المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة النّور سورة (النور)، وهي مدنية بالإجماع، وهي اثنتان، وقيل: أربع - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٦

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة النّور سورة (النور)، وهي مدنية بالإجماع، وهي اثنتان، وقيل: أربع

‌سورة النّور

سورة (النور)، وهي مدنية بالإجماع، وهي اثنتان، وقيل: أربع وستون آية. قال القرطبي:

مقصود هذه السورة ذكر أحكام العفاف، والسّتر. وكتب عمر-رضي الله عنه-إلى أهل الكوفة:

علموا نساءكم سورة (النور). وقالت عائشة-رضي الله عنها: لا تنزلوا النساء الغرف، ولا تعلموهنّ الكتابة، وعلموهنّ سورة النور، والغزل. انتهى.

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}

بسم الله الرحمن الرحيم

{سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)}

الشرح: {سُورَةٌ:} هي الطائفة من القرآن، التي أقلها ثلاث آيات، منقولة، ومستعارة من سور المدينة؛ لأنها محيطة بطائفة من القرآن، كالتي نحن بصدد شرحها، محتوية على أنواع من العلم، احتواء سور المدينة على ما فيها، أو من السّورة، وهي الرتبة؛ لأن السّور كالمراتب، والمنازل يرتقي فيها القارئ، ولها مراتب في الطول، والقصر، والفضل، والشرف، وثواب القراءة، قال النابغة الذبياني في مدح النعمان بن المنذر:[الطويل]

ألم تر أنّ الله أعطاك سورة

ترى كلّ ملك دونها يتذبذب

والحكم في تفصيل القرآن، وتقطيعه سورا كثيرة: منها: أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع، واشتمل على أصناف؛ كان أحسن من أن يكون بيانا واحدا. ومنها: أن القارئ إذا ختم سورة، ثم أخذ في أخرى؛ كان أنشط له، وأبعث على القراءة منه لو استمر على القرآن بطوله، ومن ثمّ جزّأ القراء القرآن أسباعا، وأجزاء، وعشورا، وأخماسا. ومنها: أن الحافظ إذا حفظ سورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها، ولها فاتحة وخاتمة، فيعظم عنده ما حفظه، ويجل في نفسه، ومنه قول أنس-رضي الله عنه:(كان الرّجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جلّ فينا). أي: عظم ولذا أنزل الله التوراة، والإنجيل، وسائر ما أوحاه إلى أنبيائه مسورة مترجمة السّور. وبوّب المصنفون في كل فن من كتبهم أبوابا موشحة الصدور بالتراجم. انتهى. نسفي في سورة (البقرة) آية [32] بتصرف كبير مني.

{أَنْزَلْناها} أي: نزل بها عليك جبريل يا محمد مفرقة منجمة، وهو بمعنى: نزلنا، والفرق بين الفعلين: أن أنزل يفيد: أن القرآن، أو السورة نزل دفعة واحدة، وأما نزّل فيفيد: أن القرآن نزل

ص: 316

مفرقا في ثلاث وعشرين سنة على حسب الوقائع، ومقتضيات الأحوال على ما نرى عليه أهل الشعر والخطابة، وهذا مما يريب القرشيين كما حكى سبحانه وتعالى ذلك عنهم:{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً} فبين سبحانه الحكمة من ذلك بقوله: {كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً} سورة (الفرقان) رقم [32].

(فرضناها) أي: فرضنا عليكم، وعلى من بعدكم ما فيها من الأحكام. ويقرأ بتشديد الراء؛ أي: أنزلنا فيها فرائض مختلفة، أو للمبالغة في إيجاب أحكامها، أو المعنى: قطعناها في الإنزال نجما نجما، والفرض: القطع، ومنه فرائض الميراث، وفرض النفقة. {وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ:} واضحات الدلالة، وانظر شرح (آية) في (الأنبياء) رقم [5]. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ:} تتعظون فتنتفعون بذلك، وأصل الفعل: تتذكرون، فحذفت إحدى التاءين للتخفيف، وهو كثير في القرآن الكريم، ويقرأ بتسكين الذال. هذا؛ والترجي في هذه الآية، وأمثالها إنما هو بحسب عقول البشر؛ لأن الله تعالى لا يحصل منه ترجّ، ورجاء لعباده، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

الإعراب: {سُورَةٌ:} خبر مبتدأ محذوف، التقدير: هذه سورة، أو هو مبتدأ خبره محذوف، التقدير: فيما أوحينا إليك سورة، وقال أبو عبيدة، والأخفش: مبتدأ خبره الجملة الفعلية بعده، وهو ضعيف جدا؛ لأنه نكرة، ولا يجوز الابتداء بالنكرة، وأضعف منه اعتبار (سورة) مبتدأ، والجملة بعده صفة له، والخبر في قوله:{الزّانِيَةُ وَالزّانِي..} . إلخ. هذا؛ ويقرأ:

«(سورة)» بالنصب فعلى اعتبارين: الأول: أنه منصوب بفعل محذوف، تقديره: اتل سورة.

والثاني: أنه منصوب بفعل محذوف، يفسره ما بعده، أي: أنزلنا سورة، ومثل ذلك قول الربيع بن ضبيع بن وهب:[المنسرح]

والذّئب أخشاه إن مررت به

وحدي، وأخشى الرّياح والمطرا

وقول الفراء: هو حال من الضمير المنصوب بعده، لا وجه له ألبتة، ومثله قول الزمخشري هو منصوب على الإغراء، التقدير: دونك سورة، ولا تنس: أن قراءة النصب ليست سبعية.

{أَنْزَلْناها:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية صفة {سُورَةٌ} على جميع الوجوه المعتبرة في إعرابه، ما عدا وجه الاشتغال، فهي مفسرة للفعل المقدر ب:«أنزلنا» ، والجملتان:

(فرضناها، وأنزلنا فيها) معطوفتان عليها. {آياتٍ:} مفعول به. {بَيِّناتٍ:} صفة له، وكلاهما منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه. {تَذَكَّرُونَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعل)، والجملة الاسمية:

{لَعَلَّكُمْ..} . إلخ تعليل للإنزال وللفرض. وقيل: في محل نصب حال، ولا وجه له ألبتة.

ص: 317

{الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)}

الشرح: {الزّانِيَةُ وَالزّانِي:} لفظ الزنى مستعمل في اللغة قبل الشرع، مثل اسم السرقة، والقتل، وهو اسم لوطء الرجل امرأة في فرجها من غير نكاح، ولا شبهة نكاح بمطاوعتها. وإنما قدم سبحانه الزانية؛ لأن الزنى يكون في الأغلب بتعرضها للرجل، وعرض نفسها عليه، ولأن مفسدته تتحق بالإضافة إليها. وقيل: لأن الزنى في النساء أعرّ، وهو لأجل الحبل أضرّ. وقيل:

لأن الشهوة في المرأة أكثر، وعليها أغلب، فصدّرها تغليظا لتردع شهوتها، وإن كانت قد ركّب فيها حياء أكثر من الرجل، لكنها إذا زنت ذهب الحياء كله، وأيضا فإن العار بالنساء ألحق؛ إذ موضوعهن الحجب والصيانة، فقدم ذكرهن تغليظا واهتماما، وهذا بخلاف حد السرقة حيث قدم جلت قدرته السارق على السارقة؛ لأن السرقة إنما تتولد من الجسارة، والقوة، والجراءة، وهي في الرجل أقوى، وأكثر. وهذه الآية ناسخة لآية الحبس، وآية الأذى اللتين في سورة (النساء) برقم [15 و 16]. هذا؛ والزنى بالمد والقصر، قال الفرزدق:[الطويل]

يا خالد من يزن يعلم زناؤه

ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكّرا

قال الفراء: المقصور من: زنى، والممدود من: زانى، يقال: زاناها مزاناة، وزناء، وخرجت فلانة تزاني، وتباغي، وقد زنى بها، يزني زناء، وزنى.

{فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا:} هذا حد الزاني الحر، البالغ، البكر، العاقل، وكذلك الزانية البالغة، العاقلة، البكر، الحرة. وثبت بالسنة تغريب عام على الخلاف في ذلك بين الفقهاء. هذا؛ والسوط الذي يضرب به كل واحد منهما يكون وسطا بين سوطين، لا شديدا، ولا ليّنا، ويجرّد من الثياب مع إبقاء ساتر للعورة عليه، ويجتنب في الضرب المقاتل، ويكون الضرب غير مبرح ضربا بين ضربين. هذا؛ والمخاطب بذلك ولاة الأمور، وقيل: الخطاب للمسلمين؛ لأن إقامة مراسم الدين واجبة على المسلمين، ثم الحاكم ينوب عنهم؛ إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامة الحدود. ولا بد لإقامة الحد المذكور من شهادة أربعة يشهدون: أنهم رأوا الميل بالمكحلة، أو بالإقرار من الزانيين، أو من أحدهما، كما ستعرفه، واختلفوا فيما يجب على الرجل يوجد مع المرأة في ثوب واحد، أو لحاف واحد، فالمتفق عليه التعزير للرجل، والمرأة، وله درجات متفاوتة عند الفقهاء، لا تبلغ الحد المقرر الثابت بالشهادة المذكورة، مع ملاحظة التلويث لشرفهما، وشرف أسرتهما.

هذا؛ وأما حدّ الزانيين المحصنين، أواحدّ أحدهما؛ فهو الرجم بالحجارة حتى يموت.

والمراد بالإحصان التزوج بعقد صحيح، ودليل حدّ الرجم ما يلي: فعن عبادة بن الصامت

ص: 318

-رضي الله عنه-قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه حكم كرب لذلك، وتربّد وجهه، فأنزل الله عليه ذات يوم، فلقي كذلك، فلما سرّي عنه، قال:«خذوا عنّي قد جعل الله لهنّ سبيلا: البكر بالبكر جلد مئة، ونفي سنة، والثّيّب بالثّيّب الرّجم» . رواه مسلم، والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم:«قد جعل الله لهنّ سبيلا» . هو المذكور في الآية رقم [15] من سورة (النساء)، وكذلك الآية الكريمة المنسوخ تلاوتها، الباقي حكمها، إلى يوم القيامة، ونصها:(الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة، نكالا من الله، والله عزيز حكيم). وهذه الآية كانت من سورة (الأحزاب).

ولقد خطب سيدنا عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-على المنبر، فقال: (أيها الناس، إنّ الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحقّ، وأنزل عليه كتابا هاديا للنّاس، بشيرا ونذيرا، وكان فيما أنزل عليه:

(الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة، نكالا من الله، والله عزيز حكيم) فقر أناها، ووعيناها.

ثم قال: إني خشيت أن يطول بالناس زمان، فيقول قائل: لا نجد الرّجم في كتاب الله، فيضلّوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإنّ الرّجم حقّ لمن زنى؛ وقد أحصن).

وعن عمران بن حصين-رضي الله عنه: أن امرأة من جهينة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي حبلى من الزنى، فقالت: يا رسول الله! أصبت حدا، فأقمه عليّ! فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليها، فقال:«أحسن إليها، فإذا وضعت فائتني بها» . ففعل، فأمر بها نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فشدت عليها ثيابها، ثم أمر بها، فرجمت، ثم صلى عليها، فقال له عمر-رضي الله عنه: تصلي عليها يا رسول الله! وقد زنت؟! قال: «لقد تابت توبة، لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل» . رواه مسلم.

وقد أيد ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله، فقد ثبت: أنه رجم ماعزا، والغامديّة في حديث صحيح حينما اعترفا بالزنى. وورد في الصحيح عن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن أعرابيين جاآ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع أحدهما ولده، فقال الوالد: يا رسول الله! إن ولدي هذا زنى في زوجته، وأشار إلى الأعرابيّ الذي معه، فسقت للأعرابيّ مئة شاة وجارية كفارة لولدي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ردّ الشياه، وأرجع الجارية، ولا بدّ من جلد ولدك مئة جلدة، وأن يغرّب عاما وينفى» . ثم قال صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه: «اذهب مع هذا الأعرابيّ، واسأل المرأة، فإن أقرّت بالزّنى فاحفروا لها حفرة، وارجموها حتى تموت، وإن لم تقرّ فلا سبيل لكم عليها» . ولكن المرأة أقرّت بالزّنى، فرجمت حتّى فاضت روحها، وكان ذلك كفارة لذنبها. رحمها الله تعالى.

{وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ:} رحمة، وقيل: الرأفة في دفع المكروه، والرحمة في إيصال المحبوب، والرأفة أرق من الرحمة، والمعنى: أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله، ولا يأخذهم اللين في استيفاء حدوده، فيعطلوا الحدود، أو يخففوا الضرب. وفي {رَأْفَةٌ} أربع قراآت. فعن أبي هريرة-رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لحدّ يقام في الأرض خير

ص: 319

لأهل الأرض من أن يمطروا ثلاثين صباحا». وفي رواية: «أربعين صباحا» . رواه النسائي هكذا مرفوعا في الرواية الأولى، وموقوفا في الثانية، ورواه ابن ماجه مرفوعا في الأولى، ورواه ابن حبان في الأولى باختصار، وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستّين سنة، واحدّ يقام في الأرض بحقّه أزكى فيها من مطر أربعين عاما» . رواه الطبراني. وعن عبادة بن الصامت-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«أقيموا حدود الله في القريب والبعيد، ولا تأخذكم في الله لومة لائم» . رواه ابن ماجه.

{فِي دِينِ اللهِ:} في حكم الله، وطاعته، وإقامة حدوده؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث المخزومية التي سرقت:«وايم الله لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعت يدها» . رواه الستة عن عائشة-رضي الله عنها. {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ:} فإن الإيمان يقتضي الجدّ في طاعة الله، والاجتهاد في إقامة حدوده، وتنفيذ أحكامه. وهو من باب التهييج، وإلهاب الغضب لله تعالى، ولتنفيذ أوامره.

{وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: يحضر إقامة الحد عليهما جمع من المؤمنين، أقله ثلاثة، وذلك زيادة في التنكيل، فإن التفضيح، والتشهير قد ينكل أكثر ما ينكل التعذيب، وأيضا فيه ردع لمن حضره، وزجر لمن سمع به، وهذا لا ريب فيه.

تنبيه: بالإضافة لما ذكرته من أحاديث في الآية رقم [32] من سورة (الإسراء) أذكر هنا ما يلي: عن حذيفة-رضي الله عنه: -أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا معاشر النّاس اتّقوا الزّنى، فإنّ فيه ستّ خصال، ثلاثا في الدّنيا، وثلاثا في الآخرة، فأمّا اللّواتي في الدّنيا: فيذهب البهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر. وأمّا اللّواتي في الآخرة: فيوجب السّخط، وسوء الحساب، والخلود في النار» . وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ أعمال أمّتي تعرض عليّ في كلّ جمعة مرّتين فاشتدّ غضب الله على الزّناة» . وعن بريدة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ السموات السّبع، والأرضين السّبع ليلعنّ الشّيخ الزّاني، وإنّ فروج الزّناة ليؤذي أهل النار نتن ريحها» .

والمراد بالشيخ: من تجاوز الأربعين من عمره، وهذا الوعيد يشمل الذكر، والأنثى على السواء.

الإعراب: {الزّانِيَةُ:} مبتدأ. {وَالزّانِي:} معطوف على المبتدأ مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، وفي الخبر وجهان: أحدهما: محذوف، وهو قول سيبويه، التقدير: فيما يتلى عليكم، أو فيما فرض عليكم حكم الزانية، فقد حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وعند المبرد الخبر هو جملة:{فَاجْلِدُوا} وهو موافق للكوفيين في هذا، ودخلت الفاء في الخبر زائدة؛ لأن الكلام في معنى الشرط التقدير: التي تزني؛ والذي يزني فاجلدوا

إلخ. هذا؛ وقد قرئ بالنصب على إضمار فعل يفسره المذكور، وهذا هو المختار في أمثاله؛ لأن الخبر لا يكون إنشاء إلا بإضمار، وتأويل. هذا؛ ومثل هذه الآية في أوجه الإعراب الآية رقم [38] من

ص: 320

سورة (المائدة)، والآية رقم [15] من سورة (النساء). (اجلدوا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مستأنفة على قول سيبويه، وفي محل رفع خبر المبتدأ على قول المبرد، ومفسرة لا محل لها على قراءة النصب. {كُلَّ:} مفعول به، وهو مضاف، و {واحِدٍ} مضاف إليه. {مِنْهُما:} متعلقان بمحذوف صفة {واحِدٍ،} والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {مِائَةَ:} مفعول مطلق، أو نائب مفعول مطلق، و (مئة) مضاف، و {جَلْدَةٍ} مضاف إليه. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تَأْخُذْكُمْ:} مضارع مجزوم ب: (لا) والكاف مفعول به. {بِهِما:} متعلقان بالفعل قبلهما، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {رَأْفَةٌ:} فاعل، والجملة الفعلية:{وَلا تَأْخُذْكُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها على جميع الوجوه المعتبرة فيها. {فِي دِينِ:} متعلقان بالفعل قبلهما أيضا، و {دِينِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه.

{إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {تُؤْمِنُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {بِاللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَالْيَوْمِ:} معطوف على لفظ الجلالة. {الْآخِرِ:} صفة اليوم، وجملة:{تُؤْمِنُونَ..} .

إلخ في محل نصب خبر (كان) وجملة: {كُنْتُمْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه. {وَلْيَشْهَدْ:} الواو: حرف عطف، أو استئناف. (ليشهد): مضارع مجزوم بلام الأمر. {عَذابَهُما:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {طائِفَةٌ:} فاعله. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ:} متعلقان بطائفة، أو بمحذوف صفة لها، وجملة {وَلْيَشْهَدْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محل لها.

{الزّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)}

الشرح: قال الخازن-رحمه الله تعالى-: اختلف العلماء في معنى الآية، وحكمها، فقال قوم: قدم المهاجرون المدينة، وفيهم فقراء، لا مال لهم، ولا عشائر، وفي المدينة نساء بغايا، هن أخصب أهل المدينة، فرغب ناس من فقراء المسلمين في نكاحهن، لينفقن عليهم، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فنزلت هذه الآية، فحرم على المؤمنين أن يتزوجوا تلك البغايا؛ لأنهنّ كنّ مشركات. وهذا قول مجاهد، وعطاء، وقتادة، والزهري، والشعبي، ورواية عن ابن عباس، رضي الله عنهم أجمعين-.

ص: 321

وقال عكرمة: نزلت في نساء كنّ بمكة، والمدينة، لهنّ رايات يعرفن بها، منهن: أم مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي، وكان الرجل في الجاهلية ينكح الزانية، يتخذها مأكلة، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الصفة، فاستأذن رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح أم مهزول، واشترطت له أن تنفق عليه، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.

وروى عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده-رضي الله عنهم-قال: كان رجل، يقال له:

مرثد بن أبي مرثد الغنوي-رضي الله عنه-وكان يحمل الأسارى من مكة؛ حتى يأتي بهم المدينة، (وهذا عمل فدائي كان يقوم به-رضي الله عنه-ينقذ به بعض المستضعفين في مكة من الأسر والتعذيب) وكانت بمكة امرأة بغيّ، يقال لها: عناق، وكانت صديقة له في الجاهلية، فلما أتى مكة؛ دعته عناق إلى نفسها، فقال مرثد-رضي الله عنه: إنّ الله حرم الزنى. قالت:

فانكحني، فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! أنكح عناقا؟ فأمسك، فلم يرد شيئا، فنزلت الآية الكريمة، فدعاني، فقرأها عليّ، وقال:«لا تنكحها» .

أخرجه الترمذي، والنسائي، وأبو داود بألفاظ متقاربة. انتهى. وما أجدرك أن تنظر ما ذكرته في الآية رقم [220] من سورة (البقرة)، فإنك تجد مثل هذا عن مرثد، رضي الله عنه. هذا؛ وانظر ما أذكره في الآية رقم [32] الآتية.

وخذ المعنى من قول النسفي-رضي الله عنه-أي: الخبيث الذي من شأنه الزنى، لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء، وإنما يرغب في نكاح خبيثة من شكله، أو في نكاح مشركة، والخبيثة المسافحة كذلك لا يرغب في نكاحها الصالحاء من الرجال، وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة، أو المشركين. (أقول: والعكس مثله، وهو الواقع في كل زمان ومكان).

{وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛} لأنه تشبه بالفساق، وتعرض للتهمة، وتسبب لسوء المقالة، والطعن في النسب، وغير ذلك من المفاسد؛ ولذلك عبر عن التنزيه بالتحريم مبالغة. انتهى. بيضاوي.

وانظر ما ذكرته بشأن الزنى السرّي، وهو تلقيح المرأة الشائع في هذه الأيام في أول سورة (المؤمنون).

فالآية تزهيد في نكاح البغايا؛ إذ الزنى عديل الشرك في القبح، والإيمان قرين العفاف، والتحصن، وهو نظير قوله تعالى:{الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ..} . إلخ الآية رقم [26] الآتية. وقيل: كان نكاح الزانية محرما في أول الإسلام، ثم نسخ بقوله تعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ..} . إلخ الآية رقم [32] الآتية، وقيل: المراد بالنكاح: الوطء؛ لأن غير الزاني يستقذر الزانية، ولا يشتهيها، وهو صحيح، لكنه يقتضي إذا قولك: الزاني لا يزني إلا بزانية، والزانية لا يزني بها إلا زان، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن زنى بامرأة، ثم تزوجها، فقال:«أوّله سفاح، وآخره نكاح، والحرام لا يحرّم الحلال» .

ص: 322

ومعنى الجملة الأولى: صفة الزاني بكونه غير راغب في العفائف، ولكن في الفواجر.

ومعنى الثانية: صفة الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء، ولكن للزناة. وهما معنيان مختلفان. وقدمت الزانية على الزاني أولا، أي في الآية السابقة، ثم قدم عليها ثانيا، أي في هذه الآية؛ لأن تلك الآية سيقت لعقوبتهما على ما جنيا، والمرأة هي المادة التي نشأت منها تلك الجناية؛ لأنها لو لم تطمع الرجل، ولم تومض له، ولم تمكنه، لم يطمع، ولم يتمكن، وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح، والرجل أصل فيه؛ لأنه الخاطب، ومنه بدئ الطلب. انتهى.

وانظر ما ذكرته في الآية السابقة في سبب تقديم ذكر الزانية على الزاني، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

بعد هذا انظر شرح (الحرام) في الآية رقم [95] من سورة (الأنبياء). والنكاح: حقيقة في العقد، مجاز في الوطء على الأصح عندنا معاشر الشافعية، أما {زانٍ} فأصله: زاني بضمة على الياء علامة للرفع، وبكسرة على الياء علامة للجر في حالات الجر، وبتنوين الصرف، لكن استثقلت الضمة، أو الكسرة على الياء بعد كسرة، فسكنت الياء، فالتقى ساكنان: الياء والتنوين، فحذفت الياء لعلة الالتقاء، وبقيت النون مكسورة على ما كانت عليه قبل الإعلال، فقيل:(زان) بالكسر، وإنما لم يقل: زان بالرفع؛ لأن الياء محذوفة لعلة الالتقاء، فهي كالثابتة، فتمنع الرفع للنون، وهكذا قل في إعلال كل اسم منقوص مجرد من «أل» والإضافة، سواء أكان ثلاثيا، أم رباعيا؟.

الإعراب: {الزّانِي:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء. {لا:} نافية.

{يَنْكِحُ:} مضارع مرفوع، والفاعل يعود إلى الزاني. هذا؛ ويقرأ الفعل بالجزم على النهي، وفي المرفوع أيضا معنى النهي، وهو أبلغ، وآكد، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ.

{إِلاّ:} حرف حصر. {زانِيَةً:} مفعول به. {أَوْ:} حرف عطف. {مُشْرِكَةً:} معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية:{الزّانِي} ابتدائية، أو مستأنفة، لا محل لها. (الزانية): مبتدأ. {لا:}

نافية. {يَنْكِحُها:} مضارع، والهاء مفعول به. {إِلاّ:} حرف حصر. {زانٍ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَالزّانِيَةُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{مُشْرِكٌ:} معطوف على ما قبله. {وَحُرِّمَ:} الواو: حرف استئناف. (حرم): ماض مبني للمجهول. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع نائب فاعل، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. هذا؛ وإن اعتبرتها في محل نصب حال من «الزنى» المفهوم من المقام، وفحوى الكلام السابق، فيكون الرابط: الواو، وعود الإشارة إليه كما هو واضح، وتكون «قد» مقدرة قبل الجملة، والمعنى يؤيد هذا، ويقويه.

ص: 323

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4)}

الشرح: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ} أي: يقذفونهن بالزنى. واستعير الرمي لسب المرأة وقذفها بالزنى؛ لأنه أذية في القول، قال ابن أحمر:[الطويل]

رماني بأمر كنت منه ووالدي

بريئا ومن أجل الطّويّ رماني

الطوي: البئر. وشروط إحصان القذف: الحرية، والعقل، والبلوغ، والإسلام، والعفة عن الزنى، والمحصن كالمحصنة في وجوب حد القذف لمن قذفه، والقذف بغير الزنى، مثل قول القائل: يا فاسق! يا خبيث! يا شارب الخمر! يوجب التعزير، ويكفي فيه شاهدان ليدرأ عن نفسه حد التعزير.

{ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ:} يشهدون: أنهم رأوا الميل بالمكحلة، ولا يكفي رأيتهما في فراش واحد، ولا رأيته فوقها، وقد جلد عمر-رضي الله عنه-ثلاثة شهداء على المغيرة بن شعبة حينما شهدوا عليه بالزنى، وجاء الرابع فقال: رأيت ساقا يرفع، ورجلا يدفع، لا أدري ينفع أو لا ينفع؟! وقد عزر المغيرة، وعزله في قصة يطول شرحها، فقد شهد عليه بالزنى أبو بكرة نفيع بن الحارث، وأخوه نافع، وقال الزهراوي: عبد الله بن الحارث، وزياد بن سمية، وهو مستلحق معاوية، وشبل بن معبد البجلي، فلما جاؤوا لأداء الشهادة وتوقف زياد ولم يؤدها، وقال ما ذكرته؛ جلد عمر-رضي الله عنه-الثلاثة المذكورين. انتهى. قرطبي بتصرف.

{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً:} أخف من ضربات الزاني لضعف سببه، واحتماله، ولذلك نقص عدده عن حد الزاني. هذا؛ وتخصيص المحصنات بالذكر لخصوص الواقعة، أو لأن قذف النساء أغلب، وأشنع، ولا يشترط اجتماع الشهود عند الأداء، بل يجوز أداء الشهادة منهم في حال تفرقهم؛ ولو في أيام.

{وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً:} هذا يقتضي مدة أعمارهم. فلا تقبل منهم ولهم أية شهادة كانت؛ لأن القاذف مفتر، ولا يتوقف ذلك على استيفاء الجلد؛ خلافا لأبي حنيفة رحمه الله تعالى، فإن الأمر بالجلد، والنهي عن القبول سيان في وقوعهما جوابا للشرط، لا ترتيب بينهما، فيترتبان عليه دفعة، كيف وحاله قبل الحد أسوأ مما بعده. {وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ:} فهذا حكم على القاذفين للمحصنات بالفسوق، أي: الخروج عن طاعة الله تعالى بعد جلدهم ثمانين جلدة، ورد شهادتهم، وعدم قبولها في أي شيء، وهذا أكبر رادع، وأعظم زاجر للذين يتكلمون في أعراض المؤمنات المحصنات، وقد عدّه الرسول صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات، وخذ ما يلي:

ص: 324

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السّبع الموبقات» . قالوا:

يا رسول الله، وما هنّ؟ قال:«الشّرك بالله، والسّحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ، وأكل الرّبا، وأكل مال اليتيم، والتّولّي يوم الزّحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» .

رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي.

هذا؛ وانظر شرح {ثُمَّ} في الآية رقم [65] من سورة (الأنبياء)، و «أتى» يستعمل لازما، كما في هذه الآية، ومتعديا، وهو كثير، أما «الأبد» فهو الزمان الطويل الذي ليس له حد، فإذا قلت:

لا أكلمك أبدا، فالأبد من وقت التكلم إلى آخر العمر. هذا؛ وما ذكرته من عدم قبول شهادة القاذف مدّة حياته. هذا؛ و {الْفاسِقُونَ} جمع فاسق، وأصل الفسق: الخروج عن القصد، والفاسق في الشرع: الخارج عن أمر الله تعالى بارتكاب المعاصي، وله ثلاث درجات: الأولى: التغابي، وهو أن يرتكب الكبيرة أحيانا مستقبحا إياها، والثانية: الانهماك، وهو أن يعتاد ارتكابها غير مبال بها، والثالثة: الجحود، وهو أن يرتكبها مستصوبا إياها. فإذا شارف هذا المقام، وتخطى خططه؛ خلع ربقة الإيمان من عنقه، ولا بس الكفر، وما دام في درجة التغابي، أو الانهماك فلا يسلب عنه اسم المؤمن؛ لاتصافه بالتصديق الذي هو مسمّى الإيمان انتهى. بيضاوي في غير هذا الموضع.

فائدة: قال القرطبي-رحمه الله تعالى- «عشرون» و «ثلاثون» و «أربعون

إلخ»: كل واحد منها موضوع على صورة الجمع لهذا العدد، فإن قال قائل: لم كسر أول عشرين، وفتح أول ثلاثين وما بعده إلى ثمانين إلا ستين؟ فالجواب عند سيبويه-رحمه الله تعالى-: أن عشرين من عشرة بمنزلة اثنين من واحد، فكسر أول عشرين كما كسر أول اثنان، والدليل على هذا قولهم:

ستون وتسعون كما قيل: ستة، وتسعة. انتهى. احفظه فإنه جيد. هذا؛ وقال صاحب المختار:

وإذا أضفته؛ أي: لفظ العقود؛ أسقطت النون، فقلت: هذه عشروك، وعشريّ.

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ خبره محذوف، أو خبره الجملة الفعلية:{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً} وما يعطف عليها، أو هو مبني على الفتح في محل نصب مفعول به لفعل محذوف يفسره المذكور بعده، انظر تفصيل هذا في الآية رقم [2] فهو مثلها بلا فارق، والله ولي التوفيق. {يَرْمُونَ:} مضارع، وفاعله.

{الْمُحْصَناتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {ثُمَّ:} حرف عطف. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَأْتُوا:} مضارع مجزوم ب: {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بِأَرْبَعَةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، و (أربعة) مضاف، و {شُهَداءَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف لألف التأنيث الممدودة، وهي علة تقوم مقام علتين من موانع

ص: 325

الصرف. هذا؛ وقرئ في الشاذ بتنوين «(أربعة)» فيكون في {شُهَداءَ} أربعة أوجه: النعت لأربعة، أو البدلية منه، فهو مجرور مثله على الاعتبارين، والثالث: اعتباره حالا من نكرة وهو: (أربعة)، والرابع: اعتباره تمييزا ل: (أربعة)، وهذان فيهما ضعف ظاهر، قال النحاس: ويجوز أن يكون شهداء في موضع نصب، بمعنى: ثم لم يحضروا أربعة {شُهَداءَ} . انتهى. قرطبي.

{فَاجْلِدُوهُمْ:} الفاء: حرف صلة، أو حرف استئناف. (اجلدوهم): أمر، وفاعله، ومفعوله.

{ثَمانِينَ:} نائب مفعول مطلق منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{فَاجْلِدُوهُمْ..} . إلخ مستأنفة، أو مفسرة، أو في محل رفع خبر المبتدأ على مثال ما رأيت بجملة:{فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ} .

{وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا تقبلوا): مضارع مجزوم ب: (لا) وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لَهُمْ:} متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من شهادة، كان صفة له

{شَهادَةً:} مفعول به. {أَبَداً:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على جميع الاعتبارات فيها.

(أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {فَاجْلِدُوهُمْ:} ضمير فصل لا محل له. {الْفاسِقُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. هذا؛ وإن اعتبرت الضمير مبتدأ و {الْفاسِقُونَ} خبره فالجملة الاسمية هي خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:

{وَأُولئِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، أو هي معطوفة على ما قبلها، واعتبارها حالا من واو الجماعة جيد، والمعنى يؤيده، ويقويه، ويكون الرابط: الواو، والضمير. ولكن العطف هو المرجح. كما ستعرفه في المستثنى الآتي.

{إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}

الشرح: {إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ:} قال الخازن-رحمه الله تعالى-: اختلف العلماء في قبول شهادة القاذف بعد التوبة، وفي حكم هذا الاستثناء، فذهب قوم إلى أن القاذف ترد شهادته بنفس القذف؛ وإذا تاب، وندم على ما قال، وحسنت حالته بعد التوبة؛ قبلت شهادته، سواء تاب بعد إقامة الحد عليه، أو قبله، لقوله تعالى:{إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا} وقالوا: هذا الاستثناء يرجع إلى رد الشهادة، وإلى الفسق، وإذا تاب؛ تقبل شهادته، ويزول عنه اسم الفسق، يروى ذلك عن عمر، وابن عباس، وهو قول سعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، وطاووس، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، والشعبي، وعكرمة، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، وبه قال مالك، والشافعي. وذهب قوم إلى أن شهادة المحدود في القذف لا تقبل أبدا؛ وإن تاب،

ص: 326

وقالوا: الاستثناء يرجع إلى قوله تعالى: {وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} . وهو قول النخعي، وشريح، وأصحاب الرأي، قالوا: بنفس القذف لا ترد شهادته ما لم يحد، قال الشافعي-رضي الله عنه:

هو قبل أن يحد شرّ منه حين يحد؛ لأن الحدود كفارات، فكيف تردّونها في أحسن حاليه، وتقبلونها في شر حاليه؟! وذهب الشافعي إلى أنّ حد القذف يسقط بالتوبة، وقال: الاستثناء يرجع إلى الكل، (أي: إلى الجمل الثلاث المتضمنة للجلد، وردّ الشهادة، والتفسيق) وعامة العلماء على أنه لا يسقط الحد بالتوبة، إلا أن يعفو عنه المقذوف، فيسقط كالقصاص يسقط بالعفو، ولا يسقط بالتوبة. فإن قلت: إذا قبلت شهادته بعد التوبة فما معنى قوله تعالى: أبدا، قلت: معنى أبدا ما دام مصرا على القذف؛ لأن أبد كل إنسان مدته على ما يليق به، كما يقال:

شهادة الكافر لا تقبل أبدا، يراد بذلك ما دام على كفره، فإذا أسلم قبلت شهادته. انتهى.

{وَأَصْلَحُوا} أي: أعمالهم بالتدارك، ومنه: الاستسلام للحد، أو الاستحلال من المقذوف.

{فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ} أي: للقاذفين؛ إن هم تابوا، وأنابوا. {رَحِيمٌ:} بهم حيث وفقهم للتوبة ولإصلاح العمل بما ذكر، فبالتوبة ينتهي فسقهم، وتقبل شهادتهم، والله الموفق، والمعين، وبه أستعين.

الإعراب: {إِلاَّ:} أداة استثناء. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب على الاستثناء من الجملة الأخيرة، وهل هو متصل، أو منقطع؟ فيه خلاف، أو هو في محل جر بدلا من الضمير في لهم، وأجيز أن يكون مبتدأ، خبره الجملة الاسمية الآتية. {تابُوا:} ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (بعد) مضاف، و {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، وجملة:{تابُوا..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{وَأَصْلَحُوا} مع المفعول المحذوف معطوفة عليها لا محل لها مثلها. {فَإِنَّ:} الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف مشبه بالفعل.

{اللهَ:} اسمها. {غَفُورٌ رَحِيمٌ:} خبران ل: (إنّ)، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل رفع خبر (الذين) على وجه مرّ ذكره، فتكون الفاء زائدة لتحسين اللفظ؛ ولأن الموصول يشبه الشرط في العموم، ويجب تقدير رابط للمبتدأ، أي: غفور لهم، رحيم بهم.

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ (6)}

الشرح: سبب نزول هذه الآية هو ما رواه أبو داود عن ابن عباس-رضي الله عنهما-أن هلال بن أمية الواقفي-رضي الله عنه-وهو أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، كما رأيت في الآية رقم [118] من سورة (التوبة) قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء البلوي، والسحماء أمه، سميت بذلك لشدة سوادها، وأبوه اسمه عبدة بن الجد العجلاني

ص: 327

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «البيّنة، أواحدّ في ظهرك!» . قال: يا رسول الله! إذا رأى أحدنا رجلا على امرأته يلتمس البينة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«البيّنة، أواحدّ في ظهرك» . فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلنّ الله في أمري ما يبرئ ظهري من الحد، فنزلت الآية الكريمة، وما بعدها.

وقيل: لما نزلت الآية المتقدمة في الذين يرمون المحصنات، وتناول ظاهرها الأزواج، وغيرهم؛ قال سعد بن معاذ-رضي الله عنه: يا رسول الله! إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة؟! والله لأضربنه بالسيف غير مصفح عنه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير مني» . انتهى. قرطبي.

وعن ابن عباس قال: لما نزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ..} . إلخ قال سعد بن عبادة-رضي الله عنه: لو أتيت لكاع، وقد تفخذها رجل، لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء؟! فو الله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ حاجته ويذهب، وإن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا معشر الأنصار، ألا تسمعون ما يقول سيدكم» . قالوا: لا تلمه، فإنه رجل غيور، ما تزوج امرأة قط إلا بكرا، ولا طلق امرأة، واجترأ رجل منا أن يتزوجها.

فقال سعد-رضي الله عنه: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، والله إني لأعرف: أنها من الله، وأنها حق، ولكن عجبت من ذلك لما أخبر الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«فإن الله يأبى إلا ذلك» . فقال:

صدق الله ورسوله، قال: فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاء ابن عم له، يقال له: هلال بن أمية من حديقة له، فرأى رجلا مع امرأته يزني بها، فأمسك حتى أصبح، فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر له ما تقدم

إلخ. انتهى. خازن.

رضي الله عن السعدين، فلا يستغرب منهما غيرتهما، وحميتهما، فإنهما سيدا قومهما، الأول -سيد الأوس بلا منازع-والثاني-سيد الخزرج بلا مكابر-والأول هو الذي اهتز عرش الرحمن لموته، وشيعته ملائكة السماء. هذا؛ ويروى أن عويمر بن زيد بن الجد بن العجلاني قذف زوجته أيضا، وقد اختلف في المقذوف، فإن كان شريكا هو المقذوف في الروايتين فالواقعة واحدة، وقد اختلف فبعضهم يرجح: أنها حادثة هلال، وبعضهم يرجح: أنها واقعة عويمر، وإن كان المقذوف متعددا، فهما حادثتان، ولم يذكر أحد مقذوفا غير شريك، والله أعلم بذلك.

وكانت هذه القصة في شهر شعبان سنة تسع من الهجرة، منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة. قاله الطبري، وروى الدّارقطنيّ عن عبد الله بن جعفر-رضي الله عنهما-قال:

حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لا عن بين عويمر العجلاني وامرأته، مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وأنكر حملها الذي في بطنها، وقال: هو لابن السحماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هات امرأتك، فقد نزل القرآن فيكما» . فلاعن بينهما بعد العصر عند المنبر.

بيان حكم الآية: أنّ الرجل إذا قذف امرأته، فموجبه موجب قذف الأجنبية في وجوب الحد عليه إن كانت محصنة، أو التعزير إن كانت غير محصنة، غير أن المخرج منهما مختلف، فإذا

ص: 328

قذف أجنبيا، أو أجنبية يقام عليه الحد، إلا أن يأتي بأربعة يشهدون بالزنى، أو يقر المقذوف بالزنى، فيسقط عنه الحد، وفي الزوجة؛ إذا وجد أحد هذين الأمرين، أو لاعن سقط عنه الحد، فاللعان في قذف الزوجة بمنزلة البينة؛ لأن الرجل إذا رأى مع امرأته رجلا، ربما لا يمكنه إقامة البينة، ولا يمكنه الصبر على العار، فجعل الله اللعان حجة له على صدقه، فقال تعالى:{فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ} .

وإذا أقام الزوج بينة على زناها، أو اعترفت هي بالزنى سقط عنه الحد، واللعان؛ إلا أن يكون هناك ولد يريد نفيه، فله أن يلاعن لنفيه، وإذا أراد الحاكم المسلم أن يلاعن بينهما؛ بدأ بالرجل، فيقيمه، ويلقنه كلمات اللعان، فيقول: قل أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة من الزنى، وإن كان قد رماها برجل بعينه سماه في اللعان، ويقول كما يلقنه الحاكم المسلم، وإن كان هناك ولد، أو حمل يريد نفيه، يقول: وإن هذا الولد، أو هذا الحمل لمن الزنى، ما هو مني، ويقول في الخامسة: عليّ لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة! وإذا أتى بكلمة من كلمات اللعان من غير تلقين الحاكم له؛ لا تحسب، فإذا فرغ الرجل من اللعان وقعت الفرقة بينه وبين الزوجة، وحرمت عليه على التأبيد، وانتفى عنه النسب، وسقط عنه الحد، ووجب على المرأة حد الزنى، فهذه خمسة أحكام تتعلق بلعان الزوج.

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. (الذين): مبتدأ، وجملة:{يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ:} صلة الموصول لا محل لها، ومتعلق الفعل محذوف تقديره بالزنى. {وَلَمْ:} الواو: واو الحال.

(لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَكُنْ:} فعل مضارع ناقص مجزوم ب: (لم). {لَهُمْ:}

متعلقان بمحذوف خبر (يكن) مقدم. {شُهَداءُ:} اسمها مؤخر. {إِلاّ:} حرف حصر. {أَنْفُسُهُمْ:}

بدل من {شُهَداءُ،} ويجوز نصب شهداء على اعتباره خبرا مقدما ل: {يَكُنْ،} ويكون {أَنْفُسُهُمْ} اسمه مؤخرا، ويجوز نصب {أَنْفُسُهُمْ} على الاستثناء، أو على أنه خبر {يَكُنْ} ولكن لم يقرأ بنصبه. انتهى. مكي بتصرف. هذا؛ وأجيز اعتبار (إلا) بمعنى:«غير» على أنها صفة {شُهَداءُ} ظهر إعرابه على ما بعده بطريق العارية؛ لكونه على صورة الحرف، و (إلا) مضاف، و {أَنْفُسُهُمْ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة (إلا) التي على صورة الحرف، وانظر تفصيل مثل هذا وشرحه في الآية رقم [22] من سورة (الأنبياء). وجملة:{وَلَمْ يَكُنْ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط:

الواو، والضمير. هذا؛ ويجوز اعتبارها معطوفة على جملة الصلة، والمعنى لا يأباه. تأمل.

{فَشَهادَةُ:} الفاء: زائدة في الخبر لتحسين اللفظ، ولأن الموصول يشبه الشرط في العموم:

(شهادة): في رفعه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه مبتدأ، خبره محذوف، مقدر التقديم؛ أي: فعليهم شهادة أحدهم، أو الخبر محذوف، ومقدر التأخير، أي: فشهادة أحدهم كائنة، أو واجبة.

الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: فالواجب شهادة أحدهم. الثالث: أنه فاعل بفعل محذوف،

ص: 329

التقدير: فيكفي شهادة أحدهم. وهذه الوجوه صحيحة على نصب {أَرْبَعُ،} وأما على رفعه؛ فهو خبر (شهادة أحدهم) بلا ريب، وشهادة مضاف، و {أَحَدِهِمْ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، والهاء في محل جر بالإضافة. {أَرْبَعُ:} خبر المبتدأ، و (أربع) مضاف، و {شَهاداتٍ:}

مضاف إليه، والجملة الاسمية: (شهادة أحدهم

) إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَالَّذِينَ..} . إلخ معطوفة على مثلها في الآية رقم [4]، وهي في الحقيقة عطف قضية على قضية، كما رأيت في الشرح. هذا؛ ويقرأ بنصب (أربع) على أنه مفعول مطلق عامله «(شهادة)» على حد قوله تعالى:{فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً} الآية رقم [63] من سورة (الإسراء)، وهذا صحيح على جميع الوجوه الأولى المعتبرة في إعراب (شهادة أحدهم).

{بِاللهِ:} متعلقان ب: {شَهاداتٍ} قبلهما، وذلك على رفع {أَرْبَعُ،} وأما على نصبه فيجوز فيهما ثلاثة أوجه: أحدها: أن يتعلقا ب: {شَهاداتٍ؛} لأنه أقرب إليهما. والثاني: أنهما متعلقان بقوله: {فَشَهادَةُ} أي: فشهادة أحدهم بالله، ولا يضر الفصل ب:{أَرْبَعُ؛} لأنها معمولة للمصدر، فليست أجنبية عنه. والثالث: أن المسألة من باب التنازع، فإن كلاّ من (شهادة) و {شَهاداتٍ} يطلبه من حيث المعنى، وتكون المسألة من إعمال الثاني للحذف من الأول، وهو مختار البصريين، وعلى قراءة رفع {أَرْبَعُ} فيتعين تعليقهما ب:{شَهاداتٍ؛} إذ لو علق ب: (شهادة) لزم الفصل بين المصدر، ومعموله بالخبر، وهو لا يجوز؛ لأنه أجنبي.

{إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. اللام: هي المزحلقة. (من الصادقين): متعلقان بمحذوف خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ} في محل نصب مفعول به للمصدر {شَهاداتٍ،} أو (شهادة) على نصب (أربع)، ويتعين أن تكون الجملة الاسمية معمولة ل:{شَهاداتٍ} على رفع {أَرْبَعُ} لما ذكرنا من التفرقة بالأجنبي، ولم تفتح همزة (إنّ) من أجل اللام التي في الخبر، فإنها في الأصل لام الابتداء، وهي معلقة للمصدر عن العمل، كما علقت فعله عن العمل في قوله تعالى:{وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} وكما في الآية رقم [8] الآتية. قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته: [الرجز]

وكسروا من بعد فعل علّقا

باللاّم كاعلم إنّه لذو تقى

{وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7)}

الشرح: {وَالْخامِسَةُ} أي: والشهادة الخامسة، كما رأيت في شرح الآية السابقة. {أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ:} اللعن: الطرد من رحمة الله تعالى. هذا؛ ولقد كرر الله لعن الكفار في الآية رقم [161] من سورة (البقرة)، كما لعن الظالمين، والكاذبين، والناقضين للعهد، والميثاق في آيات متفرقة، وهو دليل قاطع على أن من مات على كفره، فقد استحق اللّعن من الله،

ص: 330

والملائكة، والناس أجمعين، وأما الأحياء من الكفار؛ فقد قال العلماء: لا يجوز لعن كافر معيّن؛ لأن حاله عند الوفاة لا تعلم، فلعله يؤمن، ويموت على الإسلام، وقد قيد الله في آية (البقرة) إطلاق اللعنة على من مات على الكفر، ويجوز لعن الكفار، أي جملة بدون تعيين، كما في قولك: لعن الله الكافرين، يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لعن الله اليهود، حرّمت عليهم الشّحوم، فجمّلوها فباعوها» . وذهب بعضهم إلى جواز لعن إنسان معين من الكفار، بدليل جواز قتاله

وهو الصحيح، كيف لا؛ وقد لعن حسان بن ثابت-رضي الله عنه-أبا سفيان وزوجه هندا في شعره، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وخذ قوله:[الكامل]

لعن الإله وزوجها معها

هند الهنود طويلة البظر

وقد لعن الفاروق-رضي الله عنه-أبا سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور السلمي، وغيرهم، الذين قدموا المدينة المنورة، بعد غزوة أحد، وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه، فقام معهم جماعة من المنافقين، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ارفض ذكر آلهتنا بسوء، وقل: إن لها شفاعة لمن عبدها، وندعك وربك! فشق ذلك على سيد الخلق، وحبيب الحق، فقال الفاروق: يا رسول الله! ائذن لي في قتلهم، فقال: إني أعطيتهم الأمان، فقال الفاروق: اخرجوا في لعنة الله، وغضبه، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، كيف لا؛ وهذه الآية تأمر المسلم أن يلعن نفسه إن كان من الكاذبين.

