المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الآية: العلامة. الكتاب: القرآن الكريم. المحكم، وذو الحكمة. قدم صدق: - تيسير التفسير للقطان - جـ ٢

[إبراهيم القطان]

الفصل: الآية: العلامة. الكتاب: القرآن الكريم. المحكم، وذو الحكمة. قدم صدق:

الآية: العلامة. الكتاب: القرآن الكريم. المحكم، وذو الحكمة. قدم صدق: سابقةٌ حسنة، والمنزلة الرفيعة. مبين: ظاهر.

الر: هذه الحروف تقرأ ساكنةَ غير معربة هكذا «الف. لام. را» وقد بدأ الله تعالى بها السورة لتنبيه السامع الى ما يتلى عليه، وفي ذلك اشارة الى ان القرآن مكون من مثل هذه الحروف، ومع ذلك عجزتم ايها المشركون عن ان تأتوا بمثله.

{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} .

ما كان للناس ان يعجبوا وينكروا إنزال الوحي على رجل من جنسهم. ولِمَ هذا التعجب والانكار، والله قادر على ان يتصل بأي عبد من عباده ويصطفيه برسالته، {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الانعام:

‌ 1

24] وان لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام من الصفات والمكرمات ما يؤهّله الرسالة الكريمة.

وبعد ان بيّن الله عجبَ الكافرين من الوحي الى النبي الكريم بيّن حقيقةَ ما أوحى به إليه، وهو انذارُ الناس وتحذيرهم من عذابا لله، وتبشيرُ المؤمنين بأ، هلم منزلةً عالية عند ربهم نالوها بصدق القول وحسن النية.

{قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ} .

فلما أتاهم بوحي الله وتلاه علهيم قالوا: ان هذا الرجلَ ساحرٌ أمره واضح، فما جاءَ به سحرٌ لأنه خارق للعادة في تأثيره على الناس، وحذْبه النفوس الى الايمان به.

قراءات:

قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي: «لساحر مبين» بالف بعد السين. وقرأ الباقون «لسحر مبين» بغير الف «.

ص: 179

خلق السماوات والارض: صنعها وابدعها. في ستة ايام: في ست مراحل فقد يكون اليوم الاف السنين من ايامنا، العرش: مركز التدبير ولا نعلم كنهه وصنعته. استوى: استولى. القسط: العدل. حميم: حار شديد الحرارة.

بعد ان افتتح السورة بذِكر آيات الكتاب، وأنكر على الناس تعجُّبَهم من أن يوحى الى رجل منهم يُنذر ويبشّر، جاء بذكر أمرين.

1-

إثبات ان لهذا الكون إلهاً قادراً يفعل ما يشاء.

2-

اثبات البعث بعد الموت والجزاء على الأعمال من ثواب وعقاب.

{إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش يُدَبِّرُ الأمر} .

إن ربكم أيّها الناس هو الذي خلقَ هذا الكونَ بأسرِه في ستّ مراحل تتضمن المرحلةُ منها أحقاباً وأزمنة ليست كأيّامنا هذه، قد تم في كّلٍ منها طور من اطوار الخلق، ثم استوى على عرشه وهيمَنَ بعظيم سلطانه ودبّر أمورَ مخلوقاته.

{مَا مِن شَفِيعٍ إِلَاّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} .

فليس لأحدٍ سلطانٌ من الله من شيء، ولا يستطيع أحد من خلقه ان يشفع لأحدٍ الا بإذنه.

{ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه} .

ذلكم الموصوفُ بالخلق والتقدير والحكمة والتدبير هو الله ربكم وولي نعمتكم، فاعبُدوه، وصدِّقوا رسوله، وآمنوا بكتابه.

{أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} .

اتجهلون هذا الحق الواضح فلا تتذكرون نعمة الله، وتتدبرون آياته الدالة على وحدانيته.

{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ الله حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} .

كما بدأت الله الخلقَ فإليه مرجعُكم، ومرجع المخلوقات كلها. لقد وعد الله بذلك وعداً صادقاً لا يتخلّف. . . إنه بدأ الخلق بقدرته، وسيعيده بقدرته بعد فنائه.

{لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط} .

