهى. والعقيم في اللغة:
عبارة عمن لا يكون له ولد، ولما كان الولد إنما يكون بين أبوين، وكانت الأيام تتوالى قبل، وبعد؛ جعل الاتباع فيها بالبعدية كهيئة الولادة، ولما لم يكن بعد ذلك اليوم يوم؛ وصف بالعقيم. انتهى. قرطبي. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
هذا؛ وفي الكلام استعارة بالكناية، حيث شبه سبحانه وتعالى ما لا خير فيه من الزمان بالنساء العقيم، كما شبهت الريح التي لا تحمل السحاب، ولا تلقح الأشجار بهن تشبيها مضمرا في النفس، وإثبات العقم تخييل. انتهى. جمل بتصرف.
الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف استئناف. (لا): نافية. {يَزالُ:} مضارع ناقص.
{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع اسم {يَزالُ،} وجملة: {كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها. {فِي مِرْيَةٍ:} متعلقان بمحذوف خبر (لا يزال).
{مِنْهُ:} متعلقان بمحذوف صفة {مِرْيَةٍ} . {حَتّى:} حرف غاية وجر، بعدها «أن» مضمرة.
{تَأْتِيَهُمُ:} مضارع منصوب ب: «أن» المضمرة بعد {حَتّى} والهاء مفعول به. {السّاعَةُ:} فاعله.
{بَغْتَةً:} حال من {السّاعَةُ} بمعنى: باغتة، أو مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: تبغتهم بغتة، وتكون هذه الجملة في محل نصب حال من الساعة. هذا؛ وأجيز اعتبار {بَغْتَةً} مصدرا للفعل تأتي من غير لفظه، كقولهم: أتيته ركضا، فتكون نائب مفعول مطلق. و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالخبر المحذوف أيضا، التقدير: مستمرا ذلك منهم إلى أن تأتيهم، أو إلى إتيان الساعة
…
إلخ. {أَوْ يَأْتِيَهُمْ:} معطوف على ما قبله منصوب مثله. {عَذابُ:} فاعله، وهو مضاف و {يَوْمٍ:}
مضاف إليه، من إضافة المصدر، أو اسمه إلى ظرفه. {عَقِيمٍ:} صفة {يَوْمٍ،} وجملة: {وَلا يَزالُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ:} التنوين فيه ينوب عن جملة محذوفة، دلت عليها الغاية، أي: يوم تزول حريتهم، و (إذ) مضافة لهذه الجملة في الأصل، فإن أصل الكلام يوم إذ تزول حريتهم، ويرون بأعينهم ما لم يكن بحسبانهم. فحذفت الجملة الفعلية، وعوض عنها التنوين، وكسرت الذال لالتقاء الساكنين، كما كسرت الهاء في صه، ومه عند تنوينهما، ومثل ذلك قل في حينئذ، وساعتئذ ونحوهما.
{لِلّهِ:} وحده لا شريك له فيه، ولا منازع، بخلاف الدنيا فكثير من الناس يدعون الملك، ويتكبرون، ويتجبرون. واللام مفيدة للملك الحقيقي الذي هو اتساع المقدور لمن له تدبير الأمور. {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} أي: بين المؤمنين، والكافرين، وبين الظالمين، والمظلومين
…
إلخ، ثم بين حكمه بينهم، فقال:{فَالَّذِينَ آمَنُوا..} . إلخ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا..} .
إلخ، وإدخال الفاء في خبر الثاني دون الأول تنبيه على أن إثابة المؤمنين بالجنات تفضل منه تعالى، وأنّ عقاب الكفار مسبب عن أعمالهم الخبيثة؛ ولذلك قال: لهم عذاب، ولم يقل: هم في عذاب. انتهى. بيضاوي بتصرف. أقول: لم تدخل الفاء في خبر الذين في الآية رقم [50] مع أن المغزى واحد، فلله في كتابه حكم، وأسرار عجزت عن إدراكها البصائر والأبصار. انظر الاحتراس في الآية رقم [94] من سورة (الأنبياء).
الإعراب: {الْمُلْكُ:} مبتدأ. {يَوْمَئِذٍ:} ظرف زمان متعلق بالخبر المحذوف، الذي هو متعلق لله، و (إذ) ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وحرك بالكسر لالتقاء الساكنين. {لِلّهِ:} متعلقان بالخبر المحذوف، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {يَحْكُمُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (الله). {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله. والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الضمير فقط. {فَالَّذِينَ:} الفاء: حرف تفريع، واستئناف. (الذين) {آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ:} انظر إعراب هذه الكلمات في الآية رقم [50].
{فِي جَنّاتِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و {جَنّاتِ} مضاف، و {النَّعِيمِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية: (الذين آمنوا
…
) إلخ مفرعة عما قبلها، ومستأنفة لا محل لها.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57)}
الشرح: هذه الآية مرتبطة في الآية السابقة، ومقابلة لها، انظر شرحها، وانظر شرح (عذاب) في الآية رقم [46] من سورة (الأنبياء). {مُهِينٌ} مذل، فهو اسم فاعل من: أهان الرباعي، وإعلاله مثل إعلال:(مبين) في الآية رقم [11]، وانظر (نا) في الآية رقم [49] من سورة (مريم).
الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {كَفَرُوا:} ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب (قالوا) في الآية رقم [27] من سورة (مريم) عليهاالسّلام، والجملة الفعلية مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها، والتي بعدها معطوفة عليها، لا محل لها مثلها. {بِآياتِنا:}
متعلقان بما قبلهما. و (نا): في محل جر بالإضافة. {فَأُولئِكَ:} الفاء: صلة، وزيدت في خبر الموصول؛ لأنه يشبه الشرط في العموم. (أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لَهُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَذابٌ:}
مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ. هذا؛ ويجوز اعتبار:{لَهُمْ} متعلقين بمحذوف خبر المبتدأ (أولئك)، ويكون {عَذابٌ} فاعلا بالخبر المحذوف. {مُهِينٌ:} صفة {عَذابٌ،} والجملة الاسمية: (أولئك
…
) إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:
(الذين
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
الشرح: {وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} أي: فارقوا أوطانهم، وعشائرهم في طاعة الله، وطلب مرضاته، وذلك بسبب مضايقة الكفار لهم، كالذي حصل من كفار مكة للمسلمين المستضعفين قبل فتح مكة. هذا؛ وقد سمى الله الجهاد في سبيله هجرة أيضا، وهناك هجرة ثالثة، وهي هجرة جميع المعاصي، والابتعاد عنها. فقد قال الرسول المعظم صلى الله عليه وسلم من حديث طويل:«والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» . وانظر الآية رقم [97] من سورة (النساء) إن أردت الزيادة.
{ثُمَّ قُتِلُوا:} في قتالهم مع الكفار. {أَوْ ماتُوا:} في بيوتهم، وعلى فرشهم. {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً} أي: لا ينقطع أبدا، وهو رزق الجنة؛ لأن فيها ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وإنما سوى سبحانه وتعالى بين من قتل في الجهاد، وبين من مات في بيته في الوعد لا ستوائهما في القصد، والنية الحسنة، وهي نصرة هذا الدين، وإعلاء كلمته. هذا؛ وانظر شرح (رزق كريم) في الآية رقم [50].
وسبب نزول هذه الآية الكريمة: أنه لما مات بالمدينة عثمان بن مظعون، وأبو سلمة بن عبد الأسد-رضي الله عنهما-قال بعض المسلمين: من قتل في سبيل الله أفضل ممن مات حتف أنفه، فنزلت هذه الآية مسوية بينهم في الأجر والثواب، وحسن الماب، وأن الله يرزق جميعهم رزقا حسنا. {وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ:} أعظم، وأكرم الرازقين.
قال الخازن-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: الرزاق في الحقيقة هو الله عز وجل، لا رازق للخلق غيره، فكيف قال: وإن الله لهو خير الرازقين؟ قلت: قد يسمى غير الله رازقا على المجاز، كقوله: رزق السلطان الجند؛ أي: أعطاهم أرزاقهم، وأن الرازق في الحقيقة هو الله تعالى، وقيل: لأن الله تعالى يعطي من الرزق ما لا يقدر عليه غيره. هذا؛ وانظر شرح (خير) في الآية رقم [44] من سورة (الكهف).
الإعراب: (الذين): مبتدأ، وجملة:{هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} صلته، وانظر تفصيل الإعراب في الآية السابقة. {ثُمَّ:} حرف عطف. {قُتِلُوا:} ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، لا محل لها مثلها، وجملة:{ماتُوا} معطوفة أيضا عليها لا محل لها مثلها. {لَيَرْزُقَنَّهُمُ:} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف. (يرزقنّهم:) مضارع مبني على الفتح لا تصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، والهاء مفعول به. {اللهِ:} فاعل. {رِزْقاً:} مفعول به ثان، أو هو مفعول مطلق مؤكد للفعل. {حَسَناً:} صفة له، والجملة الفعلية جواب القسم المحذوف لا محل لها، والقسم وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَالَّذِينَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها في الآيتين السابقتين لا محل لها مثلهما. {وَإِنَّ:} الواو: واو الحال. (إن): حرف مشبه بالفعل. {اللهِ:} اسمها. {لَهُوَ:} اللام: هي المزحلقة. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {خَيْرُ:} خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (إن)، وإن اعتبرت الضمير فصلا فيكون (خير) خبر (إنّ) ودخلت اللام على الضمير الفصل؛ لأنه إذا جاز أن تدخل على خبر (إنّ) فدخولها على ضمير الفصل أولى؛ لأنه أقرب إلى المبتدأ من الخبر، وأصلها أن تدخل على المبتدأ. و (خير) مضاف، و {الرّازِقِينَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء
…
إلخ، والجملة الاسمية:{وَإِنَّ اللهَ..} . إلخ في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو، والضمير، أو هي مستأنفة، لا محل لها. هذا؛ وانظر الآية رقم [7] من سورة (العنكبوت) ففيها بحث قيم يتعلق بوقوع الجملة القسمية خبرا عن الموصول كما في هذه الآية.
{لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)}
الشرح: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ:} الضمير يشمل من قتل في سبيل الله مجاهدا، ومن مات حتف أنفه.
{مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ:} هو الجنة، ونعيمها الدائم، يكرمون به، ولا ينالهم فيه مكروه. هذا؛ ويقرأ {مُدْخَلاً} بضم الميم من الرباعي، وبفتحها من الثلاثي، فعلى الأول هو مصدر على صورة اسم المفعول، وكثيرا ما يرد المصدر كذلك، نحو قوله تعالى:{بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها} ويحتمل أن يكون اسم مكان، وعلى الثاني هو اسم مكان، ويحتمل أن يكون مصدرا
أيضا، وانظر {مُنْزَلاً} في الآية رقم [29] من سورة (المؤمنون). {وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ:} بأحوال المسلمين المجاهدين، وأحوال أعدائهم. {حَلِيمٌ:} لا يعجل بالعقوبة على من عصاه. هذا؛ والحلم-بكسر الحاء، وسكون اللام: هو الأناة، والروية في الأمور، والتؤدة، والعقل، ومقابله السفه، والطيش الذي حدثتك عنه في الآية رقم [66] من سورة (الأعراف) وغيرها. والحليم:
من أسماء الله الحسنى، ومعناه: الذي لا يستفزه عصيان العاصين، ولا يستثيره جحود الجاحدين. وانظر (الجهل) في الآية رقم [63] من سورة (الفرقان) إن شاء الله تعالى.
الإعراب: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ:} إعرابه مثل إعراب {لَيَرْزُقَنَّهُمُ} في الآية السابقة، وهو بدل منه، أو الجملة جواب قسم محذوف مثل الآية السابقة، والقسم، وجوابه كلام مستأنف لا محل له.
{مُدْخَلاً:} مفعول مطلق فيكون المفعول محذوفا، التقدير: ليدخلنهم الجنة إدخالا يرضونه، أو هو ظرف مكان وقع مفعولا به، انظر الشرح. {يَرْضَوْنَهُ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية في محل نصب صفة (مدخلا) أي مرضيا عندهم، والجملة الاسمية:{وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} مستأنفة لا محل لها، وإعرابها واضح إن شاء الله.
الشرح: {ذلِكَ:} الأمر ذلك، أو ذلك الأمر الذي قصصنا عليك. {وَمَنْ عاقَبَ:}
جازى، وانتقم {بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ:} اعتدي عليه، والمعنى: جازى الظالم بمثل ظلمه، عبر عن الجزاء بالعقاب مشاكلة لفعل الظالم، وهذه المشاكلة كثيرة في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى:{وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} وقوله: {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ} . {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ:} اعتدي عليه مرة ثانية، أي بالكلام، أو الإخراج من وطنه بالمضايقة ونحوها. {لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ:} لا محالة، والمراد محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإن الكفار بغوا عليهم، وهو يشمل كل مظلوم إلى يوم القيامة إن شاء الله تعالى.
{إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ:} للمنتقم المجازي الظالم، حيث اتبع هواه في الانتقام، وأعرض عما ندب الله إليه في قوله:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} فإنه تعريض بالحث على العفو والمغفرة، فإنه تعالى مع كمال قدرته، وتعالي شأنه لما كان يعفو ويغفر، فغيره أولى، وتنبيه على أنه تعالى قادر على العقوبة؛ إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر، و (عفوّ): كثير العفو، و {غَفُورٌ} كثير المغفرة، فهما صيغتا مبالغة.
تنبيه: نزلت الآية الكريمة في قوم من مشركي مكة لقوا قوما من المسلمين في البرية، وذلك بعد الهجرة لليلتين بقيتا من المحرم، فقالوا: إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام، فاحملوا عليهم، فناشدهم المسلمون ألا يقاتلوهم في الشهر الحرام، فأبى المشركون إلا القتال، فحملوا عليهم، فثبت المسلمون، ونصرهم الله على المشركين، وحصل في أنفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام شيء، فنزلت هذه الآية، وما أشبه هذه الواقعة بالواقعة المذكورة في الآية رقم [216] من سورة (البقرة) إن لم تكن هي نفسها، فهي شبيهتها. تأمل.
وقيل: نزلت في قوم من المشركين مثّلوا بقوم من المسلمين قتلوهم يوم أحد، فعاقبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله، فتكون هي الحادثة المذكورة في الآية رقم [126] وما بعدها من سورة (النحل).
هذا؛ وأما (مثل) فهو بكسر الميم، وسكون الثاء؛ ومثله: مثيل، نحو شبه، وشبيه: وهو اسم متوغل في الإبهام، فلا يتعرف بإضافته إلى الضمير، وغيره من المعارف؛ ولذلك نعتت به النكرة في قوله تعالى حكاية عن قول فرعون وقومه:{أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ} ويوصف به المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، وهو واضح في مواضعه، وتستعمل على ثلاثة أوجه: الأول: بمعنى: الشبيه، كما في الآية الكريمة، ونحوها. والثاني: بمعنى نفس الشيء، وذاته، كما في قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} عند بعضهم، حيث قال: المعنى: ليس كذاته شيء. والثالث: زائدة، كما في قوله تعالى:{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} أي بما آمنتم به، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [48] من سورة (المؤمنون).
هذا؛ وأما المثل في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً..} . إلخ وشبهه فهو عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر، بينهما مشابهة؛ ليتبين أحدهما من الآخر، ويصوره.
وقيل: هو تشبيه شيء بشيء آخر وبالجملة: هو القول السائر بين الناس، والذي فيه غرابة من بعض الوجوه والممثل بمضربه، أي: هو الحالة الأصلية التي ورد الكلام فيها. وما أكثر الأمثال في اللغة العربية، علما بأن الأمثال لا تغير، تذكيرا، وتأنيثا، إفرادا، وتثنية، وجمعا، بل ينظر فيها دائما إلى مورد المثل، أي أصله، مثل:(الصّيف ضيّعت اللّبن) فإنه يضرب لكل من فرط في تحصيل شيء في أوانه، ثم طلبه بعد فواته.
هذا؛ وأما «البغي» الذي هو مصدر (بغي عليه): فهو الظلم، والاعتداء على حق غيرك.
وعواقبه ذميمة، ومال الباغي وخيم، وعقباه أليمة، ولو أن له جنودا بعدد الحصى، والرمل، والتراب، ورحم الله من يقول:[البسيط]
لا يأمن الدهر ذو بغي، ولو ملكا
…
جنوده ضاق عنها السّهل والجبل
وعن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «لا تمكر، ولا تعن ماكرا، ولا تبغ، ولا تعن باغيا، ولا تنكث، ولا تعن ناكثا» . وقال تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ،} وقال: {يا أَيُّهَا النّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ،} وقال: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ} وقال أبو بكر الصديق-رضي الله عنه:
(ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه) وتلا الآيات الثلاث، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أسرع الخير ثوابا صلة الرّحم، وأعجل الشّرّ عقوبة البغي، واليمين الفاجرة» . وعن ابن عباس-رضي الله عنهما أنه قال: (لو بغى جبل على جبل لدكّ الباغي) ورحم الله من يقول: [البسيط]
يا صاحب البغي إنّ البغي مصرعة
…
فاربع فخير مقال المرء أعدله
فلو بغى جبل يوما على جبل
…
لا ندكّ منه أعاليه وأسفله
وكان المأمون العباسي يتمثل بهذين البيتين في أخيه الأمين حين ابتدأ بالبغي عليه، قال الشاعر الحكيم:[مجزوء الكامل]
والبغي يصرع أهله
…
والظّلم مرتعه وخيم
هذا؛ وانظر أنواع الظلم في رسالة: (الحج والحجاج في هذا الزمن) وأقبح أنواع الظلم أن يظلم الإنسان نفسه بارتكاب المعاصي والمنكرات، فيسبب لها الخلود في جهنم.
الإعراب: {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، أو في محل رفع مبتدأ، والخبر محذوف، انظر الشرح، وانظر مثله في الآية رقم [30]، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {وَمَنْ:}
الواو: حرف استئناف. (من): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، وأجيز اعتبارها اسم شرط جازما، ولا وجه له ألبتة. {عاقَبَ:} ماض، والفاعل يعود إلى (من) وهو العائد، والمفعول محذوف، تقديره: المعتدي. والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها.
{بِمِثْلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (مثل) مضاف، و {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة. {عُوقِبَ:} ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى (من) أيضا. {بِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والعائد الضمير المجرور محلا بالباء. {ثُمَّ:} حرف عطف. {بُغِيَ:} ماض مبني للمجهول.
{عَلَيْهِ:} في محل رفع نائب فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ:} إعراب هذه مثل إعراب {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ} في الآية [58]، وهي مثلها جواب قسم محذوف، والقسم وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو (من)، والجملة الاسمية حينئذ مستأنفة، لا محل لها {إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ:} وهذه الجملة اسمية أيضا، وهي مستأنفة، وإعرابها ظاهر إن شاء الله تعالى.
الشرح: أي: ذلك النصر للمظلوم المذكور في الآية السابقة، والغفران له إذا انتقم من المعتدي بسبب أنه سبحانه وتعالى قادر على ما يشاء، ومن علامات قدرته أنه يدخل الليل في النهار، ويدخل النهار في الليل، أي: يزيد من هذا في ذاك، ومن ذاك في هذا، أو بسبب: أنه خالق الليل، والنهار، ومصرفهما فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر، والبغي، والإنصاف، وأنه سميع لما يقولون، ولا يشغله سمع عن سمع، وإن اختلفت في النهار الأصوات بفنون اللغات، بصير بما يعملون، ولا يستتر عنه شيء بشيء في الليالي، وإن توالت الظلمات. انتهى. نسفي بتصرف كبير.
