المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم وَبهِ نستعَينُ   ‌ ‌[خُطبَةُ الكِتَابِ] الحمدُ لله الذي جعلَ لكلِّ - ثمر الثمام شرح «غاية الإحكام في آداب الفهم والإفهام»

[محمد السنباوي الأمير]

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم وَبهِ نستعَينُ   ‌ ‌[خُطبَةُ الكِتَابِ] الحمدُ لله الذي جعلَ لكلِّ

بسم الله الرحمن الرحيم

وَبهِ نستعَينُ

[خُطبَةُ الكِتَابِ]

الحمدُ لله الذي جعلَ لكلِّ شيءٍ آداباً، وأشهدُ أنْ لا إلله إلا الله ربّاً، علَّمنا للمسبَّباتِ أسباباً، وأنَّ محمداً عبدُهُ ورسوله المبعوثُ لكلِّ خيرٍ باباً، صلى الله وسلم عليه وعلى آلهِ أصحاباً وأحباباً.

أما بعدُ:

فهذا " ثمرُ الثُّمامِ " شرح لـ " غايةِ الإحكامِ في آداب الفهم والإفهام "، نتيجةُ فكر قُرَّةِ العين، المُبرَّإِ إن شاء الله تعالى من كلِّ شين، مولانا الفهَّامةِ الفاضل، والعلَاّمة الكامل، سيدي الشيخِ محمدٍ سبطِ الشيخ عبدِ اللطيف الطحلاوي (1)، أبعدَ اللهُ عنَّا وعنه المساوي، حملني عليه مَن لا تسعني مخالفتُه.

فأقولُ وأنا الفقير، محمد بن محمد الأمير:

(1) انظر ترجمته (ص 11).

ص: 75

قال المصنِّفُ كان اللهُ لنا وله:

ـ[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]ـ

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) خُصَّ الاسمُ الشريف بالتقديم في مبادىء ذوات البال، وربما اقتُصرَ عليه من بين سائر الأسماءِ لأمورٍ، منها: قول سيدي أبي العباس المرسي (1): (كلُّ اسم لله فهو للتخلُّق إلا اسمَ الجلالة، فإنه لمحضِ التعلُّق)(2)، وظاهرٌ أنَّ المقامَ مقام تعلُّقٍ بالله ليُعِينَ على هذا الشيء.

قال العارفُ ابنُ عطاء في " لطائف المنن "(3) موضِّحاً لكلامِ الشيخ السابق: (إنَّك إذا قلت: يا كريمُ .. قال لك وارد هذا الاسم: مَن يُخاطب الكريمَ .. فَلْيَتَخلَّقْ بالكرم، أو: يا أحدُ .. قيل لك: فلتتوحَّد في كمالك الذي يرضاه لك، وهكذا في كلِّ اسم دالٍّ على صفة، وإنْ أحوج لمزيد إعمال في بعض الأسماء لخفائه، بخلاف اسم الجلالة،

(1) القدوة، شهاب الدين أحمد بن عمر الأنصاري المرسي، خليفة الإمام أبي الحسن الشاذلي رحمهما الله تعالى، توفي سنة (686 هـ). " لطائف المنن "(ص 24)، " طبقات الشاذلية الكبرى "(ص 61).

(2)

لطائف المنن (ص 212).

(3)

وهو للعلامة صاحب " الحكم " أحمد بن عطاء الله السكندري المتوفى سنة (709 هـ)، ترجم فيه للشيخين الجليلين أبي العباس المرسي وأبي الحسن الشاذلي رحمهما الله تعالى.

ص: 76

فليس إلا للذات التي يُفزعُ إليها في كلِّ شيء، ولا مشربَ فيه للتخلُّقِ) اه بالمعنى موضحا (1).

ثم لما حصل بالبسملة العملُ بحديثها المشهور، وكذا بحديث الذكر والحمد إلا على رواية " بالحمدُ للهِ "(2) على الحكاية، حيث أبقيتْ على ظاهرها .. قال للعمل بذلك قبل الشروع في مقصوده أيضاً:

ـ[الْحَمْدُ للهِ الَّذِي مَنَّ عَلَى الْعُلَمَاءِ بِمَعْرِفَةِ طَرِيقِ الْعِرْفَانِ، وَوَسَّعَ دَوائِرَ أَفْهَامِهِمْ فَغَاصُوا بِحَاراً، فَاسْتَخْرَجُوا نَفَائِسَ اللُّولُؤِ وَالْمَرْجَانِ.]ـ

(الحمدُ للهِ) جملة المقصودُ منها: الإقرارُ بثبوت الثناء لله تعالى، وهذا ألْيَقُ بالأدب من أنْ يقصدَ إنشاء الثناء، كيف وسيدُ البشر يقول:«لا أُحْصِي ثناءً عليك» (3).

واعلمْ: أنَّ الكلامَ في البسملة والحمدلة شهير، وقد أُفرد بالتأليف (4)، ويُخشى الملل، فالإسراع للمقصود أجل.

(الذي مَنَّ) أي: تفضَّلَ، ويُحتملُ أنه من المَنِّ بمعنى الافتخار

(1) انظر " لطائف المنن "(ص 212)، " تفسير الفاتحة الكبير "(ص 181).

(2)

أبو داوود (4840)، ابن ماجه (1894)، وانظر " الأقاويل المفصلة "(86).

(3)

مسلم (486).

(4)

ومن جملة من أفرد التأليف فيها الشارح نفسه كما سيذكر ذلك (ص 102)، وكذا للفخر الرازي رحمه الله تعالى مؤلَّف في ذلك هو " أحكام البسملة ".

ص: 77

بالنعمة، فإنَّ ذمَّه بالنسبة لنا فقط، لكوننا لا فعلَ لنا بالحقيقة (على العلماءِ بمعرفةِ طريقِ العرفانِ) فيه براعةُ استهلال، فإنَّ كتابه هذا في فنِّ آدابِ طريق المعرفة.

