الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ليُثْبتوك: ليمنعوك من الحركة بالحبس وشد الوثاق. يمكرون: يدبرون لك أخبث الحيل. ويمكر الله: يُبطل مكرهم الأساطير: واحدها أُسطورة، وهي الخرافات والاحاديث القديمة. مُكاءً: تصفيراً بالفم. وتصدية: تصفيقا باليد.
في هذه الآيات الكريمة تصوير لموفق المشركين وهم يبيتون لرسول الله قبل الهجرة ويتآمرون عليه.
اذكر أيها الرسول نعمة الله عليك إذ يمكر بك المشركون للإيقاع بك، إما بالحبس الذي يمنعك من لقاء الناس ودعوتهم الى الإسلام، وإما بالقتل، وإما بأن يُخرجوك من مكة، يدبّرون لكم التدبير السيء، والله تعالى يُبطل مكرهم بأن يدبرّ لك الخروج من شرهم. وتدبيرُ الله هو الخير وهو الأقوى والغالب.
ولما قص الله علينا مكرهم في ذاتِ النبيّ عليه السلام قصّ علينا هنا مكرهم في دِين محمد فقال:
{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا. . . .}
اذكر ايها النبي معاندة المشركين عندما كنتَ تقرأ عليهم آياتِ القرآن الكريم، وهي آياتنا، فيقولون جهلاً منهم وعناداً للحق: لو أردنا ان نقول مثل هذا القرآن لفعلْنا، ان هذا يشبه أساطير الأمم القديمة وخرافاتها.
وكان زعماء قريش كأبي جهل والوليد بن المغيرة والنضْر بن الحارث وغيرهم يتواصَون بالإعراض عن سماع القرآن ويمنعون الناس عنه. وكان النضر بن الحارث يحفظ كثيرا من أخبار الأمم القديمة كالفرس والهند واليهود، فكان يتتبع الرسول الكريم وكلّما سمعه يتلو القرآن، يجلس على إثره ويحدّث الناس بأخبار الملوك وقصص الفرس والهند ثم يقول: بالله أيّنا أحسن قصصنا؟ انا او محمد؟ .
ولقد أسره المقداد بن الأسودَ يوم بدر، وامر النبيُّ عليه الصلاة والسلام بقتله.
{وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} اذكر أيّها النبيّ كيف ذهبوا في الكفر والعناد الى ان قالوا، موجِّهين النداء الى ربهم: اللهمّ إن كان هذا القرآن وما يدعو اليه محمد هو الحقّ فاجعلْ السماء تمطر علينا حجارة، او أنزلْ علينا عذاباً شديدا.
وما كان من حكمة الله ورحمته ان يعذّبهم في الدنيا بعذاب شديد وانت فيهم تدعو الى الحقّ راجياً اجابتهم له، وما كان من شأنه ان يعذّب العصاة وهم يتسغفرونه، وسلمون ويرجعون عما هم فيه.
{وَمَا لَهُمْ أَلَاّ يُعَذِّبَهُمُ الله} .
وما لهم لايعذّبهم الله وحالُهم القائمة الآن تسوّغ تعذيبَهم، لأنهم يمنعون المسلمين من دخول المسجد الحرام، وما كانوا مستحقّين للولاية عليه لشرِكهم، وعملِ المفاسد فيه.
{إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلَاّ المتقون} أن أولياءه الحقيقيين هم المؤمنون الطائعون لله، ولكنّ أكثرَ المشرِكين لا يعلمون حقيقة الدين، ولا ماقم ذلك البيت الكريم.
{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ البيت إِلَاّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} وما كانت صلاة المشركين وطوافهم في البيت الحرام إلا من قبيل اللهو واللعب، فكانوا يطوفون رجالاً ونساءً عراةً يصفرون بأفواههم ويصفّقون.
{فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} ذوقوا عذابَ القتلِ لبعض كُبرائكم والأسرِ للآخرين منهم، وانهزمَ الباقين مدحورين يوم بدرٍ بسببِ كفركم.
قال بعض العلماء ان الآيات من رقم
30
الى 36 مكيّة، وذلك لأنها تتحدث عن سورة الهجرة وما كان يجري بمكة من أفعالِ مشركي قريش، وهذا وهمٌ غير صحيح، اذ ان سورة الأنفال كلّها مدنية، اما ما جاء ي هذه الآيات فهو لتسلية الرسول الكريم، وللعِبرة والذكرى.
يركمُه: يجعل بعضه فوق بضه.
لما اصيبت قريش يوم بدر، ورجع فلُّهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بقافلته- مشى رجال أصيب آباؤهم وأبناؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر، فكلَّموا أبا سفيان، ومن كانت له في تلك القافلة تجارة، قاولا: يا معشر قريش، إنَّ محمداً قد رزأكم، وقتل خِياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنّا ندرك منه ثأراً بمن أُصيب منا. ففعلوا، وجمعوا ما استطاعوا من المال، وموّلوا به غزوة أحد فنزلت فيهم.
