الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقضينا: اخبرنا بالوحي. لتعلن: لتطغون. فجاسوا خلال الديار: دخلوها ووطئوها. رددنا لكم الكرة: اعطيناكم الغلبة. اكثر نفيرا: اكثر عدداً. وليتبروا ما علوا تتبيرا: وليهلكوا ويدمروا ما استولو عليه من بلادكم تدميرا. حصيرا: مكانا للكافرين.
بعد ان ذكر تعالى انه أكرم رسولَه محمداً عليه الصلاة والسلام بالإسراء من مكة الى بيت المقدس- ذكر هنا ما أكرمه به موسى قبله من إعطائه التوراة، وجعلها هدى لبني اسرائيل، لكنهم أعرضوا عنها وليم يعملوا بهدْيها، بل أفسدوا في الأرض.
فافسدوا واعلوا علوًّا كبيرا.
كانت هذه الحملة الاولى من الملك البابلي نبوخذ نصر سنة 597 قبل الميلاد على مملكة يهوذا، فاستولى على القدس وسبى اليهود ومعهم ملكهم «يهوياكين» واهل بيته، واخذ جميع ما عندهم من اموال وذهب وكنوز.
ثم عاد نبوخذ نصر في حلمة ثانية سنة 586 قبل الميلاد يعين بعد احد عشر عاما واحتل القدس وخرجها واحرق الهيكل وسبى نحو 50 الف من اليهود.
وبقي اليهود في بابل الى ان جاء كورش الاخميني سنة 539 قبل الميلاد فسمح لهم بالعودة الى فلسطين، فعاد قسم وبقي عدد كبير في بابل ولم يعودوا لانهم استوطنوا واصبح لهم أملاك وتجارة، وحالوا بناء الهيكل، فاحتج السكان من غير اليهود والاقوام المجاورن من الحثيين والحوريين والعمونيين والأدوميين، ولم يتم بناء الهيكل، وبقي الى ان احتل دارا الأول ملك الفرس البلاد فسمح لهم ببناء اليهيكل سنة 515 قبل الميلاد.
فاذا اعتبرنان هذه الفترة كلها هي الأولى، تكون هي المقصودة بقوله تعالى:{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}
وتكون هذه الفترة تفرة استقرار. ثم جاء عهد اليونان حيث لاقوا اسوأ الحالات في عهد الملك السلوقي انطيوخس الرابع وذلك سنة 175 16
4
قبل الميلاد، اذا دمر الهيكل ونهب خزائنه واجبر اليهود على نبذ اليهودية واعتناق الوثنية اليونانية. وبقي الصراع بين اليهود يشتد حتى اندلعت ثورة المكابيين ودام عصرهم نحو قرن وربع، الى ان جاء الرومان، وعين الملك هيرودس الأدومي فسمح لليهود باعدادة بناء الهيكل سنة 39 قبل الميلاد. وفي سنة 66 م. قامت ثورة عارمة شاملة من اليهود على الحكم الرماني، بعد سلسلة من المعارك سيطر تيطس الروماني على الموقف وتمكن من القضاء على اليهود سنة 70. واوقع فهيم مذبحة مريعة وخرب المدينة، واحرق الهيكل ومره نهائيا فأُزيل من الوجود بحيث لم يعد يهتدي الناس الى موضعه، وسيق الايحاء عبيدا.
ويقول المسعودي ان عد القتلى من اليهود والمسيحيين بلغ ثلاثة ملا يين، فيكون هذا معنى قوله تعالى:
هذا محصل تاريخ اليهود في فلسطين والله اعلم.
فاذا تأملنا في الآيات الكريمة نجد النصَّ الصريحَ على ان بين اسرائيل اذا حكموا وسيطروا طغوا وبغوا وافسدوا في الارض وعلَو كبيرا، واذا لم يحكموا افسدوا وسيطروا على المال، وهذا ما نراه اليوم من طغيانهم وبيغهم وتسلطهم في فلسطين. وهم في بقية انحاء العالم ايضا مفسِدون مسيطرون، يسيِّرون الحكام والزعماء على اهوائهم وحسب ما يريدون، وينشرون الفساد في كل ارجاء العالم، وسيظلون على هذا الحال ولا يمكن ان يغيروا من طباعهم وتعاليم دينهم المحرَّف. والله تعالى يقول:
فالمفوم أن اليهود عادوا وسيعودون الى الإفساد ما دام لهم سيطرة، وفيهم بقية، فلهم جهنم تحصرهم فلا يفلت منهم احد، وتتسع لهم فلا يند عنها احد.
فالمفسرون على اختلاف طبقاتهم اعتبروا المرَّتين مضى زمانُهما، الاولى في عهد نبوخذ نصر والاخير في عهد تيطس الروماني حيث زال الهيكل وزال حكمهم.
وفي عصرنا هذا وبعد وجود كيان الهيود الجديد، كتب بعض المفكرين يقول: ان الفترة الثانية هي هذه بوجود دولة اسرائيل (ودار نقاشٌ طويل في الصحف، والمجالس، وشهدتُ بعض هذا النقاش في المغرب لما كنتُ هناك) وان الله سبعث عليهم من يدمرهم.
والواقع ان وجود اسرائيل تقوّى وتمركز بتفككنا نحن العرب والمسلمين، وبعدنا عن ديننا. ونحن الذين جعلناهم اقوياء بخلافاتنا، ومحاربة بعضنا. وواقعهم غير صحيح، ودولتهم تعتمد على شيئين امريكا تمدها بالمال والسلامح، وضعفنا انشقاقنا وخلافاتنا، فمتى وحّدنا كلمتنا وجمعنا صفوفنا وعزمنا على استراداد مقدساتنا فان اسرائيل تزول ولا يبقى لها وجود، والله تعالى:{إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 8] .
قراءات:
قرأ حمزة وابو بكر وابن عامر: «ليسوء» بالافراد، وقرأ الكسائي:«لنسوء» بالنون.
ينتقل الكلام على القرآن الذي يرشد الناس الى اقوام السبل وأسلمها في الوصول الى السعادة الحقيقة في الدنيا، ويبشر المؤمنين الصادقين العاملين، بالأجر العظيم، وينذِر الذين لا يصدّقون بالآخرة والحساب والجزاء بالعذاب الأليم في جهنم.
{وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} .
الانسان عجول بطبعه فغالبُ الناس اذا تألموا من شيء لا يصمدون، فيسارعون بالدعاء على انفسهم وعلى اولادهم كما يدعون لأنفهسم بالخير، فالمطلوب من المؤمنين ان يضبطوا أعصابهم، ويصبروا فان المشكلة مهما عظُمت لا بدّ ان تحل، ويبعث الله الفرج.
{وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ. . . .} .
وجعلنا الليل والنهار بتعاقبهما وتناسقهما علامتين دالّتين على وحدانيتنا وقدرتنا، فأذهبنا آية الليل وصار ظلاما، وجعلنا النهار مضيئا يبصر فيه الناس ويتصرفون في اعمالهم ومعاشهم، ولتعلموا باختلاف الليل والنهار عدد السنين وحساب الاشهر والأيام وكل شيء لكم فيه مصلحة بّيّناهُ لكم بياناً واضحا.
طائرة: عمله. في عنقه: ملازم له كالقلادة. كتابا يلقاه منشورا: صحيفة فيها جميع اعماله. الوزر: الاثم والذنب.
تتحدث هذه الآيات الثلاث عن بعض المشاهد يوم القيامةن فكل انسان مسؤول عما يقول ويفعل، فجميع ما نلفظه من كلام حسنا كان او قبيحا، حمدا او سخطا - كل ذلك يُحفظ في سجل كامل:{مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] وهذا السجل سوف يعرض امام محكمة الآخرة، ليتم حساب الانسان، فيخرج له كتابه ويلقاه منشورا لا يغادر كبيرة ولا صغيرة. وكذلك اعمالنا مسجلة مثل الاقوال، وهكذا شأن ما يقترفه الانسان، وشأن الاحداث التي يعيشها، فان شريطاً كاملا لتلك الاحداث سوف يوضع بين يد كل فرد يوم القيامة حتى يقول الناس:{ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَاّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 50] وعندما يقدم للمحكمة يقال له: {اقرأ كَتَابَكَ كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} .
من اهتدى وابتع طريق الحق نفع نفسه، ومن ضل وحاد عن الطريق فقد اضر بنفسه، ولا يتحمل انسانٌ ذنب انسان آخر، وحاش لله ان يعب احدا قبل ان يبين له الحق عن طريق الرسل الكرام.
المترفون: المنعمون المتمردون الذين لا يبالون. امرنا مترفيها: بالطاعة، ففسقوا. فدمرناها: اهلكناها. العاجلة: الدنيا. يصلاها: يدخلها ويقاسي حرها. مدحورا: مطرودا. محظورا: ممنوعا.
الحياة لها قوانين لا تخلتف، وسنن لا تتبدل كما بين الله لنا ذلك، والله لا يأمر بالفسق والفحشاء، ولكن اذا كثر الفساد في مجتمع ما، وطغى كبراؤه بالانغماس في اللذات واتباع الشهوات، ولمن يوجد من يضع حدا لهذه الفوضى، ويضرب على ايديهم - نزل بلاء الله بهم وهلكت القرية ودمرت بمن فيها.
ويوضح هذا قراءةُ الحسن البصري: أمّرنا مترفيها، بتشديد الميم. وبذلك تكون الصورة واضحة تمام الوضوح، والناس دائما تبع للمترفين من السادة والرؤساء.
قراءات:
قرأ يعقوب: امرنا بمد الهمزة. وقرأ حسن البصري: «امرنا» بالتشديد وهي ليست من القراءات السبع المعتمدة.
وقد أهلكنا أمماً كثيرة من بعد نوحٍ، بتمردهم على انبيائهم وجحودهم آيات الله، وحسبك ايها الرسول بيان ربك إعلامه بأنّ الله عالمٌ بكل شيء، وهو الخبيرُ بذنوب عبادِه البصير بها. وفي هذا تهديدٌ ووعيدٌ لمن كذّبه من قومه.
ثم قسما لله عباده قسمين: محبٍ للدنيا لا يشبع منها، ومؤمنٍ مخلص محب للآخرة:
من كان يطلب لذات ومتاعها ويعمل لها ولا يؤمن بالآخرة عجلنا له في الدنيا ما نشاء من الغنى والسعة في العيش، وله في الآخرة جهنم يصلاها خالدا محتقراً مطرودا من رحمة ربك.
{وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} .
ومن اراد بعمله الآخرة، وعمل لها وهو مؤمن بالله وجزائه فاولئك يقبلهم بالله تعالى، وينالون عنده خير الثواب.
ثم بين الله تعالى ان عطاءه لا يخطر على بالِ احد فقال:
{كُلاًّ نُّمِدُّ هؤلاء وهؤلاء مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} .
ورزقُ الله وعطاؤه للناس اجمعين فكل من يعمل ويسعى يحصل على عطاء ربنا في هذه الدنيا، وما كان عطاء ربك ممنوعا من احد، مؤمنا كان او كافرا، ما داموا يعملون وينشطون في هذه الحياة.
{انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} .
ان التفاوت في هذه الحياة المعيشة ملحوظ بين الناس بحسب وسائلهم وأسبابهم ونشاطهم في الاعمال. وان تفاوتهم في الدار الآخرة درجات من تفاوتهم في الدنيا، فالآخرة هي التي تكون فيه الرفعة الحقيقية، والتفاضل الحقيقي.
مخذولا: غير منصور. خذله: تخلى عنه. قضى: امر وأجب. اف: كلمة معناها التضجر. لا تنهزهما: لا تزجرهما بغلظة. خفض الجناح: التواضع والتذلل. للأوابي: للتوابين الراجعين الى الله.
{لَاّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً} .
لا تُشرك بالله احداً، فتبقى ملوماً لا ناصر لك، ويكون الخذلان مكتوبا عليك.
{وقضى رَبُّكَ أَلَاّ تعبدوا إِلَاّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً} .
وقد امر الله تعالى بعبادته باخلاص واكد ان لا نبعد غيره، ثم بعد ذلك امرنا بالبر والطاعة بالوالدين، لانهما عماد الاسرة، وفضلهما على الانسان لا يحد، وان اكبر نعمة تصل الى الانسان هي نعمة الخالق، ثم نعمة الوالدين.
واذا كبرا في السن او كان احدهما عندك في مرحلة الشيخوخة وحال الضعف في آخر العمر، فلا تتضجر منهما، ولا تتأفف، ولا تزجرهما، وقل لهما قولا جميلا ليِّنافيه احسان اليهما وتكريم لهما. وألن لهما جانبك وتواضع لهما مع الاحترام الزائد، وادع لهما وتوجه الى الله ان يرحمهما برحمته الباقية، كفاء رحمتهما لك في صغرك وجميل شفقتهما عليك. وهما اديت لهما من خدمات فلن تستطيع ان تكافئهما.
وقد وردت احاديث كثيرة في بر الوالدين. منها عن عبد الله بن مسعود قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم اي العمل أحب الى الله ورسوله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم اي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله» .
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وخلف: «اما يبلغان» وقرأ ابن كثير ويعقوب: «أف» بفتح الفاء من غير تنوين. وقرأ حفص واهل المدينة «اف» بالكسر والتنوين كما هو في المصحف، والباقون «أفِّ» بدون تنوين.
ربكم ايها الناس اعلم منكم بما في ضمائركم، فإن أنتم أصلحتم نياتِكم واطعتم ربكم، فانه يتوب عليكم، ان هفَوتُم واتيتم بما يخالف اوامره ثم تبتم، لانه دائم المغفرة للتوابين.
