المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ دراسة المسائل النحوية وأثر الإعراب في توجيه المعنى - تفسير الكتاب العزيز وإعرابه

[ابن أبي الربيع]

الفصل: ‌ دراسة المسائل النحوية وأثر الإعراب في توجيه المعنى

وقد تنوّع أسلوب ابن أبي الربيع في عرض المادة العلمية التي أوردها في تفسيره، وبخاصةٍ ما يتعلّق بالعربيّة أداةِ الفهم والبيان، فتارةً يستهل الكلام على الآية بتفسير غريبها وما يتبع ذلك من توجيه المعنى، وتارة يأخذ في تفصيل المسائل النحوية والصرفية معرجاً على ما فيها من خلاف أو مُتَوخّياً له ليحكم فيه بما يراه وتارةً تتواردُ القضايا النحوية والصرفية، والبلاغية على النص فيأخذ في بيان كل قضية منها، وغرضه من التنوّع في العرض تقريب المعنى بما يُعينُ على استنباط الحكم الذي تحتمله الآية أو تدلُّ عليه وقد كان هذا الكتاب- أعني تفسير الكتاب العزيز وإعرابه -خاتمة أعمال ابن أبي الربيع في الدرس والتأليف ونتيجة نشاطه الطويل في هذا الميدان، فهو يمثل قمة النُّضج العلمي الذي انتهى إليه في تحرير المسائل العلمية وتوجيه أقوال المتقدمين وتقويمها وفق منهجه الذي ترَسَّمَهُ في دروسه وتواليفه.

ص: 322

المبحث الثالث:‌

‌ دراسة المسائل النحوية وأثر الإعراب في توجيه المعنى

أ- المسائل النحوية:

يتناول هذا المبحث قضيَّتين: الأولى: المسائل النحوية التي تَعرّض لها ابن أبي الربيع في هذا السفر من تفسير الكتاب العزيز وإعرابه.

الثانية: الإعراب وأثره في توجيه المعنى، وهذه المسألة أساس في تفسير ابن أبي الربيع كما هو واضح من العنوان.

فأمّا المسائل النحويّة التي تطرق لها ابن أبي الربيع فكثيرة في هذا السفر وليس من غرض هذا البحث حصرها، ولكني أقف عند مسائل بعينها، منها السهلة التي لا يختلف في فهمها حذاق العربية وعامة الدّارسين لعلم العربية، ومنها الدَّقيقة التي كانت معترك الاقتران، وقد عرض ابن الربيع كل ذلك بشيءٍ من البسط تارة وأوجز القول تارة أخرى، وكان له موقفٌ من كل ما عرضه، إمّا الترجيح لمذهب ورد ما يعارضه، وإمّا ردّ القول واختيار ما يراه متوجهاً نحو الصحة، وذلك بعد مراجعة طويلة للمسألة أفضت

ص: 322

به إلى ما انْتَهى إليه في ترجيح ما رجحه واختيار ما اختاره، ويعرضُ البحث فيما يلي بعضاً من المسائل التي تناولها ابن أبي الربيع في هذا السفر من تفسيره.

أولاً: الخلاف في مُتَعلّق الجار والمجرور:

اسْتهلّ ابن أبي الربيع تفسير الكتاب العزيز وإعرابه بذكر الخلاف في متعلَّقِ الجار والمجرور بين البصريين والكوفيين في "بِسْمِ " ثُمَّ أورد قَوْلاً ثالثاً في المسألة نسبة لبعض المتأخرين ظاهر الموطأة لمذهب الكوفيين، وقد أبدى ابن أبي الربيع على كِلّ قولٍ من الأقوال الثلاثة مأخذاً لكنَّهُ مال إلى ما ذهب إليه البصريون، وَوَهَّن ما ذهبَ إليه الكوفيون، وردّ قول بعض المتأخرين ووجّه ردّه لذلك القول بما أسعفه به فقهه للمسألة ودقّة فهمه، ومِمَّا قاله في المسألة:

(ذهبَ البَصرِيُّون إلى أنَّه في تقدير: ابْتدائي بِسْمِ اللَّهِ، فبسم اللَّهِ عِندَهُم خَبَرْ مُبْتَدَأٍ مَحذُوفٍ.