إن هؤلاء الكفار الذي جحدوا آيات الله وأشركوا به، ينفقون أموالهم لمينعوا الناس عن الإيمان بالله واتّباع رسوله. . انهم سينفقون هذه الأموال لتكون حسرة عليهم، ولن تفيدهم شيئا، وسيُغلَبون في ساحة القتال في الدنيا ثم يساقون يوم القيامة الى جهنّم وستكون تلك هي الحسرة الكبرى لهم.
وليس ما حدَثَ قبل بدرٍ وبعدها إلا أنموذجاً من الأسلوب التقليدي لأعداء هذا الدين وقد استمرَ العداء منذ فجر الدعوة ولا يزال، ومن الشرق والغرب، فلم يتركوا وسيلة الا تخذوها ليهاجموا الإسلام والمسلمين، واللهُ سبحانه وتعالى حفظ هذا الدين، وسيُبقيهِ عاليا الى أن يرِث الأرضَ ومن عليها.
{لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب} لقد كتب تعالى النصر لعبادة المتقين والخذلان والحسرة لمن يعاديهم من الكفار، ليميز الكفرَ من الايمان، والحق والعدل من الجور والطغيان، وليجعل الخبيث بعضهَ فوق بعض، ثم يجعل اصحابه في جهنم، وهم الخاسرون في الدنيا والآخرة.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: «لِيُمَيِّز» بالتشديد والباقون لِيَميزَ كما هو في المصحف.
{قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ} ان باب الرجاء مفتوح في الاسم دائما، والفرصة أمامهم سانحة لينهوا عَمَّا هم فيه من الصدّ عن سبيل الله، وليتوبوا ويرجعوا الى الله، والله واسع المغفرة يغفر ما سبق من اعمالهم، والاسلام يجُبُّ ما قبله. أما اذا عادوا بد هذا البيان الى كفرهم، فإن سنّة الله في الأولين قد مضت، وهي ان يعذب المكذّبين، ويهب اولياءه النصر والعزّ التزموا بأوامر الشرع.
ويتجه الحديث الى المؤمنين:
استمِروا أيها المؤمنون في قتال المشركين حتى تزول الفتنةُ في الدين، ويمتنعوا عن إفسادهم لعقائد المؤمنين بالاضطهاد والأذى، فإن رجعوا عن الكفر وخلَصَ الدين لله، فإن الله تعالى عليمٌ بأعمالهم ومُجازيهم على ما فعلوا.
{وَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلموا أَنَّ الله مَوْلَاكُمْ نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} .
وإن استمرّوا على إعراضهم وإيذائهم للمؤمنينَ بعدَ بيان الرسول فاثبتُوا لهم أيّها المسلمون، واعلموا أنكم في وَلاية الله، وهو ناصرُكم عليهم، وحافظُكم منهم، وهو خير الحافظين.
وما غُلب المسلمون في هذه الأيام وذهَبَت أرضُهم إلا لنهم تركوا الاهتداء بهدي دينهم، وتركوا الاستعدا المادّي والحربيّ الذي طلبه بقوله:{وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] وتفرَّقوا دولاً كثيرة فذهبتْ ريحُهم وقلّتْ هيبتُهم وغُلبوا على أمرهم.
نسأل الله تعالى ان يوفقنا جميعا الى ما يحبّه ويرضاه، ويجمع شتاتنا على الخير والهدى فنعود صفّاً واحدا، ونعيد مقدّساتنا إلى حظيرة الإسلام، إنه نعم المولى ونعم النصير.
الغُنم والمغنم والغنيمة: ما يناله الانسان في الحرب من أموال الأعداء. يوم الفرقان: يوم بدر.
اعملوا ايها المؤمنون ان حُكم كل ما غنمتموه من الاعداء المحاربين ان يُقسم خمسة اخماس: خمس منها لله وللرسول ولقرابته، واليتامى، وهم أطفال المسملين الذين مات آباؤهم وهم فقراء، والمساكين، وهم ذوو الحاجة من المسلمين، وابن السبيل، وهم المنقطع في سفره ويُنفق من هذا المخصص لله وللرسول في المصالح العامة التي يقررها الرسول في حياته، ويقرّرها الإمامُ بعد وفاته، وباقي الخمس يصرف للمذكورين آنفا. واما الاخماس الاربعة الباقية من الغنيمة، فهي للمقاتلين.
وقرابة النبي عليه الصلاة والسلام هم بنو هاشم وبنو المطّلب، دون بني عبد شمس ونوفل.
روى البخاري عن مطعم بن جبير (من بني نوفل) قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان (من بين عبد شمس) الى الرسول فقلنا: يا رسول الله، أعطيتَ بني المطّلب وتركتَنا، ونحن وهم بمنزلة واحدة، فقال الرسول الكريم:(إنما بنو المطّلب وبنو هاشم واحِد) .
والسر في هذا ان قريشاً لما حصَرت بني هاشم في الشِعب وقاطعتهم دخَلَ معهم فيه بنو المطلب، ولم يدخل بنو عبد شمس ولا بنو نوفل.