التبذير: انفاق المال في غر موضعه. اخوان الشياطين: كل من خرج على الدين وسلك سلوكا مشينا. ميسورا: لينا. مغلولة: مقيدة، كناية عن البخل. ولا تبسطها كل البسط: لا تنفق بدون عقل، لا تبذر. محسورا: منقطعا. خشية املاق: خوفا من الفقر. خطئا: اثما. فاحشة: كل عمل قبيح فهو فاحشة. فلا يسرف: فلا يتجاوز الحد المشروع فيه والعفُو افضل واحسن. بالقسطاس المستقيم. بالميزان العادل. ولا تقفُ ما ليس لك به علم: لا تتدخل بما لا يعنيك. ولا تمش في الأرض مرحا: لا تتكبر في مشيك ولا تتعال. لن تخرق الارض: لن تؤثر فيها شيئا. لن تبلغ الجبال طولا: لن طاول الجبال. الحكمة: المعرفة والتعقل والتخلق بهذه الاخلاق الواردة في هذه الآيات الكريمة.
في هذه الآيات الكريمة وصايا بالاقرباء والمساكين وبالغرباء الذين انقطعوا عن السفر بسبب نفاد المال منهم، ثم تعاليم خلقية قيمة بأن ننفق ولا نبذر، لأن التبذير من الامور المكروهة وهي سبل الشيطان، ثم يقول الله تعالى:
{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ. . . الآية} .
يعني اذا سألك احد الاقرباء او المساكين او ابن السبيل شيئا من المال ولم تجد ما تعطيه، الا الدعاء له، فقل لهم قولا سهلا حسنا، وعِدْه عدة حسنة، والكلمة الطيبة صدقة، وفي الحديث:«انكم لا تسَعون الناس باموالكم، فسعوهم باخلاقكم» .
ثم يأمرنا بالتوسط في الامور بان لا نبخل باموالنا كأننا مقيدون بالاغلال، ولا نسرف بالعطاء فنقعد فقراء محرومين، فالاعتدال والتوازن أساس كل شيء في الاسلام.
والله تعالى يَعدنا اذا اعتدلنا بأن يبسط الرزق ويسعه لمن يشاءَ من عباده، {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} فهو خبير بطبائعم، بصير بحوائجهم.
ثم ينص على عادة قبيحة كانت عند العرب في الجاهلية وهي قتل الاولاد خشية الفقر فيقول هنا:
{وَلَا تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} .
فينص على تحريم قتل الاولاد خوفا من الفقر، يعني ان الرجل يكون عنده المال ويكثر عنده الاولاد فيخاف من الفقر فيقتلهم. وهذا ذنب كبير، والله تعالى قد تكفل بالرزق للتجميع.
وفي سوة الانعام يقول: {وَلَا تقتلوا أَوْلَادَكُمْ مِّنْ إمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} .
وهذه لها معنى غير الآية التي في سورة الاسراء، فنا يقول تعالى لا تقتلوا اولادكم لانكم فقراء لا مال عندكم نحن نرزقكم واياهم، ففي آية الاسراء قدم رزق الابناء على رزق الآباء، {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} ، فلا تخافوا على اموالكم. وفي سورة الانعام قدم رزق الآباء على رزق الابناء {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} فهنا قتل الاولاد خوفا من وقوع الفقر بسببهم، فقدَّم رزق الاولاد، وفي الانعام لان الفقر حاصل وموجود بسبب فقر الآباء فقدم رزق الآباء، فلا يظن من لا معرفة له بان الآيتين فيهما تكرار.
ثم يؤكد على موضوع كان متفشيا في الجاهلية وهو الزنا، ولذلك سماه فاحشة وساء سبيلا. وقد اكد على تحريم هذه الفاحشة عدة مرات في القرآن الكريم، ذلك لما فيها من مفاسد واختلاط الانساب، والتعدي على حرمة الغير.
ثم نص على صيانة النفس، وانه لا يجوز بحال من الاحوال قتل الانسان بدون جناية جناها وبغير حق، وقد تقدم ايضا في سورة المائدة وغيرها النص على حرمة قتل النفس الا بالحق. . .
ثم بين هنا القصاص فقال:
فمن قُتل مظلوما بغير حق، فقد جعلنا لمن يلي امره من اقربائه الحقَّ بالقصاص، ولا يجوز لأقرابائه ان يسرفوا في القتل بان يقلوا احدا غير القاتل كما يفعل كثير من الناس، يأخذ الثأر من اي واحد من اقرباء القاتل إن هذا حرام لا يجوز في شرع الاسلام. والله سبحانه يقول: انه كان منصورا، فالله ناصره بان اوجب له القصاص من القاتل. وقد خير الاسلام اولياء القتيل بين اخذ ديته والعفو عنه او قتله، وفي الحديث الشريف:«من قتل فتيلا فأهله بين خيرتين: ان احبوا خذوا الدية» .
ثم اكد وكرر بالوصية على رعاية مال اليتيم. وقد تقدم في سورة الانعام الآية 152، وتقدم الكلام عليها مستوفى، وكذلك في اول سورة النساء.
{وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً} ان كل ما امر الله به ونهى عنه عهد الوفاء به واجب، وقد تكرر الأمر بالوفاء بالعهد في عدد من الآيات.
ثم حض على إيفاء الكيل والوزن، وان نكون امناء في المكيال والميزان وجاء ذلك في عدد من الآيات. فالأمانة والاستقامة والعدل من قواعد الاسلام {. . . ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} اجمل عاقبةً واحسن مآلا في الآخرة، لما يترتب على ذلك من حفظ الحقوق، وعدم العش والتحلي بالامانة.
والرسول الكريم يقول: «لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه، ليس به الا مخافة الله، الا ابدله الله به في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير من ذلك» .
ثم ينص على امر هام لا يزال الى الآن موجودا في مجتمعنا، وهوالفضول، والتدخل في امر الغير، والكلام على الناس، والغيبة، ونقل الكلام بدون تثبت، فيقول:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} ولا تتبع ايها المرء ما لا علم به، فلا تكن فضوليا تتدخل في شئون غيرك، ولا تنقل خبرا ما لم تتأكد منه وتتثبت من صحته من قول يقال، او رواية تروى، ومن حكم شرعي او قضية اعتقادية، ولا تشهدالا بما رأت عيناك، وسمعته اذناك، ووعاه قلبك، ففي الحديث الشريف:
«اياكم والظن، فان الظن اكذب الحديث» وفي سنن ابي داود: «بئي مطية الرجُلِ زعموا» ان الله يسأل الانسان عما فعلت جوارحه، وستسأل الجوراح نفسها عما اجترامت {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَاّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89-90] .
وانها لقواعد اخلاقية عظيمة، تؤمن سلامة المجتمع، وتجعل الناس يعيشون بامن وسلام. وهذا هو الاسلام، وهذا هو القرآن الكريم {إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} .
ثم ينهى عن خلة سيِّئُه، وصفة بغيضة يختم بها هذه الوصايا والأوامر فيقول:
التكبر صفة ممقوتة، والخيلاء الكاذبة من الأدلة على نقص العقل، ولماذا يزعو الانسان وعلى من يتكبر؛ انه من طين وسيعود الى التراب، والله تعالى بيبن له بانه ضئيل ضعيف ازاء ما في هذا الكون من مخلوقات اعظم واكبر، فلو تواضع لرفع الله كما جاء في الحديث الشريف {من تواضع لله رفعه} فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير، ومن استكبر وضَعه الله، فهو في نفسه كبير وعند الناس حقير.
كل هذه الصفات التي نهى الله عنها سيئة مكروهة عند الله. {ذَلِكَ مِمَّآ أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة وَلَا تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً} .
ان كل ما قدمنا اليك ايها الانسان هو من الحكمة التي تشتمل على التعقل والاتزان وحب المعرفة.
ثم يختمها بالتحذير من الشرك، والحفاظ على عقيدة التوحيد، وهذه بعض الحكمة التي يهدي اليها القرآن الكريم الذي اوحاه الى الرسول عليه الصلاة والسلام.
قراءات:
قرأ ابن كثير: «كان خِطَاءً كبيرا» بكسرا لخاء وفتح الطاء والمد. وقرأ ابن عامر: «خطأ» بفتح الخاء والطاء. والباقون: «خطئا» بكسر الخاء وسكون الطاء. وقرأ حمزة والكسائي وحفص: «القسطاس» بكسر القاف كما هو في المصحف، والباقون:«القسطاس» بضم القاف، وهما لغتان. وقرأ ابو بكر عن عاصم:«بالقصطاس» بالصاد. وقرأ ابن كثير وابو عمرو ونافع: «كان سيئةً» والبقاون: «كان سيئهُ» مضافا الى الهاء.
أصفاكم: خصكم. صرفنا. بينا. ليذكروا: ليتدبروا. نفورا: بعدا لا تبتغوا: تطلبوا. لا تفقهون: لا تفهمون.
{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين. . .} .
لقد انكر الله، على القائلين ان الملائكة بنات الله وكان العرب في الجاهلية يفضلون الذكر على الانثى، ولا يزال هذا في كثير من المتجتمعات الجاهلية. ولذلك قال: افضلكم ربكم على نفسه فخصّكم بالبنين، واتخذ لنفسه من الملائكة بنات بزعمكم!! والعجيب من امر هؤلاء: انهم جعلوا الملائكة اناثا، ثم ادعوا انهن بنات الله، ثم عبدوهن، ولذلك قال {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} انكم في قولكم هذا تفترون على الله بهتانا عظيما.
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَاّ نُفُوراً} .
لقد بينا في هذا القرآن احسن بيان واضحه من الامثال والمواعظ والاحكام ليتذكروا ويتعظوا، ولكنهم لتحجُّر قلوبهم لا يزيدهم ذلك التبيين لا نفورا وبعدا عن الحق.
{قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ. . .} .
قل ايها الرسول لهؤلاء المشركين لو كان مع الله آلهة خرى كما يقولون، لحاولوا الوصول الا عرش الرحمن ونازعوه الملك، ولكن هذا غير صحيح، {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلَاّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] . تنزه الله عما يقولون، وتعالى جل شأنه عما يزعمون علوا كبيرا. . .
{تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ} .
ان جميع من في هذا الكون من المخلوقات تسبح بحمده وتنزهه وتقدسه، والاكوان شاهدة بتنزهه تعالى عن مشاركته للمخلوقات في صفاتها المحدثة.
ولكن لا تفهمون تسبيح هذه المخلوقات، ولا تدركون ما يقولون لأنكم محجبون عن ذلك، والله تعالى حليم غفور لمن تاب واصلح.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابن عامر ونافع وابو بكر: «يسبح» بالياء. وقرأ ابن كثير وحفص: «عما يقولون» بالياء. وقرأ اهل الكوفة إلا ابا بكر: «عما تقولون» بالتاء.
حجابا مستورا: مانعا ساترا. اكنة: جمع كنان وهي الأغطية. وفي آذانهم وقرا: صمما. نفورا: بعدا. مسحورا: مخبول العقل.
{وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ. .} .
واذا قرأت ايها الرسول القرآن على هؤلاء المشركين جعلنا بينك وبينهم حجابا يمنع قلوبهم ان تؤمن بهذا الكلام الواضح مع انهم كانوا يتأثرون بالقرآن بفطرتهم، ولكنهم بكفرهم وعنادهم بعيدون عنه، فجعل الله بينهم وبين الرسول حجابا خفيا لا يظهر للعيون، فلا يهتدون. ثم بين السبب في عدم فهمهم لمدارك القرآن فقال:
{وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْراً} .
فقد جعل الله في قلوبهم ما يشغلهم عن سمع القرآن، كان عليها اغطية من الكفر والعناد كما قال تعالى:{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: 6] السجدة.
{وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ وَلَّوْاْ على أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} .
ينفرون من التوحيد وهم مشركون ويحبون ان تكذكر آلهتهم مع الله سبحانه وتعالى، ولقد انوا يتسمعون سرا الى القرآن ويدركون معانيه، ولكن كبرياءهم يدفعهم عن التسليم والاذعان.
يقول ابو جهل: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرفَ: أطعموا فاطعمنا، وحملوا فحملنا، وأَعطوا فاعطينا، حتى اذا تساوينا وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به ابدا ولا نصدقه. فلم تقصر افهامهم عن القرآن ولكنه العناد والكبرياء.
نحن اعلم بالسبب الذي يدعوهم للاستماع اليك، وهو الاستهزاء بك وبالقرآن، ونحن اعلم ايضا اذ هم يتناجون، اذا يقول الظالمون إن تبعون الا رجلاً مسحورا قد ذهب عقله.
{انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ فَلَا يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} .
انظر كيف ضربوا لك الامثال فمثّلوك بالشاعر والساحر والكاهن فضلوا في جميع ذلك، فلا يستطيعون الوصول الى الحق.
ورفاتا: الرفات ما تكسر وبَلَى من كل شيء. يكبر في صدروكم: يستبعد قبوله، ذرأكم: أوجدكم. فيسيغضون اليك رؤوسهم: يحركون رؤوسهم تعجبا وسخرية.
في هذه الآيات حكاية عن هؤلاء المعاندين المنكرين للحياة الآخرة، وقالوا أإذا كنا عظاما وحطاما هل نبعث في الآرخة خلقا جديدا!! قل ايها النبي: لو كنتم حجارة او حديدا، او خلقا اكبر مما تنكره قلوبكم لبُعثتم، فسيقولون: من يعيدنا؟ قل: يعيدكم الذي خلقكم اول مرة. فسيحركون اليك رؤوسهم تعجبا، ويقولون استهزاء: متى هذا البعث الذي يعدنا به؟ قل لهم: عسى ان يكون قريبا، يوم يبعثكم من قبوركم، بقدرته، ولله الحمد على كل حال، وتظنون ما لبثتم الا قليلا.
ان الحياة الآخرة ذات هدف عظيم، هو المجازاة على اعمال الدنيا، خيرا كانت اوشرا، فان للانسان ثلاثة أبعاد، يعرف من خلالها، هي: نيته، وقوله، وعمله. وهه الثلاثة تسجَّل باكملها، فكل حرف يخرج عن لساننا، وكل عمل يصدر من عضو من اعضائنا يجل في سجل ويمكن عرضه في اي وقت من الاوقات بكل تفاصيله.