وذهب الكُوفِيُّونَ إلى أنَّه في تَقْدِيْر: أُبْدَأً بِسم اللَّهِ (1) .

والفعلُ الّذي لا يَصِلُ إلَاّ بِحرْفِ الجرّ يَضْعُفُ حَذْفهُ، وقَدْ جاءَ لكنّهُ قليلٌ.

وجاء بعضُ المَتأَخِّرِينَ وذَهَبَ إلى أنه يَجُوزُ أن يكونَ المجرور مُتعلِّقاً بفعلٍ تَدُلُّ عليهِ الحال، تَقْدِيرُهُ: أقرأ بهذا، وأكتب بهذا، على معنى مُسْتعيناً. ويُحذَفُ الفعل لِدلَالَةِ الحالَ عَليهِ.

وهذا لا يصح لأن الحال لا تدل على الفعل حتى يصل بنفسه لا تقول: بزيد، تريد، مرّ بزيد وإن كان معك من الحال ما يدل على ذلك تقول لمن شال سوطا أو أشهر سيفاً: زيداً، على معنى: اضرب زيدا، فالحال لا تدل على الفعل حتى يكون الفعل يصل بنفسه، ولا يتصرفون في الضعيف تصرفهم في القوى من الإضمار والإظهار، إلا

(1) ينظر تفسير الطبري 1/ 115، ومعاني القرآن وإعرابه 1/ 36، وإعراب القرآن للنحاس 1/ 116، وإعراب ثلاثين سورة لابن خالويه ص 9، والبيان في غريب إعراب القرآن 1/ 31- 32، والكشاف 1/ 26- 32.

ص: 323

إنهم يقولون: بمن تمر أو بمن مررت؟ فيقول المسؤول: بزيد، وهو على تقدير: مررت بزيد، لأن هذا وإن كان محذوفاً فكأنه ظاهر لأنه مكنون في السؤال، وليس هذا بمنزلة ما استعملته الأحوال، ولا بمنزلة ما أُخِذَ لِيفَسّرَ.

وأما قوله: (في تِسْعِ آيَاتٍ إلَى فِرْعَوْنَ)(1) فقوله: "في تِسْعِ آيات " خبر لمبتدأ محذوف، أيْ هذه الآيات في تسع آيات، فقد نزل هذه منزلة قد أرسلت أو ترسل، فجاز حذف الفعل هنا وإن كان لا يصل إلا بحرف الجر، لأنه تنزل منزلة بمن مررت؟ فنقول: بزيد.

ومع هذا لا ينكر حذف الفعل الواصل بحرف الجر لكنه قليلٌ لا يُحملُ عليه ما قُدِّر على غيره (2) .

ثانياً: متعلق الظرف (إذا) :

أورد ابن أبي الربيع الخلاف في متعلق الظرف إذا المتضمنة معنى الشرط، ورجح أن يكون متعلقها جواب الشرط، وهو قول أبي على الفارسي في المسألة، ومما ذكره ابن أبي الربيع في المسألة:(.. وإذا اختلف الناس في الفعل الذي تتعلق به على ثلاثة مذاهب) :

فمنهم من قال تتعلق بفعل الشرط، لأن فيها معنى السبب، فإذا قلت: إذا جئتني جئتك فإذا تتعلق بجئتني، وهي بمنزلة أن لو قلت: متى جئتني جئتك.

ومنهم من قال هي متعلقة بالجواب، والجملة التي بعدها في موضع خفض بإذا، إلا إنها لا يقع بعدها إلا جملة فعلية، لأجل ما فيها من السبب، ولا يقع بعدها المبتدأ أو الخبر إلا في ضرورة الشعر.. إلى أن يقول:

وعلى هذا أكثر النحويين؛ لأنّ إذا في الأصل ظرف، والظرف يطلب ما يضاف

(1) سورة النمل آية: 12.

(2)

من قوله: وجاء بعض المتأخرين، وما تعقب به على هذا القول إلى هنا المعنى بهذا الزمخشرى، فالقول قوله في المسألة كما في الكشاف 1/26-32.