سوف يعيدهم الله من أجل ان يثيب المطيعين بعدْله التام.

{والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} .

واما الكافرون فلهم شراب في جهنم شديد الحرارة يقطّع أمعاءَهم، وعذابٌ شديد جزاء أعمال الكفر والعناد.

ص: 180

الضوء والضياء: النور. والضوء اقوى من النور، لان الضوء م الشمس ذاتها، والنور في القمر مستمد من الشمس.

قدّره منازل: جعله يتنقل بيها وهي ثمانية وعشرون منزلا. غافلون: ناسون، الغفلة النسيان. آخر دعواهم: آخر دعائهم.

بعد ان ذكر الله الآيات الدالةَ على وجوده، ومنها خلقُ السماواتِ والأرض على ذلك النظام المحْكَم، ذَكَر هنا أنوعاً من آياته الكونية الدالة على ذلك. وهو تفصيلٌ لما تقدّم وبيان له على وجه بديع واسلوب عجيب.

{هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً} .

إن ربكم هو الذي خلق السماواتِ والأرضَ وهذا الكونَ العجيب، وفيه جعل الشمس تشع ضياء، والقمر يرسل نورا.

{وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين} .

وجعل للقمرر منازلَ عددُها ثماينة وعشرون يتنقل فهيا، فيختلف فيها، فيختلف نورُه تبعاً لهذه المنازل، وذلك لتستعينوا به في تقدير مواقيتكم، وتعلموا عدَد السنين والحساب، فتحسِبوا الأشهرَ والأيام وتضبطوا فيها مواعيدَكم وعباداتكم ومعاملاتكم.

{مَا خَلَقَ الله ذلك إِلَاّ بالحق يُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .

وما خلق الله ذلك إلا بالحكمة، وهو هنا يبيّن الدلائل ويبسط الآياتِ الدالةَ على ألوهّيته وكمالِ قدرته لِقومٍ يتدبرون بعقولهم.

وقد قررت هذه الآيةُ الحقيقةَ العلمية التي لم يصل إليها العمل الا أخيراً، وهي ان الشمس جرم ملتهب، ومصدرُ الطاقات، ومنها الضوء والحرارة، بينما القمر جِرم مظلم غير ملتهب. أما النور الذي يبدو منه فهو مستَمدٌّ من الشممس. ولذا عبّر الله تعالى عن الشمس بأنها ضِياء، يعين مصدراً للضوء، وأن القمر نورٌ منير فقط. كذلك اشارات الآيةُ الى حقيقة فلكية، وهي ان القمرَ يدور حول الأرض، فيحتل مكاناً خاصّا بالنسبة لها في كل يوم. وهو يُتم دورتَهُ في الشهر القمري، وبه تُعلم السنة القمرية. وعلى ذلك يمكن بطريق الرؤية الحِسْبَةُ لِمنازله ومعرفة السنين وحساب الأشهر.

قراءات:

قرأ ابن كثير برواية قنبل: ضِئاء بالهمزة. والباقون بالياء. وقرأ ابن كثير وأهلُ البصرة وحفص: «يفصّل الآيات» بالياء والباقون: «نفصل» بالنون.

{إِنَّ فِي اختلاف الليل والنهار وَمَا خَلَقَ الله فِي السماوات والأرض لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} .

ان في تعاقب الليل والنهار واختلافهما بالزيادة والنقصان، وفي خلق السماوات والأرض وما فيها من الكائنات، لدلائلَ عظيمةً وبراهينَ بيّنة على وجود الصانع، وألوهيته، وقدرته لقومٍ يتّقون مخالفةَ سُننه تعالى.

وتشير هذه الآية الى حقيقة مشاهَدة، وهي اختلاف طويل الليل والنهار على مدار العام في أي مكان على الأرض، وكذلك تعاقُب النهار والليل وكون النهار مبصراً، والليل مظلما. وتفسير ذلك أساسه دورانُ الأرض حول محورها وحول الشمس. وكل هذه دلائلُ على قدرة الخالق المبِع، والعلمُ بها لم يكن البتّةَ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا دليل على انه وحيٌ من الله إليه.

ص: 181

{إَنَّ الذين لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بالحياة الدنيا واطمأنوا بِهَا والذين هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} .