ثم لمَّا لم يَلزَمْ من معرفة الطريق السلوكُ فيه فضلاً عن الوصول إلى المقصود .. قال لإفادةِ ذلك معَ الترتيبِ الحسن:

(وَوَسَّعَ دوائرَ أفهامِهِمْ فغاصوا بحاراً، فاستخرجوا نفائسَ اللُّولؤِ والمَرجانِ) الدوائر: جمع دائرة، وهي عند المهندسين: سطحٌ في وسطه نقطةٌ يحيط به خط، كلُّ الخطوط من النقطة للمحيط مستويةٌ، والنقطة قُطْبُها، والخطوط أنصافُ أقطارها، وهي أُسُّ الأشكال المحيط بها كثرُ من خطٍّ كلها مُقْتطعةٌ منها على ما قُرِّرَ عندهم، وقد تطلقُ الدائرة على الخطِّ المحيطِ أيضاً.

وفي اللولؤِ لغاتٌ أربع:

- بالهمز في الموضعين، وبه قرأ الجمهور.

- وبالواو فيهما، وهو وجه عن حمزةَ في الوقف (1).

- وبالواو في الأول والهمزِ في الثاني، وهي روايةُ السوسي (2) وشعبة (3).

(1) المقرىء الشهير أبو عمارة، حمزة بن حبيب الزيات، توفي سنة (156 هـ). انظر " أحاسن الأخبار "(ص 152).

(2)

أحد رواة ابن العلاء، أبو شعيب، صالح بن زياد السوسي، توفي سنة (261 هـ). انظر " أحاسن الأخبار "(ص 258).

(3)

أحد رواة عاصم، أبو بكر بن عياش الأسدي الكوفي، توفي سنة (193 هـ). انظر " أحاسن الأخبار "(ص 295).

ص: 78

- وعكسه، ولا أعلم أحداً قرأ به (1).

والتجوُّزُ في الفقرة غيرُ خفي، وتشبيه العلوم باللولؤ نظراً للإلفِ والعادة، وإلا .. فهي أعلى وأغلى.

ولما وردَ في الحديثِ: «كلُّ خطبةٍ ليسَ فيها تشهُّد فهيَ كاليدِ الجذماءِ» (2) .. قال:

ـ[وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، شَهَادَةً نَنَالُ بِهَا بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الإِيقَانِ.]ـ

(وأَشْهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، شهادة ننالُ بها بفضلِ اللهِ تعالى) إشارةً لبعض ما جُمع به بين حديثِ: «لن يدخلَ أحد منكم الجنةَ بعمله» (3)، وقولهِ تعالى:{بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من أنَّ المنفيَّ عن العملِ السَّبَبِيّهُ الاستقلالية.

إن قلتَ: قد علَّقَ حَرْفَي جرٍّ بعاملٍ واحد.

قلتُ: تُجعل إحدى الباءين للسببيَّة والأُخرى للمعيَّة (4)، علما أنَّ

(1) إتحاف فضلاء البشر (2/ 510).

(2)

أبو داوود (4841)، الترمذي (1106).

(3)

رواه أحمد في " مسنده "(2/ 56)، وأصله في " البخاري "(5673)، و" مسلم "(2816).

(4)

فباء السببية هي الواردة في الحديث، والأخرى - وتسمى باء المقابلة - هي التي ذكرت بقوله سبحانه:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .

ص: 79

بعضهم اكتفى بملاحظةِ أنَّ الجارَّ الأول يتعلَّق بالعاملِ وهو مُطلَق، والثاني يتعلَّقُ به بعدَ تقييده بالأول (1).

(أعلى درجاتِ الإيقانِ) اللائقِ بالحالِ على ما تقتضيه الحكمة، وإلَاّ .. فالأعلى المطلق إنما يكون لخاصَّةِ الخواصِّ، على أنَّ ما من كمالٍ إلا وعندَ الله ما هو أكملُ منه.

ودرجاتُ اليقين:

- علمُ اليقين: كعلمِ مَن لم يذهب مكةَ بها بالتواتر.

- وحقُّ اليقين: كعلمِ مَن سافرَ حتى رآها.

- وعين اليقين: إذا دخلَها، وعرف طرقَها ودورها وما اشتملت عليه تفصيلاً.

وبعضهم يضمُّ الثانية للثالثة ويقول بمرتبتين فقط.

وفي " حواشي شرح كبرى السنوسي " ما يقتضي أنَّ حقَّ اليقين أعلى من عين اليقين، وهو:

- أن علمَ اليقين: ما كان من طريق النظر والاستدلال بقاطع البرهان.

- وعين اليقين: ما يحصُلُ عن مشاهدة العيان، ومن طريق الكشف والنوال.

- وحق اليقين: تحقيقُ صورة العيان، ويكونُ بتحقيق الانفصال عن

(1) فعاد الأمر لنفيِ السببية الاستقلالية، إذ أصل الدخول للوعد بمقابلة العمل، لا العملُ ذاته.

ص: 80

لوثِ الصلصال بورود زائد الوصال (1).

ثم لمَّا جمعَ اللهُ تعالى ذكر نبيه صلى الله عليه وسلم مع ذكره في مواطن كثيرة، وقد فُسِّرَ به {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} ، وانظر الدخول في الإسلامِ، حتى قيل للشهادتين شهادة .. قال:

ـ[وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ألَّذِي أُوتِيَ أَنْوَاعَ الْحِكْمَةِ وَالتِّبيَانِ.]ـ

(وَأشهدُ أنَّ سيِّدَنا محمداً عبدُه ورسولُهُ الذي أُوتيَ أنواعَ الحكمةِ) أي: العلم النافع المصيِّر للعمل، كذا في " تفسير الجلال "(2).

