الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الانفال:
جمع نَفَل بالتحريك وهي الغنيمة. ذات بينكم: فيما بينكم. وجلت قلوبم: فزت وخافت.
خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجراً الى المدينة بسبب مكر المشركين وتدبيرِهم أمر قتله، وليكون للمسلمين دولة. وقد استقر بالمدينة ومن حوله المؤمنون من المهاجرين والانصار، وكان لا بد من الجهاد لدفع الاعتداء، ليكلا يُفتَن أهلُ الايمان. فكانت غزوة بدر، وكان فيها النصر المبين والغنائم. وكان وراء الغنائم فيها نفوس بعض المسلمين لتطهيرها من الاختلاف الذي نشأ عن حب المال والتطلع الى المادة، وهو من اكبر اسباب الفشل.
فكان من مقتضيات الحكمة الإلهية ان يتلقى المؤمنون في مبدأ حياتهم هذا الدرس القوي الذي يقتلع بذور الشح والطمع وحب المادة من قلوبهم.
يسألونك أيها الرسول عن الغنائم. لمن هي؟ وكيف تقسم، أللشُبّان أم للشيوخ؟ أو للمهاجرين هي، أم للانصار؟ ام لهم جميعا؟ .
قل لهم أيها الرسول:
إنها لله والرسول، والرسول بأمر ربه يتولى تقسيمها، فاتركوا الاختلاف بشأنها، واتقوا الله واجعلوا خوف الله وطاعته شِعاركم، وأصلحوا ما بينكمن فاجعلواالصلاة بينكم محبة وعدلا. هذه صفةُ أهل الايمان.
ثم وصف الله تعالى المؤمنين المخلصين في ايمانهم بأنهم هم الذين اجتمعت فيهم خصالٌ خمس:
(1)
{الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الذين اذا ذكَروا الله بقلوبهم فزِعوا لعظمته وسلطانه، وامتلأت قلوبهم هيبة.
(2)
{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} وكلّما تليت عليهم آيات من القرآن ازداد إيمانهم رسوخا، وازداودا إعاناً وعلما.
(3)
{وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ولا يعتمدون الا على الله الذي خلَقَهم، ولا يفوّضون أمرهم الى سواه. ومعنى التوكل: ان نسعى للعمل كما أمرنا الله راجين منه التوفيق في سعينا مؤمنين بان العمل شرط أساسيُّ للتوكل.
(4)
{الذين يُقِيمُونَ الصلاة} واولئك المؤمنون الصادقون في ايمانهم، يؤدون الصلاة مستوفية الاركان، كاملة الخشوع والخضوع، وبهذا تحصل ثمرة الصلاةالتي تنهى عن الفحشاء والمنكر.
(5)
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} وينفقون بعض ما رزقناهم من المال في الجهاد والبِرِّ ومعاونة الضعفاء، وفي مصالح الأمة ومرافعها العامة.
{أولاائك هُمُ المؤمنون حَقّاً. . .} هؤلاء، هم الذين يوصفون بالامان حقا وصدقا. ولهم جزاؤهم درجات عالية عند الله، وهو الذي يمنحهم رضاه، ويغفر لهم سيئاتِهم، ويرزقهم رزقاً طيباً كريما في الحياة الدنيا، ونعيماً دائماً في الآخرة.
الشوكة: القوة والبأس، والسلاح، ومعنى ذات الشوكة: الطائفة المسلّحة القوية. احدى الطائفتين: الأولى هي الطائفة التي جاءت من الشام بقيادة أبي سفيان ومعها العِير وفيها اموال قريش. والثانية: قريش وقد خرجت بصناديِدها ورجالها المسلّحين ليحموا العير. دابر الكافرين: آخرهم ليحق الحق: ليعزّ الإسلام ويبطل الباطل: يزيل الشرك والكفر.
الكلام هنا عن غزوة بدر التي كانت أول فوزٍ للمؤمنين وخذلانٍ للمشركين. وملخص القصة: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع أن أبا سفيانَ رجع من الشام يقود قافلةً ضخمة فيها معظم اموال قريش وتجارتها. فأخبر أصحابه ونَدَبَهم الى الخروج ليصادروا هذه القافلة لكن البعض تثاقل وكره الخروج وخرج الرسول في ثلاثمائة رجل ونيف، ولم يعلموا انهم مقبلون على واحدة من أعظم المعارك الفاصلة في التاريخ.