وأما العصاة من المسلمين، فلا يجوز لعن أحد منهم على التعيين قطعا، وأما على الإطلاق فيجوز كما في قولك: لعن الله الفاسقين، والفاسقات، والفاسدين، والفاسدات

إلخ، لما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله السّارق يسرق البيضة، والحبل، فتقطع يده» . ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الواشمة والمستوشمة، وآكل الرّبا، ولعن من غيّر منار الأرض، ومن انتسب إلى غير أبيه، ومن عمل عمل قوم لوط، ومن أتى امرأة في دبرها، وغير ذلك» . وكل هذا؛ وارد في الصحيح من الأحاديث.

{إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ:} في قذف امرأته بالزنى وإلحاق العار بها. هذا؛ ولقد اختلف العلماء في حكم من قذف امرأته برجل سماه، وعيّنه، هل يحدّ، أم لا؟ فقال الإمام مالك: عليه اللعان لزوجته، واحدّ للمرمي، أي: لمن قذفه، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه قاذف لمن لم يكن له ضرورة إلى قذفه. وقال الشافعي: لا حدّ عليه؛ لأن الله عز وجل لم يجعل على من رمى زوجته بالزنى إلا حدّا واحدا بقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ..} . إلخ، ولم يفرق بين من ذكر رجلا بعينه، وبين من لم يذكر، وقد رمى العجلانيّ زوجته بشريك، وكذلك هلال بن أمية، فلم يحدّ واحد منهما. انتهى. قرطبي.

الإعراب: {وَالْخامِسَةُ:} الواو: حرف عطف. (الخامسة): معطوف على {أَرْبَعُ شَهاداتٍ} على قراءة رفعه، أو هو مبتدأ. {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {لَعْنَتَ:} اسمها، و {لَعْنَتَ} مضاف،

ص: 331

و {اللهِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {عَلَيْهِ:} متعلقان بمحذوف خبر {أَنَّ،} و {أَنَّ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع بدل من (الخامسة)، أو في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بأن لعنة الله عليه، والجار والمجرور متعلقان ب:(الخامسة) أو ب: «الشهادة» المقدرة قبلها. هذا؛ والبدلية على اعتبار (الخامسة) معطوفة على {أَرْبَعُ} كما رأيت، وأما على اعتبارها مبتدأ؛ فالمصدر المؤول، أو الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبره. هذا؛ ويقرأ بتخفيف النون على أنها مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، و (لعنة) بالرفع مبتدأ، و {عَلَيْهِ} متعلقان بمحذوف خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (أن) المخففة من الثقيلة، وتتأول مع اسمها المحذوف وخبرها بمصدر على مثال ما رأيت في محله. {أَنَّ:} حرف شرط جازم. {كانَ:} ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، واسمه ضمير مستتر يعود إلى {أَحَدِهِمْ}. {مِنَ الْكاذِبِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر {كانَ} وجملة: {كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ} لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: إن كان من الكاذبين؛ فلعنة الله عليه، والجملة الاسمية:{وَالْخامِسَةُ..} . إلخ معطوفة على جملة: (شهادة أحدهم

) إلخ فهي في محل رفع مثلها، والجملة الشرطية مرتبطة بها تمام الارتباط فهي في محل رفع مثلها.

{وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8)}

الشرح: {وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ:} يدفع الحد عن المرأة التي قذفها زوجها، ولا عنها، وتوجب عليها الحد بلعانه هو أن ترد على الزوج بخمس شهادات مثل شهاداته التي رأيتها في الآية رقم [6] فتقوم على مكان مرتفع بالمسجد، وتشهد بعد تلقين الحاكم أربع شهادات بالله {إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ} فيما رماني به من الزنى، وإن كان ولد، أو حمل، تقول: وإن هذا الولد، أو الحمل منه وليس من الزنى، وتقول في الخامسة: عليّ غضب الله، إن كان زوجي من الصادقين، فيما رماني به، ولا يتعلق بلعانها إلا هذا الحكم الواحد، وهو إسقاط الحد عنها، وانظر الأمور المتعلقة بلعان الزوج، ومن جملتها الفرقة بينهما، والتحريم على التأبيد لقول النبي صلى الله عليه وسلم:

«المتلاعنان لا يجتمعان» . حتى لو أكذب الزوج نفسه يقبل ذلك فيما عليه، لا فيما له، فيلزمه الحد، ويلحقه الولد، لكن لا يرتفع التحريم؛ لأنه على التأبيد.

هذا؛ ويغلظ اللعان بين الزوجين بأربعة أشياء: بتعدد الألفاظ، وبالمكان، والزمان، وأن يكون بمحضر جماعة من الناس، أما تعدد الألفاظ فيجب ولا يجوز الإخلال بشيء منها، وأما المكان؛ فهو أن يلاعن في أشرف الأماكن، فإن كان بمكة؛ فبين الركن والمقام، وإن كان بالمدينة فعند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وفي سائر البلاد في الجامع عند المنبر، وأما الزمان؛ فهو أن يكون بعد العصر، وأما الجمع؛ فأقله أربعة.

ص: 332

الإعراب: {وَيَدْرَؤُا:} الواو: حرف استئناف. (يدرأ): مضارع. {عَنْهَا:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الْعَذابَ:} مفعول به. {أَنْ تَشْهَدَ:} مضارع منصوب ب: «أن» ، والفاعل يعود إلى المرأة المقذوفة، والمفهومة من الكلام السابق. {أَرْبَعَ:} مفعول مطلق، أو نائبه، و (أربع) مضاف، و {شَهاداتٍ} مضاف إليه. {بِاللهِ:} متعلقان بالفعل، أو بالمصدر شهادات على التنازع، والثاني أولى عند البصريين لقربه، والأول أولى عند الكوفيين لسبقه، و (أن تشهد) في تأويل مصدر في محل رفع فاعل للفعل يدرأ، التقدير: ويدرأ عنها العذاب شهودها أربع شهادات. {إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ:} إعراب هذه الجملة ومحلها والكلام فيها مثل: {إِنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ} في الآية رقم [6] وجملة: (يدرأ

) إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصّادِقِينَ (9)}

الشرح: تضمنت هذه الآية الشهادة الخامسة التي ترد بها المرأة على زوجها؛ الذي قذفها، ولا عنها، كما رأيت في الآية السابقة. هذا؛ وجعل الغضب في جانب المرأة؛ لأن النساء يستعملن اللعن كثيرا؛ كما قال لهن النبي صلى الله عليه وسلم:«لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير» . فربما يجترئن على الإقدام لكثرة جري اللعن على ألسنتهن، وسقوط وقوعه في قلوبهن، فذكر الغضب في جانبهن، ليكون رادعا لهن. انتهى. نسفي. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَالْخامِسَةَ:} معطوف على {أَرْبَعُ،} على معنى: وتشهد الخامسة. ويقرأ بالرفع على اعتباره مبتدأ؛ لأنه صفة لموصوف محذوف؛ إذ الأصل: والشهادة الخامسة. {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {غَضَبَ:} اسمها، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {عَلَيْها:} متعلقان بمحذوف خبر {أَنَّ} . هذا؛ ويقرأ بتخفيف (أنّ)، فيكون اسمها ضمير الشأن محذوفا، و «(غضب)» بالرفع مبتدأ، و {عَلَيْها} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل رفع خبر {أَنَّ}. هذا؛ ويقرأ:«(غضب)» بكسر الضاد وفتح الباء على أنه ماض، وبرفع «(الله)» على أنه فاعله، و {أَنَّ} ومدخولها على جميع الاعتبارات والقراآت في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، والجار والمجرور متعلقان ب:(الخامسة)، أو ب:(الشهادة) المقدّرة على قراءة النصب، أو في محل نصب بدلا منها، وعلى قراءته بالرفع فالمصدر في محل رفع خبرها، وكذا إن قدرت المصدر مجرورا بحرف جر محذوف، فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبرها، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية السابقة لا محل لها مثلها:{إِنْ كانَ مِنَ الصّادِقِينَ:} إعراب هذه الكلمات مثل إعراب: {إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ} في الآية رقم [7] بلا فارق. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

ص: 333

{وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوّابٌ حَكِيمٌ (10)}

الشرح: {وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ} أي: كرمه، وجوده، وإحسانه. {وَرَحْمَتُهُ:} الواسعة التي وسعت كل شيء، وجواب (لولا) محذوف، تقديره: لفضحكم، ولكنه ستر عليكم، أو:

لعاجلكم بالعقوبة، ولكنه رحيم بكم؛ حيث دفع عنكم الحد باللعان. هذا؛ وفي {عَلَيْكُمْ} التفات عن الغيبة في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ،} وفي قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ} انظر الالتفات في الآية رقم [34] من سورة (الأنبياء) والخطاب لكل من الفريقين، أي: القاذفين، والمقذوفات، ففي الكلام تغليب صيغة الذكور على صيغة الإناث؛ حيث لم يقل: عليكم، وعليكن، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

{تَوّابٌ:} كثير قبول التوبة من عباده، أو الرجاع على عباده بالرحمة، والمغفرة، فهو صيغة مبالغة. وتوبة العبد: رجوعه عن المعصية إلى الطاعة، وقرع باب ربه بالندم، والإنابة.

{حَكِيمٌ:} فيما قدر، وقضى، وفعل من فرض الحدود، ووضع الزواجر عن المعاصي، والسيئات، لا يقضي، ولا يفعل إلا ما فيه حكمة؛ وإن خفيت على كثير من الناس. وانظر شرح لفظ الجلالة في الآية رقم [3] من سورة (الحج).

الإعراب: {وَلَوْلا:} الواو: حرف استئناف. (لولا): حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط. {فَضْلُ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله.

{عَلَيْكُمْ:} متعلقان بالمصدر {فَضْلُ} وهذا على اعتبار خبر المبتدأ محذوفا، التقدير: موجود.

هذا؛ ويجوز اعتبار الجار والمجرور متعلقين بمحذوف خبر المبتدأ وهو قول ابن الشجري، ورده ابن هشام في المغني؛ لأن خبر المبتدأ بعد لولا واجب الحذف، والجملة الاسمية ابتدائية لا محل لها، وجواب لولا محذوف، انظر تقديره في الشرح. {وَرَحْمَتُهُ:} معطوف على {فَضْلُ} والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، ومتعلقه محذوف؛ إذ التقدير: رحمته بكم. {وَأَنَّ:} الواو: حرف عطف. (أن): حرف مشبه بالفعل. {اللهِ:}

اسمها. {تَوّابٌ حَكِيمٌ:} خبران لها، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع معطوف على {فَضْلُ اللهِ} ولولا ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.

{إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اِكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11)}

الشرح: {جاؤُ:} هذا الفعل وقع هنا لازما متعديا بالحرف، ويأتي متعديا، وهو كثير.

(الإفك): هو أبلغ ما يكون من الكذب، والافتراء، وأصله الأفك، وهو القلب؛ لأنه قول مأفوك

ص: 334

عن وجهه. أي: مقلوب عن وجهه الصحيح إلى الباطل، ومنه قيل للكذاب: أفّاك؛ لأنه يقلب الكلام عن وجهه الصحيح إلى الباطل، قال تعالى:{فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ} . {عُصْبَةٌ:}

جماعة، وهي ما بين العشرة إلى الأربعين، ومثلها العصابة، ولا واحد لها من لفظها، كالنفر، والرهط، والمعشر

إلخ، والمراد هنا ب:{عُصْبَةٌ} عبد الله بن أبيّ، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، ومن ساعدهم، وقال بقولهم. {لا تَحْسَبُوهُ:} لا تظنوه، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولعائشة، ولأبويها، ولصفوان المتهم فيها، وإنما كان ما أشيع على السيدة عائشة-رضي الله عنها-خيرا؛ لأن الله آجرهم على ذلك أجرا عظيما، وأظهر براءتها، وشهد بكذب العصبة، وأوجب لهم الذم، وهذا غاية الفضل والشرف للنبي صلى الله عليه وسلم، ولعائشة، ولأبويها، ولصفوان، ومن ساءه ذلك من المؤمنين.

{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ} أي: من العصبة الكاذبة. {مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} أي: ما اجترح من الذنب، وعلى قدر ما خاض فيه. هذا؛ والخير في الحقيقة: ما زاد نفعه على ضره، والشر: ما زاد ضره على نفعه، وإن خيرا لا شرّ فيه هو الجنة، وشرّا لا خير فيه هو النار، فأما البلاء النازل على الأولياء فهو خير؛ لأن ضرره من الألم قليل في الدنيا، وخيره هو الثواب الكثير في الآخرة، فنبه الله عائشة، وأهلها، وصفوان بهذا الخطاب لهم لرجحان النفع، والخير على جانب الشر في حقهم.

{وَالَّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ:} تحمل معظمه، وبدأ بالخوض فيه، وقام بإشاعته، وهو عبد الله بن أبيّ ابن سلول. {لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ} أي: عذاب النار في الآخرة، وروي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالذين تكلموا في عائشة، فجلدوا الحد جميعا ثمانين ثمانين جلدة. وقيل: لم يحد أحد منهم. وقيل:

حد حسان، ومسطح، ولم يحد ابن أبيّ، والمعتمد: أنهم حدوا جميعا، وفي ذلك قال شاعر من المسلمين:[الطويل]

لقد ذاق حسّان الّذي كان أهله

وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح

وابن سلول ذاق في الحدّ خزية

كما خاض في إفك من القول يفصح

تعاطوا برجم الغيب زوج نبيّهم

وسخطة ذي العرش الكريم فأبرحوا

قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: المشهور من الأخبار، والمعروف عند العلماء: أن الذي حدّ حسان، ومسطح، وحمنة، ولم يسمع بحد لعبد الله بن أبيّ، وإنما لم يحدّ؛ لأن الله تعالى قد أعدّ له في الآخرة عذابا عظيما، فلواحدّ في الدنيا، لكان ذلك نقصا من عذابه في الآخرة، وتخفيفا عنه، وإنما حدّ هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف حتى لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحدود:«إنها كفارات لمن أقيمت عليه» . كما في حديث عبادة بن الصامت، رضي الله عنه.

ص: 335

ويحتمل أن يقال: إنما ترك حد ابن أبيّ استئلافا لقومه، واحتراما لابنه، وإطفاء لثائرة الفتنة المتوقعة من ذلك، وقد ظهرت مبادئها من سعد بن عبادة، ومن قومه، كما في صحيح مسلم.

انتهى.

هذا؛ وإن الآية الكريمة، وما بعدها إلى رقم [26] نزلت في قذف السيدة عائشة، وبينت براءتها أحسن بيان، وإن الذي يبقى في نفسه شيء عليها فلا حظّ له في الإسلام؛ لأنه ينكر صريح القرآن، ومن أنكر شيئا بيّنه القرآن فهو كافر بإجماع المسلمين. واحديث الإفك رواه البخاري ومسلم عن عائشة نفسها، وها أنذا أذكره لك بحروفه برواية البخاري. والله الموفق، والمعين، وبه أستعين.

عن عائشة-رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا؛ أقرع بين أزواجه، فأيتهنّ خرج سهمها؛ خرج بها معه، فأقرع بيننا في غزاة غزاها، فخرج سهمي، فخرجت معه بعد ما أنزل الحجاب، فأنا أحمل في هودج، وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك، وقفل، ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل، فلمست صدري، فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه.

فأقبل الذين يرحلون لي، فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلن، ولم يغشهنّ اللحم، وإنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم حين رفعوه ثقل الهودج، فاحتملوه، وكنت جارية حديثة السّنّ، فبعثوا الجمل، وساروا، فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منزلهم، وليس فيه أحد، فأممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدونني، فيرجعون إليّ.

فبينما أنا جالسة غلبتني عيناي، فنمت، وكان صفوان بن المعطّل السّلميّ، ثم الذّكوانيّ من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين أناخ راحلته، فوطئ يدها، فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا معرّسين في نحر الظّهيرة فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبيّ ابن سلول.

فقدمنا المدينة، فاشتكيت بها شهرا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك، ويريبني في وجعي أنّي لا أرى من النبي صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أمرض، إنما يدخل، فيسلّم، ثم يقول:«كيف تيكم» ؟. لا أشعر بشيء من ذلك حتى نقهت فخرجت أنا وأمّ مسطح قبل المناصع متبرّزنا، لا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن تتّخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في البرّيّة، أو في التّنزّه.

ص: 336

فأقبلت أنا وأمّ مسطح بنت أبي رهم نمشي، فعثرت في مرطها، فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلا، شهد بدرا؟ فقالت: يا هنتاه! ألم تسمعي ما قالوا؟! فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلّم، فقال:«كيف تيكم» ؟ فقلت: ائذن لي إلى أبويّ، قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما. فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فأتيت أبويّ، فقلت لأمي: ما يتحدث به الناس؟ فقالت: يا بنيّة! هوّني على نفسك الشأن، فو الله لقلّما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبّها، ولها ضرائر إلا أكثرن عليها! فقلت:

سبحان الله، ولقد يتحدث الناس بهذا؟! قالت: فبتّ تلك الليلة، حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله.

فأمّا أسامة؛ فأشار عليه بالذي يعلم في نفسه من الودّ لهم، فقال أسامة: أهلك يا رسول الله، ولا نعلم إلاّ خيرا! وأمّا عليّ، فقال: يا رسول الله! لم يضيّق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال:«يا بريرة! هل رأيت فيها شيئا يريبك» ؟ فقالت بريرة: لا والذي بعثك بالحقّ إن رأيت منها أمرا أغمصه عليها قطّ أكثر من أنها جارية حديثة السّنّ تنام عن العجين، فتأتي الداجن، فتأكله، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه، فاستعذر من عبد الله بن أبيّ ابن سلول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، فو الله ما علمت على أهلي إلاّ خيرا، وقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلاّ معي؟» .

فقام سعد بن معاذ، فقال: يا رسول الله! أنا والله أعذرك منه إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك. فقام سعد بن عبادة، وهو سيّد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلا صالحا، ولكن احتملته الحميّة، فقال: كذبت، والله لا تقتله، ولا تقدر على ذلك!

فقام أسيد بن الحضير، فقال: كذبت لعمر الله! والله لنقتلنّه! فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيّان: الأوس، والخزرج حتى همّوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فنزل فخفّضهم حتّى سكتوا، وسكت، وبكيت يومي لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، فأصبح عندي أبواي وقد بكيت ليلتين ويوما، حتى أظنّ أنّ البكاء فالق كبدي، قالت: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي؛ إذ استأذنت امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي، فبينما نحن كذلك؛ إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس، ولم يجلس عندي من يوم قيل فيّ ما قيل قبلها، وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء.

ص: 337

قالت: فتشهّد، ثم قال:«يا عائشة لقد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة؛ فسيبرّئك الله، وإن كنت ألممت بذنب؛ فاستغفري الله، وتوبي إليه، فإنّ العبد إذا اعترف بذنبه، ثمّ تاب، تاب الله عليه» . فلمّا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته؛ قلص دمعي؛ حتّى ما أحسّ منه قطرة، وقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم! فقلت لأمّي:

أجيبي عنّي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال، قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله! قالت: وأنا جارية حديثة السّنّ، لا أقرأ كثيرا من القرآن، فقلت: والله لقد علمت أنكم سمعتم ما يتحدث به الناس، ووقر في أنفسكم، وصدّقتم به، ولئن قلت لكم: إني بريئة-والله يعلم أنّي لبريئة- لا تصدّقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، -والله يعلم أني لبريئة-لتصدّقنّي، والله، ما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف؛ إذ قال:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ} .

ثمّ تحوّلت على فراشي، وأنا أرجو أن يبرّئني الله، ولكن والله ما ظننت أن ينزل في شأني وحيا يتلى، ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلّم بالقرآن في أمري، ولكنّي كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرّئني الله بها، فو الله ما رام مجلسه، ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه الوحي، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، حتّى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق في يوم شات.

فلمّا سرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهو يضحك، فكان أوّل كلمة تكلّم بها أن قال لي:«يا عائشة! احمدي الله، فقد برّأك الله» . فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقلت: لا والله، لا أقوم إليه ولا أحمد إلاّ الله! فأنزل الله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ..} . الآيات.

فلما أنزل الله عز وجل هذا في براءتي؛ قال أبو بكر الصديق-رضي الله عنه، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه-: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد ما قال لعائشة ما قال! فأنزل الله عز وجل: {وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى} إلى قوله: {وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فقال أبو بكر: بلى! والله إني لأحبّ أن يغفر الله لي! فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال:«يا زينب! ما علمت؟ ما رأيت؟» . فقالت: يا رسول الله! أحمي سمعي، وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيرا! قالت:

وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع. انتهى.

تنبيه: الغزوة التي حصل فيها حديث الإفك، هي غزوة المريسيع، وتسمى غزوة بني المصطلق، وكانت في السنة الرابعة، وقيل: في السادسة للهجرة، وسببها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار والد جويرية-رضي الله عنها. التي تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما سمع بذلك خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم،

ص: 338

يقال له: المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل. فاقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق، وأمكن رسوله من أبنائهم، ونسائهم، وأموالهم، فأفاءها الله عليه، ثم ردها عليهم، وتزوج جويرية-رضي الله عنها-تأليفا لهم؛ لأنهم أسلموا.

تنبيه: ذكرت لك فيما تقدم: أن قصة هلال بن أمية، وعويمر العجلاني-رضي الله عنهما كانت سنة تسع من الهجرة منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، ويذكر أصحاب السير: أن قصة عائشة-رضي الله عنهما-كانت في غزوة بني المصطلق، وقد كانت سنة خمس، أو ست من الهجرة، وهذا يعني: أن الآيات التي تقص علينا قصة الإفك متقدمة في النزول على آيات اللعان، وإن كانت متأخرة عنها في التلاوة، وإنما قدمت آيات اللعان لتتصل بالآية التي تنص على قذف المحصنات، واحد القاذفين لهن، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها. {جاؤُ:} ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بِالْإِفْكِ:} متعلقان به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {عُصْبَةٌ:} خبر {إِنَّ} . {مِنْكُمْ:} متعلقان بمحذوف صفة {عُصْبَةٌ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ ابتدائية، أو مستأنفة، لا محل لها. {لا تَحْسَبُوهُ:} مضارع مجزوم ب: {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والهاء مفعوله الأول. {شَرًّا:} مفعوله الثاني، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {لَكُمْ:} متعلقان ب: {شَرًّا} . {بَلْ:} حرف عطف. {هُوَ خَيْرٌ:} مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الوجهين. {لِكُلِّ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم، و (كل) مضاف، و {اِمْرِئٍ} مضاف إليه. {مِنْهُمْ:} متعلقان بمحذوف صفة امرئ. {مَا:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. {اِكْتَسَبَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {اِمْرِئٍ،} والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: الذي اكتسبه. {مِنَ الْإِثْمِ:} متعلقان بمحذوف حال من المفعول المحذوف، و {مِنَ} بيان لما أبهم في {مَا،} والجملة الاسمية: {لِكُلِّ امْرِئٍ..} .

إلخ مستأنفة، لا محل لها، وإن اعتبرتها في محل رفع خبر ثان ل:{إِنَّ} فيكون ما بينهما اعتراضا. {وَالَّذِي:} الواو: حرف استئناف (الذي): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، وجملة:{تَوَلّى كِبْرَهُ:} صلة الموصول، لا محل لها، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنْهُمْ:} متعلقان بمحذوف في محل نصب حال من فاعل {تَوَلّى} المستتر.

{لَهُ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر. {عَظِيمٌ:} صفة عذاب، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَالَّذِي..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

ص: 339

{لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)}

الشرح: {لَوْلا:} هلا. {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ:} حين سمعتم الإفك، والافتراء على السيدة عائشة.

{ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ} أي: اعتقدوا بالذين منهم، والتعبير بأنفسهم على حد قوله تعالى:{وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} فالمؤمنون كالجسد الواحد، والطاعن في أخيه كالطاعن في نفسه، واللامز لأخيه كاللامز لنفسه.

{خَيْراً:} عفافا، وصلاحا، وذلك نحو ما يروى أن عمر-رضي الله عنه-قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا قاطع بكذب المنافقين؛ لأن الله تعالى عصمك من وقوع الذباب على جلدك؛ لأنه يقع على النجاسات، فيتلطخ بها، فلما عصمك الله من ذلك القدر من القذر، فكيف لا يعصمك عن صحبة من تكون متلطخة بمثل هذه الفاحشة!

وقال عثمان-رضي الله عنه: إن الله ما أوقع ظلك على الأرض، لئلا يضع إنسان قدمه على ذلك الظل، فلما لم يمكّن أحدا من وضع القدم على ظلك، كيف يمكن أحدا من تلويث عرض زوجتك! وكذا قال علي-رضي الله عنه: إن جبريل عليه السلام أخبرك أن على نعليك قذرا، وأمرك بإخراج النعل عن رجلك بسبب ما التصق به من القذر، فكيف لا يأمرك بإخراجها بتقدير أن تكون متلطخة بشيء من الفواحش؟

وروي: أن أبا أيوب الأنصاري-رضي الله عنه-قال لامرأته: ألا ترين ما يقال؟ فقالت: لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم سوآ؟ فقال: لا، قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعائشة خير مني، وصفوان خير منك.

وإنما عدل عن الخطاب إلى الغيبة، وعن الضمير إلى الظاهر، ولم يقل: ظننتم بأنفسكم خيرا، وقلتم؛ ليبالغ في التوبيخ بطريق الالتفات، وليدل التصريح بلفظ الإيمان على أن الاشتراك فيه يقتضي أن لا يصدق مؤمن على أخيه، ولا مؤمنة على أختها قول غائب، ولا طاعن، وهذا من الأدب الحسن الذي قلّ القائم به، والحافظ له، وليتك تجد من يسمع، فيسكت، ولا يشيع ما سمعه بإخوانه. انتهى. كله من قول النسفي، رحمه الله تعالى.

{هذا إِفْكٌ مُبِينٌ:} كذب بيّن لا حقيقة له، وانظر شرح (النفس) في الآية رقم [35] من سورة (الأنبياء)، وانظر شرح (مبين) وإعلاله في الآية رقم [11] من سورة (الحج)، وانظر (الإيمان) في الآية رقم [14] منها، وانظر شرح (يسمع) في الآية رقم [46] من سورة (الحج) أيضا.

الإعراب: {لَوْلا:} حرف تحضيض، وقيل: فيها معنى التوبيخ. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان بمعنى حين مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل {ظَنَّ} الآتي، وانظر ما

ص: 340

ذكرته في الآية رقم [16] فإنه جيد. {سَمِعْتُمُوهُ:} ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والميم علامة جمع الذكور، وحركت بالضم لتحسين اللفظ، فتولدت واو الإشباع، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {ظَنَّ:} ماض. {الْمُؤْمِنُونَ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. (المؤمنات): معطوف على ما قبله. {بِأَنْفُسِهِمْ:} متعلقان بالفعل {ظَنَّ،} والهاء في محل جر بالإضافة. {خَيْراً:} مفعول به. وجملة: {ظَنَّ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية.

{وَقالُوا:} الواو: حرف عطف. (قالوا): ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {هذا:}

اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {إِفْكٌ:}

خبره. {مُبِينٌ:} صفة، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: {ظَنَّ..} . إلخ لا محل لها مثلها.

{لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13)}

الشرح: {لَوْلا:} هلا. {جاؤُ عَلَيْهِ:} على ما زعموا، وقذفوا به عائشة-رضي الله عنها. {بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ} أي: يشهدون بما زعموا، وافتروا. {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ} أي: في حكم الله وشريعته. {هُمُ الْكاذِبُونَ} أي: فيما زعموا، وافتروا؛ لأن الله تعالى جعل الفرق بين الرمي الصادق، والكاذب ثبوت شهادة الشهود الأربعة، وانتفاءها، والذين رموا عائشة-رضي الله عنها-لم يكن لهم بينة على قولهم، فكانوا كاذبين. هذا؛ وانظر ما ذكرته بشأن {الْكَذِبَ} في الآية رقم [105] من سورة (النحل) فإنه جيد.

تنبيه: رتب سبحانه وتعالى الحدود على حكمه الذي شرعه في الدنيا، لا على مقتضى علمه الذي تعلق بالإنسان على ما هو عليه، فإنما يبنى على ذلك حكم الآخرة، ومما يقوي هذا المعنى ويعضده، ما خرجه البخاري-رحمه الله تعالى-عن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه: أنه قال: أيها الناس! إنّ الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا؛ أمنّاه، وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوآ؛ لم نأمنه، ولم نصدّقه؛ وإن قال: إن سريرته حسنة. وأجمع العلماء: أنّ الأحكام في الدنيا على الظاهر، وأن السرائر إلى الله عز وجل. انتهى. قرطبي.

فائدة: روي: أن حسان بن ثابت-رضي الله عنه-قد أنكر أن يكون قال شيئا في حق عائشة-رضي الله عنها-يتجلى ذلك في قوله: [الطويل]

ص: 341

حصان رزان ما تزنّ بريبة

وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

حليلة خير الناس دينا ومنصبا

نبيّ الهدى والمكرمات الفواضل

عقيلة حيّ من لؤيّ بن غالب

كرام المساعي، مجدها غير زائل

مهذّبة قد طيّب الله خيمها

وطهّرها من كلّ شين وباطل

فإن كان ما بلّغت أنّي قلته

فلا رفعت سوطي إلّي أناملي

فكيف وودّي ما حييت ونصرتي

لآل رسول الله زين المحافل

له رتب عال على الناس فضلها

تقاصر عنها سورة المتطاول

وقد روي: أنه لما أنشدها قوله: (حصان رزان

) إلخ قالت له: لست كذلك، تريد: إنك وقعت في الغوافل. هذا؛ وحصان: عفيفة. ورزان: ذات ثبات، ووقار وعفاف. وغرثى: جائعة. ما تزن: ماتتّهم. الغوافل: جمع غافلة، أي: لا ترتع في أعراض الناس. والخيم: الطبيعة، والسجية.

الإعراب: {لَوْلا:} حرف تحضيض، واعتبرها ابن هشام للتوبيخ، والتنديم. {جاؤُ:}

ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {عَلَيْهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {بِأَرْبَعَةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل: متعلقان ب: {شُهَداءَ،} و (أربعة) مضاف، و {شُهَداءَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف، والمانع له ألف التأنيث الممدودة، وهي علة تقوم مقام علتين من موانع الصرف. وجملة:{لَوْلا جاؤُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَإِذْ:} الفاء: حرف تفريع واستئناف. (إذ): يظهر فيها معنى «إن» الشرطية، ولم يقل به ابن هشام في مغنيه، ولا المرادي في جناه، أو معنى (إذا) الشرطية، ولم يقل به ابن هشام، ونقله المرادي عن قوم من المتأخرين، ونقل تصحيح المغاربة في إبطاله. وظاهر نص الآية: أنها متضمنة معنى الشرط. هذا؛ ونقل ابن هشام، والمرادي عن سيبويه أن تكون للمفاجأة، ولا تكون إلا بعد:«بينا» و «بينما» واستشهد ابن هشام لذلك بقول عنبر بن لبيد العذري الجاهلي: [البسيط]

استقدر الله خيرا وارضينّ به

فبينما العسر إذ دارت مياسير

وهو الشاهد رقم [130] من كتابنا فتح القريب المجيب. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَأْتُوا:} مضارع مجزوم ب: {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بِالشُّهَداءِ:} متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذ) إليها. {فَأُولئِكَ:} الفاء: واقعة في جواب (إذ)؛ لأنها مشبهة ب «إن» الشرطية لفظا ومعنى، كما رأيت قاله في المغني. وإعراب (أولئك

) إلخ مثل إعراب {وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} في الآية رقم [4] بلا فارق، و {عِنْدَ} ظرف مكان متعلق ب:{الْكاذِبُونَ،}

ص: 342

و {عِنْدَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية:{فَأُولئِكَ..} . إلخ جواب (إذ) لا محل لها، و (إذ) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.

{وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14)}

الشرح: معنى الآية: لولا أني قضيت أن أتفضل عليكم في الدنيا بضروب النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة، وأن أتكرم عليكم في الآخرة بالرحمة، والعفو، والمغفرة؛ لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك. والخطاب للذين قذفوا السيدة عائشة، وهذا الفضل هو تأخير العذاب، وقبول التوبة لمن تاب. هذا؛ والإفاضة: الأخذ في الحديث. يقال:

أفاض في الحديث، وخاض فيه واندفع، وانظر شرح (الآخرة) في الآية رقم [11] من سورة (الحج)، وشرح {عَذابٌ} في الآية رقم [46] من سورة (الأنبياء).

الإعراب: {وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ:} انظر الآية رقم [10] ففيها الكفاية مع ملاحظة:

أن جواب (لولا) حذف هناك، وذكر هنا. {فِي الدُّنْيا:} متعلقان ب: (رحمته)، أو هما متعلقان بمحذوف حال منه. (الآخرة): معطوف على ما قبله. {لَمَسَّكُمْ:} ماض، والكاف مفعول به، واللام واقعة في جواب (لولا). {فِيما:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما:) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:{فِي،} وجملة:

{أَفَضْتُمْ فِيهِ} صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلا ب: {فِي،} وعلى اعتبار {فِيما} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب: {فِي} التقدير:

لمسكم بسبب إفاضتكم، وخوضكم فيه، وهذا على اعتبار (في) للسببية، وفيه ضعف ظاهر.

{عَذابٌ:} فاعل (مس). {عَظِيمٌ:} صفة له، وجملة:{لَمَسَّكُمْ فِيما..} . إلخ جواب (لولا) لا محل لها، و (لولا) ومدخولها كلام معطوف على مثله في الآية رقم [10] وهو في معنى التوكيد له، فيكون ما بينهما معترضا، أو هو مستأنف، ولا محل له على الاعتبارين.

{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (15)}

الشرح: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ:} الضمير المنصوب عائد على (الإفك). هذا؛ والتّلقّي، والتّلقّف، والتّلقّن معان متقاربة خلا أن في الأول معنى الاستقبال، وفي الثاني معنى الخطف والأخذ بسرعة، وفي الثالث معنى الحذق، والمهارة. هذا؛ وقرأ جمهور السبعة بفتح التاء، واللام، والقاف

ص: 343

المشددة، ويقرأ بقراآت كثيرة. والمعنى: يروي حديث الإفك بعضكم عن بعض، وذلك: أن الرجل منهم كان يلقى الرجل، فيقول: بلغني كذا، وكذا، فينقله الآخر، إلى غيره بدون تروّ، وتعقّل.

هذا؛ و (ألسنتكم): جمع: لسان، ويجمع أيضا على: لسن بضم اللام، وضم السين، وتسكينها أيضا، وهو على هذا مؤنث كذراع، وأذرع، والأول مذكر، كحمار، وأحمرة، وتصغيره على التذكير: لسين، وعلى التأنيث: لسينة، وقد يجعل اللسان كناية عن كلمة السوء، كما في قول الشاعر:[الوافر]

لسان السّوء تهديها إلينا

وحنت، وما حسبتك أن تحينا

فيؤنث لا غير، كما يجعل كناية عن الرسالة، أو عن القصيدة من الشعر كقول الآخر:[المتقارب]

أتتني لسان بني عامر

فجلّى أحاديثها عن بصر

وقد أطلقه الله على القرآن الكريم بكامله مع التذكير في قوله في سورة (النحل) الآية رقم [103] حيث قال جل ذكره: {وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} كما أطلقه على الثناء الجميل، والذكر الحسن في قوله:{وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} الآية رقم [50] من سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام.

{وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} أي: من غير أن تتأكدوا من صحته، وتعلموا: أنه حق، وإنما قيد بالأفواه؛ مع أن القول لا يكون إلا بالفم؛ لأن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب، ثم يترجم عنه اللسان، والإفك الذي تكلموا فيه ليس إلا قولا يدور في أفواههم من غير ترجمة عن علم به في القلب، كقوله تعالى:{يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} رقم [167] من سورة (آل عمران).

هذا؛ وجمع (أفواهكم) على الأصل؛ لأن الأصل في فم: فوه، مثل: حوض، وأحواض.

{وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً:} تظنون ما تكلمتم به سهلا، لا إثم فيه، ولا حرج. هذا؛ وإعلال «هيّن» مثل إعلال «ميّت» في الآية رقم [15] من سورة (المؤمنون). هذا؛ و «حسب» من باب: تعب في لغة جميع العرب، إلا بني كنانة، فإنهم يكسرون المضارع مع كسر الماضي أيضا على غير قياس، فيكون من الباب السادس. ويقرأ (تحسبونه) بفتح السين، وكسرها، والمصدر: الحسبان بكسر الحاء، وحسبت المال حسبا من باب: قتل بمعنى: أحصيته عددا. {وَهُوَ} أي: الإفك الذي تكلموا به. {عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ:} كبيرة من الكبائر. وهذا مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث القبرين: «إنهما ليعذّبان، وما يعذّبان في كبير» . أي بالنسبة إليكم. هذا؛ وقد جزع بعضهم عند الموت، فقيل له ذلك، فقال: أخاف ذنبا لم يكن مني على بال، وهو عند الله عظيم، ومعنى {عِنْدَ اللهِ:} في حكمه وشريعته.

الإعراب: {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بأحد الفعلين: (مسكم) أو {أَفَضْتُمْ} . هذا؛ وإن اعتبرتها حرف تعليل لما قبلها؛ فالمعنى لا يأباه.

{تَلَقَّوْنَهُ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله، والهاء مفعول به،

ص: 344

والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذ) إليها، أو هي تعليل لما قبلها، فلا محل لها.

{بِأَلْسِنَتِكُمْ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:{وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ:} معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها، والكاف في محل جر بالإضافة. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، و (تقولون) بمعنى: تنطقون. {لَيْسَ:}

ماض ناقص. {لَكُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر {لَيْسَ} تقدم على اسمها. {بِهِ:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، أو بمحذوف حال من {عِلْمٌ} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا

إلخ.

{عِلْمٌ:} اسم {لَيْسَ} مؤخر، والجملة الفعلية صلة ما، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلا بالباء. {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً:} معطوفة على ما قبلها. {وَهُوَ:} الواو: واو الحال.

(هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق ب: {عَظِيمٌ} بعده، و (عند) مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {عَظِيمٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الواو، والضمير.

{وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16)}

الشرح: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ..} . إلخ: هذا عتاب لجميع المؤمنين، أي: كان ينبغي عليكم أن تنكروه، ولا تتناقلوه بألسنتكم، وكان الواجب عليكم أن تنزهوا الله عن أن يقع من زوج نبيه صلى الله عليه وسلم وأن تحكموا على هذه المقالة بأنها بهتان، وحقيقة البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه، والغيبة أن يقال في الإنسان ما فيه، وهذا المعنى جاء في قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:«أتدرون ما الغيبة؟» . قالوا: الله، ورسوله أعلم! قال:«ذكرك أخاك فيما يكره لو بلغه ذلك» . قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول، فقد بهتّه» . رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، عن أبي هريرة-رضي الله عنه.

هذا؛ و {سُبْحانَكَ:} هنا للتعجب من عظم الأمر. قال في الكشاف: فإن قلت: ما معنى التعجب في كلمة التسبيح؛ قلت: الأصل في ذلك أن يسبح الله عند رؤية العجيب من صنائعه، ثم كثر، حتى استعمل في كل متعجب منه، أي بدون ملاحظة معنى التنزيه، أو لتنزيه الله تعالى من أن تكون حرمة نبيه فاجرة، فإنه لا يجوز؛ للتنفير عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو خلاف مقصود الإرسال بخلاف كفرها. انتهى.

تنبيه: حث الله المؤمنين على تنزيه الله، وتقديسه من أن تكون امرأة نبيه فاجرة، وإنما جاز أن تكون امرأة النبي كافرة، كالذي حصل من امرأة نوح، وامرأة لوط، ولم يجز أن تكون فاجرة؛ لأن النبي مبعوث إلى الكفار، ليدعوهم إلى التوحيد، والإيمان، فيجب أن لا يكون معه ما ينفرهم عنه،

ص: 345

والكفر غير منفر عندهم، وأما الدعارة، والفجور فمن أعظم المنفرات، وهذا يفيد أن الزنى لم تبحه أمة من الأمم، ما عدا الأمم البدائية في الأزمان الغابرة، والأمم الإباحية في العصور الحديثة.

هذا؛ وإعلال {قُلْتُمْ} مثل إعلال {كُنْتُمْ} في الآية رقم [38] من سورة (الأنبياء)، وانظر شرح {يَسْمَعُ} في الآية رقم [45] منها، وانظر الكلام في الآية رقم [109] من سورة (المؤمنون)، وشرح (سبحان) في الآية رقم [91] منها.

الإعراب: {وَلَوْلا:} الواو: حرف عطف. (لولا): حرف تحضيص، واعتبرها ابن هشام مفيدة للتوبيخ، والتنديم. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان متعلق بالفعل {قُلْتُمْ} فهو مبني على السكون في محل نصب، قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز الفصل بين لولا، وقلتم بالظرف. قلت: للظروف شأن، وهو تنزلها من الأشياء منزلة أنفسها لوقوعها فيها، وأنها لا تنفك عنها، فلذلك يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها. قال أبو حيان: وهذا يوهم اختصاص ذلك بالظرف، وهو جار في المفعول به، تقول: لولا زيدا ضربت، ولولا عمرا قتلت، وقال الزمخشري أيضا: فإن قلت: أي فائدة في تقديم الظرف حتى وقع فاصلا؟ قلت: الفائدة فيه بيان: أنه كان الواجب عليهم أن يحترزوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب تقديمه.

{سَمِعْتُمُوهُ:} ماض، وفاعله، ومفعوله، والميم علامة جمع الذكور، وحركت بالضم لتحسين اللفظ وتسهيله، فتولدت واو الإشباع، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذ) إليها. {قُلْتُمْ:}

فعل، وفاعل. {ما:} نافية. {يَكُونُ:} مضارع ناقص. {لَنا:} متعلقان بمحذوف خبر {يَكُونُ} تقدم على الاسم. {أَنْ نَتَكَلَّمَ:} مضارع منصوب ب: {أَنْ،} والفاعل مستتر تقديره: «نحن» ، والمصدر المؤول من المضارع، وناصبه في محل رفع اسم {يَكُونُ} مؤخر. {بِهذا:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء حرف تنبيه مقحم بين الجار والمجرور، لا محل له، وجملة:{ما يَكُونُ..} .

إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْتُمْ..} . إلخ ابتدائية لا محل لها من الإعراب. وجملة:

{وَلَوْلا إِذْ..} . إلخ معطوفة على ما يشبهها في الآية رقم [12] لا محل لها مثلها. {سُبْحانَكَ:} مفعول مطلق لفعل محذوف، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو من إضافته لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا. {بِهذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {بُهْتانٌ:} خبره. {عَظِيمٌ:} صفة (بهتان) والجملتان: {سُبْحانَكَ هذا..} . إلخ في محل نصب مقول القول.

{يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)}

الشرح: {يَعِظُكُمُ اللهُ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يحرم الله عليكم. وقيل:

معناه ينهاكم الله. {أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً} أي: في عائشة؛ لأن مثله لا يكون إلا نظير القول في

ص: 346

المقول عنه بعينه، أو فيمن كان في مرتبته من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ:} فلا تعودوا لقذف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه تعريض بأن من قذف أزواجه عليه الصلاة والسلام فهو ليس بمؤمن.

قال هشام بن عمار: سمعت مالكا يقول: من سبّ أبا بكر، وعمر أدّب، ومن سب عائشة قتل؛ لأن الله يقول:{يَعِظُكُمُ اللهُ..} . إلخ فمن سب عائشة فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل. وقال أصحاب الشافعي: من سب عائشة-رضي الله عنها-أدّب كما في سائر المؤمنين، ولا يسلب عنه الإيمان، وإنما هو على حد قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه» .

قال أصحاب مالك في الرد عليهم بقولهم: ليس الأمر كما زعمتم، فإن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة، فبرأها الله تعالى مما قالوا، فكل من سبها بما برأها الله منه فهو مكذب لله، ومن كذب الله فهو كافر. فهذا طريق قول مالك، وهي سبيل الآية، وهي لائحة لأهل البصائر، ولو أن رجلا سب عائشة بغير ما برأها الله منه لكان جزاؤه الأدب. انتهى. قرطبي بتصرف رضي الله عنهم أجمعين-.

هذا؛ وإعلال «يعظ» مثل إعلال «يعد» في الآية رقم [35] من سورة (المؤمنون)، وانظر شرح (مثل) في الآية رقم [60] من سورة (الحج)، وشرح (الأبد) في الآية رقم [4].

الإعراب: {يَعِظُكُمُ:} مضارع، والكاف مفعول به. {اللهُ:} فاعله. {أَنْ تَعُودُوا:} مضارع منصوب ب: {أَنْ،} وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وفي المصدر المؤول من المضارع وناصبه أوجه: أحدها: أنه مجرور ب: «عن» محذوفة، وهذا على تأويل {يَعِظُكُمُ} ب «ينهاكم» ، أو هو مجرور ب «في» محذوفة على لفظه، وهو عند البصريين في محل جر بإضافته لمفعول لأجله محذوف، التقدير: كراهة عودكم، وهو عند الكوفيين على تقدير:

لئلا تعودوا، وقد مر معنا كثير من مثله. {لِمِثْلِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {أَبَداً:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. {أَنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {مُؤْمِنِينَ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، وجملة:{كُنْتُمْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: إن كنتم مؤمنين؛ فلا تعودوا

إلخ، وجملة:{يَعِظُكُمُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)}

الشرح: المعنى يبين ويوضح الله الدلالات الواضحات، وأحكام الشرائع، والآداب الجميلة، {وَاللهُ عَلِيمٌ} بأمر عائشة، وصفوان، وبكم جميعا، وأعمالكم، وتصرفاتكم.