وأما الحكمةُ باصطلاحِ الرِّياضيين .. فقال الشريفُ الحُسَيني على " هداية أثير الدين الأبهري "(3):

(الحكمةُ: هي العلم بأعيان الموجودات على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية، تنقسم بالأول إلى:

(1) وفي (عوارف المعارف " (2/ 899): (رائد) بدل (زائد).

(2)

وهو يفسر معنى (الحكمة)، انظر " تفسير الجلالين "(1/ 43)، وقوله:(وانظر الدخول في الإسلام) إذ هو أمر لا يتجزَّأ، فلا بد من النطق بالشهادتين معاً، ولهذا المعنى نعتوا الشهادتين بالشهادة دون اعتبار فرعيها.

(3)

وهو كتاب " هداية الحكمة " لأثير الدين المفضل بن عمر الأبهري المتوفى سنة (660 هـ)، وشرحه الشريف حسن معين الدين الحسيني، ومحمد بن إبراهيم الشيرازي. انظر " معجم المطبوعات "(1/ 290 - 291).

ص: 81

- نظرية: يُقصدُ بها ما حصل بالنظر من العلوم والإدراكات.

- وعملية: تتعلَّق بكيفيةِ العمل.

فالنظرية: علم يبحثُ فيه عمَّا إلينا علمُها لا عملُها، كالسماءِ والأرض.

والعملية: علم يُبحثُ فيه عمَّا إلينا علمُها وعملُها، كالأفعال الصادرةِ عنَّا.

وكلُّ واحدةٍ منهما ثلاثةُ أقسام:

- أما النظرية: فلأن ما لا يتعلَّقُ بأعمالنا إمَّا:

• ألَاّ يفتقرَ في وجوده إلى المادة، كذات الحقِّ تعالى، وَوَصْفِ ألوهيته، والوحدةِ والكثرة، والعلَّةِ والمعلول، والكليةِ والجزئية، وما أشبَه ذلك.

وهو العلم الأعلى، لتنزُّهِهِ عن المادة وعوارضها التي هي مبدأُ القوة والنقصان، الموسوم بـ " الإلهي " تسميةً للشيء بأشرفِ أجزائه.

• أو يفتقرَ فيه إليها، وحينئذٍ إما:

أن يُمكنَ تجريده عنها في الذهنِ والتعقُّل، كالتدويرِ والتربيع، والكُرويةِ والمخروطيةِ، فإن فهمَ هذه الأمور لا يتوقَّفُ على جِرمٍ معيَّنٍ، كالخشبِ مثلا، وإن كانت لا تكونُ إلا في جرمٍ معيَّني (1).

(1) فالتدوير والتربيع ونحوها يمكن تجريدها عن المادة في الفهم، غير أنها لا تنفك في وجودها عنها.

ص: 82

وهو العلمُ الأوسط، لتنَزُّهِهِ عن المادة بوجهٍ ما، الموسومُ بـ " الرياضي "، لأنهم كانوا يفتتحون به في التعاليمِ، فكان رياضةُ النفس بها أولاً.

• أو لا يمكن، كالإنسانِ مثلاً، فإنك لا تفهمه إلَاّ وتحتاجُ إلى أن تعرفَ صورتَهُ في لحمٍ وعظمٍ.

وهو العلمُ الأدنى، لاحتياجه إلى المادةِ مطلقاً، وليس يمكن أن يكونَ الشيءُ محتاجاً للمادة في الذهنِ دونَ الخارج، الموسومُ بـ " الطبيعي "، لكونه باحثاً عن الجسمِ الطبيعي.

- وأما العملية: فإنها إما:

• علم يتعلَّقُ بالانفراد، وهو علمُ الأخلاق، ويتعلَّق بكمال الشخصِ في نفسه بحسَبِ القوة العملية، لأنَّ الحكمةَ النظرية كمالٌ له في نفسه بحسب القوة العلمية.

• أو علم يتعلَّقُ بالاجتماع الخاص، وهو تدبيرُ المنزل، ويتعلَّقُ بكمالِهِ العملي أيضاً، لكن بالقياس إلى الاجتماع الخاصِّ، وبه تنتظمُ المصلحةُ التي بها يكون الازدواجُ بين زوجٍ وزوجة، ووالدٍ وولده، ومالكٍ ومملوكه.

• أو علم يتعلَّقُ بالاجتماعِ العامِّ، أعني: معرفةَ كيفيَّةِ المشاركة بين أشخاصِ الناس على العموم، وهو سياسةُ المدن، والفائدةُ، فيه: أنْ يتعاونوا بالاجتماعِ على المصالح التي بها بقاءُ نوع الإنسان، فهو أيضاً من تتمة تكميل القوة العملية.

ص: 83

فهذه جملةُ أقسام الحكمة.

{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}

وأما المنطقُ: فهو خارجٌ عنها، بل هو آلةٌ لتحصيلها، اللهمَّ إلا أن تفسرَ الحكمة بخروج النفسِ إلى كمالِها الممكن في جانب العلم والعمل، فحينئذ يدخلُ فيه المنطق، بل العملُ أيضاً) اه.

(والتِّبيانِ) أي: تبيين تلك الحكمةِ للأمة، ويحتملُ أنه مبالغةٌ في البيان بمعنى المنطق الفصيح، على قاعدة: زيادة الحروف (1).

ـ[وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الَّذِينَ خُصُّوا بِدَقَائِقِ الْعُلُومِ مِنَ التَّأَمُّلِ فِي آيَاتِ الْفُرْقَانِ.]ـ

(والصلاةُ والسلامُ) يرجعان إلى زيادة التعظيم، ومن البعيد حملُ السلامِ في مثلِ هذا على اسمه تعالى، أي: اللهُ راضٍ (2).