وعِلم أبو سفيان بخروج الرسول وأصحابه فبعث الى قريش يطلب النجدة. ولم يبق أحد قادر على حمل السلاح في مكة إلا خرج. اما ابو سفيان فحوّل طريقه الى ساحل البحر ونجا، وبعث الى قريش يخبرهم بذلك ليرجعوا. فأبى أبو جهل وسار بالقوم الى بدر. فشاور النبي صلى الله عليه وسلم اصحابه وقال لهم: ان الله وعَدَني إحدى الطائفتين، فوافقوه على القتال، وكره ذلك بعضهم وقالوا: لم نستعدَّ له، لكنهم ساروا وأجمعوا على لقاء قريش وكانت المعركة في اليوم السابع عشر من شهر رمضان للسنة الثانية من الهجرة وقد انتصر المسلمون انتصراً عظيما، فقتلوا من قريش سبعين رجلا، وأسروا سبعين، وفر الباقون، واستُشهد من المسلمين اربعة عشر رجلا فقط. وكانت هذه المعركة أول نصر للمسلمين، فبدأ ينحاز كثير من العرب الى جانبهم بعد ذلك.
{كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ} .
إن حال المؤمنين في خلافهم حول الغنائم مثل حالهم عند ما أمرك اللهُ بالخروج من المدنية لقتال المشركين ببَدْر.
يومئذٍ كانوا يجادلونك ايها لارسلو في لقاء قريش وقتالهم مع ان هذا اللقاء والقتال مع ان هذا اللقاء والقتال حق وخير. ولقد آثروا لقاء العِير لأن فيها الأموال، ولأن حراسها قليلون. لكن الحق تبيَّنَ بحيث لم يبقَ للجدل فيه وجه كما يقول تعالى:{يُجَادِلُونَكَ فِي الحق بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت وَهُمْ يَنظُرُونَ} وكانوا في ذهابهم الى القتال كالذي يُساق الى الموت وهو ينظر أسبابه ويعاينُها. وهذه صورة يرسمها القرآن لشدَّة خوفهم من قريش، لأنها أكثرُ عددا، وأقوى عدة.
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين. . . الآية} اذكروا أيها المؤمنون اذ يَعِدكم الله ان ينصركم على احدى الطائفتين، قريش وفرسانها، أو العِير وما فيها من أموال. انتم تودّون أن تَلقوا الطائفة التي فيها المال، لكنّ الله تعالى يريدكم ان تلقوا قريشاً وينصركم عليهم، ليثبت الحقُّ بإرادته ويُعز الإسلام ويُظهره على الدِّين كلّه، وليقطع دابر الكافرين بعد ان يزيل الباطل، وهو الشِرك، لقد أردتم أنتم حطام الدنيا الزائل، واراد الله لكم النصر على قريش أعداءِ الله واعدائكم، كيما يحقِّق لكم وعدَه بالنصر. هذا أفضلُ لكن وللاسلامن وفيه العزة والكرامة، وهو خير من المال وكل ما في الدنيا من حطام الدنيا الزائل، واراد الله لكم النصر على قريش أعداءِ الله واعدائكم، كيما يحقِّق لكم وعدّه بالنصر هذا أفضلُ لكم وللاسلام، وفيه العزة والكرامة، وهو خير من المال وكل ما في الدنيا من حطام.
مردفين: متتابعين، وأردفه اركبه خلفه. وأردف: تتابع يغشيكم النعاس: يغلبكم رجز الشيطان: وسوسته، وله معان اخرى كالذنب، وعبادة الاوثان. ليربط على قلوبكم: ليثبتها ويصبرها. فوق الاعناق: الرؤوس، والبنان: اطراف الاصابع. مفرده: بنانة. شاقّوا الله: عادوه.