ان الاكتشافات الجديدة قربت هذه لامور، فان «الكمبيوتر» العقل الالكتروني، يخزن ملايين المعلومات، فيكف بسجل الله القدير؟ . . .
ينزغ بينهم: يفسد بينهم. الوكيل: المفوض اليه الأمر. الزبور: الكتاب الذي انزل على داود. الوسيلة: القربة الى الله. محذورا: يخاف منه.
{وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ التي هِيَ أَحْسَنُ} .
قل ايها الرسول وعلِّم الناس ان يقولوا الكلمة الطيبة وينطقوا دائما بالحسنى، كما قال تعالى:{ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل: 126]«والكلمة الطيبة صدقة» والكلمة الطيبة تأسو جراح القلوب.
{إِنَّ الشيطان كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} .
ان الشيطان يدخل بينهم فيهيج فيهم المراء والشر، وربما فضى ذلك الى عناد الخصوم وازدياد فسادهم. فان الشيطان عدو كبير لبني الانسان فاحذروه.
ربكم اعلم باحوالكم ان يشأ يهِدكم للايمان قيرحمكم، وإن يشأ يعذبكم، وما جعلنا امرهم وموكولا اليك يا محمد فتجبرهم على الايمان، وانما ارسلناك بشيرا ونذيرا.
إن ربك اعلم باحوال من في السموات والارض جميعا، فيختار منهم لنبوته من يشاء، والانبياء ليسوا سواء، فقد فضل الله بعضهم على بعض بالمعجزات وكثرة التابعين، وفضل داود بالنبوة والكتاب الذي انزل عليه لا بالملك، لان داود كان ملكا نبيا، فالفضل الذي اوتيه بالنبوة.
{قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلاً} .
قل ايها الرسول لهؤلاء الذين يعبودن المخلوقين، ويزعمون انهم آلهة، ادعوا من شئتم منهم ان يكشفوا عنكم البلاء، فانهم لا يستطيعون ذلك، ولا يقدرون ان يحولوه عنكم اذا نزل بكم.
ان هؤلاء المعبودين من دون الله، يتقربون الى الله، ويحرص كل منهم ان يكون اقرب الى الله، يطمعون في رحمته، ويخافون عذابه، ان عذاب الله مخيف يجب ان يبتعد عنه الانسان بالطاعة والتقوى.
الناقة: مبصرة: معجزة فيها دلالة واضحة. قظلموا بها: فكفروا بها. احاط بالناس: احاطت بهم قدرته.
وقد جرت سُنتنا ان نهلك كل قرية ظالمة بمن فيها، او نعذب اهلها عذابا شديدا بالقتل وغيره، فليحذر قومك ذلك، فقد جرى بذلك قضاؤنا، وسُطر ذلك في اللوح المحفوظ.
{وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلَاّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} .
كان كفار قريش يقولون: يا محمد، تزعم انه كان قبلك انبياء منهم من سُخرت له الريح، ومنهم من كان يحيي الموتى، فإنْ سرك ان نؤمن بك ونصدقك فادع ربك ان يجعل لنا الصفا ذهبا. فقال: ما منعنا من ارسال الآيات التي سألوها الا تذكيب الاولين بمثلها، فان ارسلناها، وكذبوا بها، ارسلنا عليهم العذاب واستأصلناهم.
{وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ} .
وقد كنا ارسلنا الناقة الى قوم ثمود فنحروها، فكفروا، فانزلنا عليهم العذاب فأبدناهم. {بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلَاّ تَخْوِيفاً} فالآيات التي يرسلها الله ما هي الا لتخويف الظالمين ليعتبروا بها.
{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس} .
واذكر ايها النبي اذ اوحينا اليك ان ربك هو القادر على عباده، فهم في قبضته، فبلّغ رسالتك ولا تخف من احد فهو يعصمك منهم، فالله ناصرك ومؤيدك.
في صحيح البخاري والترمذي عن ابن عباس قال: «وما جعلنا الرؤيا التي اريناك الا فتنة للناس» قال: هي رؤيا عين أُريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أُسِرى به الى بيت المقدس. «والشجرة الملعونة في القرآن» هي شجرة الزقوم «.
فقد افتن اناس من المسلمين ليلة الاسراء فارتدوا، وقامت ضجة كبرى في مكة كما مر في اول هذه السورة، وكان ابو جهل يقول: ان محمدا توعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يزعم انها تنبت شجرة، وتعلمون ان النار ترحق الشجر!! وهؤلاء لا يعلمون أَنَّ الحياة الأخرى تختلف عن حياتنا كل الاختلاف ولكنهم ضلوا فلم يؤمنوا وفُتنا بالاسراء، وفتنوا بالشجرة.
{وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَاّ طُغْيَاناً كَبِيراً} ونخوف هؤلاء الضالين، فما يزيدهم هذا التخويف الا تماديا في الطغيان والضلال. والشجرة الملعونة ولا ذنب لها، والمعنى ملعون آكلها، وهذا التعبير كثير في كلام العرب.
أرأيتك: اخبرني. لأحتنكن: لاقودنهم كما اقود الدواب. موفورا. مكملا، تاما. واستفزر من استطعت: واستخف من استطعت. وأَجلب عليهم: صِح عليهم، وافرغ جهدك في جميع انواع الاغراء. بخيلك ورجلك: بفرسانك ومشاتك من جنودك.
تقدم الكلام على حسد ابليس لآدم، وأن العداوة قديمة ومنشؤها الحسد، ففي سورة البقرة {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسجدوا لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلَاّ إِبْلِيسَ أبى واستكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} [البقرة: 34] وكذلك في سورة الاعراف من الآية 11 الى الآية 18، والحسد بلية قديمة، ومحنة عظيمة للخلق.
وخلاصة هذه الآيات: واذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم سجود تعظيم وتفضيل فسجدوا الا ابليس، تكبرّ ان يسجد، لأن آدم من طين وابليس من نار، ثم طلب من الله ان يمهله الى يوم القيامة وقال ان هذا الذي كرَّمته علي، لانتقمُ من ذريته، واجعلهم يفسدون ويفسقون. فقال الله له: اذهب فمن تبعك منهم فان جهنم جزاؤهكم جميعا، وهيج من سئت منهم بصياحك واجمع عليهم اعوانك من راكب وارجل، وشاركهم في الاموال والاولاد، بحلمهم على كسبها من الطريق المحرم، وعدْهم الوعود الخلابة، وما وعود الشيطان الا كذبا وزورا وغرورا.
أما عبادي المخلصون لي، فليس لك على اغوائهم قدرة، فانا وكيلهم وكفيتهم امرك،
قراءات:
قرأ حفص وحده: «ورجلك» بكسر الجيم، والباقون بستكينها.
يزجي: يسوق، يجري. الضر: الخوف. ضل: غاب. ان يخسف بكم: يجعل البر يغور بكم. حاصبا: ريحا فيها حصباء وحجارة. قاصفا من الريح: ريحا تكسر الشجر وغيره. التبيع: المطالب بالثأر.
{رَّبُّكُمُ الذي يُزْجِي لَكُمُ الفلك الآيات. . . .} .
ربكم الذي يجري لكم السفن في البحر لتطلبوا الربح بالتجارة والحصول على ما ليس عنكم من محصول المم وصناعتها، انه دائم الرحمة بكم. واذا خفتم الغرق وانتم في البحر ذهب عن ذاكرتكم كل ما تعبدون من دون الله، والتجأتم اليه وحده، فلما انجاكم الى البر أعرضتم وعدتم الى ما كنتم عليه، ان شأن الانسان الكفر وجحد النعمة. وقد مر نظير هذا في سورة يونس الآية 22 وما بعدها.
افأمنتم وقد نجوتم الى البر ان يخسفه بكم فتغرور بكم الارض، او يرسل عليكم ريحا تفذقكم بالحصباء ثم لا تجدون من يحميكم منه!؟ ام أمنتم ان يعيدكم في البحر مرة اخرى، فيرسل عليكم ريحا لا تمر على شيء الا قصفته، فيغرقكم بسبب كفركم وجحودكم نعمة الله حين انجاكم من قبل، ثم لا تجدون من يطالبنا بما فعلنا بكم! .
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو: «ان نخسف بكم، او نرسل عليكم، ام امنتم ان نعيدكم، فنرسل عليكم» بالنون في هذه جميعا، والباقون بالياء.
بإمامهم: بكتابهم الذي فيه اعمال. وله معنى آخر: بامامهم: صاحب رسالتهم كأن يقول ادعوا اصحاب ابراهيم، اعوا ابتاع موسى الخ. . . . الفتيل: اصل الفتيل: الخيط الضئيل الذي على نواة التمر، والمقصود به هنا الشيء الذي لا قيمة له. أعمى: اعمى البصيرة.
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ الآية. . . .} .
ولقد كرمنا بني آدم بحسن الصورة، واعتدال القوام، وبالمواهب العقلية والنطق والتفكير، وحملناهم برا وبحرا وجوا ولا نجدري ما يستجد من مواصلات في المستقبل لان الله تعالى يقول:{وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 9] وزرقناهم من الطيبات المستلذة، وفضلناهم على كثير من المخلوقات.
{يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} اذكر ايها النبي لقومك يوم ندعو كل قوم باسم زعيمهم فيقال يا اصحاب موسى. يا أهل القرآن، ليتسلموا كتب اعمالهم، فمن أُعطيَ كتابه بيمينه وهم السعداء فأولئك يقرأون كتابهم مسرورين، ولا ينقص من اجرهم شيء.
{وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى فَهُوَ فِي الآخرة أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} .
ومن كان في هذه الدنيا أعمى القلب والبصيرة فسيبقى على حالته ويكون في الآخرة اكثر عمى وابعد مدى في الضلال، وابعد عن سبيل الخير.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وابو بكر: اعْمِي بالامالة
كدت تركن اليهم: قربت من الميل اليهم. ضعف الحياة: عذابا مضاعفا في الحياة الدنيا، وفي الآخرة. لا يلبثون: لا يبقون. خلافك: بعدك. تحويلا: تبديلا.
لقد حاول المشركون من قريش، ومن ثقيف وغيرهم ان يساوموا الرسول الكريم بان يتساهل معهم في عدم شتم آلهتهم، وبعضم قال له ان يتمسح بالهتهم حتى يدخلوا في دينه. قد تكررت هذه المحاولات، وقاروبا ان يخدعوك، ولو انك اتبعت ما يريدون لاتخذوك صديقا، ولكنك رسولنا الامين.
{وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} .
وهذا نص واضح ان الرسول عليه الصلاة والسلام لم يجبهم الى اغرائهم.
{إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} .
وهذا وعيد شديد للرسول، فلو قاربتَ الركون اليهم، لجمعنا عليك عذاب الدنيا وضاعفناه، وعذاب الآخرة وضاعفناه، ثم لا تجد من ينصرك ويمنع عنك العذاب.
ولقد قارب اهل مكة ان يزعجوك ويخرجوك من مكة بالقوة، ولو انهم فعلوا ذلك واخرجوك لا يبقون بعدك الا زمانا قليلا.
{سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} .
وهكذا مضت سنتنا مع الرسل الذين ارسلناهم قبلك. . . اهلكنا اقوامهم الذين اخرجوا رسلهم. ان سنتنا في هذه الحياة لا تتبدل. وقد اُخرج الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة، ولم يَمْضِ على اخراجه سنة ونصف حتى كانت وقعة بدر وقُتل فيها صناديد قريش واهلكهم الله.
وبعض المفسرين يقول ان هذه الآية مدنية، وان اليهود هم الذين ضايقوه وهمَّ بترك المدينة، ولكن هذا بعيد.
قراءات:
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب وحفص: «خلافك» والباقون: «خلفك» والمعنى واحد.
دلوك الشمس: زوالها عن منتصف السماء في النهار. غسق الليل: شدة الظلمة. قرآن الفجر: صلاة الصبح. التهجد: صلاة الليل. نافلة لك: صلاة زائدة عن الفريضة. مقاما محمودا: مقاما عاليا يحمده الناس. زهق: زال واضمحل.
{أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل} .
الصلاة لب العبادة، فحافظ عليها وأدّها على احسن وجه، من زوال الشمس من وسط السماء الى ظلمة الليل، وهذا الوقت يشمل الصلوات الاربع: الظهر والعصر والمغرب والعشاء. {وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً} .
وصلاة الصبح فان الملائكة تشهدها. وقد بينت السنة من اقوال الرسول الكريم وافعاله تفاصيل هذه الاوقات وكيفية ادائها واقامتها.
{وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} .
وصلّ من الليل صلاة زائدة عن الفريضة بقدر ما تستطيع. وبهذه الصلاة، وبهذه الصلة الدائمة بالله. يقيمك ربك يوم القيامة في مقام سام يحمدك فيه الخلائق. وفي هذا تعليم لنا أن نتعبد ونقوم بالليل، فاذا كان الرسول الكريم مأموراً بذلك فنحن أولى واحوج.
وقل رب أدخلني فيما حملته من اعباء الرسالة ادخلا مُرضيا، واخرجني مخرجاً حسنا مرضيّا (وهذا دعاء يعلمه الله لنبيه ليدعو به، ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وفيم تتجه اليه) واجعل لي قوةً أعلي بها دينك ورسالتك التي حمّلتني اياها.
{وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً} .
وقل جاء الحق بالاسلام، وذهب الباطل واضمحل، ان الباطل مضمحل زائل دائما.
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بعودٍ في يده ويقول:«جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد» .
{وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن. . . .} .
نأى بجانبه: استكبر. شاكلته: مذهبه وطريقته. يئوسا: شديد اليأس. أهدى سبيلا: اقوم طريقا.
ونزل عليك ايها الرسول من القرآن ما هو شفاء لأدواء النفوس ورحمة للمؤمنين، ولا اصابته مصيبة الا خسرانا لكفرهم وعنادهم.