ص: 324

إليه، والسببية تطلب مرد الكلام، فيلزم لهذا أن يكون جوابها مؤخراً، فإن جاء: أكرمُك إذا جئتني فجوابها محذوف، تقديره: أكرمك إذا جئتني يكون ذلك، ولا تتعلق بأكرمك، كما أنك إذا قلت: أكرمك إن أكرمتني، فجواب إن محذوف، تقديره: أكرمك إن أكرمتني يكن ذلك، فالفعل الأول دل على الجواب لا هو الجواب.

وتقول العرب: إن زيد قام فأكرمه، فزيد فاعل بفعل مضمر دلت عليه قام الظاهر، ويكون هذا بمنزلة قوله تعالى:(وَإنْ أَحَدٌ منَ اْلمُشْرِكِينَ استجارك فَأَجِرْهُ)(1) فأحد فاعل بفعل مضمر، وكذلك قوله تعالى:(إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ، وَإذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ)(2) .

فهذه كلها مرفوعات بفعل محذوف دلت عليه هذه الظواهر، فتعرب الشمس كورت مفعولاً لم يسم فاعله لا مبتدأ، لأن السببية تمنع من ذلك، وقد نص أبو على في الإيضاح (3) على هذا وهو الصواب.

ومنهم من قال: إذا تضاف إلى الجملة الفعلية وإلى الجملة الاسمية، وتتعلق بما قبلها وبما بعدها لأنها ظرف، والظرف يتعلق بما قبله وبما بعده، فجعل "إذا الشمس كورت " الشمس: مبتدأ، كورت خبره، وفي هذا بعد، إذا لو كان كما قيل لجاز: إذا زيد قائمٌ. أكرمك، وهذا لا يقع إلا في ضرورة الشعر، وهو قليل في الضرورة والذي ذهب إليه أبو على (4) أصح الأقوال الثلاثة- والله أعلم. (54) .

ثانياً: مجيءُ نائب الفاعل والمفعول به جملة:

خرّج ابن أبي الربيع الجمل الواقعة بعد أفعال القول المبنية للمجهول على أنها بلفظها نائب فاعل وليست جملة في موضع رفع نائب فاعل، قال في توجيه الآية الكريمة:(وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا في الأرْضِ..)(5) : (.. لا تُفْسِدوا) في

(1) سورة التوبة آية: 6.

(2)

سورة التكوير آية: 1، 2، 3.

(3، 4) ينظر الِإيضاح العضدي 30.

(5)

سورة البقرة الآية: 13.

ص: 325

موضع المفعول الذي لم يُسمّ فاعله بقيل، َ لأنه عينُ المفعول فيجري مجرى:"سُبْحانَ اللَّهِ تَمْلأ الميزان "(1) ومجرى: زعموا مطيَّة الكذب. وليس في موضع مفردٍ هو المفعول الذي لم يُسمَّ فاعلهُ؛ لأنَّ هذا لا يكون في المبتدأ ولا في الفاعل ولا في المفعول الذي لم يُسمَّ فاعلهُ ويكون في الأخبار، وقد مضى الكلام على هذا في:(أأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ..)(2)(36) .

وقال في توجيه الآية الكريمة: (وَإذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَاَ آمَنَ النَّاسُ..) :

(.. و (آمِنوا) هو المفعول الذي لم يُسمَّ فاعله بقيل..) (61) .

وقال في توجيه الآية الكريمة: (إِنَّمَا نَحنُ مُصْلِحُونَ) :

(إنما نحنُ مصلحون) في موضع المفعول به لـ"قالوا" وموضعه نصب لأنّ قالوا أخذ عمدته بخلاف "لا تفسدوا، موضعه رفع، لأنه عمدة قيل ".

وبمثل هذا التوجيه عرض لقوله تعالى: (قَالُوا أنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهَاء) فقال: "أنؤمن": هي مفعول "قالوا" بنفسه وليس موضوعاً موضع المفعول به على حسب ما تقدم في قول العرب: زعموا مطية الكذب، وكما قال صلى الله عليه وسلم:"الحمدُ لِلّهِ تَملأُ الميزان وسبحان اللَّه تملأ أو تملَان ما بين السماء والأرض.. ".