هذا؛ ويولج: يدخل، والماضي: أولج، فهو رباعي، ومصدره: الإيلاج، وأما الثلاثي، فهو: ولج، يلج، ومصدره: الولوج، والمراد بإيلاج الليل في النهار وبالعكس بأن يزيد كلّ منهما بما نقص من الآخر، كما هو ظاهر في طول الليل وقصره تبعا لفصول السنة، قال تعالى:
{يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ} وقيل: المراد بالإيلاج: أنه سبحانه وتعالى يجعل ظلمة الليل مكان ضياء النهار، وذلك بغيبوبة الشمس، ويجعل ضياء النهار مكان ظلمة الليل بطلوع الشمس، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {بِأَنَّ:} الباء: حرف جر. (أن): حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:}
اسمها. {يُولِجُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهَ}. {اللَّيْلَ:} مفعول به. {فِي النَّهارِ:}
متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أنّ) والتي بعدها معطوفة عليها، فهي في محل رفع مثلها، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، والمصدر المؤول من:{وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} معطوف على ما قبله، فهو في محل جر مثله. هذا؛ ويقرأ بكسر همزة «(إنّ)» فتكون الجملة الاسمية مستقلة بنفسها، ومستأنفة لا محل لها.
الشرح: {ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ} أي: ذو الحق، فدينه حق، وعبادته حق، والمؤمنون
يستحقون منه النصر بحكم وعده الحق. {وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ} أي: الأصنام التي يعبدونها لا استحقاق لها في العبادات.
{وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ} أي: العالي على كل شيء بقدرته، والعالي عن الأشباه، والأنداد، المقدس عما يقول الظالمون من الصفات التي لا تليق بجلاله. {الْكَبِيرُ} أي: الموصوف بالعظمة، والجلال، وكبر الشأن. وقيل:{الْكَبِيرُ} ذو الكبرياء، والكبرياء عبارة عن كمال الذات؛ أي: له الوجود المطلق أبدا، وأزلا، فهو الأول القديم، والآخر الباقي بعد فناء خلقه انتهى
…
قرطبي.
بعد هذا انظر شرح {الْحَقُّ} في الآية رقم [81] من سورة (الإسراء) وضده: الباطل، وهو بمعنى الفاسد، والبطلان: عبارة عن عدم الشيء، إما بعدم ذاته، أو بعدم فائدته، ونفعه. هذا؛ وبطل: من باب: دخل، والبطل بفتحتين: الشجاع، والبطل بضم، فسكون: الباطل، والكذب، والبطالة: التعطل، والتفرغ عن العمل، ويجمع باطل على أباطيل شذوذا، كما شذ: أحاديث، وأعاريض، وأفاظيع في جمع: حديث، وعريض، وفظيع.
الإعراب: {ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ..} . إلخ: إعراب هذه الآية مثل إعراب الآية رقم [6] بلا فارق، وأوضح لك إعراب ما يلي. (أن): حرف مشبه بالفعل. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب اسمها، والجملة بعدها صلتها، والعائد محذوف، التقدير: وأن الذي يدعونه.
{مِنْ دُونِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب العائد إلى {ما،} ومن بيان لما أبهم في {ما،} وباقي الإعراب مثل سابقه، ولا حقه بلا فارق. هذا؛ والآية مذكورة، بحروفها في سورة لقمان برقم [30].
الشرح: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً:} ألم تعلم أن الله
…
إلخ: استفهام تقريري، ولذلك لم ينصب الفعل بعد الفاء، وهو عند سيبويه والخليل كلام خبري، قال الخليل:
المعنى: انتبه أنزل الله من السماء ماء، فكان كذا، وكذا، ومثله قول جميل بثينة:[الطويل]
ألم تسأل الرّبع القواء فينطق
…
وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق؟
معناه قد سألته فنطق، وقال الفراء:{أَلَمْ تَرَ} خبر، كما تقول في الكلام: أعلم أن الله عز وجل ينزل من السماء ماء، هذا؛ والفعل (تصبح) بمعنى الماضي، وإنما عدل به عن صيغة الماضي للدلالة على بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان. وأيضا: لم ينصب الفعل بعد الفاء؛ لأن
خضرة الأرض لا تتسبب عن الرؤية، وإنما تتسبب عن نزول المطر. وأيضا: جواب الاستفهام ينعقد منه شرط، وجزاء. وهنا لا يصح ذلك؛ إذ لا يقال: إن تر إنزال المطر تصبح الأرض مخضرة. انتهى. جمل بتصرف كبير.
{إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ} أي: باستخراج النبات من الأرض رزقا للعباد، والحيوان. {خَبِيرٌ:}
بالتدابير الظاهرة، والباطنة، وخبير بحاجات العباد، وفاقتهم، وخبير بما في قلوب العباد إذا تأخر المطر عنهم. هذا؛ وانظر شرح (الماء) وإعلاله في الآية رقم [30] من سورة (الأنبياء)، وشرح {السَّماءِ} وإعلاله في الآية رقم [32] منها.
الإعراب: {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وتقرير. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم.
{تَرَ:} مضارع مجزوم ب: (لم) وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها.
{أَنْزَلَ:} ماض، وفاعله مستتر يعود إلى {اللهَ}. {مِنَ السَّماءِ:} متعلقان بمحذوف حال من {السَّماءِ} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة؛ إذا تقدم عليها صار حالا» . {السَّماءِ:} مفعول به، وجملة:{أَنْزَلَ..} . إلخ في محل رفع خبر {أَنَّ} و {أَنَّ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي الفعل {تَرَ،} والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. (تصبح): مضارع ناقص. {الْأَرْضُ:} اسمها. {مُخْضَرَّةً:} خبرها، وإن اعتبرت (تصبح) تاما؛ فيكون مخضرة حالا من {الْأَرْضُ،} وجملة (تصبح
…
) إلخ معطوفة على جملة:
{أَنْزَلَ..} . إلخ فهي في محل رفع مثلها. وهذا على اعتبار (تصبح) بمعنى: أصبحت، وعلى اعتباره مضارعا على ظاهره؛ فالجملة الفعلية في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: فهي تصبح، وهذا الضمير للقصة، وتكون الجملة الاسمية مستأنفة، وعلى الاعتبار الأول؛ فالرابط بالجملة الأولى رابط في الثانية بسبب العطف، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ:} مستأنفة، لا محل لها.
{لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)}
الشرح: {لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ:} ملكا، وخلقا، وعبيدا، كل ذلك ملك له، لا يشركه فيه أحد. هذا؛ وفي {ما} تغليب غير العاقل على العاقل. {وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ:}
عن عباده غير محتاج إليهم في شيء. {الْحَمِيدُ:} المحمود بكل لسان، الممجد في كل مكان على كل حال، وهو مستحق للحمد في ذاته، تحمده الملائكة، وتنطق بحمده ذرات المخلوقات.
الإعراب: {لَهُ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. {فِي السَّماواتِ:} متعلقان بمحذوف صلة، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {ما:} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان
بمحذوف صلة الموصول، {وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ..}. إلخ إعراب هذه الجملة مثل إعراب:{وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ} بلا فارق، وهي هنا مستأنفة لا غير، انظر رقم [58].
الشرح: {أَلَمْ تَرَ:} استفهام تقريري، وهو يشمل كل مخاطب، وعاقل من بني آدم.
{سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ:} ذلّله، وجعله معدا لمنافعهم، وهو يشمل جميع ما يحتاجون إليه من الدواب، والنبات، والأنهار وغير ذلك. {وَالْفُلْكَ:} انظر الآية رقم [66] من سورة (الإسراء)، أو الآية رقم [27] من سورة (المؤمنون).
وانظر شرح {الْبَرِّ} و (البحر) في الآية رقم [70] من سورة (الإسراء). {وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ} أي: بأن خلقها على صورة متداعية إلى الاستمساك. {إِلاّ بِإِذْنِهِ:}
إلا بمشيئته، وذلك يوم القيامة؛ حيث تتغير معالمها، كما ذكر الله في سورة (التكوير) وغيرها، وفيه رد على من يدعي استمساكها بذاتها، فإنها مساوية لسائر الأجسام في الجسمية، فتكون قابلة للسقوط قبول غيرها، وآية (فاطر) رقم [41] توضح هذا المعنى، وهي قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا..} . إلخ.
{إِنَّ اللهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ:} حيث هيأ لهم أسباب الاستدلال، وفتح عليهم أبواب المنافع، ودفع عنهم أنواع المضار. هذا؛ والرأفة: أشد الرحمة، ورؤوف صيغة مبالغة، والله أرأف بعبادة من الوالدة بولدها، ومن رأفته أشياء كثيرة يعسر حصرها، وعدها، وهي معلومة عند ذوي الألباب.
الإعراب: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ:} انظر إعراب مثل هذا الكلام في الآية رقم [63]{ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. (الفلك): معطوف على {ما} . {تَجْرِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى (الفلك). {فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ:} كلاهما متعلقان بالفعل قبلهما، وأجيز تعليق {بِأَمْرِهِ} بمحذوف حال من فاعل تجري المستتر، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{تَجْرِي..} . إلخ في محل نصب حال من (الفلك). هذا؛ وأجيز اعتبار الفلك معطوفا على لفظ الجلالة، فتكون الجملة الفعلية في محل رفع خبره، على تقدير:
وأن الفلك تجري
…
إلخ. هذا؛ ويقرأ برفع (الفلك) على أنه مبتدأ، والجملة الفعلية في محل رفع خبره، وتكون الجملة مستأنفة، لا محل لها، وعطفها على ما قبلها لا يصح.