واذا انعمنا على الانسان بالصحة والسعة بطر واستكبر وبعُدَ كأنه مستغن عنا، واذا اصابته مصيبة كان كثير اليأس والقنوط من رحمة الله.
ولما ذكر حال الضالين والمهتدين ختم ببيان ان كلاً يسير على مذهبه فقال:
{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ. . .} .
قل أيها النبي: كل منا يعمل ويسير على طريقته، وعلى ما طُبع علهي من الخير والشر، وربكم أعلم من كل واحد بمن هو سائر على الطريق المستقيم.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح. . . .} .
ويسألك قومك عن حقيقة الروح، قل الروح من علم ربي الذي استأثر به، وما مُنحتم من العلم الا شيئا قليلا.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي «ونأى بجانبه» بالامالة. وقرأ ابن عامر: «وناء بجانبه» من الفعل ناء ينوء.
الظهير: المعين. طرَّفنا: كررنا القول ورددناه بوجوه مختلفة. الكفور: الجحود.
ولو أردنا ان نمحو من صدرك القرآن الذي اوحينا اليك، لفعلنا، ثم لا تجد من ينصرك، ولكن أبقيناه منا لأن فضل ربك في هذه المعجزة كان عليك عظيما. قل لهم ايها النبي متحديا ان يأوا بمثله، لئن اجتمعت الإنس والجن وتعاونا على ان يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يستطيعون، ولو كانوا متعاونين.
ولقد نوعنا مناهج البيان بوجوه مختلفة للناس في هذا القرآن، فآبى اكثر الناس الا الجحود والانكار، والاعراض عن الحق.
الينبوع: النبع، عين الماء. كسفا: جمع كسفة كَقِطْعَة لفظا ومعنى. قبيلا: مقابلين، تأتي بهم عيانا. الزخرف: الزينة، الذهب. ترقى: تصعد.
وقالوا في تَعنُّتِهم لن نؤمن لك يا محمد حتى تخرج لنا ماء من عين تفجّرنا لا ينضب ماؤها.
او يكون لك في مكة بستان من نخيل وعنب فتجرى الانهار وسطه، او تسقط السماء فوق رؤوسنا كما زعمتَ ان الله توعّدنا بذلك، او تأتي بالله والملائكة نقابلهم نراهم مواجهة ليشهدوا على صحة ما تقول لنا.
او يكون لك بيت مزخرف من ذهب، او تصعد في السماء. ولن نصدقك في هذا الحل الا اذا جئتنا بكتاب من الله يقرر فيه صدقك نقرؤه. قل لهم ايها الرسول: سبحان ربي ان يتحكم فيه احد، او يشاركه في قدرته، فهل انا الا بشر رسول من الذين يرسلهم بما يلائم احوالهم ويصلح شئونهم، وما منع مشركي مكة ان يؤمنوا لما جاءهم الرسول بالهدى.
الا زعمهم جهلاً مهم ان قالوا: كيف يبعث الله رسولا من البشر، قل لهم ايها الرول: لوك ان في الارض بدل البشر ملائكة يعيشون مستقرين فيها لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا من جنسهم، فان الحكمة الالهية اقتضت ان يرسل لكم جنس ما يناسبه من الرسل.
قل: يكفي ان الله شاهد على صدق رسالتي اليكم، انه كان بعباده خبيرا يعمل احوالهم، بصيرا لاتخفى علي منهم خافية.
قراءات:
قرأ الكوفيون ويعقوب: «تفجر» بفتح التاء وضم الجيم. والباقون: «تفجر» بضم التاء وفتح الفاء وكسر الجيم المشددة.
قراءات:
قرأ اهل المدينة وابن عامر وعاصم: «كسفا» بكسر الكاف وفتح السين. والباقون «كسفا» باسكان السين.
وقرأ ابن كثير وابن عامر: «قال سبحان ربي» والباقون: «قل سبحان ربي» .
خبت: سكن لهيبها. السعير: اللهيب. خشية الانفاق: خوف الفقر. قتورا: شديد البخل.
ومن تيولاّه الله بالهداية فهو المهتدي، ومن يقضي علهيم بالضلال فلن تجد لهم من ينقذهم، ونحشرهم يوم القيامة فيُسبحون على وجوههم، لا نيطقون ولا يرون ولا يسمعون، منزلهم جنهمُ كلما سكن ليهبها زدناها توقدا واشتعالا. وقد تقدم مثل هذه الآية في سورة الاعراف 178.
أَغَفِلوا ولم يعلموا ان الله الذي خلق هذا الكون موما فيه، قادر على ان يخلق مثله! والذي يقدر على خلق مثل هذه السموات والارض يقدر عل اعادتهم. وهو اهون عليه. لقد جعل لاعادتهم وقيامهم من قبورهم أجلاً مضروبا ومدة مقدرة، وبعد اقامة الحجة عليهم ابوا الا تماديا في ضلالهم وكفرهم. وتقدم فقي نفس السورة نفس المعنى الآية 50.
ثم بين حرصهم على الدنيا، وتمسكهم بها وشحهم بانهم لو ملكوا خزائن الدنيا لبخلوا فقال:
{قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي. . . . .} .
قل ايها الرسول لهؤلاء المعاندين لو كنتم تملكون خزائن رزق الله وسائر نعمه لبخلتم مخافة نفادها بالانفاق، والانسان مطبوع على شدة الحرص والبخل والله هو الغني الرزاق.
مسحورا: مخبول العقل. بصائر: حججا وبينات. مثبورا: هالكا. يستفزهم: يخرجهم من الارض. جئنا بكم فليفا: جميعاً.
ولول أوتي هؤلاء من الآيات ما اقترحوا، لما آمنوا بها، ولقد آتينا موسى تسع آيات هي: العصا، واليد البيضاء. والطوفان. والجراد والضفادع والقمل والدم. والجدب ونقص الثمار وفلق البحر، وابنجاس الماء من الحجر. ونتوق الجبل كانه مظلة. وخطابه لربه، واسأل بني اسرائيل لما جاءهم، فانهم مع كل ذلك كفروا وقال فرعون لموسى: اني اظنك مسحورا. قال موسى: لقد علمتَ يا فرعون ان الذي انزل الآيات هو الله خالق هذا الكون وربه. وهي دائل واضحة تبصرك بصدقي، ولكنك تكابر وتعاند، واني لأظنك يا فرعون هالكا. فتمادى فرعون بطغيانه، افارد ان يخرج موسى وبني اسرائيل من ارض مصر فاغرقناه مع جنوده جميعا.
قراءات:
قرأ الكسائي: «لقد علمت» بضم التاء والباقون: بفتحها.
ونجينا موسى وقومه، وقلنا من بعد اغراق فرعون لبني اسرائيل، اسكنوا حيث شئتم بمصر او الشام، وكان المفروض ان يشكروا الله ان خلصهم من ذلك البلا الكبير، ولكنهم لم يلبثوا ان عبدوا العجل من دون الله، وبدلوا نعمة الله كفرا، فاذا جاء وقت الحياة الاخرى جئنا بكم من قبوركم جميعا ثم نحكم بينكم بالعدل.
فرقناه: انزلناه مفرقا. على مكث: على مهل وبتأَنٍ يخرّون للاذقان: يسقطون على وجوهه. خفت الرجل بقراءته: لم يرفع صوته با. لاتخافت بها: اقرأها بوضوح.
ولقد انزل الله هذا القرآن قائما بالحق، فنزل ليقر الحق في الارض ويثبته، فالحق مادة، والحق غايته. فأنزلناه مؤيدا بالحكمة الآلهية. وما ارسلناك ايها النبي الا بمشرا من آمن بالجنة، ونذيرا لم نجحد بالنار.
وقد فرقنا هذا القرآن ونلزناهُ منجَّما على مدة طويلة، لتقرأه على الناس على مهل، ليفهموه. نزلناه شيئا بعد شيء تنزيلا مؤكدا لا شبهة فيه.
ثم هدد الله تعالى اولئك الجاحدين على لسان نبيه بقوله:
{قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لَا تؤمنوا} .
قل لاولئك الضالين اختروا لانفسكم ما تحبون من الايمان بالقرآن وعدمه، ان الذين اوتوا العمل وقرأوا الكتب السابقة، يخرون لله سجدا، شكرا له على انجاز وعده بارسالك، حين يتلى عليهم القرآن، ويقولون في سجودهم:
{سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} ان وعده كان محققا.
ويخرون للاذقان باكين من خشية الله ايتلى عليهم، ويزيدهم ما فيه من العبر والمواعط خشوعا وخضوعا. وهنا موضع سجدة.
قُلْ ايها الرسول هؤلاء المشركين: سموا الله، او سموا الرحمن فبأيّ اسم تمسونه فهو حسن، ثم امر رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام أن يقرأ بصلاته صلاة متوسطة لا يرفع صوته بها ولا يسر كثيرا.
وتختم السورة كما بدئت بحمد الله وتقرير وحدانيته بلا ولد ولا شريك، وتزيهه عن الحاجة الى الولي والنصير، وهو العلي الكبير.
فالله سبحانه وتعالى غني عن كل معين ان نصير او شريك او ولد، وهو مالك هذا الملك، وهو اكبر من كل شيء، فكبره تكبيرا.
عوجا: العِوج بكسر العين عدم الاستقامة. قيّما: مستقيما، معتدلا. البأس: العذاب. من لدنه: من عنده. كبرتْ كلمة: ما اعظمها من مقالة في الكفر، ومعنى الكلام الاستغراب والتعجب. فلعلك باخعٌ نفسَك: لعلك مهلكٌ نفسك. على آثارهم: من بعدهم. صعيدا جرزا: تراباً لا يُنبت.
ان الله تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتمها، ولهذا حمد نفسه على إنزاله القرآنَ على رسوله الكريم، وهو اعظم نعمة أنعمها الله على أهل الارض. فبه أَخرجهم من الظلمات الى النور، ولم يجعل فيه اعوجاجا لا باختلال ألفاظه، ولا بتباين معانيه، بل جعله مستقيما معتدلا، لا إفراط فيه ولا تفريط، لينذر الجاحدين بعذا شديد من عنده، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الاعمال الصالحة بأن لهم ثوابا جزيلا. {مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} مقيمين فيه ابدا.
وينذر على الخصوص الذين قالوا إن الله اتخذ ولدا، وهو منزه عن الولد والشريك، ولا دليل لديهم على قولهم هذا لا هم ولا آباؤهم، فما أعظمَ هذا الافتراء، وما اكبر هذه الكلمة التي تفوهوا بها! وما قولهم هذا الا محض اختلاق وكذب.
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ} لا تهلك نفسك أيها النبي أسفاً وحسرة عليهم. لأنهم لم يؤمنوا بالقرآن، أبلغهم رسالة ربك، فمن اهتدى منهم فلنفسه، ومن ضل فانما يضل عليها.
إنا خلقناهم للخير ولاشر، وصيرنا ما فوق الارض زينة لها ومنفعة لأهلها، لنرى من يحسن منهم ومن يسيء، ويمتاز افراد الطبقتين بعضهم عن بعض بحسب درجات اعمالهم.
{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} وانا لجاعلون الارض وما عليها تراباً لا نبات فيه عند انقضاء الدنيا. والخلاصة ان {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 27] .
الكهف: النقب المتسع في الجبل. الرقيم: اللوح الذي كتبت فيه اسماء اصحاب الكهف. فضربنا على آذانهم: أنمناهم عدداً من السنين، والنائم عادة لا يسمع. ثم بعثناهم: ايقظناهم. احصى: اضبطُ لاوقات لبثهم.
لقد انكر الذين استهوتهم الدنيا البعثَ، مع ان الوقائع تثبت الحياة بعد الرقود الطويل، وهذه قصة أهل الكهف واللوح الذي رُقمتْ أسماؤهم فيه بعد موتهم لم تكن وحدها من العجائب وان كانت قصةً خارقة للعادة.
اما قصتهم فهي ان جماعة من الشباب آمنوا بربهم، وهربوا بدينهم من الاضطهاد، فلجأوا الى كهف، ودعوا ربهم ان ينقذَهم قائلين: ربنا آتِنا من عندك رحمة وهيّىء لنا من أرمنا رشَدا.
فاستجبنا دعاءهم، فأنمناهم آمنين في ذلك الكهف سنين عديدة لا ينتبهون. ثم أيقظناهم لنعلم مَن مِن الحزبين اللذين اختلفا في مدة مُكثهم بالكهف أضْبَطُ احصاءً لطول المدة التي مكثوها.
روي عن ابن عباس: ان الرقيم اسم قرية قرب أَيلة «العقبة» ، ويقول ياقوت في معجم البلدان:«وبقرب البلقاء من اطراف الشام موضع يقال له الرقيم. .» ويقول: «ان بالبلقاء بأرض العرب من نواحي دمشق موضعاً يزعمون انه الكهف والرقيم قرب عَمان، وذكروا ان عمّان هي مدينة دقيانوس» الملِكِ الذي كان في ذلك الزمان.
وهناك اقوال كثيرة متضاربة علُها عند الله. وقد اورد الطبري وغيره من المفسرين قصتهم، وليس لها سند صحيح، وقد اعتنى احد موظفي الآثار من اهل عمان بهذا الكهف وهو اليوم في ضواحي عمان، وعمل له باباً، وألّف رسالة مؤكدا فيها انه هو الكهف المقصود في القرآن، وبنى بجانبه مسجدا، والآن يزور الكهف كثير من السيّاح.
النبأ: الخبر العظيم. وربطنا على قلوبهم: قوّينا عزائمهم. الشطط: الجور والظلم. السلطان المبين: الحجة الظاهرة. اعتزلتموهم: بعدتم عنهم وتجنبتموهم. المرفق: كل ما ينتفع به. تزاور: اصله تتزاور، تميل. وتقرضهم: تجاوزهم. في فجوة منه: متسع من الارض. وتحسبهم ايقاظا: تظنهم صاحين غير نائمين. وهم رقود: جمع راقد نائم. باسط ذراعيه: عندما يجلس الكلب فانه يمد ذراعيه. بالوصيد: فناء الكهف.