والحكمة في تقسيم الخُمس على هذا النحو، أن الدولة التي تدير سياسة الأمة لا بدَّ لها من المال لتستعين به على القيام بالمصالح العامة، كشعائر الدين والدفاع عن الأمة، وهو ما جُعل لِلّه في هذه الآية، ثم ان هناك نفقة رئيس حكومتها وهو سهمُ الرسول فيها، ثم لِذوي القربى وذوي الحاجات من ضعفاء الأمة.
ولا يزال هذا الاعتبار معمولاً به في كثير من الدول مع اختلاف شئون المجتمع والمصالح العامة، فالمالُ الذي رُصد للمصالح العامة يدخل في موازنة الوزارات المختلفة ما بين مصروفات علنية وسرّية، ولا سيما الامور الحربية. وكذلك راتبُ رأس الدولة من ملكٍ او رئيس جمهورية، منه ما هو خاصٌ بشخصه، ومنه ما هو لأُسرته وعياله. ومن موازنة الدولة ما يُبذل لإعانة، الجمعيات الخيرية والعِلمية غيرها.
وعند الشيعة تفسيرٌ للغنيمة أعمُّ مما عند السنّة، كما أنهم اختلفوا عنهم في تقسيم الخمس، فقالوا: يُقسم الخُمس الى قسمين: الاول منها ثلاثة اسهم: سهمٌ لله، وسهم لرسوله، وسهم لذوي قرباه. وما كان لله فهو للرسول، وما كان للرسول فهو لقرابته، ووليُّ القرابة بعد النبي هو الإمام المعصوم القائم مقام النبي، فان وُجد أعطي له، وإلا وجَب إنفاقه في المصالح الدينية، وأهمُّها الدعوةُ الى الإسلام، والعملُ على نشره وإعزازه.
أما القسم الثاني فهو ثلاثة أسهم: سهم لأيتام آل محمد، وسهم لمساكينهم، وسهم لأبناء السبيل خاصة، لا يشاركهم فيه أحد لأن الله حرّم عليهم الصَدقات فعوّضهم عنها بالخمس.
فاعلموا ذلك أيها المسلمون، واعملوا به كنتم آمنتم بالله حقا، وآمنتم بما أَنزلْنا على عبدنا محمد يوم الفرقان من آيات التثبيت والمدد، وهو اليوم الذي التقى فيه جمعكم وجمع الكافرين ببدر.
{والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ومن عظيم قدرته ان نصَركم على قلتكم وضعفكم، وخذل الكافرين مع كثرتهم.
العدوة: جانب الوادي ويجوز في العين الفتح والضم والكسر. القُصْوى: مؤنث الأقصى ومعناها البعيدة. البينة: الحجة الظاهرة. ذات الصدور: ما يدور في النفس من افكار.
اذكروا حين كنتم في موقعة بدر بالجانب الأقرب الى المدينة، وكفار قريش في أبعدِ الجانبين، والقافلةُ التي خرجتم تطلبونها أقربُ إليكم مما يلي البحر، ولو تواعدتُم على التلاقي للقتال لما اتّفقتم عليه، ولكن الله دبَّر تلاقيكم على غير موعد، لينفِّذ أمراً كان ثابتاً في علمه انه واقع لا محالة، وهو القتال المؤدي الى نصركم وهزيمتهم.
{لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ} ليهلك الهالكون من كفار قريش عن حجَّة ظاهرة، وهي هزيمة الكثرة الكافرة ويحيا المؤمنون من حجّة بينة، وهي نصر الله للقلة المؤمنة، إن الله لَسميع عليم لا يخفى عليه شيء من أقوال الفريقين ولا نيّاتهم.
قراءات:
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: «بالعِدوَة» بكسر العين والباقون بالضم.
اذكر أيها الرسول حين تفضّل الله عليك، فأراك في منامك جيشَ الأعداء في قلة. كان ذلك ليُظمئنكم أنكم ستغلبونهم، فتثبتوا أمام جمعهم حين يلتقون، ولو ترككم تروْنهم كثيراً، دون ان يثبتكم بهذه الرؤيا - لخِفتم منهم ولتردَّدتم في قتالهم. ولكن الله سلَّم أصحابك يا محمد من ذلك ونجّاهم من عواقبه، إنه عليم بما تخفيه الصدور من شعور الجبن والجزع الذي تضيق به فيُحجم اصحابها عن القتال.
اذكر ايها الرسول ايضا كيف كان الله يريكم أعداءكم قلّة عند التلاقي ليشد من عزمكم، وتقاتلوهم بجرأة وثبات، كما يُظهركم في اعينهم قلّة، زيادةً في الغرور بكثرتهم حتى قال ابو جهل: غنما أصحاب محمد أكلة جزور، يعني يكفيهم جزور واحد لقلّتهم. وذلك ليتم أمرٌ علمه الله، وكان لا بد ان يتم. والى الله ترجع الامور كلها فلا ينفُذُ الا ما قضاه وهيّأ أسباب بعدْله وحكمته.