(عليه) الضميرُ للذي سبقت الشهادةُ له بالعبودية والرسالة، ثم هذا من التنازعِ إن أجزناه بين العواملِ غير المُشتقَّةِ (3)، أو من مجرَّدِ

(1) زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.

(2)

انظر " حاشية المصنّف على شرح عبد السلام على الجوهرة "(ص 9).

(3)

فكل من الصلاة والسلام يطلب معمولاً هو متعلَّق الجار والمجرور على قول من أجاز إعمال الجامد وإن لم يضمَّن معنى المشتق، وعليه يكون المتعلق مفرداً لا مثنى، وإلا .. فيجب تقدير المتعلق مثنى كما بيَّن.

ص: 84

الحذف لدليل (1)، أو يقدَّر المتعلق مثنىً.

(وعلى آله) أي: أتباعه، قدَّمهم وأتى بـ (على) لقولهِ صلى الله عليه وسلم في تعليم الصلاة عليه:" قولوا: اللهمَّ، صَلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ "(2)، على أنَّه عطفٌ على ضميرِ خفضٍ (3).

(وصَحبِه) الذين اجتمعوا به، عطفٌ خاصّ لشرفِه.

(الذينَ خُصُّوا) تخصيصاً نَسْبيّاً، صفة للصَّحْبِ، ويحتملُ حذفُ مثلِه من " الآل "(4).

(بدقائقِ العلوم) مِن إضافةِ الصفةِ، أو على معنا " مِن "(5).

وأصلُ العلم: الإدراكُ، لأنه مصدرٌ، ويُطلقُ حقيقةً عُرفيةً على المَلَكاتِ والقواعدِ، و (مِنْ) في قوله:(مِن التَّأَمُّلِ) تعليليةٌ، أو ابتدائية (في آياتِ) جمعُ آية، يحتملُ أنَّ المرادَ بها الجملة من القرآن المُعبَّر عنه بـ (الفُرقان) لِفَرقِه بين الحقِّ والباطلِ، ويُحتملُ أنَّها بمعنى مُطلقِ العلامة، والفرقانُ بمعنى مطلقِ فارق، على حَدِّ:{إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} .

ثم دعا بالرِّضا لمن اندرجَ في المتقدِّم، لأنَّ مقامَ الدعاء يقتضي الإطنابَ، أو أنه أراد بـ (الآل) سابقاً الأقاربَ، فقال:

(1) أي: حذف المتعلق الثاني لدلالة المتعلق الأول عليه، فلم تعد المسألة من باب التنازع.

(2)

البخاري (3370)، مسلم (405).

(3)

أي: عطف (وعلى آله) على الضمير الظاهر المنخفض في (عليه) وهو جائز على قول.

(4)

وعليه: يشمل التخصيص بهذا الوصف الآل والصحب معاً.

(5)

فالتقدير: (بعلومِ الدقائقِ) أو (بدقائق من العلوم).

ص: 85

ـ[وَرَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنِ التَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ بِإِحْسَانٍ.]ـ

(وَرضيَ اللهُ تعالى عن التابعين وَمَنْ تبِعَهُمْ مِنَ المؤمنينَ والمؤمناتِ) متعاقبين طائفةً بعد طائفة (إلا) قُرْبِ (يومِ الدِّينِ) حتى يأتيَ أمرُ الله، وتنقرضَ الطائفة الظاهرين على الحق (بإحسانٍ) ولو أصلُ الإيمان، ليعُمَّ الدعاء.

ـ[وَبَعْدُ:

فَيَقُولُ الْفَقِيرُ الْمُشْفِقُ مِنْ سُوءِ ألْكَسْبِ وَالْمَسَاوِي، مُحَمَّدُ عَبْدُ اللَّطِيفِ الطَّحْلَاوِيُّ - غَفَرَ اللهُ لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ، وَمَشَايِخِهِ وَمُحِبِّيهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَإِخْوَانِهِ وَجَمِيعِ آلْمُسْلِمِينَ -:

(وَبَعْدُ) أتى بالواوِ كغيره اختصاراً وإن كان الواردُ عنه صلى الله عليه وسلم: «أما بعد» (1).

(فيقولُ الفقيرُ) أي: المحتاجُ بأصلِ الطبع كما هو حقيقةُ كلِّ حادثٍ في كلِّ شيء (المُشْفِقُ) أي: الخائفُ (مِنْ سوءِ الكَسْبِ) أي: الميل

(1) البخاري (7)، مسلم (761).

ص: 86

والاختيار للأمور، أو مكسوبِهِ مِن الأعمال (والمساوي) جمعُ مساءة، ما يُذَمُّ التلبُّسُ به فيسوءُ صاحبه، وهو أعمُّ مما قبله، فإنه يشمل المجبول غير المكتسب، كالغضبِ والطمع (محمدُ عبدُ اللطيف) هو جده أبو أمه، وآثرَ النِّسْبةَ إليه دون أبيه لأنَّ أباه كانَ جُندياً، وجُدُّهُ من الفقهاءِ، وهو - حفظه الله - محبّ للعلم والعمل والنِّسبةِ إليهما، حتى إنَّا لنرجو - كما عَلِمْنا ولا أُزكِّي على اللهِ أحداً - أنَّه ممن يُظلُّ تحت العرش، حيثُ نشأَ في عبادة الله، سلك الله بنا وبه فيما يرضاه.

بقيَ أنَّ هذا التركيبَ كثُرَ في كلامِ المُوَلَّدِين ولا أعلمه في كلام العرب الآن.