نحن نقصّ عليك أيها الرسول خَبَرهُم بالصدق، إنهم شبابٌ آمنوا بربهم وسط قوم مشركين، وزِدناهم هدى بالتثبيت على الإيمان.
وثبّتنا قلوبهم، فثبتوا ولم يرهبوا أحدا، ووقفوا وقفة واحدة فقالوا: ربّنا الحقُّ ربُّ السموات والارض، ولن نعبدَ غيره إلهاً، ولن نتحول عن هذه العقيدة، لأننا اذا دَعَوْنا غيرَ الله نكون قد بعُدنا عن الحق وتجاوزنا الصواب.
ثم إنهم تشاوروا فيما بينهم، فقال بعضهم لبعض: ما دمنا قد اعتزلْنا قَوْمَنا في كفرهم وشِركهم، فالجأوا الى الكف فراراً بدينكم، وأخلِصوا لله العبادة، فإنه تعالى يبسط لكم الخير من رحمته في الدارَين، ويسهل لكم من امركم ما تنتفعون به من مرافق الحياة
ثم بين تعالى حالهم بعد ان لجأوا الى الكهف فقال:
{وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليمين. . .} .
وانك ايها المخاطَب لو رأيتَ الكهف لرأيت الشمس حين طلوعها تميل عنه جهةَ اليمين، ورأيتها حين الغروب تتركهم وتعدِلُ عنهم جهةَ الشمال، وهم في متّسع من الأرض، فحرارة الشمس لا تؤذيهم، ونسيمُ الهواء يأتيهم. وذلك كلّه من دلائل قدرة الله، فمن اهتدى بآيات الله فقد هاده وفقَ ناموسه حقا، ومن لم يأخذ بأسباب الهدى فقد ضلّ، ولن تجد له من يرشدُه ويهديه.
وتظنهم أيها الناظر منتبهين، وفي الحقيقة هم نيام، ونقلّبهم في نومهم مرةً يمينا، وُخرى يسارا لنحفظ أجسامَهم من تاثير الارض، وكلبُهم الذي صاحَبَهم مادٌّ ذراعيه بفناء الكهف وهو نائم في شكل اليقظان. ولو شاهدتَهم وهم على تلك الحال لهربتَ منهم، {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} ولفزعت منهم فزعا شديدا، لأنهم في وضع غريب، وذلك لكيلا يدنومنهم احد ولا تمسّهم يد.
قراءات:
قرأ ابن عامر واهل المدينة: «مَرفِقا» بفتح الميم وكسر الفاء. والباقون: «مِرفقا» بكسر الميم وفتح الفاء. وقرأ ابن عامر ويعقوب: «تزورّ» بفتح التاء وإسكان الزاي وتشديد الراء. والباقون: «تزاور» . وقرأ اهل الحجاز: «لملّيت» بتشديد اللام وبالياء وبدون همزة. والباقون.
بورقكم: الورق بفتح الواو وكسر الراء، والورق باسكان الراء: الفضة، سواء كانت عملة او غيرها. ازكى طعاما: اجود او اطيب. وليتلطف: ليكن حذرا ومعاملته لطيفة. ولا يشعرن بكم احدا: لا يفعل ما يؤدي الى كشف احوالهم. ان يظهروا عليكم: ان يطّلوا عليكم. وكذلك اعثرنا عليهم: كذلك كشفنا امرهم فاطلع عليهم اهل المدينة. رجما بالغيب: القول بدون علم.
وكما أنمناهم بعثناهم نم نومِهم، ليسأل بعضهُم بعضا عن مدة بقائهم نائمين. فقال احدهم: كم مكثتُم نائمين؟ قالوا: مكثنا يوماً او بعض يوم. ثم احالوا العِلم الى الله، فقالوا: الله أعلمُ بما لبثتم. وشعروا باحتياجهم الى الطعام والشراب فقالوا: ابعثوا أحدكَم بدراهمكم الفضيّة الى المدينة، فلْينظْر أي الاطعمة أشهى فليأتِنا برزق منه وليتلطف بالتخفيّ حتى لا يعرفه احد. وكانوا لا يعلمون ان ثلاثة قرونٍ قد مرّت عليهم وهم راقدون.
انهم ان يطّلعوا عليكم يقتلوكم رجماً بالحجارة، او يعيدوكم إلى دينهم، ولن تفلحوا إذَنْ أبدا.
واطلعنا عليهم أهل المدينة ليعلم الناسُ أن وعدَ الله بالبعث حق، وان القيامة لا شك فيه. وآمن اهلُ المدينة بالله واليوم الآخر، ثم امات الله الفتية وتنازعَ الناس في شأنهم، فقال بعضهم: ابنُوا عليهم بنيانا ونتركهم وشأنهم، فربُّهم أعلمُ بحالهم. وقال الذين غلبوا على امرهم لنتخذنَّ على مكانهم مسجداً نعبد الله فيه.
قراءات:
قرأ ابو عمرو وحمزة وابو بكر: «بَورْقكم» بفتح الواو وسكون الراء. والباقون «بورِقِكم» بفتح الواو وكسر الراء.
{سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ. . .} .
لما ذكر الله القصة ونزاعَ المتخاصمين فيما بينهم، شرع يقصّ علينا ما دار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الخلاف في عدد اصحاب الكهف. سيقولُ فريق من الخائضين في قِصتّهم من اهل الكتاب: هم ثلاثةٌ رابعهم كلبهم، ويقول آخرون: هم خمسة سادسهم كلبهم، ظناً بدون يقين، ويقول آخرون هم سبعة وثامنهم كلبهم. قل يا محمد لهؤلاء المختلفين: ربي أعلمُ بعددهم، ولا يعلم حقيقته الا قليل من الناس أطلعَهم الله عليه، فلا تجادلْ في شأن الفتية الا جَدَلاً سهلاً ليّنا، ولا تستفتِ في شأنهم احدا، فقد جاءك الحق الذي لا مرية فيه.
{وَلَا تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلَاّ أَن يَشَآءَ الله} .
جاءت هاتان الآيتان معترضتين اثناء القصة فيهما ارشادٌ وتأديب للرسول الكريم، وتعليمٌ للمؤمنين بأن يفوّضوا الأمورَ كلّها إلى الله، بعد ان يتخذوا كل الاحتياطات، وان يقرِنوا قولهم بمشيئة الله علاّم الغيوب.
لا تقولن ايها الرسول لشيء تُقدمِ عليه وتهتم به: إني فاعل ذلك غداً او بعد غد دون أن تقرِنَ قولك بمشيئة الله بان تقول: «إن شاءَ الله» . فاذا كان هذا الخطاب للرسول الكريم الذي قال: «أدّبني ربي فأحسنَ تأديبي» فنحن أَوْلى وألزم ان نلتزم بهذا الادب القرآني العظيم، ونشعر دائما اننا مع الله يوجّهنا الى ما فيه الخير لنا ولأمتنا.
واذا نسيتَ امراً فتداركْ نفسك بذِكر الله، وقل عسى ان يوفقني ربي إلى امرٍ خير مما عزمتُ عليه وأرشدَ منه.
ثم بعد ذلك بين الله تعالى ما أجملَ في قوله: فضربْنا على آذانِهم في الكهف سنينَ عددا فقال: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعاً} . وثلاثمئة سنة وتسعٌ قمرية هي ثلاثمئة سنة شمسية، ولذلك جاء هذا النص مبينا حقيقة علمية لم تكن معروفة في ذلك الزمان.
قل أيها الرسول للناس: ان الله تعالى وحدَه هو الذي يعلم كم لبثوا في كهفهم وهو الذي يعلم ما غاب في السموات والارض. {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} ما اعظم بصره في كل موجود وما اعظم سمعه بكل مسموع، فهو لا يخفى لعيه شي. والله ولي امر هذا الخلق جميعهم، لا يُشرك في قضائه أحداً من خلقه، وليس له وزير ولا نصير ولا شريك.
قراءت:
قرأ حمزة والكسائي: ثلاثمئةِ سنين: بالاضافة، والباقون «ثلاثمئةٍ سنين» بتنوين مئة.
لا مبدل لكلماته: لا مغير لأحكامه. ملتحدا: ملجأ. واصبر نفسك: احبسها. بالغداة والعشي: في الصباح والمساء. يريدون وجهه: يطلبون رضاه. فرطا: مجاوزاً للحد. أعتدنا: هيأنا، اعددنا. السرادق: الخيمة، الفسطاط، كالمهل: خثارة الزيت، المعدن المذاب. مرتفقا: متكأ.
بعد ان ذكر الله قصة اهل الكهف، وبين ان هذا القرآن يقص الحق، لأنه وحي من علام الغيوب، أمَرَ بالمواظبة على تلاوته ودرسه، وبيّن في هذه الآية الكريمة، ان القيم الحقيقية ليست هي المالَ، ولا الجاه، ولا السُّلطة، ولا لذائذ الحياة ومتعها - فانها كلّها قيم زائفة - وان الاسلام لا يحرِّم الطيب منها، ولكنه لا يجعل منها غاية الحياة، فمن شاء ان يتمتع بها فليتمتع، ولكن لِيذكُرِ الله الذي انعم بها، وليشكرْه على نعمة بالعمل الصالح.
اتلُ ايها الرسول الكتابَ الذي اوحي اليك، والزم العمل به، واتّبع ما فيه من احكام وتعليم وتأديب. ولا يستطيع أحدٌ ان يغيّر او يبدّل مافيه، وليس لك ملجأٌ الا الله، فإليه المرجع والمآب.
{واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} .
احتفظ بصحابتك ايها الرسول، الذي يعبدون اللهَ وحده في الصباح والمساء، يطلبون رضوانه، وهم فقراءُ الصحابة مثل: عمار بن ياسر، وصهيب، وبلال وغيرهم، فقد رُوي ان عُيَيْنَةَ بن حصن الفَزاري والأقرعَ بن حابس وغيرَهم - جاءوا الى الرسول الكريم، طلبوا منه ان يبعد هؤلاء الفقراءَ من الصحابة ليحادثوه ويسْلموا. فنزلت. ويقال إن أشرافَ قريش هم الذين طلبوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره الله تعالى ان لا يتخلّى عن اصحابه، ولا يلتفت إلى هؤلاء وما عندَهم من قوةٍ وجاهٍ ورجال، فاللهُ أكبرُ من كل ما عندهم. وهذا الأصح لأن السورة مكية.
ثم امره بمراقبة أحوالهم ومجالسِهم فإن فيهم الخير فقال:
{وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا. .} .
ولا يتحول اهتمامُك عنهم إلى مظاهر الحياة التي يستمتع بها أصحاب الزينة، فهذه زينةُ الحياة الدنيا الزائلة.
ثم اكد هذا النهي بقول: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} .
لا تطع هؤلاء المتكبرين فيما يطلبون من تمييزٍ بينهم وبين الفقراء، وطردِهم من مجلسك. فهؤلاء قد أغفلْنا قلوبَهم عن ذكرنا، واتجهوا الى ذواتهم وإلى لذّاتهم، وشغلوا قلوبهم بزخرف الدنيا وزِينتها، وصار أمرُهم في جميعِ أعمالهم بعيداً عن الصواب. ولقد جاء الاسلام ليسوّي بين الناس امام الله، فلا تفاضل بينهم بمال ولا نسبٍ ولا جاه.
قراءات:
قرأ ابن عامر: «بالغدوة والعَشِيّ» والباقون: «بالغداة والعشي» .
{وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ. . .} .
بعد ان أمر اللهُ رسوله صلى الله عليه وسلم ان لا يلتفت لى قولِ أولئك الأغنياء الذين قالوا: إن طردتَ اولئك الفقراء منا بك، أمره ان يقول لهم ولغيرِهم على طريق التهديد والوعيد: انّ ما جئتُ به هو الحقُّ من عند ربكم، فمن شاءَ أن يؤمن به فليؤمن، فذلك خير له، ومن شاء ان يكفر فليكفر، فانه لا يظلم الا نفسه. إن الله قد أعدّ لمن ظلم نفسه بالكفر نارا تحيط بهم كالسُّرادقِ، وإن يطلبوا الغوثَ بطلب الماء يؤتَ لهم بماءٍ عكرٍ أسود يحرقُ الوجوه لشدة غليانه.
{بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً. .}
ما أقبح ذلك الشرابَ، ويا لَسوءِ النار وسرادقها مكانا للارتفاق والاتكاء.
جنات عدن: جنات الاقامة والاستقرار. يقال عدنَ بالمكان اذا اقام فيه. الاساور: واحدها سوار، معروفة. من سندس: من حرير الديباج وهو حرير رقيق، فاسيٌّ معرب. استبرق: حرير ايضا ولكنه غليظ. الأرائك: جمع اريكة، المقعد المنجَّد.
بعد ان ذَكر حال اهل النار وما يلاقون فيها من عذاب وشقاء، ثنّى هنا بذكر السعداء الذين آمنوا بالله وبدينه الحق، وعملوا الصالحات، فانهم عند ربهم في جنات عدن يقيمون فيها منعمين أبدا، تنساب الانهار من تحتهم بين أشجارهم وقصورها، ويتحلَّون فيها بمظاهر السعادة، إذ يرفُلون بالحرير من سندس ناعم، واستبرقٍ كثيف، في ايديهم الأساور من الذهب، ومتكئين على أفخر المقاعد بين الوسائد والستائر، نعم الثوابُ لهم، وحسنت الجنة دار اقامة وراحة.