تفشلوا: تجبنوا وتضعفوا. تذهب ريحكم: تذهب قوتكم وهيبتكم. البطر: إظهار الفخر، والطغيان في النعمة. رياء: نكَص: جرع، تولى الى الوراء. الذين في قلوبهم مرض: ضعاف الإيمان.
هذا هو النداء السادس: يؤكد ما تضمّنته النداءات السابقة من مبادئ وأُسسٍ ضرورية للحصول على النصر، وفيه يأمر الله المؤمنين بالتزام الفضائل والاخلاق التي لا بد من التحلي بها ساعةَ اللقاء في الحرب.
وأوّلها الثباتُ أمام الأعداء، ثم ذِكر الله بالقلب واللسان، واستحضارُ ثم طاعةُ الله والرسول، فكلّ مخالفةٍ تؤخر النصر، وفتتح ثغرة للعدوّ. ثم يؤكد ذلك كله بتحذير يسد به نافذةً خطِرة يهبُّ منها والفساد، هي نافذة التنازع والاختلاف فيما بينهم، مما يؤدي الى الفشل وذهاب القوة هذه قاعدة مطّردة من قواعد الاجتماع، وسنّة ثابتة من سنن الله. وهذا ما هو حاصل في مجتمعنا العربي، وهو داؤنا الّذي يفتّت قوانا ويجعل العدو يعيش ويتوسّع.
يا أيها الّذين آمنوا إذا لقيتم فئةً من أعدائكم فاثبُتوا، وأكثِروا من ذِكر الله مستحضِرين عظمته وحسن وعده بنصركم. إن الثباتَ وذِكر الله هما وسيلتان من وسائل الفوز والنصر.
وأطيعوا الله ورسوله فيما أُمرتم به او نُهيتم عنه، وتجنّبوا النتنازعَ والاختلاف فيما بينكم، فإن ذلك من اكبر اسباب الفشل والخيبة. واصبِروا على الشدائد وما تلقَون من مكارِه الحرب من بأس العدوّ واستعداده وكثرة عدده، فإن الله مع الصابرين يمدُّهم بالعَون والتأييد. . . ومَن كان الله معه غالب له.
{وَلَا تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ الناس} ولا تكونوا كأعدائكم المشرِكين الذين خرجوا من ديارهم في مكة مغرورين بَطِرين، متظاهرين أمام الناس رياءً يريدون الثناء عليهم بالشجاعة.
{وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} والله عليم بما جاءوا من أجله، عالِم بأعمالهم، وسوف يجازيهم عليها في الدنيا والآخرة.
{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} اذكر أيّها الرسول للمؤمنين كيف زيّن الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوستِه، قائلا لهم إنه لا أحدّ من الناس يغلبهُم، لأنه هو مجيرٌ لهم، فلما تقابلَ الفريقان في الحرب نكص على عقِبيه وهرب وتبرّأ منهم. لقد خاف أن يُهلكه الله، واللهُ شديد العقاب على الذنوب.
{إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ} اذكر يا محمد ماذا كان يقول المنافقون من الكفّار، وضعفاء الإيمان عند رؤيتكم في إقدامكم وثباتكم: لقد غرَّ هؤلاء المسلمين دينهم.
{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَإِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ومن يكِل أمهر إلى الله ويؤمن إيماناً خالصاً فان الله يكفيه ما أهمَّه، ويصره على أعدائه، فهو العزيز الغالب، والحكيم الذي يضع كل امر في موضعه.
أدبارهم: ظهورهم. عذاب الحريق: عذاب النار في الآخرة كدأب: كعادة.
بعد ان بيّن الله تعالى حال هؤلاء الكفار في خروجهم إلى قتال المؤمنين بَطَراً ورياءً، وتزيينَ الشيطان لهم أعمالَهم - قفّى على ذلك بذِكر أحوالهم حين موتهم وبيان العذاب الذي ينالونه عندئذٍ ثم ذكر ان الملائكة تأخذ الذين كفروا بالتعذيب والتأنيب حين يقبضون ارواحهم بصورة منكرة، ويؤذونهم أذى مهينا، جزاء على البطر والاستكبار. ويذكر في اثناء هذا العرض ان أخْذ الكفار بتكذيبهم سنّةٌ ماضية. وانه كذلك أخَذ فرعون.
ولو ترى ايها الرسول ذلك الهول الخطير ينزل بهؤلاء الكفار حين تتوفاهم الملائكة لرأيتهم يضربون وجوههم وظهورهم، ويقولون لم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذّبون.
قراءاتك
قرأ ابن عامر: «اذ تتوفَّى» بتائين. والباقون: «يَتَوفى» بالياء.
ان الله لا يظلم أحداً من عبيده، فلا يعذّب الا بما عمل من سوء.