وتخريجُه: على حذف المضافِ وإبقاءِ المضافِ إليه على جرِّه أو إقامته مقامه، والأصلُ (ابنُ عبدِ اللطيف)، ثم يصحُّ حذف تنوينِ (محمدٌ) نظراً للأصلِ وعدمه، أو على أنَّ (محمداً) مضافٌ لـ (عبد) على معنى اللام، أو أنَّ (عبد) خبر لمحذوف، أو خبره محذوف، أي: عبدُ اللطيفِ أبوه مثلاً، أو أنَّه نزَّلَ اسم الأصلِ منزلةَ لقبٍ له بجامعِ التمييز، فيُعْرَب عطفَ بيانٍ، أو أنَّ الاسمين رُكبا على هذا المسمى، لكن حكيَ حالَ التفكيكِ فيهما، لكن هذا يظهرُ في نحو: محمدٌ

منصورٌ، لا ما هنا، لأنهم لا يُرَكِّبون أكثر من كلمتين.

(الطَّحْلاويُّ) نسبةً لـ (طحلةَ) بلدة من أعمالِ مصرَ (1)، منها جدُّه

(1) وذكرها العلامة الحافظ الزبيدي في " تاج العروس "(ط ح ل) فقال: (وطحلاء قريتان، بل ثلاث قرىً بمصر، من أعمال الشرقية، من إحداها - وهي المشهورة المشرفة على النيل - شيخنا المفنن المحدث، أبو علي عمر بن علي بن يحيى بن مصطفى المالكي الطحلاوي).

ص: 87

المتقدِّم (غفرَ اللهُ لهُ) أصلُ الغَفْرِ: السترُ.

والمرادُ به: ترك المؤاخذة على الذنبِ على ما يشهدُ له حديثُ قولِ اللهِ سبحانه لعبد المؤمنِ يومَ القيامة بينه وبينه: " أنا سترتُها عليك في الدنيا، وأنا اليوم أغفرُها لك "(1).

(وَلوالدَيه) بفتح الدال أو كسرِها، أي: كل مَنْ له عليه ولادة من أهل المغفرة.

والمراد بالوالد: الشخص، أو أنه غلَّب المذكَّرَ.

(وَمشايخِهِ) الذين هم والدو الروح، وقدَّم الوالدين لكثرةِ الحضِّ على حقِّهما في صريح الكتاب والسنة، وإن قيل: إن الشيخَ أكثرُ حقّاً، لتربيته الروحَ الباقية، وسمعتُ من شيخنا (2)، عن النووي (3): أنَّ عاقَّ شيخِه لا تقبلُ له توبة (4)، وفي النفس منه شيءٌ، فإنَّ اللهَ تعالى قال:

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ

(1) البخاري (2441)، مسلم (2768).

(2)

شيخه هو العلامة علي العدوي المالكي الصعيدي صاحب الحواشي المشهورة، والمصنف قد لازمه قرابة عشرين سنة، وستأتي ترجمته من قِبَل المؤلف (ص 122).

(3)

الإمام الجليل محيي الدين يحيى بن شرف الدين النووي، توفي سنة (676 هـ).

(4)

حكى الإمام النووي هذا القول في " تهذيب الأسماء واللغات "(2/ 514) عن أبي سهل الصعلوكي، ولفظه:(عقوق الوالدين تمحوه التوبة، وعقوق الأستاذ لا يمحوه شيء البتة)، وفي " الرسالة " (ص 538):(عقوق الأستاذين لا توبة عنها) والمراد: أنه لا يوفق للتوبة، لا أنه يتوبُ ولا يتوب الله عليه.

ورواه بسنده الأمام الناشري في " موجب دار السلام "(ص 190).

وما ذكره الشيخ المصنف رحمه الله تعالى حكاه شيخه العدويُّ في " حاشيته على شرح كفاية الطالب "(1/ 436).

ص: 88

الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، وسمعتُ ذلك عن غيره في اللواط أعاذنا الله منه، وفيه البعدُ السابق متى وُجِدَتْ حقيقةُ التوبةِ المشهورة، وكثيرا ما يُنازعُ والدي - جزاه الله عني خيرا - في تفضيل شيخ الشخصِ على والده.

وممَّا يناسبُ المقامَ أيضا ما يرتضيه شيخنا من جوازِ مخالفة الوالدين في طلب العلم ولو غيرُ العينيِّ (1)، وفيه البعدُ السابق أيضا.

وتحقيق المقام: أن الشيخَ الحقيقي المُمِدَّ في الظاهر والباطن أفضلُ حقّا بوراثة: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ، ولو اطَّلَع على ذلك الشيخُ، وما أسداه .. ما ساغ أحدا إنكار أفضليته.

وأمَّا شيخُكَ في لفظة، أو شيءٍ من التمشدُقِ (2)، أو ما تكادُ لا تضطرُّ إليه .. فالوالدُ أفضلُ حقّاً منه، فإنه جَهِدَ فيك أكثرَ منه، ولولا ذاك .. ما كان هذا غالبا، ولا عكْسَ، فقد شاركَ شيخَكَ في عملِهِ في التسبُّبِ، والدالُّ على الخيرِ كفاعله (3).

واختصَّ بما باشر، على أنَّه أوَّلُ مشايخِكَ غالباً، فإنه يرشدُك إلى أصول الدين، وتلقين الشهادة، والأذكار، والآداب المُحتاج إليها من صغرك.

نسألُ اللهَ بمنّه التوفيقَ لإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه مع القبولِ والرضا، والعفوِ عمَّا جرى به القضا.

(1) حاشية العدوي على شرحه لمختصر خليل.

(2)

التمشدق: طلبُ التفصُّح في الكلام.

(3)

كما في " مسلم "(1893).

ص: 89

(ومُحِبِّيْهِ وذُرِّيَّتِهِ) أي: نسله، وذرُّ كلِّ شيءٍ: الصغارُ منه، بفتح الذال، فكأنها نسبةٌ على غير قياس (1).

(وإخوانِهِ) جمع: أخٍ من صحبة أو قرابة.

(وجميع المسلمينَ) وتحققُ الوعيدِ في العاصي لا يلزمُ ولا في واحد حيثُ قُدِّرَ تعليقُهُ على المشيئة.