لا يرجون لقاءنا: لا يريدون، لا يأملون، لا يتوقعون.

ان الذين لا يتوقّعون لقاءَ الله في اليوم الآخر، إذا اعقتدوا أن الحياةَ الدينا هي منتهاهم ليس بعدها حياة، فقَصَروا كل همِّهم على الحصول على أغراضهم منها، واطمأنوا الى ذلك، ولم يعملوا لما بعدها، والّذين غفلوا عن آيات الله الدالة على البعث والجزاء- أولئك مأواهمُ النارُ بما كانوا يكسِبون.

{إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار فِي جَنَّاتِ النعيم} .

ذلك جزاءُ الفريق المنحرِف الضال، اما الفريق المقابلُ وهم الذين آمنوا إيماناً صحيحا، وعملوا الصالحات في ديناهم بمقتضى هذا الايمان، فإنهم ربم يثبتهم على الهداية، ويُدخلهم يوم القيامة جناتٍ تجري الأنهار خلالها، يتنعمون خالدين فيما ابدا.

{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} .

لي في دار النعيم هموم ولا شواغل، فهم يتلذّذون بالدعاء الى الله وتسبيحه، وتنزيهه عما كان يقوله الكافرون في الدنيا، ونياجونه بقولهم: سبحانك اللهُمّ، ويحيّي بعضم بعضا بالسلام، فهي تحية المؤمنين.

وآخرُ كل دعاءٍ يناجون به ربَّهم، ومطلب يطلبونه من احسانه وكرمه قولهم:«الحمد رب العالمين» على توفيقه إياهم بالايمان وفوزهم برضوانه عليهم.

ص: 182

الطغيان: مجاوزة الحد في الشر: يعمهون: يترددون فيحرتهم وضلالهم. القرون: جمع قرن ويطلق على كل مائة سنة، وفي كتب اللغة الختلاف كبير في تحديده. خلائف: جمع خليفة وهو من يخلف غيره.

{وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} .

لو أجاب اللهُ ما يستعجِلُ به الناسُ على أنفسٍهم من الشرّ مثلَ استعجالِهم لِطلبِ الخير لأَهَلَكَهُم جميعا، ولكنّه يتلطّف بهم، فيرجئُ هلاكَهم، انتظاراً لما يظهر منهم حسب ما علمه فيهم، فّتتضح عدالتُه في جزائهم.

وفي هذه الآية جواب لمشركي مكة الذين قالوا: اللهمّ إن كان ما يقولُ محمد حقّا في ادّعاء الرسالة فأَمطْر علينا حجارة من السماء.

لقد استعجلوا وقوعَ الشر، كما ستعجلون الخير، ولكنّ الله أخّرهم الى ما أراده.

{فَنَذَرُ الذين لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .

إننا ندعُ لا يتوقّعون لقاءَنا فيما هم فيه من طغيان في الكفر والتكذيب، يتردّدون فيه متحيّرين لا يهتدون سبيلاً للخروج منه.

قراءات:

قرأ ابن عامر ويعقوب: «لقَضى الهيم أجلهم» بفتح القاف والباقون «لقُضي الهيم أجلهم» بضم القاف.

{وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً} .

واذا أصاب الانسانَ ضررٌ في نفسه او مالِه او نحوِ ذلك أحسَّ بضعفه، ودعا ربَّه على أي حال من أحواله: مضجِعاً لجنْبه، او هو قاعد، أو قائم على قدميه، حائراً في أمره - دعاه ان يكشف ما نزلَ به من مِحنته.

{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ} .

فلما استجاب الله له، فكشف عنه ضره وأزال عنه السوء، انصرف عن جانبِ الله، مضى في طريقِه واستمرَّ على عصيانه ونسيّ فضلَ الله عليه، كأن لم يصبْه ضرر، ولم يدعُ الله ليكشفَه عنه.

{كذلك زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .

وكمثلِ هذا المسْلك زُيَّن الشيطانُ للمشركين من طغاةِ مكّة وغيرِهم ما كانوا يعملون من سوءٍ وكفرٍ وعناد، وما اقترفوه من باطل.

{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كذلك نَجْزِي القوم المجرمين} .