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ. . . .} روى ابن جرير عن عبد الله بن عباس رضي الله عن هـ قال: حدثني عمر بن الخطّاب رضي اله عنه قال: لما كان يومُ بدرٍ نظر النبي صلى الله عليه وسلم الى اصحابه وهم ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلا، ونظر الى المشركين فإذا هم ألفٌ او يزيدون، فاستقلَ القبلة ثم مدّ يديه وجعل يهتف بربه: اللهمّ أنجِزْ لي ما وعدتني، اللهم إن تهلَك هذه العصابةُ لا تُعبد في الأرض، فما زال يهتف بربه مادّاً يديه مستقبلاً القبلة حتى سقط راداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه لعى منكبيه ثم التزمخ من وارئه، وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربَّك فإن سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله تعالى:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ. . . الآية} .
اذكروا وقتَ استغاثتكمن ربَّكم، فأجاب الله دعاءكم، وأمدكم بألف من الملائكة متتابعين. وما جعل الله تعالى ذلك الإمداد بالملائكة إلا بِشارةً لكم بالنصر، لتطمئنّوا وتُقْدِموا، وما النصر الا من عند الله دون غيره من الملائكة او سواهم، وقد تقدمت هذه الآية في سورة آل عمران 126.
قراءات:
قرأ ابو عمرو: «فاستجبا لكم إنّي ممدكم» بكسر همزة إنَّ والباقون «أَنّي» بفتح الهمزة وقرأ نافع ويعقوب: «مُرْدَفين» بفتح الدال. والباقون «مردفين» «بكسر الدال» .
{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً. . . .} اذكروا ايها المؤمنون، وقتَ أن خفتم من قلة الماء، ومن الأعداء، فوهبكم الله الأمن وداهمكم النعاسُ فنمتم آمنين. وعند ذاك انزل الماءَ من السماء لتطَّهَّروا به ولتذهبوا وساوس الشيطان عنكم، وتثبت قلبوكم واثقة بعون اللهن ولتتماسك به الأرض فتثُبت منكم الاقدام.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو: «يغاشكم النعاسُ» بضم السين.
فقد أنزل الله في تلك الليلة مطرا طهَّركم به وأذهب عنكم رجس الشيطان، ووطَّأ به الارضَ وصلُب الرمل، وثبتت الأقدام. وقد سبق رسول الله واصحابه الى الماء فنزلوا عليه وصنعوا الحِياض ثم عوَّروا ما عداها، وبذلك تمكّنوا من الشرب والأعاداء عِكاش. وتفصل ذلك في كمتب السيرة والحديث.
كذلك اذكروا أيها المؤمنون أن الله أوصى الملائكة أن تودِع في نفوسكم أن الله معكم بالتأييد والنصر، قائلا لهم: ثبِّتوا الذين آموا، قوُّوا قلوبهم. . وسأجعل الرعب يستولي على قلوب المشركين، فاضربوا رؤوسهم التي فوق اعناقهم، وقطِّعوا ايديهم التي يحملون بها السيوف.
{ذلكم فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النار} ان هذا هو العقاب الذي عجَّلتُ لكم به ايها الكافرون من هزيمة وخِزي وذلّ امام فئة قليلة العَدد والعُدد من المسلمين، فذوقوه في الدنيا عاجلا، واعلموا ان لكم في الآخرة عذاب النار.
زحفا: مشياً بثقل في الحركة. زحف الجيش الى العدو مشى اليهم في نقل كأنه جسم واحد الأدبار: واحدها دُبر مؤخرة الانسان، يراد بها الهزيمة. متحرفا لقتال: منحرفا الى جانب آخر. متحيزا الى فئة: منضمّا اليهم. مأواه جهنم: مصيره اليها. موهن كيد الكافرين: مضعف كيدهم وتدبيرهم.
يا ايها الذين آمنوا إذا واجهتم الذين كفروا في الميدان وهم زاحفون عليكم بكثرتهم فلا تقرّوا منهم، إلا أن يكون ذلك مكيدَة حرب، وحيث تختارون موقعاً أحسن، او تدبّرون خطة، او يكون ذلك التحيز انضماماً إلى فئمة أخرى من المسلمين، لتعاودوا القتال. ان من تولّي منكم وانهزم من وجه العدو يغضب الله عليه، ومصيره الى النار.
