المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فوائد معرفة أسباب النزول - تقويم أساليب تعليم القرآن الكريم وعلومه في وسائل الإعلام

[محمد سبتان]

الفصل: ‌فوائد معرفة أسباب النزول

‌فوائد معرفة أسباب النزول

زعم بعض الناس أنه لا فائدة للإلمام بأسباب النزول، وأنها لا تعدو أن تكون تاريخاً للنزول أو جاريةً مجرى التاريخ، وقد أخطأ فيما زعم؛ فإن لأسباب النزول فوائد متعددة، لا فائدة واحدة:(الأولى) معرفة حكمة الله تعالى على التعيين، فيما شرعه بالتنزيل، وفي ذلك نفع للمؤمن وغير المؤمن. أما المؤمن فيزداد إيماناً على إيمانه، ويحرص كل الحرص على تنفيذ أحكام الله والعمل بكتابه لما يتجلى له من المصالح والمزايا التي نيطت بهذه الأحكام ومن أجلها جاء هذا التنزيل. وأما الكافر فتسوقه تلك الحكم الباهرة إلى الإيمان إن كان منصفاً، حين يعلم أن هذا التشريع الإسلامي قام على رعاية مصالح الإنسان، لا على الاستبداد والتحكم والطغيان، خصوصاً إذا لاحظ سيرَ ذلك التشريع وتدرجه في موضوع واحد وحسبك شاهداً على هذا تحريم الخمر وما نزل فيه.

(الفائدة الثانية) الاستعانة على فهم الآية ودفع الإشكال عنها حتى لقد قال الواحدي: لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصّتها وبيان نزولها وقال ابن تيمية: معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب اهـ.

ولنبين لك ذلك بأمثلة ثلاثة: (الأول) قال تعالى في سورة البقرة: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 115) فهذا اللفظ الكريم يدل بظاهره على أن للإنسان أن يصلى إلى أية جهة شاء، ولا يجب عليه أن يولي وجهه شطر البيت الحرام، لا في سفر ولا حضر. لكن إذا علم أن هذه الآية نازلة في نافلة السفر خاصة، أو فيمن صلى

ص: 46

باجتهاده ثم بان له خطؤه، تبين له أن الظاهر غير مراد، إنما المراد التخفيف على خصوص المسافر في صلاة النافلة أو على المجتهد في القبلة إذا صلى وتبين له خطؤه. عن ابن عمر رضى الله عنهما أن هذه الآية نزلت في صلاة المسافر على الراحلة أينما توجهت. وقيل: عميتُ القبلة على قوم فصلوا إلى أنحاء مختلفة، فلما أصبحوا تبينوا خطأهم فعذروا.وقيل في الآية غير ذلك، ولكن ما ذكرناه يكفيك.

(المثال الثاني) روى في الصحيح أن مروان بن الحكم أشكل عليه معنى قوله تعالى {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (آل عمران: 188)

وقال لئن كان امرؤ فرح بما أوتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً لنعذبن أجمعون. وبقى في إشكاله هذا حتى بين له ابن عباس أن الآية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، وأروه أنهم أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه أي طلبوا منه أن يحمدهم على ما فعلوا. وهنالك زال الإشكال عنه، وفهم مراد الله من كلامه هذا ووعيده.

(المثال الثالث) أشكل على عروة بن الزبير رضي الله عنه أن يفهم فرضية السعي بين الصفا والمروة مع قوله سبحانه: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (البقرة: 158) .

وإشكاله نشأ من أن الآية الكريمة نفت الجناح، ونفي الجناح لا يتفق والفرضية في رأيه، وبقى في إشكاله هذا حتى سأل خالته أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها فأفهمتهُ أن نفي الجناح هنا ليس نفياً للفرضيةِ، إنما هو نفي لما

ص: 47

وقر في أذهان المسلمين يومئذٍ من أن السعي بين الصفا والمروة من عمل الجاهلية نظراً إلى أن الصفا كان عليه صنم يقال له (إساف) وكان على المروة صنم يقال له: (نائلة) وكان المشركون إذا سعوا بينهم تمسحوا بهما. فلما ظهر الإسلام وكسر الأصنام تحرج المسلمون أن يطوفوا بينهما لذلك، فنزلت الآية، كذلك جاءت بعض الروايات.

لكن جاء في رواية صحيح البخاري ما نصه: فقال (أي عروة) لها (أي لعائشة) أرأيت قول الله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} : فوالله ما على أحد جناح ألا يطوف بالصفا والمروة: قالت: بئسما قلت يا بن أختي، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه، كانت (لا جُناح عليه ألا يطوف بهما) ولكنها أنزلت في الأنصار،كانوا قبل أن يسُلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان بعضهم يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة. فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية قالت عائشة"وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما " انتهى ما أردنا نقله ومعنى يهلون: يحجون ومناة الطاغية: اسم صنم وكان صخرة نصبها عمرو بن لحىٍ بجهة البحر فكانوا يعبدونها. والمشلل بضم الميم واللام الأولى مشددة مفتوحة: اسم موضع قريب من قديد من جهة البحر. وقديد بضم القاف: قرية بين مكة والمدينة المنورة وكلمة (سن) معناها في هذا الحديث شرع أو فرض بدليل من السنة لا من الكتاب.

ص: 48

هذه الرواية – كما ترى – تدل على أن عروة فهم من جملة (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) أن الجناح منفي أيضا عن عدم الطواف بهما وعلى ذلك تنتفي الفرضية، وكأنه اعتمد في فهمه هذا على أن نفى الجناح، أكثر ما يستعمل في الأمر المباح. أما عائشة رضي الله عنها فقد فهمت أن فرضية السعي بين الصفا والمروة مستفادة من السنة، وأن جملة (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) .لا تُنافي تلك الفرضية كما فهم عروة إنما الذي ينفيها أن يقال (فلا جناح عليه ألا يطوف بهما وإنما توجه نفي الحرج في الآية عن الطواف بين الصفا والمروة لأن هذا الحرج هو الذي كان واقراً في أذهان الأنصار، كما يدل عليه سبب نزول الآية الذي ذكرته السيدة عائشة فتدبر.

ص: 49