ولئنْ قلنا: آياتُ الغفران مُخَصَّصةٌ ولا بدَّ من تحقُّقِ العامِّ ولو في واحدٍ .. فَلْيَكُنْ من الكفار، أو يُراد جميعُ المسلمين غيرَ مَنْ أريد تحقُّقُ الوعيدِ فيه.

ـ[لَمَّا وَفَّقَ اللهُ تَعَالَى لِوَضْعِ شَيْءٍ بَعْدَ الِاسْتِخَارَةِ فِي آدَابِ الْفَهْمِ وَالتَّفْهِيمِ وَنَحْوِهِ .. اطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ بَرَعَ أَقْرَانَهُ - إِنْ شَاءَ اللهُ- فِي الْفَضْلِ وَالْفَهْمِ الْمُنِيرِ، لَا زَالَ اللهُ لَنَا وَلَهُ بِاللُّطْفِ وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ.]ـ

(لمَّا) وما بعدها مقولُ القول، وجملةُ الدعاءِ معترضة (وَفَّق الله تعالى لِوَضْعِ شيءٍ) يعني: لما وضعتُ شيئاً بتوفيق اللهِ، لكن لمَّا كان توفيق اللهِ للشيء يستلزمُ حصولَه .. عبَّرَ بما عبَّرَ، وتبرُّؤاً وهضماً لنفسه أنْ يُسندَ له وضعاً، ولهذا المعنى عبَّرَ بـ (شيءٍ).

(1) أي: كلمة (ذُرِّيّ) وتأنيثها (ذُرِّيَّة)، إذ القياس أن تكون بفتح الذال لا بضمِّها، غير أنه نسبٌ شاذّ لم يجىءْ إلا مضموم الأول.

ص: 90

(بعدَ الاستخارةِ) أي: طلب الخِيرة من اللهِ تعالى في كيفيَّةِ الوضع، أو أصله لاحتمال الاستغناء عنه، أو أنَّ غيرَه أولى (1).

(في آدابِ) مُتعلق بـ (وضع)، أو صفة لـ (شيءٍ)، والآداب - جمع أدب -: ما يحمد المتلبِّسُ به، كوَلَدٍ وأولادٍ، وبَطَلٍ وأبطالٍ (الفهْمِ) في النفس (والتَّفْهيمِ) للغيرِ (وَنحوِهِ) كمقدمةِ الآداب، ويحتملُ أنْ يريدَ به أنواعَ الشروح، لكن الظاهر إدخاله في آداب التفهيم.

(اطَّلَعَ عليهِ)(2) جواب " لمَّا "(بعضُ مَنْ برعَ) أي: فاقَ (أقرانَهُ إنْ شاءَ اللهُ) تعالى (في الفضْلِ) أي: الزيادة في الخير (والفَهْمِ المنيرِ) لا يخفى التشبيهُ بجامع الاهتداء (لا زالَ اللهُ لنا) الأحسن في مثل هذا الضميرِ أنه للمتكلم مع غيره من المسلمين، مع ملاحظتِهِ أولاً، فيجمعُ بين البداءةِ بالنفس والتعميم في الدعاء، ويكونُ ما بعده من عطفِ الخاصِّ، أو يلاحظُ في الأوَّل ما عداه.

(ولهُ باللُّطفِ) أي: الرفق (وَحُسنِ التدبيرِ) كاد العطف أن يكونَ مرادفا، إذ التدبيرُ بالنسبةِ للهِ تعالى: إيقاعُ الأمور على الوجه الأحكم، والدعاءُ به إمَّا عبادة وإن كان هو شأنُهُ، أو لأنه لا يُسأَلُ عمَّا يفعل، نسألُهُ ما هو أليقُ بنا فضلاً.

(1) فكانت الاستخارة لتعيينه، دون النظر إلى أصل الوضع أو كيفيته.

(2)

المراد: هو العلامة الأمير صاحب الشرح المنعوت بـ " ثمر الثُّمام " كما سيأتي صُراحاً تخصيص الدعاء له بعد أسطر قلة.

ص: 91

وعناني - حفظه الله - بهذا البعض، وأقولُ اقتداء بالصدِّيقِ رضي الله تعالى عنه:(اللَّهُمَّ، اجعلني خيراً مما يقولون، واغفرْ لي ما لا يعلمون)(1).

وقد نظرَ هذه الرسالةَ وهي معيَ بعضُ الأذكياء فقال: عندي أنَّ هذا دور، إذ لا تُفْهم إلا بآدابٍ، فقلتُ له: هي كالشاةِ من أربعين، تُزكِّي نفسَها وغيرَها!!

ـ[وَاسْتَحْسَنَهُ وَأَمَرَنِي أَنْ أُسَمِّيَهُ بِـ: " غَايَةُ الِإحْكَامِ فِي آدَابِ الْفَهْمِ وَالإِفْهَامِ " فَامْتَثَلْتُ أَمْرَهُ، وَسَمَّيْتُهُ بِذَلِكَ بَعْدَ إِعَادَةِ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضُوعِ.]ـ

(وَاسْتَحْسَنَهُ) أي: عدَّهُ حسناً ونسبَه للحُسْنِ، وهذا أحد استعمالاتِ (السين والتاء)، وتأتي للصيرورةِ، ومنها المطاوعة، وللطلبِ، وزائدة للتوكيد (2).

(1) مصنف ابن أبي شيبة (36853).

(2)

فمثال الصيرورة: استنسر البُغاث، واستنوق الجمل، ويدعى بالتحول كذلك، ومثال المطاوعة: أحكمت الأمرَ فاستحكم، أي: مطاوعة فعله، ومثال الطلب: استغفر واستطعم، ومثال الزيادة للتوكيد: استقام بمعنى قام.