الجنة: البستان. حففناهما بنخل: جعلنا النخل يحيط بهما. آتت أُكلها: اثمرت الثمر الجيد. ولم تظلم منه شيئاً: كان له مال. وهو ظالم لنفسه: لكفره وغروره. يحاوره: يجادله. اعز نفرا: اكثر خدما وحشما واعوانا. ان تبيد: ان تفنى. وما أظن الساعة قائمة: لا أؤمن بيوم القيامة. منقلبا: مرجعا وعاقبة. حسبانا من السماء: مطرا عظيما، آفة مهلكة. صعيدا زلقا: ارضا ملساء لا شيء فيها. او يصبح ماؤها غورا: يغور نهرها في الارض. واحيط بثمره: هلكت امواله. يقلب كفيه: تصوييراً للندامة والحسرة. خاوية: خالية، خلت من اهلها وزرعها. على عروشها: ساقطة على عرائشها. عقبا: عاقبة.
لقد ضرب الله مثلاً في هذه الآيات الكريمة يبيّن فيه أن المال لا ينبغي ان يكون موضع فَخار، لأنه ظلٌّ زائل، وانه كثيرا ما يصير الفقير غنياً والغني فقيراً، وغنما الذي يجب ان يكون أساسَ التفاضل هو الإيمانُ بلله والعمل الصالح الذي ينفع الناس.
واذكر ايه الرسول مثلاً وقع فيما سلَف بين رجلَين: كافرٍ ومؤمن، وقد رزقنا الكافر جنّتين فيهما أعنابٌ واصناف كثيرة من الشجر المثمر، وأحطناهما بالنخل، وجعلنا بين البستانين زرعا جيدا.
وقد اثمرت كل واحدةٍ من الجنتين ثمراً كثيرا، ولم يَنْقُص منه شيءٌ، وقد فجرّنا بينهما نهرا يسقيهما.
وكان لصاحب الجنتين أموالٌ أخرى مثمرة، فداخَلَه الغرور والكبرياء بتلك النعم، فقال لصاحبه المؤمن وهو يجادله: أنا أَكثرُ منك مالاً وأكثر خدماً وحشَما وانصارا.
ثم زاد فخرا على صاحبه المؤمن، فدخل إحدى جنتيه وهو مأخوذ بغروره فقال: ما أظنُّ أن تَفنى هذه الجنة أبدا، وما أظنّ ان يوم القيامة آتٍ كما تقول، ولو فُرض ورجعتُ إلى ربي البعث كما تزعم، ليكوننّ لي هناك أحسنُ من هذا الحظ عند ربي، لأنه لم يعطِني هذه الخيراتِ في الدنيا الا ليعطيني ما هو أفضل منها فيما بعد.
فقال له صاحبه المؤمن واعظاً له وزاجراً عما هو فيه من الكفر: كيف تكفر بربك الذي خَلَقك من ترابٍ ثم من نطفة لا تُرى، ثم صوّرك رجلاً كاملا. أنا أقول: إن الذي خلَقني وخلَق هذا الكونَ وما فيه هو الله ربي، وانا أومن به وأعبُده وحده ولا أُشرِك معه أحدا.
ثم زاد في وعظه قائلا: هلاّ إذ أعجبتْك جنتُك حين دخلتَها ونظرتَ الى ما فيها من رزق وجمال حمدتَ الله على ما أنعم به عليك وقلت: {مَا شَآءَ الله لَا قُوَّةَ إِلَاّ بالله} هذا ما شاء الله، فيكون ذلكَ شكراً كفيلاً بدوام النعمة عليك.
وبعد ان نصح الكافرَ بالإيمان، وأبان له عظيم قدرة الله وكبيرَ سلطانه، قال له: إن تَرَنِي انا أفقرَ منك وأقلُ ولدا، فإني ارجو من الله ان يرزقني خيراً من جنتك ويرسلَ على جنتك سيولاً عظيمة وصواعقَ تخرّبها فتصيرَ أرضاً ملساء لا ينبت فيها شيء ولا يثبت عليها قوم، وتصبح انتَ وما تملك أثراً بعد عين.
وقد اخبر الله تعالى بانه قد حقّق ما قدّره هذا المؤمن فقال:
{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ. . .}
أحاطت الجوائحُ بثمار جنته التي كان يقول: {مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً} وأهلكتها الصواعقُ والآفات، وأبادت أصولَها، فأصبح يقلّب كفيه ندماً وتحسرا على خسارته وضياع ماله حين رآها ساقطةً على عروشها خاليةً من الثمر، وضاعت منه الدنيا وحُرم الدنيا والآخرة معا، وعظُمت حسرته وقال: ليتَني لم أشرك بربّي أحدا.
{وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً} . ولم تكن له عشيرة تنصره من دون الله، وما كان منتصراً بقوّته. وهنا تبيَّنَ ان الله ينفرد بالوَلاية والنصرة والعزة، ومن اعتزّ بغير الله ذلّ، فلا قوةَ الا قوّته، ولا نصر الا نصرهُ، وثوابهُ.
ويسدل الستار على مشاهد الجنة الخاوية على عروشها، وصاحبها يقلّب كفّيه أسفاً وندما، وجلالُ الله يظلل الموقف، حيث تتوارى قدرةُ الإنسان.
قراءات:
قرأ حمزة: «الوِلاية لله الحق» بكسر الواو، وقرأ ابو عمرو:«الوَلاية لله الحق» بفتح الواو، وبضم القاف. وقرأ الكسائي:«الوِلاية لله الحقُّ» بكسر الواو وضم القاف من الحق.
وقرأ عاصم: وكان له ثمر. واحيط بثمره، بفتح الثاء والميم. وقرأ ابو عمرو: بضم الثاء واسكان الميم، والباقون: ثمر بضم الثاء والميم.
هشيما: يابسا متفتتا. تذروه الرياح: تنثره، تفرقه. الباقيات الصالحات: الاعمال الصالحة.
اذكر ايها الرسول للناس مَثَلَ حال الدنيا في نُضْرتها ثم سرعةِ فنائها وزوالها كمثَلِ نباتٍ اخضرَّ والتفّ وأزهر، ثم صار هشيماً يابسا تنثره الرياح، والله قادر على كل شيء، وكل ما نراه إلى زوال، وفي الحديث:«الدنيا كَسُوقٍ قام ثم انفضّ»
والمال والبنون جمالٌ ومتعة للناس في هذه الحياة الدنيا ولكنْ لا دوامٍ لشيءٍ منها. وقد بين الله تعالى ما هو الباقي فقال: {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} ، فإن الاعمال الصالحةَ التي تنفع الناس، وطاعة الله خيرٌ عند الله يُجزل ثوابها، وخير املٍ يتعلّق به الانسان.
بارزة: ظاهرة ليس على وجهها شيء. حشرناهم: سقناهم الى الموقف. فلم نغدر: لم نترك. وعرضوا: أُحضروا للفصل والحساب. صفا: مصطفين. ووضع الكتاب: جعل كتاب كل انسان في يده. مشفقين: خائفين. الويل: الهلاك. احصاها: عدها.
بعد ان بين الله تعالى ان الدنيا فانية زائلة، وانه لا ينبغي ان يعتزَّ أحدٌ بِزخْرفها ونعيمها، أردف هنا بذِكر مشاهدِ يوم القيامة وما فيها من أهوال، وانه لا ينجيّ في ذلك اليوم الا من آمنَ وعمل صالحا، ولا ينفع الانسانَ مالٌ ولا بنون ولا جاهٌ ولا مناصب.
اذكر أيها الرسول للناس وأنذِرْهم يومَ نُفني هذا الوجودَ ونقتلع هذه الجبالَ من أماكنها ونسيّرها ونجعلها هباء منثورا، كما قال تعالى في سورة النمل 88:{وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} وتبصر في ذلك اليوم الأرضَ ظاهرة مستوية لا عوج فيها ولا وادي ولا جبل.
{وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} .
وجمعنا الناس وبعثناهم من قبورهم فلم نترك احدا، كما قال تعالى:{ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [هود: 104] . وعن عائشة رضي الله عن ها قالت: «سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:» يُحشَر الناس حفاةً عراة. . فقلت: الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال: الأمر أشدُّ من ان يهمَّهم ذلك «وزاد النِّسائِّي: {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 36] ، يعني من شدّة الهول لا ينظر أحد إلى غيره.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر:» ويوم تُسيَّر الجبالُ «بضم التاء ورفع الجبال، والباقون» نسير «بضم النون ونصب الجبال.
ثم بين كيفية حشرِ الخلق وعرضِهم على ربهم بقوله:
{وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً. . .} .
ويعرَض الناس في ذلك اليوم على الله في جموع مصفوفة ويقول الله تعالى: لقد بعثناكم بعدَ الموت كما أحييناكم أولَ مرة، وجئتمونا فُرادى حفاةً عراةً لا شيء معكم من المال والولد، وقد كنتم في الدنيا تكذِّبون بالبعث والجزاء.
ووُضع كتابُ الأعمال في يد كل واحد، فيبصره المؤمنون فَرِحين بما فيه، ويبصره الجاحدون فتراهم خائفين مما فيه من الأعمال السيئة. وعند ذلك يقولون: يا ولينَا ما لِهذا الكتابِ لا يترك صغيرةً ولا كبيرة الا بيَّنها بالتفصيل والدّقة وعدَّها!! .
ثم اكد الله ذلك بقوله: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} .
ووجدوا أمامهم في كتابهم كلَّ عملٍ عملوه مثبتا، والله سبحانَه عادلٌ لا يظلم أحداً من خَلْقه بل يعفو ويصفح، ويغفر ويرحم، ويعذّب من يشاء بحكمته وعدله.
أخرج ابن المنذر عن معاذ بن جبل رضي الله عن هـ ان النبي صلى الله عليه وسلم قال:» ان الله تعالى ينادي يوم القيامة: يا عبادي، أنَا الله لا اله الا انا ارحمُ الراحمين وأَحكَم الحاكمين واسرع الحاسبين، أحضِروا حجّتكم، ويسرِّروا جوابكم، فإنم مسئولون محاسَبون «
فَسَقَ عن امر ربه: خرج عن طاعته. فهم لكم عدو: العدو يطلق على الواحد والجمع. العضد: ما بين المرفق والكتف ومعناه هنا المعين المساعد والنصير. فدعوهم: فاستغاثوا بهم فلم يغيثوهم. موبقا: حاجزا فيه الهلاك. الموبق: المهلك، وبق يبق وبوقا: هلك. مواقعوها: واقعون فيها. مصرفا: مكانا ينصرفون اليه.
{وَإِذَا قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ. . . .} .
تقدم ذلك في الآية 34 من سورة البقرة والآية 11] من سورة الاعراف، والآية 61 من سورة الاسراء، وهي في كل موضع جاءت لفائدةٍ ومعنى غير ما جاءت له في المواضع الأخرى، على اختلاف اساليبها وعباراتها المعنى المراد منها.
وهنا يشير الله تعالى الى أن الكفر والعصيانَ مصدرهما طاعة الشيطان، وابليس أعدى الأعداءِ. وقد خرج عن طاعة الله ولم يسجد لآدمَ سجودَ تحيَّةٍ وإكرام، مع ان الملائكة كلَّهم سجدوا وأطاعوا أمرَ ربهم، فعصى ربه عن امره. ومعهذا وبعد ان عرفتم عصيانه وتمرُّدَه على الله تتخذونه هو وأعوانَه أنصاراً لكم من دون الله، وهم لكم اعداء!
{بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} بئس البدلُ للكافرين بالله اتخاذُ إبليسَ وذرّيته أولياءَ من دونه.
ما أطلعتهم على أسرار التكوين، وما احضرتُ إبليس ولا ذريته خَلْقَ السموات والارض وما أشهدتُ بعضَهم خلق بعض لأستعين بهم، وما كنتُ في حاجةٍ الى معين، وما كنت متخذ المضلِّين الجاحدين أعوانا وانصارا، تعالى الله الغنيُّ عن العالمين.
ثم اخبر سبحانه عما يخاطَب به المشركون يوم القيامة على روؤ الاشهاد تقريعاً لهم وتوبيخا فقال:
اذكر لهم أيها الرسول يوم يقول الله للمشركين: نادوا الذين ادَّعيتم أنهم شركائي في العبادة ليشفعوا لكم كما زعمتم، فاستغاثوا بهم فلم يُجيبوهم، وجعلْنا بينهم حاجزاً مهلكا، وهو النار. ورأى المجرمون النارَ بأعينهم، فأيقنوا انهم واقعون يها، ولم يجدوا عنها مَحِيدا.
قراءات:
قرأ حمزة وحده: «ويوم نقول» بالنون، والباقون:«ويوم يقول» بالياء.
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} .
لقد وضحنا للنا كلَّ ما هم في حاجة إليه من أمورِ دينهِم ودنياهم، ليتذَّكروا ويعتبروا، لكنهم لم يقبلوا ذلك.
{وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}
كان الانسان بمقتضى جِبِلَّتِه اكثرَ شيء مِراءً وخصومة، لا يُنيب الى حق، لا يزدَجِر بموعظة.
{وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا. .}
وما منع هؤلاءَ المشركين من الإيمان، حين جاءهم الحقُّ وهو الرسول والقرآن، الا تعنُّتهم وطلبهم من الرسول أن يأتيَهم بالهلاك، وهي سُنَّةُ الاولين، أو يأتيَهم العذابُ مواجهة وعيانا.
قراءات:
قرأ اهل الكوفة: «قُبُلا» بضم القاف والباء. والباقون: «قبلا» بكسر القاف وفتح الباء
{وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلَاّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ. . .} .
وما نرسل الرسلَ والأنبياء الا ليبشّروا بالإيمان والتصديق بالله ورسُله وبجزيل ثوابه، وينذِروا الناسَ بعظيم عقابه وأليم عذابه.
ويجادل الذين أشركوا بالباطل، ليُبْطِلوا الحق، واتخذوا آيات الله وحُجَجَهُ والنذُرَ التي انذرهم بها استهزاء وسخريّة.
اكنة: أغطية، واحدها كنان. ان يفقهوه: ان يفهموه. وقرا: ثقلاً. موئلا: ملجأ، يقال وَأُلَ يَئِل وَأْلاً وَوُؤلاً: لجأ.