ان الله تعالى لا يترك الناس سُدى، وانما هي سنّته يمضي بها قدَرُه، وليس فعل هؤلاء المشركين من قريش الذين قُلتوا ببدر وما أصابهم الا ما يصيب المشركين في كل زمان. لقد اصاب مثلُه آل فرعون والذين من قبلهم من الأمم الخالية، وقد آتاهم الله من نعمته، وزرقهم من ففضله، ومكن لهم في الأرض، وجعلهم خلائف فيها، فطغَوا وبغَوا وتجبروا، وجاءتهم آيات الله فكفروا بها، فحقَّت عليهم كلمة ربك، وأخذَهم بالعذاب.
{إِنَّ الله قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب} لا يغلبه غالب، شديد المجازاة لمن يستحقه عقابه.
روى مسلم في صحيحه عن أبي ذرّ رضي الله عن هـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ان الله تعالى يقول: إني حرّمت الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تَظالموا، يا عبادي انما هي اعمالكم أُحصيها لكم، فمن وجَد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ الا نفسه» والحديث طويل نفيس.
ذلك، أي الذي ذُكر من أخْذه لقريش بكفرهم بنعم الله لقد كذّبوا رسوله واخرجوه من دياره وحاربوه، ففعل الله بهم كما فعل بالأمم من قبلهم ولقد جرت سنّة الله ان لا يغيرّ نعمة أنعمها على قوم، كنعمة الامن والرخاء والعافية، حتى يغيروا ما بأنفسِهم. وهذا عدل في الجزاء.
{وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سميع لما يقولون عليم بما يفعلون.
هنا كرر قضية آل فرعون فقد كانت المرة الأولى لبيان كفرهم فأخذَهم بالعذاب، اما الثانية فهي أن حال هؤلاء كحال آل فرعون والذين من قبلهم في تغيير النعم.
وكما أن دأْب هؤلاء الكفار في الإنكار لآيات الله ونعمه كدأب آل فرعون والذين من قبلهم- فان دأبهم ايضا الاستمرار على لاتكذيب برسله، مثل آل فرعون والذين من قبلهم - من ثم كان الشبه بينهم في الكفر بالآيات وجحود رسالة الرسل، وفي الاستمرار على ذلك. لهذا أخذ الله الجميع بذنوبهم: أولئك بالصواعق والرياح ونحوها، وآل فرعون بالغرق، وكلهم كانوا ظالمين، فاستحقوا ما نزل بهم من العقاب.
الدواب: كل ما دبّ على وجه الأرض، وغلب على ذوات الأربع من الحيوان، وشبه الله تعالى الكواب. فاما تثقفنَّهم: تدركهم وتظفر بهم فشرِّد بهم. ابعدهم ونكل بهم. من خلفهم: كفار مكة واعوانهم من مشركي القبائل الموالية لهم. النبذ: الطرح. رباط الخيل: حبسها على الجهاد واقتناؤها. جنحوا: مالوا. السلم: بفتح السين وكسرها، ضد الحرب.
لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم الى المدينة صار الكفار معه أقساماً ثلاثة: قسماً صالحهم ووادعهم على ان لا يحاربوه ولا يظاهروا عليه ولا عليه عدوَّه، وهم على كفرهم آمنوا على دمائهم واموالهم وقسماً حاربوه ونصبوا له العداوة. وقسماً تركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول اليه أمره وأمر اعدائه.
ثم من هؤلاء من كان يحبّ انتصار الرسول في الباطن، ومنهم من كان يحب انصار المشركين، ومنهم من دخل معه في الظاهر، وهو مع عدوه في الباطن ليأمن الفريقين. هؤلاء هم المنافقون وقد عامل الرسول كا ظائفة من هذه الطوائف بما أمره به الله.
وكان من بين من صالحهم ووادعهم طوائف اليهود الثلاث المقيمين حول المدينة، وهم بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة. كما كان من بينهم قبائل من المشركين مجاورة للمدينة.
وقد ورت روايات متعددة في المقصودين بهذا النص، قيل: انهم بنو قريظة، وقيل: انهم بنو النضير، وقيل: انهم بنو قينقاع، وقيل: انهم الاعتراب الذين كانوا حول المدينة من المشركين. وقد نقض اليهود عهودهم مع رسول الله اكثر من مرة، كما تكرر نقض المشركين من العرب لعهودهم. والمهم ان نعلم ان هذه النصوص تتحدث عن حالةٍ واقعةٍ قبل بدرٍ وبعدها.
{إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} ان شر ما يدبّ على وجه الارض عند الله في حُكمه وعدله هم الكفار المصرّون على كفرهم، الذي عقدتَ معهم العهود والمواثيق، ولا يزالون ينقضونها مرة بعد مرة. وقد تكرر ذلك من اليهود، فقد روي عن ابن عباس ان المقصودين بنو قريظة. . . نقضوا عهد رسول الله، وأعانوا عليه بالسلاح في يوم بدر، ثم قالوا نسينا وأخطأنا. فعاهدهم مرة ثانية فنقضوا العهد ومالأوا الكفار على رسول الله يوم الخندق. وقد ركب زعيمهم كعب بن الاشرف الى مكة فحالفهم على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم {. . . وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} اي لا يتقون الله في نقض العهد، ولا يردعهم عن ذلك خوف من نقمته وعذابه.