وقد سبق إلى قريب من هذا القول الزمخشري، قال توجيه الآية الكريمة:(وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي اَلأرْضِ..) :

(وإذا قلت: كيف صح أن يُسند "قيل " إلى "لا تفسدوا" و"آمنوا" وإسنادُ الفعل إلى الفعل لا يصح؟.

قلت: الذي لا يصح إسناد الفعل إلى معنى الفعل، وهذا إسنادُ إلى لفظة، كأنه قيل: لهم هذا القول أو هذا الكلام. فهو نحو: ألِفٌ ضرب من ثلاثة أحرف، ومنه: زعموا مطية الكذب (3) .

(1) الحديث بتمامه في صحيح مسلم كتاب الطهارة 1/ 500 هـ.

(2)

سورة البقرة آية: 6.

(3)

ينظر الكشاف 1/ 181.

ص: 326

وقد رد العكبري ما ذهب إليه الزمخشري وجعل القائم مقام الفعل مضمر يفسره سوق الكلام، وتابعه أبو حيان مع زيادة في البيان وتوجيه الرد على الزمخشري (1) .

رابعاً: تَعدي الفعل "زاد" ولزومه:

يأتي الفعل "زَادَ" مُتعدياً ولازماً، والأكثر في المتَعَدِّي أنْ يأتي من باب كسا وأعطى، ولكنَّ ابن أبي الربيع أورد قسماً ثالثاً يكون فيه هذا الفعل مُتعديّاً لمفعولٍ واحد.. وهذا التقسيم قلمّا رُوعي في تصانيف المتقدمين وتفاسير المفسرين ولا أظنّ ابن أبي الربيع انفرد به، وإنما له سلفٌ فيما ذهب إليه لكنه لم يشتهر به، وأكثر ما يرد هذا التقسيم في كتب اللغة فلعلّ ابن أبي الربيع أفاد منها وأخذ عنها ما أضافه هنا. قال في توجيه الآية الكريمة:(فَزَادهمُ اللَّهُ مَرَضاً)(2) :

اعْلم أنّ زاد يأتي على ثلاثة أقسام:

أحدُها: أن يكون غير مُتعدٍ، فنقول: زاد المالُ بمعنى كثُرَ، هذه لا تتعدَّى كما أنَّ كثُرَ لا تتعدى، ومن هذا زاد إيمانُ زيد على إيمان عمرو، فإذا قلت: زاد المالُ درهما فالدّرْهمُ اسمٌ في موضع المصدر بمنزلة قوله: ضربت سوطاً، وبمنزلة قوله تعالى:(فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً) فشيءٌ على هذا وُضِعَ موضعَ المصدر، والمعنى: لَنْ يَضُرَّ ضرراً قليلاً ولا كثيراً، ومِنْ هذا: ما زدته زيالاً، والزيال ما تحمله النملة في فيها. هذه كلها أسماءٌ وضعت موضع المصدر.

الثاني: أن تكون متعدية إلى مفعولٍ واحدٍ، فتقول!: زدت المال، أيّ جعلتُهُ يزيدُ.

الثالث: أن تتعدى إلى مفعولين، قال تعالى:(وَإذَا مَا أُنزِلَتْ سُوَرَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيَّكُمْ زَادَتْهُ هَذهِ إِيمَاناً، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادْتُهْم إيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ)(3) .

(1) ينظر إملاء ما من به الرحمن 1/18، والبحر المحيط1/106، والدر المصون1/136.

(2)

سورة البقرة آية: 10.

(3)

سورة التوبة آية: 124، 125.

ص: 327

فزاد في هذه الآية تتعدى إلى مفعولين، وكذلك (فَزَادهمُ اللَّهُ مَرَضاً) تتعدى إلى مفعولين (1) .

خامساً: مجيء الباء بمعنى الهمزة:

ذهب ابن أبي الربيع إلى أنَّ الباء الجارة بعد الفعل اللازم تكون بمعنى الهمزة في إيصال الفعل اللازم إلى المفعول به، واحتج بالسّماع وإجماع النحويين، وردَّ ما ذهب إليه المبرد والزمخشري في القول بالفرق بين الحرفين. قال في توجيه الآية الكريمة:(فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بنُورِهِمْ) :

(.. الباءُ بمعنى الهمزةَ، والمعنى: أذْهب اللَّهُ نُورهُم، والباءُ بمعنى الهمزة جاء كثيراً، قال امرؤ القيس:

كما زَلَّتِ الصَّفْواءُ بالمتَنَزّلِ.