(يمسك): مضارع، والفاعل يعود إلى الله. {السَّماءَ:} مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {أَنْ تَقَعَ:} مضارع منصوب ب: {أَنَّ،} والفاعل يعود إلى {السَّماءَ} .
{عَلَى الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {إِلاّ:} حرف حصر. {بِإِذْنِهِ:} متعلقان بمحذوف حال مستثنى من عموم الأحوال، والهاء في محل جر بالإضافة، والمصدر المؤول من:{أَنْ تَقَعَ} في محل نصب بدل اشتمال من {السَّماءَ،} التقدير: ويمسك وقوعها بمعنى: يمنعه، أو هو في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: لئلا تقع، وهذا عند الكوفيين، وأما البصريون؛ فيعتبرون المصدر المؤول في محل جر بإضافة مفعول لأجله إليه محذوف، التقدير: كراهة وقوعها. تأمل. {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {بِالنّاسِ:} متعلقان بما بعدهما على التنازع. {لَرَؤُفٌ:} خبر {أَنَّ،} واللام هي المزحلقة. {رَحِيمٌ:} خبر ثان، والجملة الاسمية:{أَنَّ اللهَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66)}
الشرح: {وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ:} أنشأكم، ولم تكونوا شيئا، أو بعد أن كنتم نطفا في الأصلاب. {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ:} عند انقضاء آجالكم. {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ:} يوم القيامة للحساب، والثواب، والعقاب. {إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ:} لجحود للنعم مع ظهورها، وتكاثرها {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ} . هذا؛ وانظر شرح {ثُمَّ} في الآية رقم [65] من سورة (الأنبياء)، وشرح (الكفر) في الآية رقم [30] منها.
تنبيه: لقد ذكر الله تعالى في الآيات الأربع من آثار قدرته ستة أشياء:
أولها: إنزال المطر الناشئ عنه اخضرار الأرض، وفسر الرؤية بالعلم دون الإبصار؛ لأن الماء وإن كان مرئيا؛ إلا أن كون الله منزلا له من السماء غير مرئي، وقال:{فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ} دون أصبحت لإفادته بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان.
الثاني: قوله: {لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} ومن جملته خلق المطر، والنبات نفعا للحيوان، مع أن الله لا يحتاج لذلك، ولا ينتفع به.
الثالث: تسخير ما في الأرض، أي: ذلك لكم، كل ما فيها كالحجر، والحديد، والنار لما يراد منها، والحيوان للأكل، والركوب، والحمل عليه، والنظر إليه.
الرابع: تسخير الفلك بالماء، والأرياح، فلولا أن الله سخرها، لكانت تغوص، أو تقف.
الخامس: إمساك السماء؛ لأن النعم المتقدمة لا تكمل إلا به، والسماء جرم ثقيل، وما كان كذلك لا بد له من السقوط؛ لولا مانع يمنعه منه، وهو القدرة، فأمسكها الله بقدرته؛ لئلا تقع، فتبطل هذه النعم التي امتن الله بها علينا.
سادسها: الإحياء ثم الإماتة، ثم الإحياء. نبه بهذا على أنّ هذه النعم لمن أحياه الله، فنبه بالإحياء الأول على إنعامه في الدنيا بكل ما تقدم، ونبه بالإماتة، والإحياء ثانيا على إنعامه علينا في الآخرة، ولما فصّل الله هذه النعم؛ قال:{إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ} أي: لهذه النعم. انتهى.
نقلا من الفخر الرازي.
الإعراب: {وَهُوَ:} الواو: حرف استئناف. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {أَحْياكُمْ:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والجملتان بعدها معطوفتان عليها، لا محل لهما مثلها، والجملة الاسمية:{إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ} مستأنفة، وإعرابها واضح إن شاء الله تعالى.
الشرح: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً:} شرح هذه الكلمات مثل الآية رقم [34] ولكن المراد ب: {مَنْسَكاً} هنا غير ما هنالك، فإن المراد به هنا: الشريعة التي تعبد الله بها الأمم السابقة، وإنما حذف الواو هنا، ولم يقل: ولكل أمة؛ لأنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله. ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أن هذه مشتملة على النعم التكليفية، والتي قبلها مشتملة على نعم غير تكليفية. وهذا الكلام مستأنف جيء به لزجر معاصريه صلى الله عليه وسلم من أهل الأديان السماوية عن مفارقته، فكيف بمعاداته؟!
{هُمْ ناسِكُوهُ} أي: عاملون به، أي بتلك الشريعة، وذلك الدين الذي جاءهم به رسولهم.
{فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} أي: فلا يخاصمك أصحاب الأديان الأخرى في أمر الدين؛ لأنهم بين جهال، وأهل عناد، أو؛ لأن دينك أظهر من أن يقبل النزاع. وقيل: المراد: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات إلى قولهم، وتمكينهم من المناظرة المؤدية إلى نزاعهم، فإنها تنفع طالب الحق، وهؤلاء أهل جدال بالباطل. وقيل: نزلت في كفار بني خزاعة، قالوا للمسلمين: ما لكم تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتله الله؟!. وقرئ:«(فلا ينزعنّك)» على تهييج الرسول صلى الله عليه وسلم، والمبالغة في تثبيته على دينه على أنه من نازعته، فنزعته إذا غلبته. قال القرطبي: ولفظ النهي في القراءتين للكفار، والمراد: النبي صلى الله عليه وسلم.
{وَادْعُ إِلى رَبِّكَ} أي: إلى توحيده، ودينه، والإيمان به، ولا تنس: قوله تعالى في سورة (النحل): {اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} رقم [125]{إِنَّكَ لَعَلى هُدىً} أي: دين.
{مُسْتَقِيمٍ} أي: قديم لا اعوجاج فيه.
الإعراب: {لِكُلِّ:} متعلقان بالفعل بعدهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني تقدم عليه، و (كل) مضاف، و {أُمَّةٍ} مضاف إليه. {جَعَلْنا:} فعل، وفاعل. {مَنْسَكاً:} مفعول به أول، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {ناسِكُوهُ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الواو؛ لأنه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية في محل نصب صفة {مَنْسَكاً} أي: منسوكا من قبلهم. {فَلا:} الفاء: هي الفصيحة، وانظر الآية رقم [30]. (لا): ناهية. {يُنازِعُنَّكَ:} مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وواو الجماعة المحذوفة المدلول عليها بالضمة فاعله، وعلى القراءة الثانية فلا يتغير الإعراب، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ما ذكر حاصلا وواقعا؛ فلا
…
إلخ، والشرط المقدر ومدخوله كلام مستأنف لا محل له. {فِي الْأَمْرِ:} متعلقان بما قبلهما.
(ادع): أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الواو، والضمة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {إِلى رَبِّكَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وانظر تقدير المضاف في الشرح، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {إِنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {لَعَلى:} اللام: هي المزحلقة. (على هدى): متعلقان بمحذوف خبر (إنّ) وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف المحذوفة لا لتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها.
{مُسْتَقِيمٍ:} صفة {هُدىً،} والجملة الاسمية: {إِنَّكَ..} . إلخ تعليل للأمر، لا محل لها.
{وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68)}
الشرح: {وَإِنْ جادَلُوكَ} أي: خاصموك يا محمد! والمراد: مشركو مكة، وغيرهم. {فَقُلِ اللهُ..}. إلخ: أي: من المجادلة الباطلة، وغيرها، فيجازيكم عليها. وهو وعيد فيه رفق، وهذا قبل الأمر بالقتال، فهو منسوخ بآية السيف. أو قل: أمره الله تعالى بالإعراض عن مماراتهم صيانة له عن الاشتغال بتعنتهم، ولا جواب لصاحب العناد إلا الإعراض، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {جادَلُوكَ:} ماض مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط، والواو فاعله، والكاف مفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَقُلِ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قل): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {اللهُ:} مبتدأ. {أَعْلَمُ:} خبره، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {بِما:} متعلقان ب: {أَعْلَمُ} وهو بمعنى: عالم،
و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين، مبينة على السكون في محل جر بالباء، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: بالذي، أو: بشيء تعملونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: الله عالم بعملكم، والجملة الفعلية:{فَقُلِ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.
{اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)}
الشرح: {اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} أي: يفصل بين المؤمنين منكم، والكافرين بالثواب، والعقاب. {يَوْمَ الْقِيامَةِ:} يوم الحسرة، والندامة، وانظر الآية رقم [47] من سورة (الأنبياء).
{فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي: من أمر الدين. هذا؛ وقال القرطبي: في هذه الآية أدب حسن، علمه الله عباده في الرد على من جادل تعنتا، ومراء ألا يجاب، ولا يناظر، ويدفع بهذا القول الذي علمه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم.
الإعراب: {اللهُ:} مبتدأ. {يَحْكُمُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. {بَيْنَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله أيضا، و {يَوْمَ} مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه. {فِيما:} متعلقان بالفعل (يحكم) أيضا، وقيل: متعلقان بمحذوف حال، وهو ضعيف. و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب:(في). {كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {فِيهِ:} متعلقان بما بعدهما، وجملة:(تختلفون فيه) في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كُنْتُمْ..} . إلخ صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط:
الضمير المجرور محلا ب: (في)، والجملة الاسمية:{اللهُ يَحْكُمُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ..} . إلخ: هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويدخل فيه كل عاقل، والمعنى: وإذا قد علمت يا محمد هذا؛ وأيقنت؛ فاعلم: أنه يعلم أيضا ما أنتم مختلفون فيه، فهو يحكم بينكم يوم القيامة في ذلك. {إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ} أي: كل ما يجري في هذا الكون، فهو مكتوب، ومسجل عند الله في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الله آدم بآلاف السنين. {إِنَّ ذلِكَ} أي:
إن الفصل بين المختلفين، أو: إن كتب الحوادث في اللوح المحفوظ. {عَلَى اللهِ يَسِيرٌ:} هين.