وبعد ان بين تعالى انهم قد تكرر منهم نقض العهد، ذكر ما يجب ان يعاملوا به قال:
{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} فإن تدركْ أيها الرسول، هؤلاء الناقضين لعهدهم في الحرب ظافر بهم، فنكِّلْ بهم تنكيلا يسوؤهم ويخيف مَنْ وراءهم من الاعداء، {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} لعل مَن خَلْفهم من الأعداء يذكرون ذلك النكال فيمنعهم من نقض العهد والقتال.
{إِنَّ الله لَا يُحِبُّ الخائنين} ان الخيانة مبغوضة بجميع ضروبها، فأبعدوا عنها ايها المؤمنون.
روى البيهقي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثةٌ المسلمُ والكافر فيهن سواء، من عاهدتَه فَوَفِّ بعهده، مسلماً كان او كافرا، فإنما العهد لله. ومن كانت بينك وبينه رحِم فصِلْها، مسلما كان او كافرا. ومن ائتمنك على أمانة فأدّها اليه، مسلما كان او كافرا» .
وبعد هذا أنذر الله أولئك الخائنين مما سيحلّ بهم من عقاب فقال:
{وَلَا يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ سبقوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ} ولا يظن الذين كفروا انهم قد نجوا من جزاء خيانتهم وغدرهم، فهم لا يعجزون الله ولن يعجزوه، ولا يفوقونه في مكرهم أبدا، بل هو القادر وحده، وسيجزيهم بقوته وعدله.
قراءات:
قرأ ابن عامر وحمزة وحفص: «ولا يحسبَنَّ» بالياء والباقون: «ولا تحسبن» بالتاء، وقرأ ابن عامر «أنهم لا يعجزون» بفتح الهمزة، والباقون بكسرها.
بعد ذلك بيّن الله تعالى ان الاستعداء بما فيه القدرة والطاقة فريضة تصاحب فريضة الجهاد، والاستعداد انفى للاعتداء.
{وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} أعدّوا يا معشر المسلمين لمواجهة أعدائكم ما ستطعتم من قوة حربيّة شاملة لجميع عتاد القتال، ومن المرابطين في الثغور وأطراف البلاد بِخَليهم، لتخيفوا بكل ذلك عدوَّ الله وعدوكمن من الكفار المتربصين.
{وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ} وليخيفوا أيضا آخرين غير هؤلاء الأعداء، أنتم لا تعلمونهم الآن لكن الله يعلمهم، لأنه لا يخفى عليه شيء.
{وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} ان الله يجزيكم جزاء وافيا، عن كل ما انفقتم من شيء في سبيل إعداد القوة قاصدين به وجه الله، دون ان ينقصكم مثقال ذرة مما تستحقون.
{وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا. . .} وإن مالَ الأعدادُ المحاربون الى السلم، فاجنح لها أيها الرسول، فليست الحرب غرضاً مقصوداً لذاته عندك، إنما تقع دفعاً لعدوانهم وتحدّيهم لدعوتك، فاقبل السلم وتوكل على الله، ولا تخفّ كيدهم ومكرهم انه سبحانه هو السميع لما يتشاورون به، العليم بما يدبرون ويأتمرون.
قراءات:
قرأ ابو بكر: «للسّلِم» بكسر السين، والباقون بفتحها والمعنى واحد.
{وَإِن يريدوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين} .
وإن أراد من تظاهُرهم بالجنوح الى السلم الخداعَ بك، فان الله يكفيك امرهم من كل وجه. وقد سبق له أن أيّدك بنصره، حين هيأ لك من الاسباب الظاهرة والخفية ما ثّبت به قلوب المؤمنين من المهاجرين والانصار، وجعلهم اُمةً واحدة متآلفة متعاونة على نصر الله ورسوله.
ان الله تعالى جمعَ بينهم على المحّبة والإيمان بك، بعد التفرق والتعادي (دامت الحرب بين الأوْس والخَزْرج سنين عديدة، وكذلك بين مختلف قبائل العرب) فأصبحوا ملتفّين حولك، باذلين اموالهم وارواحهم في سبيل دعوتك. ولو انفقتَ جميع ما في الارض من الاموال والمنافع، في سبيل هذا التأليف بين قلوبهم، لما أمكنك ان تصل اليه، لكنّ الله ألَّف بينهم، بقدرته، انه تعالى قوي غالب يدبر امر العباد على مقتضى ما ينفعهم.
حسبك: كافيك، ما يهمك التحريض: الحث على الشيء. التخفيف: رفع المشقة الضعف: بالفتح والضم، ضد القوة.
يا أيها النبيّ إن الله كافٍ كلَّ ما يهمّك من أمر الاعداء، متكفل بك ومن اتبعك من المؤمنين.