وأنشد أبو على:

دِيارُ التَّي كادَتْ ونَحنُ على مِنًى

تَحُلُّ بنا لَولا نَجاءُ الرَّكائِبِ

وقال تعالى: (ما إِنّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالْعُصْبَةِ..) .

وقال ثعلبُ: ذهبتُ به وأذهَبْتُهُ، وَدخَلْتُ به الدّارَ وأَدْخلْتُهُ.. إلى أَنْ يَقُول:

ولا أعلم بين النحويين خلافاً في أن الباء تكون على معنى الهمزة إلاّ المُبرِّد قال: بين الهمزة والباء هنا فرق. وذلك أنك إذا قلت: أَذْهَبْتُ زيداً، المعنى: جَعَلْتَهُ يَذْهبُ وإنْ كُنتَ غير ذاهِبٍ؛ وإذا قلت: ذهبت بزيدٍ، فلا تقولُ حتى تذهب معه (2) ، وتَبعهُ على ذلك الزمخشري (3) . واعْتلال محمد بن يزيد لما سَبقَ- حُجَّةَ عَلَيْهِ- أنَّه على القَلْبِ، وهذا اعْتِلَالٌ بعيدٌ؛ لأنَّ القلبَ قليلٌ، وهذا كثير، فقد جاء في القرآن في مواضع عدّةٍ. (77)

(1) ينظر معاني القرآن للأخفش 1/ 39، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج 86/1، وإعراب القرآن للنحاس 1/136، والحجة لأبى على الفارسي 1/325.

(2)

1 أقف على ما نسب للمبرد في المقتضب ولا يى الكامل، لكنّ ذكر له هذا القول في البحر المحيط 1/ 130، والجنى الدانى 107، وقد تابعه السّهيلي في روض الأنف 3/412- 413.

(3)

ينظر الكشاف 1/ 200- 201.

ص: 328

ب- الإِعراب:

الإِعراب ثمرة الدروس النحوية ونتيجة ضوابطها، وخلاصة ما يُنتهي إليه في تحرير المعنى عند الخلاف. فليس الإعراب نشاطاً ذهنياً يُقصد به شحذ أذهان المتعلمين وإيقاظ الوسنانين، بل هو وسِيلةٌ ماضية في توجيه النصوص وبيان المراد منها، وَرُبّما يصبح غاية في إيضاح ما في الكتاب العزيز من البيان وفصل الخطاب.

وقد حث المتقدمون من أئمة العلم على الأخذ بالإعراب والتبصّرَ فيه والوقوف على أثره في توجيه المعاني وتحرير النصوص من اللبس والغموض.

وفي هذا السفر من تفسير ابن أبي الربيع نجد اهتماماً بالإعراب، وإبرازاً لأثره أحياناً في توجيه النصوص واستنباط الحكم، وقد توخى في الإِعراب أقرب الوجوه وأعدل الأقوال، ولم يوغل لا المسائل المشكلة من دقائق الإعراب وعويصه، بل اعتام السهولة حتى فيما أشكل إعرابه توخى له أقرب الوجوه وأسلمها من الغموض، وفيما يلي نورد نماذج مما أعربه من الآيات، ومما وجه به لإِبراز معنى أو استنباطِ حكم.

قال- رحمه الله في توجيه الآية الكريمة: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلمْتُقَّينَ)(1) :

"ذا" إشارة وَهو الاسم المبتدأ، واللاّمُ زائدة، والكاف حرف خطاب، وَلَيْسَتْ هنا باسم، إذْ لو كانت اسماً لكانت في موضع خفض أو نصب، ولا خافض لها ولا نَاصِب، فهي حرف خطاب، ونظير هذه التاءُ من كنت وَأَنت، والضمير أنْ خاصة، وكذلك رأيتك، الكاف حرف خطاب، والضمير التاء، وكذلك رُويدك، الضمير مستتر والكاف حرف خطاب.

وهذا يكمل في كتب العربية. وللنحويين في هذا كله خلاف، والأحسنُ فيها ما ذكرتُ لك.

(1) سورة البقرة آية: 2.