والتولِّي يوم الزحف كبيرةٌ من السبع الموبقات، كما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عن هـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجتنِبوا السبعَ الموبقات، قيل يا رسول الله وما هنّ؟ قالك الشرك بالله، والسِّحر، وقتل النفس التي حرّم الله الا بالحق، وأكلُ الربا، وأكل مال اليتيم، والتولّي يومَ الزحف، وقذف المحصنَات الغافلات المؤمنات» .
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ} . إذا كنتم ايها المؤمنون قد انتصرتم عليهم وقتلتموهم، فانكم لم تفعلوا ذلك بقوتكم، بل إن الله هو الذي نصركم عليهم بتأييده لكم والقاء الرعب في قلوبهم، وما رميتَ أيها الرسول اذ كمت ترمي التراب والحصا في وجوههم، ولكن الله تعالى هو الذي رمى فافزعهم.
{وَلِيُبْلِيَ المؤمنين مِنْهُ بلااء حَسَناً} والله قد فعل ما ذكر ليبلي المؤمنين بالشدة، ليظهر اخلاصهم، ويُنعم عليهم بالنصر والغنيمة، وليثيبهم عليه من فضله وهو الذي وهبهم إياه.
{إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يسمع استغاثتكم ويعلم حالكم.
{ذلكم وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين} ذلك هو النصر العظيم، وان الله مضعف بأسَ الكفارين وتدبيرهم بنصركم وخذلانهم. وهذه بشارة أخرى مع ما حل من النصر، فانه أعلمَهم بانه مضعفٌ كيدَ الكافرين فيما يُستَقْبل من الأيام.
قراءات:
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وابو بكر «مُوهِنٌ كيدَ الكافرين» بالتنوين ونصب كيد، وقرأ ابو عمرو وابن كثير ونافع:«مُوَهّنٌ كيد» بتشديد الهاء. وقرأ حفص: «مُوهِن كيد» بالاضافة وهي قراءة المصحف. وقرأ نافع وابن عامر وحفص «وأنَّ» بفتح الهمزة والباقون بكسرها.
{إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح} يتجه الخطاب هنا الى الكافرين فقد قال أبو جهل: «اللهُمَّ أيُّنا كانَ اقطع للرحم، وآتى بما لا يعرف فأَحْنِهِ الغداة» ويعني بذلك الرسول الكريم، وقوله:«كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد» ومعنى أحْنِهِ أَمِتْهُ. يعني اجعله ينحني ويسقط على الأرض.
إن تستفتحوا فتطلبوا من الله ان يفتح بينكم، وبين المسلمين، وأن يُهلك أضلَّ الفريقين وأقطعَهُا للرحم فقد استجاب الله، فجعل النصر للمسلمين، والهزيمة عليكم.
{وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} وعلى ضوء هذه الحقيقة، يرغِّبهم الله في الانتهاء عما هم فيه من الشرك والكفر ومحاربة الله ورسوله وان تعودوا للاعتداء نعدْ عليكم بالهزيمة.
{وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ} لن تغنَي عنكم جماعتكم المجتمعة على الإثم شيئا، ولو كان عددها كثيرا، وماذا تفعل الكثرة اذا كان الله في جانب المؤمنين!
{أَنَّ الله مَعَ المؤمنين} اذا صدقوا وأخلصوا لله وللرسول، وقاموا بواجبهم، ونصروا الله ورسوله.
تقدم أن سورة الانفال نزلت تحلّ مشكلات المؤمنين في غزوة بدر من العنائم والاسرى وغير ذلك، وتذكرهم بنعم الله عليهم، وتعرِض لما يجب أن يكون عليه المؤمنون من شجاعة وثبات حتى يظفروا بالنصر والفلاح، ويحصلوا على العزة التي جعلها الله لعباده المؤمنين.
في سبيل هذا ناداهم الله ست مرات بوصف الايمان {ياأيها الذين آمَنُواْ} وقد تقدم النداء الاول في الآية من 15-19 حذرهم فيه من الفرار امام الاعداء.