ليس هناك أظلمُ ممن وُعظ بآيات الله فلم يتدّبرها، ونسي عاقبةَ ما عمل من المعاصي، وبسبب مَيْلِهم الى الكفر جعلْنا على قلوبهم أغطية، فلا تعقِل، وفي آذانهم صَمماً فلا تسمع، وإن تدْعُهم ايها الرسول الى دين الله الحق فلن يهتدوا ابدا.
ثم بين الله تعالى انه لا يعجِّل العقوبة لعباده على ما يقترفون من السيئات والآثام، لعلّهم يرجعون اليه ويتوبون فقال:
{وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب. . .} .
إن ربك ايها الرسول عظيمُ المغفرة لذنوب عباده، فهو يرحمهم ويتجاوز عن خطاياهم. ولو شاء ان يؤاخذَهم على أعمالهم السيئة لعجَّل لهم العذاب، لكنّه لحكمة قدّرها إنما أخّرهم لموعدٍ ليس لهم عنه مهرب ولا ملجأ.
{وَتِلْكَ القرى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً} . وتلك القرى من عاد وثمود واصحاب الأيكة وغيرهم دمرناهم لما ظلم اهلها بتكذيب رسلهم، وجعلنا لهلاكهم موعدا، وكذلك نفعل بالمكذبين من قومك اذا لم يؤمنوا.
قراءات:
قرأ حفص: لمهلكهم: بفتح الميم وبكسر اللام والكاف. وقرأ ابو بكر: لمهلكهم: بفتح الميم واللام: والباقون: لمهلكهم: بضم الميم وكسر اللام.
فتاه: خادمه، تلميذه. لا ابرح: لا ازال سائرا. مجمع البحرين: مكان اجتماعهما. حقبا: مدة طويلة: سربا: مسلكا. نصيبا: تعبا. اوينا: التجأنا. ذلك ما كنا نبغي: ذلك ما كنا نريد. فارتدا على آثارهما قصصا: رجعا في نفس الطريق التي جاءوا منها. الحوت: السمكة الكبيرة.
هذه القصة الثالثة التي اشتملت عليها سورة الكهف، وهي قصة موسى مع الرجل الصالح الذي آتاه الله علما. وهذه القصة وردت هنا في سورة الكهف ولم تكرر في القرآن. وموسى هذا اختلف المفسرون فيه: هل هو موسى بن عمران النبي المرسل صاحب التوراة، او موسى آخر؟ واكثر المفسرين على انه موسى بن عمران. وقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله عن هما: ان نوفا البكالي من اصحاب امير المؤمنين علي بن ابي طالب كرم الله وجهه، يزعم ان موسى صاحب الخضر ليس موسى صاحب بني اسرائيل، فقال ابن عباس: كذب عدو الله.
ونوف البكالي هذا كان من التابعين ومن اصحاب سيدنا علي بن ابي طالب وإمام اهل الشام في عصره. وكان ابن زوجة كعب الاحبار، وكان راويا للقصص، توفي نحو سنة 95 هـ.
وعند اهل الكتاب وبعض المحدّثين والمؤرخين ان موسى هذا ليس موسى بن عمران، بل موسى آخر، وهو متقدم في التاريخ.
والقرآن الكريم لم يحدد الاسماء ولا زمن الحادثة، ونحن لا يهمنا الاشخاص وانما نقف مع نصوص القرآن، والعبرة من القصص، وما نستفيد منها.
وفتاه: يقول المفسرون انه يوشع بن نون تلميذه وخليفته. ومجمع البحرين لم يحدَّد مكانهما، وهناك اقوال كثيرة منها انهما البحر الاحمر والبحر الابيض، او مجمع البحرين عند طنجة وغير ذلك.
قال البقاعي في «نظم الدرر» : الظاهر واللهُ اعلم ان مجمع البحرين عند دمياط او رشيد من بلاد مصر، حيث مجمع النيل والبحر الابيض.
وكلها اقوال بدون دليل او خبر قطعي.
{وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً. . .} .
اذكر ايها الرسول حين قال موسى لفتاه خادمه وتلميذه: سأظل اسير حتى ابلغ ملتقى البحرين او أسير زمنا طويلا حتى التقي به.
وسبب ذلك كما في كتب الحديث: «عن ابي كعب رضي الله عن هـ انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ان موسى قام خطيبا في بني اسرائيل، فسئل اي الناس اعلم؟ قال: أنا، فعتب الله عليه اذ لم يردّ العلم اليه، فأوحى الله اليه ان لي عبدا بمجمع البحرين هو اعلم منك. قال موسى: يا رب وكيف لي به؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله بمكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو هناك» المِكتَل: النزبيل، القفة.
فلما وصل موسى وفتاه المكان الجامع بين البحرين نسيا حوتهما الي حملاه معهما، وكان الحوت سقط في الماء وغاص فيه.
فلما ابتعدا عن ذلك المكان، أحس موسى بالجوع والتعب، فقال لفتاه: آتنا غداءنا، لقد لقينا في هذا السفر تعبا ومشقة.
فقال له فتاده: اتذكر حين جلسنا نستريح عند الصخرة، فاني نسيت الحوت هناك، ان الحوت سقط في البحر، ونسيت ان اذكر لك ذلك، وما انساني ذلك الا الشيطان.
فقال له موسى: ان هذا الذي حدث هو ما اريده لحكمة ارادها الله. فرجعا في الطريق الذي جاءا فيه يتتبعان اثرهما حتى أتيا الصخرة.
رشدا: اصابة الخير. على ما لم تحط به خُبرا: على معرفة الشيء معرفة تامة. والخُبر: المعرفة. ذكرا: بيانا وشرحا.
فلما بلغا تلك الصخرة وجدا عندها رجلا صالحا اعطاه الله الحكمة، أي علّمه من عنده علما كثيرا. وسلم عليه موسى، وقال له: هل اصحبك لتعلمني مما علمك الله أسترشدُ به في امري؟ فقال الرجل الصالح: انك لن تستطيع الصبر على ما تراه مني.
وكيف تصبر على أمور ظاهرها منكر، وباطنها مجهول لا خبرة لك بمثلها؟ قال موسى: ستجدني ان شاء الله صابرا معك مطيعا لك فيما تأمر به.
قال الرجل الصالح: ان سرت معي ورأيت اني عملت عملاً منكرا فلا تعترض علي وتسألني عنه حتى أحدثك عنه وأبين لك سره.
وهذا العبد الصالح اختلف العلماء فيه، هل هو الخضر كما هو شائع بين اكثر المفسرين او هو رجل آخر، وهل هو نبي او ملك من الملائكة، او ولي؟ وهذا قول كثير من العلماء.
واختُلف فيه: هل هو لا يزال حيا الى اليوم او انه مات، فقد انكر البخاري ان يكون حيا، وعلماء السنة يقولون انه ميت بدليل قوله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد} [الأنبياء: 34] .
وبذلك جزم ابنُ المناوي وابراهيم الحربي وابو طاهر العبادي، وابو يعلى الحنبلي، وابو الفضل بن تامر، والقاضي ابو بكر بن العربي، وابو بكر بن النقاش، وابن الجوزي. قال ابو الحسين بن المناوي: بحثت عن تعمير الخشر، وهل هو باق ام لا فاذا اكثر المغفلين مغترون بانه باق، والاحاديث الواردة واهية والسند الى اهل الكتاب ساقط لعدم ثقتهم.
وقال في «فتح البيانط: والحق ما ذكره البخاري واضرابه في ذلك، ولم يرد في ذلك نص مقطوع به، ولا حديث مرفوع اليه صلى الله عليه وسلم حتى يقيمه عليه.
ويقول الصوفيون انه حي، وان بعضهم لقيه، وهذا كلام ليس عليه دليل ويناقض نصوص القرآن.
وبما انه لم يرد نص معتمد في القرآن او الحديث فاننا نكتفي بالعبرة من القصة، ولا يهمنا معرفة الاسماء والاشخاص.
وقد كتبا لحافظ ابن حجَر في» الاصابة «بحثا طويلا في نحو عشرين صفحة قال فيه: وقد جمعت من اخباره ما انتهى إليّ علمه مع بيان ما يصح من ذلك وما لا يصح.
إمرا: منكرا. لا ترهقني: لا تحمّلني ما لا اطيق. العسر: الشدة والمشقة وضد اليسر، يعني ارفق بي وعاملني باليسر. زكية: طاهرة من الذنوب. نكرا: منكرا تنفر منه النفوس. قد بلغت من لدني عذرا: وجدت عذرا من قبلي. استطعما اهلها: طلبا منهم ان يطعموهما. جدارا يريد ان ينقض: حائطا مشرفا على السقوط. فأقامه: فسوّاه ورممه. هذا فراق بيني وبينك: إلى هنا انتهى اجتماعنا. سأنبك بتأويل: سأخبرك بتفسير ما لا تعرفه. خيرا منه زكاة: احسن منه طهارة. واقرب رحما: قرابة ورحمة. كنز: مال مدفون تحت الجدار. يبلغا اشدهما: بلوغ الرشد وكمال العقل.
فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، حتى وجدا سفينة فركباها، فخرقها العبد الصالح فاعترض موسى قائلا: أخرقتَ السفينة لتغرق من فيها من الركاب؟ لقد راتكبت امراً منكرا.
قال العبد الصالح: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} لما ترى من اعمالي ولا تدرك سرها.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: «ليغرق اهلها» بالياء ورفع اهلها.
قال له موسى: لا تؤاخذني فقد نسيت العهد الذي بيننا، ولا ترهقني وتكلفني مشقة ويسّر عليّ أمري.
وخرجا من السفينة فانطلقا يمشيان، فلقيا صبياً، فقتله العبد الصالحن فقال موسى مستنكرا هذا العمل: كيف تقتل نفسا طاهرة بريئة من الذنوب، ولم ترتكب ذنبا!
{لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} لقد ارتكبت اثما عظيما.
الى هنا تم تفسير الجزء الخامس عشر، والحمد لله على ذلك، واسأل الله تعالى ان يعين على اتمامه وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} .
قال العبد الصالح: لقد قلت لك: انك لن تستطيع الصبر على ما ترى من اعمالي.
قال موسى: ان سأتلك عن شيء بعد هذه المرة عن عجيب افعالك التي اشاهدها فلا تصاحبني، قد بلغتَ الغاية التي تعذر بسببها في فراقي.
قراءات:
قرأ يعقوب: فلا تصحبني. والباقون: فلا تصاحبني. وقرأ نافع: من لدني. بتخفيف النون. وقرأ ابو بكر: من لدني: بإسكان الدال.
قرأ ابن كثير والبصْرِيَّان: لتخِذت عليه اجرا، بفتح التاء وكسر الخاء.
فانطلقا يمشيان حتى وصلا الى قرية، فطلبا من اهلها ان يطعمهما، فرفضوا ان يضيّفوهما ووجدا في القرية جدارا يكاد يسقط، فسوّاه العبد الصالح ورممه. فقال موسى: لو شئت لطلب اجره على بنائه.
فقال: هذا الاعتراض الدائم منك على ما افعل سبب الفراق بيني وبينك، وسأخبرك بحكمة هذه الافعال التي خفي عليك امرها ولم تستطع الصبر عليها.
اما السفينة التي احدثتُ فيها خرقا، فهي لمساكين ضعفاء يعملون بهافي البحر لتحصيل رزقهم، فاحدثتُ فيها عيبا، لانه كان هناك ملك يغتصب كل سفينة صالحة، وبعملي هذا نجت السفينة من ذلك.
واما الغلام الذي قتلته، فكان ابواه مؤمنين، وعلمت انه ان عاش فإنه سيكون سبباً لكفرهما.
واراد ربك بقتله ان يعوضهما خيرا منه ديناً واقرب براً ورحمة. واما الجدار الذي أقمته دون اجر، فكان لغلامين يتيمين من اهل المدينة، وكان تحته مال مدفون تركه ابوهما لهما، وكان رجلا صالحا، فاراد الله ان يحفظ لهما ذلك المال حتى يبلغا رشدهما ويستخرجاه، رحمة ربهما، وتكريماً لأبيهما.
واعلمْ اني ما فعلت هذا كله بأمري واجتهادي من عندي نفسي، وانما فعلته بتوجيه من ربي، هذا تفسير ما خفي عليك يا موسى، ولم يستطع الصبر عليه.
قرأ نافع وابو عمرو: ان يبدلهما بتشديد الدال. وقرأ ابن عامر ويعقوب وعاصم: رحما بضم الراء واسكان الحاء. والباقون: رحما بضم الراء والحاء.
اختلف المؤرخون والمفسرون في شخصية ذي القرنين، فقال كثير من المفسرين انه اسكندر المقدوني، وفي تاريخ ملوك حمير واقيال اليمن ان ذا القرنين هو تبَّع بن شمر يرعش. . وانه غزا بلاد الروم واوغل فيها حتى وصل الى وادي الظلمات.
وفي رواية انه الصعب بن تبع ابن الحارث ويلقب بذي القرنين، وروايات كثيرة، وكلها من باب الرجم بالغيب والظن الذي لا يغني عن الحق شيئا.
ويقول ابو الكلام أزاد في كتابه عن ذي القرنين انه «كورش الأكبر» مؤسس الاسرة الاخمينية، والذي يقول العقاد إننا اذا انعمنا النظر في التاريخ نجد ان اوصافه تنطبق على ما وصف به القرآن ذا القرنين، اذ كان ملهماً وفاتحا عظيما، غزا الارض شرقا وغربا واقام سدا ليصد به هجمات المغيرين من «يأجوج ومأجوج» على بلاده. واما اسكندر المقدوني فقد كان وثنيا معروفا بالقسوة والوحشية، ثم ان الاسكندر لا يعقل ان يكون هو باني سور الصين، فهو اولاً لم يصل الصين، بل عاد من الهند حيث تمرد عليه رجاله، وان سد الصين بني بعده بنحو مائة وعشرين سنة. ما بين سنة 246 - 209 قبل الميلاد وبانيه معروف وهو الملك «ش هو انجتي» . وطول سد الصين 2400 كيلو متر استغرق بناؤه سنين عديدة. وسيأتي الكلام على السد ومكانه قريبا.