ص: 329

والكتاب: عَهْدٌ في المتلُوِّ أو بالعكس، يُريد عهدٌ في الموعُود و"ذلِكَ " إشارةٌ لِلمتْلُوّ، والكتاب عهدٌ في المتْلُوّ.. والكتابُ على هذين الوجْهَينْ خبر "ذلك " وقد يكونُ ذلك الكتابُ الذي تقرؤونه وتتلُونهُ هُدىً للمتّقين، ويكونُ على هذا الكتاب نعتاً لـ"ذلِكَ " ويكونُ العهدُ في الإشارة، ويكون هذا بمنزلة قولِكَ: هذا الرّجُلُ الصّالحُ

"لَا رَيْبَ ": رُكِّبَتْ "لا" مع "رَيْبَ" وأصلُها أن تكون ناصبةً كأنَّ لأِنها تقابلُ مِنْ، وَمِنْ عاملةٌ في النكرة، ولا تُركّبُ "لا" مع المنصوب بها إلَاّ إذا كان مفرداً، ولا يُفصلُ بينها وبين معمولها. فَقولُ مَنْ قال: ِ لمَ لَمْ يُقدم "فيه" على "رَيْبَ " ضعُفَ كأنه توهم أنّ التقديم جائز وليس بجائز؛ لأنه لا يفصلُ بين لا ومعمولها، كما لا يفصل بين "مِنْ " ومعمولها، ولا خلاف في هذا بين النحويين.

"فيه" خبر "لا" فيتعلق بمحذوف، وكذلك المجرور والظرف إذا وقعا خبَرْين أو صِفَتَينْ أو حالينْ يتعلقان بمحذوف لا يَظهَرُ.

"هُدىً لِلمتّقين" هُدىً: مصدر هديت وهو خبر مبتدأ محذوف أي هو هُدىً إذا جعلت "الكتاب" نعتاً لـ"ذلك " فقد يكون "هُدىً" خبراً عنه، و"للمتَّقين " من صِلَةِ "هُدىً" فيتعلّق بمحذوف.

وقال في إعراب: (سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ)(1) :

"سَواءٌ " في الأكثر لا ترفع الظاهر إلا أن يكون معطوفاً على المضمر، نحو: مررت برجلٍ سواء هُوَ والعَدمُ، ولاتجدُ صِفةً هكذا، وهو هنا مبتدأ و"عَلَيهم" من صلته و (أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ) في موضع خبره، ويكون بمنزلة إنْ خيرٌ منك زيدٌ! ان مثلُك عمرو.

وكان الأصل أن يكون "خَيْرُ" هُوَ الخبرُ وعمروٌ المبتدأ، لأن عمراً المخبرُ عنهُ في المعنى لكنهم لمَّا أرادوا تقديم خير للاعتناء به وخبر إن لا يتقدم على اسمها قلبوا فجعلوا (خيراَ مِنْكَ) مبتدأ وعمرو الخبر، وكذلك الآية؛ لأنَّ الإنذار وعدم الإنذار هو المخبر عنه لا

(1) سورة البقرة آية: 6.

ص: 330

"سواء" فلما أرادوا أن يضعوا الإنذار وعدم الإنذار موضع ذلك (أَأَنْذَرتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُم) قلبُوا وجعلُوا المخبر عنه خبراً لأنَّ الجملة لا تقعُ موقع المبتدأ وتقع موقع الخبر.

فإن قلت: قد جاء: "الحمدُ لِلَّهِ تَمْلأ الميزانَ.. " وما أشْبَهَ هذا.

قلت: الحمدُ لِلَّهِ هُنا هو المخبرُ عنهُ وليست جملة وُضِعت موضع المخبر عنه كما في (أأنذرتهم أمْ لَمْ تنذرهم) .