والنداء الثاني في هذه الآية: {ياأيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ. . .} اطيعوا الله ورسوله في الاجابة الى الجهاد، وقد علمتم ان النصر كان بتأييد الله وطاعة رسوله، فاستمروا على طاعتكم لله وللرسول، ولا تعرضوا عن دعوة الرسول الى الحق وانتم تسمعون كملامه الداعي الى وجوب طاعته وموالاته ونصره.
ولا تكونوا كالمنافقين الذين قالوا: سمعنا الحق ووعيناه، لكنهم لا يذعنون له.
ان اولئك المشركين ومعهم المنافقون، هم كشرّ الدواب التي أصيبت بالصَّمم فلا تسمع، وبالبُكم ف تتكلم، فقد صمّوا عن الحق فلميسمعوه، ولم ينطقوا به ولم يفعلوه. ولو علم الله بعلمه الأزَلي أن فيهم خيراً لأنفُسهم وللناس وللحق، لأسمعهم مسامع هداية يوصل الحق الى عقولهم.
{وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} ولو سمعوه وفهموه لانصرفوا عن الهداية، وهم منصرفون عن تدبير ما سمعوا والانتفاع به، فقدوا نوره الفطرة وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.
هذا هو النداء الثالث: بعد ان ركّز الأمر على أساس من الطاعة والتحذير من المخالفة، ناداهم بإنهاض الهمة وتقوية العزيمة، والمبادرة الى الطاعة والامتثال دون إبطاء وتسويف، وأرشدهم الى أن ما يدْعَون اليه فيه حياتُهم، بالعلم والمعرفة، بالشرف والهمزة بالسلطان وعلوا الكلمة، بالسعادة الحقة والنعيم المقيم.
يا أيها الذين آمنوا أجيبوا الله ولبّوه فيما يأمركم به، واجيبوا الرسول في تبليغه ما يأمره الله به، اذا دعاكم الرسول الى أوامر الله بالأحكام التي فيها حياة اجسامكم وارواحكم وعقولهكم وقلوبكم. فنحن مأمورون ان نطيع الله بالأحكام التي فيها حياة اجسامكم وارواحكم وعقولكم وقلوبكم. فنحن مأمورون ان نطيع الرسول الكريم ونتّبع ما يقول وما يفعل، وما يأمرنا به وما ينهانا عنه. ان سنّة الرسول الكريم أصل من أصول الاسلام، والعمل بها عملٌ على حقظ كيان الاسلام وتقدمه، وفي تركها انحلال الاسلام. كيف نفهم القرآن الكريم لولا سنّة رسوله؟ لقد وردت الصلاة والزكاة والحج وكثير من اركان الاسلام بألفاظ عامة في القرآن الكريم، والرسول هو الذي علّمنا إياها وشرحها لنا بأحاديثه وافعاله.
وهنالك في هذه الأيام فئات من الناس يدعون الى ترك الحديث وسنة الرسول وعدم الأخذ بها، وما هذه الدعوة الا لهدم الاسلام وتقويض اركانه. وهذا خروج عن الاسلام والحاد كبير نعوذ بالله منه.
{وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} واعلموا علم اليقين ان الله قائم على قلوبكم، يوجّهها كما يشاء.
روى البخاري واصحاب السنن قال: كانت يمين النبي «لا ومقلّب القلوب» . وفي صحيح مسلم: «اللهم مصرّف القلوب، صرِّفْ قلوبنا الى طاعتك» .
{وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} وانكم جمعا ستجعون يوم القيامة يوم البعث والجزاء.
هنا امرنا الله ان نتقي الفتن الاجتماعية التي لا تخص الظالمين، بل تتعداهم الى غيرهم، وتصل الى الصالح، فقال:{واتقوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} قال ابن عباس: امر الله المؤمنين ان لايُقرّوا المنكّر بين أظهُرهم فيعمّهم العذاب «وفي صحيح مسلم عن زينب بن جحش انا سألت رسول الله، فقالت له: يا رسول الله أنِلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، اذا كثر الخبث» .