انظر " همع الهوامع "(3/ 306)، " تفسير البحر المحيط "(1/ 13، 26).

ص: 92

(وَأمرني أنْ أُسَمِّيَهُ بـ " غايةُ) أي: نهاية (الإحكامِ) - بكسرِ الهمزةِ - أي: الإتقان (في آدابِ الفَهمِ والإفهامِ " فامتثلتُ أمرَهُ) هوَ ونحوه، من التجوزِ في النسبةِ الإيقاعية، أي: أطعته في أمره.

(وَسَمَّيْتُه بذلكَ) توضيحٌ لِمَا قبله، واشتُهِرَ أنَّ أسماءَ العلوم أعلامُ أشخاصٍ، وأسماءَ الكتبِ أعلامُ أجناس، وبحثَ فيه بعضهم بأنه تحكُّمٌ، إذْ كلاهما قابلٌ لتعدُّدِ الشيءِ بتعدُّدِ محلِّهِ وعدمهِ (1).

(بعدَ إعادةِ النظرِ) بالبصيرةِ أو معَ البصرِ (في ذلك الموضوعِ).

ـ[فَهَذَّبْتُهُ عَلَى قَدْرِ ألطَّاقَةِ، وَزِدْتُ عَلَيْهِ مَا يَسَّرَهُ اللهُ تَعَالَى، وَرَتَّبْتُهُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَبَابٍ:]ـ

(1) وهذه مسألة تدور في كثير من مقدمات الشروح والحواشي، والمراد بأسماء العلوم: كالنحو والفقه والتفسير، والمراد بأسماء الكتب: عناوينها، كالكتاب لسيبويه، والكافية والشافية لابن الحاجب، والسؤال: هل هذه الأعلام من قبيل علم الجنس أو علم الشخص؟

قال العلامة الشرواني في " حاشيته على تحفة المحتاج "(1/ 35): (والتحقيق: أن كلاّ من أسامي العلوم وأسامي الكتب من حيز علم الجنس، لاتفاق الحكماء والمتكلمين على أن لمحال الأعراض مدخلاً في تشخُّصِها).

وعند العلامة العظم في " السر المصون على كشف الظنون "(ص 61): (اعلم أن الذي عليه المعول في أسماء العلوم والكتب أنها أعلام شخصية لتلك الألفاظ

، واختلاف اللافظ وتعدده كتعدد أمكنة زيد، لا يغير تشخُّصه، لأنها غير معتبرة فيه

، وفي " شرح الفوائد الغياثية ": أسماء العلوم كأسماء الكتب أعلامُ أجناس عند التحقيق وضعت لأنواع وأعراض تتعدد لتعدد محالها القائمة بها).

ص: 93

(فهذَّبْتُهُ) بِأَنْ طرحتُ منه ما ينبغي طرحُهُ (على قَدْرِ الطاقةِ) أي: الوُسْع والقدرة البشرية.

(وَزِدْتُ عليهِ ما يسَّرَهُ اللهُ تعالى، وَرَتَّبْتُهُ) الترتيبُ: وضعُ الأشياء في مراتبها، والظاهرُ أنه هنا بمعنى: قسَّمته.

و (على) في قوله: (على مُقَدِّمَةٍ وبابِ) بمعنى: (إلى)، ويُلاحظُ الإجمالُ والتفصيلُ.

ـ[فَالْمُقَدِّمَةُ فِي: أَقْسَامِ ألْمَعَانِي. وَالْبَابُ فِي: الآدَابِ وَنَحْوِهَا.]ـ

(فالمُقَدِّمَةُ: في أقسامِ المعاني) يعني: من حيثُ ما يدلُّ عليها، كما يأتي.

(والبابُ: في الآدابِ ونحوِها) كأنَّه أرادَ بهِ ما يتعلَّقُ بالشُروح.

ـ[وَإِنَّمَا رَتَّبْتُهُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الطَّالِبَ إِذَا عَرَفَ الْمَعَانِيَ إِجْمَالاً .. نَهضَ لِطَلَبِ آدَابِ تَحْصِيلِهَا، فَكَانَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ بَاعِثَةً عَلَى فَهْمِ الْبَابِ.]ـ

(وَإنَّما رتَّبْتُهُ على ذلكَ) ولم أقتَصِر على الآداب، ولا جعلتُها معَ

ص: 94

أقسامِ المعاني مختلطةً، ولا أَخَّرْتُ أقسامَ المعاني، بل ذكرتُ أقسامَ المعاني أولاً ثم الآداب، (لأن الطالبَ إذا عرفَ المعاني إجمالا) في المُقَدِّمةِ .. (نَهَضَ) أي: تشوَّقَ بسرعةٍ (لِطلب آداب تحصيلها) المذكورةِ في الباب (فكانت هذهِ المُقَدِّمةُ باعتةً على فَهمِ الباب).

ولمَّا استشْعَرَ سؤالاً هو: أنَّ الطلبةَ المُشتغلين بالعلومِ قد تحقَّقُوا بهذه الآداب بتربية الأشياخِ لهم وحسنِ تبصُّرِهم، فهم يعلِّمون غيرَهم كما تعلَّموا، فلا حاجةَ لهذا الوضعِ .. أجابَ عنه بقوله -

ـ[وَضَعْتُهُ لِنَفْسِي وَلِمِثْلِي مِنَ الْمُبْتَدِئِينَ، حَمَلَنِي عَلَى ذَلِكَ - وَإِنْ كُنْتُ لَسْتُ أَهْلاً- أَنَّ الطَّالِبَ لَا يَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ الْفَهْمِ إِلَاّ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، كُلٌّ عَلَى حَسَبِهِ.]ـ

(وضَعته لنفسي ولمثلي مِنَ المبتدئينَ) في العلم، بياءٍ مُشدَّدةٍ (1)، أو همزٍ محقَّقٍ أو مُسَهَّلٍ.