الإعراب: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ:} إعرابه مثل إعراب: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ} في الآية رقم [63] بلا فارق. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {فِي السَّماءِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. (الأرض): معطوف على {السَّماءِ،} والكلام:
{أَلَمْ تَعْلَمْ..} . إلخ مستأنف لا محل له. {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب اسمها. {فِي كِتابٍ:} متعلقان بمحذوف خبر {أَنَّ،} والجملة الاسمية بمنزلة التعليل لما قبلها، لا محل لها، وما بعدها بمنزلة التأكيد لها. {عَلَى اللهِ:}
متعلقان ب: {يَسِيرٌ} بعدهما. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ:} المراد بهم كفار قريش؛ الذين يعبدون الحجارة، والأوثان من دون الله، وانظر (العبادة) في الآية رقم [66] من سورة (الأنبياء)، وشرح (دون) في الآية رقم [14] من سورة (الكهف). {ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً:} حجة، وبرهانا على ما يعبدون. {وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ:} أي أنهم فعلوا ما فعلوا عن جهل، لا علم، ولا دليل عقلي. {وَما لِلظّالِمِينَ:}
للمشركين. {مِنْ نَصِيرٍ:} من مانع يمنعهم من عذاب الله تعالى، وانظر (الظلم) في الآية رقم [60].
هذا؛ و (سلطان) تسلط وولاية، ومعناه هنا: الحجة، والبرهان، كما رأيت، قال بعض المفسرين المحققين: سميت الحجة سلطانا؛ لأن صاحب الحجة يقهر من لا حجة له، كالسلطان يقهر غيره بقوته، وقال الزجاج: السلطان: هو الحجة، وسمي السلطان سلطانا؛ لأنه حجة الله في أرضه. انتهى. ولا تنس: ما قاله عثمان بن عفان-رضي الله عنه: (إنّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) أي: يكف عن المعاصي، ويردع. وجمعه بمعنى الحاكم، والمالك: سلاطين، ولا يجمع إذا كان بمعنى الحجة، والبرهان. هذا؛ وزعم الفراء: أن العرب تؤنث السلطان، تقول: قضت به عليك السلطان، أما البصريون فالتذكير عندهم أفصح، وبه جاء القرآن، والتأنيث عندهم جائز؛ لأنه بمعنى الحجة.
الإعراب: {وَيَعْبُدُونَ:} الواو: حرف استئناف. (يعبدون): مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {مِنْ دُونِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل:
متعلقان بمحذوف حال، ولا وجه له ألبتة. و {يَعْبُدُونَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {ما:}
اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يُنَزِّلْ:} مضارع مجزوم ب: {لَمْ،} والفاعل يعود إلى {اللهِ} . {بِهِ:}
متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {سُلْطاناً} كان صفة له
…
إلخ، انظر
الآية [75]. {سُلْطاناً:} مفعول به، وجملة:{لَمْ يُنَزِّلْ..} . إلخ صلة {ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلا بالباء. {وَما:} الواو: حرف عطف. {ما:} معطوفة على سابقتها. {لَيْسَ:} ماض ناقص. {لَهُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر {لَيْسَ} تقدم على اسمها.
{بِهِ:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، وتعلقيهما ب:{عِلْمٌ} بعدهما، فالمعنى لا يأباه. {عِلْمٌ:} اسم {لَيْسَ} مؤخر، وجملة:{لَيْسَ..} . إلخ صلة (ما) أو صفتها على مثال ما تقدم. {وَما:} الواو حرف استئناف. (ما): نافية. {لِلظّالِمِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم، أو بمحذوف خبر (ما) على إعمالها. {مِنْ:} حرف جر صلة. {نَصِيرٍ:} مبتدأ مؤخر، أو اسم (ما) مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية مستأنفة.
الشرح: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ} أي: على كفار قريش. {آياتُنا بَيِّناتٍ:} مرتبات الألفاظ، ملخصات المعاني، بينات المقاصد، مفصلات الحلال، والحرام، والنافع، والضار
…
إلخ.
{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ:} الإنكار لشدة نكيرهم للحق، وغيظهم لأباطيل ورثوها تقليدا لآبائهم، وهذا منتهى الجهالة، والحمق، والسفاهة.
{يَكادُونَ يَسْطُونَ:} يبطشون، والسطوة: شدة البأس، يقال: سطا به، يسطو: إذا بطش به، كان ذلك بضرب، أو بشتم. {بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا} أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد بطشوا بالنبي كثيرا، وبطشوا بأبي ذر الغفاري حينما قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وبطشوا بعبد الله بن مسعود حينما قرأ عليهم سورة (الرحمن)، وبطشوا بالمستضعفين أمثال عمار، وأبويه، وبلال. والسيرة النبوية طافحة بإيذاء المشركين للمؤمنين.
{قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ} أي: أخبركم. {بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ} أي: أكره لكم، وأغيظ لقلوبكم من هذا القرآن الذين تسمعون. {النّارُ:} فكأنهم تساءلوا، ما الذي هو شر؟ فقيل: هو النار. {وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: يلقون عذاب النار يوم القيامة، وقد وعدهم الله ذلك، وقد جاء (وعد) في الشر، وانظر الآية رقم [75] من سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام، وشرح (نا) برقم [58] منها.
{وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي: المرجع والمال، وانظر شرح «بئس» و «نعم» في الآية رقم [78] الآتية، وانظر شرح (آية) في الآية رقم [5] من سورة (الأنبياء). و (الكفر) في الآية رقم [30]، وشرح
(النار) وإعلاله في الآية رقم [10] من سورة (طه)، وشرح (شر) في الآية رقم [46] من سورة (الكهف)، وشرح (كاد) في الآية رقم [73] من سورة (الإسراء)، وانظر شرح {نَبَأَهُمْ} في الآية رقم [13] من سورة (الكهف).
الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف عطف. (إذا): انظر الآية رقم [52]{تُتْلى:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {عَلَيْهِمْ:} متعلقان به.
{آياتُنا:} نائب فاعله، و (نا): في محل جر بالإضافة. وجملة: {تُتْلى..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذا) إليها. {بَيِّناتٍ:} حال من {آياتُنا} منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {تَعْرِفُ:} مضارع، والفاعل: أنت. {فِي وُجُوهِ:} متعلقان بما قبلهما، و {وُجُوهِ} مضاف، و {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة.
{كَفَرُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها. {الْمُنْكَرَ:} مفعول به، وجملة:{تَعْرِفُ..} . إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، أو هو مستأنف لا محل له على الاعتبارين.
{يَكادُونَ:} مضارع ناقص مرفوع
…
إلخ، والواو اسمه، وجملة:{يَسْطُونَ..} . إلخ في محل نصب خبر {يَكادُونَ} . {بِالَّذِينَ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:{يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ} صلة الموصول لا محل لها. {آياتُنا:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، و (نا): في محل جر بالإضافة، وجملة:{يَكادُونَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من الوجوه، وهو سائغ؛ لأنه يعبر بها عن أصحابها، كقوله تعالى:{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ،} ثم قال: {أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ،} أو هي في محل نصب حال من الموصول، وإن كان مضافا إليه؛ لأن المضاف جزؤه، خذ قول ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته:[الرجز]
ولا تجز حالا من المضاف له
…
إلا إذا اقتضى المضاف عمله
أو كان جزء ماله أضيفا
…
أو مثل جزئه فلا تحيفا
{قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {أَفَأُنَبِّئُكُمْ:} الهمزة: حرف استفهام.
الفاء: حرف عطف، انظر الآية رقم [30] من سورة (الأنبياء) لشرح ذلك تجد ما يسرك.
(أنبئكم): مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والكاف مفعول به. {بِشَرٍّ:} متعلقان به، وهما في محل نصب مفعوله الثاني. {مِنْ ذلِكُمُ:} متعلقان ب: (شرّ)؛ لأنه أفعل تفضيل، واللام للبعد. والكاف حرف خطاب لا محل له، وجملة: (أنبئكم
…
) إلخ معطوفة على جملة مقدرة قبلها، التقدير: أي: أخاطبكم فأنبئكم، والكلام، كله في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{النّارُ:} بقرأ بالحركات الثلاث، فالرفع من وجهين: أحدهما: الرفع على الابتداء، والخبر الجملة بعده، وعليه؛ فالجملة لا محل لها؛ لأنها مفسرة للشر المتقدم، كأنه قيل: ما شر من ذلك، فقيل:{النّارُ وَعَدَهَا..} . إلخ، والثاني: أنها خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل: ما شر من ذلك، فقيل:
هو النار، وتبقى الجملة مفسرة للشر كما في الوجه الأول، وحينئذ يجوز في جملة:{وَعَدَهَا..} .
إلخ الرفع على أنها خبر بعد خبر، أو هي بدل من النار، وهو ضعيف؛ لأنه إبدال جملة من مفرد.
والنصب من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه منصوب بفعل مقدر يفسره الظاهر، والمسألة من باب الاشتغال، الثاني: أنها منصوبة على الاختصاص. قاله الزمخشري. الثالث: أن ينتصب بأعني، وهو قريب مما قبله، أو هو هو، والجر على البدل من (شر). انتهى. جمل نقلا عن السمين.