ذكراً: خبرا. مكنّا له في الارض: جعلنا له قوة وسلطة. آتيناه من كل شيء سببا: هيأنا له السبب الذي يوصله الى ما يريد. وأتبع سببا: سار في طريقه. حمئة: ذات طين اسود. نكرا: فظيعا. الحسنى: المثوبة الحسنة. يسرا: سهلا ميسرا. خبرا: علما.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً}
يسألك بعض زعماء قريش ايها الرسول عن نبأ ذي القرنين فقل لهم سأقص عليكم بعض اخباره.
روي في سبب نزول سورة الكهف ان زعماء قريش ارسلوا النضر بن الحارث وعقبة بن ابي معيط الى احبار اليهود بالمدينة، وقالوا لهما: سلاهم عن محمد وَصِفا لهم صفته، واخبراهم بقوله فانهم اهل الكتاب الاول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الانبياء. . فقال لهم اليود: سلوه عن ثلاث، فان اخبركم بهن فهو نبي مرسل والا فهو رجل متقوِّل فروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الاول، ما كان من امرهم، فانهم كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طوّاف بلغ مشارق الارض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فان اخبركم بذلك فهو نبيّ فاتبعوه. . . فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، فأخبروهم بما قال اليهود. فجاؤا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه عن هذه الأمور الثلاثة. فقال: اخبركم غدا عما سألتم ولم يَقُلْ ان شاء الله، ومكث خمس عشرة ليلة لم يأته الوحي. فأرجف اهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمش عشرة قد اصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه! وشق ذلك على النبي الكريم، ثم جاءه جبريل بسورة الكهف. وهناك روايات اخرى في سبب النزول ولا يهمنا ذلك كله، والمهم العبرة من القصص القرآني ويكفينا ذلك.
{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً}
انا مكنا لأمره في الأرض، فاعطيناه سلطانا قويا، ويسرنا له اسباب الحكم والفتح، واسباب البناء والعمران، وآتيناه الكثير من العلم بالاسباب كي يستطيع توجيه الأمور، ورحل ثلاث رحلات: واحدة الى المغرب، وواحدة الى المشرق، وواجدة الى ما بين السدّين.
قراءات:
قرأ ابن عامر واهل الكوفة: فأتْبع سببا، بفتح الهمزة وسكون التاء، اولباقون: فاتَّبع سببا: بجعل الهمزة الف وصل، وتشديد التاء المفتوحة.
{فَأَتْبَعَ سَبَباً} ومضى بهذه الاسباب يبسط سلطانه على الارض، حتى اذا وصل الى مكان بعيد جهة مغرب الشمس، ووقف على حافة البحر، وجد الشمس تغرب عند عين ذات حمأة وطين اسود، ووجد بالقرب من هذه العين قوما كفارا. فألهمه الله ان يتخذ فيهم احد امرين: اما ان يدعوهم الى الايمان، وهذا امر حسن في ذاته؛ واما ان يقاتلهم إن لم يجيبوا داعي الايمان.
قراءات:
قرأ ابن عامر واهل الكوفة الا حفصا: في عين حامئة. والباقون: في عين حمئة بفتح الحاء وكسر الميم وفتح الهمزة، كما هو في المصحف.
قرأ اهل الكوفة الا ابا بكر: فله جزاءً الحسنى: بنصب جزاء مع التنوين. والباقون فله جزاءُ الحسنى: برفع جزاء واضافته الى الحسنى.
فقال ذو القرنين: ان من ظلم نفسه بالبقاء على الشرك، استحق العذاب في هذه الدنيا على يديه، ثم يرجع الى ربه فيعذبه عذابا شديدا.
واما من استجاب وآمن بِرِبِه وعمل صالحا، فله المثوبة الحسنى في الآخرة، وسنعامله في الدنيا برفق ولين ويسر.
{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} وقفل راجعا من مغرب الشمس حتى بلغ مشرق الشمس حيث بلغ غاية المعمور من الارض في ذلك الزمن، فوجدها تطلع على قوم ليس لهم بناء يكنّهم، ولا لباس لهم، فهم عراة في العراء او في سراديب في الارض.
{كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً}
ان امر ذي القرنين كما وصنا من قبل بلوغه طرفي المشرق والمغرب، ونحن مطلعون على جميع احواله لا يخفى علينا شيء منها.
السدين: الجبلين. خَرْجا: اجرة من اموالنا. ردما: حاجزا. زبر الحديد: قطع الحديد، المفرد زبرة، الصدفين: واحدها صدف: جانب الجبل. قطرا: نحاسا مذابا، او رصاصا. ان يظهروه: ان يرقوا عليه ويجتازوه. دكَّاء: مهدوما مستويا مع الارض. نفخ في الصور: الصور: قرنٌ ينفخ فيه فيحدث صوتا عاليا.
وهذه رحلة ذي الرقنين الثالثة فلما وصل الى مكان بعيد بين جبلين وجد هناك قوما لا يفهمون ما يقال لهم لغرابة لغتهم وجهلهم. ويقال ان الجبلين المذكورين عند مدينة دربند، بالقرب من مدينة ترمذ حيث يرعف بباب الحديد.
قال المجاورون لهذين الجبلين لذي الرقنين انه يوجد اناس مفسدون في الارض وهم يأجوج ومأجوج، ويقال انهم التتر والمغول، وكانوا يغيرون على الأمم المجاورة لهم فيفسدون ويدمرون، ولذلك توسل المجاورون الى ذي القرنين ان يجعل بينهم وبينهم سدا.
ولذلك أجاب طلبهم بانه بحول الله وقوته سيبني هذا السد، وشرع فيه وقال لهم: أعينوني بما تقدرون عليه من رجال وادوات احققْ لكمهذا الطلب و {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} . وطلب منهم ان يمدوه بقطع الحديد، فاقام سدا عاليا ساوى به بين حافتي الجبلين، ثم امر ان يوقدوا نارا حتى انصهر الحديد فصب عليه النحاسَ المذاب، فاصبح سدا منيعا. ويقول الخبراء الذين زاروا تلك المنطقة: ان هذا السد موجود الآن ويُعرف بسد دريند، وطوله 50 ميلا وراتفاعه 29 قدما، وسمكه عشرة اقدام، وتتخلله بعض الأبواب الحديدية، فوي اعلاه برج للمراقبة.
{فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْباً} .
فما استطاع يأجوج ومأجوج ان يجتازوه، ولا ان ينقبوه لصلابته.
وبعد ان أتم ذو القرنين بناء السد، قال شاكرا لله:
ان هذا السد من رحمة الله بكم، وسيظل قائما حتى يسويه بالارض، وان امر الله نافذ لا محالة.
وهذا النص لا يحدد معينا لخروج يأجوج ومأجوج، ففي سورة الانبياء {حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [فمن الجائز ان تكون هي غارات المغول والتتر التي دمرت ملك العرب بتدمير الخلافة العباسية على يد هولاكو، ويكون هذا تصديقا للحديث الصحيح الذي رواه الامام احمد عن زينب بنت جحش قالت: استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه وهو محمر الوجه وهو يقول:
«ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا.
وحلّق باصبعيه السبابة والابهام. قلت: يا رسول الله انهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم اذا كثر الخبث «.
{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصور فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً}
وتركنا يأجوج ومأجوج خلق السد يموج بعضهم في بعض لكثرتهم الى ان نأمر بفتحِهِ ويخرجون الى ما وراءه يفسدون ويدمرون كعادتهم.
فاذا كان موعد يوم القيامة ونفخ في الصور، يجمع الله الخلائق جميعا للحساب والجزاء.
قراءات:
قرأ نافع وحمزة والكسائي وابن عامر وابو بكر ويعقوب: بين السدّين بضم السين. والباقون بين السدين بفتح السين، وهما لغتان.
وقرأ حمزة والكسائي:» لا يكادون يفقهون قولا «بضم الياء وكسر القاف. والباقون: يفقهون بفتح الياء والقاف. وقرأ عاصم وحده: يأجوج ومأجوج بالهمز. والباقون: ياجوج وماجوج بدون همز.
وقرأ أهل الكوفة: خراجا، الا عاصما: خرجا. وقرأ ابن كثير: ما مكنني. وقرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر الصُدفين بضم الصاد والدال، وقرأ ابو بكر: الصدفين بضم الصاد واسكان لادال. والباقون: الصدفين بفتح الصاد والدال. وقرأ حمزة وابو بكر: ائتوني. والباقون: آتوني بمد الهمزة. وقرأ اهل الكوفة: دكاء بالهمزة مع المد. والباقون: دكا، بدون همزة.
غطاء: غشاوة. اعتدنا هيأنا. نزلا: اصل النزل ما يُهيّأ للضيف النزيل، وهنا جعل جهنم مكانا لهؤلاء الجاحدين ينزلون به. الهزؤ: السخرية.
{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ. . .}
بعد ان ذكر الله تعالى انه اذا نفخ في الصور وجاء يوم القيامة جمع الناس من جميع اطراف الارض - بين هنا انه عند ذلك يُبرز جهنم ويعرضها للذين كفروا بالله، الذين كانت اعينهم في الدنيا مقفلة، وقلوبهم في غفلة عن ذكره، وكانوا لا يستطيعون ان يسمعوا ذكر الله.
ثم بين ان ما اعتمدوا عليه من المعبودات الاخرى لا تنفعهم ولا تنصرهم في ذلك اليوم.
{أَفَحَسِبَ الذين كفروا أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دوني أَوْلِيَآءَ. . .}
اظنوا ان اتخاذهم المعبودات الضعيفة التي لا تملك لهم ضرا ولا نفعا ينفعهم او ينجيهم من العذاب. إنا أعتدنا لهم جهنم مقرا ينالون فيه ما يستحقون من جزاء.
وفي ذلك تهكم بهم، وتهطئة في حسبانهم ذلك، واشارة الى ان لهم وراء جهنم الوانا اخرى من العذاب.
ثم بين سبحانه ما فيه تنبيه الى جهلهم وخسرانهم فقال:
قل ايها الرسول لهؤلاء الجاحدين هل نخبركم بأشد الناس خسرانا لأعمالهم، الذي بطل عملهم في الحياة الدنيا، وهم يعتقدون انهم يحسنون بعملهم صنعا! انهم عملوا بغير ما امرهم الله به، وظنوا انهم بفعلهم هذا مطيعون له، وقد ذهب سعيهم هباء فلم يجدِهم شيئا.
ثم بين الله السبب في بطلان سعيهم فقال:
هؤلاء الذين كفروا بما جاء به الرسول من دلائل وآيات، وانكروا البعث والجزاء ولقاء الله فحبطت اعمالهم، اي فسدت وبطلت. وأصل الحبوط انتفاخ بطن الدواب عندما تأكل شيئا يضرها من الكلأ ثم تلقى حتفها، وهذا انسب شيء لوصف اعمال هؤلاء الكفار الذين هم اشبه شيء بالدواب. ولذلك سوف يمهَلون يوم القيامة ويتركون في جهنم، ولا قيمة لهم.
ثم بين مآلهم بسبب كفرهم وسائر معاصيهم بعد ان بين حبوط اعمالهم وخسرانهم فقال {ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ واتخذوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً} ذلك الذي بيناه وفصلناه شأن هؤلاء، وجزاؤهم جهنم بسبب كفرهم وسخريتهم بما انزل الله.
الفردوس: المنازل العليا في الجنة: حِوَلا: تحولا. مدادا: حبرا. يرجو لقاء ربه: يطمع في لقائه.
بعد ان ذكر سبحانه ما اعده للكفار من عذاب، جزاءَ جحودهم بربهم واستهزائهم برسله وآياته - بين هنا لمقابل، وهو حال المؤمنين وما ينتظرون من نعيم مقيم وجنات تجري من تحتها الانهار فقال:
ان الذين آمنوا بالله ورسوله، وصدقوا المرسلين فيما جاؤا به، وعملوا صالح الاعمال جزاؤهم اعلى المنازل في الجنة، خالدين فيها ابدا، لا يرضون غيرها بديلا.
ثم ختم السورة ببيان حال القرآن الذي فيه الدلائل والبينات على وحدانية الله، وارساله الرسل، وكلماته التي لا نهاية لها، فالبحرُ وسعه مهما كبر يظل صغيراً الى جنب علم الله وكلماته التي تمثل العلم الالهي الذي لا حدود له، والذي لا يدرك البشر نهايته.
{قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي. . .} قل ايها الرسول للناس: ان علم الله محيط بكل شيء، ولو كان ماء البحر مدادا يسطر به كلمات الله الدالة على علمه وحكمته لنفذ هذا المداد، ولو مد بمثله، قبل ان تنفذ كلماتُ الله، لأن علوم الله ولكماته لا نهاية لها. ومثل قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله} [لقمان: 27] .
{قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ. . .} قل لهم ايها الرسول: انما انا انسان مثلكم أستمد علمي من الوحي اللهي، اعلمكم ما علمني الله اياه، وقد اوحى الله الي ان ربكم واحد لا شريك له، فمن كان يطمع في لقاء الله وثوابه فليعمل الاعمال الصالحة مخلصا له، {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً} هذا هو العمل العظيم الذي ينجي الانسان عند لقاء ربه.
وهكذا تختم سورة الكهف التي بدأ بذكر الوحي والتوحيد بما بدئت به من ان محمد عليه الصلاة والسلام بشر مرسل يوحى اليه، والتوحيد وعدم الشرك هما الجواز الذي يوصل الى الجنة.
نسأل الله تعالى ان يجعل علمنا خالصا لوجهه الكريم.