بيّن هنا ما يجري مجرى التهديد، وهو أنه تعالى يُنزل بهم عذابَ الاستئصال كما حدّث للأمم الغبرة قبلضهم حتى يكون ذلك رادعاً لهم عن هذا الطلب. ولقد أهلكْنا كثيراً من الأمم السابقة قبلكم بسبب كفِرهم حين جاءتهم رسُلهم بالآيات الواضحة على صِدق دعوتِهم الى الإيمان، وما كان في عِلم الله أنهم سيؤْمنون، لإصرارهم على الكفر والعصيان. فاعتبروا يا كفّارَ قريش، فكما اهلكنا مَن قبلكم، سنجزي المجرمين بإهلاكهم.

{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الأرض مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} .

ثم جعلناكم يا امة محمد خلفاء الأرض، تعمرُونها من بعدِ هؤلاء السابقين، لنختبركم ونرى ماذا تعملون في خلافتكم فنجازيكم به بمقتضى سُنّتنا فيمن قبلكم. وهذا واضح في ان هذه الخلافة منوطةٌ الأعمال الصالحة والاستقامة والعدل والاحسان، حتى لا يغترَّ إنسان بما سيناله من مُلك او ولاية. وهذا كما قال تعالى:{وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} [النور: 55] .

ص: 183

من تلقاء نفسي: من عند نفسي. لبثت قيكم عمراً: مدة من الحياة.

{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الذين لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ} .

واذا تتلى على هؤلاء المشركين آياتُنا الواضحة، قال لك يا محمد الكافرون الذين لا يتوقّعون لقاءَنا ولا يخافون عذابَ الله: أحضِر لنا كتاباً غير القرآن، او بدِّلْ ما فيه مما لا يُعجبنا ولا يخالفُ دينّنا ومعتقداتِنا الوثنية.

{قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يوحى إِلَيَّ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} .

قل لهم ايها الرسول: لا يمكنني أن أُغير او ابدل من عندي ولا يجوز لي ذلك، وما أنا الا متَّبعٌ ومبلّغٌ ما يوحي إلي من ربي، إن أخاف إن خالفتُ ربي عذابَ يومٍ عظيمَ الشأن هو يوم القيامة.

{قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ} .

قل لهم، ايها الرسول: لو شاءَ اللهُ ان لا يُنزل عليَّ قرآناً من عنده، وان لا أبلّغكم به - ما أنزله، وما تلوته عليكم، ولا أعلمكم اللهُ به. . لكنه نَزَل، وأرسلني به، وتلوتُه عليكم كما أمرني.

{فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} .

وقد مكثتُ بينكم زمناً طويلا قبل البعث لم ادَّعِ فيه الرسالة، ولم أتلُ عليكم شيئا، وانتم تشهدون لي بالصدق والامانة. أفلا تعقِلون أن مَن عاش بينكم أربعين سنةً لم يقرأ كتابا ولم يلقَّن من أحدٍ علما، ولم يمارس اسالي البيان من شعرٍ ونثر - لا يمكنه ان يأتَي بمثلٍ هذا القرآن المعجِز، فاعقِلوا الأمور وأدركوها.

قراءات:

قرأ ابن كثير: «ولأدراكم به» والباقون: «ولا أدراكم به» .

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} .

ان شر أنواعِ الظلم الإجرام افتراءُ الكذب على الله، والتكذيبُ بآيات الله التي جاء بها رسوله.

{إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ المجرمون} .

لن يفوز الذين اجترموا الكفر وافتروا على الله الكذب عندما يلاقون ربهم.

ص: 184

بعد ان بيّن الله في الآيات السابقة أن المشركين طلبوا ان يأتي محمد بقرآن غير هذا او تبديله، لأن فيه طعناً على آلهتهم، وتسفيه آرائهم في عبادتها - نعى عليهم هنا عبادة الأصنام وبين حقارة شأنها، اذا لا تستطيع ضرا ولا نفعا، فلا يليق بالعاقل ان يعبدها من دون الله.

{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ} .

ان هؤلاء القوم يعبدون اصناما لا تملك لهم نفعا ولا ضرا.

{وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله} .

ويقولون: ان هذه الاصنام تشفع لنا عند الله في الآخرة.

{قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السماوات وَلَا فِي الأرض} .

قل لهم أيها الرسول مبينّا لهم كذبهم، وافتراءهم على الله: هل تخبرون الله بشيء لا يعلم له وجوداً في السماوات ولا في الارض!؟ ما الذي تزعمون!

{سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .

تنزّه ربُّنا وعلا علواً كبيرا عكن الشريك، وعما تزعمون بعبادة هؤلاء الشركاء.

قراءات:

قرأ حمزة والكسائي: «عما تشركون» بالتاء، والباقون «عما يشركون» بالياء.

{وَمَا كَانَ الناس إِلَاّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .

بعد ان اقام الأدلة على فساد عبادة الاصنام - ذكر هنا ما كان عليه الناس من الوحدة في الدين، ثم ما صاروا اليه من الاختلاف والفرقة. وقد كان الناس أمةً واحدة على الفِطرة، والقطرة في أصلها كانت على التوحيد، ثم بعث الله اليهم الرسل لارشادهم وهدايتهم. فاختلفت نزعاتهم، منهم من غلب عليه الخير، ومنهم من غلب عليه الشر. وقد اقتضت مشيئة الله ان يُمهِلهم جميعا الى أجَل يستوفونه، وسبقت كلمته بذلك لحكمة يريدها، ولولا ذلك لعجَّل لهم الهلاك بسبب الخلاف الذي وقعوا فيه.

{وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين} .

ويقول هؤلاء المشركون: هلاّ أُنزل على محمد معجزةٌ غير القرآن تُقْنعنا بصدق رسالته كآيات الانبياء السابقين الين يحدّثنا عنهم!! ومعنى هذا أنهم ما زالوا غير مدركين طبيعة الرسالة المحمدية، من حيث أنها ليست معجزةً وقتية تنتهي بانتهاء جيلهم، بل معجزة دائمة وعامة تخاطب الناس جميعا جيلا بعد جيل. ولذلك اجابهم جوابا فيه الامهال والتهديد: قُل لهم ايها الرسول: إن نزول الآيات غيبٌ، ولا يعلم الغيبَ الا الله، فإن كان القرآن لا يقنعكم فانتضِروا قضاء الله بيني وبينكم في ذلك، وانا معكم من المنتظرين.

روى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام انه قال:

«ما من نبي الا وقد أُعطيَ من الآيات ما مثله آمنَ عليه البشر، وانما كان الذي أُوتيتُه وحياً أوحاه الله ليّ، فأرجوا ان أكونَ اكثرَهم تابعاً يوم القيامة» .

ص: 185

أصل الذوق: ادراك الطعم بالفم، ومعنى «اذقنا الناس رحمة» : اعطيناهم صحة ومالا ونعمة. المراد بمكر الله: تدبيره الخفي. الفلك: السفن يطلق على الجمع والواحد. بريح طيبة: موافقة، مريحة سهلة، ريح عاصف: شديدة مهلكة. احيط بهم: هلكوا.

بعد ان ينتهي الكتاب من عرض ما يقول المشركون وما يعترضون به ويطلبون، يعود الى الحديث عن بعض طبائع البشر، حين يذوقون الرحمةً والنِعم بعد الضّرِ، كما تحدّث من قبل عنهم حين يصيبهم الضرُّ ثم ينجُون منه. ويضرب لهم مَثَلاً مما يقع في الحياة بصدق ذلك.

{وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ في آيَاتِنَا} .

عجيبٌ أمرُ هذا الانسان لا يذكُر اللهَ إلا ساعة العسرة، فاذا أنعمنا على الناس من بعد شدةٍ أصابتْهم في أنفسهم او أهليهم وأموالهم، لم يشكروا الله على ما أنعمَ به، بل تجدهم يقابلون ذلك بالإصرار على التكذيب والكفرِ بالآيات.

{قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} .

قل لهم أيها الرسول: إن الله أقدرُ على التدبير وإبطال ما يمكرون، وأن الحَفَظَةَ من الملائكة الموكّلين بكم يكتبون اعمالكم سيحاسبكم الله عليها ويجازيكم بها.

قراءات:

قرأ يعقوب: «ما يمكرون» بالياء، وبالباقون «ما تمكرون» بالتاء.