{حَكِيمٌ:} في جميع تشريعاته، وتدابيره، بل وبجميع صنعه.

ص: 347

الإعراب: {وَيُبَيِّنُ:} الواو: حرف عطف. (يبين): مضارع. {اللهُ:} فاعله. {لَكُمُ:}

متعلقان به. {الْآياتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والجملة الاسمية:(الله عليم حكيم) في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو، وإعادة الاسم الكريم بلفظه للتعظيم والتشريف، وكان حقه الإضمار، وجملة:

(يبين

) إلخ معطوفة على جملة: {يَعِظُكُمُ اللهُ..} . إلخ لا محل لها مثلها.

{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19)}

الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ} أي: تفشو، وتظهر، وتنتشر. {فِي الَّذِينَ آمَنُوا} أي: في المحصنين، والمحصنات، والمراد بهذا اللفظ العام عائشة وصفوان-رضي الله عنهما، وقيل: بل المراد العموم، فكل من أحب أن تشيع الفاحشة، أو تظهر في بيت من بيوت المسلمين فهو داخل في حكم هذه الآية.

أقول: وهو الحق؛ لأن خصوص السبب لا يمنع التعميم، كما قد قررته مرارا. {لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا} أي: الحد، والذم في الدنيا، (و) في (الآخرة) لهم عذاب النار، وهذا للمنافقين فأما المؤمنون إذا أقيم عليهم حد القذف، فهو كفارة لهم، وقال الطبري: معناه إن مات مصرا على القذف غير تائب.

{وَاللهُ يَعْلَمُ} أي: مقدار عظم الذنب، والمجازاة عليه، ويعلم كل شيء من براءة عائشة، وما خاضوا فيه

إلخ. {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ:} قيل: معناه: يعلم ما في قلب من يحب أن تشيع الفاحشة في المؤمنين والمؤمنات، فيجازيه على ذلك، وأنتم لا تعلمون ذلك، فقد روي من حديث أبي الدرداء-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أيّما رجل شدّ عضد امرئ من الناس في خصومة لا علم له بها، فهو في سخط الله حتى ينزع عنها، وأيّما رجل قال بشفاعته دون حدّ من حدود الله أن يقام؛ فقد عاند الله حقا، وأقدم على سخطه، وعليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة. وأيّما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة، وهو منها بريء يرى أن يشينه بها في الدنيا؛ كان حقّا على الله تعالى أن يرميه بها في النار» . ثم تلا مصداقه من كتاب الله تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ..} . إلخ. الآية. انتهى. قرطبي.

هذا؛ والفعل (يعلم) من المعرفة، لا من العلم. انظر شرح ذلك في الآية رقم [39] من سورة (الأنبياء)، وشرح لفظ الجلالة في الآية رقم [3] من سورة (الحج)، وشرح (الإيمان) في الآية رقم [14] منها.

ص: 348

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسم {إِنَّ} . {يُحِبُّونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والمصدر المؤول من:

{أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ} في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية:{يُحِبُّونَ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها. {فِي الَّذِينَ:} متعلقان بالفعل {تَشِيعَ،} وجملة: {آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {لَهُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر.

{أَلِيمٌ:} صفة له. {فِي الدُّنْيا:} متعلقان ب: {عَذابٌ} أو بمحذوف صفة له. (الآخرة): معطوف على {الدُّنْيا،} والجملة الاسمية: {لَهُمْ عَذابٌ..} . إلخ في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ..} . إلخ ابتدائية، أو مستأنفة، لا محل لها. {وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف.

(الله): مبتدأ. {يَعْلَمُ:} مضارع، وفاعله يعود إلى (الله)، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. (أنتم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لا:} نافية. {تَعْلَمُونَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20)}

الشرح: قال البيضاوي رحمه الله تعالى: هذا تكرير للمنة بترك المعاجلة بالعقاب للدلالة على عظم الجريمة، ولذا عطف قوله:{وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} على حصول فضله، ورحمته عليهم.

انتهى. هذا؛ ومن رأفته سبحانه إظهار براءة المقذوفين، وإثباتها. ومن رحمته غفران ذنب القاذف إذا تاب. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يريد بالخطاب مسطحا، وحسان بن ثابت، وحمنة رضي الله عنهم أجمعين-، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه. وانظر شرح (رؤوف) في الآية رقم [65] من سورة (الحج). هذا؛ وإعراب الآية مثل إعراب الآية رقم [10] بلا فارق. تأمّل.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ:} زخارفه، ووساوسه، وأحابيله، فيحمل الإنسان على إشاعة الفاحشة، والكذب، والافتراء، والبهتان. {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ:} يدعو، ويزين، ويزخرف. {بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ} أي: بالقبائح من الأقوال، والأفعال،

ص: 349

وكل ما يكره الله تعالى. والآية عامة في حق كل واحد؛ لأن كل مكلف ممنوع من ذلك، وانظر مرجع الضمير في الإعراب.

{وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} أي: ما اهتدى، ولا أسلم، ولا عرف رشدا، ولا صلح. هذا؛ ويقرأ بتشديد الكاف، فيكون المعنى: إن تزكيته، وتطهيره، وهدايته لكم إنما هي بفضله، وتوفيقه. {وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي:} يطهر بالتوبة، وصالح الأعمال {مَنْ يَشاءُ} تطهيره من الذنب بالرحمة، وقبول التوبة. {وَاللهُ سَمِيعٌ:} لأقوالكم. {عَلِيمٌ:} بنياتكم وإخلاصكم.

هذا؛ و {خُطُواتِ} جمع: خطوة بضم الخاء، وسكون الطاء، وهي في الأصل ما بين القدمين، فاستعيرت هنا لوسوسة الشيطان، وزخرفته، وتجمع في القلة على «خطوات» بضم الخاء، وتثليث الطاء، أي الضم بإتباع ثانيه لأوله، والفتح، وإبقاء السكون على حاله كما في المفرد، وتجمع في الكثرة على خطى بضم الخاء. هذا؛ والخطوة بفتح الخاء: المرة الواحدة، وجمعها: خطوات بفتح الخاء والطاء لا غير.

بعد هذا أنقل لك ما قاله المرحوم مصطفى الغلاييني في جامع الدروس العربية: وإن جمعت اسما ثلاثيا مضموم الأول، أو مكسوره، ساكن الثاني، صحيحه، خاليا من الإدغام، مثل:

خطوة، وجمل، وهند، وقطعة، وفقرة؛ جاز فيه ثلاثة أوجه: الأول: إتباع ثانية لأوله، كخطوات، وجملات، وهندات، وقطعات، وفقرات. الثاني: فتح ثانيه، كخطوات، وجملات، وهندات، وقطعات، وفقرات. الثالث: إبقاء ثانيه على حاله من السكون، كخطوات، وجملات، وهندات، وقطعات، وفقرات.

أما الاسم فوق الثلاثي، كزينب، والاسم الصفة، كضخمة، والاسم الثلاثي المحرك الثاني، كشجرة، والاسم الثلاثي الذي ثانيه حرف علة، كجوزة، والاسم الثلاثي الذي فيه إدغام، كمرّة، فكل ذلك لا تغيير فيه عند جمعه جمع مؤنث سالما. انتهى.

الإعراب: (يا): حرف نداء ينوب مناب: «أدعو» . (أيها): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب بأداة النداء، و (ها): حرف تنبيه لا محل له، وأقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع بدل من (أي) أو عطف بيان عليه، أو صفة له، وانظر الآية رقم [1] من سورة (الحج) ففيها بحث جيد، وجملة:

{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {لا تَتَّبِعُوا:} مضارع مجزوم ب {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {خُطُواتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، و {خُطُواتِ} مضاف، و {الشَّيْطانِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الفعلية:{لا تَتَّبِعُوا..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، كالجملة الندائية قبلها.

ص: 350

{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَتَّبِعْ:} مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {خُطُواتِ:} مفعول به، و {الشَّيْطانِ:} مضاف إليه، وجواب الشرط محذوف، التقدير: فقد غوى وضل. {فَإِنَّهُ:} الفاء:

حرف تعليل. (إنه): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها، وهي عائدة على:{الشَّيْطانِ} وقيل:

عائدة على (من)، والمعنى: إن المتبع للشيطان يأمر

إلخ، فإنه بسبب اتباعه القبائح صار {يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ؛} لأنه لما ضل في نفسه؛ صار يضل غيره؛ لأن شأن الشيطان الإضلال، ومن اتبعه فإنه يترقى من رتبة الضلال، والفساد، إلى رتبة الإضلال، والإفساد. {يَأْمُرُ:}

مضارع، وفاعله يعود إلى (من)، أو إلى {الشَّيْطانِ}. كما رأيت. والثاني هو المتبادر إلى الفهم. {بِالْفَحْشاءِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {وَالْمُنْكَرِ:} معطوف على ما قبله، وجملة:

{يَأْمُرُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ) وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط، وقيل: هو جملة الجواب، وقيل: هو الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين، والجملة الاسمية:{وَمَنْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. والجملة الاسمية: {فَإِنَّهُ..} . إلخ تعليل للنهي، لا محل لها، أو لجواب الشرط المحذوف، حسب ما رأيت في مرجع الضمير.

{وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ:} انظر الآية رقم [10] ففيها الكفاية. {ما:} نافية. {زَكى:}

ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل يعود إلى (الله). {مِنْكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {أَحَدٍ} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها؛ صار حالا» . وهذا هو الأقوى. {مَنْ:} حرف صلة.

{أَحَدٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {أَبَداً:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، وجملة:{ما زَكى..} .

إلخ جواب (لولا). وقال الكسائي: هذه الجملة جواب لقوله أولا، وثانيا:{وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ..} .

إلخ وما بينهما معترض لا محل له، و (لولا) ومدخولها كلام معطوف على مثله فيما تقدم، لا محل له مثله.

{وَلكِنَّ:} الواو: حرف عطف. (لكن): حرف مشبه بالفعل. {اللهِ:} اسمها. {يُزَكِّي:}

مضارع مرفوع

إلخ، والفاعل يعود إلى {اللهِ،} والجملة الفعلية خبر (لكن). {مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: يزكي الذي، أو شيئا يشاء تزكيته.

والجملة الاسمية: {وَلكِنَّ..} . إلخ معطوفة على جملة: {ما زَكى..} . إلخ لا محل لها مثلها، والجملة الاسمية:{وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} مستأنفة، لا محل لها، واعتبارها حالا من فاعل {يُزَكِّي} المستتر لا بأس به، وعليه: فالرابط: الواو، وإعادة الاسم الكريم بلفظه للتعظيم، والتشريف.

ص: 351

{وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)}

الشرح: {وَلا يَأْتَلِ:} ولا يحلف، من «الأليّة» وهي اليمين، ومنه قوله تعالى:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ} الآية رقم [226] من سورة (البقرة)، وقالت جماعة: لا يقصّر، من قولك: ألوت في كذا: إذا قصرت فيه، ومنه قوله تعالى:{لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً..} . إلخ الآية رقم [118] من سورة (آل عمران).

فالماضي: ائتلى، والمضارع: يأتلي، ولم أره في القاموس المحيط بهذا المعنى، ولكن فيه: أتل، يأتل أتلا، وأتلانا، وأتلالا محركتين: قارب الخطو في غضب، ومن الطعام امتلأ، والأوتل: الشبعان، وقوم أتل بضمتين، ووتل شباع انتهى. هذا؛ ويقرأ:«(ولا يتألّ)» من الأليّة، وهي اليمين. وفي المختار: آلى يؤلي إيلاء: حلف، وتألّى، وائتلى مثله، قلت: ومنه قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ} والأليّة اليمين، وجمعها: ألايا، والألية بالفتح: ألية الشاة، ولا تقل: إلية بالكسر، ولا: ليّة وتثنيتها: أليان بغير تاء. انتهى.

{أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ} أي: في الدين، ومكارم الأخلاق. {وَالسَّعَةِ} أي: في المال، والغنى.

{أَنْ يُؤْتُوا..} . إلخ أي: يعطوا وينفقوا من أموالهم على أصحاب القرابات والمساكين {وَالْمُهاجِرِينَ} من وطنهم من أجل دين الله. هذا؛ ويقرأ: «(تؤتوا)» بتاء المضارعة على الالتفات، ويعضده قوله:

{أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ} وانظر الالتفات في الآية رقم [34] من سورة (الأنبياء).

{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا:} وليتجاوزوا عن الجفاء، والإساءة عمن أساء إليهم، وليعرضوا عن عقوبتهم، وليرجعوا إلى الإحسان عمن أساء إليهم. هذا؛ وأولوا، وأولي هو جمع لا واحد له من لفظه، وإنما واحده «ذو» المضاف إن كان مرفوعا، و «ذا» المضاف إن كان منصوبا، و «ذي» المضاف إن كان مجرورا.

وأما (ليعفوا) فهو بمعنى: ليصفحوا، فهو مرادف لما بعده، وهو كثير في القرآن بهذا المعنى كثرة لا تعد، ولا تحصى، كما يأتي (عفا) بمعنى الكثرة، قال تعالى:{ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتّى عَفَوْا} أي: حتى كثروا، ونموا في أنفسهم، وأموالهم. من قولهم: عفا النبات، وعفا الشحم، والوبر: إذا كثر. قال الحطيئة: [الطويل]

بمستأسد الغربان عاف نباته

بأسوق عافيات الشحم كوم

وعفا المنزل، يعفو عفاء: إذا انمحت آثاره، وذهبت معالمه، قال الشاعر:[البسيط]

وبالصّريمة منهم منزل خلق

عاف تغيّر إلاّ النّؤي والوتد

ص: 352

وعفو المال ما يفضل عن النفقة، قال تعالى:{وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} والعافي: طالب المعروف، والإحسان، قال عروة بن الورد:[الطويل]

وإنّي امرؤ عافي إنائي شركة

وأنت امرؤ عافي إنائك واحد

وجمع العافي: عفاة، قال الأعشى:[المتقارب]

تطوف العفاة بأبوابه

كطوف النّصارى ببيت الوثن

بعد هذا: فالآية الكريمة نزلت في قصة أبي بكر-رضي الله عنه-ومسطح بن أثاثة، وهو ابن خالته، وكان من المهاجرين البدريين المساكين، وكان أبو بكر-رضي الله عنه-ينفق عليه لفقره، وقرابته، فلما خاض مسطح في الإفك مع الخائضين، وأنزل الله براءة السيدة عائشة-كما رأيت فيما سبق-حلف أبو بكر-رضي الله عنه-ألا ينفق عليه، ولا ينفعه بشيء أبدا. فلما نزلت الآية الكريمة؛ قال أبو بكر-رضي الله عنه: والله إني لأحب أن يغفر الله لي! فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: لا أنزعها منه أبدا، وجاء مسطح، فاعتذر إليه، وأقيم الحد عليه، كما رأيت فيما سبق.

وقال الضحاك، وابن عباس-رضي الله عنهما: إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم، وصلاتهم عن كل من قال في الإفك، وقالوا: لا نصل من تكلم في شأن عائشة. فنزلت الآية فيهم جميعا. والأول أصح، وذكره بلفظ الجمع فيه دلالة واضحة على فضل أبي بكر-رضي الله عنه-وعلو شأنه، ومرتبته؛ حيث احتمل الأذى من ذوي القربى، ورجع على مسطح بما كان ينفقه عليه، وهذا من أشد الجهاد؛ لأنه جهاد النفس. هذا؛ وخصوص السبب لا يمنع التعميم، فهنيئا لمن اقتدى بأبي بكر-رضي الله عنه-في عفوه وصفحه عمّن أساء إليه. وخذ هذه الطرفة اللطيفة، وهي: أن ابن المقري-رحمه الله تعالى-منع عن ولده النفقة تأديبا له على أمر وقع منه، فكتب إلى والده رحمه الله تعالى يقول:[السريع]

لا تقطعن عادة برّ ولا

تجعل عقاب المرء في رزقه

فإنّ أمر الإفك من مسطح

يحطّ قدر النّجم من أفقه

وقد جرى منه الذي قد جرى

وعوتب الصّدّيق في حقّه

فكتب إليه والده رحمه الله تعالى يقول: [السريع]

قد يمنع المضطرّ من ميتة

إذا عصى بالسّير في طرقه

لأنّه يقوى على توبة

تكون إيصالا إلى رزقه

لو لم يتب مسطح من ذنبه

ما عوتب الصّدّيق في حقّه

ص: 353

انتهى

من السيرة الحلبية. وابن المقري-رحمه الله تعالى-من علماء الشافعية القدامى.

هذا؛ وفي الآية دليل، بل وحث كبير على أن من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها؛ فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه. كيف لا؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن سمرة:«إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرا منها، فائت الذي هو خير، وكفّر عن يمينك» . ويروى الحديث أيضا بلفظ الغيبة، وكلاهما في الصحيح. هذا؛ وقد ذكرت لك أن آية البقرة رقم [223] نزلت في أبي بكر-رضي الله عنه-وهي:{وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا..} . إلخ.

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف استئناف. (لا): ناهية جازمة. {يَأْتَلِ:} مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها. {أُولُوا:} فاعله مرفوع وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {أُولُوا} مضاف، و {الْفَضْلِ:} مضاف إليه. {مِنْكُمْ:}

متعلقان بمحذوف حال من {أُولُوا الْفَضْلِ} . {وَالسَّعَةِ:} معطوف على ما قبله. {أَنْ يُؤْتُوا:}

مضارع منصوب ب: {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمصدر المؤول من المضارع، وناصبه في محل جر بحرف جر محذوف مع «لا» النافية؛ إذ التقدير: على أن لا يؤتوا. ذكره الزجاج، وقال أبو عبيدة: التقدير: في أن يؤتوا. والأول أوضح معنى كما ترى.

{أُولِي:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، و (أولي) مضاف، و {الْقُرْبى:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف. {وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ:} معطوفان على {أُولِي} وعلامة نصب الأول الفتحة، وعلامة نصب الثاني الياء. تأمل. {فِي سَبِيلِ:} متعلقان بالفعل {يُؤْتُوا} وتعليقهما ب: (المهاجرين) جيد، و (سبيل) مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، وجملة:{وَلا يَأْتَلِ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَلْيَعْفُوا:} مضارع مجزوم بلام الأمر، وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{وَلا يَأْتَلِ..} . إلخ لا محل لها، وجملة {وَلْيَصْفَحُوا} معطوفة أيضا لا محل لها. هذا؛ ومتعلق الفعلين محذوف. {أَلا:} حرف عرض، وهو أولى من اعتباره حرف تحضيض. {تُحِبُّونَ:} مضارع، وفاعله، والمصدر المؤول من:{أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ} في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية:{أَلا تُحِبُّونَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو، وإعادة الاسم الكريم بلفظه للتشريف، والتعظيم. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

ص: 354

{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23)}

الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ} أي: يقذفون بالزنى، وانظر الآية رقم [4] ففيها الكفاية. {الْغافِلاتِ:} قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: السليمات الصدور، والنقيات القلوب، اللاتي ليس فيهن دهاء، ولا مكر؛ لأنهن لم يجربن الأمور، ولم يرزن الأحوال، فلا يفطنّ لما تفطن له المجربات العرافات، قال الشاعر:[الكامل]

ولقد لهوت بطفلة ميّالة

بلهاء تطلعني على أسرارها

الطّفلة بفتح الطاء: المرأة الناعمة، وطفلة الأنامل: رخصتها، وميّالة، أي: مختالة، وبلهاء من البله، وهي التي لا مكر لها، ولا دهاء، وكذلك البله من الرجال في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«أكثر أهل الجنّة البله» . وهو جمع الأبله، وهو الغافل عن الشر، المطبوع على الخير، وأما الأبله الذي لا عقل له فغير مراد في الحديث؛ لأن المقام مقام مدح. {لُعِنُوا فِي الدُّنْيا} أي: بإقامة الحد عليهم. {وَالْآخِرَةِ} أي: بالطرد من رحمة الله. {وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ:} جعل الله القذفة ملعونين في الدارين، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة؛ إن لم يتوبوا لعظم ذنوبهم.

قيل: هو حكم كل قاذف ما لم يتب، وقيل: هو مخصوص بمن قذف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لا توبة لعبد الله بن أبي، ولو فتشت وعيدات القرآن لم تجد أغلظ مما نزل في إفك عائشة-رضي الله عنها، علما بأن ما ذكر في هذه السورة يشمل القاذفين، والقاذفات، والمقذوفين، والمقذوفات على السواء. وذلك بالنسبة للأجر، والثواب، والغضب، والعقاب.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها. {يَرْمُونَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ:} ثلاث صفات لموصوف محذوف منصوب؛ إذ التقدير: النساء المحصنات

إلخ، وعلامة النصب فيهن الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {لُعِنُوا:} ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق. {فِي الدُّنْيا:} متعلقان بالفعل قبلهما. (الآخرة): معطوف على ما قبله، وجملة:{يَرْمُونَ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها، والجملة الفعلية:{لُعِنُوا..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ) والجملة الاسمية: {إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. {وَلَهُمْ:} الواو: حرف عطف (لهم): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَذابٌ:}

مبتدأ مؤخر. {عَظِيمٌ:} صفة له، والجملة الاسمية معطوفة على جملة:{لُعِنُوا..} . إلخ فهي في محل رفع مثلها، أو هي في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير. تأمل.

ص: 355

{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24)}

الشرح: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} أي: تنطق الألسنة في الآخرة بما قذفت في الدنيا، وهذا قبل أن يختم الله على أفواههم، كما قال تعالى في سورة (يس) رقم [65]:{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ..} . وبعد الختم تنطق الأيدي والأرجل بما عملت في الدنيا، كما تشهد الأسماع والأبصار والجلود على العبد بما عمل صاحبها في الدنيا، وهو ما أفادته الآية رقم [20] من سورة فصلت:{حَتّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} هذا؛ وقول القرطبي، رحمه الله تعالى:«والمعنى: يوم تشهد ألسنة بعضهم على بعض بما كانوا يعملون من القذف، والبهتان» لا وجه له.

الإعراب: {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بمتعلق (لهم) أي في الخبر المحذوف، وإنما لم يعلق ب:{عَذابٌ} وهو مصدر، وشرط عمله عند البصريين ألا يوصف، وهنا قد وصف، وأجيب عن هذا بأن الظرف يتسع فيه ما لا يتسع في غيره. {تَشْهَدُ:} مضارع. {عَلَيْهِمْ:} متعلقان به.

{أَلْسِنَتُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{تَشْهَدُ..} . إلخ في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها. {وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ:} معطوفان على ما قبلهما. {بِما:} متعلقان بالفعل (تشهد)، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها. {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{يَعْمَلُونَ} في محل نصب خبر (كان)، والمفعول محذوف، وهو العائد، أو الرابط؛ إذ التقدير: بالذي، أو: بشيء كانوا يعملونه. وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول بما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: تشهد عليهم ألسنتهم

بعملهم. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)}

الشرح: {يَوْمَئِذٍ} أي: يوم تشهد عليهم ألسنتهم، وهو يوم القيامة الذي لا ريب فيه، وانظر الآية رقم [56] من سورة (الحج). {يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ} أي: جزاءهم الواجب. وقيل:

حسابهم العدل، وانظر شرح {الدِّينِ} في الآية رقم [78] من سورة (الحج)، وانظر شرح لفظ الجلالة في الآية رقم [3] منها. {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} أي: الموجود الظاهر الذي بقدرته وجود كل شيء. وقال البيضاوي: الثابت بذاته، الظاهر بألوهيته، لا يشاركه في ذلك غيره، ولا يقدر على الثواب، والعقاب سواه. أو ذو الحق البيّن، أي: العادل، الظاهر عدله، ومن كان هذا شأنه، ينتقم من الظالم للمظلوم لا محالة. انتهى.

ص: 356

وقيل: معناه: يبين لهم أحقّيّة ما كان يعدهم في الدنيا. وقال عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما: وذلك أن عبد الله بن أبي ابن سلول كان يشك في الدين، فيعلم يوم القيامة: أن الله هو الحق المبين؛ أي لارتفاع الشكوك، وحصول العلم الضروري.

قال النسفي-رحمه الله تعالى-ولم يغلّظ الله في القرآن في شيء من المعاصي تغليظه في إفك عائشة-رضي الله عنها، فأوجز في ذلك، وأشبع، وفصّل، وأجمل، وأكد، وكرّر، وما ذاك إلا لأمر. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما: من أذنب ذنبا، ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة-رضي الله عنها-وهذا منه تعظيم ومبالغة في أمر الإفك. ولقد برأ الله أربعة بأربعة: برأ يوسف عليه السلام بشاهد من أهلها، وبرأ موسى عليه السلام من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، وبرأ مريم عليهاالسّلام بإنطاق ولدها، وبرأ عائشة-رضي الله عنها-بهذه الآي العظام في كتابه المعجز، المتلوّ على وجه الدهر بهذه المبالغات. فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك، وما ذاك إلا لإظهار علوّ منزلة رسوله، والتنبيه على إنافة محله صلى الله عليه وسلم وعلى آله. انتهى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {يَوْمَئِذٍ:} ظرف زمان متعلق بأحد الفعلين: {يُوَفِّيهِمُ} و (يعلمون)، و (إذ) ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وحرك بالكسر لالتقاء الساكنين، والتنوين عوض عن الجملة المحذوفة التي رأيت تقديرها في الشرح. {يُوَفِّيهِمُ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والهاء مفعول به أول. {اللهُ:} فاعله. {دِينَهُمُ:} مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة. {الْحَقَّ:} صفة {دِينَهُمُ} . هذا؛ ويقرأ بالرفع فيكون صفة لفظ الجلالة، والجملة الفعلية:{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَيَعْلَمُونَ:} الواو: حرف عطف. (يعلمون): مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:}

اسمها. {هُوَ:} توكيد للفظ الجلالة، أو هو ضمير فصل لا محل له. {الْحَقَّ:} خبر {أَنَّ} . هذا؛ ويجوز اعتبار {هُوَ} مبتدأ، و {الْحَقَّ} خبره، وعليه فالجملة الاسمية في محل رفع خبر {أَنَّ} .

{الْمُبِينُ:} صفة {الْحَقَّ،} و {أَنَّ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي (يعلمون) وجملة: {وَيَعْلَمُونَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)}

الشرح: قال ابن زيد رحمه الله تعالى: {الْخَبِيثاتُ} من النساء {لِلْخَبِيثِينَ} من الرجال، وكذا (الخبيثون للخبيثات)، وكذا (الطيبات للطيبين) و (الطيبون للطيبات) فتكون هذه الآية مبنية على قوله تعالى:{الزّانِي لا يَنْكِحُ..} . إلخ الآية رقم [3].

ص: 357

وقال مجاهد، وابن جبير، وعطاء، وأكثر المفسرين: المعنى: الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون من الناس للخبيثات من القول، وكذا الكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول. قال النحاس في كتاب معاني القرآن: وهذا أحسن ما قيل في هذه الآية. انتهى. قرطبي. وعليه فالكلام الخبيث صدر من الرجل الخبيث، وهو عبد الله بن أبيّ، وأضرابه من المنافقين، والطيبون من الرجال، والطيبات من النساء لم يتكلموا في حق عائشة إلا بالقول الطيب، وهو تبرئتها مما رماها به الخبيثون، والخبيثات. وعليه في الكلام استعارة تصريحية.

{أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ:} الإشارة إلى عائشة، وصفوان-رضي الله عنهما-وذكرهما الله بلفظ الجمع للتعظيم، والتكريم، أي: منزهون مما يقوله الخبيثون، والخبيثات في حقهما. {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} أي: لذنوبهم. {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي: في الجنة. وانظر الآية رقم [50] من سورة (الحج) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

هذا؛ وروي عن علي بن زيد بن جدعان، عن جدته، عن عائشة-رضي الله عنها-أنها قالت: لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهنّ امرأة: لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني، ولقد تزوجني بكرا، وما تزوج بكرا غيري، ولقد توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن رأسه لفي حجري، ولقد قبر في بيتي، ولقد حفّت الملائكة بيتي، وإن كان الوحي لينزل عليه؛ وهو في أهله، فينصرفون عنه، وإن كان لينزل عليه؛ وأنا معه في لحافه، فما يبينني عن جسده، وإني لابنة خليفته، وصدّيقه، ولقد نزل عذري من السماء، ولقد خلقت طيبة وعند طيب، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما، تعني قوله تعالى:{لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} انتهى. قرطبي. وكان مسروق رحمه الله تعالى إذا حدث عن عائشة-رضي الله عنها-يقول:

حدثتني الصّدّيقة بنت الصّدّيق، حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، المبرّأة من السماء.

هذا؛ وانظر ما وصفها به حسان-رضي الله عنه-في أبياته التي ذكرتها في الآية رقم [13].

وروي: أن ابن عباس-رضي الله عنهما-دخل على عائشة-رضي الله عنها-في مرضها، وهي خائفة من القدوم على الله تعالى، فقال: لا تخافي! لأنك لا تقدمين إلا على مغفرة، ورزق كريم، وتلا الآية، فغشي عليها فرحا بما تلا.

الإعراب: {الْخَبِيثاتُ:} مبتدأ. {لِلْخَبِيثِينَ:} متعلقان بمحذوف خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {وَالْخَبِيثُونَ:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {لِلْخَبِيثاتِ:} متعلقان بمحذوف خبره، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، وما بعدها معطوفتان أيضا عليها، لا محل لهما مثلها. {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف

ص: 358

خطاب لا محل له. {مُبَرَّؤُنَ:} خبره مرفوع

إلخ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{مِمّا:} متعلقان ب: {مُبَرَّؤُنَ،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:(من)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: مبرؤون من الذي، أو من شيء يقولونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب:(من) أي: مبرؤون من قولهم.

{لَهُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَغْفِرَةٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، أو هي في محل رفع خبر ثان للمبتدأ. {وَرِزْقٌ:} معطوف على ما قبله. {كَرِيمٌ:} صفة له.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا} أي: تستأذنوا.

والاستئناس في الأصل: الاستعلام، والاستكشاف، استفعال من: أنس الشيء: إذا أبصره ظاهرا مكشوفا، أي: حتى تستعلموا: أيؤذن لكم في الدخول أم لا؟ فإذا هو من باب الكناية عن الاستئذان، أو هو من باب الإرداف؛ أي: ترادف اللفظين. {وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها} أي: تقولوا:

السّلام عليكم. ولقد اختلف في أيهما يقدم: الاستئذان، أم السّلام، فقيل: يقدم الاستئذان، فيقول: أأدخل؟ سلام عليكم، كما في الآية من تقديم الاستئذان قبل السّلام. وقال الأكثرون:

يقدم السّلام، فيقول: سلام عليكم، أأدخل؟ وتقدير الآية حتى تسلموا على أهلها، وتستأذنوا.

ولكل فريق دليله.

{ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} أي: الاستئذان، والتسليم خير لكم من أن تدخلوا بغتة. أو ما ذكر خير لكم من تحية الجاهلية. كان الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته؛ قال: حييتم صباحا. أو حييتم مساء، ودخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد! هذا؛ والترجي إنما هو بحسب عقول البشر؛ لأن الله لا يحصل منه ترج لعباده.

هذا؛ وإن سبب نزول هذه الآية ما رواه الطبري، وغيره عن عدي بن ثابت-رضي الله عنه أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله! إني أكون في بيتي على حال، لا أحبّ أن يراني عليها أحد، لا والد، ولا ولد، فيأتي الأب فيدخل عليّ، وإنه لا يزال يدخل عليّ رجال من أهلي؛ وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع؟ فنزلت الآية، فقال أبو بكر-رضي الله عنه:

يا رسول الله! أفرأيت الخانات، والمساكن في طرق الشام، ليس فيها ساكن؟ فأنزل الله تعالى:

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} .

ص: 359

هذا؛ وإن الرجل لا يستأذن على أهل بيته، ولكن يسن في حقه أن يسلم عليهم إذا دخل، وإذا دخل بيتا ليس فيه أحد؛ فيسن في حقه أن يقول: السّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

قال قتادة-رحمه الله تعالى-: وذكر لنا: أن الملائكة ترد السّلام. وقال: إذا دخلت بيتك؛ فسلم على أهلك، فهم أحق من سلمت عليهم، فإن كان فيه معك أمك، أو أختك، فقالوا: تنحنح، واضرب برجلك؛ حتى ينتبها لدخولك؛ لأن الأهل لا حشمة بينك، وبينها، وأما الأم، والأخت، فقد تكونان على حالة لا تحب أن تراهما فيها. وقد روى عطاء بن يسار: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أستأذن على أمّي؟ قال: «نعم» . قال إني أخدمها، قال:«استأذن عليها» . فعاوده ثلاثا. قال: «أتحبّ أن تراها عريانة؟» . قال: لا، قال:«فاستأذن عليها» . ذكره الطبري.

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا:} انظر الآية رقم [21] ففيها الكفاية. {بُيُوتاً:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله عند بعض النحاة، وفي مقدمتهم سيبويه، رحمه الله تعالى. والمحققون -وعلى رأسهم الأخفش-ينصبونه على التوسع في الكلام بإسقاط الخافض، لا على الظرفية، فهو منتصب عندهم انتصاب المفعول به على السعة بإجراء اللازم مجرى المتعدي، ومثل ذلك قل في:(دخلت المدينة، ونزلت المدينة، وسكنت الشام){غَيْرَ:} صفة {بُيُوتاً،} و {غَيْرَ} مضاف، و {بُيُوتِكُمْ:} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة. {حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة. {تَسْتَأْنِسُوا:} مضارع منصوب ب: «أن» المضمرة، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل {لا تَدْخُلُوا} .

{وَتُسَلِّمُوا:} معطوف على ما قبله، فهو منصوب مثله

إلخ، والواو فاعله

إلخ. {عَلى أَهْلِها:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (ها): في محل جر بالإضافة. {ذلِكُمْ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له، والميم حرف دال على جماعة الذكور. {خَيْرٌ:} خبر المبتدأ. {ذلِكُمْ:} متعلقان ب: {خَيْرٌ،} والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ:} انظر مثلها في الآية رقم [1]، والجملة الاسمية هنا متعلقة بكلام محذوف، التقدير: أنزل عليكم حكم الاستئذان، أو قيل لكم: استئذنوا قبل دخول بيوت غيركم إرادة أن تذكروا، وتعملوا بما هو أصلح لكم. انتهى. بيضاوي بتصرف كبير.

{فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ اِرْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)}

الشرح: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها} أي: في البيوت. {أَحَداً:} يأذن لكم في الدخول. {فَلا تَدْخُلُوها حَتّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} أي: حتى يأتي من يأذن لكم، فإن المانع من الدخول ليس الاطلاع على

ص: 360

العورات فقط، بل وعلى ما يخفيه الناس عادة، مع أن التصرف في ملك الغير بغير إذنه محظور، واستثني ما إذا عرض فيه حرق، أو غرق، أو كان فيه منكر ونحو ذلك؛ فإنه يجوز اقتحام البيوت من غير إذن أهلها في تلك الحالات.

{وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا:} ولا تلحوا بطلب الدخول، ولا تقفوا على الباب ملازمين، ولا تجدوا في نفوسكم على صاحب البيت، بل ولا تروا أن فيه غضاضة، وانتقاصا من كرامتكم. {هُوَ أَزْكى لَكُمْ} أي: الرجوع المفهوم من الفعلين السابقين أطهر لقلوبكم، وأصلح لأعمالكم، فإن للناس حاجات وأحوالا يكرهون الدخول عليهم فيها، وإذا حضر إلى الباب، فلم يستأذن، وقعد على الباب منتظرا خروج صاحب الدار جاز له ذلك، فقد كان ابن عباس-رضي الله عنهما-يأتي دور الأنصار لطلب الحديث، فيقعد، ولا يستأذن، حتى يخرج إليه صاحب الدار، فإذا خرج، ورآه قال: يا بن عم رسول الله! لو أخبرتني بمكانك، فيقول: هكذا أمرنا أن نطلب العلم.

وإذا وقف على الباب، فلا يجوز له أن ينظر من شقه إذا كان مردودا، فعن سهل بن سعد الساعدي-رضي الله عنه: أن رجلا اطّلع على النّبيّ صلى الله عليه وسلم من حجر في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدراة يحكّ به رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لو علمت أنّك تنظر؛ لطعنت بها في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر» . رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، والمدراة المشط، ويروى: مدرى بالقصر.

وعن عبد الله بن بسر-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تأتوا البيوت من أبوابها، ولكن ائتوها من جوانبها، فاستأذنوا، فإن أذن لكم فادخلوا، وإلاّ؛ فارجعوا» . رواه الطبراني في الكبير، فينبغي أن يقف المستأذن على يمين الباب، أو يساره، ولا يستقبله، ثم إذا قيل: من هذا؟ قال: أنا فلان، أو: أبو فلان، ولا يقل: أنا؛ فإنه لا يعرف، وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من قال: أنا. فعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: استأذنت على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:

«من هذا؟» . فقلت: أنا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«أنا، أنا» . كأنه كره ذلك. رواه الشيخان وغيرهما.

فينبغي مراعاة هذه الآداب في الاستئذان، وإنا لنفخر بما شرع الله لنا من آداب كثيرة، ومن جملتها هذا الاستئذان، وإن كثيرا من غير المسلمين يحسدوننا على هذا الأدب، فقد ذكر لي أحد إخواني: أن نصرانيا قال له: نحسدكم على ما في دينكم من آداب، وفي طليعتها أدب الاستئذان. ولكن الكثير من المسلمين قد أهملوا هذه الآداب، واعتبروها معرّة لهم، وانتقاصا من أقدارهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله! هذا؛ وفي قوله تعالى:{وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} توعّد لمن يتجسس على البيوت، ويحاول الدخول على غفلة من أهلها، والنظر إلى ما لا يحل، ولا يجوز، ولغيرهم ممّن يرتكب شيئا من المحظورات.

ص: 361

فائدة: قال مكي بن أبي طالب القيسي-رحمه الله تعالى-في مثل هذا التركيب: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا:} دخلت «إن» على «لم» ليرتد الفعل إلى أصله في لفظه، وهو الاستقبال؛ لأنّ «لم» تردّ لفظ المستقبل إلى معنى المضي، و «إن» ترد الماضي إلى معنى الاستقبال، فلما صارت «لم» ولفظ المستقبل بعدها بمعنى الماضي ردتها «إن» إلى الاستقبال؛ لأن «إن» ترد الماضي إلى معنى الاستقبال. انتهى.

هذا؛ وإعلال {تَجِدُوا} مثل إعلال (يعد) في الآية رقم [35] من سورة (المؤمنون)، وانظر شرح (أحد) في الآية رقم [32] من سورة (الكهف)، وأما {قِيلَ} فأصلها: قول، بضم القاف، وكسر الواو، فنقلت حركة الواو إلى القاف قبلها، بعد سلب حركتها، فصار (قول) بكسر القاف وسكون الواو، ثم قلبت الواو ياء لوقوعها ساكنة بعد كسرة، فصار قيل.

الإعراب: {فَإِنْ:} الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {تَجِدُوا:} مضارع مجزوم ب: {لَمْ} وهو في محل جزم فعل الشرط، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فِيها:} متعلقان بالفعل قبلهما. {أَحَداً:} مفعول به. {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا): ناهية.

{تَدْخُلُوها:} مضارع مجزوم ب: (لا)

إلخ، والواو فاعله، و (ها): مفعول به، وانظر ما ذكرته في الآية السابقة، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور.

والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. {حَتّى:} حرف غاية وجر.

{يُؤْذَنَ:} مضارع مبني للمجهول منصوب ب: «أن» مضمرة بعد {حَتّى} . {لَكُمْ:} في محل رفع نائب فاعله، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلها، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.

{وَإِنْ:} الواو: حرف عطف. (إن): حرف شرط جازم. {قِيلَ:} ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط، ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره: هو، يعود إلى المصدر المفهوم من الفعل، أو هو محذوف يدل عليه المقام، التقدير: وإذا قيل قول، وقيل: الجار والمجرور لكم في محل رفع نائب فاعل، وقيل: جملة: (ارجعوا) هي نائب الفاعل، وهذا على قول من يجيز وقوع الجملة فاعلا، ويكون جاريا على القاعدة في بناء الفعل للمجهول:«بحذف الفاعل، ويقام المفعول به مقامه» وهذا كلام لا غبار عليه، انظر الشاهد [793] من كتابنا فتح القريب المجيب والكلام عليه.

{لَكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {اِرْجِعُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مفسرة لنائب الفاعل على اعتباره ضميرا، أو هي في محل

ص: 362

نصب مقول القول، أو هي نفسها في محل رفع نائب فاعل، كما رأيت، فتكون على الحكاية، وهو المعتمد، وجملة:{قِيلَ..} . إلخ لا محل لها

إلخ. {فَارْجِعُوا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط، والجملة:(ارجعوا) في محل جزم جواب الشرط

إلخ، و (إن) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، لا محل له مثله. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {أَزْكى:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية تعليل للأمر، لا محل لها. {لَكُمْ:} متعلقان ب: {أَزْكى} . {وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. (الله): مبتدأ. {بِما:} متعلقان ب: {عَلِيمٌ} بعدهما، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة بعدها صلتها أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: بالذي، أو بشيء تعملونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: الله عليم بعملكم، والجملة الاسمية هذه مستأنفة، لا محل لها.

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29)}

الشرح: روي: أن بعض المسلمين لما نزلت آية الاستئذان السابقة تعمق في الأمر، فكان لا يأتي موضعا خربا، ولا مسكونا إلا سلم، واستأذن، فنزلت هذه الآية، حيث أباح الله تعالى فيها رفع الاستئذان في كل بيت، لا يسكنه أحد؛ لأن العلة إنما هي لأجل خوف الكشفة على الحرمات، فإذا زالت العلة زال الحكم. انتهى. قرطبي.

هذا؛ والمراد بالبيوت غير المسكونة كالربط، والمدارس، والخانات المعدة لنزول المسافرين، والحوانيت المعدة للبيع والشراء، والمحلات المعدة لقضاء الحاجة من بول، وغائط، والفنادق المعدة لنوم الغرباء، وإيوائهم مع العلم أنه لا يجوز دخول غرفة من غرف الفندق حتى يعلم، ويتأكد: أنه ليس فيها أحد؛ لأن من المعلوم أن كثيرا من الغرباء يكونون مع أزواجهم، مصطحبين لهنّ في سفرهم.

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ:} إثم، ومؤاخذة. {فِيها مَتاعٌ لَكُمْ} أي: استمتاع كالاستكنان من الحر والبرد، وإيواء الأمتعة، والجلوس للمعاملة. وقيل: المراد لكم فيها أمتعة كالحقيبة ونحوها مما يصطحبه المسافر في سفره. {وَاللهُ يَعْلَمُ..} . إلخ: فيه وعيد، وتهديد لمن يدخل مدخلا لفساد، أو بقصد تطلع على عورات، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {لَيْسَ:} ماض ناقص. {عَلَيْكُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {جُناحٌ:} اسم ليس مؤخر، والمصدر المؤول من:{أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} في محل جر بحرف جر

ص: 363

محذوف، التقدير: في دخول بيوت غير مسكونة. والجار والمجرور متعلقان ب: {جُناحٌ،} أو بمحذوف صفة له، وانظر الآية رقم [27] لإعراب مثل هذه الكلمات بالتفصيل. {فِيها:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَتاعٌ:} مبتدأ مؤخر. {لَكُمْ:} متعلقان ب: {مَتاعٌ،} أو بمحذوف صفة له، والجملة الاسمية في محل نصب صفة ثانية ل:{بُيُوتاً} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم، وجملة:{لَيْسَ..} . إلخ هي بمنزلة الاستثناء من قوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} . {وَاللهُ:} الواو: حرف اسئتناف. (الله): مبتدأ. {يَعْلَمُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (الله)، وهو بمعنى: يعرف، فيتعدى لمفعول واحد فقط، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: يعلم الذي، أو: شيئا تبدونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: يعلم إبداءكم، وفيه ضعف ظاهر. {وَما تَكْتُمُونَ:} معطوف على ما قبله على جميع الاعتبارات. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30)}

الشرح: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ:} هذا خطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم أمره ربه أن يأمر المؤمنين بغض أبصارهم عما لا يجوز النظر إليه، وغض البصر: كفه عن المحرمات، يقال:

غض بصره، يغضه غضا. قال عنترة الجاهلي-وفيه شهامة أكثر من مئات الألوف من المسلمين في هذه الأيام-:[الكامل]

وأغضّ طرفي ما بدت لي جارتي

حتّى يواري جارتي مأواها

وقال حاتم الطائي، والجاهلي أيضا-وفيه غيرة وحمية أكثر من عشرات الملايين من مسلمي هذه الأيام-:[الكامل]

وأغضّ طرفي إن بدت لي جارتي

حتّى يواري جارتي الخدر

{وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} أي: يستروها عن أن يراها من لا يحل نظرهم إليها، أو يحفظوها عن الزنى، فيكون كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ..} . إلخ انظر الآية رقم [5] من سورة (المؤمنون). ولم يذكر الله تعالى ما يغض البصر عنه، ويحفظ الفرج منه؛ لأن ذلك معلوم بالعادة، وأن المراد منه المحرّم دون المحلّل، وعلى الاعتبار الأول فالصحيح أن الجميع مراد، واللفظ عام.

ص: 364

وروى بهز بن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه، عن جده-رضي الله عنهم-قال: قلت:

يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها، وما نذر؟ قال:«احفظ عورتك إلاّ من زوجتك، أو ما ملكت يمينك» . قال: الرجل يكون مع الرجل، قال:«إن استطعت ألاّ يراها أحد فافعل» . قلت: الرجل يكون خاليا؟ فقال: «الله أحقّ أن يستحيا منه من الناس» . وقد ذكرت عائشة-رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحالها معه، صلى الله عليه وسلم، فقالت:(ما رأيت منه، ولا رأى منّي) فحذفت-رضي الله عنها مفعول الفعلين، والمراد به: الفرج. وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينظر الرّجل إلى عورة الرّجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفض الرّجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفض المرأة إلى المرأة في ثوب واحد» . أخرجه مسلم.

{ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ} أي: غض البصر، وحفظ الفرج أطهر في الدين، وأبعد من دنس الآثام والريبة. {إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ:} لا يخفى عليه إجالة أبصارهم، واستعمال سائر حواسهم، وتحريك جوارحهم، وما يقصدون بها، فليكونوا على حذر منه في كل حركة وسكون. هذا؛ و {يَصْنَعُونَ} أبلغ من قوله:{تَعْمَلُونَ} في الآية السابقة، من حيث إن الصنع عمل الإنسان بعد تدرب فيه، وتروّ، وتحرّي إجادة، ولذلك ذم به خواص اليهود وذلك في سورة (المائدة) الآية رقم [63] بينما ذم عوامهم بقوله {يَعْمَلُونَ} وذلك في الآية رقم [62] منها.