فشجّشع المؤمنين على القتال لاعلاءِ كلمة الله، ورغِّبهم فيما وراء ذلك من خير الدنيا والآخرة. واعلم يا محمد أنه إن يوجد منكم عشرون معتصمون بالإيمان والصبر يغلبوا مئتين من الذين كفروان ذلك بأن الكافرين لا يدرِكون حقائق الأمور، فليس لهم ايمان ولا صبر ولا مطمع في ثواب.
ان واجبكم أيها لمؤمنون ان تصبروا على ملاقاة أعدائكم ولو كانوا عشرة أمثالكم، لكن الله قد خفف عنكم الآن فجعل عليكم ان تصبروا امان مِثَلْيكم فقط، لعلمه ان فيكم ضعفاً يقتضيالتيسير عليكم والترخيص لكم، فان يكن منكم مئةُ مجاهدٍ صابر يغلبوا مئتين من الكفار، وان يكن منكم الف يغلبوا الفين بارادة الله ومعونته، والله مع الصابرين.
قراءات:
قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: «ان تكن» بالتاء في الآيتين. وقرأ عاصم وحمزة: «ضعْفاً» بفتح الضاد والباقون: «ضُعفاً» بضمها.
أسرى: جمع أسر وهو كل من يؤخذ من المحاربين. الإثخان: الشدة حتى يثخن في الأرض: يُكثر القتال ويبالغ فيه. عرض الدنيا: حطام الدنيا وما فيها من زخارف مسّكم: اصابكم.
لا يسوغ لأحد من الانبياء ان يكون له أسرى يحتجزهم، أو يأخذ منهم الفِداء، او يمنّ عليهم بالعفو، حتى يتغلّب على أعدائه، ويُكثر القتل والجراح فيهم، فلا يستطعيوا قتالا بعد ذلك، ولكنّكم أيها المؤمنون سارعتم في غزوة بدر الا اتخاذ الأسرى قبل التكّن في الارض تريدون منافع الدنيا وحُطامَها، والله يريد لكم الآخرة.
{والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} عزيز يَهَبُ العزة للمؤمنين وإن لم يكن لهم اسرى، وهو حيكم في تدبيره وأمره ونهيه.
قراءات:
قرأ اهل البصرة «ان تكون» بالتاء.
وفي رواية ابن عباس عن عمر زيادة هي: فلما كان الغد جئتُ، فإذا رسول الله وأبو بكر يبكيان فقلت: يا رسولَ الله، أخبِرني من أي شيء تبكي انت وصاحبك. . . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أبكي على أصحابك من أخذِهم الفداءَ، لقد عرض عليَّ عذابُهم أدنى من هذه الشجرة» . فأنزل الله عز وجل «وما كان لنبي. . . .» الآية.
{لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} لولا حكمٌ سابق من الله بالعفو عن المجتهد المخطىء لأصابكم فيما أخذتم من الفِداء عذابٌ كبير بسبب ما تعجّلتم به.
بعد ان عاتبَهم الله على اخذ الفداء أباح لهم أكْل ما أخذوه، وعدَّه من جملة الغنائم التي أباحها لهم في اول السورة فقال:
{فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيِّباً واتقوا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} كلوا مما غنمتم من الفداء حلالا لكم طيبا في نفسه لا خبث فيه، واتقوا الله ما كل أموركم، انه غفور لذنبكم السابق حين أخذتم الفداء.
ثم يخاطب الاسرى بكلام رقيق يُحْيي فيهم الرجاء، ويُشيع فيهم النور، ويؤملهم بحياة أكرم مما كانوا فيه، وكسبٍ أطيب مما فقوا من مال وديار، وبعد ذلك كلّه بالمغفرة والرحمة.
{ياأيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يا ايها النبي قل للأسرى الّذين اخذتم منهم الفداء: ان يكن في قلوبكم خير يعلمه الله فسيُخلِفُ لكم خيراً مما أخذه المؤمنون منكم ويغفر لكم ما كان من الشرك والسيئات.
ان الله غفور لمن تاب من كفره وذنوبه، رحيم بالمؤمنين يشملهم بعنايته وتوفيقه.
قراءات:
قرأ ابو عمرو: «من الأسارى» والباقون: «من الأَسرى» .
وفي الوقت الذي يفتح الله للأسارى باب الرجاء، يحذرهم خيانة الرسول- صلى الله عليه وسلم كما خانوا الله من قبل فلاقوا هذا المصير.
وان يردوا خيانتك بما يظهر بعضهم من الميل الى الاسلام مع انطواء صدروهم على قصد مخادعتك بهذا الميل فلا تبتئس، فقد خانوا الله من قبل باتخاذ الأنداد والشركاء لله والكفر بنعمته، فامكن منهم اذ نصرك في بدر مع قلة عَددكم وعُددكم، وكثرتهم، والله قوي غالب متصرف بحكمته، يعلم ما ينونه وما يستحقونه من عقاب.