ومن قال: إنّ "أأنذرتهم" في موضع المبتدأ و"سَوَاءٌ" خبر فقد قال ما لا نظير له. وكذلك من قال: "إنَّ أأنذرتَهُم" فاعل بـ"سَواء" و"سواء" خبر "إنّ مقدمٌ فقد أخطأ، لأنَّ الجملة لا تقع موقع الفاعل فلَيْسَ في هذا إلا ما ذكرته مِنْ جعل الخبر مُبتدأ وجعل المخبر عنه خبراً على جَهِةِ الاتساع، فتكون بمنزلة: إنْ خْيراً مِنك زَيدٌ وانْ مِثْلَك عمروٌ، ولمَّا لم يكن الخبرُ يحتاجُ إلى ضمير يعود إليه من المبتدأ لم يكن في هذه الجملة ضميرٌ يعودُ إلى "سواء"، لأنَّ الإِنذار وعدم الإنذار هو المبتدأ في الأصل و"سَواءٌ عَلَيهم " هو الخبر في الأصل فلا يحتاجُ "سَواء" إلى ضمير يعود إليه من المبتدأ، وهذا بَيّن.. (36) .

ترجيح العطف على التوهم:

أورد ابن أبي الربيع وجهين من الإِعراب للفعل المضارع المقرون بالفاء "فَتكُونا" من الآية الكريمة: (ولَا تَقْرَبَا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ)(1) وَرَجَّحَ النَّصبَ عَطْفاً على التَّوهِمّ على العطف بالجزم، وَوَجَّه النَّصب في الآية، على أنَّه بحرف أنْ مُضمرة لا بالفاء، ومما قاله هنا:(.. فقوله "فتكونا" منصوبٌ بالفاءِ في جواب النّهي كما تقول: لا تَدْنُ من الأسَدِ فَيَأْكُلكَ، والعطف في هذا الموضع جائز (2)، ويكون مثل قول امرئ القيس:

فَقُلْتُ له: صَوِّبْ ولا تجهدنه

فيُذْرِكَ من أخرى القطاه فتزلْقٍ

(1) سورة البقرة آية: 35.

(2)

يريد العطف بالجزم على "تقربا" وله استشهد ببيت امرئ القيس.

ص: 331

والأحسن ما ذكرته أولاً، ويكونا منصوب بإضمارِ أنْ.. واَنْ مع الفعل في تأويل المصدر، وهو معطوف على المصدر المتوهم من الفعل المقدم، والفاء هنا عاطفة، وأن لا تظهر، ومَنْ جَعَلَ الفاء هِي النّاصبة، هذا يريد أنها قامت مقام الناصب، فصارت كأنها الناصبة، وإن لم ير هذا فهو قول فاسد.. (146) .

ما اسْتَشْكل إعرابه

أورد ابن أبي الربيع قراءة غير سبعيه في الآية الكريمة: (ياَ أيّها النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) بفتح الميم في "مَنْ " اسماً موصولاً وقبلها "الذين " فالموصولان تواردا على صلة واحدة، هي شبه الجملة "قَبْلِكُم ل" وقد أورد هذا الإشكال أبو القاسم الزمخشري في كشافه عند تعرضه للقراءة المذكورة آنفاً، فقرر أن هذا من باب االإقحام، فقد أُقْحِم الموصولُ الثاني بين الموصول الأول "الذين" وصلته "قبلكم ": تأكيداً، كما أَقْحم جريرٌ في قوله:

يا تيم- تيمَ- عَدىٍّ لا أيا لكم

تَيمْاً الثاني بين الأول وما أضيف إليه (1) .

ولم يسلم هذا التوجيه للزمخشري، بل رده أبو حيان لمخالفته القياس، إذ القياس تكرار الموصول مع صِلَتِهِ لأنها من كماله.. وخرج الآية على جعل "قبلكم" صلةً للموصول الثاني "مَنْ" و"مَنْ" خبرُ مبتدأٍ محذوف، وذلك المبتدأ وخبره صلة للموصول الأول، وهو " الّذينَ "، والتقدير: والذين هم مَن قبلكم (2) .

أما ابن أبي الربيع فقد قرر الإشكال على مقتضى ظاهر القراءة، لكنّه خرجها على وجه أقرب مأخذ وأحسنَ في الحمل، فقال:

(وأمّا (والذينَ مَنْ قبلكم) فمشكلة، وهي عندي بمنزلة قول زهير:

لَدَى حيثُ أَلْقَتْ رحْلَها أمُّ قشعم

(1) ينظر الكشاف 1/228.

(2)

ينظر البحر المحيط 1/ 154، والدر المصون1/187.

ص: 332