هذا؛ ولقد كره الشعبي أن يديم الرجل النظر إلى ابنته، أو أمه، أو أخته، وزمانه خير من زماننا هذا، وحرام على الرجل أن ينظر إلى ذات محرّمة نظر شهوة يردّدها. انتهى. قرطبي.

تنبيه: البصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وأهم طرق الحواس إليه، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته، ووجب التحذير منه، وغضه واجب عن جميع المحرمات، وعن كل ما يخشى الفتنة من أجله، ورحم الله من يقول:[البسيط]

كلّ الحوادث مبداها من النّظر

ومعظم النّار من مستصغر الشّرر

والمرء ما دام ذا عين يقلّبها

في أعين الغيد موقوف على الخطر

كم نظرة فعلت في قلب صاحبها

فعل السّهام بلا قوس، ولا وتر

يسرّ ناظره ما ساء خاطره

لا مرحبا بسرور عاد بالضّرر

وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة تحذر من سقطاته. وترغب في غضه، وكفه عن النظر إلى المحرمات، فعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: «النّظرة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها من مخافتي، أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه» . رواه الطبراني والحاكم من حديث حذيفة-رضي الله عنه.

هذا؛ وإن الإسلام أباح النظرة الأولى نظرة الفجاءة، وحرم النظرة الثانية نظرة التتبع، والتمتّع، والمعاودة؛ لأن النظر إلى النساء باب عظيم من أبواب البلاء، فقد قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم

ص: 365

لعلي كرم الله وجهه: «يا عليّ! لا تتبع النّظرة النظرة، فإنما لك الأولى، وعليك الثانية» . وفي رواية: «وليست لك الآخرة» . والأحاديث في ذلك كثيرة مسطورة.

خاتمة: نظر الرجل إلى المرأة على ستة أضرب: أحدها: نظره-ولو كان شيخا هرما، عاجزا عن الوطء-إلى أجنبية لغير حاجة؛ فغير جائز. الثاني: نظره إلى زوجته، فيجوز أن ينظر كل شيء منها حتى الفرج مع الكراهة. والثالث: نظره إلى ذوات محارمه، فيجوز فيما عدا ما بين السرة والركبة إذا كان بغير شهوة. والرابع: النظر لأجل النكاح أي نظر الخاطب إلى خطيبته، وبالعكس، فيجوز إلى الوجه والكفين. والخامس: النظر للمداواة، فيجوز إلى المواضع التي يحتاج إليها، وهذا عند فقد امرأة تعالج المرأة، فإن وجدت امرأة مسلمة؛ فهي أحق، وإذا لم توجد مسلمة؛ فامرأة كافرة أحق من الرجل؛ وإن كان مسلما صالحا. والسادس: النظر للشهادة عليها، أو للمعاملة معها، فيجوز النظر إلى الوجه خاصة، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لِلْمُؤْمِنِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {يَغُضُّوا:} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: هو جواب {قُلْ} . وتقدير الكلام: إن تقل لهم يغضوا، قاله الأخفش، ورده قوم، قالوا: لأن قول الرسول لهم لا يوجب أن يغضوا، وهذا عندي لا يبطل قوله؛ لأنه لم يرد أمر الكفار، بل المؤمنين كما هو واضح، وإذا قال لهم الرسول: غضوا أبصاركم؛ غضوها؛ لأنهم مأمورون بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، استجابة لقوله تعالى:{وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .

والوجه الثاني: حكي عن المبرد، وهو أن التقدير: قل لهم: غضوا؛ يغضوا، فيغضوا المصرح به جواب غضوا المحذوف، حكاه جماعة عنه، ولم يتعرضوا لإفساده، وهو فاسد لوجهين: أحدهما: أن جواب الشرط، يخالف الشرط، إما في الفعل، وإما في الفاعل، أو فيهما، فأما إذا كان مثله في الفعل والفاعل فهو خطأ، كقولك: قم تقم، والتقدير على ما ذكر في هذا الوجه: إن يغضوا يغضوا، والوجه الثاني أن الأمر المقدر للمواجهة، ويغضوا على لفظ الغيبة، وهو خطأ إذا كان الفاعل واحدا.

والوجه الثالث من الأوجه الأولى: أنه مجزوم بلام محذوفة، تقديره: ليغضوا، فهو أمر مستأنف، وجاز حذف اللام لدلالة {قُلْ} على الأمر، وهذه التوجيهات أخذتها من إعراب الآية رقم [31] من سورة (إبراهيم) -على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-بالمقايسة بين ما هنا وهناك، فإن التعبير في الآيتين واحد، ولم يذكر أحد شيئا في إعراب الآية هنا، وما هناك منقول عن أبي البقاء العكبري، ومكي بن أبي طالب القيسي، مع الإشارة إلى ما ذكره ابن هشام في مغنيه. رحم الله الجميع رحمة واسعة، وشملنا معهم ببره، وإحسانه، وفضله، وكرمه، وجوده.

ص: 366

هذا؛ و {يَغُضُّوا} مجزوم على جميع الوجوه المذكورة، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مستأنفة، أو في محل نصب مقول القول على حسب الوجوه المعتبرة فيها، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{مِنْ:} حرف جر صلة وهذا على مذهب الأخفش الذي يجيز زيادتها في الإيجاب، ويؤيده قوله تعالى في سورة (الحجرات):{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ} وهو مذهب الكوفيين.

{أَبْصارِهِمْ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وقيل:{مِنْ} أصلية جارة، وعليه فالجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَيَحْفَظُوا:} معطوف على ما قبله على جميع الوجوه المعتبرة فيه. {فُرُوجَهُمْ:} مفعول به، و (الهاء) في محل جر بالإضافة، ودخلت {مِنْ} في غض البصر، دون حفظ الفرج لتدل على أن أمر النظر أوسع، ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن، وصدورهن، وكذا الإماء المستعرضات للبيع في الزمن الماضي، وأما الفروج؛ فمضيق فيها.

{ذلِكَ} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف للخطاب حرف لا محل له. {أَزْكى:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، وهو أفعل تفضيل، فاعله مستتر فيه وجوبا تقديره:«هو» . {لَهُمْ:} متعلقان ب: {أَزْكى،} والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {خَبِيرٌ:} خبرها.

{بِما:} متعلقان بخبير، وانظر إعراب مثل الباقي في الآية رقم [28] فهو مثله بلا فارق، وفي الآية السابقة ما يشبهه، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها أيضا.

{وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)}

الشرح: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ:} خص الله سبحانه وتعالى الإناث هنا بالخطاب على طريق التأكيد، فإن قوله جل ذكره في الآية السابقة:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ} يكفي؛ لأنه قول عام يتناول

ص: 367

الذكر، والأنثى من المؤمنين، حسب كل خطاب عام في القرآن، وبدأ جل ذكره بغض البصر، قبل حفظ الفرج؛ لأن البصر رائد القلب، كما أن الحمّى رائد الموت، وأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال:[الطويل]

ألم تر أنّ العين للقلب رائد

فما تألف العينان فالقلب آلف

ورحم الله من يقول: [الطويل]

وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا

لقلبك يوما أتبعتك المناظر

رأيت الّذي لا كلّه أنت قادر

عليه ولا عن بعضه أنت صابر

هذا؛ وقد قيل: إن النظر بريد الزنى، ورسول الفحش، والخنا، ورحم الله أحمد شوقي؛ إذ يقول:[الخفيف]

نظرة، فابتسامة، فسلام

فكلام، فموعد، فلقاء

هذا؛ وإن الله جلت قدرته أمر المرأة بغض بصرها عن الرجل، كما أمر الرجل بغض البصر عنها؛ لأنه قد يعجبها من الرجال ما يعجب الرجال من النساء، حتى لا نقع في فتنة عمياء، تورثها البلاء، والشقاء، فقد روى الترمذي، وأبو داود-رحمهما الله تعالى-عن أم سلمة-رضي الله عنها قالت: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده ميمونة بنت الحارث؛ إذ أقبل ابن أمّ مكتوم، فدخل عليه، وذلك بعدما أمرنا بالحجاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«احتجبا منه» . فقلنا: يا رسول الله! أليس أعمى، لا يبصرنا، ولا يعرفنا؟! فقال:«أفعمياوان أنتما، ألستما تبصرانه؟!» .

{وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ:} بالتستر، أو التحفظ عن الزنى، وهو الأولى. {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} أي: لغير محرم، والمراد بالزينة: ما تتزين به المرأة من حليّ، أو كحل، أو خضاب في الرجل، والسوار في المعصم، والقرط في الأذن، والقلائد في العنق، فلا يجوز للمرأة إظهارها، ولا يجوز للأجنبي النظر إليها، والمراد من الزينة النظر إلى مواضعها من البدن. {إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها} أي: من الزينة.

قال سعيد بن جبير، والضحاك، والأوزاعي: الوجه والكفان، وقال ابن مسعود: هي الثياب، وقال ابن عباس-رضي الله عنهم أجمعين-: هي الكحل، والخاتم، والخضاب في الكف، فما كان من الزينة الظاهرة، يجوز للرجل الأجنبي النظر إليه للضرورة، مثل تحمل الشهادات، ونحوه من الضرورات؛ إذا لم يخف فتنة، وشهوة، فإن خاف شيئا من ذلك؛ غضّ البصر، وإنما رخص في هذا القدر للمرأة أن تبديه من بدنها؛ لأنه ليس بعورة، وتؤمر بكشفه في الصلاة، وسائر بدنها عورة، يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة-رضي الله عنها: (أنّ أسماء بنت أبي بكر-رضي الله عنهما-دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليها ثياب رقاق، فأعرض

ص: 368

عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لها:«يا أسماء! إنّ المرأة إذا بلغت المحيض؛ لم يصلح أن يرى منها إلاّ هذا، وأشار إلى وجهه، وكفّيه» . وانظر ما ذكرته في الآية رقم [60] الآتية.

فهذا أقوى في جانب الاحتياط، ولمراعاة فساد الناس، فلا تبد المرأة من زينتها، إلا ما ظهر من وجهها وكفيها. والله الموفق لا رب سواه. وقد قال ابن خويز منداد من علماء المالكية:

إن المرأة إذا كانت جميلة، وخيف من وجهها، وكفيها الفتنة، فعليها ستر ذلك، وإن كانت عجوزا، أو مقبّحة؛ جاز أن تكشف وجهها، وكفيها.

{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ:} (الخمر) جمع: الخمار بكسر الخاء، وهو ما تغطي به رأسها، ومنه اختمرت المرأة، وتخمّرت، وهي حسنة الخمرة، ويجمع الخمار على أخمرة أيضا، قال الراعي النميري، وينسب للقتال الكلابي:[البسيط]

صلّى على عزّة الرحمن وابنتها

ليلى وصلّى على جاراتها الأخر

هنّ الحرائر لا ربّات أخمرة

سود المحاجر، لا يقرأن بالسّور

و {جُيُوبِهِنَّ:} جمع: جيب، وهو موضع القطع عند الرقبة والصدر من الثوب، والمراد:

ليلقين ثيابهن على نحورهن، وصدورهن. {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} أي: الخفية التي لم يبح لهن كشفها في الصلاة، ولا للأجانب، وهي ما عدا الوجه والكفين، فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: رحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ} شققن أزرهن، فاختمرن بها. ودخلت على عائشة حفصة بنت أخيها عبد الرحمن رضي الله عنهم-وقد اختمرت بشيء يشف عن عنقها، وما هنالك، فشقته عليها، وقالت: إنما يضرب بالكثيف الذي يستر.

{إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ:} فهؤلاء هم الذين يجوز لهم أن ينظروا إلى الزينة الباطنة، ولا ينظرون إلى ما بين السرة والركبة، ويجوز للزوج أن ينظر إلى جميع بدن زوجته؛ غير أنه يكره له النظر إلى فرجها، ولهذا المعنى بدأ الله بالبعولة؛ لأن اطلاعهم يقع على أعظم من هذا.

هذا؛ ولا يفوتني أن أذكر أن نظر الرجل إلى فرج زوجته كثيرا، يورث عمى القلب، ومن ذلك كثرة النسيان. وقد تساهل أصبغ من المالكية تساهلا كبيرا في ذلك، ولا شك أنه تختلف مراتب ما يبدى لهم، فيبدى للأب ما لا يجوز إبداؤه لولد الزوج.

هذا؛ والمراد ب: {أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ} الذكور، ويدخل فيه أولاد الأولاد، وإن سفلوا من ذكور كانوا أو إناث كبني البنين وبني البنات، وكذلك آباء البعولة، والأجداد، وإن علوا، وكذلك أبناء البنات، وأبناء الإخوة، وأبناء الأخوات، وإن سفلوا، وهذا كله في معنى ما حرم من المناكح، فإن ذلك على المعاني في الولادات، وهؤلاء محارم، انظر الآية رقم [23] من سورة (النساء). هذا؛

ص: 369

ولم يذكر الله الأعمام، والأخوال مع كونهم من المحارم، وأولادهم ليسوا من المحارم باتفاق جميع المسلمين؛ لأن مناكحتهم صحيحة لا حرج فيها. ولم يذكر جلت قدرته ما يحرم بالرضاع.

وقد ذكرته آية النساء المذكورة. تنبه لهذا؛ واحفظه، وقيل: لم يذكر الأعمام، والأخوال؛ لأنهم في معنى الإخوان، أو؛ لأن الأحوط أن يتسترن عنهم أن يصفوهن لأولادهم.

{أَوْ نِسائِهِنَّ} أي: المؤمنات من أهل دينهم، أراد به: أنه يجوز للمرأة أن تنظر إلى بدن المرأة ما عدا ما بين السرة، والركبة، فلا يجوز للمرأة المؤمنة أن تتعرى من ثيابها عند الذمية، أو الوثنية؛ لأنها ليست من نساء المؤمنات، ولأنها أجنبية في الدين. فكانت أبعد من الرجل المسلم الذي يحل نكاحه، وكان قد كتب عمر-رضي الله عنه-إلى أبي عبيدة بن الجراح-رضي الله عنه: أن يمنع نساء أهل الكتاب أن يدخلن الحمام مع المسلمات، وذلك لئلا تصف الكافرة جسد المسلمة لزوجها، أو غيره من أقاربها. ولا يفوتني أن أذكر: أنه تقدم الطبيبة الكافرة في معالجة المرأة المسلمة، ومداواتها على الطبيب المسلم، ولو كان صالحا، ولكن المسلمين في هذه الأيام يقدمون الطبيب الكافر على الطبيب المسلم بل وعلى الطبيبة المسلمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

{أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ} أي: من العبيد والإماء، بمعنى يجوز للمرأة المسلمة أن تكشف من بدنها ما عدا ما بين السرة والركبة لمن تملكه من العبيد، ولا أطيل الكلام في ذلك؛ لأنه لم يعد الرق موجودا في الدنيا. {أَوِ التّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ} الإربة: الحاجة، يقال: أربت كذا، آرب أربا، والإرب، والإربة، والمأربة، والأرب: الحاجة، والجمع: مارب، أي:

حوائج، وانظر الآية رقم [18] من سورة (طه) وقال طرفة بن العبد البكري:[الطويل]

إذا المرء قال الجهل والحوب والخنا

تقدّم يوما ثمّ ضاعت ماربه

هذا؛ وقد اختلف في المراد بذي الإربة، فقيل: هو الأحمق الذي لا حاجة له في النساء، وقيل: هو الأبله، وقيل: هو العنين، وقيل: هو الخصي، وقيل: هو الرجل يتبع القوم، فيأكل معهم، لا همة له إلا ذلك، ولا حاجة له في النساء، وقيل: هو المخنث. وبهذه الصفة كان «هيت» المخنث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمع منه ما سمع من وصف محاسن المرأة، وهي بادية بنة غيلان أمر بالاحتجاب منه.

فقد ذكر الواقدي، والكلبي: أن «هيتا» المخنث، قال لعبد الله بن أمية المخزومي، وهو أخو أم سلمة لأبيها، وأمه عاتكة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له، وهو في بيت أخته أم سلمة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع: إن فتح الله عليكم الطائف، فعليك ببادية بنت غيلان بن سلمة الثقفي، فإنها تقبل بأربع، وتدبر بثمان، مع ثغر كالأقحوان، إن جلست تبنّت، وإن تكلمات تغنّت، بين رجليها كالإناء المكفوء، وهي كما قال قيس بن الخطيم:[المنسرح]

تغترق الطّرف وهي لاهية

كأنّما شفّ وجهها نزف

ص: 370

بين شكول النّساء خلقتها

قصد، فلا جبلة، ولا قضف

تنام عن كبر شأنها فإذا

قامت رويدا تكاد تنقصف

تغترق الطرف: أي من نظر إليها استغرقت طرفه، وبصره، وشغلته عن النظر إلى غيرها، وهي لاهية عنه، غير محتفلة به. نزف: أي: كأنما ينزف الدم من وجهها لشدة حمرته، وشقرته، والشكول: الضروب، والأمثال. وقصد: ليست بالجسيمة، ولا النحيفة. والجبلة: الغليظة.

والقضف: الدقة، وقلة اللحم.

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد غلغلت النظر إليها يا عدوّ الله» . ثم أجلاه عن المدينة إلى الحمى.

رواه مسلم. وزاد أبو داود في رواية: فاحجبوه، وأخرجوه إلى البيداء، فكان يدخل كل جمعة فيستطعم، ولم يزل بذلك المكان حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ولي أبو بكر-رضي الله عنه-كلّم فيه، فأبى أن يرده، فلما ولي عمر-رضي الله عنه؛ كلّم فيه، فأبى أن يرده، ثم كلّم فيه عثمان رضي الله بعد، وقيل: إنه كبر، وضعف، فأذن له أن يدخل المدينة. انتهى. قرطبي بتصرف كبير.

{أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ} أي: لم يكشفوا عن عورات النساء للجماع، فيطلعوا عليها، أو لم يعرفوا العورة من غيرها لصغرهم. وقيل: لم يطيقوا أمر النساء.

هذا؛ والطفل اسم جنس وضع موضع الجمع اكتفاء بدلالة الوصف؛ أي الموصول. انظر الآية رقم [5] من سورة (الحج) فالبحث فيها ضاف كاف، ويقرأ شاذا:«(الأطفال)» كما قرئ:

«(عورات)» بفتح الواو شاذا قراءة، ولغة، وانظر ما ذكرته في خطوات في الآية رقم [21] وانظر شرح النساء في الآية رقم [60] الآتية.

{وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ:} قيل: كانت المرأة إذا مشت ضربت برجلها الأرض ليسمع صوت خلخالها، أو يتبين، فنهين عن ذلك، وقيل: إن الرجل تغلب عليه شهوة النساء إذا سمع صوت الخلخال، ويصير ذلك داعية له زائدة في مشاهدتهن، وقد علل الله ذلك برغبتهن في معرفة ما يخفين من زينتهن، فنهى الله عن ذلك؛ لأن إسماع صوت الزينة كإبداء الزينة، أو أشد، والغرض التستر، وسد الذريعة، ولذا نهى الله عنه، والنهي للتحريم، إن فعلت ذلك تبرجا، وتعرضا للرجال، علما بأن الخلخال لم يكن في هذه الأيام زينة للنساء، ولكن الآنسة في هذه الأيام تكشف عن ساعديها، ونحرها، وأذنيها لتري زينتها للغادين، والرائحين بلا خجل، ولا ارعواء، لا من الله، ولا من الناس، ولا حول، ولا قوة إلا بالله!.

{وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً} أي: من التقصير الواقع في أمره، ونهيه، وراجعوا طاعته، فيما أمركم به، ونهاكم عنه من الآداب المذكورة في هذه السورة. قيل: إن أوامر الله، ونواهيه في كل باب، لا يقدر العبد الضعيف على مراعاتها، وإن ضبط نفسه، واجتهد، فلا ينفك عن تقصير يقع

ص: 371

منه، فلذلك وصى المؤمنين بالتوبة، والاستغفار، ووعد بالفلاح إذا تابوا، واستغفروا، وقد قيل:

أحوج الناس إلى التوبة من توهم أنه ليس له حاجة إلى التوبة. وينبغي أن تعلم: أن التوبة المقبولة هي التوبة النصوح التي ذكرها ربنا في سورة (التحريم) ولها شروط: الندم بالجنان، والاستغفار باللسان، والإقلاع بالأركان، ورد الحقوق لأصحابها بحسب الإمكان.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستغفار، والتوبة مع كونه قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، وذلك تعليم لنا، وترغيب في كثرة الاستغفار، والتوبة إلى الله تعالى، فعن الأغر أغر مزينة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «توبوا إلى ربّكم، فو الله إنّي لأتوب إلى ربّي تبارك وتعالى مئة مرّة في اليوم» . رواه مسلم، وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: إن كنّا لنعدّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس يقول: «ربّ اغفر لي، وتب عليّ إنّك أنت التواب الرّحيم مئة مرّة» . أخرجه عبد بن حميد الكشي، والأحاديث المرغبة في التوبة كثيرة لا تعد، ولا تحصى.

ولا تنس: أن في الآية التفاتا من الغيبة في كل ما تقدم إلى الخطاب في قوله تعالى: {وَتُوبُوا..} .

إلخ، وانظر الالتفات في الآية رقم [34] من سورة (الأنبياء).

خاتمة: يطعن المستشرقون، وكثير من المسلمين المثقفين في أحكام الإسلام، ويصفونه بالقسوة في حدوده التي وضعها لبعض الجرائم التي يقترفها العبد، مثل إقامة الحد على الزاني، والزانية، من جلد، أو رجم حسب ما رأيت في مطلع هذه السورة، فنرد عليهم، ونقول لهم: إن الإسلام الحنيف كرم المرأة، وأحاطها بسياج من العفة، وحفظ الشرف، ورفعة القدر، وعلو المكانة، فهو لم يفتح لها الباب على مصراعيه، تخالط من تشاء، وترافق من تشاء، وتتأبط من تشاء، وإنما أمرها في القعود في بيتها، وكلف الرجل بالإنفاق عليها، وتقديم مطالبها، وقد شرع من التعاليم، والآداب ما يجعلها في كن منيع من الوقوع في جريمة الزنى، فقد حرم النظر منها، وإليها كما رأيت، وشرع الاستئذان في الدخول على البيوت؛ حتى لا يداهمها رجل في بيتها، وقد تكون وحدها، وحرم عليها التبرج، والخروج إلى الشوارع متهتكة، وحرم عليها الخلوة بمن يحل له زواجها، فعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يخلونّ بامرأة ليس معها ذو محرم، فإنّ ثالثهما الشّيطان» .

وعن عقبة بن عامر-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إيّاكم والدّخول على النساء» . فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحم؟ قال: «الحم الموت» . أخرجه البخاري، ومسلم. وقد فسر العلماء الحم بأنه أخو الزوج وابن أخيه، وعمه وابن عمه، ونحوهم مما يشمل أقارب الزوج وأقارب الزوجة، ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:«الحم الموت» . أي: الخوف منه أكثر من غيره، والشر يتوقع منه، والفتنة أكثر؛ لتمكنه من الوصول إلى المرأة، والخلوة بها من غير أن ينكر عليه أحد، وكان المعنى: موته، ولا يختلي بامرأة قريبة.

ص: 372

وعن أبي أمامة الباهلي-رضي الله عنه-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إيّاك والخلوة بالنّساء، والّذي نفسي بيده، ما خلا رجل بامرأة إلاّ ودخل الشّيطان بينهما، ولأن يزحم رجل خنزيرا متلطّخا بطين، أو حمأة خير من أن يزحم منكبه منكب امرأة لا تحلّ له» . رواه الطبراني.

تنبيه: قال مكي بن أبي طالب القيسي-رحمه الله تعالى-: ليس في كتاب الله تعالى آية أكثر ضمائر من هذه الآية، جمعت خمسة وعشرين ضميرا للمؤمنات، من مخفوض ومرفوع.

تنبيه: قرأ الجمهور: (أيّه) بفتح الهاء، وبدون ألف، وقرأ ابن عامر بضمها، ووجهه أن تجعل الهاء من نفس الكلمة، فيكون إعراب المنادى فيها. وضعف أبو علي الفارسي ذلك جدا، وقال: آخر الاسم هو الياء الثانية من «أيّ» فالمضموم ينبغي أن يكون آخر الاسم، ولو جاز ضم الهاء ها هنا لاقترانها بالكلمة لجاز ضم الميم في (اللهم) لاقترانها بالكلمة في كلام طويل، والصحيح: أنه إذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءة، فليس إلا اعتقاد الصحة في اللغة، فإن القرآن هو الحجة، وأنشد الفراء:[الرجز]

يا أيّه القلب اللّجوج النّفس

أفق عن البيض الحسان اللّعس

وبعضهم يقف (أيّه) وبعضهم يقف (أيها) بالألف؛ لأن علة حذفها في الوصل، إنما هو سكونها وسكون اللام، فإذا كان الوقف ذهبت العلة، فرجعت الألف. وهذا الاختلاف الذي ذكرناه كذلك هو في الآية رقم [49] من سورة (الزخرف) في قوله تعالى:{وَقالُوا يا أَيُّهَا السّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ} وأيضا في الآية رقم [31] من سورة (الرحمن) في قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ} انتهى. قرطبي، وقد رسمت الهاء في هذه المواضع الثلاثة بدون ألف، وثبتت في غير هذه المواضع حملا لها على الأصل، كما تراه في جميع آيات القرآن، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {يَغْضُضْنَ:} مضارع مبني على السكون، لا تصاله بنون النسوة، والنون فاعله، وهو في محل جزم، والكلام فيه كما في الآية السابقة. {مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ:} قل في هذا الكلام ما رأيته في الآية السابقة من الإعراب، والهاء فيهما وفيما يأتي في محل جر بالإضافة، والنون فيهما، وفيما يأتي حرف دال على جماعة الإناث. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {يُبْدِينَ:} مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة، وهو في محل جزم بلا الناهية، والنون فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{يَغْضُضْنَ..} . إلخ على جميع الوجوه المعتبرة فيها. {زِينَتَهُنَّ:} مفعول به

إلخ. {إِلاّ:} أداة استثناء. {ما:}

اسم موصول أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب على الاستثناء. وقيل: بدل من {زِينَتَهُنَّ} ولا وجه له. {ظَهَرَ:} ماض، والفاعل يعود إلى {ما} وهو العائد، أو الرابط.

{مِنْها:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، و (من) بيان لما أبهم في {ما،} والجملة

ص: 373

الفعلية صلة {ما} أو صفتها. {وَلْيَضْرِبْنَ:} مضارع مبني على السكون لا تصاله بنون النسوة، وهو في محل جزم بلام الأمر، والنون فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {بِخُمُرِهِنَّ:}

الباء: حرف جر صلة. (خمرهن): مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وقيل: الباء حرف جر أصلي، وهي للتبعيض. {عَلى جُيُوبِهِنَّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهو بمعنى يلقين.

{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ:} هو مثل ما قبله في إعرابه. {إِلاّ:} حرف حصر. {لِبُعُولَتِهِنَّ:}

متعلقان بمحذوف حال مستثنى من عموم الأحوال، والأسماء الآتية كلها معطوفة على هذا المجرور، و {آباءِ} مضاف، و {لِبُعُولَتِهِنَّ} مضاف إليه، و {أَبْناءِ} مضاف، و {لِبُعُولَتِهِنَّ} مضاف إليه. {بَنِي:} معطوف على ما قبله مجرور أيضا، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {بَنِي} مضاف، و {إِخْوانِهِنَّ} مضاف إليه.

{أَوْ:} حرف عطف. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر معطوف على الأسماء المجرورة قبله. {مَلَكَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث حرف لا محل له. {أَيْمانُهُنَّ:} فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: أو الذي ملكته أيمانهن.

{التّابِعِينَ:} معطوفة على ما قبله، مجرور أيضا، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {غَيْرِ:} بالجر صفة {التّابِعِينَ} أو بدل منه، ويقرأ بالنصب، وفيه وجهان: أحدهما: النصب على الحال من الضمير المستتر في {التّابِعِينَ} وثانيهما: النصب على الاستثناء من الضمير المستتر في {التّابِعِينَ} أيضا، و {غَيْرِ} مضاف، و {أُولِي} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {أُولِي} مضاف، و {الْإِرْبَةِ} مضاف إليه. {مِنَ الرِّجالِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في {التّابِعِينَ} أو من {أُولِي الْإِرْبَةِ} . {الطِّفْلِ:} معطوف على بعولتهن

إلخ، وما بعده من أسماء. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر صفة {الطِّفْلِ} . {لَمْ يَظْهَرُوا:}

مضارع مجزوم ب: {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {عَلى عَوْراتِ:} متعلقان بما قبلهما، و {عَوْراتِ} مضاف، و {النِّساءِ} مضاف إليه.

(لا): ناهية جازمة. {لْيَضْرِبْنَ:} مضارع مبني على السكون في محل جزم ب: (لا) الناهية، والنون فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة: (لا يبدين

) إلخ. {بِأَرْجُلِهِنَّ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {لِيُعْلَمَ:} مضارع مبني للمجهول منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل.

{ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع نائب فاعل. {يُخْفِينَ:}

ص: 374

مضارع مبني على السكون لا تصاله بنون النسوة التي هي فاعله، والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: ليعلم الذي، أو شيء يخفينه. {مِنْ زِينَتِهِنَّ:}

متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف، و {مِنْ} بيان لما أبهم في {ما} والهاء فيه وفي جميع ما تقدم في محل جر بالإضافة، والنون فيه وفي جميع ما تقدم حرف دال على جماعة الإناث، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل يضربن. {وَتُوبُوا:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف.

(توبوا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، وهو الأقوى لا محل لها. {إِلَى اللهِ:} متعلقان بما قبلهما.

{جَمِيعاً:} حال من واو الجماعة، وهي حال مؤكدة. {أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:} إعراب هذه الجملة مثل إعراب {يا أَيُّهَا الَّذِينَ} في الآية رقم [21]، والجملة الندائية لا محل لها مثل الجملة الفعلية قبلها. {لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها، وجملة:{تُفْلِحُونَ} في محل رفع خبرها، والجملة الاسمية:{لَعَلَّكُمْ..} . إلخ تعليل للحث على التوبة.

{وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32)}

الشرح: قال البيضاوي-رحمه الله تعالى: لما نهى عما عسى أن يفضي إلى السفاح، المخل بالنسب المقتضي للألفة، وحسن التربية، ومزيد الشفقة المؤدية إلى بقاء النوع الإنساني بعد الزجر عنه مبالغة فيه، عقبه بالأمر بالنكاح، الحافظ له. انتهى. والخطاب لأولياء الحرائر، وسادة الإماء. وفيه دليل واضح على أن المرأة، ليس لها أن تنكح نفسها بغير ولي، وهو قول أكثر الفقهاء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا نكاح إلاّ بوليّ» . أخرجه أبو داود، والترمذي، عن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه. ولهما عن عائشة-رضي الله عنها-عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «أيّما امرأة نكحت بغير إذن وليّها؛ فنكاحها باطل ثلاثا، فإن أصابها فلها المهر بما استحلّ من فرجها، فإن تشاجروا فالسّلطان وليّ من لا وليّ له» .

وقال أبو حنيفة-رحمه الله تعالى-: إذا زوجت الثيب، أو البكر البالغ نفسها بغير ولي، وبحضور شاهدين كفأ لها؛ جاز. وقال مالك: إن كانت المرأة دنيئة يجوز لها تزويج نفسها. وإن كانت شريفة فلا. ودليل الشافعي وأحمد بن حنبل-رضي الله عنهم أجمعين-الحديثان المذكوران عن أبي موسى، وعائشة-رضي الله عنهما.

هذا؛ وقد اختلف في هذا الأمر، فقال قوم: هو للوجوب، وقال قوم: هو للندب، والقول الفصل فيه: إن الرجل إن كان يتوق للزواج، وقادرا على تكاليفه، ويخشى على نفسه الهلاك في

ص: 375

الدين، أو في الدنيا، أو فيهما؛ فهو واجب له، كيف لا؟ وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«من رزقه الله امرأة صالحة، فقد أعانه على شطر دينه، فليتّق الله في الشّطر الباقي» . أخرجه الطبراني في الأوسط، عن أنس-رضي الله عنه. وفي رواية للبيهقي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تزوّج العبد؛ فقد استكمل نصف الدّين؛ فليتّق الله في النصف الباقي» . وأقول: إن المرأة في هذه الأيام صارت الدين كله، وكذلك المرأة إن كانت محتاجة للنكاح لعدم نفقة، أو خوف زنى.

وأما من لا تتوق نفسه إلى الزواج، وهو قادر عليه؛ فالتخلي للعبادة أفضل له من النكاح، كيف لا؟ وقد روى عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «يا معشر الشّباب من استطاع منكم الباءة فليتزوّج، فإنّه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصّوم، فإنّه له وجاء» . أخرجه البخاري، ومسلم، وغيرهما، الباءة: كناية عن الجماع، كما تفسر بمؤن النكاح، والوجاء بكسر الواو: رضّ الأنثيين، وهو نوع من الخصاء، فالصوم يكسر شهوة الشاب، وكذلك المرأة، فالتخلي للعبادة أفضل لها؛ إن كانت غير محتاجة

إلخ.

هذا؛ والنكاح لغة: الضم، يقال: تناكحت الأشجار؛ أي: انضم بعضها إلى بعض، وشرعا عقد يتضمن إباحة وطء بلفظ إنكاح، أو تزويج، وهو حقيقة في العقد، مجاز في الوطء على الأصح عندنا معاشر الشافعية، والكفاءة معتبرة في النكاح، ولها شروط ستة عند الحنفية، وهي:

العلم، والمال، والسن، والجمال، والنسب، والدين، وأما عند الشافعية فقد نظمها بعضهم بقوله:[الكامل]

شرط الكفاءة خمسة قد حرّرت

ينبيك عنها بيت شعر مفرد

نسب ودين حرفة حرّية

فقد العيوب، وفي اليسار تردّد

وأما في هذه الأيام فلم يعد لهذه الأمور اعتبار إلا المال، فإنه الميزان الذي توزن به النساء والرجال كما قال القائل:[الكامل]

قالوا: الكفاءة ستّة فأجبتهم

قد كان هذا في الزّمان الأقدم

أمّا بنو هذا الزّمان فإنهم

لا يعرفون سوى يسار الدّرهم

وفي الآية الكريمة حث، وترغيب في نكاح الصالحين، والصالحات، ولو كانوا عبيدا، وإماء، أو فقراء، كيف لا؟ وقد روى أبو هريرة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدّين تربت يداك!» . رواه الستة إلا الترمذي، وكذلك الرجل ينكح للأربعة المذكورة، بل نفر الرسول صلى الله عليه وسلم من زواج امرأة ليست ذات دين، فعن أنس-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تزوّج امرأة لعزّها؛ لم يزده الله إلاّ ذلاّ، ومن تزوّجها لمالها؛ لم يزده الله إلاّ فقرا، ومن تزوّجها لحسبها؛ لم يزده الله

ص: 376

إلاّ دناءة، ومن تزوّج امرأة لم يرد بها إلاّ أن يغضّ بصره، ويحصّن فرجه، أو يصل رحمه؛ بارك الله له فيها، وبارك الله لها فيه». رواه الطبراني في الأوسط، وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنه-قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تزوّجوا النّساء لحسنهنّ، فعسى حسنهنّ أن يرديهنّ، ولا تزوّجوهنّ لأموالهنّ؛ فعسى أموالهنّ أن تطغيهنّ، ولكن تزوّجوهنّ على الدّين، والخلق، ولأمة خرماء سوداء ذات دين أفضل» . رواه ابن ماجه. والعكس صحيح.

بعد هذا ف: {الْأَيامى:} جمع: أيم، وهي من ليس لها زوج؛ بكرا كانت، أو ثيبا، ومن ليس له زوج؛ بكرا كان، أو ثيبا، وقد آم، وآمت، وتأيّما: إذا لم يتزوجا؛ بكرين كانا، أو ثيّبين. قال الشاعر:[الطويل]

فإن تنكحي أنكح، وإن تتأيّمي

وإن كنت أفتى منكم أتأيّم

وقال جميل بن معمر العذري: [الطويل]

أحبّ الأيامى إذ بثينة أيّم

وأحببت لمّا أن غنيت الغوانيا

ويقال: أيّم بيّن الأيمة، وقد آمت هي، وإمت أنا. قال الشاعر:[الطويل]

لقد إمت حتّى لامني كلّ صاحب

رجاء بسلمى أن تئيم كما إمت

و {الْأَيامى} أصله: يتائم، مثل اليتامى أصله: أيائم فقلبا. {عِبادِكُمْ:} جمع: عبد، ويجمع على عبيد، وأعبد وعبدان، والمراد هنا الأرقاء، ويطلق لفظ العبد على الحر أيضا، كيف لا؟ وقد أطلق الله هذا اللفظ على حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، وأضافه إلى نفسه تشريفا وتكريما في كثير من الآيات. (إمائكم): جمع أمة، والمراد به هنا: الرقيقات، والمملوكات، كما يطلق على الحرة؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد، ولا أمة إلاّ وله ثلاثة أخلاّء

». الحديث.

{إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي: لا تمتنعوا من زواج الرجل، وتزويج المرأة بسبب الفقر، فقد وعد الله المتزوجين الطالبين العفة بالزواج، والراغبين في طاعته تعالى بالغنى، وهذا شرط اشترطه الله تعالى بقوله:{وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «التمسوا الرّزق بالنّكاح» . وقال عمر-رضي الله عنه: (عجب لمن لا يطلب الغنى بالنكاح) فإن قيل: كثيرا ما نجد الناكح فقيرا معدما، قلت: ينبغي أن يعرف العبد ما شرطه الله للغنى، وهو التقوى كما رأيت، وكذلك ما قيده بإرادته ومشيئته، ولا يشاء الحكيم العليم إلا ما اقتضته الحكمة، وما فيه مصلحة، فقد قال جل ذكره:{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .

فمن لم ينس هذه الشريطة لم ينتصب معترضا بعزب كان غنيا، فأصبح فقيرا بالنكاح، وبفاسق تاب، واتقى الله، وكان له شيء، فأصبح فقيرا بعد توبته. {وَاللهُ واسِعٌ} أي: غني ذو سعة لا يرزؤه إغناء الخلائق وهو أيضا واسع الفضل والرحمة، وواسع القدرة والعلم والحكمة.

ص: 377

{عَلِيمٌ:} يبسط الرزق لمن يشاء، ويقدر. هذا؛ وقد قال الله تعالى في الآية رقم [130] من سورة (النساء):{وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ} . فجملة القول نفحات الله، وخيراته مأمولة في كل حال موعود بها، من عزوبة، أو تزوج، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَأَنْكِحُوا:} الواو: حرف عطف. (أنكحوا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {الْأَيامى:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {مِنْكُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من الأيامى، والجملة الفعلية، بل الآية بكاملها معطوفة على ما تضمنت السورة الكريمة من حوادث. {وَالصّالِحِينَ:} معطوف على الأيامى منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء

إلخ. {مِنْ عِبادِكُمْ:} متعلقان بما قبلهما، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر فيه؛ لأنه جمع اسم فاعل، {وَإِمائِكُمْ:} معطوف على ما قبله، والكاف فيهما في محل جر بالإضافة. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {يَكُونُوا:} مضارع ناقص، فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، والواو اسمه، والألف للتفريق. {فُقَراءَ:}

خبره، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.

{يُغْنِهِمُ:} مضارع جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والهاء مفعول به. {اللهُ:} فاعله. {مِنْ فَضْلِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، وجملة:{يُغْنِهِمُ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا بإذا الفجائية، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. {اللهُ:} مبتدأ. {واسِعٌ عَلِيمٌ:} خبران له، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها أيضا.

{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)}

الشرح: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ} أي: ليجتهد في طلب العفة، وقمع الشهوة؛ حتى لا يقع في الزنى، والحرام الذين لا يجدون ما يتزوجون به من صداق، ونفقة، وقد أرشد هؤلاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصوم، كما رأيت في الآية السابقة. {حَتّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي: يوسع عليهم في الرزق من جوده وإحسانه، ويجدون أهبة الزواج، وتكاليفه.

{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ} أي: المكاتبة، و {يَبْتَغُونَ} يطلبون، ويلتمسون. قيل: نزلت الآية الكريمة في عبد لحويطب بن عبد العزى، يقال له: صبح، أو صبيح، طلب من سيده أن يكاتبه،

ص: 378

فأبى عليه، فأنزل الله هذه الآية، فكاتبه حويطب على مئة دينار، ووهب له منها عشرين دينارا، فأداها، وقتل يوم حنين-رضي الله عنه، وأرضاه.

بيان حكم الآية، وكيفية المكاتبة: وذلك أن يقول السيد لعبده: كاتبتك على كذا من المال، ويسمي مالا معلوما، تؤدي ذلك في نجمين، أو في نجوم معلومة، كل نجم (قسط) كذا، فإذا أديت ذلك؛ فأنت حر، ويقبل العبد ذلك، فإذا أدى العبد المال المتفق عليه عتق، ويصير أحق بمكاسبه من سيده، وما فضل بيده بعد أداء المال المتفق عليه فهو له، ويتبعه أولاده الذين حصلوا في الكتابة في العتق، وإذا عجز عن أداء المال كان لسيده أن يفسخ كتابته، ويرده إلى العتق، ويكون ما في يده من المال لسيده، لما روي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده-رضي الله عنهم-أنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» . أخرجه أبو داود. وذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى: {فَكاتِبُوهُمْ} أمر إيجاب، يجب على السيد أن يكاتب عبده الذي علم أن فيه خيرا؛ إذا سأل العبد ذلك على قيمته، أو على أكثر من قيمته، وإن سأل المكاتبة على أقل من قيمته، لا يجب، وهو قول عطاء، وعمرو بن دينار؛ لما روي: أن سيرين، -أبا محمد بن سيرين- سأل أنس بن مالك-رضي الله عنهم أجمعين-أن يكاتبه، فأبى، فانطلق سيرين إلى الفاروق رضي الله عنه، فشكاه إليه، فدعاه الفاروق، فقال له: كاتبه، فأبى، فضربه بالدّرّة، وتلا قوله تعالى:{فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} فكاتبه. انتهى خازن بتصرف.

وقد اختلف في معنى (الخير) فقال الشافعي-رحمه الله تعالى-: أظهر معاني الخير في العبد، الاكتساب مع الأمانة، فأحب أن لا يمنع من المكاتبة؛ إذا كان هكذا، وعن أبي هريرة رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ثلاثة حقّ على الله عونهم: المكاتب الذي يريد الأداء، والنّاكح الّذي يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله» . أخرجه الترمذي، والنسائي.

{وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ:} هذا خطاب لسادات المكاتبين أن يحطوا عنهم شيئا من المال الذي كاتبوهم عليه. وقيل: هو حث لجميع المسلمين على مساعدتهم في تحرير رقابهم، ولذا فقد جعل الله لهم نصيبا مفروضا من الزكاة، وذلك في قوله تعالى:{وَفِي الرِّقابِ} من آية التوبة رقم [60]. وأكتفي بهذا؛ لأنه لم يبق للرق وجود في الدنيا. وقد كان في الزمن الغابر وقبل الإسلام يعمّ العالم وجوده، ولا أحكام تضبطه، ثمّ أخذت أحكامه قسطا كبيرا من الفقه الإسلامي.

{وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ:} المراد ب: (الفتيات): الإماء، و {الْبِغاءِ} الزنى، فقد روي عن جابر، وابن عباس-رضي الله عنهما-أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبيّ المنافق، فقد كانت له جاريتان: إحداهما تسمى: معاذة، والأخرى مسيكة، وكان يكرههما على الزنى، ويضربهما عليه ابتغاء المال، وكسب الولد، إن حبلت إحداهما، أو كلتاهما، فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت

ص: 379

الآية فيه، وفيمن فعل فعله من المنافقين، ومعاذة هذه أم خولة التي جادلت النبي صلى الله عليه وسلم في زوجها، كما ستعرفه إن شاء الله تعالى في مطلع سورة (المجادلة). انتهى. قرطبي بتصرف.

{إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} أي: إن أراد الفتيات؛ أي: الإماء تعففا عن الزنى، وذلك: أن الفتاة إذا أرادت التحصن، فحينئذ يمكن، ويتصور أن يكون السيد مكرها، ويمكن أن ينهى عن الإكراه، وإذا كانت الفتاة لا تريد التحصن، فلا يتصور أن يقال للسيد: لا تكرهها؛ لأن الإكراه لا يتصور فيها، وهي مريدة للزنى، فهذا أمر في سادة، وفتيات حالهم هذه، وإلى هذا المعنى أشار ابن العربي رحمه الله تعالى، فقال: إنما ذكر الله إرادة التحصن من المرأة؛ لأن ذلك هو الذي يصور الإكراه، فأما إذا كانت راغبة في الزنى لم يتصور إكراه، فحصّلوه. وذهب هذا النظر عن كثير من المفسرين:

فقال بعضهم: إن الكلام راجع إلى {الْأَيامى} في الآية السابقة. قال الزجاج، والحسين بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير، أي وأنكحوا الأيامى والصالحين من عبادكم، إن أردن تحصنا. وقال بعضهم: هذا الشرط في قوله: {إِنْ أَرَدْنَ} ملغى، ونحو ذلك مما يضعف، والله الموفق. انتهى. قرطبي بتصرف. هذا؛ وقيل: هذا الشرط لا مفهوم له. {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا} أي: الشيء الذي تكسبه الأمة بفرجها، والولد يسترق فيباع، وقيل: كان الزاني يفتدي ولده من المزنيّ بها بمئة من الإبل يدفعها إلى سيدها.

وقال أبو السعود-رحمه الله تعالى-: وقوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} ليس لتخصيص النهي بصورة إرادتهن التعفف عن الزنى، وإخراج ما عداها من حكمة، كما كان الإكراه بسبب كراهتهن الزنى لخصوص الزاني، أو لخصوص الزمان، أو لخصوص المكان، أو لغير ذلك من الأمور المصححة للإكراه في الجملة، بل للمحافظة على عادتهم المستمرة، حيث كانوا يكرهونهن على البغاء، وهن يردن التعفف عنه مع وفور شهرتهن الآمرة بالفجور، وقصورهن في معرفة الأمور، الداعية إلى المحاسن الزاجرة عن تعاطي القبائح. انتهى.

هذا؛ و {عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا} حطامها الفاني، وإنما سمى سبحانه منافع الدنيا عرضا؛ لأنه لا ثبات لها ولا دوام، فكأنها تعرض، ثم تزول بخلاف منافع الآخرة، فإنها دائمة لا انقطاع لها، و {عَرَضَ} بفتح العين والراء هنا، وهو بضم العين وسكون الراء: ناحية الشيء من أي وجه جئته، وهو بفتح العين وسكون الراء: ضد الطول، وهو بكسر العين وسكون الراء: النفس، يقال:

أكرمت عنه عرضي، أي صنت عنه نفسي، وهو أيضا: رائحة الجسد وغيره، طيبة كانت أو خبيثة، يقال: فلان طيب العرض، أو منتن العرض، وانظر شرح {الْحَياةِ الدُّنْيا} في الآية رقم [72] من سورة (طه).

{وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ:} على الزنى. {فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي: لهن، أو: له إن تاب، والأول أوفق للظاهر، ولما في مصحف ابن مسعود-رضي الله عنه: (بعد إكراههنّ لهنّ

ص: 380

غفور رحيم) وكان الحسن يقول: لهنّ والله! لهن والله! ولا يرد عليه: أن المكرهة غير آثمة، فلا حاجة إلى المغفرة؛ لأن الإكراه لا ينافي المؤاخذة بالذات، ولذلك حرم على المكره القتل، وأوجب عليه القصاص.

خاتمة: يطعن المستشرقون، والملحدون من أبناء المسلمين في الإسلام، وينعتونه بالقسوة، وبأنه عمل على تكديس الرق، وتكريسه، ويستدلون على ذلك بما كان عند الخلفاء والأثرياء من العبيد، والسراري الكثيرة. والجواب، بل والرد المفحم لهم: أن الإسلام لم يبتدع الرق، ولم يعمل على تشجيعه، وإنما جاء والبشرية غارقة بماسي الرقيق، فلو دعا الإسلام من أول نشأته إلى تحرير الرق، لنفر منه الأثرياء، وذوو الجاه، والسلطان.

ولكنه عمل على تحرير الرقيق بشتى الوسائل، وفتح أبوابا كثيرة لتحريره، لم نجد ذلك في اليهودية، ولا في النصرانية، ولا في المجوسية وغيرها من الديانات على ممر العصور، فهذه المكاتبة التي رأيت شرحها، وقد جعل الإسلام تحرير الرقيق أول ما يجب في الكفارات لمن كان يملك رقيقا، أو قدر على شرائه، وذلك في كفارة اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة القتل غير العمد، وكفارة الجماع في أيام رمضان، ونحو ذلك. هذا بالإضافة إلى الترغيب في عتق الرقيق احتسابا لوجه الله تعالى، يتجلى ذلك في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«من عتق رقبة مؤمنة كانت فكاكه من النّار» .

هذا؛ بالإضافة إلى حسن المعاملة التي أمر بها الإسلام في التخاطب بين السيد وعبده، وفي المأكل، والملبس، والعمل. ففي التخاطب قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يقل أحدكم عبدي، وليقل:

يا مولاي». وذلك لئلا ينكسر خاطر العبد بكلمة: عبدي، فكانت كلمة: يا مولاي متبادلة بين السيد، ومملوكه. وأما في المأكل والملبس، والعمل؛ فقد قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم:«إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده، فليطعمه ممّا يأكل، وليلبسه ممّا يلبس، ولا يكلّفه من العمل ما يغلبه، فإن كلّفه ما يغلبه فليعنه عليه» . رواه البخاري، وغيره من حديث أبي ذر-رضي الله عنه. هذا؛ ويلحق بالعبد الأجير، والخادم الضعيف، والدابة.

لذا لم يكن التذمر موجودا عند طبقة العبيد في الإسلام، بل كان السادة والعبيد متحابين متوادين متآلفين، ولم تقم ثورات للعبيد على أسيادهم في بلاد المسلمين، كالذي حدث عند الأوربيين وذلك للظلم الذي أحاط بالعبيد في أوربا خلال القرون الوسطى، وكان من أبرزها الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر الميلادي، وما تلاها من ثورات واحتجاجات في إنكلترا وغيرها، حتى أدى ذلك إلى إلغاء الرق في مطلع القرن العشرين، ولو بقي الرق موجودا في بلاد المسلمين إلى اليوم لما رأينا أثرا لهذا التذمر الذي حصل في أوربا، وهذه دولة الولايات المتحدة التي تدعي التقدمية، وتدافع عن حقوق الإنسان لا يزال التمييز العنصري موجودا في جميع هيئاتها، فكيف يصمون الإسلام مما هو منه براء؟!.

ص: 381

الإعراب: {وَلْيَسْتَعْفِفِ:} الواو: حرف استئناف. (ليستعفف): مضارع مجزوم بلام الأمر.

{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.

{لا:} نافية. {يَجِدُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، وهو العائد. {نِكاحاً:} مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {حَتّى:} حرف غاية وجر، بعدها «أن» مضمرة.

{يُغْنِيَهُمُ:} مضارع منصوب ب: «أن» المضمرة، والهاء: مفعول به. {اللهُ:} فاعله. {مِنْ فَضْلِهِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

{وَالَّذِينَ:} الواو: حرف استئناف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وفي الخبر وجهان: أحدهما محذوف، وهو قول سيبويه، التقدير: فيما يتلى عليكم حكم الذين يبتغون

إلخ، وعند المبرد الخبر هو جملة:{فَكاتِبُوهُمْ..} . إلخ، وهو موافق للكوفيين في هذا، ودخول الفاء في الخبر زائدة؛ لأن الكلام في معنى الشرط، أو الموصول في محل نصب مفعول به لفعل محذوف يفسره المذكور بعده، وهو المختار في أمثاله؛ لأن الخبر لا يكون جملة إنشائية، إلا بإضمار وتأويل، ومثل هذه الآية في أوجه الإعراب الآية رقم [2 و 4].

{يَبْتَغُونَ:} مضارع وفاعله. {الْكِتابَ:} مفعول به. {مِمّا:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، و (من) بيان لما أبهم في الموصول. {مَلَكَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث. {أَيْمانُكُمْ:}

فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف إذ التقدير: من الذين ملكتهم أيمانكم، وجملة:{يَبْتَغُونَ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها.

{فَكاتِبُوهُمْ:} الفاء: حرف استئناف، أو هي زائدة. (كاتبوهم): أمر، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية مستأنفة على قول سيبويه، وفي محل رفع خبر المبتدأ على قول المبرد، ومفسرة لا محل لها على الاشتغال، والجملة الاسمية، أو الفعلية المقدرة لا محل لها. تأمل. {إِنْ:}

حرف شرط جازم. {عَلِمْتُمْ:} ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله. {فِيهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من خيرا، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة

إلخ، وجملة:{عَلِمْتُمْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة الشرطية مرتبطة بما قبلها، لا محل لها أيضا.

(آتوهم): أمر، وفاعله، ومفعوله. {مِنْ مالِ:} متعلقان به، و {مالِ} مضاف، و {اللهُ} مضاف إليه. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة {مالِ اللهِ} .

{آتاكُمْ:} ماض، وفاعله يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: الذي آتاكموه، وجملة:{وَآتُوهُمْ..} . إلخ معطوفة

ص: 382

على جملة (كاتبوهم

) إلخ على جميع الوجوه المعتبرة فيها. {وَلا:} الواو: حرف استئناف.

(لا تكرهوا): مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {فَتَياتِكُمْ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والكاف في محل جر بالإضافة. {عَلَى الْبِغاءِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {أَرَدْنَ:} ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والنون فاعله. {تَحَصُّناً:} مفعول به، وجملة:{أَرَدْنَ تَحَصُّناً} لا محل لها؛ لأنها ابتدائية

إلخ، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: إن أردن تحصنا؛ فلا تكرهوهن على البغاء. وانظر الشرح، والجملة الشرطية مرتبطة بما قبلها لا محل لها مثلها.

{لِتَبْتَغُوا:} مضارع منصوب ب: «أن» المضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {تُكْرِهُوا}. {عَرَضَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الْحَياةِ} مضاف إليه. {الدُّنْيا:} صفة {الْحَياةِ} مجرور مثله

إلخ.

{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُكْرِهْهُنَّ:} مضارع فعل الشرط. والفاعل يعود إلى (من) والهاء مفعول به، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {فَإِنَّ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إن): حرف مشبه بالفعل.

{اللهُ:} اسمها. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان ب: {غَفُورٌ} بعدهما. و {بَعْدِ} مضاف، و {إِكْراهِهِنَّ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، والنون علامة جمع الإناث. {غَفُورٌ:} خبر (إنّ). {رَحِيمٌ:} خبر ثان، والجملة الاسمية: (إن الله

) إلخ في محل جزم عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محلّ المفرد، وانظر المتعلق المحذوف في الشرح، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: جملة الشرط، وقيل: جملة الجواب، وقيل: هو الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين، والجملة الاسمية {وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)}

الشرح: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ:} بكسر الياء المشددة، أي: بينت هذه الآيات الأحكام، والحدود، وهي واضحة في نفسها، يصدقها الكتب القديمة، والعقول السليمة، أو من بيّن بمعنى: تبين، ومنه المثل:[الرجز]

قد بيّن الصبح لذي عينين

ص: 383

هذا؛ ويقرأ بفتح الياء المشددة على أن المراد الآيات التي بيّنت في هذه السورة، وأوضحت في معاني الأحكام والحدود، وجاز أن يكون الأصل مبينا فيها، فاتسع في الظرف، أي أجري مجرى المفعول به، ومنه قول رجل من بني عامر، لم يسم:[الطويل]

ويوما شهدناه سليما وعامرا

قليلا سوى الطّعن النّهال نوافله

{وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: ومثلا من أمثال من قبلكم، أي وقصة عجيبة مثل قصصهم، وهي قصة عائشة-رضي الله عنها، فإنها كقصة يوسف، ومريم على نبينا، وحبيبنا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام. {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ:} وتخصيص المتقين بالذكر؛ لأنهم هم المنتفعون بمواعظ القرآن، وتذكيره. هذا؛ وقد قيل: المثل من نحو قوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ} {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ..} . إلخ، {يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً} .

بعد هذا: انظر (نا) في الآية رقم [49] من سورة (مريم)، وشرح أنزل، ونزل في الآية رقم [1].

الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. اللام: واقعة في جواب القسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَنْزَلْنا:} فعل، وفاعل. {إِلَيْكُمْ:} متعلقان بما قبلهما.

{آياتٍ:} مفعول به. {مُبَيِّناتٍ:} صفة له منصوب مثله، وعلامة نصبهما الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنهما جمعا مؤنث سالمان، وجملة: (قد أنزلنا

) إلخ جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف. (مثلا): معطوف على {آياتٍ} . {مِنَ الَّذِينَ:} متعلقان بمحذوف صفة (مثلا). {خَلَوْا:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، التي هي فاعله، والألف للتفريق. {مِنْ قَبْلِكُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، وهو أولى من تعليقهما بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. (موعظة):

معطوف على مثلا. {لِلْمُتَّقِينَ:} متعلقان ب: (موعظة) أو بمحذوف صفة لها، وجملة:{خَلَوْا..} .

إلخ صلة الموصول لا محل لها.

{اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)}

الشرح: {اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:} النور في كلام العرب: الأضواء المدركة بالباصرة، أو هو كيفية تدركها الباصرة أولا، وبواسطتها تدرك سائر المبصرات. وفي تأويل هذه الجملة أقوال

ص: 384

كثيرة، وتفسيرات عديدة، فقد قال ابن عباس-رضي الله عنهما: معناه: الله هادي السموات، والأرض، فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهدايته من حيرة الضلالة ينجون. وقيل: معناه: الله منوّر السموات والأرض، وقد قرئ به، وقيل: نور السماء بالملائكة، ونور الأرض بالأنبياء، وقيل:

معناه: مزين السموات والأرض، زين السماء بالشمس، والقمر، والنجوم، وزين الأرض بالأنبياء، والعلماء، والمؤمنين، يقال: زين الأرض بالنبات، والأشجار، وقيل: معناه: أن الأنوار كلها منه تعالى. وقد يذكر هذا اللفظ على طريق المدح، فيستعمل مجازا فيما صح من المعاني ولاح: فيقال منه: كلام له نور، ومنه الكتاب المنير، ومنه قول الشاعر:[الكامل]

نسب كأنّ عليه من شمس الضّحى

نورا، ومن فلق الصّباح عمودا

والناس يقولون: فلان نور البلد، وشمس العصر، وقمره، قال النابغة الذبياني في مدح النعمان بن المنذر:[الطويل]

فإنّك شمس والملوك كواكب

إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب

فيجوز أن يقال: لله تعالى نور، من جهة المدح؛ لأنه أوجد الأشياء، ونور جميع الأشياء منه ابتداؤها، وعنه صدورها، وهو سبحانه ليس من الأضواء المدركة، تنزه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وجملة القول: إن بالله تعالى وبقدرته أنارت أضواء السموات والأرض، واستقامت أمورها، وقامت مصنوعاتها. فالكلام على التقريب للذهن.

{مَثَلُ نُورِهِ} أي: مثل نور الله عز وجل في قلب المؤمن، وهو النور الذي يهتدي به.

وقيل: أراد بالنور: القرآن. وقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو الطاعة، سمى سبحانه طاعته نورا، وأضاف هذه الأنوار إلى نفسه تشريفا، وتفضيلا، وعلى الثلاثة الأخيرة فيها عود الضمير على من لم يجر له ذكر.

{كَمِشْكاةٍ:} هي الكوة في الحائط غير النافذة، قاله ابن جبير، وجمهور المفسرين، وهي أجمع للضوء، والمصباح فيها أكثر إنارة منه في غيرها، وهي على وزن مفعلة كالمقراض، والمصفاة، قال الشاعر:[البسيط]

كأنّ عينيه مشكاتان في حجر

قيضا اقتياضا بأطراف المناقير

{الْمِصْباحُ:} الفتيل الذي تشتعل فيه النار للإضاءة، و {الزُّجاجَةُ} جسم شفاف، والمصباح فيه أضوأ، وأنور منه في غير الزجاج. {كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} أي في الإنارة، والضوء، والمراد ب:{كَوْكَبٌ} أحد الكواكب الخمسة السيارة، التي هي: زحل، والمشتري، والمريخ، والزهرة، وعطارد، ووصفه ب:{دُرِّيٌّ} أي شديد الإنارة نسبة إلى الدر في صفائه، وحسنه، وإن كان الكوكب أضوأ من الدر، لكنه يفضل الكوكب بصفائه، كما يفضل الدر على سائر اللؤلؤ، قيل:

ص: 385

إن الله شبه المصباح بالكوكب، ولم يشبهه بالشمس، والقمر؛ لأنهما يلحقهما الكسوف بخلاف الكواكب. هذا؛ ويقرأ {دُرِّيٌّ} بقراآت كثيرة.

{يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ} أي: يستمد المصباح زيته من زيت شجرة كثيرة البركة، وهي شجرة الزيتون، ذات المنافع الكثيرة. انظر ما ذكرته في الآية رقم [20] من سورة (المؤمنون).

هذا؛ ويقرأ: «(توقد)» بالتاء على إسناده إلى الزجاجة، و «(توقّد)» على أنه أصله: تتوقد.

{زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ:} فقد قال ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، وغيرهم: الشرقية هي التي تصيبها الشمس إذا أشرقت، ولا تصيبها إذا غربت؛ لأن لها سترا. والغربية عكسها، أما شجرة الزيتون المذكورة هنا فإنها في صحراء ومنكشف من الأرض، لا يواريها عن الشمس شيء في أول النهار، ولا في آخره، فليست خالصة للشرق فتسمى شرقية، ولا للغرب فتسمى غربية، بل هي شرقية غربية، وما كانت بهذه المثابة؛ فزيتها أطيب زيت. وقيل: المعنى: أنها معتدلة ليست في شرق يضرها الحر، ولا في غرب يضرها البرد. وقيل: المعنى: هي شامية؛ لأن الشام وسط الأرض لا شرقي، ولا غربي. وقيل: ليست هذه الشجرة من أشجار الدنيا؛ لأنها لو كانت في الدنيا، لكانت شرقية، أو غربية، وإنما هو مثل ضربه الله لنوره. وقيل غير ذلك، والأول هو الأولى بالاعتبار.

{يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ} أي: يكاد يضيء بنفسه من غير نار تمسه، وذلك لشدة صفائه، وحسنه، وجودته، وفرط تلألئه، ورونقه. {نُورٌ عَلى نُورٍ} أي أنه اجتمع في المشكاة ضوء المصباح، إلى ضوء الزجاجة، وإلى ضوء الزيت الصافي الجيد، فصارت المشكاة كأنور ما يكون، لحصر النور فيها، وعدم نفاذه إلى خارجها، فكذلك براهين الله تعالى واضحة، وهي برهان بعد برهان، وتنبيه بعد تنبيه، كإرساله الرسل، وإنزاله الكتب، ومواعظ تتكرر فيها لمن له عقل معتبر.

{يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ} هدايته، وسعادته، ومن لم يهده الله فلا هادي له، ولا يرى النور مهما قدمت له من البراهين، والحجج. قال تعالى في الآية رقم [17] من سورة (الكهف):{مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً} . {وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنّاسِ} أي:

يبين الله الأشياء للناس تقريبا للأفهام، وتسهيلا لسبيل الإدراك، وإدناء للمعقول من المحسوس توضيحا وبيانا. {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ:} لا يخفى عن علمه شيء في الأرض، ولا في السماء، معقولا كان، أو محسوسا، ظاهرا كان، أم خفيا، وفيه وعد لمن تدبر الأمثال، وانتفع بها، ووعيد لمن لم يكترث بها، ولم يستفد منها.

هذا؛ وعلى اعتبار الممثل به فقد اختلف العلماء في معنى هذا التمثيل، فقيل: المراد به الهدى، ومعناه: أن هداية الله تعالى قد بلغت في الظهور، والجلاء إلى أقصى الغايات، وصار ذلك بمنزلة المشكاة التي فيها زجاجة صافية، وفي تلك الزجاجة مصباح يتقد بزيت، بلغ النهاية

ص: 386

في الصفاء، والرقة، والبياض، فإذا كان كذلك؛ كان عاملا في صفائه، وصلح أن يجعل مثلا لهداية الله تعالى.

وقيل: وقع هذا التمثيل لنور محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس-رضي الله عنهما-لكعب الأحبار: أخبرني عن قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ} قال كعب: هذا مثل ضربه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، فالمشكاة صدره، و {الزُّجاجَةُ} قلبه، و {الْمِصْباحُ} فيه النبوة. {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ} هي شجرة النبوة، يكاد محمد صلى الله عليه وسلم، وأمره يتبين للناس، ولو لم يتكلم به أنه نبي، كما يكاد ذلك الزيت يضيء، ولو لم تمسسه نار.

وروي عن ابن عمر-رضي الله عنهما-في هذه الآية قال: المشكاة جوف محمد صلى الله عليه وسلم، والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي جعله الله فيه، {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ:} لا يهودي، ولا نصراني، {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ:} إبراهيم عليه الصلاة، والسّلام، {نُورٌ عَلى نُورٍ:} نور قلب إبراهيم، ونور قلب محمد صلى الله عليه وسلم.

وقال محمد بن كعب القرظي: المشكاة: إبراهيم، و {الزُّجاجَةُ:} إسماعيل، و {الْمِصْباحُ:}

محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين، سمى الله محمدا مصباحا، كما سماه:(سراجا منيرا)، والشجرة المباركة إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ لأن أكثر الأنبياء من صلبه، {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ،} يعني إبراهيم لم يكن يهوديا، ولا نصرانيا، ولكن كان حنيفا مسلما؛ لأن اليهود تصلي إلى الغرب، والنصارى تصلي إلى الشرق، {يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ} تكاد محاسن محمد صلى الله عليه وسلم تظهر للناس قبل أن يوحى إليه، {نُورٌ عَلى نُورٍ} نور نبي من نسل نبي، نور محمد على نور إبراهيم.

وقيل: وقع هذا التمثيل لنور قلب المؤمن، قال أبي بن كعب: هذا مثل المؤمن، فالمشكاة نفسه، والزجاجة قلبه، و {الْمِصْباحُ} ما جعله الله فيه من الإيمان، والقرآن، {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ} هي شجرة الإخلاص لله وحده، فمثله مثل شجرة التفّ بها الشجر، فهي خضراء ناعمة نضرة، لا تصيبها الشمس؛ إذا طلعت، ولا إذا غربت، فكذلك المؤمن قد احترس أن يصيبه شيء من الفتن، فهو بين أربع خلال، إن أعطي؛ شكر، وإن ابتلي؛ صبر، وإن حكم؛ عدل، وإن قال؛ صدق، {يَكادُ زَيْتُها،} أي يكاد قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يتبين له لموافقته إياه، {نُورٌ عَلى نُورٍ،} قال أبيّ: أي: فهو يتقلب في خمسة أنوار، قوله نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة.

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن، كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإذا مسته النار ازداد ضوآ على ضوئه، كذلك يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم؛ ازداد هدى على هدى، ونورا على نور.

وقال الكلبي: {نُورٌ عَلى نُورٍ} يعني: إيمان المؤمن وعمله. وقيل: نور الإيمان، ونور القرآن، وقيل: هذا مثل القرآن، فالمصباح هو القرآن، فكما يستضاء بالمصباح؛ فكذلك يهتدى

ص: 387

بالقرآن. والزجاجة قلب المؤمن، والمشكاة فمه ولسانه، والشجرة المباركة شجرة المعرفة في قلبه، {يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ} أي: نور المعرفة يشرق في قلب المؤمن، {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ} .

وقيل: تكاد حجة القرآن تتضح؛ وإن لم يقرأ. {نُورٌ عَلى نُورٍ} يعني: القرآن نور من الله لخلقه، مع ما أقام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن، فازدادوا بذلك نورا على نور. انتهى.

خازن بحروفه. هذا؛ وضرب المثل يكون بدنيء محسوس معهود، لعليّ رفيع غير معاين، ولا مشهود، فأبو تمام لما قال في المأمون:[الكامل]

إقدام عمرو في سماحة حاتم

في حلم أحنف في ذكاء إياس

فقيل له: إن الخليفة فوق من مثلته بهم، فقال مرتجلا [الكامل]

لا تنكروا ضربي له من دونه

مثلا شرودا في النّدى والباس

فالله قد ضرب الأقلّ لنوره

مثلا من المشكاة والنّبراس

هذا؛ وقد اختلفوا أيضا في هذا التشبيه، هل هو تشبيه مركب، أي: قصد فيه تشبيه جملة بجملة من غير نظر إلى مقابلة جزء بجزء، بل قصد تشبيه هداه، وإتقان صنعته في كل مخلوق على الجملة بهذه الجملة من النور الذي تتخذونه، وهو أبلغ صفات النور عندكم؟ أو هو تشبيه غير مركب؛ أي: قصد مقابلة جزء بجزء؟ وهل المشكاة عربية، أم حبشية معربة؟ خلاف.

انتهى. جمل بحروفه.

الإعراب: {اللهُ:} مبتدأ. {نُورُ:} خبره، وهو مضاف، و {السَّماواتِ} مضاف إليه.

{وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {مَثَلُ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {نُورِهِ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة. {كَمِشْكاةٍ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، وإن اعتبرت الكاف اسما فهي الخبر، وتكون الكاف مضافا، و (مشكاة) مضافا إليه، والجملة الاسمية:{مَثَلُ..} . إلخ مفسرة لما قبلها، لا محل لها مثلها. {فِيها:}

متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِصْباحٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل جر صفة (مشكاة). هذا؛ ويجوز اعتبار الجار والمجرور فيها متعلقين بمحذوف صفة (مشكاة)، فيكون {مِصْباحٌ} فاعلا بمتعلق الجار والمجرور. {الْمِصْباحُ:} مبتدأ. {فِي زُجاجَةٍ:} متعلقان بمحذوف خبره، والجملة الاسمية في محل رفع صفة {مِصْباحٌ،} أو هي مستأنفة، لا محل لها، وقيل:

مفسرة لما قبلها، وعلى الأول فالرابط: إعادة المصباح بلفظه. {الزُّجاجَةُ:} مبتدأ. {كَأَنَّها:}

حرف مشبه بالفعل، و (ها): اسمها. {كَوْكَبٌ:} خبرها. {دُرِّيٌّ:} صفة {كَوْكَبٌ،} والجملة الاسمية: {كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{الزُّجاجَةُ..} . إلخ في محل رفع صفة {زُجاجَةٍ،} أو هي مستأنفة، لا محل لها، وقيل: مفسرة لما قبلها.

ص: 388

{يُوقَدُ:} مضارع مبني للمجهول، ويقرأ بالتاء، بالبناء للمعلوم، كما يقرأ بالبناء للماضي وبالتاء، ونائب الفاعل على الأول يعود إلى {كَوْكَبٌ} والفاعل على الثاني يعود إلى {الزُّجاجَةُ} وعلى الثالث يعود إلى {كَوْكَبٌ،} والجملة الفعلية على الأول، والثالث في محل رفع صفة ثانية ل:{كَوْكَبٌ،} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه ب: {دُرِّيٌّ} وعلى الثاني في رجوع الفاعل، فالجملة الفعلية في محل رفع خبر ثان للمبتدأ الذي هو الزجاجة. {مِنْ شَجَرَةٍ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الفاعل، أو من نائبه المستتر في الفعل. {مُبارَكَةٍ:} صفة {شَجَرَةٍ} . {زَيْتُونَةٍ:} بدل من {شَجَرَةٍ} أو هي عطف بيان عليها، وهذا مذهب الكوفيين، وتبعهم أبو علي الفارسي من البصريين، والأول أشهر، وهو قول البصريين، فإنهم لا يجيزون عطف البيان في النكرات، وهو مثل قوله تعالى في الآية رقم [16] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام {وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ}. {لا شَرْقِيَّةٍ:} صفة ثانية ل: {شَجَرَةٍ} منفية. (لا غربية): معطوف على ما قبله.

{يَكادُ:} مضارع ناقص مرفوع. {زَيْتُها:} اسم يكاد، و (ها): في محل جر بالإضافة.

{يُضِيءُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى زيتها، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {يَكادُ،} وجملة: {يَكادُ..} . إلخ في محل جر صفة ثانية، أو ثالثة ل:{شَجَرَةٍ} وقال أبو البقاء: نعت ل: {زَيْتُونَةٍ،} أو في محل نصب حال منها بعد وصفها بما تقدم. {وَلَوْ:} الواو: واو الحال.

(لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {لَمْ:} حرف جازم. {تَمْسَسْهُ:} مضارع مجزوم ب: (لم) والهاء مفعول به. {نارٌ:} فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:

لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب (لو) محذوف، التقدير: ولو لم تمسسه نار؛ لأضاء، و (لو) ومدخولها في محل نصب حال من فاعل {يُضِيءُ} المستتر، وهذه الحال لاستقصاء الأحوال، أي: حتى في هذه الحال. انتهى. جمل.

{نُورُ:} مبتدأ. {عَلى نُورٍ:} متعلقان بمحذوف خبره، وقيل:{نُورُ} خبر مبتدأ محذوف، و {عَلى نُورٍ} متعلقان بمحذوف صفة له مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة، أي: ذلك النور نور عظيم كائن على نور كذلك، لا على أنه عبارة عن نور واحد معين، أو غير معين فوق نور آخر مثله، ولا عن مجموع نورين اثنين فقط، بل عبارة عن نور متضاعف من غير تحديد لتضاعفه بحدّ معين، وتحديد مراتب تضاعف ما مثل به من نور المشكاة بما ذكر؛ لكونه أقصى مراتب تضاعفه عادة. انتهى. جمل. والجملة الاسمية:{نُورٌ عَلى نُورٍ} فيها معنى التأكيد لجملة: {يُضِيءُ..} . إلخ {يَهْدِي:} مضارع مرفوع

إلخ. {اللهُ:} فاعله. {لِنُورِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: يهدي الله لنوره الذي، أو: شخصا يشاء هدايته. وجملة: {يَهْدِي..} . إلخ مستأنفة،

ص: 389

لا محل لها. وجملة: {وَيَضْرِبُ..} . إلخ معطوفة عليها لا محل لها مثلها، والجملة الاسمية {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} مستأنفة، لا محل لها، والجار والمجرور {بِكُلِّ} متعلقان ب:{عَلِيمٌ} بعدهما والذي هو خبر المبتدأ، و (كل) مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه.

{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36)}

الشرح: {فِي بُيُوتٍ:} المراد به جميع المساجد. قال ابن عباس-رضي الله عنهما:

المساجد بيوت الله في الأرض، تضيء لأهل السماء، كما تضيء النجوم لأهل الأرض. وقيل:

المراد بالبيوت أربعة مساجد، لم يبنها إلا نبي:(الكعبة) بناها إبراهيم، وإسماعيل، وجعلاها قبلة، و (بيت المقدس) بناه داود، وسليمان، و (مسجد المدينة) و (مسجد قباء) بناهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى جميع الأنبياء، والمرسلين. والمعتمد الأول؛ لما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من أحبّ الله؛ فليحبني، ومن أحبّني؛ فليحبّ أصحابي؛ ومن أحبّ أصحابي؛ فليحبّ القرآن، ومن أحبّ القرآن؛ فليحبّ المساجد، فإنها أفنية الله، وأبنيته، أذن الله في رفعها، وبارك فيها، ميمونة ميمون أهلها، محفوظة محفوظ أهلها، هم في صلاتهم، والله عز وجل في حوائجهم، هم في مساجدهم، والله من ورائهم» . انتهى.

قرطبي بتصرف، والأحاديث المرغبة في لزوم المساجد كثيرة لا تعد، ولا تحصى.

{أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ:} أمر، وقضى، وحكم أن تبنى، وتشيد. قاله مجاهد، وعكرمة، ومنه قوله تعالى:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ..} . إلخ وقال صلى الله عليه وسلم: «من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله؛ بنى الله له بيتا في الجنّة» . رواه البخاري، ومسلم، وغيرهما عن عثمان بن عفان-رضي الله عنهما-وعن أبي ذر-رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بنى لله مسجدا قدر مفحص قطاة، بنى الله له بيتا في الجنة» . رواه الطبراني في الصغير، وابن حبّان، والبزار، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة تحض على بناء المساجد، وتشييدها من غير إسراف في زخرفتها.

وقال الحسن البصري، وغيره: معنى {تُرْفَعَ} تعظم، وتطهر من الأنجاس، والأقذار. هذا؛ وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة، فعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أخرج أذى من المسجد؛ بنى الله له بيتا في الجنّة» . رواه ابن ماجه. وعن أبي قرصافة-رضي الله عنه-أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ابنوا المساجد، وأخرجوا القمامة منها، فمن بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة» . فقال رجل: يا رسول الله! وهذه المساجد التي تبنى في الطريق؟ قال: «نعم، وإخراج القمامة منها مهور الحور العين» رواه الطبراني في الكبير.

{وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} أي: بالتقديس، والتحميد، والتهليل، والتكبير، أو بقراءة القرآن الكريم، أو بالصلاة، والتسليم على سيد المرسلين، أو بمدارسة العلوم الشرعية على جميع

ص: 390

أنواعها، واختلاف فنونها. ويجب أن تجنب المساجد البيع، والشراء، وإنشاد الضائع، والجلوس فيها لحديث الدنيا، فإن ذلك يمحق الحسنات، ويضاعف السيئات، فعن أبي هريرة رضي الله عنه-أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سمع رجلا ينشد ضالّة في المسجد؛ فليقل:

لا ردّها الله عليك، فإنّ المساجد لم تبن لهذا». رواه مسلم، وأبو داود، وابن ماجه، وغيرهم، وعنه-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم من يبيع، أو يبتاع في المسجد فقولوا:

لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد ضالّة فقولوا: لا ردّها الله عليك». رواه الترمذي والنسائي وابن خزيمة والحاكم، وعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيكون في آخر الزّمان قوم يكون حديثهم في مساجدهم، ليس لله فيهم حاجة» .

رواه ابن حبّان في صحيحه. ولولا الإطالة لذكرت لك الكثير من هذا.

وأما تناشد الأشعار في المسجد فاختلف في ذلك، فمن مانع مطلقا، ومن مجيز مطلقا، والأولى التفصيل، وهو أن ينظر إلى الشعر، فإن كان مما يقتضي الثناء على الله عز وجل، أو على رسوله صلى الله عليه وسلم، أو الذب عنهما، كما في شعر حسان-رضي الله عنه، أو يتضمن الحض على الخير والوعظ، والزهد في الدنيا، والتقلل منها؛ فهو حسن في المساجد، وغيرها كقول أبي العتاهية:[الكامل]

أقم الصّلاة لوقتها بشروطها

فمن الضّلال تفاوت الميقات

وإذا اتّسعت برزق ربّك فاجعلن

منه الأجلّ لأوجه الصدقات

في الأقربين وفي الأباعد تارة

إنّ الزكاة قرينة الصّلوات

وللشافعي-رضي الله عنه-أشعار في الحكمة لا بأس بإنشادها حتى في مجالس الوعظ والإرشاد، كالذي ذكرته في الآية رقم [32] من سورة (الإسراء). وأما الشعر المشتمل على المجون، والكذب، والتزين بالباطل، والمدح الكاذب، فلا يجوز إنشاده في المسجد، ولا في غيره، فعن عائشة-رضي الله عنها. قالت: ذكر الشعراء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«هو كلام حسنة حسن، وقبيحه قبيح» . وأما النوم في المسجد فإنه مكروه إلا للغرباء، الذين لا بيوت لهم، فهو جائز.

وعن فاطمة الزهراء-رضي الله عنها-قالت: كان رسول الله: صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد؛ قال:

«باسم الله، والسّلام على رسول الله. اللهمّ اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك» . وإذا خرج؛ قال: «باسم الله، والسّلام على رسول الله. اللهمّ اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك وفضلك» . رواه ابن ماجه. وعن أبي قتادة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«إذا دخل أحدكم المسجد؛ فليركع ركعتين قبل أن يجلس» . رواه مسلم.

ص: 391

{يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ:} اختلف العلماء في وصف الله تعالى المسبّحين، فقيل: هم المراقبون أمر الله، الطالبون رضاه، الذين لا يشغلهم عن الصلاة وذكر الله شيء من أمور الدنيا. وقال كثير من الصحابة: نزلت هذه الآية في أهل الأسواق، الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة؛ تركوا كل عمل، وبادروا. ورأى سالم بن عبد الله أهل الأسواق؛ وهم مقبلون إلى الصلاة، فقال: هؤلاء الذين أراد الله بقوله: {لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ..} . إلخ. هذا؛ ويقرأ الفعل {يُسَبِّحُ} بكسر الباء وفتحها، كما يقرأ «(تسبح)» بالتاء، وعلى ما تقدم؛ فالمراد من يسبح في الصلاة.

هذا؛ و (الغدو): جمع: غدوة بضم الغين فيهما، وهي ما بين طلوع الفجر، وطلوع الشمس، وقيل: إلى الضحوة الكبرى، والغداة بفتح الغين في الأصل: الضحوة، ولو حملها حامل على أول النهار لجاز له التذكير، والجمع: غدوات. (الآصال): جمع: أصيل، وهو الوقت بين العصر، والمغرب، ويجمع أيضا على أصائل، وأصل، وأصلان. هذا؛ وقيل: الآصال جمع: أصل، والأصل جمع: أصيل، ثم أصائل جمع الجمع، قال أبو ذؤيب الهذلي:[الطويل]

لعمري أنت البيت أكرم أهله

وأقعد في أفيائه بالأصائل

هذا؛ ويطلق الأصيل على الشعاع الممتد من الشمس إلى الماء مثل الحبال، ويشبه لون أشعته في الماء لون الذهب، وانظر مقابلة (العشي) ب:(الإبكار) في الآية رقم [41] من سورة (آل عمران)، ومقابلة (البكرة) ب:(الأصيل) في الآية رقم [5] من سورة (الفرقان)، ومقابلة (الغداة) ب:(العشي) في الآية رقم [52] من سورة (الأنعام) ففيهما كبير فائدة، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {فِي بُيُوتٍ:} فيه ستة أوجه: أحدها: أنهما متعلقان بمحذوف صفة (مشكاة) أي:

كمشكاة موجودة في بيوت. الثاني: أنهما متعلقان بمحذوف صفة {مِصْباحٌ،} أي: مصباح كائن في بيوت. الثالث: أنهما متعلقان بمحذوف صفة {زُجاجَةٍ} أي: زجاجة موجودة في بيوت.

الرابع: أنهما متعلقان ب: {يُوقَدُ} وعلى هذه الأوجه لا يوقف على {عَلِيمٌ} . الخامس: أنهما متعلقان بمحذوف، أي: سبحوه في بيوت. السادس: أنهما متعلقان ب: {يُسَبِّحُ} أي: يسبح رجال في بيوت، ولفظ {فِيهَا} تكرر للتوكيد، وعلى هذين الوجهين يوقف على {عَلِيمٌ} انتهى. نقلا عن السمين بتصرف. وفي القرطبي: قال ابن الأنباري: سمعت أبا العباس يقول:

هو حال للمصباح، والزجاجة، والكوكب، كأنه قال: وهي في بيوت. وقال الترمذي الحكيم محمد بن علي: (في بيوت) منفصل، كأنه يقول: الله في بيوت

وبذلك جاءت الأخبار: أنه من جلس في المسجد، فإنه يجالس ربه. وجوز ابن الأنباري تعليقهما بمحذوف خبر مقدم، على أن {رِجالٌ} مبتدأ مؤخر، فإن قيل: فما الوجه في تعليقهما بمحذوف صفة لأحد الأسماء الثلاثة المذكورة، أو ب:{يُوقَدُ،} ولا يكون مشكاة، أو مصباح، أو زجاجة إلا في بيت واحد، قيل:

ص: 392

هذا من الخطاب المتلون الذي يفتح بالتوحيد، ويختم بالجمع، كقوله تعالى:{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ} ونحوه، وقيل: رجع إلى كل واحد من البيوت، وقيل: هو كقوله تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} .

{أَذِنَ:} ماض. {اللهُ:} فاعله. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {تُرْفَعَ:} مضارع مبني للمجهول، منصوب ب:{أَنْ} . ونائب الفاعل يعود إلى {بُيُوتٍ} و {أَنْ} والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: في رفعها. والجار والمجرور متعلقان بالفعل:

{أَذِنَ،} وجملة: {أَذِنَ..} . إلخ في محل جر صفة (بيوت). {وَيُذْكَرَ:} معطوف على ما قبله منصوب مثله، وهو مبني للمجهول أيضا. {فِيهَا:} متعلقان بالفعل قبلهما. {اِسْمُهُ:} نائب فاعل. {يُسَبِّحُ:} مضارع، فعلى قراءته بالبناء للمعلوم فاعله {رِجالٌ} . وعلى قراءته بالبناء للمجهول، فنائب الفاعل متعلّق أحد المجرورات بعده، والأول أولى، لاحتياج العامل إلى مرفوعه فالذي يليه أولى، وعلى هذا فالوقف على (الآصال) و {فِيها بِالْغُدُوِّ:} كلاهما متعلقان بالفعل قبلهما، وعلى هذا ف:{رِجالٌ} فيه وجهان: أحدهما: هو مبتدأ مؤخر، والخبر متعلق {فِي بُيُوتٍ} وهذا وجه رأيته فيما سبق. والثاني: هو فاعل لفعل محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: يسبحه رجال، وهذه الجملة وقعت جوابا لسؤال مقدر، فكأن سائلا سأل: من يسبحه؟ فقيل: يسبحه رجال، وقيل: هو خبر مبتدأ محذوف، التقدير: المسبح لله تعالى رجال، وتبقى الجملة الاسمية جوابا للسؤال المقدر، ومثل هذه الآية قول نهشل بن حري، ونسب لغيره، وهو الشاهد رقم [193] من كتابنا فتح رب البرية، والشاهد رقم [1048] من كتابنا فتح القريب المجيب:[الطويل]

ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط ممّا تطيح الطوائح

إذ التقدير: يبكيه ضارع، وجملة:{يُسَبِّحُ لَهُ..} . إلخ في محل نصب حال من نائب فاعل ترفع المستتر، والرابط: الضمير المجرور بقوله {فِيهَا} وقيل: صفة ثانية لبيوت.

{رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37)}

الشرح: {رِجالٌ:} جمع: رجل. مأخوذ من الرجولة، وهي البطولة، والشهامة، وغيرهما، والمرأة مأخوذة من المرء، وهو الرجل؛ لأنها خلقت منه، وجعلت نهمتها فيه. {لا تُلْهِيهِمْ:}

لا تشغلهم. {تِجارَةٌ:} قيل: خص التجارة بالذكر؛ لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الصلوات، والطاعات. وأراد بالتجارة: الشراء، وإن كان اسم التجارة يقع على البيع، والشراء جميعا؛ لأنه ذكر البيع بعده، وقيل: التجارة لأهل الجلب، والبيع ما باعه الرجل على يده. {وَلا بَيْعٌ} أي: لا يشغلهم بيع.

ص: 393

{عَنْ ذِكْرِ اللهِ} أي: باللسان، والقلب، وقيل: المراد به الصلاة، وحضور المساجد لإقامتها.

والأول أقوى لذكر الصلاة بعده، وعطفها عليه. {وَإِقامِ الصَّلاةِ} أي: إقامة الصلاة في وقتها؛ لأن من أخر الصلاة عن وقتها لا يكون من مقيمي الصلاة. وانظر شرح الصلاة، والزكاة في الآية رقم [30] من سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام، وانظر إعلال (إقام) في الآية رقم [73] من سورة (الأنبياء) وانظر ما ذكرته في الآية السابقة بشأن أهل الأسواق.

{يَخافُونَ يَوْماً} أي: يوم القيامة. {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ} أي: من هوله، وحذر الهلاك. والتقلب: التحول، والمراد: قلوب الكفار، وأبصارهم، فتقلب القلوب: انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر، فلا هي ترجع إلى أماكنها، ولا هي تخرج، وأما تقلب الأبصار؛ فتحول هيئتها إلى العمى بعد البصر، بمعنى: تزيغ، ولا تبصر. وانظر الآية رقم [43] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، ومنه قوله تعالى:{وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ} الآية رقم [10] من سورة (الأحزاب).

والمعنى: إن هؤلاء الرجال، وإن بالغوا في ذكر الله، والطاعات؛ فإنه مع ذلك وجلون خائفون لعلمهم بأنهم ما عبدوا الله حق عبادته. وقد قيل في معنى تقلب القلوب والأبصار: إن القلوب تتقلب بين الطمع في النجاة، والخوف من العقاب في ذلك اليوم، وتقلب الأبصار، تنظر من أية ناحية يعطون كتبهم، وإلى أية ناحية يؤخذ بهم. وقيل: إن قلوب الشاكين تتحول عما كانت عليه من الشك، وكذلك أبصارهم؛ لرؤيتهم اليقين، وذلك مثل قوله تعالى:{فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} فما كان يراه في الدنيا غيّا يراه رشدا في الآخرة، إلا أن ذلك لا ينفعهم.

وقيل: تقلب على جمر جهنم، كقوله تعالى:{يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النّارِ} الأحزاب رقم [66]، وقوله تعالى:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ..} . الآية رقم [110] من سورة (الأنعام).

وقيل: المعنى: تتقلب أحوالها، فتفقه القلوب ما لم تكن تفقه، وتبصر الأبصار ما لم تبصر. هذا؛ وتخصيص الرجال بالذكر دليل على أن النساء لاحظ لهن في المساجد؛ إذ لا جمعة عليهن ولا جماعة، وأن صلاتهن في بيوتهن أفضل، فعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها» . رواه أبو داود، وابن خزيمة في صحيحه. والمخدع: الخزانة ونحوها في داخل البيت، وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهنّ خير لهنّ» . رواه أبو داود.

فهذا النهي للفتنة، فإذا أمن الإنسان الفتنة، وعدم النظر إليهن، فلا يمنعن، ولا سيما العجائز وهذا في عصر النبوة، وآداب الإسلام معمول بها، والإسلام في قمة رفعته، وعزته، والكل يخاف الله جل وعلا، فما بالك الآن أيها المسلم؛ وقد كثر الفجور والفسوق، وكثير من

ص: 394

الفتيات عاريات، مائلات، مميلات في الشوارع، والنوادي، وعلى شواطئ الأنهار، والبحار، يا عجبا! يمنعهن نبي الإسلام من الذهاب إلى المساجد لعبادة الله، والأزواج، والآباء، والإخوة، لا يمنعونهن من هذا التبرج، ويل لكم يا أولياء النساء! إذا قدرتم على منعهن، ولم تمنعوهن، فإنه تنزل عليكم اللعنات، وتشملكم السخطات، ويلحقكم غضب الله، وانتقامه في يوم لا تملك فيه نفس لنفس نفعا، ولا دفعا.

الإعراب: {رِجالٌ:} فاعل {يُسَبِّحُ} أو هو مبتدأ مؤخر، خبره {فِي بُيُوتٍ} انظر الآية السابقة.

{لا:} نافية. {تُلْهِيهِمْ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والهاء مفعول به. {تِجارَةٌ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع صفة {رِجالٌ}. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): زائدة لتأكيد النفي. {بَيْعٌ:} معطوف على {تِجارَةٌ} . {عَنْ ذِكْرِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {ذِكْرِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف.

{وَإِقامِ:} معطوف على ذكر، وهو مضاف، و {الصَّلاةِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. {وَإِيتاءِ:} معطوف على ذكر أيضا، وهو مضاف، و {الزَّكاةِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. {يَخافُونَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله. {يَوْماً:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المنصوب وهو الهاء، والرابط: الضمير فقط، وهو واو الجماعة، وأجيز اعتبارها صفة ثانية ل:{رِجالٌ} . {تَتَقَلَّبُ:} مضارع. {فِيهِ} متعلقان به. {الْقُلُوبُ:} فاعله. {وَالْأَبْصارُ:}

معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية في محل نصب صفة يوما.

{لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38)}

الشرح: المعنى: إن الرجال الذين اشتغلوا بذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وتأدبوا بآداب المساجد إنما فعلوا ذلك ليجزيهم، أي: ليثيبهم أعظم من عملهم في الدنيا فرضا، كان أو نفلا، كيف لا؟! والله الحليم الكريم يجزي المؤمن على عمله الصالح في الدنيا الحسنة بعشر أمثالها، كما قال تعالى:{مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها} الأنعام [160] وهذا أقل ما وعد به سبحانه من الأضعاف، وقد جاء الوعد بسبعين، وبسبعمئة وبغير حساب، كما في هذه الآية:

{وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ:} أشياء كثيرة لم يعدهم إياها على أعمالهم، ولم تخطر ببالهم.

وفي أبي السعود: أي: يتفضل عليهم بأشياء لم توعد لهم بخصوصياتها، أو بمقاديرها، ولم يخطر ببالهم كيفياتها، ولا كمياتها، بل إنما وعدت بطريق الإجمال في مثل قوله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ} الآية رقم [26] من سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف

ص: 395

سلام. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تبارك وتعالى: أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» وغير ذلك من المواعيد الكريمة. انتهى. جمل.

خرج الحديث في الصحيح من حديث سهل بن سعد الساعدي-رضي الله عنه. وهو ما في القرطبي، وأسنده الخازن إلى أبي هريرة-رضي الله عنه.

{وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ:} بغير تقدير، فيوسع في الدنيا، استدراجا تارة، وابتلاء أخرى، وإكراما ثالثة؛ لقوله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} سورة (الطلاق) رقم [2 و 3] هذا؛ وأما في الآخرة فرزقه جلت قدرته للمؤمنين واسع، لا يضبطه عد، ولا يحصره كيل، ولا وزن، بخلاف رزق الدنيا فإنه مضبوط محصور. وقول القرطبي:

أي: من غير أن يحاسب على ما أعطاه. لا وجه له؛ إذ ما ذكره خصوصية لسليمان بن داود عليهما السلام؛ حيث قال الله له: {هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ} . سورة (ص) رقم [39].

خاتمة: الآيات الثلاث تثني على عباد الله المؤمنين الذين يألفون المساجد، ويتأدبون بآدابها، وبالإضافة لما ذكرته في الآيتين السابقتين أذكر لك نبذة من أحاديث سيد الخلق وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم في فضل صلاة الجماعة، والمحافظة عليها، وما يترتب على تركها، وإهمالها من الوعيد الشديد.

فعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد؛ فاشهدوا له بالإيمان، قال الله عز وجل: {إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» }. رواه الترمذي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم. وعنه أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«من ألف المسجد ألفه الله» . رواه الطبراني في الأوسط. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المسجد بيت كلّ تقيّ، وتكفّل الله لمن كان المسجد بيته بالرّوح، والرّحمة، والجواز على الصّراط إلى رضوان الله إلى الجنّة» . رواه الطبراني في الكبير، والأوسط، والبزار. وعن سلمان الفارسي-رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«من توضّأ في بيته، فأحسن الوضوء ثمّ أتى المسجد، فهو زائر الله، وحقّ على المزور أن يكرم الزّائر» . رواه الطبراني في الكبير، والبيهقي. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من غدا إلى المسجد، أو راح، أعدّ الله له في الجنة نزلا كلّما غدا، أو راح» . رواه البخاري، ومسلم، وغيرهما، وعنه أيضا قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا يتوضّأ أحدكم، فيحسن وضوءه، فيسبغه، ثمّ يأتي المسجد، لا يريد إلاّ الصلاة؛ إلاّ تبشّش الله إليه، كما يتبشّش أهل الغائب بطلعته» . رواه ابن خزيمة في صحيحه.

هذا؛ وصلاة الجماعة تضعف على صلاة الرجل في بيته وفي سوقه سبعا وعشرين درجة؛ ومع ذلك فليست الأوقات الخمسة في درجة واحدة من الفضل، فأفضل صلاة في الجماعة، هي

ص: 396

صلاة صبح يوم الجمعة، ثم صبح كل يوم، ثم صلاة عشاء كل يوم، ثم صلاة العصر، ثم صلاة الظهر، ثم صلاة المغرب، وكلما بعد بيت المصلي عن المسجد كان أعظم أجرا، وذلك لزيادة الأجر، المترتب على كثرة الخطى.

فعن بريدة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بشّر المشّائين في الظّلم إلى المساجد بالنور التّامّ يوم القيامة» . رواه أبو داود، والترمذي، وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المشّاؤون إلى المساجد في الظّلم؛ أولئك الخوّاضون في رحمة الله تعالى» .

رواه ابن ماجه، والترمذي.

وعن عثمان بن عفان-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من صلّى العشاء في جماعة فكأنّما قام نصف اللّيل، ومن صلّى الصّبح في جماعة فكأنّما صلّى الليل كلّه» . رواه مسلم، ومالك، وأبو داود وهذا في ترغيب الصلاة في الجماعة ووعد الخير فيها، وعلى أدائها.

أما في التحذير من تركها، والوعيد في إهمالها-وعلى الأخص: صلاة الفجر، وصلاة العشاء-فخذ ما يلي: عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء، وصلاة الفجر، (أي في الجماعة) ولو يعلمون ما فيهما (أي: من الأجر والثواب) لأتوهما، ولو حبوا. ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثمّ آمر رجلا، فيصلّي بالناس، ثمّ أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرّق عليهم بيوتهم بالنّار» . رواه البخاري، ومسلم.

وعن معاذ بن أنس-رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «الجفاء كلّ الجفاء، والكفر والنّفاق، من سمع منادي الله ينادي إلى الصّلاة؛ فلا يجيبه» . رواه أحمد، والطبراني، وفي رواية أخرى للطبراني:«بحسب المؤمن من الشّقاء والخيبة أن يسمع المؤذّن يثوّب بالصّلاة فلا يجيبه» . والمراد بالتثويب هنا: إقامة الصلاة، أو: الأذان مطلقا.

وخذ ما يلي عن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلّى لله أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى (أي: مع الإمام) كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق» . رواه الترمذي. ومما يحزّ في القلب وتدمع له العين أن نرى من يصلي جماعة أربعين سنة لا تفوته التكبيرة الأولى مع الإمام، بل ويأتي إلى المسجد قبل الفجر بساعة، أو أكثر، يقوم، ويقعد يصلي، ولكنه مع الأسف معرضا عن الحق مؤيدا للباطل! وقد رأيت من يعتدي على كرامة الناس، وحرماتهم، وينفعل، ويثور، ويغضب لأقل شيء، فهؤلاء أقل ما أقول في شأنهم: إن صلاتهم لا ترفع فوق رؤوسهم شبرا، ولا صلاة لهم؛ لأن من شأن الصلاة أن تنهي صاحبها عن الفحشاء، والمنكر مصداقا لقوله تعالى:{إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ} . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر؛ لم يزدد من الله إلاّ

ص: 397

بعدا». والله ولي التوفيق. علما بأن هذه الأحاديث مقتطفة من كتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري، رحمه الله تعالى، وهو نزر من بحر، والله ولي التوفيق.

الإعراب: {لِيَجْزِيَهُمُ:} مضارع منصوب ب: «أن» المضمرة بعد لام التعليل، والهاء مفعول به أول. {اللهُ:} فاعله. {أَحْسَنَ:} مفعول به ثان، وأحسن مضاف، و {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: أحسن الذي، أو شيء عملوه، واعتبار {ما} مصدرية ضعيف، تأمل. و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {يُسَبِّحُ،} أو ب: {يَخافُونَ،} أو بفعل محذوف، التقدير: فعلوا ذلك؛ ليجزيهم الله، أو بالفعل:{لا تُلْهِيهِمْ} . هذا؛ وأجيز اعتبار اللام لام العاقبة، والصيرورة، لا لام العلة على حد قوله تعالى:{لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً} ومتعلقة بمحذوف حال. {وَيَزِيدَهُمْ:}

معطوف على ما قبله، والفاعل يعود إلى الله، والهاء مفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف، التقدير: ما يليق بكرمه، وجوده. {مِنْ فَضْلِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. (الله): مبتدأ. {يَرْزُقُ:}

مضارع، والفاعل يعود إلى الله. {مِنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به أول، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: يرزق الذي، أو شخصا يشاء الله رزقه. {بِغَيْرِ:} متعلقان بمحذوف صفة لمفعول ثان محذوف، التقدير: رزقا كائنا بغير، وقيل: متعلقان بمحذوف حال، ولا وجه له، و (غير) مضاف، و {حِسابٍ} مضاف إليه، وجملة:{يَرْزُقُ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَاللهُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39)}

الشرح: لما ضرب الله مثلا لحال المؤمن، وأنه في الدنيا والآخرة في نور، وأنه فائز بالنعيم المقيم؛ أتبعه بضرب مثل لأعمال الكفار، وشبهها بالسراب، وهذا من لطف الله وكرمه وحكمته، ورحمته؛ حيث جرت سنته في كتابه ألا يذكر التكذيب من الكافرين، والمنافقين إلا ويذكر التصديق من المؤمنين، ولا يذكر الإيمان إلا ويذكر الكفر، ولا يذكر الجنّة إلا ويذكر النار، ولا يذكر الرحمة، إلا ويذكر الغضب، والسخط، ليكون المؤمن راغبا راهبا، خائفا راجيا.

هذا؛ والسراب: ما يرى نصف النهار في اشتداد الحر كالماء في البادية يلتصق بالأرض، وله رهجة، واهتزاز كالماء في الغدران، و «الآل» الذي يكون ضحى كالماء؛ إلا أنه يرتفع عن

ص: 398

الأرض حتى يصير كأنه بين الأرض والسماء، وسمي السراب سرابا؛ لأنه يسرب، أي يجري كالماء، ولا يكون إلا في البرية، والأرض الفلاة في أيام القيظ الحارة، فيغتر به العطشان، والمسافر، وقد يريق ما معه من الماء اغترارا به، قال الشاعر:[الطويل]

فلمّا كففنا الحرب صارت عهودهم

كلمع سراب بالفلا متألّق

وقال آخر: [الطويل]

فكنت كمهريق الذي في سقائه

لرقراق آل فوق رابية صلد

و (القيعة) جمع: القاع، مثل: جيرة وجار. قاله الهروي. وقال أبو عبيدة: قيعة، وقاع واحد حكاه النحاس، والقاع: ما انبسط من الأرض، واتسع، ولم يكن فيه نبات، وفيه يكون السراب، والآل، وجمع قاع على: أقوع، وأقواع، وقيعان، وأصله: قوعان، قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وقرئ:«(بقيعات)» {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً:} أي: يظنه، ويتوهمه العطشان ماء، وانظر (حسب) في الآية رقم [15]، وشرح {الْماءِ} في الآية رقم [30] من سورة (الأنبياء).

{حَتّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} أي: لم يجد ما قدره، وتوهمه ماء في مكان السراب، أو المعنى: لم يجده شيئا نافعا، فحذف الصفة، واكتفى بالموصوف، وهذا كثير في القرآن والكلام العربي. {وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ} أي: وجد الله بالمرصاد، أو وجد عقابه، {فَوَفّاهُ حِسابَهُ} أي:

جزاء عمله، قال امرؤ القيس:[الوافر]

فولّى مدبرا يهوي حثيثا

وأيقن أنّه لاقى حسابا

{وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ:} يحاسب العباد على كثرتهم، وكثرة أعمالهم في مقدار لمحة، ووصف سبحانه نفسه بسرعة الحساب مع ما ذكر ليدل بذلك على كمال قدرته؛ لأنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن، ولا يحتاج إلى آلة حاسبة، ولا إلى أمارة، ولا إلى مساعد، لا جرم كان قادرا على أن يحاسب جميع الخلائق في أقل من لمح البصر. وقيل: معناه: يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد، فبادروا إلى الطاعات، واكتساب الحسنات.

هذا؛ وفي الآية الكريمة مثل ضربه الله تعالى للكفار الذين يؤملون ثواب أعمالهم، فإذا قدموا على الله تعالى يوم القيامة؛ وجدوا ثواب أعمالهم محبطة بالكفر. ووجه التشبيه: أن الذي يأتي به الكافر من أعمال البر، يعتقد: أن له ثوابا عند الله تعالى، وليس كذلك، فإذا وافى عرصات القيامة؛ لم يجد الثواب الذي كان يؤمله، بل وجد العقاب العظيم، والعذاب الأليم، فعظمت حسرته، وتناهى غمه، فشبه الله تعالى حاله بحال العطشان الذي اشتدت حاجته إلى الماء، فإذا شاهد السراب في الأرض الفلاة؛ تعلق قلبه به، وأخذ يسعى إليه، فإذا جاء المكان الذي تراءى له فيه السراب لم يجد فيه شيئا، فكذلك الكافر يحسب أن عمله نافعه، فإذا احتاج

ص: 399

إلى عمله؛ لم يجده أغنى عنه شيئا، ولا نفعه. وهذا يسمى بالتشبيه التمثيلي. وتفيد الآية الكريمة، والتي تليها: أن أفعال الكافر إذا كانت برّا، كصلة القرابة ونحوها، لا يثاب عليها، ولا ينتفع بها في الآخرة، ومثلها الآية رقم [23] من سورة (الفرقان) بيد أنه يطعم بها في الدنيا، دليله ما رواه مسلم عن عائشة-رضي الله عنها: أنها قالت: قلت: يا رسول الله، ابن جدعان، كان في الجاهلية يصل الرّحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال:«لا ينفعه، إنّه لم يقل يوما: ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدّين» . وروي عن أنس-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله لا يظلم مؤمنا حسنة، يعطى بها في الدّنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأمّا الكافر، فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدّنيا، حتّى إذا أفضى إلى الآخرة، لم تكن له حسنة يجزى بها» . وهذا نصّ. ثم قيل: هل بحكم هذا الوعد الصادق لا بد أن يطعم الكافر، ويعطى بحسناته في الدنيا، أو ذلك مقيد بمشيئة الله المذكورة في قوله تعالى:{عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} الآية رقم [18] من سورة (الإسراء) وهذا هو الصحيح من القولين؟ بينما نجد آية (هود) رقم [15] قد أطلقت، ولم تقيد بالمشيئة، وكذلك آية الشورى رقم [20] أطلقت.

قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: والصحيح: أنه من باب الإطلاق، والتقييد، ومثله قوله تعالى:{وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ} فهذا ظاهره خبر عن إجابة كل داع، دائما على كل حال، وليس كذلك لقوله تعالى:{فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ} .

والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

وأخيرا أقول: إن معنى إطعام الكافر في الدنيا: إدرار الرزق عليه، ومدّه بالصحة، والعافية، وسروره في الدنيا، وراحة باله، وهناءة عيشه، وغير ذلك من نعيم الدنيا، وملذاتها.

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف، أي: بالله: صلة الموصول لا محل لها.

{أَعْمالُهُمْ:} مبتدأ ثان، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر، -أي جمعه-لفاعله.

{كَسَرابٍ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ الثاني، وإن اعتبرت الكاف اسما بمعنى مثل؛ فهي الخبر، وتكون مضافة و (سراب) مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ الأول.

هذا؛ وأجيز اعتبار {أَعْمالُهُمْ} بدل اشتمال من الموصول. و {كَسَرابٍ} متعلقين بمحذوف خبره.

ولا أرتضيه، والمعنى لا يقويه. {بِقِيعَةٍ:} متعلقان بمحذوف صفة (سراب). {يَحْسَبُهُ:}

مضارع، والهاء مفعول به أول. {الظَّمْآنُ:} فاعله. {ماءً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل جر صفة ثانية ل:(سراب) أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم، والرابط:

الضمير فقط. {حَتّى:} حرف ابتداء. {إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {جاءَهُ:} ماض، ومفعوله، والفاعل يعود إلى {الظَّمْآنُ،} والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على

ص: 400

المرجوح المشهور. {لَمْ يَجِدْهُ:} مضارع مجزوم ب: {لَمْ} والفاعل يعود إلى الظمان، والهاء مفعول به أول. {شَيْئاً:} مفعول به ثان على اعتباره بمعنى: ماء، أو هو مفعول مطلق على اعتباره مصدرا بمعنى وجدانا، والجملة الفعلية جواب {إِذا} لا محل لها، و {إِذا} ومدخولها كلام مستأنف بعد {حَتّى} لا محل له.

وقال الجمل: غاية لمحذوف، تقديره: ويقصده، ولا يزال جائيا إليه، حتى إذا جاءه

إلخ، وهذا يؤيد رأي الأخفش الذي يعتبر «حتى» في مثل ذلك جارة ل:«إذا» . (وجد):

ماض. {اللهَ:} مفعول به، والفاعل يعود إلى {الظَّمْآنُ}. {عِنْدَهُ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، أو هو متعلق بمحذوف مفعول ثان ل:(وجد)، وجملة:

{وَوَجَدَ..} . إلخ معطوفة على جملة محذوفة مدلول عليها بالمذكورة؛ إذ التقدير: لم يجد عمله الذي رجا ثوابه. {فَوَفّاهُ:} الفاء: حرف عطف. (وفّاه): ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (الله)، والهاء مفعول به أول. {حِسابَهُ:} مفعول به ثان، و (الهاء) في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {وَاللهُ:} الواو:

حرف استئناف. (الله): مبتدأ. {سَرِيعُ:} خبره، وهو مضاف، و {الْحِسابِ} مضاف إليه، من إضافة الصفة المشبهة لفاعلها؛ إذ التقدير: سريع حسابه، والجملة الاسمية:{وَاللهُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وفحوى الآية معطوف على فحوى قوله تعالى:{مَثَلُ نُورِهِ..} . إلخ.

{أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)}

الشرح: {أَوْ كَظُلُماتٍ..} . إلخ: هذا مثل آخر ضربه الله تعالى للكفار، أي: أعمالهم كسراب بقيعة، أو كظلمات. قال الزجاج: إن شئت مثّل بالسراب، وإن شئت مثّل بالظلمات، ف:{أَوْ} للإباحة حسبما تقدم من القول في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ..} . الآية رقم [19] من سورة (البقرة). وقال الجرجاني: الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار، والثانية في ذكر كفرهم، ونسق الكفر على أعمالهم؛ لأنه أيضا من أعمالهم، وقد قال تعالى:{يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ} الآية رقم [257] من سورة (البقرة) أي: من الكفر إلى الإيمان. وقال أبو علي الفارسي: التقدير: كذي ظلمات، ودل على هذا المضاف قوله تعالى:{إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ..} . إلخ فالضمير يعود إلى المضاف المحذوف. قال القشيري: فعند الزجاج التمثيل وقع لأعمال الكفار.

وعند الجرجاني لكفر الكافر. وعند أبي علي للكافر نفسه. وقال ابن عباس: هذا مثل قلب الكافر. انتهى. قرطبي. رحم الله الجميع رحمة واسعة، وأدخلنا معهم جنته! وقال الخازن:

ص: 401

أعلم الله سبحانه وتعالى أن أعمال الكفار إن كانت حسنة؛ فهي كسراب بقيعة، وإن كانت قبيحة؛ فهي كظلمات. ومثله في البيضاوي.

{فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} أي: عميق كثير الماء، ولجة البحر: معظمه، وجمعها: لجج، فأما اللّجّة؛ فأصوات الناس. يقال: سمعت لجّة الناس؛ أي: أصواتهم وصخبهم. قال أبو النجم الفضل بن قدامة العجليّ: [الرجز]

تدافع الشّيب ولم تقتّل

في لجّة أمسك فلانا عن فل

و {يَغْشاهُ مَوْجٌ} أي: يعلو ذلك البحر العميق، ويغطيه موج. {مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} أي: من فوق الموج موج {مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ} أي: ومن فوق هذا الموج الثاني سحاب. هذا؛ والسحاب اسم جنس، واحده سحابة، فلذلك وصف بالجمع، وهو الثقال بقوله تعالى في الآية رقم [12] من سورة (الرعد):{وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ} وتجمع السحابة على سحاب، وسحائب، وسحب.

{ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ:} المعنى: أن البحر اللجي يكون قعره مظلما جدا. بسبب غمورة الماء له، فإذا ترادفت الأمواج ازدادت الظلمة، فإذا كان فوق الأمواج سحاب بلغت الظلمة النهاية القصوى. ثم قيل: المراد بهذه الظلمات: ظلمة السحاب، وظلمة الموج، وظلمة الليل، وظلمة البحر، فلا يبصر من كان في هذه الظلمات شيئا، كذلك الكافر، له ظلمات كثيرة: ظلمة الاعتقاد، وظلمة التفكير، وظلمة القول، وظلمة العمل. وقيل: شبه بالبحر اللجي قلبه، وبالموج ما يتغشى قلبه من الشك، والجهل، والحيرة، وبالسحاب الختم، والطبع على قلبه. قال أبيّ بن كعب-رضي الله عنه: الكافر يتقلب في خمس من الظلمات: كلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات في النار، وبئس القرار، والكلام جار مجرى الاستعارات، والكنايات. تأمّله، وتدبره.

{إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها} أي: إذا أخرج شخص يده ليراها؛ لم يقرب أن يراها لشدة الظلمة. وقيل: المعنى لم يرها إلا بعد الجهد، كما تقول: ما كدت أراك من الظلمة، وقد رآه بعد يأس، وشدة. وقيل: هو مبالغة في لم يرها، أي لم يقرب أن يراها فضلا عن أن يراها، ومثله قول ذي الرمة:[الطويل]

إذا غيّر النّأي المحبّين لم يكد

رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح

أي: لم يقرب من البراح فماله يبرح. هذا؛ وقال الفراء: «كاد» صلة، أي لم يرها، وحكاه أبو حاتم عن الأخفش أيضا، وهي مؤكدة لمعنى الكلام؛ لأن الظلمات التي ذكرها الله تعالى، بعضها يحول بين الناظر والمنظور إليه. وروي معناه عن سعيد بن جبير-رضي الله عنهما واستشهدوا بقول زيد الخير-رضي الله عنه:[الطويل]

ص: 402

سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه

فما إن يكاد قرنه يتنّفس

أراد فما يتنفس قرنه، أي مقارنه، وهو محاربه. وقال آخر:[الطويل]

وألاّ ألوم النفس فيما أصابني

وألاّ أكاد بالّذي نلت أنجح

معناه: وألا أنجح بالذي نلت، وبه قيل في قوله تعالى في الآية رقم [15] من سورة (طه):

{إِنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها..} . إلخ.

{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً} أي: ومن لم يقدّر له الهداية، ولم يوفقه لأسبابها. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: أي من لم يجعل الله له دينا فما له من دين، ومن لم يجعل الله له نورا يمشي به يوم القيامة لم يهتد إلى الجنة، كقوله تعالى:{وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} وجملة القول: من لم يهده الله لم يهتد، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«إنّ الله خلق الخلق في ظلمة فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النّور اهتدى، ومن أخطأه ضلّ» . أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنه. فإذا الهداية هداية الله، والتوفيق توفيق الله.

وقد يعترض بعض الناس على ذلك، فيقول: إذا لا مؤاخذة على العبد، فكيف يعذبه الله، ولم يهده، ولم يوفقه للإيمان؟ والجواب: أن عدم توفيق الله للعبد معناه تقدير ضلاله، وهذا التقدير مبني على علم الله الأزلي بأن هذا العبد لو ترك وشأنه، لم يختر سوى الكفر، والضلال، ولذا قدره الله عليه، هذا بالإضافة إلى اختياره الضلال، بعد أن بين الله لكل واحد الخير، والشر، والحسن، والقبيح، كما قال تعالى:{وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ} أي: بينا له طريق الخير، وطريق الشر، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

تنبيه: قال مقاتل بن سليمان رحمه الله تعالى: نزلت الآيتان في عتبة بن ربيعة، كان يلتمس الدين في الجاهلية، ولبس المسوح، فلما جاء الإسلام؛ كفر. وقال الماوردي: في شيبة أخيه، كان يترهب في الجاهلية، ويلبس المسوح، ويطلب الدين، فكفر بالإسلام، وكلاهما مات كافرا، فلا يبعد أن يكونا هما المراد بالآية وغيرهما، وقد قيل: نزلتا في عبد الله بن جحش وكان قد أسلم، وهاجر إلى الحبشة، ثم تنصر بعد إسلامه. انتهى. قرطبي بتصرف. أقول:

والآيتان تشملان كل كافر بالله ورسوله إلى يوم القيامة بلا ريب ولا شك. تأمل، وتدبر.

الإعراب: {أَوْ:} حرف عطف. {كَظُلُماتٍ:} معطوفان على {كَسَرابٍ} في الآية السابقة.

{فِي بَحْرٍ:} متعلقان بمحذوف صفة (ظلمات). {لُجِّيٍّ:} صفة {بَحْرٍ} . {يَغْشاهُ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء مفعول به. {مَوْجٌ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جر صفة ثانية ل:{بَحْرٍ،} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم. {مِنْ فَوْقِهِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم، و (الهاء) في محل جر بالإضافة. {مَوْجٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل رفع صفة {مَوْجٌ} . هذا؛ وإن اعتبرت {مِنْ فَوْقِهِ} متعلقين بمحذوف

ص: 403

صفة {مَوْجٌ،} فيكون {مَوْجٌ} الثاني فاعلا بمتعلق الجار والمجرور: {مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ} مثل سابقه على الاعتبارين فيه. {كَظُلُماتٍ:} خبر مبتدأ محذوف، التقدير: هذه ظلمات، ويقرأ بالجر على اعتباره بدلا من (ظلمات) الأولى، كما يقرأ:«(سحاب ظلمات)» بالإضافة، ولا تنوين في (سحاب) للإضافة. {بَعْضُها:} مبتدأ، و (ها): في محل جر بالإضافة. {فَوْقَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، و {فَوْقَ} مضاف، و {بَعْضٍ} مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل رفع، أو في محل جر صفة (ظلمات). هذا؛ والجملة الاسمية المقدرة هذه ظلمات إلخ على قراءة الرفع في محل جر صفة (ظلمات) الأولى، أو في محل نصب حال منها بعد وصفها بما تقدم، والرابط على الاعتبارين إعادة الظلمات بلفظها. {إِذا:} انظر الآية السابقة. {أَخْرَجَ:} ماض، والفاعل تقديره:

«هو» ، يعود إلى غير مذكور، والمراد به من كان في الظلمات. {يَدَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها

إلخ. {لَمْ يَكَدْ:} مضارع ناقص مجزوم ب: {لَمْ} واسمه يعود إلى ما عاد إليه فاعل {أَخْرَجَ} . {يَراها:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى ما عاد إليه

إلخ، و (ها):

مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب خير {لَمْ يَكَدْ،} والجملة: {لَمْ يَكَدْ..} . إلخ جواب:

(إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَمْ يَجْعَلِ:} مضارع مجزوم ب: {لَمْ} وهو في محل جزم فعل الشرط. {اللهُ:} فاعله.

{اللهُ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من نورا، كان صفة له

إلخ.

{نُوراً:} مفعول به. {فَما:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (ما): نافية. {اللهُ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْ:} حرف جر صلة. {نُورٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما رأيت في الآية رقم [33]. هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا؛ فالجملة الفعلية بعده صلته، والجملة الاسمية:(ما له من نور) خبره، ودخلت الفاء على الخبر؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية:

{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41)}

الشرح: لما ذكر الله وضوح الآيات؛ زاد في الحجة، والبينات، وبين: أن مصنوعاته تدل بتغييرها على أن لها صانعا قادرا على الكمال، فله بعثة الرسل، وقد بعثهم، وأيدهم بالمعجزات،

ص: 404

وأخبروا بالجنة والنار، والخطاب في هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو يعم كل مخاطب من العقلاء.

والمعنى: ألم تعلم علما يقينيا يشبه المشاهدة في اليقين، والوثاقة بالوحي والاستدلال.

{أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ} أي: من الملائكة. {وَالْأَرْضِ} أي: من الجن والإنس، والحيوان والنبات والجماد، وهو ما صرحت به الآية رقم [44] من سورة (الإسراء):{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} . انظر شرحها هناك، والمعنى: يقدس الله، وينزهه عن كل نقص وآفة أهل السموات، والأرض. وانظر الكلام على (من) و (ما) في الآية رقم [45] الآتية.

تنبيه: جاء لفظ التسبيح بالماضي أحيانا، وبالمضارع أحيانا، وبالأمر أحيانا، وبالمصدر أحيانا أخرى استيعابا لهذه المادة من جميع جهاتها، وألفاظها، وهي أربع: المصدر، والماضي، والمضارع، والأمر. وهذا الفعل بألفاظه الأربعة قد عدي باللام تارة، مثل قوله تعالى:{سَبَّحَ لِلّهِ} وقوله جل شأنه: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ..} . إلخ وبنفسه أخرى، مثل قوله تعالى:

{وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} وقوله تعالت حكمته: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ} وأصله التعدي بنفسه؛ لأن معنى سبّحته: بعدته من السوء، منقول من «سبح»: إذا ذهب، وبعد، فاللام إما أن تكون مثل اللام في نصحته ونصحت له، وشكرته وشكرت له، وإما أن يراد ي:{سَبَّحَ لِلّهِ} اكتسب التسبيح لأجل الله. ولو جهه خالصا. انتهى. نسفي. من سورة (الحديد).

{وَالطَّيْرُ صَافّاتٍ} أي: باسطات أجنحتهن في الهواء. قيل: خص الطير بالذكر من جملة الحيوان؛ لأنها تكون بين السماء والأرض أثناء طيرانها، فتكون خارجة عن حكم من في السموات والأرض.

{كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ:} قال مجاهد، وغيره: الصلاة للإنسان، والتسبيح لما سواه من الخلق. وقال سفيان: للطير صلاة ليس فيها ركوع، ولا سجود. وقيل: إن ضربها بأجنحتها صلاة، وإن أصواتها تسبيح، حكاه النقاش. {كُلٌّ} أي: كل واحد مما ذكر. {عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} أي: علم الله تسبيح المسبح، وصلاة المصلي من جميع المخلوقات، ولهذا قال:{وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ} أي: لا يخفى عليه طاعتهم، ولا تسبيحهم. ومن هذه الجهة يجوز نصب {كُلٌّ} عند البصريين، والكوفيين بإضمار فعل يفسره ما بعده. وقد قيل: المعنى: قد علم كل مصلّ صلاة نفسه، وكل مسبح تسبيحه الذي كلّفه. هذا؛ وقد قرئ {عَلِمَ} بالبناء للمعلوم وللمجهول، كما قرئ بتشديد اللام، كما قرئ بنصب (الطير)، وقراءة الجمهور الرفع، مع نصب {صَافّاتٍ} على القراءتين، وقرئ برفعهما «(والطير صافات)» ، وانظر شرح {الطَّيْرُ} في الآية رقم [31] من سورة (الحج). هذا؛ والصلاة هنا بمعنى التسبيح، فهو بمعنى المرادف، وكرر للتوكيد.

الإعراب: {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام وتقرير هنا. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم.

{تَرَ:} مضارع مجزوم ب: (لم) وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل.

ص: 405

{اللهَ:} اسمها. {يُسَبِّحُ:} مضارع. {اللهَ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل. {فِي السَّماواتِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {وَالْأَرْضِ:}

معطوف على ما قبله. {وَالطَّيْرُ:} معطوف على {مَنْ} . {صَافّاتٍ:} حال منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. هذا؛ و (الطير) بالنصب مفعول معه، وعلى رفعه ورفع (صافات) فهما مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، وجملة:{يُسَبِّحُ..} .

إلخ في محل رفع خبر {أَنَّ،} و {أَنَّ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعول الفعل {تَرَ} وقيل: هو قلبي فالمصدر سد مسد مفعوليه، والجملة الفعلية:{أَلَمْ تَرَ..} .

إلخ مستأنفة، لا محل لها. {كُلٌّ:} مبتدأ، سوغ الابتداء به، وهو نكرة الإضافة المقدرة. {قَدْ:}

حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {عَلِمَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {اللهَ،} أو إلى {كُلٌّ،} انظر الشرح. {صَلاتَهُ:} مفعول به. {وَتَسْبِيحَهُ:} معطوف عليه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، وجملة:{عَلِمَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:

{كُلٌّ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. (الله): مبتدأ. {عَلِيمٌ:} خبره. {بِما:} متعلقان ب: {عَلِيمٌ} .

و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: عليم بالذي، أو بشيء يفعلونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: عليم بفعلهم، والجملة الاسمية: (الله

) إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَلِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (42)}

الشرح أي: إن جميع الموجودات في السموات والأرض من أفلاك وكواكب في السموات، وما على الأرض من جبال وأنهار وبحار، فكل ذلك ملك لله تعالى، وفي تصرفه، وعنه نشأ،، ومنه بدأ لا يشركه فيه أحد، وما يملكه العبد في هذه الدنيا، فإنما هو ملك له في الظاهر، قد منحه الله له؛ ليتمتع به على سبيل الوكالة، والأمانة، فويل لمن قصر في الوكالة، وخان في الأمانة! وقيل: معناه: إن خزائن المطر، والرزق بيد الله، ولا يملكها أحد سواه. {وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ} أي:

المرجع، والماب، والمال بعد الموت إلى الله تعالى، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، وانظر شرح {السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} في الآية رقم [30] من سورة (الأنبياء).

الإعراب: {وَلِلّهِ:} الواو: حرف استئناف. (لله): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مُلْكُ:}

مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {السَّماواتِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله. (إلى الله): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْمَصِيرُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

ص: 406

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43)}

الشرح: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ..} . إلخ: الكلام عليه هنا كما في الآية رقم [41]. {يُزْجِي سَحاباً:}

يسوق، ويجري إلى حيث يشاء، والسحاب: الغيوم التي تراها العيون في السماء. {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} أي: يجمعه عند انتشائه؛ ليقوى، ويتصل، ويكثف. وقرئ «(يولّف)» بدون همز، والسحاب واحد في اللفظ، ولكن معناه جمع، وهو غربال الماء. قاله علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه.

هذا، وقيل: السحاب: الغيم فيه الماء، أو لم يكن فيه ماء، ولهذا قيل: سحاب جهام، وهو الخالي من الماء، وأصل السحب: الجر، وسمي السحاب سحابا، إما لجر الريح له، أو لجره الماء، أو لا نجراره في سيره، ووصفه الله ب:{الثِّقالَ} في الآية رقم [12] من سورة (الرعد)، لثقله بالماء الذي يحمله إلى حيث شاء الله الخلاق العظيم.

هذا؛ وينبغي أن تعلم أن «بين» لا تقع إلا لاثنين فصاعدا، ووقوعها هنا لجماعة السحاب؛ لأنه بمعنى الجمع كما تقول: جلست بين الشجر؛ لأنه جمع، والسحاب مؤلف من قطع ينضم بعضها إلى بعض. {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً} أي: مجتمعا يركب بعضه بعضا، كقوله تعالى:{وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ} والرّكم: جمع الشيء، يقال: ركم الشيء، يركمه ركما:

إذا جمعه، وألقى بعضه على بعض، وارتكم الشيء، وتراكم: إذا اجتمع.

{فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} أي: من وسطه وهو مخارج القطر، وقد قال كعب: إن السحاب غربال المطر، ولولا السحاب حين ينزل المطر من السماء؛ لأفسد ما يقع عليه من الأرض. وفي {الْوَدْقَ} قولان: أحدهما: أنه البرق قاله أبو الأشهب العقيلي، ومنه قول الشاعر:[الوافر]

أثرن عجاجة، وخرجن منها

خروج الودق من خلل السحاب

الثاني: أنه المطر قاله الجمهور، قال امرؤ القيس:[الطويل]

فدمعهما ودق، وسحّ، وديمة

وسكب وتوكاف، وتنهملان

وقال عامر بن جوين الطائي: [المتقارب]

فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها

{وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ:} وفيه معنيان: أحدهما: أن يخلق الله في السماء جبالا من برد، كما خلق في الأرض جبالا من حجر. والثاني: أن يريد الكثرة بذكر الجبال،

ص: 407

كما يقال: فلان يملك جبالا من ذهب. والأول فحوى قول ابن عباس-رضي الله عنهما، {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ:} فيكون إصابته نقمة حيث يهلك من يصيبه، وأمواله، وزرعه، وهذا مشاهد في بعض السنين، ويكون صرفه نعمة، فلا يضر، وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن ينزل البرد في الغالب في أواخر فصل الربيع، حين يكون الزرع قد قارب الحصاد، ولله في خلقه وحكمته شؤون، لا اعتراض عليها.

{يَكادُ سَنا بَرْقِهِ} أي: ضوء ذلك البرق الذي في السحاب. {يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ:} من شدة بريقه، وضوئه. هذا؛ والبرق مصدر: برق، يبرق: إذا لمع. والرعد: مصدر: رعد، يرعد، وهما معروفان ومشاهدان للناس جميعا، وتفسيرهما في الشرع غير تفسيرهما وشرحهما في العلم الحديث. هذا؛ وذكر الله في الآية رقم [13] من سورة (الرعد) أن الناس بعضهم يخافون من البرق ولمعانه، وبعضهم يطمعون فيما وراءه، وفيما يبشر به من مطر. هذا؛ و (السنا) بالقصر الضوء، وشدة بريق البرق، قال الشماخ:[الوافر]

وما كادت إذا رفعت سناها

ليبصر ضوءها إلاّ البصير

وهو أيضا نبت يتداوى به، و «السناء» بالمد: الرفعة، والعلو في الشرف والحسب، وقد قرأه طلحة بن مصرّف هنا بالمد على المبالغة في شدة الضوء، والصفاء، فأطلق اسم العلو، والشرف. هذا؛ ويقرأ {يَذْهَبُ} بفتح الياء من الثلاثي، وهي سبعية، وقرئ بضم الياء من الرباعي، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

هذا؛ والمشهور في العلم الحديث: أن الأبخرة إذا تصاعدت من البحار، والأنهار الموجودة في الأرض، ولم تحللها حرارة معينة، فبلغت الطبقة الباردة من الهواء، وقوي البرد هناك؛ اجتمع، وصار سحابا، فإن لم يشتد البرد تقاطر مطرا، وإن اشتد، فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها نزل ثلجا، وإلا نزل بردا، وقد يبرد الهواء بردا مفرطا، فينقبض، وينعقد سحابا، وينزل منه المطر أو الثلج، وكل ذلك لا بد وأن يستند إلى إرادة الواجب الحكيم؛ لقيام الدليل على أنها الموجبة لا ختصاص الحوادث بمحالها، وأوقاتها. انتهى. بيضاوي بتصرف.

وانظر ما ذكرته في الآية رقم [30] من سورة (الأنبياء) تجد ما يسرك.

الإعراب: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً:} انظر الآية قبلها فالإعراب واحد. {ثُمَّ:} حرف عطف. {يُؤَلِّفُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى الله. {بَيْنَهُ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها.

{يَجْعَلُهُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهَ} أيضا، والهاء مفعوله الأول. {رُكاماً:} مفعوله الثاني، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع أيضا. {فَتَرَى:} الفاء: حرف عطف، وسبب. (ترى): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل

ص: 408

مستتر تقديره: «أنت» . {الْوَدْقَ:} مفعول به. {يَخْرُجُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى الودق.

{مِنْ خِلالِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب حال من (الودق) والرابط: الضمير فقط، وجملة {فَتَرَى..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع أيضا، والرابط: الضمير المجرور محلا بالإضافة.

(ينزّل): مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهَ}. {مِنَ السَّماءِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ جِبالٍ:} فيه ثلاثة أقوال: أحدها هما بدل مما قبلهما، والثاني: هما متعلقان بمحذوف صفة لموصوف محذوف، التقدير: شيئا كائنا من جبال، و «شيئا» المحذوف، هو مفعول (ينزّل)، وهو فحوى كلام الزمخشري، وابن عطية. هذا؛ وأجاز الأخفش اعتبار {مِنْ} صلة، و {جِبالٍ} هو مفعول به، وهذا على مذهبه بجواز زيادة «من» في الإيجاب. {فِيها:} متعلقان بمحذوف صفة {جِبالٍ} . {مِنْ بَرَدٍ:} فيه ثلاثة أقوال أيضا: أحدها: هما بدل من قوله: {مِنَ السَّماءِ،} أو من قوله: {مِنْ جِبالٍ} . والثاني: هما متعلقان بمحذوف صفة لموصوف محذوف، وهذا المحذوف بدل من المحذوف المقدر قبل:{مِنْ جِبالٍ} . والثالث: {مِنْ} زائدة، و {بَرَدٍ} مبتدأ مؤخر مرفوع، والخبر متعلق فيها، والجملة الاسمية صفة {جِبالٍ} وهذا على مذهب الأخفش الذي يجيز زيادة «من» في الإيجاب، وجملة:{وَيُنَزِّلُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع أيضا، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلست مفندا.

{فَيُصِيبُ:} الفاء: حرف استئناف. (يصيب): مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهَ}. {بِهِ:}

متعلقان بما قبلهما، {مِنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير:

فيصيب به الذي، أو: شخصا يشاء إصابته بذلك البرد، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، وإن عطفتها على ما قبلها؛ فلست مفندا، والجملة بعدها معطوفة عليها، وإعرابها مثلها؛ إذ التقدير: ويصرفه-أي: البرد-عن الذي، أو: عن شخص يشاء صرفه عنه. {يَكادُ:} مضارع ناقص. {سَنا:} اسم {يَكادُ} مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، وعلى قراءته بالمد فالضمة ظاهرة، و {سَنا} مضاف، و {بَرْقِهِ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة. {يَذْهَبُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {سَنا بَرْقِهِ}. {بِالْأَبْصارِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وعلى قراءة الفعل بضم الياء؛ فالباء صلة، و (الأبصار) مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وجملة:

{يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ} في محل نصب خبر (يكاد)، وجملة:{يَكادُ..} . إلخ في محل نصب صفة {سَحاباً} على بعده عنها، والرابط: الضمير المجرور محلا بالإضافة؛ لأنها عائدة عليه، وقيل:

صفة {بَرَدٍ،} وليس بشيء، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها. تأمّل.

ص: 409

{يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44)}

الشرح: {يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} أي: بالمعاقبة بينهما، أو بنقص أحدهما، وزيادة الآخر، تبعا لفصول السنة، أو بتغيير أحدهما بالحر، والبرد، والظلمة، والنور، وكل ذلك مشاهد، وقيل: تقليبهما باختلاف ما يقدر فيهما من خير، وشر، ونفع، وضر. {إِنَّ فِي ذلِكَ} أي: في الذي ذكر، من تقلب الليل، والنهار، وأحوال المطر، والصيف، والشتاء. {لَعِبْرَةً:} اعتبارا، وعظة، وتذكرة. {لِأُولِي الْأَبْصارِ} أي: لأهل العقول السليمة، والبصائر النيرة، فيستدلون بذلك على قدرة الله وتوحيده.

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: «يؤذيني ابن آدم، يسبّ الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلّب الليل، والنهار» . متفق عليه، ومعنى هذا الحديث:

أن العرب كانوا يقولون عند النوازل، والشدائد: أصابنا الدهر، ويذمونه في أشعارهم، فقيل لهم: لا تسبوا الدهر، فإن فاعل ذلك هو الله عز جل، والدهر مصرّف تقع فيه التأثيرات، كما تقع بكم.

تنبيه: لقد عدد الله في هذه الآيات من الدلائل على وحدانيته وقدرته ما فيه عبرة لمن يعتبر، وذكرى لمن يتذكر، حيث ذكر تسبيح من في السموات والأرض، وكل ما يطير بين السماء والأرض، ودعاءهم له، وابتهالهم إليه، وأنه سخر السحاب التسخير الذي وصفه، وما يحدث فيه من أفعاله؛ حتى ينزل المطر منه، وأنه يقسم رحمته بين خلقه، ويقبضها، ويبسطها على ما تقتضيه حكمته، ويريهم البرق في السحاب، الذي يكاد يخطف أبصارهم؛ ليعتبروا، ويحذروا، ويعاقب بين الليل، والنهار، ويخالف بينهما في الطول، والقصر، وما هذه إلا براهين في غاية الوضوح على وجوده، وقدرته، ودلائل منادية على كمال صفاته لمن نظر، وفكر، وتبصر، وتدبر. انتهى. كشاف بتصرف.

الإعراب: {يُقَلِّبُ:} مضارع. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.

{اللَّيْلَ:} مفعول به. (النهار): معطوف على ما قبله. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {فِي ذلِكَ:}

متعلقان بمحذوف خبر (إنّ) تقدم على اسمها، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لَعِبْرَةً:} اللام: لام الابتداء. (عبرة): اسم (إنّ) مؤخر. {لِأُولِي:} متعلقان بمحذوف صفة (عبرة)، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و (أولي) مضاف، و {الْأَبْصارِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية:{إِنَّ..} . إلخ مستأنفة أيضا لا محل لها.

ص: 410

{وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)}

الشرح: {وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ} أي: كل ما يدب على وجه الأرض، من إنسان، وحيوان، وهوام، وغير ذلك. هذا؛ ويقرأ:«(والله خالق كلّ دابة)» {مِنْ ماءٍ} أي: من نطفة، وأراد به كل حيوان يشاهد في الدنيا، ولا يدخل فيه الملائكة والجن؛ لأنّا لم نشاهدهم، وقيل: إن أصل جميع الخلق من الماء، وذلك أن الله خلق ماء، فجعل بعضه ريحا ونورا، فخلق منه الملائكة، وجعل بعضه نارا، فخلق منه الجن، وجعل بعضه طينا، فخلق منه آدم.

{فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ:} كالحيات، والديدان، والحيتان، ونحو ذلك، وسمي الزحف على البطن مشيا على الاستعارة، أو المشاكلة لما بعده. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ:} كبني آدم، والطير إذا مشى على الأرض. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ:} كالبهائم، والسباع، قال النقاش: إنما اكتفى في القول بذكر ما يمشي على أربع عن ذكر ما يمشي على أكثر؛ لأن جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع، وهي قوام مشيه، وكثرة الأرجل في بعضه زيادة في خلقته، لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها.

هذا؛ و {دَابَّةٍ} تشمل من يعقل، وما لا يعقل، فغلب من يعقل لما اجتمع مع من لا يعقل؛ لأنه المخاطب، والمتعبد، ولذلك قال:{فَمِنْهُمْ،} وقال: {مَنْ يَمْشِي} لأن الأصل أن تكون (من) للعاقل، و (ما) لغير العاقل، وقد يعكس هذا فتستعمل (من) لغير العاقل كما في هذه الآية، وتستعمل (ما) للعاقل كما في الآية رقم [6] من سورة (المؤمنون) وهي قوله تعالى:

{إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} وذلك قليل، وأكثر ما تكون (ما) للعاقل إذا اقترن العاقل بغير العاقل في حكم واحد، كما في الآية رقم [49] من سورة (النحل)، وهي قوله تعالى:{وَلِلّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ..} . إلخ، وقوله سبحانه:{يُسَبِّحُ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} الآية رقم [1] من سورة (الجمعة)، وكذلك الآية رقم [1] من سورة (الحديد)، ورقم [1] من سورة (الصف)، فإن كل ما في السموات والأرض ممن يعقل، وما لا يعقل قد اقترنا في حكم واحد، وهو السجود والتسبيح، كما قال تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ} ويكون في الكلام تغليب، كما تستعمل في المبهم أمره كقولك، وقد رأيت شبحا من بعد:(انظر إلى ما أرى) و (من، وما) تكونان بلفظ واحد للمفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر والمؤنث.

{يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ:} ما ذكر، وما لم يذكر، بسيطا أو مركبا على اختلاف الصور في الأعضاء، والهيئات، والحركات، والطبائع، والقوى، والأفعال مع اتحاد العنصر بمقتضى

ص: 411

مشيئته، وحكمته. {إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ:} على ما ذكر، لا يمنعه مانع، ولا يدفعه دافع، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه. وهذه الآية فيها من دلائل قدرة الله تعالى ما لا يخفى على ذي لب.