{وَعَدَهَا:} ماض، و (ها): مفعوله الأول. {اللهُ:} فاعله. {الَّذِينَ:} مفعوله الثاني، وجملة:
{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول. هذا، وقيل: إن الضمير هو المفعول الثاني، والموصول هو المفعول الأول، وهذا يتمشى على القاعدة، وهي أنه متى اجتمع ما يتعدى إلى اثنين شيئان، ليس ثانيهما عبارة عن الأول، فالفاعل المعنوي رتبته التقديم، وهو المفعول الأول، فإذا قلت: وعدت زيدا دينارا، فالدينار هو المفعول الثاني؛ لأنه لا يتأتى منه فعل، وهو نظير قولك:
أعطيت محمودا دينارا، فمحمود هو الفاعل في المعنى؛ لأنه آخذ للدينار. (بئس): ماض جامد دال على إنشاء الذم. {الْمَصِيرُ:} فاعله، والمخصوص بالذم محذوف التقدير: النار، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {يا أَيُّهَا النّاسُ:} نداء يعم الناس أجمعين، والمخصوص أهل مكة. {ضُرِبَ مَثَلٌ:} بيّن لكم حال مستغربة، أو قصة رائعة، ولذلك سميت مثلا. {فَاسْتَمِعُوا لَهُ} أي:
تدبروه حق تدبره، فإن الاستماع بلا تدبر وتعقل لا ينفع، والمثل المضروب يحتمل وجهين:
الأول: أن الكفار جعلوا لله مثلا بعبادتهم غيره، فكأنه تعالى قال: جعلوا لي شبيها في عبادتي، فاستمعوا خبر هذا الشبه. والثاني: هو ما ذكره الله صريحا من كون الأصنام المعبودة لم تستطع أن تخلق شيئا؛ حتى الذباب الضعيف؛ بل إن هذا المخلوق الضعيف إن سلب هذه الآلهة المصطنعة شيئا لا تقدر على إنقاذه منه.
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ:} تعبدون من دون الله، أو تسمونهم آلهة، وانظر ما ذكرته في: دعا، يدعو في الآية رقم [110] من سورة (الإسراء) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كانوا يطلون الأصنام بالطيب والعسل، ويغلقون عليها الأبواب، فيدخل الذباب من الكوى فيأكله. وقيل: كانوا يضعون الطعام بين أيدي الأصنام، فيقع الذباب عليه ويأكل منه، والأول أولى بالاعتبار، بل إن هذه الآلهة المصطنعة لا تقدر أن تدفع السوء عن نفسها، وقصة إبراهيم-عليه السلام-في سورة (الأنبياء) شاهد على ذلك.
وخذ ما يلي يروى: أن رجلا من بني سلمة اسمه غاوي بن ظالم كان سادنا على صنم لقومه، وكان يأتيه بالخبز، والزبد، ويضعه على رأسه لعله يأكل، فبينما هو كذلك إذ أقبل ثعلب ذات يوم، فرفع رجله بعد أن أكل الخبز، والزبد، وبال على رأس الصنم، ثم إن الرجل كسر الصنم، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما اسمك؟ قال له: غاوي بن ظالم، فقال له: اسمك راشد بن عبد الله، وكان لما كسر الصنم قال أبياتا هاكها:[الطويل]
لقد خاب قوم أمّلوك لشدّة
…
أرادوا نزالا أن تكون تحارب
فلا أنت تغني عن أمور تواترت
…
ولا أنت دفّاع إذا حلّ نائب
أربّ يبول الثّعلبان برأسه؟
…
لقد هان من بالت عليه الثعالب
{ضَعُفَ الطّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ:} العابد، والمعبود. أو الطالب: الذباب، والمطلوب:
الصنم. وقيل: بالعكس. هذا؛ وخص الذباب بالذكر لأربعة أمور تخصّه: لمهانته، وضعفه، ولا ستقذاره، وكثرته، فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان، وأحقره لا يقدر من عبدوه من دون الله-عز وجل-على خلق مثله، ودفع أذيته، فكيف يجوز أن يكونوا آلهة معبودين، وأربابا مطاعين، ولكن لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
بعد هذا انظر شرح (مثل) في الآية رقم [60]، وشرح {شَيْءٍ} في الآية رقم [30] من سورة (الأنبياء). هذا؛ وأما (الذباب) فهو اسم جنس مثل: إبل، وبقر يقع على الذكر، والأنثى، وجمع القلة منه: أذبّة، وجمع الكثرة منه: ذبّان، مثل غراب، وأغربة، وغربان، وسمي به لكثرة حركته، قال الجوهري: والذباب معروف، الواحدة: ذبابة، ولا تقل: ذبّانة. والمذبّة: ما يذبّ به الذباب، وذباب السيف: طرفه الذي يضرب به، وذباب العين: إنسانها، والذبابة: البقية من الدين، وذبّب النهار: إذا لم يبق منه إلا بقية، والتذبذب: التحرك، وقال تعالى عن المنافقين:
{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ} أي: مترددين بين الإيمان، والكفر.
فائدة: ذكر: أن المنصور العباسي كان في مجلسه؛ وعنده بعض العلماء، فسقطت عليه ذبابة، فدفعها، فرجعت، وتكرر منه طردها، وهي تعاود السقوط على وجهه، وغيره، فضجر منها، فقال: لماذا خلقها الله تعالى؟ لا ريح لها طيب، ولا شكل جميل! فقال أحد العلماء:
خلقها الله ليذل بها الجبابرة، فلم يحر المنصور جوابا. ولا تنس: أن الذباب لم يقع على النبي صلى الله عليه وسلم في حياته تكريما له.
تنبيه: روي عن الحسن البصري، وقتادة-رضي الله عنهما: أنهما قالا: لما ذكر الله الذباب، والعنكبوت في كتابه، أي في هذه الآية، وقوله تعالى في سورة (العنكبوت):{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} وضرب للمشركين بذلك المثل ضحكت اليهود، وقالت: ما يشبه هذا كلام الله، فأنزل الله تعالى قوله في سورة (البقرة):{إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها..} . إلخ الآية رقم [26].
الإعراب: {يا أَيُّهَا النّاسُ:} انظر الآية رقم [1] ففيها الكفاية. {ضُرِبَ:} ماض مبني للمجهول. {مَثَلٌ:} نائب فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {فَاسْتَمِعُوا:} الفاء: هي الفصيحة، وانظر الآية رقم [30]. (استمعوا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لَهُ:} متعلقان به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم؛ إذ التقدير: وإذا كان ضرب المثل حاصلا؛ فاستمعوا له، والشرط المقدر، ومدخوله كلام معطوف على ما قبله لا محل له. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل.
{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها، والجملة الفعلية بعده صلته، والعائد محذوف؛ إذ التقدير:{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف، و {دُونِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {لَنْ:} حرف نفي، ونصب، واستقبال. {يَخْلُقُوا:} مضارع منصوب ب: {لَنْ،} وعلامة نصبه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {ذُباباً:} مفعول به، والجملة الفعلية:{لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً} في محل رفع خبر (إنّ). {وَلَوِ:} الواو: واو الحال. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وجملة:
{اِجْتَمَعُوا لَهُ} شرط (لو) لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال؛ لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب (لو) محذوف، التقدير: لا يقدرون، و (لو) ومدخولها في محل نصب حال من واو الجماعة، جيء به للمبالغة؛ إذ التقدير:{لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً} مجتمعين له متعاونين عليه، فكيف إذا كانوا منفردين متفرقين؟! والجملة الاسمية:{إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ تفسير ل: {مَثَلٌ} تأمل.
{وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {يَسْلُبْهُمُ:} مضارع فعل الشرط، والهاء مفعوله الأول. {الذُّبابُ:} فاعله. {شَيْئاً:} مفعوله الثاني، وجملة:{يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لا:}
نافية. {يَسْتَنْقِذُوهُ:} مضارع جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والهاء مفعوله. {مِنْهُ:} متعلقان به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب
الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، وجملة:{ضَعُفَ الطّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} مستأنفة أيضا لا محل لها، وقيل: هي في محل نصب حال، ولا وجه له ألبتة؛ لأنها لا يوجد فيها رابط يربطها بصاحب حال.
{ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)}
الشرح: {ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي: ما عظموا الله حق تعظيمه، أو: ما عرفوه حق معرفته في الرحمة، والإنعام على العباد حيث أشركوا به أحقر خلقه، وسموا باسمه ما هو أبعد الأشياء عنه مناسبة، وهذه الجملة ذكرت في سورة (الأنعام) برقم [91]، وفي سورة (الزمر) برقم [67]. {إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ:} قادر مقتدر على خلق الممكنات بأسرها. {عَزِيزٌ:} غالب قاهر، لا يغلبه، ولا يقهره شيء، وآلهتهم التي يعبدونها عاجزة، ذليلة، مهينة، لا تدفع عن نفسها ضرا، ولا تجلب لها نفعا، وانظر سبب نزول آية (الأنعام) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. هذا؛ وإذا كانت الآية مدنية حسب ما رأيت في مطلع السورة، فيكون المراد: اليهود اللؤماء؛ الذين قالوا: إن الله فقير، ونحن أغنياء، وقالوا: يد الله مغلولة
…
إلخ إلى غير ذلك من الأقوال، والافتراآت على الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
الإعراب: {ما:} نافية. {قَدَرُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {حَقَّ:} مفعول مطلق، ويقال: نائب عنه، و {حَقَّ} مضاف، و {قَدْرِهِ} مضاف إليه. والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{ما قَدَرُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {لَقَوِيٌّ:} اللام: هي المزحلقة.
(قوي): خبر أول. {عَزِيزٌ:} خبر ثان، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ..} . إلخ مستأنفة، أو تعليلية لا محل لها على الاعتبارين.
{اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)}
الشرح: {اللهُ يَصْطَفِي:} يختار. {مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً:} جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، وغيرهم، وانظر الآية رقم [103] من سورة (الأنبياء). {وَمِنَ النّاسِ} أي: يصطفي من الناس رسلا أيضا، مثل: إبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، وغيرهم من الأنبياء، والرسل صلى الله عليهم وسلم أجمعين. وانظر الآية رقم [52] تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. {إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ} لأقوال الناس أجمعين. {بَصِيرٌ:} بأفعالهم، ونياتهم، وسائر تصرفاتهم. هذا؛ ويجوز تسكين سين {رُسُلاً} وضمها. قال عيسى بن عمر: كل اسم على ثلاثة أحرف، أوله مضموم، وأوسطه ساكن، فمن العرب من يخففه، ومنهم من يثقله، وذلك مثل: رحم، وحلم، وأسد
…
إلخ.
تنبيه: نزلت الآية الكريمة حين قال المشركون: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا} ولا تنس: ما حكاه الله عنهم من قولهم: {وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} الزخرف [31] فأخبر الله تعالى: أن الاختيار إليه، يختار من يشاء من عباده لرسالته. هذا؛ ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما ذكر ما يتعلق بالإلهيات؛ ذكر هنا ما يتعلق بالنبوات.
الإعراب: {اللهُ:} مبتدأ. {يَصْطَفِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى {اللهُ}. {مِنَ الْمَلائِكَةِ:} متعلقان بمحذوف حال من {رُسُلاً} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» .
{وَمِنَ النّاسِ:} معطوفان على {مِنَ الْمَلائِكَةِ} وحذف {رُسُلاً} من بعدهما لدلالة الأول عليه، والجملة الفعلية:{يَصْطَفِي..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:
{اللهُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ..} . إلخ مستأنفة أيضا، وفيها معنى التوكيد لما قبلها. تأمل.
{يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)}
الشرح: {يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ:} ما قدموا من الأعمال. {وَما خَلْفَهُمْ} أي: ما تركوا وراء ظهورهم بعد مماتهم من أمور الدنيا. وقيل: يعلم ما عملوا، وما هم عاملون. وقيل: يعلم ما بين أيدي ملائكته، ورسله قبل أن يخلقهم، ويعلم ما هو كائن بعد فنائهم، وانظر الآية رقم [110] من سورة (طه). {وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ:} وإليه مرجع الأمور كلها؛ لأنه مالكها بالذات، لا يسأل عما يفعل من الاصطفاء، وغيره، وهم يسألون. هذا؛ والفعل «رجع» يستعمل لازما، ومتعديا، فالأول مثل قولك: رجع زيد من عمله. والثاني مثل قوله تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ..} . إلخ وما في الآية يحتمل اللازم، والمتعدي، فاللازم على قراءة الفعل للفاعل، والمتعدي على قراءته للمفعول. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الإعراب: {يَعْلَمُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى الله. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، و {بَيْنَ} مضاف، و {أَيْدِيهِمْ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء للثقل، والهاء في محل جر بالإضافة. {ما:} معطوفة على ما قبلها. {خَلْفَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة (ما) أيضا، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{يَعْلَمُ..} . إلخ في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الضمير فقط، أو هي مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل رفع خبر ثالث؛ ل:{إِنَّ} . (إلى الله): متعلقان بما بعدهما، والتقديم يفيد الاختصاص. {تُرْجَعُ الْأُمُورُ:}
مضارع، ونائب فاعله، أو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} خص الله المؤمنين بهذا النداء؛ لأنهم هم الذين يستجيبون لأوامره، ونواهيه. وانظر (الإيمان) في الآية رقم [14]. {اِرْكَعُوا وَاسْجُدُوا:} أمرهم بهما؛ لأنهم ما كانوا يفعلونهما أول الإسلام، أو المعنى: صلوا، وعبر عن الصلاة بهما؛ لأنهما أعظم أركانها، أو المعنى: اخضعوا لله، وخروا له سجدا.
{وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} أي: بسائر ما تعبدكم به. {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ:} وتحروا ما هو خير وأصلح فيما تأتون، وما تذرون كنوافل الطاعات، وصلة الأرحام، ومكارم الأخلاق. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي: افعلوا كل هذه الأفعال؛ وأنتم راجون الفلاح، غير متيقنين له، واثقين من قبول أعمالكم. وانظر مثل هذا الترجي في الآية رقم [36].
تنبيه: لم يختلف العلماء في السجدة الأولى المذكورة في الآية رقم [18]، واختلفوا في سجدة هذه الآية، فروي عن عمر، وعلي، وابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي الدرداء وأبي موسى الأشعري-رضي الله عنهم-أنهم قالوا: في الحج سجدتان، وبه قال ابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، يدل عليه ما روي عن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله! أفي سورة (الحج) سجدتان؟ قال: «نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما» . أخرجه أبو داود، والترمذي، وعن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه: أنه قرأ سورة (الحج)، فسجد فيها سجدتين، وقال: إن هذه السورة، فضّلت بسجدتين. أخرجه مالك في الموطأ.
وذهب قوم إلى أن في (الحج) سجدة واحدة، وهي الأولى، وليست هذه بسجدة، وهو قول الحسن، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة، ومالك، بدليل:
أنه قرن السجود بالركوع، فدل ذلك على أنها سجدة صلاة، لا سجدة تلاوة، واختلف في عدة سجود التلاوة، فذهب الشافعي، وأحمد، وأكثر أهل العلم إلى أنها أربع عشرة سجدة، لكنّ الشافعي قال، في (الحج) سجدتان، وأسقط سجدة (ص). وقال أبو حنيفة: في (الحج) سجدة واحدة، وأثبت سجدة (ص). وبه قال أحمد في إحدى الروايتين عنه، فعنده أن السجدات خمس عشرة سجدة.
وذهب قوم إلى أن المفصل ليس فيه سجود، يروى ذلك عن أبي بن كعب وابن عباس، وبه قال مالك، فعلى هذا: في القرآن إحدى عشرة سجدة. أخرجه أبو داود، وقال: إسناده واه، ودليل من قال: في القرآن خمس عشرة سجدة، ما روى عن عمرو بن العاص. قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن خمس عشرة سجدة، منها ثلاث في المفصل، وفي سورة (الحج) سجدتان، أخرجه أبو
داود، وصح من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقرأ، وإذا السماء انشقت، أخرجه مسلم، وسجود التلاوة سنة للقارئ والسامع والمستمع، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: واجب. انتهى. خازن بتصرف. وانظر ما ذكرته في مقدمة هذه السورة.
الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ:} انظر الآية رقم [1] وجملة: {آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها. {اِرْكَعُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. وانظر إعراب (اشربي) في الآية رقم [26] من سورة (مريم) عليهاالسّلام، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها، والجمل بعدها معطوفة عليها لا محل لها أيضا. {لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها، والجملة الفعلية:{تُفْلِحُونَ} في محل رفع خبر (لعلّ)، والجملة الاسمية تعليل للأمر لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط، التقدير: افعلوا هذه الأمور حالة كونكم راجين الفلاح. وفيه: أن الترجي إنشاء.
الشرح: {وَجاهِدُوا فِي اللهِ} أي: لله، ومن أجله أعداء دينه الظاهرة، كأهل الزيغ، والباطنة، كالهوى والنفس. {حَقَّ جِهادِهِ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: هو استفراغ الطاقة. وعنه: أنه قال: لا تخافوا في الله لومة لائم، فهو حق الجهاد. وقيل: معناه: اعملوا لله حق عمله، واعبدوه حق عبادته. وقال مقاتل، وهبة الله: هذه الآية منسوخة، بقوله تعالى:
{فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فتكون مثل قوله تعالى في الآية رقم [102] من سورة (آل عمران): {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ} .
وقال أكثر المفسرين: حق الجهاد أن يكون بنية صادقة خالصة لله، ولتكون كلمة الله هي العليا، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:«من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ فهو في سبيل الله» . أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه. وقيل: مجاهدة النفس، والهوى هو حق الجهاد، وهو الجهاد الأكبر. روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك، قال:«رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» . قيل: وما الجهاد الأكبر، قال:«جهاد النّفس» . وانظر ما ذكرته في الجهاد في الآية رقم [95] من سورة (النساء).
{هُوَ اجْتَباكُمْ} أي: اختاركم للذبّ عن دينه، والتزام أمره. وهذا تأكيد للأمر بالمجاهدة، أي: وجب عليكم أن تجاهدوا؛ لأن الله اختاركم له. والخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فأية رتبة أعلى من هذا؟! وأية سعادة فوق هذا؟!.
{وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} أي: ضيق، وشدة، وهو أن المؤمن لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله منه مخرجا، بعضها بالتوبة، وبعضها برد المظالم والقصاص، وبعضها بأنواع الكفارات من الأمراض، والمصائب، وغير ذلك فليس في دين الإسلام ما لا يجد فيه العبد سبيلا إلى الخلاص من الذنوب، ومن العقاب لمن وفق. وقيل: معناه: الرخص عند الضرورات، كقصر الصلاة، والفطر في السفر، والتيمم عند فقد الماء، وأكل الميتة عند الضرورة، والصلاة قاعدا، والفطر مع العجز بعذر المرض، ونحو ذلك من الرخص؛ التي رخص الله لعباده المؤمنين.
قيل: أعطى الله هذه الأمة خصلتين، لم يعطهما أحد غيرهم: جعلهم شهداء على الناس، وما جعل عليهم في الدين من حرج. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: الحرج: ما كان على بني إسرائيل من الآصار التي كانت عليهم وضعها الله عن هذه الأمة. هذا؛ وقال العلماء:
رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع، وأما السلابة، والسراق وأصحاب الجرائم من زنى، وقتل نفس، وغير ذلك؛ فعليهم الحرج بإقامة الحدود عليهم، وهم جاعلوه على أنفسهم بمخالفة أوامر رب العالمين، وعدم الاهتداء بهدي نبيه الأمين صلى الله عليه وسلم.