ثم ضرب الله مثلاً من أبلغِ أمثلا القرآن الكريم في صورة حيَّة كأنها واقعةٌ يشاهدها الناس، وتتبعها المشاعر ليَظْهَر لهم بهذا المثَلِ ما هم عليه فقال:

{هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} .

ان الله تكفُرون بِنِعمِه وتكذّبون بآياته، هو الذي وهبكم القدرةً على السَّير والسعي في البر مشاةً وركبانا، وفي البحر بما سخّر لكم من السفُن التي سخّرها لكم، وجَرَت بكم تدفعُها ريح طيّبة اطمأنتم اليها وفرحتم بها- هبّت ريح شديدة أثرات عليكم الموجَ من كل جانب، وأيقنتم أن الهلاكَ واقع لا محالة، ولا تجدون ملجأً غيرَ الله. عند ذلك تدعونه مخِلصين له الدّعاء موقنين أنه لا منقذّ لكم سواه، ومتعهدين بأن تكونوا من الشاكرين إن انجااكم من هذه الشدة.

{فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} .

هذه تكملة للصورة. فلما أنجاهم اللهُ مما تعرّضوا له من الشدّىة والهلاك، نقضُوا عهدَهم، وعادوا بيغون في الأرض ويفسدون بغير الحق.

قراءات:

قرأ ابن عامر. «ينشركم» بالنون والشين. والباقون «يسيركم» بالياء والسين والياء اي زمان وُجدوا فقال:

{ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الحياة الدنيا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .

ص: 186

أيها الناقضون للعهد، ان عاقبةَ بغيكم وظلمكم سترجِع عليكم وحدَكم، أما ما تحصُلون عليه من ظلمكم هذا فهو مجرد متاع دنيوي زائل، ينقضي بسرعة، ثم تعودون الى الله فيجزيكم بأعمالهكم التي اقترفتموها.

والحق، أن البغي، وهو أشدّ أنواع الظلم، يرجع على صاحبه، لما يولّد م العداوة والبغضاء بين الأفراد، ولما يوقد من نيران الفتن في الشعوب.

روى الامام احمد والبخاري عن أنس رضي الله عن هـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ هنّ رواجع على أهلها: المكر، والنكث، والبغي» ثم تلا: {بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} . {وَلَا يَحِيقُ المكر السيىء إِلَاّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]{فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ} [الفتح: 11] .

ص: 187

الزخرف: الزينة وكمال حسن الشيء، وزخرف الارض الوان نباتها. كأن لم تغنَ بالأمس: كأن لم تكن مأهولة. دار السلام: الجنة.

لما كان سببُ بغي الناس في هذه الدنيا هو إفراطُهم في حبّها، والتمتع بزينتها وما يجنون منها - ضَرب اللهُ بذلك مثلاً يَعْزِف بفضله العاقلُ عن الغرور بها، ويدفع الى الكف عن الظلم والفساد.

{إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض مِمَّا يَأْكُلُ الناس والأنعام. . . الآية} .

شبّه اللهُ حال الحياة الدنيا في روعتها وبهجتها، بماء أنزلَه من السماء، فاختلط به نباتُ الأرض مما يأكلُه الناس والحيوان، فيزدهر ويُثمر، وتزدانُ به الأرض نضارةً وبهجة، حتى إذا بلغتْ هذه الزينةُ تمامها، وأيقن أهلُها أنهم ملكوها وقَدَروا على الاستمتاع بثمارِها وخيراتها، أتاها أمرُ الله فجأة، فباتت كالأرض المحصودة التي قُطع زرعها ولم يبقَ منه شيء.

{كذلك نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .

إننا بالأمثال الواضحة، نبين الآيات ونفصل ما فيها من الاحكام لقوم يتفكّرون ويعتبرون ويعلمون أن الدنيا زائلةٌ وأن متاعها قليل.

{والله يدعوا إلى دَارِ السلام وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} .

إن الله يدعو الناسَ جميعاً الى العمل الصالح والإيمان الصادق ليدخُلوا الجنة، وهو يهدي من يشاء الى الطريق الموصل إليها وهو الإسلام.

ص: 188