الإعراب: {وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. (الله): مبتدأ. {خَلَقَ:} ماض، وفاعله يعود إلى (الله). {كُلَّ:} مفعول به، و {كُلَّ} مضاف، و {دَابَّةٍ:} مضاف إليه. {مِنْ ماءٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{خَلَقَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، وعلى القراءة الثانية ف:«(خالق)» هو خبر المبتدأ، و «(خالق)» مضاف، و {كُلَّ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية:{وَاللهُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، والآية بجملتها معطوفة على ما ذكر في الآيات السابقة من دلائل قدرته، جلت حكمته. {فَمِنْهُمْ:} الفاء: حرف تفريع وعطف.

(منهم): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر، هذا هو الظاهر والمتبادر، والأصح: أن مضمون الجار والمجرور مبتدأ، و {مِنْ} هي الخبر؛ لأن (من) الجارة دالة على التبعيض؛ أي: فبعض المخلوقات، وجمع الضمير يؤيد ذلك، ولا استبعاد في وقوع الظرف بتأويل معناه مبتدأ، يرشدك إلى ذلك قوله تعالى:

{مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ} من الآية رقم [110] من سورة (آل عمران)، فعطف (أكثرهم) على (منهم) يؤيد: أن معناه بعضهم، وخذ قول الحماسي:[الكامل]

منهم ليوث، لا ترام وبعضهم

ممّا قمشت وضمّ حبل الحاطب

حيث قابل لفظ «منهم» بما هو مبتدأ أعني لفظة «بعضهم» وهذا مما يدل على أن مضمون «منهم» مبتدأ. هذا؛ وليوث جمع: ليث، وهو الأسد. لا ترام: لا تقصد. قمشت: جمعت من هنا وهناك، والمراد رذالة الناس، والقمش: الرديء من كل شيء. {يَمْشِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى (من) تقديره:«هو» . {عَلى بَطْنِهِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة من، أو صفتها، والجملة:{فَمِنْهُمْ مَنْ..} . إلخ معطوفة، ومفرعة عما قبلها، لا محل لها مثلها، والجملتان:{مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ} معطوفتان عليها، وإعرابهما لا خفاء فيه إن شاء الله تعالى.

{يَخْلُقُ:} مضارع. {اللهُ:} فاعله. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: يخلق الله الذي، أو شيئا يشاء خلقه، وجملة:{يَخْلُقُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:} اسمها. {عَلى كُلِّ:} متعلقان ب: {قَدِيرٌ} بعدهما، وكل مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه. {قَدِيرٌ:} خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية تعليل لمشيئة الله تعالى، لا محل لها.

ص: 412

{لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)}

الشرح: {لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ} للحقائق بأنواع الدلائل، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [34]. {يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} أي: بالتوفيق للنظر في هذه الآيات، والتدبر لمعانيها. {إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: إلى دين الإسلام، الذي هو دين الله، وطريقه إلى جنته ورضاه، وانظر الآية رقم [73] من سورة (المؤمنون). ولا تنس: الالتفات من التكلم إلى الغيبة، وانظر رقم [34] من سورة (الأنبياء).

الإعراب: {لَقَدْ:} اللام: لام الابتداء، أو هي واقعة في جواب قسم محذوف، تقديره:

والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره أقسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَنْزَلْنا:} فعل، وفاعل. {آياتٍ:} مفعول به. {مُبَيِّناتٍ:} صفة لها، وعلامة نصبهما الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنهما جمعا مؤنث سالمان، والجملة الفعلية:{لَقَدْ..} . إلخ لا محل لها على الاعتبارين في اللام. تأمل. {وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. (الله):

مبتدأ. {يَهْدِي:} مضارع مرفوع

إلخ، والفاعل يعود إلى الله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. {مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: يهدي الذي، أو: شيئا يشاء هدايته {إِلى صِراطٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مُسْتَقِيمٍ:} صفة، والجملة الاسمية:{وَاللهُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَيَقُولُونَ آمَنّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)}

تنبيه: لما ذكر الله إنزال الآيات مبينات موضحات ذكر بعدها افتراق الناس إلى ثلاث فرق:

فرقة صدقت ظاهرا، وكذبت باطنا، وهم المنافقون، وهم المذكورون في هذه الآية وما بعدها إلى رقم [54]، وفرقة صدقت ظاهرا وباطنا، وهم المؤمنون المخلصون، وهم المذكورون في الآية رقم [55 و 56]، وفرقة كذبت ظاهرا وباطنا، وهم الكافرون المذكورون في الآية رقم [57]، وبدأ بالمنافقين لشدة شكيمتهم، وبيان: أنهم أسوأ حالا من المشركين.

وهذه الآيات نزلت في رجل منافق اسمه بشر، تخاصم مع يهودي في قضية، فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحاكمه عنده، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف، وهو الذي سماه الله الطاغوت في الآية رقم [60] من سورة (النساء) فأبى اليهودي عليه، ثم إنهما احتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم لليهودي، فلم يرض المنافق بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: تعال نتحاكم

ص: 413

إلى عمر، فأتيا عمر-رضي الله عنه، فقال اليهودي: اختصمت أنا وهذا إلى محمد، فقضى لي عليه، فلم يرض بقضائه، وزعم أنه مخاصمي إليك، فقال عمر-رضي الله عنه-للمنافق:

أكذلك؟ قال: نعم، فقال لهما: رويدا حتى أخرج إليكما، فدخل البيت، وأخذ السيف، ثم خرج، فضرب به عنق المنافق حتى برد-أي: مات-وقال: هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء الله، وقضاء رسوله، فنزلت الآيات، وآية النساء رقم [60] وقال جبريل عليه السلام:(إنّ عمر فرّق بين الحقّ والباطل) فسمي الفاروق-رضي الله عنه-حينئذ.

الشرح: {وَيَقُولُونَ} أي: المنافقون، وإنما جمع الضمير، والمراد به هنا واحد فقط؛ لأن كل المنافقين على طريقته في المكر، والخبث، والكفر، وبمقالته يقولون، وأضمر قبل الذكر لعلمهم من المقام، ولدلالة الكلام عليهم. {آمَنّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا} أي: يقولون ذلك بألسنتهم من غير اعتقاد بقلوبهم. {ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ} أي: يعرض عن الإيمان بالله ورسوله، وعن الانقياد لحكمهما وطاعتهما. {مِنْ بَعْدِ ذلِكَ} أي: من بعد قولهم: آمنا بالله وبالرسول وأطعنا، ويدعون إلى غير حكم الله. {وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} أي: الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، ويدعون إلى حكم الطاغوت، ليسوا بالمؤمنين الحقيقيين؛ لأن المؤمنين المخلصين يقولون: سمعنا، وأطعنا، ويرضون بحكم الله وحكم رسوله. وفيه إعلام من الله بأن جميع المنافقين منتف عنهم الإيمان لا عتقادهم ما يعتقد هؤلاء، والإعراض؛ وإن كان من بعضهم؛ فالرضا بالإعراض من كلهم جعلهم جميعا في حكم واحد.

الإعراب: {وَيَقُولُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو: فاعله. {آمَنّا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {بِاللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {وَبِالرَّسُولِ:}

معطوفان على ما قبلهما. (أطعنا): فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {ثُمَّ:} حرف عطف. {يَتَوَلّى:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {فَرِيقٌ:} فاعله. {مِنْهُمْ:} متعلقان بمحذوف صفة {فَرِيقٌ} . {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بالفعل {يَتَوَلّى،} و {بَعْدِ} مضاف، و {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، وجملة {وَيَقُولُونَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وجملة:{يَتَوَلّى..} . إلخ معطوفة عليها لا محل لها مثلها. {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية حجازية تعمل عمل «ليس» .

{أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع اسم (ما)، والكاف حرف خطاب لا محل له. {بِالْمُؤْمِنِينَ:} الباء: حرف جر صلة. (المؤمنين): خبر (ما) مجرور لفظا، منصوب محلا، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، وإن اعتبرتها حالا من واو الجماعة؛ فلست مفندا، ويكون الرابط: الواو، واسم الإشارة العائد إلى الواو.

ص: 414

{وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)}

الشرح: {وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} أي: ليحكم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه الحاكم ظاهرا، أو المدعو إليه، وذكر الله لتعظيمه، والدلالة على أن حكمه في الحقيقة حكم الله. {إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} أي: فاجأ فريق منهم الإعراض إذا كان الحق عليهم، لعلمهم بأنك لا تحكم لهم، بل تحكم عليهم؛ لأنك لا تحكم إلا بالحق، وهو مبالغة في شرح التولي، والإعراض عن حكم الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم الرضا به.

{وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ} أي: إذا عرفوا: أن الحق معهم ولهم على غيرهم. {يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} أي: مطيعين منقادين لحكمه لثقتهم: أنه كما يحكم عليهم بالحق يحكم لهم أيضا، لا رضا بحكم الله، وحكم رسوله.

قال الزجاج: الإذعان: الإسراع مع الطاعة، والمعنى: أنهم لمعرفتهم: أنه ليس معك إلا الحق الخالص والعدل البحت يمتنعون عن المحاكمة إليك إذا كانوا مبطلين؛ لئلا تنتزع الحق من قلوبهم، وعيونهم بقضائك عليهم لخصومهم، وإن عرفوا، وأيقنوا: أن الحق لهم على خصمهم؛ أسرعوا إليك، ولم يرضوا إلا بحكومتك لتأخذ لهم ما وجب لهم في ذمة غيرهم.

وهذا المرض قد استشرى عند الأغلبية الساحقة من المسلمين في هذه الأيام، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فأكثرهم لا يرضون بشرع الله.

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف عطف. (إذا): انظر الآية رقم [39]. {دُعُوا:} ماض مبني للمجهول، مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق. {إِلَى اللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وتقدير الكلام: دعوا إلى حكم الله، وحكم رسوله، فحذف المضاف لوضوحه.

{وَرَسُولِهِ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {لِيَحْكُمَ:} مضارع منصوب ب: «أن» المضمرة جوازا بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى (رسوله).

{بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{دُعُوا إِلَى..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح.

{إِذا:} كلمة دالة على الفجاءة، وانظر الآية رقم [97] من سورة (الأنبياء) تجد البحث وافيا كافيا. {فَرِيقٌ:} مبتدأ. {مِنْهُمْ:} متعلقان بمحذوف صفة {فَرِيقٌ} . {مُعْرِضُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في

ص: 415

الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{فَرِيقٌ..} . إلخ في محل جر بإضافة {إِذا} إليها، وهذا على اعتبار {إِذا} الفجائية ظرفا، والجملة الاسمية جواب (إذا) الشرطية، و {إِذا} الفجائية واقعة في جواب (إذا) الشرطية، كما إذا وقعت الفاء في جوابها، وفي الآية دليل على أن «إذا» الشرطية لا تكون معمولة لجوابها؛ لأن ما بعد «إذا» الفجائية لا يعمل فيما قبلها، ومثلها الآية رقم [54] من سورة (النحل)، {وَإِذا} ومدخولها كلام معطوف على جملة: (يقولون

) إلخ لا محل له مثلها.

{وَإِنْ:} الواو: حرف عطف. (إن): حرف شرط جازم. {يَكُنْ:} مضارع ناقص فعل الشرط. {لَهُمُ:} متعلقان بمحذوف خبر {يَكُنْ} مقدم. {الْحَقُّ:} اسمه مؤخر، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {يَأْتُوا:} مضارع جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {إِلَيْهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بما بعدهما. {مُذْعِنِينَ:} حال من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، وجملة:{يَأْتُوا..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا بإذا الفجائية، وإن ومدخولها كلام معطوف على (إذا) ومدخولها لا محل له مثله.

{أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ اِرْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ (50)}

الشرح: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي: شك، ونفاق، فهو يمرض قلوبهم، أي: يضعفها، وذلك بضعف الإيمان فيها، والمرض حقيقة فيما يعرض للبدن، فيخرجه عن الاعتدال اللائق به، ويوجب الخلل في أفعاله، وقد يؤدي إلى الموت، واستعير هنا لما في قلوبهم من الجهل، وفساد العقيدة. {أَمِ ارْتابُوا} أي: شكوا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وعدله، أو رأوا منه تهمة، فزالت ثقتهم، ويقينهم به.

{أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ:} ذكر الله السبب في صدودهم عن حكومة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذا كان الحق عليهم بأن يكونوا مرضى القلوب منافقين، أو مرتابين في أمر نبوته، أو خائفين من جوره وظلمه، ثم أبطل خوفهم من جوره وظلمه، حيث قال جلت قدرته:{بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ} أي: لا يخافون أن يجور عليهم بحكمه لمعرفتهم بعدله، وإنما هم ظالمون، يريدون أن يظلموا من له الحق، وذلك شيء لا يستطيعونه في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ثمّ يأبون المحاكمة إليه. والحيف: الميل، والجور في القضاء.

وفي البيضاوي في قوله تعالى: {بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ:} إضراب عن القسمين الأخيرين لتحقيق القسم الأول؛ أي: هو النفاق في قلوبهم. ووجه التقسيم: أن امتناعهم، إما لخلل فيهم،

ص: 416

أو في الحاكم. والثاني: إما أن يكون محققا عندهم، أو متوقعا، وكلاهما باطل؛ لأن منصب نبوته، وفرط أمانته يمنعه، فتعين الأول، وظلمهم يعمّ خلل عقيدتهم، وميل نفوسهم إلى الحيف.

والفصل-أي: ضمير الفصل-لنفي ذلك عن غيرهم، سيما المدعو إلى حكمه. انتهى. بتصرف.

الإعراب: {أَفِي:} الهمزة: حرف استفهام، وتوبيخ، وذم. (في قلوبهم): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَرَضٌ:} مبتدأ مؤخر، ويجوز اعتباره فاعلا بمتعلق الجار والمجرور بالاتفاق لاعتماده على الاستفهام، والتقدير: أيوجد في قلوبهم مرض؟ وعليه هو نائب فاعل لهذا المقدر.

{أَمِ:} حرف عطف بمعنى «بل» للانتقال. {اِرْتابُوا:} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {أَمِ:} حرف عطف بمعنى «بل» أيضا. {يَخافُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والمصدر المؤول من:{أَنْ يَحِيفَ..} . إلخ في محل نصب مفعول به. {بَلْ:} حرف إضراب. {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {قُلُوبِهِمْ:} ضمير فصل لا محل له. {الظّالِمُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. هذا؛ وإن اعتبرت الضمير مبتدأ و {الظّالِمُونَ} خبره؛ فالجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها؛ لأن «بل» للإضراب. تأمل، وتدبر.

{إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)}

الشرح: {إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ} أي: كتاب الله وحكم رسوله.

{لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} أي: بما أنزل الله عليه، وبما ألهمه، وعلمه من لدنه علما. {أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا:} قال: ابن عباس-رضي الله عنهما: أخبر الله بطاعة المهاجرين، والأنصار؛ وإن كان ذلك فيما يكرهون، أي: هذا قول المؤمنين، وهؤلاء المنافقون لو كانوا مؤمنين حقا، لكانوا يقولون: سمعنا وأطعنا. وفي الآية الكريمة تعليم أدب الشرع على معنى: أن المؤمنين، كذا ينبغي أن يكونوا أن يقولوا. {وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي: الفائزون برضا الله، ونعيم الجنة في الآخرة، وهذا من عادته تعالى في لطفه، وكرمه في إتباع المحقّ المبطل، والتنبيه على ما ينبغي بعد إنكاره ما لا ينبغي، وانظر زيادة على ذلك في الآية رقم [39] ..

الإعراب: {إِنَّما:} كافة، ومكفوفة. {كانَ:} ماض ناقص. {قَوْلَ:} خبر كان مقدم، وهو مضاف، و {الْمُؤْمِنِينَ:} مضاف إليه مجرور

إلخ، وهذه الإضافة من إضافة المصدر لفاعله.

{إِذا:} ظرف زمان مجرد عن الشرطية هنا، مبني على السكون في محل نصب متعلق بالمصدر قبله. {دُعُوا:} ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعل، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في

ص: 417

محل جر بإضافة {إِذا} إليها. {إِلَى اللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {وَرَسُولِهِ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {لِيَحْكُمَ:} مضارع يقرأ بالبناء للمعلوم، وبالبناء للمجهول، فهو منصوب ب:«أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى رسوله. {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، أو هو متعلق بالفعل على أنه نائب فاعله على قراءة الفعل بالبناء للمجهول.

وقيل: نائب الفاعل يعود إلى مصدر الفعل؛ لأن معناه: ليفعل الحكم بينهم، والهاء في محل جر بالإضافة، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {دُعُوا،} والمصدر المؤول من: {أَنْ يَقُولُوا} في محل رفع اسم {كانَ} مؤخر، وقرأ أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه، والحسن برفع «(قول المؤمنين)» على أنه اسم {كانَ،} والمصدر المؤول في محل نصب خبرها، وقراءة الجمهور بالنصب أقوى؛ لأن أولى الاسمين بكونه اسما ل:{كانَ} أو غلهما في التعريف، والمصدر المؤول أوغل بخلاف (قول المؤمنين) فإن الإضافة فيه بنية الانفصال. {سَمِعْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:(أطعنا) معطوفة عليها، فهي مثلها في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{إِنَّما كانَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} مستأنفة، لا محل لها، وإعرابها مثل إعراب:{أُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ} في الآية السابقة.

{وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52)}

الشرح: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ} فيما يأمران به، وينهيان عنه، أو يطع الله في الفرائض، ورسوله في السنن. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: أي: فيما سره، وأحزنه. {وَيَخْشَ اللهَ:} على ما مضى من ذنوبه. {وَيَتَّقْهِ} أي: فيما بقي من عمره. {فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ} أي: برضوان الله ورحمته، وجنته؛ كيف لا؟ والله يقول:{وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً} الآية رقم [69] من سورة (النساء).

فائدة: ذكر أسلم-رضي الله عنه: أن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-بينما هو قائم في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا رجل من دهاقين الروم قائم على رأسه، وهو يقول: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمدا رسول الله، فقال له عمر: ما شأنك؟ قال: أسلمت لله. قال: هل لهذا من سبب؟ قال: نعم، قرأت التوراة، والزبور، والإنجيل، وكثيرا من كتب الأنبياء، فسمعت أسيرا يقرأ آية من القرآن جمع فيها كل ما في الكتب المتقدمة، فعلمت: أنها من عند الله فأسلمت، قال: ما هذه الآية؟ قال: قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ} والفائز من نجا من النار، وأدخل الجنة! فقال عمر-رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أوتيت جوامع الكلم» . انتهى. قرطبي بتصرف. وانظر الآية رقم [54] الآتية.

ص: 418

هذا؛ والخشية: الخوف. وانظر الآية رقم [80] من سورة (الكهف)، وانظر (التقوى) في الآية رقم [1] من سورة (الحج). هذا؛ وقرأ حفص (يتّقه) بسكون القاف على نية الجزم، قال الشاعر:[الوافر]

ومن يتّق فإن الله معه

ورزق الله مؤتاب وغادي

وكسرها الباقون؛ لأن جزمه بحذف حرف العلة من آخره على القاعدة في جزم المعتل.

وأسكن الهاء أبو عمر وأبو بكر، واختلس الكسرة يعقوب، وقالون، وأشبع كسرة الهاء الباقون، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُطِعِ:} مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {وَرَسُولَهُ:} معطوف عليه، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَيَخْشَ:} مضارع معطوف على فعل الشرط مجزوم مثله، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى (من) أيضا. {وَيَتَّقْهِ:} معطوف على ما قبله مجزوم مثله، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، ثم تلاها تسكين القاف للتخفيف، والهاء مفعول به، والفاعل يعود إلى (من) أيضا. {فَأُولئِكَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط، وانظر مثل إعراب الجملة الاسمية: (أولئك

) إلخ في الآية رقم [50] فهي مثلها بلا فارق، وهي في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما رأيت في الآية رقم [33]. والجملة الاسمية:{وَمَنْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53)}

الشرح: {وَأَقْسَمُوا:} حلفوا، وسمي الحلف قسما؛ لأنه يكون عند انقسام الناس إلى مصدق، ومكذب، وهو رباعي كما ترى، فهمزته تثبت في الماضي، والأمر، وتحذف في المضارع مع ضم حرف المضارعة كما تراه في الآية رقم [63] في إعلال (يصيب). هذا؛ وأما «قسم» الثلاثي فإنه بمعنى: جزأ وفرق، فمضارعه بفتح حرف المضارعة، وهمزته في الأمر همزة وصل. {جَهْدَ أَيْمانِهِمْ} أي: غاية اجتهادهم فيها، و (الجهد) بفتح الجيم: المشقة، وبضمها الطاقة والقدرة، وقرئ بهما قوله تعالى:{وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاّ جُهْدَهُمْ} الآية رقم [79] من سورة (التوبة).

{لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ:} قال القرطبي رحمه الله تعالى: عاد القول إلى ذكر المنافقين، فإن الله لما بيّن كراهتهم لحكم النبي صلى الله عليه وسلم أتوه، فقالوا: والله لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا، ونسائنا، وأموالنا؛

ص: 419

لخرجنا، ولو أمرتنا بالجهاد؛ لجاهدنا، فنزلت هذه الآية؛ أي: وأقسموا بالله أنهم يخرجون معك في المستقبل، ويطيعون. انتهى. {جَهْدَ أَيْمانِهِمْ} مستعار من جهد نفسه إذ بلغ أقصى وسعها.

{قُلْ لا تُقْسِمُوا} أي: لا تحلفوا كذبا بالله. {طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} أي: هذه طاعة القول باللسان، دون الاعتقاد بالقلب، وهي معروفة، أي أمر عرف منكم أنكم تكذبون، وتقولون ما لا تفعلون.

وقيل: معناه طاعة معروفة بنية خالصة أفضل، وأمثل من يمين باللسان، لا يوافقها الفعل.

انتهى. خازن. {إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} أي: من طاعتكم بالقول، ومخالفتكم بالفعل، فلا يخفى عليه شيء من سرائركم.

بعد هذا انظر شرح (الإيمان) في الآية رقم [14] من سورة (الحج)، وإعلال {لَيَخْرُجُنَّ} مثل إعلال (لتعلمن) في الآية رقم [71] من سورة (طه). هذا؛ وأمر يتعدى لمفعولين، تارة بنفسه.

كما في قولك: أمرتك الخير، وتارة يتعدى إلى الثاني بحرف الجر، كما في قولك: أمرتك بالخير، ومثله: استغفر، واختار، وكنى، وسمّى، ودعا، وصدّق، وزوّج، وكال، ووزن، فمثال «استغفر» وقد نصب مفعولين صريحين قول الشاعر:[البسيط]

أستغفر الله ذنبا لست محصيه

ربّ العباد إليه الوجه والعمل

ومثال «أمر» وقد نصب مفعولين صريحين قول عمرو بن معدي كرب، وينسب لغيره:[البسيط]

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب

هذا؛ والأمر من: أمر: مر، وأصله: اومر، لكن لم يستعمل على الأصل، وحذفت الهمزتان تخفيفا لاجتماع الضمات، وهذا الحذف واقع في الأمر المأخوذ من: أخذ وأكل، فيقال: خذ، وكل، وقد قالوا: اؤمر، و: اؤخذ، فاستعملا على الأصل، ومنه:(أؤمر) في الآية رقم [144 و 199] من سورة (الأعراف)، ورقم [132] من سورة (طه)، والآية رقم [17] من سورة لقمان، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَأَقْسَمُوا:} الواو: حرف عطف. (أقسموا): ماض، وفاعله، والألف للتفريق.

{بِاللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {جَهْدَ:} مفعول مطلق عامله: (أقسموا) وهو من معناه، أو هو حال من واو الجماعة بمعنى جاهدين، أو مجتهدين، وجملة {وَأَقْسَمُوا..}. إلخ معطوفة على جملة: (يقولون

) إلخ في الآية رقم [47] و {جَهْدَ} مضاف، و {أَيْمانِهِمْ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة. {لَئِنْ:} اللام: موطئة لقسم محذوف. (إن): حرف شرط جازم.

{أَمَرْتَهُمْ:} ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَيَخْرُجُنَّ:}

اللام: واقعة في جواب القسم. (يخرجن): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة، المدلول عليها بالضمة في محل رفع فاعل، والنون للتوكيد

ص: 420

حرف لا محل له، والجملة الفعلية جواب القسم المحذوف، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، على القاعدة:«إذا اجتمع شرط، وقسم فالجواب للسابق منهما» ؛ ما لم يتقدم عليهما ما يحتاج إلى خبر، فيصح أن يكون الجواب للشرط المتقدم، وأن يكون جوابا للقسم، والمرجح أن يكون للشرط مطلقا، قال ابن مالك-رحمه الله-في ألفيته:[الرجز]

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخّرت فهو ملتزم

وإن تواليا وقبل ذو خبر

فالشّرط رجّح مطلقا بلا حذر

وربّما رجّح بعد قسم

شرط بلا ذي خبر مقدّم

هذا؛ والقسم المحذوف وجوابه المذكور، والشرط المذكور، وجوابه المحذوف كلّ ذلك جواب لقومه:(أقسموا بالله){قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لا تُقْسِمُوا:} مضارع مجزوم ب: {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {طاعَةٌ:} مبتدأ، والخبر محذوف، التقدير: طاعة معروفة خير من قسمكم، أو خبر مبتدأ محذوف، التقدير: أمرنا طاعة ونحو ذلك: المطلوب منكم طاعة. وأجاز البيضاوي تقدير: ولتكن طاعة معروفة، فتكون طاعة فاعلا لفعل محذوف. ولكنه ضعيف؛ لأن الفعل لا يحذف إلا لدليل، وقال: قرئت بالنصب على تقدير: أطيعوا طاعة. وقال العكبري: ولو قرئ بالنصب لكان جائزا في العربية، وذلك على المصدر، أي: أطيعوا طاعة، وقولوا قولا، أو اتخذوا طاعة، وقولا

إلخ، وكانه لم يطلع على القراءة بالنصب، {مَعْرُوفَةٌ:} صفة {طاعَةٌ،} والجملة الاسمية أو الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل.

{بِاللهِ:} اسمها. {خَبِيرٌ:} خبرها. {بِما:} متعلقان ب: {خَبِيرٌ،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: خبير بالذي، أو: بشيء تعملونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: خبير بعملكم، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ..} . إلخ تعليل للأمر لا محل لها.

{قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54)}

الشرح: {قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} أي: فيما يأمران به، وفيما ينهيان عنه. هذا؛ وقد قرن الله طاعته بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في كثير من الآيات، كما هو معلوم، من ذلك قوله تعالى في

ص: 421

سورة (النساء) رقم [80]. {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ} ومن القرطبي: وفي حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من فرّق بين ثلاث فرّق الله بينه وبين رحمته يوم القيامة: من قال: أطيع الله، ولا أطيع الرسول، والله تعالى يقول: {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ،} ومن قال: أقيم الصلاة، ولا أوتي الزكاة، والله تعالى يقول: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ،} ومن فرّق بين شكر الله وشكر والديه، والله عز وجل يقول: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ» }. انتهى.

{فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي: أعرضوا عن طاعة الله وطاعة رسوله، وأصل الفعل: تتولوا، فحذف إحدى التاءين، وهو كثير في القرآن الكريم، ودل على ذلك: أن بعده {وَعَلَيْكُمْ} ولم يقل:

وعليهم. {فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ:} إذ المعنى: فإن تتولوا عن ما ذكر فإنكم لن تضروه، وإنما تضرون أنفسكم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس عليه إلا ما حمله الله تعالى، وكلفه من أداء الرسالة، فإذا أدى ما عليه فقد خرج عن عهدة تكليفه، وأما أنتم فعليكم ما كلفتم من التقى بالقبول والإذعان، فإن لم تفعلوا، وتوليتم؛ فقد عرضتم نفوسكم لسخط الله وشديد انتقامه.

{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} أي: وإن أطعتموه فيما يأمركم به، وينهاكم عنه؛ فقد أحرزتم نصيبكم من الهدى، فالضرر في توليكم، والنفع في طاعتكم عائدان إليكم. فقد جعل الاهتداء مقرونا بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. {وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي: ما على الرسول إلا أن يبلغكم ما يوحى إليه من ربه، فليس له نفع في طاعتكم، ولا عليه ضرر في إعراضكم. و {الْبَلاغُ} بمعنى التبليغ، كالأداء بمعنى التأدية، و {الْمُبِينُ} الظاهر لكونه مقرونا بالدلائل النيرة والمعجزات الباهرة، وانظر إعلال {الْمُبِينُ} في الآية رقم [11] من سورة (الحج). ولقد صرف الله الكلام عن الغيبة في الآية السابقة، إلى الخطاب في هذه الآية على طريق الالتفات، وهو أبلغ في تبكيتهم، وانظر الالتفات في الآية رقم [34] من سورة (الأنبياء).

الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {أَطِيعُوا:} أمر، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهَ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول.

والتي بعدها معطوفة عليها، فهي مثلها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَإِنْ:} الفاء: حرف تفريع، واستئناف، وقيل: حرف عطف. (إن):

حرف شرط جازم. {تَوَلَّوْا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، كما رأيت في الشرح، والجملة الفعلية لا محل لها

إلخ. {فَإِنَّما:} الفاء: واقعة في جواب الشرط، وقيل: الجواب محذوف، التقدير: فاعلموا أنما عليه صلى الله عليه وسلم ما حمل. وهو تكلف لا داعي له. (إنما): كافة، ومكفوفة. {عَلَيْهِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فَإِنَّما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. {حُمِّلَ:} ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى الرسول، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: فإنما

ص: 422

عليه الذي، أو: شيء حمله، والجملة الاسمية هذه في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، والجملة بعدها معطوفة عليها، وإعرابها مثلها بلا فارق، و (إن) ومدخولها كلام مفرع عما قبله، ومستأنف لا محل له، {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا:} هذه الجملة معطوفة على ما قبلها، وإعرابها واضح إن شاء الله تعالى.

{وَما:} الواو: حرف استئناف. {فَإِنَّما:} نافية. {عَلَى الرَّسُولِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم.

{إِلاَّ:} حرف حصر قصر مهمة الرسول على التبليغ. {الْبَلاغُ:} مبتدأ مؤخر {الْمُبِينُ:} صفة له، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي اِرْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55)}

الشرح: الخطاب في هذه الآية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأصحابه، و {مِنْكُمْ} للبيان والتخصيص كالتي في آخر سورة (الفتح)، وعدهم الله أن ينصر الإسلام على الكفر، ويورثهم الأرض، ويجعلهم فيها خلفاء، كما فعل ببني إسرائيل؛ حين أورثهم أرض مصر، والشام بعد إهلاك الجبابرة، وأن يمكن الدين المرتضى، وهو دين الإسلام، وتمكينه: تثبيته، وتوطيده، وأن يؤمن سربهم، ويزيل عنهم الخوف الذي كانوا عليه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين، أي بعد السر بالدعوة ثلاث سنين، ولما هاجروا إلى المدينة كانوا يصبحون في السلاح ويمسون فيه، حتى قال رجل: أما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع السلاح؟ فقال صلى الله عليه وسلم:

«لا تلبثون إلا يسيرا؛ حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا، ليس عليه حديدة» .

فأنجز الله وعده، وأظهرهم على جزيرة العرب، وافتتحوا بعدها بلاد المشرق، والمغرب، ومزقوا ملك الأكاسرة، وملكوا خزائنهم، واستولوا على الدنيا، قال الضحاك في كتاب النقاش:

هذه الآية تتضمّن صحة خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي-رضي الله عنهم؛ لأنهم أهل الإيمان، وعملوا الصالحات؛ وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثمّ تكون ملكا» . رواه سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: «ثم تكون ملكا عضوضا» . أي جائرا، وإلى هذا القول ذهب ابن العربي في أحكامه، واختاره، وقال: قال علماؤنا هذا الآية دليل على خلافة الخلفاء الأربعة-رضي الله عنهم، وأن الله تعالى استخلفهم، ورضي أمانتهم، وكانوا على الدين الذي ارتضى لهم؛ لأنهم لم يتقدمهم أحد في الفضيلة إلى يومنا هذا، فاستقر الأمر

ص: 423

لهم، وقاموا بسياسة المسلمين، وذبّوا عن حوزة الدين، فنفذ الوعد فيهم، وإذا لم يكن هذا الوعد لهم نجز، وفيهم نفذ، وعليهم ورد، ففيمن يكون إذا، وليس بعدهم مثلهم إلى يومنا هذا، ولا يكون فيمن بعدهم-رضي الله عنهم.

{وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} أي: ليجعلنهم متصرفين في الأرض تصرف الملوك في مماليكهم، وعطف (عملوا) على {آمَنُوا} احتراس يوحي: أن الإيمان بدون عمل صالح لا يحقق استخلافا في الأرض، بل ولا يدخل جنة، وهذا نبهت عليه مرارا وتكرارا. {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: كما استخلف داود، وسليمان، وغيرهما من الأنبياء، وكما استخلف بني إسرائيل، وأهلك الجبابرة بمصر والشام، وأورثهم أرضهم، وديارهم.

{وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ:} اختاره بقوله في سورة (المائدة) رقم [3]: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يوسع لهم في البلاد؛ حتى يملكوها، ويظهر دينهم على سائر الأديان. {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً:} آمنين، فأنجز الله وعده، وأظهر دينه، ونصر أولياءه، وأبدلهم بعد الخوف أمنا، وبسطا في الأرض.

فقد أخرج البخاري عن عدي بن حاتم الطائي-رضي الله عنه-قال: بينا أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل، فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر، فشكا إليه قطع السبيل، فقال:

«يا عديّ هل رأيت الحيرة؟» . قلت: لم أرها، ولقد أنبئت عنها، قال:«فإن طالت بك حياة؛ لترينّ الظعينة ترحل من الحيرة، حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحدا إلا الله» . قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعّار طيئ الذين قد سعّروا البلاد؟! «ولئن طالت بك حياة؛ لتفتحنّ كنوز كسرى» قلت: كسرى بن هرمز؟! قال: «كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترينّ الرجل يخرج ملء كفه من ذهب، أو فضة يطلب من يقبله منه، فلا يجد أحدا يقبله منه، وليلقينّ الله أحدكم يوم القيامة، وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فليقولنّ: ألم أبعث إليك رسولا، فيبلغك؟ فيقول: بلى! يا رب، فيقول: ألم أعطك مالا، وأفضل عليك؟ فيقول: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن شماله فلا يرى إلا جهنم» . قال عدي-رضي الله عنه:

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اتقوا النار، ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة» .

قال عديّ-رضي الله عنه: فرأيت الظعينة ترحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترونّ ما قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: يخرج الرجل ملء كفه ذهبا

إلخ. انتهى. خازن.

{يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً:} فيه أربعة أقوال: أحدها: لا يعبدون غيري. الثاني:

لا يراؤون بعبادتي أحدا. الثالث: لا يخافون غيري. قاله ابن عباس-رضي الله عنهما. الرابع:

لا يحبون غيري. قاله مجاهد. {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ} أي: كفر هذه النعم، أي: جحدها، ولم

ص: 424

يرد الكفر بالله، وانظر (الكفر) في الآية رقم [30] من سورة (الأنبياء). {فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} أي:

العاصون الخارجون عن طاعة الله تعالى، وانظر الآية رقم [4]، وانظر شرح {الدِّينِ} في الآية رقم [78] من سورة (الحج)، وشرح (العبادة) في رقم [67] من سورة (الأنبياء).

قال أهل التفسير: أول من كفر النعمة وجحد حقها الذين قتلوا عثمان-رضي الله عنه، فلما قتلوه؛ غيّر الله ما بهم، وأدخل عليهم الخوف، حتى صاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخوانا، فعن ابن أخي عبد الله بن سلام-رضي الله عنهما-قال: لما أريد قتل عثمان جاء عبد الله بن سلام، فقال عثمان: ما جاء بك؟ قال: جئت في نصرك، قال: اخرج إلى الناس، فاطردهم، فإنك خارجا خير لي منك داخلا، فخرج عبد الله إلى الناس، فقال: أيها الناس، إن لله سيفا مغمودا عنكم، وإن الملائكة قد جاورتكم في بلدكم هذا الذي نزل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله الله في هذا الرجل أن تقتلوه، فو الله إن قتلتموه لتطردنّ جيرانكم الملائكة، وليسلّنّ الله سيفه المغمود عنكم، فلا يغمد إلى يوم القيامة! قالوا: اقتلوا اليهودي، واقتلوا عثمان. أخرجه الترمذي. زاد في رواية غير الترمذي، فما قتل نبي قط إلا قتل به سبعون ألفا، ولا خليفة إلا قتل به خمسة وثلاثون ألفا. انتهى. خازن.

الإعراب: {وَعَدَ:} ماض. {اللهُ:} فاعله. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به. {آمَنُوا:} ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِنْكُمْ:} متعلقان بمحذوف في محل نصب حال من واو الجماعة، وجملة:{آمَنُوا مِنْكُمْ} صلة الموصول لا محل لها. (عملوا): ماض، وفاعله. {الصّالِحاتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، وجملة:{وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ:} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف. (يستخلفنهم): مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، التي هي حرف لا محل له، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} والهاء في محل نصب مفعول به. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. والجملة الفعلية جواب قسم محذوف، التقدير: أقسم ليستخلفنهم في الأرض، والقسم وجوابه كلام معطوف على جملة:{وَعَدَ..} . إلخ بواو محذوفة، أو نزّل {وَعَدَ اللهُ} في تحققه منزلة القسم، فتلقي بما يتلقى به القسم، كأنه قيل: أقسم الله ليستخلفنكم. انتهى. زمخشري من الكشاف، ومثله ما نقله الجمل عن السمين، وزاد فيه قوله على الاعتبار الأول: ويكون، مفعول الوعد محذوفا، تقديره:

وعدهم الاستخلاف، لدلالة قوله:{لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} عليه.

وأما مكي بن أبي طالب القيسي-رحمه الله تعالى-فقد قال: أصل «وعد» أن يتعدى إلى مفعولين، ولك أن تقتصر على أحدهما، فلذلك تعدى في هذه الآية إلى مفعول واحد، وفسر العدة بقوله سبحانه:{لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} كما فسر العدة في المائدة بقوله: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} رقم [10]

ص: 425

وكما فسر الوصية في (النساء) بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} الآية رقم [11].

{كَمَا:} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية. {اِسْتَخْلَفَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {اللهُ،} ويقرأ بالبناء للمجهول. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به، أو هو في محل رفع نائب فاعل. {مِنْ قَبْلِهِمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة، و (ما) المصدرية، والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف واقع مفعولا مطلقا، التقدير: ليستخلفنهم استخلافا مثل استخلاف الذين من قبلهم، وهذا ليس مذهب سيبويه؛ وإنما مذهبه في مثل هذا التركيب أن يكون منصوبا على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم، وإنما أحوج سيبويه إلى هذا؛ لأن حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه، لا يجوز إلا في مواضع محصورة، وليس هذا منها، وجملة:{وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ} معطوفة على ما قبلها على جميع الوجوه المعتبرة فيها. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة {دِينَهُمُ،} والجملة بعده صلته، والعائد محذوف، التقدير: الذي ارتضاه لهم، وكذلك جملة:{وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} معطوفة على ما قبلها، ويقرأ بتشديد النون، وتخفيفها. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {أَمْناً،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» و {بَعْدِ} مضاف، و {خَوْفِهِمْ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {أَمْناً:} مفعول به ثان للفعل (يبدل). {يَعْبُدُونَنِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من ضمير الغائبين، والرابط: الضمير، وهو واو الجماعة، أو هي مستأنفة، لا محل لها. أو هي في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هم يعبدونني، والجملة الاسمية مستأنفة، وفي توجيه الحالية ذكر الجمل خمسة أوجه من الفاعل، أو من المفعول، وكلها تعود لما ذكرته. {لا:} نافية.

{يُشْرِكُونَ:} مضارع، والواو فاعله. {بِي:} متعلقان بالفعل قبلهما. {شَيْئاً:} مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من واو الجماعة، أو هي بدل مما قبلها، فتكون حالا متداخلة على الأول، وبمعنى التفسير على الثاني.

{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {كَفَرَ:} ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من).

{بَعْدِ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، وبعد مضاف، و {ذلِكَ} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {فَأُولئِكَ:}

ص: 426

الفاء: واقعة في جواب الشرط، وإعراب:(أولئك هم الفاسقون) مثل إعراب {أُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ} في الآية رقم [50] بلا فارق، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما رأيت في الآية رقم [33]. هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا فهو مبتدأ، وجملة:{كَفَرَ..} . إلخ صلته، وخبره الجملة الاسمية:{فَأُولئِكَ..} . إلخ وزيدت الفاء في الخبر؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، وعلى الاعتبارين فالجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)}

الشرح: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ:} انظر الآية رقم [30] من سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام. {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ:} في جميع ما أمركم به، قال تعالى:{وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وانظر الآية رقم [54]. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي:

تنالكم رحمة الله. وانظر ما ذكرته في مثل هذا الترجي في الآية رقم [1].

الإعراب: {وَأَقِيمُوا:} الواو: حرف عطف. (أقيموا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على مقدر يقتضيه السياق، التقدير: دوموا على الإيمان. واعملوا صالحا، وأقيموا الصلاة، أو هي معطوفة على جملة:{أَطِيعُوا اللهَ..} . إلخ في الآية رقم [54] وما بينهما كلام معترض لا محل له، وهذا الاعتراض فاصل، وهو وعد على المأمور به، فيكون تكريرا للأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم للتأكيد، وتعليق الرحمة بها، أو بالمندرجة هي فيه بقوله:{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} كما علق الهدى، وربطه بطاعته صلى الله عليه وسلم، والجملتان:{وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} معطوفتان عليها، وجملة:{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} تعليل للأمر، و {تُرْحَمُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعلّ).

تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم..

{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)}

الشرح: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} المعنى: لا تظنن يا محمد الكفار معجزين الله عن إدراكهم، وإهلاكهم، فهم لا يفوتونه، ولا يفلتون من عقابه وانتقامه. هذا؛ ويجوز أن يكون الخطاب لكل واحد عاقل، ويقرأ الفعل بالياء. (مأواهم النار): مقرهم، ومالهم جهنم. {وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ:} المرجع، والماب، وانظر شرح (بئس) في الآية رقم [78] من سورة (الحج).

الإعراب: {لا تَحْسَبَنَّ:} مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وهو في محل جزم ب:{لا} الناهية، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«أنت» . وعلى قراءته بالياء، فالفاعل

ص: 427

تقديره: «هو» ، فعلى القراءتين الفاعل يعود إلى {الرَّسُولَ} كذا قيل، وهو غير مسلم؛ لأنه يمتنع، أو يبعد جعله الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن مثل هذا الحسبان لا يتصور منه حتى ينهى عنه، وهذا على الخطاب، وأما على قراءته بالياء، فإن الفاعل مضمر يعود على ما دل السياق عليه، أي:

لا يحسبن حاسب، أو أحد، وعوده على الرسول صلى الله عليه وسلم ضعيف للمعنى المتقدم، ويجاب: بأنه لا يلزم من النهي عن الشيء وقوعه من المنهي عنه، فيكون على سبيل الفرض، والتقدير.

{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به أول، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلته. {مُعْجِزِينَ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، وفاعله مستتر فيه. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان ب: {مُعْجِزِينَ} . هذا؛ وقيل: إن فاعل (يحسبن) بالياء هو {الَّذِينَ،} والمفعول الأول محذوف، فيكون تقدير الكلام: ولا يحسبن الذين كفروا أحدا معجزين، أو لا يحسبوهم معجزين، فحذف المفعول الأول؛ لأن الفاعل، والمفعولين لشيء واحد، فاكتفى بذكر واحد عن اثنين. وقدر القرطبي الكلام: لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين الله في الأرض.

قال النحاس: وما علمت أحدا من أهل العربية بصريا، ولا كوفيا، إلا وهو يخطّئ قراءة حمزة، وهي قراءة الياء، فمنهم يقول: هي لحن؛ لأنه لم يأت إلا بمفعول واحد ل: (يحسبنّ) وممن قال هذا أبو حاتم. وقال الفراء: هو ضعيف، وأجازه على ضعفه، على أنه يحذف المفعول الأول. انتهى. قرطبي. (مأواهم): مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر.

{النّارُ:} خبره، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها عطف خبر على إنشاء على رأي بعضهم، أو هي معطوفة على مقدر. تقديره: بل هم مقهورون مدركون، أي فهو عطف خبر على خبر.

{وَلَبِئْسَ:} الواو: حرف عطف. اللام: لام الابتداء. (بئس): ماض جامد دال على إنشاء الذم.

{الْمَصِيرُ:} فاعله، والمخصوص بالذم محذوف، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. هذا؛ ويجوز اعتبارها واقعة في جواب قسم محذوف، والجملة الفعلية جوابه.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)}

سبب نزول الآية الكريمة: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: وجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما من الأنصار-يقال له: مدلج بن عمرو-إلى عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-وقت الظهيرة؛ ليدعوه، فدخل-أي: بدون استئذان-فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته فيها، فقال-رضي الله عنه:

ص: 428

لوددت: أن الله عز وجل نهى آباءنا، وأبناءنا، وخدمنا أن يدخلوا هذه الساعات علينا إلا بإذن؛ ثم انطلق معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوجده، وقد أنزلت عليه هذه الآية، وهي إحدى الآيات التي نزلت توافق رأي عمر، رضي الله عنه.

وقيل: نزلت في أسماء بنت مرثد-رضي الله عنها، كان لها غلام كبير، فدخل عليها في وقت كرهته، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن خدمنا، وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها! فأنزل الله الآية.

قال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: الآية رجوع إلى تتمة الأحكام السالفة-أي: في الاستئذان- بعد الفراغ من الإلهيات، الدالة على وجوب الطاعة فيما سلف من الأحكام وغيرها، والوعد عليها، والوعيد على الإعراض عنها، والمراد به: خطاب الرجال، والنساء، غلّب فيه الرجال.

انتهى. أقول: وهذا نبهت عليه كثيرا بأن نداء الذكور يعمّ النساء، إلا ما ورد بخصوصه.