فاتقوا ايها المؤمنون الفتن، واضربوا على أيدي المجرمين، فان الذنب العظيم مفسدٌ جماعتكم ولا يصيب الذين ظلموا وحدهم، بل يصيب الجميع. والأفرادُ في نظر القرآن مسئولين عن خاصة انفسهم، ومسئولون عن أمتهم ايضاً فإذا قصروا في أحد الجانبين او فيهما- عرّضوا انفسهم وأمتهم للدمار والهلاك.
{واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} للأمم والافراد اذا سكتوا عن الفحشاء والمكَر فيهم، ولم يتلافوا المفاسد التي تحصل بينهم.
ثم يشفع الله هذا التحذير بتذكيرهم بنعمة الله عليهم حينما استجابوا وتضامنوا في المسؤولية والحرص على اعلاء كلمته، وكيف نظر الله اليهم على قلتهم فكثّرهم، والى ضعفِهم فقوّاهم وخوفهم فآمنهم، فقال:
{واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض. . .} تذكّروا أيها المؤمنون، وقت أن كنتم عدداً قليلا، وضعفاء يستغلّ أعداؤكم ضعفكم، وقد استولى عليكم الخوف من ان يتخطفكم اعداؤكم فيفتكوا بكم. يومئذٍ آواكم أيها المهاجرون إلى يثرب حيث تلقّاكم الأنصار، وأيدكم وإياهم بنصره في غزواتكم، ورزَقكُم الغنائم الطيبة رجاء ان تشكروا هذه النعم تفسيرا في طريق الجهاد لإعلاء كلمة الله.
ثم يأتي النداء الرابع، وفيه ينبّههم الى ان مخالفة الله في اوامره- ومن أشدِّها إفشاء سر الأمة للاعداء - خيانةٌ لله ولرسوله وخيانة للأمة، وحسب الخائنين سقوطا عند الله قوله تعالى:{إِنَّ الله لَا يُحِبُّ الخائنين} [الأنفال: 59] .
يا ايها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول بموالاة الاعداء، ولا تخونوا الامانات التي تكون بينكم، فالخيانة من صفات المنافقين، والأمانة من صفات المؤمنين.
واكبر خيانة في الوقت الحاضر هي قعود المسلمين عن الجهاد في سبيل الله، وتركُ المسجد الأقصى في يد أعداء اله اليهود. فالخيانة بكل معانيها صفة مذمومة. روى البخاري ومسلم عن ابي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال:«آية المنافق ثلاث: اذا حدّث كذب، واذا وعد أخلَف، واذا ائتُمِن خان، وان صام وصلى وزعم انه مسلم» {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وانتم تعلمون مفاسد الخيانة وتحريم الله لها وسوء عاقبتها في الدنيا والآخرة.
{واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} يحذّر الله هنا من شهوة النفس في الحرص على المال والولد، ذلك ان فتنة الاموال والاولاد عظيمة لا تخفى على ذوي الالباب، فلا تغلِّبوا ايها المؤمنون محبة المال والولد على محبة الله تعالى.
إن ذلك يفسِد أموركم. فيجب على المؤمن الصادق الإيمان ان يتقي الفتنة في المال بأن يكسبه من الحلال وينفقه في سبيل البر والاحسان، ويتقي الفتنة في الأولاد بحسن تربيتهم وتعويدهم الفضائل وحسن الاخلاق.
{وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} يجزيكم به عن المال والولد، فعليكم ان تؤثروا ما عند ربكم.
لمّا حذّر الله تعالى عن الفتنة بالأموال والأولاد، قفّى على ذلك بطلب التقوى التي هي اساس الخير كله، وان التقوى شجرة مثمرة، اعظم ثمارها الفرقان والنور الذي يبصرّنا بالحق والعدل والصلاح، والذي به نهتدي ونسعد، كما تُمحة سيئاتنا، ويغفر الله لنا ذنوبنا، وبه تفتح لنا ابواب السماء.
وهذا هو النداء الخامس:
{يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله ذُو الفضل العظيم} انت تخضعوا لاوامر الله في السر والعلن، يجعل الله تعالى في انفسكم قدرةً تفرّقون بها بين الحق والباطل، وينصركم على أعدائكم، ويغفر لكم جميع ذنوبكم، فهو ذو الفضل العظيم عليكم وعلى جميع خلقه.