{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ} أي: ملتكم ملة إبراهيم. أو: اتبعوا ملة إبراهيم، وإنما سمى إبراهيم أبا لهذه الأمة كلها؛ لأنه أبو العرب قاطبة، وأيضا هو أبو المسلمين أب احترام. والمعنى: أن وجوب احترامه وحفظ حقه يجب، كما يجب احترام الأب، فهو كقوله تعالى:{وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ} وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنّما أنا لكم كالوالد» . أي: في وجوب التقدير، والاحترام.
{هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ:} الضمير يعود إلى {اللهِ} والمعنى: أن الله سماكم المسلمين في الكتب القديمة. أو الضمير يعود إلى إبراهيم عليه السلام، والمعنى: أن إبراهيم سماكم المسلمين في أيامه من قبل هذا الوقت، وهو قوله:{رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} فاستجاب الله دعاءه فينا. والمعتمد الأول. {وَفِي هذا} أي: وفي القرآن سماكم المسلمين. {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ} يعني: يوم القيامة: أنه قد بلغكم. {وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ} أي: تشهدون يوم القيامة على الأمم: أن رسلهم قد بلغتهم، وهذا المعنى قد ذكر في سورة (البقرة) رقم [143] وذلك في قوله تعالى:{وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} .
{فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ} أي: فتقوبوا إلى الله بأنواع الطاعات؛ لما خصكم به من أنواع الفضل، والشرف. وانظر شرح (الصلاة، والزكاة) في الآية رقم [31] من سورة (مريم) على نبينا،
وحبيبنا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام، {وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ} أي: ثقوا به، وتوكلوا عليه، ولا تطلبوا الإعانة، والنصرة إلا منه. {هُوَ مَوْلاكُمْ:} ناصركم، ومتولي أمركم. {فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ؛} إذ لا مثل له في الولاية، والنصرة، بل لا مولى، ولا ناصر سواه في الحقيقة.
بعد هذا انظر شرح لفظ الجلالة في الآية رقم [3] أما (الملّة) فهي: الطريقة، والديانة، وهي بفتح الميم: الرماد الحار. و (الدّين) بكسر الدّال اسم لجميع ما يعبد به الله تعالى، و (الدّين) أيضا:
الملة، والشريعة، ومن هذا قوله تعالى:{ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} و (الدّين): الحساب، والجزاء، ومنه {يَوْمِ الدِّينِ} أي: يوم الحساب، والجزاء. ومنه: كما تدين تدان؛ أي: كما تفعل تجازى. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: يوم الدين يوم حساب الخلائق، يدينهم بأعمالهم، إن خيرا؛ فخير، وإن شرا؛ فشرّ؛ إلا من عفا الله عنه، والأمر أمره. ثم قال: ألا له الخلق، والأمر. هذا؛ والدّين-بفتح الدال-: القرض المؤجل، وجمع الأول: أديان، وجمع الثاني: ديون، وأدين. هذا؛ والدينونة: القضاء والحساب، والدّيانة: اسم لجميع ما يتعبد به الله.
أما (نعم) فهي فعل ماض لإنشاء المدح، وضدها:«بئس» لإنشاء الذم، ف:«نعم» منقول من: نعم فلان-بفتح النون، وكسر العين-: إذا أصاب النعمة، و:«بئس» منقول من: «بئس» فلان-بفتح الباء، وكسر الهمزة-: إذا أصاب بؤسا، فنقلا إلى المدح، والذم، فشابها الحروف، فلم يتصرفا، وفيهما أربع لغات: نعم، وبئس بكسر فسكون، وهي أفصحهنّ، وهي لغة القرآن، ثم: نعم، وبئس بكسر أولهما وثانيهما، غير أن الغالب في نعم أنه يجيء بعدها (ما) كقوله تعالى:{نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ} وبئس جاءت بعدها (ما) على اللغة الأولى الفصحى، كقوله تعالى:
{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} واللغة الثالثة: نعم وبئس، بفتح فسكون. والرابعة: نعم، وبئس بفتح فكسر، وهي الأصل فيهما. ولا بد لهما من شيئين: فاعل، ومخصوص بالمدح، أو الذم، والقول بفعليتهما إنما هو قول البصريين، والكسائي، بدليل دخول تاء التأنيث عليهما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«من توضّأ يوم الجمعة؛ فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل» .
وقال الكوفيون إلا الكسائي: هما اسمان بدليل دخول حرف الجر عليهما في قول أعرابي، وقد أخبر بأن امرأته ولدت بنتا له:(والله ما هي بنعم الولد نصرها بكاء، وبرّها سرقة)، وقول غيره:(نعم السّير على بئس العير)، وأوّله البصريون على حذف كلام مقدّر؛ إذ التقدير:(والله ما هي بولد مقول فيه: نعم الولد، ونعم السّير على عير مقول فيه: بئس العير)، والمعتمد في ذلك قول البصريين هذا؛ ويجب في فاعلهما أن يكون مقترنا ب:«أل» أو مضافا لمقترن بها، أو ضميرا مميزا بنكرة، أو كلمة «ما» فالأول: كما في الآية الكريمة، والثاني: نحو قوله تعالى: {فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ} . والثالث: مثل قوله تعالى {بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً،} والرابع: نحو قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} .
الإعراب: {وَجاهِدُوا:} الواو: حرف عطف. (جاهدوا): أمر، وفاعله، والألف للتفريق، ومفعوله محذوف. انظر الشرح، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {فِي اللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {حَقَّ:} مفعول مطلق، ويقال: نائب مفعول مطلق، و {حَقَّ} مضاف، و {جِهادِهِ} مضاف إليه. والهاء في محل جر بالإضافة، والإضافة في الأول من إضافة الصفة للموصوف، أي: جهادا حقا. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف؛ أي: جهادا حق جهاده. والمعتمد الأول. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {اِجْتَباكُمْ:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والكاف مفعول به، والفاعل يعود إلى الله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية تعليل للأمر، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين، وقيل: هي في محل نصب حال من لفظ الجلالة، وهو ضعيف؛ لأن الجملة الاسمية الواقعة حالا، والمصدرة بالضمير تقترن بالضمير تقترن بالواو. وهو كثير في القرآن، مثل قوله تعالى:{وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
{وَما:} الواو: واو الحال. (ما): نافية. {جَعَلَ:} ماض، والفاعل يعود إلى الله.
{عَلَيْكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {فِي الدِّينِ:} متعلقان به أيضا، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {حَرَجٍ} كان صفة له، كما رأيت في الآية رقم [75] {مِنْ:} حرف جر صلة.
{حَرَجٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الفعلية:{وَما جَعَلَ..} . إلخ في محل نصب حال من الفاعل المستتر، والرابط: الواو، والضمير.
{مِلَّةَ:} مفعول به لفعل محذوف، التقدير: اتبعوا ملة، وقيل: منصوب على الاختصاص؛ أي: أعني بالدين: ملة أبيكم، وقيل منصوب بمضمون ما تقدمه، كأنه قال: وسع دينكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل: غير ذلك، واعتمد:
أنه منصوب على الإغراء؛ أي: الزموا ملة أبيكم إبراهيم. و {مِلَّةَ} مضاف، و {أَبِيكُمْ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والكاف في محل جر بالإضافة. {إِبْراهِيمَ:} بدل من {أَبِيكُمْ،} أو عطف بيان عليه مجرور مثله، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة.
{هُوَ:} مبتدأ. {سَمّاكُمُ:} ماض، والفاعل يعود إلى (الله)، وقيل: يعود إلى {إِبْراهِيمَ} والمعتمد الأول، والكاف مفعول به أول. {الْمُسْلِمِينَ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، وقيل: في محل نصب حال من {إِبْراهِيمَ،} والكلام عليها مثل ما تقدم. {مِنْ قَبْلُ:}
متعلقان بالفعل قبلهما، وبني قبل على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى. {وَفِي:} الواو:
حرف عطف. (في هذا): متعلقان بفعل محذوف لدلالة ما قبله عليه، والبدل من اسم الإشارة محذوف أيضا، وتقدير الكلام: وسماكم في هذا القرآن مسلمين أيضا، وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها.
{لِيَكُونَ:} مضارع ناقص منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل. {الرَّسُولُ:} اسم (يكون). {شَهِيداً:} خبره. {عَلَيْكُمْ:} متعلقان ب: {شَهِيداً،} و «أن» المضمرة، والمضارع الناقص في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{سَمّاكُمُ} .
{وَتَكُونُوا:} مضارع ناقص معطوف على ما قبله منصوب مثله، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو اسمه، والألف للتفريق. {شُهَداءَ:} خبره. {عَلَى النّاسِ:} متعلقان ب: {شُهَداءَ،} أو بمحذوف صفة له.
{فَأَقِيمُوا:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر. (أقيموا): أمر، والواو فاعله، والألف للتفريق. {الصَّلاةَ:} مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ما ذكر حاصلا، وواقعا؛ فأقيموا الصلاة. وهذا الكلام يحتمل العطف على ما قبله، والاستئناف، والجملتان بعدها معطوفتان على جملة: (أقيموا
…
) إلخ. {هُوَ:} مبتدأ. {مَوْلاكُمْ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر الميمي لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية تعليل للأمر قبلها لا محلّ لها. وقيل: هي في محل نصب حال، والكلام عليها مثل ما تقدم. {فَنِعْمَ:} الفاء: حرف استئناف. (نعم): ماض جامد دال على إنشاء المدح. {الْمَوْلى:}
فاعله مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والمخصوص بالمدح محذوف؛ إذ التقدير: هو الله. والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، وما بعدها معطوفة عليها لا محل لها مثلها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم.
انتهت سورة (الحج) بعونه تعالى تفسيرا، وإعرابا.
والحمد لله رب العالمين.