الشرح: {الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ:} من العبيد، والإماء، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [14] من سورة (الحج). {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} أي: من الأطفال الأحرار، والمراد بهم: من بلغوا سن التمييز، والعقل وغيرهما، واتفق العلماء على أنّ الاحتلام بلوغ، وعلى أن الحيض بلوغ، ولو كانا في السن العاشرة، أو غيرها، واختلفوا فيما إذا بلغا خمس عشرة سنة، ولم يحتلم الذكر، ولم تحض الأنثى، فقال أبو حنيفة-رحمه الله تعالى-: لا يكون بالغا حتى يبلغ ثمان عشرة سنة، ويستكملها، والجارية سبع عشرة سنة، وتستكملها. وقال الشافعي، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد -رضوان الله عليهم-: في الغلام والجارية بخمس عشرة سنة يصير مكلفا، وتجري عليهما الأحكام الشرعية، وتجب عليهما التكاليف الإلهية. وعن علي-كرم الله وجهه-أنه كان يعتبر القامة، وقدرها، بخمسة أشبار، وبه أخذ الفرزدق في قوله يمدح يزيد بن المهلب في مرثية له:[الكامل]

ما زال مذ عقدت يداه إزاره

وسما فأدرك خمسة الأشبار

وهذا هو الشاهد رقم [634] من كتابنا فتح القريب المجيب، انظر شرحه، وإعرابه هناك؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

{ثَلاثَ مَرّاتٍ:} في اليوم والليلة، وهي الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها، وملازمة التعري. {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ:} فهذا وقت القيام من المضاجع، وطرح ثياب النوم، ولبس ثياب النهار. {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ:} وهو وقت القيلولة، والراحة، والهدوء والسكون في البيت. {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ:} وهو وقت التعري للنوم، ولقد خص الله هذه الأوقات الثلاثة بالذكر؛ لأنها ساعات الخلوات، ووضع الثياب، فربما يبدو من الإنسان ما لا يجوز أن يراه أحد من العبيد، والصبيان، فأمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات، وغير العبيد، والصبيان يستأذن في جميع الأوقات، وهو ما رأيته في الآية رقم [28] وما بعدها.

ص: 429

{ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ} أي: هي ثلاثة أوقات تكون فيها عوراتكم متعرضة للانكشاف، وسميت هذه الأوقات عورات؛ لأن الإنسان يضع فيها ثيابه. فتبدو عورته. هذا؛ و {عَوْراتٍ} جمع:

عورة، ولم تحرك عين الاسم بالفتح؛ لأنها حرف علة، ولو حركت بالفتح، لا نقلبت ألفا على القاعدة المشهورة: إذا تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفا. انظر {خُطُواتِ} في الآية رقم [21] وما ذكرته في شرحها. {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ} أي: إثم ومؤاخذة بعد هذه الأوقات في ترك الاستئذان من المماليك والصبيان والخدم.

{طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ:} يتردد هؤلاء عليكم، يدخلون، ويخرجون في أشغالكم، وقضاء حوائجكم. {بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ:} يطوف بعضكم على بعض، والمراد به كثرة الدخول، والخروج. {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ} أي: كما بين حكم الاستئذان في هذه الآية، وفي الآية رقم [28] يبين لكم غيره من الآيات التي احتجتم إلى بيانها، والتي أيضا هي دلالات واضحة على قدرته، وحكمته العالية. {وَاللهُ عَلِيمٌ:} بأمور خلقه، وبمصالحهم. {حَكِيمٌ:} فيما شرع لهم.

خاتمة: لقد اختلف في حكم هذه الآية، فقيل: إنها منسوخة، وعليه ابن عباس وسعيد بن المسيب، وعكرمة-رضي الله عنهم. وذهب قوم إلى أنها غير منسوخة قاله الشعبي، وقال سعيد بن جبير-رحمه الله تعالى-: إن ناسا يقولون: نسخت، والله ما نسخت، ولكنها مما تهاون به الناس، قيل: ثلاث آيات ترك الناس العمل بهن: هذه الآية، وقوله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ؛} والناس يقولون: أعظمكم بيتا، وقوله تعالى:{وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى} .

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [21] فالإعراب فيها واف. {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ:}

مضارع مجزوم بلام الأمر، والكاف مفعول به. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل. {مَلَكَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث. {أَيْمانُكُمْ:} فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: الذين ملكتهم أيمانكم، والجملة الفعلية:{لِيَسْتَأْذِنْكُمُ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {وَالَّذِينَ:} معطوف على ما قبله، فهو في محل رفع مثله. {لَمْ يَبْلُغُوا:} مضارع مجزوم ب: {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {الْحُلُمَ:} مفعول به. {مِنْكُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة. {ثَلاثَ:}

ظرف زمان متعلق بالفعل {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ} وقيل: هو مفعول مطلق على معنى: ثلاثة استئذانات، والأول أقوى؛ لأنه لم يرد تكرار الاستئذان، و {ثَلاثَ} مضاف، و {مَرّاتٍ} مضاف إليه، وجملة:

{لَمْ يَبْلُغُوا..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها.

{مِنْ قَبْلِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ} في محل نصب بدل من (ثلاث مرات) أو في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هي من قبل، وأجاز أبو البقاء وجها

ص: 430

ثالثا، وهو الجر بدلا من مرات، و (قبل) مضاف، و {صَلاةِ} مضاف إليه، و (صلاة) مضاف، و {الْفَجْرِ} مضاف إليه. {وَحِينَ:} ظرف زمان معطوف على {مِنْ قَبْلِ} على جميع الاعتبارات.

{تَضَعُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {ثِيابَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {مِنَ الظَّهِيرَةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل: متعلقان بمحذوف حال، و {مِنْ} بمعنى «في» أو بمعنى أجل، وجملة:{تَضَعُونَ..} . إلخ في محل جر بإضافة (حين) إليها. (من بعد): معطوفان على {مِنْ قَبْلِ،} على جميع الاعتبارات فيهما، و {بَعْدِ} مضاف، و {صَلاةِ} مضاف إليه، و {صَلاةِ} مضاف، و {الْعِشاءِ} مضاف إليه. {ثَلاثَ:} بالرفع خبر لمبتدأ محذوف، أي: هي أوقات ثلاث عورات، فحذف المبتدأ، والمضاف، والجملة الاسمية هذه مستأنفة، لا محل لها. هذا؛ ويقرأ بنصب {ثَلاثَ} على البدلية من {ثَلاثَ مَرّاتٍ} أو على تقدير:

أعني: ثلاث، وذلك على القطع. و {ثَلاثَ} مضاف، و {عَوْراتٍ} مضاف إليه. {لَكُمْ:} متعلقان بمحذوف صفة {عَوْراتٍ} .

{لَيْسَ:} ماض ناقص. {عَلَيْكُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر (ليس) تقدم على اسمها.

{وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): زائدة لتأكيد النفي. {عَلَيْهِمْ:} معطوفان على ما قبلهما.

{جُناحٌ:} اسم ليس مؤخر. {بَعْدَهُنَّ:} ظرف زمان متعلق بجناح، أو بمحذوف صفة له، والهاء في محل جر بالإضافة، والنون حرف دال على جماعة الإناث، وجملة:{لَيْسَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وقيل: صفة {عَوْراتٍ،} وليس بشيء. {طَوّافُونَ:} خبر لمبتدأ محذوف، أي: هم طوافون مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ. {عَلَيْكُمْ:} متعلقان به، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، أو هي تعليل لنفي الجناح. {بَعْضُكُمْ:} مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة. {عَلى بَعْضٍ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، التقدير: يطوف على بعض، أو طائف على بعض، والجملة الاسمية هذه بدل مما قبلها، أو هي مؤكدة مبينة، بمعنى: أنها أفادت ما أفادته الجملة التي قبلها، فكانت بدلا، أو مؤكدة. هذا؛ وأجيز اعتبار {بَعْضُكُمْ} بدلا من {طَوّافُونَ،} قاله ابن عطية، كما أجيز اعتباره فاعلا لفعل مقدر، أي: يطوف بعضكم، حذف الفعل لدلالة {طَوّافُونَ} عليه، قاله الزمخشري، وعليه البيضاوي.

{كَذلِكَ:} متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف يقع مفعولا مطلقا عامله ما بعده، التقدير: يبين الله لكم الآيات تبيينا كائنا مثل تبيين آيات الاستئذان المتقدم ذكرها، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {يُبَيِّنُ:} مضارع. {اللهُ:} فاعله. {لَكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الْآياتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والجملة الفعلية:{كَذلِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} مستأنفة أيضا، لا محل لها. تأمل.

ص: 431

{وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اِسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)}

الشرح: معنى هذه الآية: أن الأطفال أمروا بالاستئذان في الأوقات الثلاثة المذكورة في الآية السابقة، وأبيح لهم الأمر في غير ذلك كما ذكرنا، ثم أمر الله تعالى في هذه الآية أن يكونوا إذا بلغوا الحلم على حكم الرجال في الاستئذان في كل وقت، وهذا بيان من الله عز وجل لأحكامه، وإيضاح حلاله وحرامه. وقال هنا:{فَلْيَسْتَأْذِنُوا} ولم يقل: فليستأذنوكم، وقال في الأولى: ليستأذنكم؛ لأن الأطفال غير مخاطبين، ولا متعبدين، وإنما المخاطب أولياؤهم.

هذا؛ وبينت في الآية رقم [28] أن الاستئذان واجب حتى إن الرجل يستأذن على أمه كلما دخل عليها، وكرر سبحانه هنا قوله:{كَذلِكَ..} . إلخ للمبالغة، والتأكيد في الأمر بالاستئذان. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف. (إذا): انظر الآية رقم [39]. {بَلَغَ الْأَطْفالُ:}

ماض، وفاعله. {مِنْكُمُ:} متعلقان بمحذوف حال من {الْأَطْفالُ} . {الْحُلُمَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة إذا إليها على القول المشهور المرجوح. {فَلْيَسْتَأْذِنُوا:}

الفاء: واقعة في جواب (إذا). (ليستأذنوا): مضارع مجزوم بلام الأمر، وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب (إذا)، لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {كَمَا:} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما):

مصدرية. {اِسْتَأْذَنَ:} ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل.

{مِنْ قَبْلِهِمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، التقدير: الذين كانوا، أو وجدوا من قبلهم، والهاء في محل جر بالإضافة، و (ما) المصدرية، والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالكاف. والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف يقع مفعولا مطلقا للفعل قبله، التقدير: فليستأذنوا استئذانا كائنا مثل استئذان الذين من قبلهم، وانظر مذهب سيبويه -رحمه الله تعالى-في الآية رقم [55] وذلك بقوله تعالى:{كَمَا اسْتَخْلَفَ..} . إلخ هذا؛ وانظر إعراب: {كَذلِكَ..} . إلخ في الآية السابقة، فهو مثلها بلا فارق.

{وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)}

الشرح: {وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ:} (القواعد): جمع: قاعد بلا هاء؛ ليدل حذفها على أنه قعود الكبر، كما قالوا: امرأة حامل، ليدل بحذف الهاء على أنه حمل حبل، وقالوا في غير

ص: 432

ذلك: قاعدة في بيتها، وحاملة على ظهرها. وقال مكي: على النسب، أي ذات قعود. وقيل:

حذفت الهاء للفرق بينه وبين القاعدة؛ أي الجالسة. انتهى. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [2] من سورة (الحج) تجد ما يسرك، و {النِّساءِ} اسم جمع لا واحد له من لفظه؛ لأن مفرده: امرأة، وجمعها في القلة: نسوة، وفي الكثرة: نساء، وتجمع أيضا على: نسوان، ونسون، ونسنين، وهذه الجموع كلها مأخوذة من النسيان الذي رأيته في الآية رقم [24] من سورة (الكهف) فهي مطبوعة عليه؛ إما إهمالا، وإما كذبا. ويقال لكل واحد من هذه الجموع: اسم جمع، لا واحد له من لفظه. هذا؛ والمرأة مأخوذة من المرء، وهو الرجل؛ فلذا سميت بذلك، والأم الأولى حواء سميت بذلك؛ لأنها مأخوذ من: حي، وهو آدم عليهما السلام.

هذا؛ والقواعد من النساء: اللاتي قعدن عن الولد، والمحيض. وقال ربيعة: هي التي إذا رأيتها تستقذرها من كبرها. أقول: والمراد من تجاوزت الستين من عمرها، فإنها لا يميل إليها، ولا يشتهيها إلا من كان في سنها، أو أسنّ منها. {اللاّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً} أي: لا يردن الأزواج لكبرهن، فأما من كانت فيها بقية جمال، وهي محل الشهوة؛ فلا تدخل في حكم هذه الآية، والمراد: لا يرغبن في الزواج.

{فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ:} إثم، ومؤاخذة. {أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ} أي: الظاهرة كالملحفة والجلباب الذي فوق الخمار. وأقول: ولا حرج عليها في كشف دائرة وجهها إذا كانت قد سترت جميع جسدها، وكانت في السن التي ذكرتها، وغير متبرجة، ولكن مما يؤسف له، بل ويحز في القلب أن نرى في هذه الأيام بنت الستين، والسبعين متحجبة، متسترة، محتشمة، وبناتها، وكناتها، وقريباتها يمشين معها، وهنّ هالعات، خالعات من الحياء، خاليات، ومن الدين مارقات، ولا حول، ولا قوة إلا بالله!.

{غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ} أي: غير مظهرات من زينتهن، ومحاسنهن ما يجب عليهن ستره، وذلك ليستهوين الرجال، فإن ذلك من أقبح الأشياء، وأبعده عن الحق، والتبرج: التكشف، والظهور للعيون، ومنه بروج مشيدة، وبروج السموات والأسوار، أي: لا حائل دونها يسترها، ثم قيل: من التبرج أن تلبس المرأة ثوبين رقيقين يصفان حجم أعضائها، فعن أبي هريرة-رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صنفان من أهل النار، لم أر هما: قوم معهم سياط كأذناب البقر، يضربون بها النّاس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات رؤوسهنّ كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة كذا، وكذا» . أخرجه مسلم، وغيره، وفي حديث آخر عن ابن عمر-رضي الله عنهما:«العنوهنّ فإنّهنّ ملعونات» .

وعن أبي موسى الأشعريّ، رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«أيّما امرأة استعطرت فمرّت على قوم؛ ليجدوا ريحها، فهي زانية، وكلّ عين زانية» . رواه النسائي، وابن خزيمة، وابن حبّان في صحيحهما، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [30 و 31].

ص: 433

هذا؛ وقد قيل: إن المعنى: كاسيات من الثياب، عاريات من لباس التقوى؛ الذي قال الله تعالى فيه في الآية رقم [26] من سورة (الأعراف):{وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ} وأنشدوا: [الطويل]

إذا المرء لم يلبس ثيابا من التّقى

تقلّب عريانا، وإن كان كاسيا

وخير لباس المرء طاعة ربّه

ولا خير فيمن كان لله عاصيا

وفي هذا الكلام إستعارة لا تخفى: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} أي: يطلبن العفة، والمحافظة على الشرف، ولا يلقين شيئا من الثياب، ويسترن وجوههنّ، وجميع أجسادهن؛ لأنه أبعد من التهمة. {وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ:} بنياتهن، وأقوالهن.

الإعراب: {وَالْقَواعِدُ:} الواو: حرف استئناف. (القواعد): مبتدأ. {مِنَ النِّساءِ:} متعلقان بمحذوف حال من القواعد على اعتبار أل للتعريف، أو بمحذوف صفة له، على اعتبارها للجنس، وهو أولى؛ لأن كثيرين لا يجيزون مجيء الحال من المبتدأ. {اللاّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة (القواعد) لا ل: {النِّساءِ} . {لا:} نافية. {يَرْجُونَ:}

مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة التي هي فاعله. {نِكاحاً:} مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {فَلَيْسَ:} الفاء: زائدة للتوكيد. (ليس): ماض ناقص.

{عَلَيْهِنَّ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {جُناحٌ:}

اسم ليس مؤخر، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، ودخلت الفاء على الخبر؛ لأن المبتدأ موصوف بموصول، لو كان ذلك الموصول مبتدأ؛ لجاز دخولها في خبره؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، ولا يجوز أن يكون {اللاّتِي} صفة ل:{النِّساءِ؛} إذ لا يبقى مسوغ لدخول الفاء في خبر المبتدأ، وقال أبو البقاء: ودخلت الفاء لما في المبتدأ من معنى الشرط؛ لأن الألف، واللام بمعنى: اللاتي قعدن، وهذا مذهب الأخفش. انتهى.

{أَنْ:} حرف مصدري، ونصب، واستقبال. {يَضَعْنَ:} مضارع مبني على السكون، وهو في محل نصب ب:{أَنْ،} والنون فاعله. {ثِيابَهُنَّ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {غَيْرَ:} حال من نون النسوة، أو من الضمير المجرور محلا بالإضافة، و {غَيْرَ} مضاف، و {مُتَبَرِّجاتٍ:} مضاف إليه. {بِزِينَةٍ:} متعلقان بما قبلهما، و {أَنْ يَضَعْنَ} في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: في وضعهن ثيابهن، والجار والمجرور متعلقان ب:{جُناحٌ،} أو بمحذوف صفة له، والجملة الاسمية:{وَالْقَواعِدُ..} .

إلخ مستأنفة لا محل لها، والمصدر المؤول من:(أن يستعففن) في محل رفع مبتدأ، و {خَيْرٌ:}

خبره التقدير: والاستعفاف خير لهن من الوضع. {لَهُنَّ:} متعلقان بخير، والجملة الاسمية:

{وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، والله أعلم، وأجل، وأكرم.

ص: 434

{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)}

الشرح: اختلف العلماء في هذه الآية، فقال عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما: لما أنزل الله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ} تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى، والزمنى، والعمي، والعرج، وقالوا: الطعام أفضل الأموال، وقد نهانا الله عز وجل عن أكل الأموال بالباطل، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب، والأعرج لا يتمكن من الجلوس، ولا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض يضعف عن التناول، فلا يستوفي من الطعام حقه.

فأنزل الله عز وجل هذه الآية، فعلى هذا التأويل تكون {عَلَى} بمعنى «في» أي: ليس في الأعمى.

والمعنى: ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى، والمريض، والأعرج حرج؛ أي: إثم ومؤاخذة.

وقيل: كان العميان، والعرجان، والمرضى يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء؛ لأن الناس يقذرونهم، ويكرهون مؤاكلتهم، وكان الأعمى يقول: ربما آكل أكثر من ذلك، ويقول الأعرج والمريض: ربما أجلس مكان اثنين. فنزلت هذه الآية.

وقيل: نزلت ترخيصا لهؤلاء في الأكل من بيوت من سماهم الله في باقي الآية، وذلك: أن هؤلاء كانوا يدخلون على الرجل في طلب الطعام، فإذا لم يكن عنده شيء ذهب بهم إلى بيت أخيه، أو بيت أمه، أو بعض من سمى الله تعالى، فكان أهل الزمانة يتحرجون من ذلك، ويقولون: ذهب بنا إلى غير بيته. فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقيل: كان المسلمون إذا غزوا؛ دفعوا مفاتيح بيوتهم إلى الزمنى، ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكانوا يتحرجون من ذلك، ويقولون: لا ندخلها، وأصحابها غيّب، فأنزل الله هذه الآية رخصة لهم. وقيل: نزلت رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد.

فعلى هذا تم الكلام عند قوله: {وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} وقوله تعالى: {وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ..} . إلخ كلام مستأنف. انتهى. خازن. وهذا الأخير نفاه البيضاوي، حيث قال: وهو لا يلائم ما قبله، وما بعده.

ص: 435

هذا؛ وقيل: لما نزلت: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ} قالوا: لا يحل لأحد منا أن يأكل من أحد، فأنزل الله تعالى:{وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ} والمعنى: ولا عليكم أيها الناس حرج، ولكن لما اجتمع المخاطب وغير المخاطب غلّب المخاطب لينتظم الكلام. وذكر بيوت القرابات، وسقط منها بيوت الأبناء، فقال المفسرون: ذلك؛ لأنها داخلة في قوله في بيوتكم؛ لأن بيت ابن الرجل بيته، لما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي شكا إليه أباه، وأنه يأخذ ماله:«أنت ومالك لأبيك» . وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أطيب ما يأكل المرء من كسبه، وإنّ ولده من كسبه» .

هذا؛ وقال العلماء: الأكل من بيوت المذكورين إذا أذنوا في ذلك، وقال آخرون: أذنوا له، أو لم يأذنوا فله أن يأكل؛ لأن القرابة التي بينهم هي إذن منهم، والمعتمد: أن الإذن شرط في حل الأكل في هذه الأيام؛ لأن بعض النفوس لا تسمح حتى للإخوة، والأخوات، وذلك ملموس عند كثير من الأشحاء.

{أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: عنى بذلك: وكيل الرجل، وقيّمه في ضيعته، وماشيته، لا بأس عليه أن يأكل من ثمرة ضيعته، ويشرب من لبن ماشيته، ولا يحمل، ولا يدخر. وقيل: يعني: بيوت عبيدكم، ومماليككم، وذلك: أن السيد يملك منزل عبده. هذا؛ ويقرأ «(مفتاحه)» وقرأ سعيد بن جبير-رحمه الله تعالى-: «(مفاتيحه)» وعلى قراءة «(مفاتح)» يكون قد حذف منه عند الجمع الألف التي تقلب ياء في صيغة منتهى الجموع، كما تقول في مصباح: مصابح، وفي محراب: محارب، والمفتاح: آلة الفتح، كالمفتح. وقيل: مفاتح جمع: مفتح أو مفتح، ومفاتيح جمع: مفتاح.

{أَوْ صَدِيقِكُمْ:} يعني: أو بيوت صديقكم، كان الرجل من السلف يدخل دار صديقه، وهو غائب، فيسأل جاريته كيسه، فيأخذ ما شاء، فإذا حضر مولاها، فأخبرته، أعتقها سرورا بذلك، فأما الآن؛ فقد غلب الشح على النفوس، فلا يأكل الإنسان إلا بإذن. هذا؛ والصديق هو من يصدقك في مودته، وتصدقه في مودتك، وهو يطلق على المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث؛ لأنه على وزن فعيل، وفعيل يطلق على ما ذكر، قال تعالى:{وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ} . و (عدو) على وزن فعيل يطلق على ما ذكر، كما رأيت في الآية رقم [39] من سورة (طه). وقال جرير، وقد أطلق صديقا على جماعة الإناث:[الطويل]

دعون الهوى ثمّ ارتمين قلوبنا

بأسهم أعداء وهنّ صديق

وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: الصداقة أو كد من القرابة ألا ترى: أن الجهنميين لما استغاثوا، لم يستغيثوا بالآباء والأمهات، فقالوا:{فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} الآيتان رقم [100 و 101] من سورة (الشعراء)، وانظر ما ذكرته في الخل والخليل في الآية رقم [31] من سورة (إبراهيم) على حبيبنا، وشفيعنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

ص: 436

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ:} إثم، ومؤاخذة. {أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً} أي: متفرقين، جمع: شت، والشت: المصدر بمعنى التفرق، قيل: إنها نزلت في بني ليث بن بكر، وهم حيّ من بني كنانة، كان الرجل منهم، لا يأكل وحده حتى يجد ضيفا يأكل معه، فربما قعد الرجل من الصباح إلى المساء، وربما كانت معه الإبل الحفّل، فلا يشرب من ألبانها حتى يأتي من يشاربه، فإذا أمسى؛ ولم يجد أحدا؛ أكل. وقال القرطبي: وقد يمكث أياما جائعا حتى يجد من يؤاكله، وهي مبالغة غير مقبولة منه، وهذا خلق ورثه أولئك القوم من (إبراهيم) عليه السلام، فقد كان لا يأكل وحده؛ حتى يجد من يأكل معه، وهذا مشهور عنه. وقد قال قيس بن عاصم المنقري الصحابي-رضي الله عنه-وينسب لحاتم الطائي يخاطب زوجته:[الطويل]

إذا ما صنعت الزّاد فالتمسي له

أكيلا فإنّي لست آكله وحدي

وانظر الشاهد [398] من كتابنا فتح القريب المجيب تجد ما يسرك. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته، وصداقته، فيدعوه إلى طعامه، فيقول:

والله إني لأجنح-أي: أتحرج-أن آكل معك؛ وأنا غني، وأنت فقير. فنزلت هذه الآية، وقيل:

نزلت في قوم من الأنصار، كانوا لا يأكلون؛ إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم، فرخص الله لهم أن يأكلوا كيف شاؤوا جميعا، أو متفرقين. انتهى. خازن، وقرطبي بتصرف. وهذا يفيد: أن الآية الكريمة نزلت في أسباب متعددة، كما يحتمل أن يكون نزولها جملة واحدة، وأن يكون متفرقا.

{فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ} أي: ليسلم بعضكم على بعض، هذا في دخول الرجل بيت نفسه، يسلم على أهله، ومن في بيته. قال قتادة-رضي الله عنه: إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك، فهم أحق من سلمت عليه، وإذا دخلت بيتا ليس فيه أحد، فقل: السّلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين، السّلام على أهل البيت، ورحمة الله وبركاته. حدّثنا أن الملائكة ترد عليه. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: إذا لم يكن في البيت أحد: فليقل: السّلام علينا من ربنا، السّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السّلام على أهل البيت، ورحمة الله وبركاته. وعن زيد بن أسلم-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا دخلتم بيوتا؛ فسلّموا على أهلها، واذكروا اسم الله، فإنّ أحدكم إذا سلّم حين يدخل بيته، وذكر اسم الله على طعامه، يقول الشيطان لأصحابه: لا مبيت لكم هاهنا، ولا عشاء. وإذا لم يسلّم أحدكم؛ إذا دخل، ولم يذكر اسم الله على طعامه؛ قال الشيطان لأصحابه، أدركتم المبيت، والعشاء» .

{تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ} أي: ثابتة بأمره، مشروعة من لدنه. {مُبارَكَةً:} لأنها ترجى بها زيادة الخير، وتكثير الحسنات، ورفع الدرجات في الجنة. {طَيِّبَةً:} تطيب بها نفس المستمع، فعن أنس بن مالك-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «متى لقيت أحدا من أمّتي؛ فسلّم عليه؛ يطل عمرك، وإذا دخلت بيتك فسلّم عليهم، يكثر خير بيتك، وصلّ صلاة الضّحى، فإنّها

ص: 437

صلاة الأبرار الأوّابين». لذا وصف الله التحية ب: {طَيِّبَةً} وب: {مُبارَكَةً؛} لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها ما ذكرت.

{كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ:} كرر الله هذه الجملة ثالثة لمزيد التأكيد، وتفخيم أمر الأحكام المختتمة بها، وفصل الأوليين بما هو المقتضي لذلك، وختم هذه بما هو المقصود منه، فقال:{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: تفهمون، فتتدبرون الحق، والخير في الأمور، فتتبعونه، وتهتدون بهديه، وانظر شرح (العقل) في الآية رقم [10] من سورة (الأنبياء)، وشرح (النفس) في الآية رقم [35] منها.

الإعراب: {لَيْسَ:} ماض ناقص. {عَلَى الْأَعْمى:} متعلقان بمحذوف خبر {لَيْسَ} تقدم على اسمها، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {حَرَجٌ:} اسم {لَيْسَ} مؤخر، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {عَلَى الْأَعْرَجِ:}

متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {حَرَجٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. هذا؛ وجه للإعراب، والوجه الثاني: أن تعطف الجار، والمجرور على مثلهما. و {حَرَجٌ} على مثله، والعامل في الأولين، والمعطوفين عليهما عامل واحد، وهو {لَيْسَ،} وتكون (لا) زائدة لتأكيد النفي، ومثل الآية الكريمة قول الأعور الشني:[المتقارب]

هوّن عليك فإنّ الأمو

ربكفّ الإله مقاديرها

فليس بآتيك منهيّها

ولا قاصر عنك مأمورها

وهذان البيتان هما الشاهد رقم [257] من كتابنا فتح القريب المجيب. {وَلا:} الواو:

حرف عطف (لا): زائدة لتأكيد النفي. {عَلى أَنْفُسِكُمْ:} معطوفان على ما تقدم، والكاف في محل جر بالإضافة فيه، وفيما يلي، والميم حرف دال على جماعة الذكور، و «حرج» المعطوف على مثله محذوف، لدلالة ما قبله عليه، وهذا إن كان الكلام مرتبطا ببعضه، وإن كان غير مرتبط بما قبله، فالجملة الاسمية مستأنفة، وهو ما أفاده القرطبي، والخازن، وغيرهما من المفسرين، ويكون الوقف على قوله تعالى:{وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} تاما، والمصدر المؤول من:{أَنْ تَأْكُلُوا} في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: في الأكل، فالجار والمجرور متعلقان ب:«حرج» المحذوف المقدر، أو في محل جر صفة له، وهذا لا يرتضيه سيبويه؛ لأنه لا يجيز حذف الموصوف وبقاء صفته إلا في مواضع معينة معروفة، انظرها في مغني اللبيب باب الحذف، والتقدير، وقيل: المصدر المؤول مبتدأ مؤخر، والجار والمجرور {عَلى أَنْفُسِكُمْ} متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وهذا لا يؤيده معنى، ولا يصح إعرابا. {مِنْ بُيُوتِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وما بعدهما معطوف عليهما، ولا تنس: الإضافة.

ص: 438

{ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر معطوفة على بيوتكم.

{مَلَكْتُمْ:} فعل، وفاعل. {مَفاتِحَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة {ما،} أو صفتها. {صَدِيقِكُمْ:} معطوف على {آبائِكُمْ} . هذا؛ وإعراب: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا} لا يخفى عليك بعد ما تقدم إن شاء الله تعالى، وهذه الجملة بدل من الجملة السابقة على اتصال الكلام ببعضه، ومستأنفة، لا محل لها بالإعراض عن الكلام السابق. {جَمِيعاً:} حال من واو الجماعة. {أَشْتاتاً:}

معطوف عليه.

{فَإِذا:} الفاء: حرف استئناف. (إذا): انظر الآية رقم [39]. {دَخَلْتُمْ:} فعل، وفاعل.

{بُيُوتاً:} انظر ما ذكرته في الآية رقم [27] في مثله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها. {فَسَلِّمُوا:} الفاء: واقعة في جواب (إذا). (سلموا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {عَلى أَنْفُسِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {تَحِيَّةً:} مفعول مطلق، عامله محذوف، التقدير: فحيوا تحية. وقيل: عامله:

سلموا من غير لفظه؛ لأنه بمعنى تسليما، على حد قعدت جلوسا، وجملة:{فَسَلِّمُوا..} . إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {مِنْ عِنْدِ:} متعلقان ب {تَحِيَّةً:} أو بمحذوف صفة لها. {مُبارَكَةً:} صفة (تحية). {طَيِّبَةً:} صفة ثانية، أو حال منها بعد وصفها بما تقدم. {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ:} انظر الآية رقم [58] ففيها الكفاية، وجملة:{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} تعليل لتبيين ما ذكر من الأحكام السابقة.

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اِسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاِسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)}

الشرح: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} أي: الكاملون في الإيمان. {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ:} إيمانا خالصا من صميم قلوبهم. {وَإِذا كانُوا مَعَهُ} أي: مع الرسول صلى الله عليه وسلم. {عَلى أَمْرٍ جامِعٍ:} كالجمعة، والعيدين، والحروب، والمشاورة في الأمور المهمة في الدين، أو الدنيا. ووصف الأمر بالجامع للمبالغة، وفيه إسناد مجازي؛ لأن الأمر لما كان سببا في جمعهم، نسب الجمع إليه مجازا. {لَمْ يَذْهَبُوا} أي: لم يتفرقوا عنه. {حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ} أي: يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأذن

ص: 439

لهم. واعتباره في كمال الإيمان؛ لأنه كالمصداق لصحته، والمميز للمخلص فيه من المنافق الذي ديدنه التسلل، والفرار، ولتعظيم الجرم في الذهاب عن مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم بغير إذنه ولذلك أعاده مؤكدا على أسلوب أبلغ، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ} فإنه يفيد: أن المستأذن مؤمن لا محالة، وأن الذاهب بغير إذن ليس كذلك، وإنما ضيق عليهم في ذلك؛ لأنه لا بد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمور المهمة من ذوي رأي، وقوة يظاهرونه عليها، ويعاونونه، ويستضيء بآرائهم، ومعارفهم، وتجاربهم، فمفارقة أحدهم في مثل تلك الحال مما يشق عليه، ويشعث عليه رأيه، فمن ثمّة ضيق عليهم الأمر في الاستئذان.

{فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ:} ما يعرض لهم من المهام. {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} أي:

في الذهاب، والانصراف، والمعنى: إن شئت؛ فأذن، وإن شئت؛ فلا تأذن. ففيه تفويض الأمر إلى رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستدل به على أن بعض الأحكام مفوضة إلى رأيه. {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ:} بعد الإذن، فإن الاستئذان ولو لعذر قصور؛ لأنه تقديم لأمر الدنيا على الدين. {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ:} لذنوب عباده. {رَحِيمٌ:} حيث يسّر عليهم، ورخّص لهم في الضرورة في أمور كثيرة، كما هي معروفة في الشريعة.

تنبيه: روي: أن هذه الآية نزلت في حفر الخندق حين جاءت قريش بجيوشها؛ وقائدها أبو سفيان، وغطفان؛ وقائدها عيينة بن حصن الفزاري، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم الخندق حول المدينة باستشارة سلمان الفارسي-رضي الله عنه-وذلك في شوال سنة خمس من الهجرة، فكان المنافقون يتسللون لو اذا من العمل، يعتذرون الأعذار الكاذبة.

وقال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة، وأراد رجل أن يخرج من المسجد لحاجة، أو عذر، لم يخرج حتى يقوم بحيال رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحيث يراه، فيعرف أنه إنما قام ليستأذن، فيأذن لمن شاء منهم، وهذا كان بعد انتهاء غزوة الخندق.

قال مجاهد: وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيديه، قاله أهل العلم، وكذلك كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام، لا يخالفونه، ولا يرجعون عنه إلا بإذن، وإذا استأذن الإمام؛ إن شاء؛ أذن له، وإن شاء؛ لم يأذن، وهذا إذا لم يكن حدث يمنعه من المقام بأن يكونوا في المسجد، فتحيض امرأة منهم، أو يجنب رجل، أو يعرض له مرض، فلا يحتاج إلى الاستئذان. انتهى. خازن.

الإعراب: {إِنَّمَا:} كافة ومكفوفة مفيدة للحصر. {الْمُؤْمِنُونَ:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.

{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبر المبتدأ، وجملة:{آمَنُوا بِاللهِ} صلة

ص: 440

الموصول لا محل له. {وَرَسُولِهِ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{إِنَّمَا..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. {وَإِذا:} الواو: حرف عطف.

(إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {كانُوا:} ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {مَعَهُ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر (كان)، والهاء في محل جر بالإضافة. {عَلى أَمْرٍ:} متعلقان بالخبر المحذوف، وقيل: متعلقان بمحذوف حال. {جامِعٍ:} صفة أمر، وجملة:

{كانُوا..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح. {لَمْ يَذْهَبُوا:} مضارع مجزوم ب: {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب (إذا)، لا محل لها. {حَتّى:} حرف غاية وجر. {يَسْتَأْذِنُوهُ:}

مضارع منصوب ب: «أن» المضمرة بعد {حَتّى،} وعلامة نصبه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والهاء مفعوله، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (إذا) ومدخولها كلام معطوف على جملة الصلة، لا محل له مثلها.

{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسمها. {يَسْتَأْذِنُونَكَ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبر المبتدأ، وجملة:{يُؤْمِنُونَ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الاسمية:

{أُولئِكَ..} . إلخ في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ هي توكيد للجملة السابقة، وتعظيم، وتفخيم لهذا الأمر المذكور. {فَإِذَا:} الفاء: حرف استئناف. (إذا):

مثل سابقتها. {اِسْتَأْذَنُوكَ:} ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها

إلخ. {لِبَعْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (بعض) مضاف، و {شَأْنِهِمْ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة. {فَأْذَنْ:} الفاء: واقعة في جواب (إذا). (ائذن): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لِمَنْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر باللام. {شِئْتَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية صلة (من) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: للذي، أو: لشخص شئته. {مِنْهُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من المفعول المحذوف، و (من) بيان لما أبهم في (من)، وجملة {فَأْذَنْ..} . إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، وجملة:{وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ} معطوفة على جواب (إذا)، لا محل لها مثلها، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تعليل للأمر، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.

ص: 441

{لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63)}

الشرح: {لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} أي: لا تنادوا الرسول صلى الله عليه وسلم من بعيد بقولكم: يا أبا القاسم، ونحوه، بل عظموه، كما قال تعالى في سورة (الحجرات):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ..} . إلخ الآيات من أولها. وقال سعيد بن جبير، ومجاهد -رحمهما الله تعالى-: المعنى: قولوا: يا رسول الله! في رفق، ولين، ولا تقولوا: يا محمد! بتجهم. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: المعنى: احذروا دعاء الرسول إذا أسخطتموه، فإن دعاءه موجب ليس كدعاء غيره، أي: موجب للانتقام. وقيل: المعنى: لا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا في جواز الإعراض، والمساهلة في الإجابة، والرجوع بغير إذن، فإن المبادرة إلى إجابته واجبة، والمراجعة بغير إذنه محرمة، وإجابته صلى الله عليه وسلم واجبة، ولو كان المسلم في الصلاة، كما صحت بذلك الأحاديث.

{قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً:} التسلل، والانسلال: الخروج قليلا قليلا في استخفاء، واللواذ: من الملاوذة، وهي أن تستتر بشيء مخافة من يراك، فقد كان المنافقون يتسللون، ويخرجون من المسجد يوم الجمعة؛ لأنه لم يكن أثقل عليهم منه، وحضور الخطبة، وسماعها فيه. وقال الحسن:{لِواذاً} فرارا من الجهاد، وثبت هذا عنهم في حفر الخندق حول المدينة، ومنه قول حسان بن ثابت-رضي الله عنه:[الخفيف]

وقريش تلوذ منّا لواذا

لم يقيموا وخفّ منها الحلوم

ولم تقلب الواو في لواذا ألفا لتحركها في لاوذ، يقال: لاوذ، يلاوذ ملاوذة، ولواذا. ولاذ يلوذ لوذا، ولياذا، انقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها اتباعا ل: لاذ في الاعتلال. هذا؛ وقد قال السيوطي في همع الهوامع في باب الإبدال ما يلي: تبدل الياء بعد كسرة من واو، هي عين مصدر لفعل معل العين، موزون بفعال، نحو قام قياما، وعاد عيادا، بخلاف عين غير المصدر كصوان، وسواك، والمصدر المفتوح أوله، كرواح، أو المضموم كقوار، أو المكسور الذي لم يعل عين فعله، ك: لاوذ لواذا، وعاود عوادا، أو الموزون بفعل كالحول. وتبدل أيضا بعد كسرة من واو هي عين جمع لواحد ساكن العين، أو معتلها، صحيح اللام، موزون بفعال، كثوب وثياب، وحوض وحياض، ودار وديار، وريح ورياح بخلاف عين المفرد. انتهى. هذا؛ وفي قوله تعالى:{قَدْ يَعْلَمُ اللهُ} تهديد، ووعيد.

ص: 442

{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي: يعرضون عن أمره، وهم المنافقون، يقال: خالفه إلى الأمر؛ إذ ذهب إليه دونه، ومنه ما حكى الله تعالى من قول شعيب عليه السلام لقومه:{وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ} وخالفه عن الأمر: إذا صد عنه دونه، والضمير في {أَمْرِهِ} لله سبحانه، أو للرسول صلى الله عليه وسلم، والمعنى: يخالفون عن طاعته، ودينه. هذا؛ وقال أبو عبيدة، والأخفش:{عَنْ} في هذا الموضع زائدة. وقال الخليل، وسيبويه: ليست بزائدة، وإنما هي بمعنى: بعد أمره، ومنه قوله تعالى في الآية رقم [51] من سورة (الكهف):{فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} . هذا؛ وقال ابن هشام في المغني: «يخالفون» متعد، وقد جاء لازما هنا؛ لأنه بمعنى:

يخرجون عن أمره، وأورد بيت ذي الرمة، وهو الشاهد رقم [920] من كتابنا فتح القريب المجيب:[الطويل]

وإن تعتذر بالمحل من ذي ضروعها

إلى الضّيف يجرح في عراقيبها نصلي

فإنه قال: ضمن «يجرح» معنى: «يفسد» . ولذا جاء لازما.

{أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ:} بلاء في الدنيا، أو قتل، أو زلازل، وأهوال، أو تسليط سلطان جائر، أو قسوة القلب عن معرفة الله تعالى ومعرفة حقوقه، وهو أعظم ما يصاب به العبد: فعند ذلك لا تؤثر فيه المواعظ، ولا يقبل النصائح، انظر الآية رقم [58] من سورة (الكهف)، أو إسباغ النعم استدراجا. {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} أي: وجيع في الآخرة.

هذا؛ و {تُصِيبَهُمْ} ماضيه: أصاب، وهو يحتمل معاني كثيرة، تقول: أصاب السهم، يصيب إذا لم يخطئ هدفه، وأصاب الرجل في قوله، أو في رأية أتى بالصواب، وأصاب فلانا البلاء، يصيبه وقع عليه، وهو المراد هنا وفي أكثر الآيات القرآنية. هذا؛ وأصاب يأتي بمعنى أراد، وقصد، ومنه قوله تعالى في سورة (ص) رقم [36]:{فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ} قاله مجاهد. والعرب تقول: أصاب الصواب، وأخطأ الجواب. قاله ابن الأعرابي، وقال الشاعر:[المتقارب]

أصاب الكلام فلم يستطع

فأخطا الجواب لدى المفصل

أي: أراد الكلام.

وأصل يصيب: يؤصوب، أو يؤصيب، فقل في إعلاله: حذفت الهمزة للتخفيف، حملا على المبدوء بهمزة المضارعة، مثل: أؤصيب الذي حذفت همزته الثانية للتخلص من ثقل الهمزتين، فصار:(يصوب، أو يصيب)، ثم يقال: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو، أو الياء، وهي الكسرة إلى الصاد قبلها، بعد سلب سكونها، فصار:(يصيب أو يصوب)، ثم قلبت الواو في

ص: 443

الثاني ياء لا نكسار ما قبلها. هذا؛ وإذا دخل الجازم على المضارع، فيصير: لم تصيب. فيحذف حرف العلة لالتقاء الساكنين، فيصير لم يصب، وهذا الإعلال يجري في كل فعل ثلاثي مزيدة الهمزة في أوله للتعدية، مثل: أجاب، يجيب، وأكرم، يكرم، ونحو ذلك، كما حذفت الهمزة الثانية من «يؤمنون» لأن ماضيه: آمن. وأصله أأمن، والمضارع يؤأمن، أؤمن، فتحذف من الأول، وتسهل في الثاني، وقد يجيء على القياس، وهو الأصل المهجور، كما في قول أبي حيان الفقعسي:[الرجز]

فإنّه أهل لأن يؤكرما

ولا تنس: أن الهمزة المزيدة هذه تحذف من اسمي الفاعل والمفعول المأخوذين من الفعل الثلاثي المزيدة فيه الهمزة، وذلك مثل: مكرم، ومكرم، ومصيبة، ومصاب. وقس على ذلك.

تنبه لهذا، واحفظه، فإنه جيد.

الإعراب: {لا تَجْعَلُوا:} مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {دُعاءَ:} مفعول به أول، وهو مضاف، و {الرَّسُولِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، أو من إضافة المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا. {بَيْنَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بالمصدر قبله، وقيل: متعلق بمحذوف حال، ولا وجه له، والكاف في محل جر بالإضافة. {كَدُعاءِ:} الكاف: اسم بمعنى «مثل» مبني على الفتح في محل نصب مفعول به ثان للفعل السابق، والكاف مضاف، و (دعاء):

مضاف إليه، و (دعاء): مضاف، و {بَعْضِكُمْ:} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله، والكاف في محل جر بالإضافة. {بَعْضاً:} مفعول به للمصدر، وجملة:{لا تَجْعَلُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{قَدْ:} حرف تحقيق هنا. {يَعْلَمُ:} مضارع. {اللهُ:} فاعله. {الَّذِينَ:} مفعول به وجملة: {يَتَسَلَّلُونَ} صلة الموصول لا محل لها. {مِنْكُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، و (من) بيان لما أبهم في الموصول. {لِواذاً:} حال بمعنى: ملاوذين، وقيل: هو مفعول مطلق عامله {يَتَسَلَّلُونَ} من غير لفظه، وجملة:{قَدْ يَعْلَمُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَلْيَحْذَرِ:} الفاء: حرف عطف، على قول من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر. (ليحذر):

مضارع مجزوم بلام الأمر. {الَّذِينَ:} فاعله، وجملة:{يُخالِفُونَ:} صلة الموصول، {عَنْ أَمْرِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وقال أبو عبيدة والأخفش:{عَنْ} زائدة، و {أَمْرِهِ} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والمصدر المؤول من:{أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} في محل نصب مفعول به للفعل (يحذر).

ص: 444

{يُصِيبَهُمْ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل نصب مفعول به. {عَذابٌ:} فاعله.

{أَلِيمٌ:} صفة له، وجملة:{فَلْيَحْذَرِ..} . إلخ لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء، وعلى اعتبار الفاء الفصيحة؛ فالتقدير: وإذا كان ذلك حاصلا منهم فليحذر

إلخ.

{أَلا إِنَّ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)}

الشرح: {أَلا إِنَّ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:} خلقا، وملكا، وعبيدا، وقد غلّب غير العاقلين على العاقلين. انظر الآية رقم [45]. {قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ} أيها المكلفون من المخالفة، والموافقة لأوامر الله، ورسوله، والنفاق، والإخلاص في الأعمال. وإنما أكد علمه ب {قَدْ} لتأكيد الوعيد، والتهديد. {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ:} جل شأنه يوم القيامة للحساب، والجزاء. والمراد: المنافقون الذين كانوا يتسللون لواذا، أو هو عام، وهو أولى. وفي الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة. انظر الالتفات في الآية رقم [34] من سورة (الأنبياء)، والفعل {يُرْجَعُونَ} يقرأ بالبناء للمعلوم، وبالبناء للمجهول. {فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا} أي: من الخير والشر، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بعقابه. {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ:} لا تخفى عليه خافية من أعمال العباد، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {أَلا:} حرف تنبيه، واستفتاح يسترعي انتباه المخاطب لما يأتي بعده من كلام.

{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ} مقدم. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب اسم {إِنَّ} مؤخر. {فِي السَّماواتِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية:{إِنَّ..} . إلخ ابتدائية، لا محل لها. {قَدْ:} حرف تحقيق هنا. {يَعْلَمُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (الله).

{ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {أَنْتُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {عَلَيْهِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول لا محل لها، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. (يوم): معطوف على محل {ما} الموصولة فهو مفعول به مثله. {يُرْجَعُونَ:} مضارع مبني للمعلوم، أو للمجهول مرفوع

إلخ، والواو فاعل، أو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (يوم) إليها. {إِلَيْهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {فَيُنَبِّئُهُمْ:} الفاء: حرف عطف. (ينبئهم):

مضارع، والفاعل يعود إلى (الله)، والهاء مفعول به أول. {بِما:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها،

ص: 445

والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: فينبئهم بالذي، أو: بشيء عملوه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بعملهم. والجملة الفعلية:

{فَيُنَبِّئُهُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها. (الله): مبتدأ. {بِكُلِّ:}

متعلقان ب: {عَلِيمٌ،} و (كل) مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه. {عَلِيمٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

انتهت سورة (النور) شرحا وإعرابا، بعون الله وتوفيقه، والحمد لله رب العالمين

ص: 446