الهجرة: مفارقة بلدٍ الى غيره، فان كانت قُرْبةً إلى الله فهي الهجرة الشرعية.
آواه: اسكنه.
قسم الله المؤمنين أربعة أقسام وبيّن حُكم كل منها ومنزلته من بينها:
1-
المهاجرون الاولون اصحاب الهجرة الاولى قبل غزوة بدر الى صلح الحديبية.
2-
الانصار الذين كانوا بالمدينة وآووا النبي عليه الصلاة والسلام والمهاجرين من اصحابه عند الهجرة.
3-
المؤمنون الذين لم يهجروا.
4-
المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحيبية.
1-
{إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} هؤلاء هم الكَمَلَة المؤمنون الذين هجروا أوطانهم فِراراً بدِينهم من فتنة المشركين، وإرضاء لربهم ونصراً لرسوله، ثم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله.
2-
{والذين آوَواْ ونصروا} والآنصار من اهل المدينة الذي آووا الرسول الكريم ومن هاجر من اصحابه ونصروهم، وأمّنوهم من المخاوف، وشاركوهم في أمالهم حتى لآآثروهم على انفسهم - فحُكمهم حكم المهاجرين الاولين {أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} بعضهم نصراء بعض في تأييد الحق وإعلاء كلمة الله على الحق.
3-
{والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ} والذين لم يهاجروا من المؤمنين، لا يثبت لهم شيءٌ من ولاية المؤمنين ونصرتهم، اذ لا سبيل إلى وَلايتهم حتى يهاجروا.
{وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر إِلَاّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} وان طلبوا منكم النصر على من اضطهدوهم في الدّين، فانصرُوهم، فإن طلبوا النصر على قوم معاهِدين لكم، لم ينقضو الميثاق معكم فلا تجيبوهم.
{والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} لا يخفى عليه شيء.
قراءات:
قرأ حمزة: «ولايتهم» بكسر الواو، والباقون بفتحها.
وبهذه المحافظة على العهود والمواثيق سِراً وجهراً امتازت الشريعة الاسلامية على غيرها، فشعارُ أهل الإسلام الوفاءُ بالعهود، والبعد عن الخيانة والغدر.
{ (*) والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} إن الكفار على اختلاف شِيعِهم بعضُهم يوالي بعضاً وينصره ضد الاسلام. قد كان اليهود والمنافقون ومشركو العرب كتلةً واحدة متفين على محاربة الاسلام والمسلمين. وهذا ما يحصل اليوم. . . جاء اليهود الى بلادنا واحتلّوا قسماً منها بمساعدة النصارى في جميع أقطار الارض، وقد اتفق على ذلك جميع الأوربيين والأمريكان، كلُّهم مجتمِعون متفقون على حمايةِ اليهود ومساعدتهم ضد الإسلام والمسلمين.
{إِلَاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} إن لم تفعلوا ما شُرع لكم من ولاية بعضكم لبعض، ومن تناصرُكم وتعاونكم تجاه وَلاية الكفّار بعضُهم لبعض، يقع من المفتنة والفساد ما فيه أعظمُ الضرر عليكم، بتخاذلكم الذي يُفضي الى ظفر الاعداء بكم وسلبكم بلادكم. وهذا ما هو حاصل اليوم من تكتّل الأعداء ضدّنا، ونحن متمزقون في عدة دول وامارات، يحارب بعضنا بعضاً والعدو يسرح ويرتع في بلادنا.
يبين الله تعالى في هذه الآية ميزةَ المهاجرين والانصار وفضهلم على غيرهم، ويذكر ان هؤلاء المهاجرين وانصار هم المؤمنون حق الايمان وأكمله، فلهم مغفرة تامة من ربهم ورزق كريم في الدنيا والآخرة.
4-
{والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمْ} .
والذين تأخر إيمانهم وهجرتُهم عن الهجرة الاولى، لكنهم هارجوا وجاهدوا معكم اعداءكم لاحقاً، فاولئك منكم أيها المهاجرون والانصار، لهم من الولاية والحقوق ما لبعضكم على بعض، وفي هذا دليل على فضل السابقين على اللاحقين كما جاء في قوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} سورة الحديد.
{وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله} وذوو القرابة من المؤمنون أولى من غيرِهم بالبر من المؤمنون أولى من غيرِهم بالبر والنصر والإحسان كما جاء في كتاب الله الكريم، فاتبعوه وتقيدوا به. فهو سبحانه إنما شرع لنا هذه الاحكام في الولاية العامة والخاصة والعهود والمواثيق وصِلة الأرحام وغير ذلك من التشريع، وهو على علم واسع محيط بكل شيء.
وقد استدل الشيعة بهذه الآية عل ان من كان أقربَ إلى الميّت نَسباً فهو أولى بميراثه من الأبعد، فبِنتُ الميت تحجب أخاه عن الإرث لأنها اقرب منه الى الميت، واختُه تحجب عَمَّهُ لنفس السبب. وهكذا يحجب عندَهم الأقربُ الأبعدَ من جميع المراتب.