(حملني) أي: بعثني ووجَّهني، فـ (على) في قوله (على ذلك) بمعنى:(إلى).

و (الواو) في قوله: (وإنْ كنت لستُ أهلاً) واو الحال، و (إن) زائدة.

(1) أي: المبتدئين.

ص: 95

(أنَّ الطالبَ لا يعلمُ كيفتةَ الفهمِ) تُسمَّى صِفةُ الشيءِ: كيفية، لأنه يُسألُ عنها بـ (كيف)، كما يُسمَّى قدرُهُ: كمية، وعِلَّتُه: لميَّة (1)(إلا بَعدَ مدةٍ) اسمٌ لجملةٍ من الزمنِ، لامتدادها (طويلةٍ) والطولُ مقولٌ بالتشكيك، كما أشار له بقوله:(كُل على حسبِه) ذكاءً وبلادةً.

ـ[فَرَجَوْتُ اللهَ تَعَالَى فِي تَسْهِيلِ الْفَهْمِ عَلَى مَنْ فَهِمَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً عِنْدَ الْمُحَصِّلِينَ، لَكِنْ لَا يَعْلَمُهَا الْقَاصِرُ مِنَ الْمُبْتَدِئِينَ.]ـ

(فَرَجَوْتُ اللهَ تعالى) الرجاءُ: تعلُّق بما أخذَ في سببه، وقد أخذ في السبب بوضع هذا الموضوع (في تسهيلِ الفهمِ على مَنْ فهمَ هذهِ الكلماتِ) أي: تسهيله على نفسه وعلى غيره، وهو الإفهامُ، وتيسُّرُهُ بفهم شيءٍ قليل، كما أشارَ له بجمع القلَّةِ، والإشارةِ القريبةِ .. أقربُ من الصبرِ لقراءة كتب شتَّى في أزمنةٍ مختلفةٍ في فنونٍ متغايرة، فإنَّ ما جمعه - حفظه الله تعالى - في هذه الرسالة لا يتحقَّقُ به الشخصُ إلا بذلك.

وأمَّا قوله: (وهيَ وإنْ كانتْ ظاهرةً عندَ المحصِّلينَ لكنْ لا يعلمُها القاصرُ مِنَ المُبْتَدئينَ) فمعلومٌ ممَّا قبله، لكنْ مقامُ الاستعذارِ لا يجبُ فيه الاختصار، بل يُسْتَحْسَنُ البَسْطُ.

(1) فإنه يُسألُ عنه بـ (لم).

ص: 96

ـ[مُتَوَكِّلاً عَلَى مَنْ بِيَدِهِ الأَمْرُ كُلُّهُ، وَاثِقاً بِهِ، مُعْتَمِداً عَلَيْهِ، صَارِخاً بِعَجْزِي وَفَقْرِي وَذُلِّي وَضَعْفِي.]ـ

(مُتَوكِّلاً) يقالُ: وَكَلَ أمرَهُ يَكِلُه لفلانٍ، إذا تركه له، وصيغةُ التَّفَعُّلِ للتمامِ والمبالغة، ويُعَدَّى بـ (على) لتضمينِهِ معنى الاعتماد، فمعنى (توكلتُ على الله): فوَّضْتُ أمري له معتمداً عليه، وهو حالٌ مِن فاعل:(وضعتُ) أو (رجوتُ اللهَ)، فيكون قوله:(على مَنْ بيده الأمرُ كلُّه) إظهاراً في محلِّ الإضمار (1)، ولطولِ الفصلِ، ولأنَّه أدعى للتوكُّلِ وأقربُ للإجابة.

(واثقاً) مُتمسِّكاً (به، مُعْتَمِداً عليهِ) كلاهما كالتأكيدِ للتوكُّل (صارخاً) أي: سائلاً بلهفةٍ، ملتبساً (بعجزي وفقري، وذُلِّي وضعفي) الأربعة متقاربة، ويحتملُ أنه ظرف لغو متعلِّقٌ بـ (صارخ).

ـ[وَاللهَ أَسْأَلُ أَنْ يُوَفِّقَنِي لِعَيْنِ الصَّوَابِ، وَيَهْدِيَنِي إِلَيْهِ، وَيَعْصِمَنِي مِنَ الْخَطَإِ وَالزَّلَلِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ خَالِصاً لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسَبَباً لِلإِقَامَةِ فِي دَارِ النَّعِيمِ.]ـ

(واللهَ أسألُ أنْ يوفقَني لعينِ الصوابِ) أبلغُ مِن قولِ غيرِه: صَوب الصواب، فإنَّ صوبَ الشيءِ جهتُهُ.

(1) والإظهار هنا مختص بقوله: (رجوت الله).

ص: 97

(وَيهديَني إليه) توكيدٌ (وَيَعْصِمَني) فيهِ طلبُ العِصمةِ، ولا بأسَ به، فإنَّ الخاصَّ بالأنبياءِ الواجبةُ (1)، أي: يُبَرِّئني ويُطهرني (مِن الخطإِ والزَّلَلِ) عطفٌ مرادِفٌ، أو أنَّ الأوَّلَ: سلوكُ غيرِ الطريق المستقيم، والثاني: الخطأُ في كيفيةِ سلوك المستقيم.

(وأنْ يجعلَهُ خالصاً لِوجهِهِ الكريمِ) يُؤَوَّلُ الوجهُ بالذاتِ، ويكفي أن يقالَ: لهُ وجهٌ لا كالحوادث.

والكرمُ: مجمعُ صفاتِ المدح اللائقةِ بالممدوحِ، ضدُّ اللؤم.

والمرادُ: لا رياءً وسمعةً، فلا ينافي قولَهُ:(وسبباً للإقامةِ في دارِ النَّعيم) أو أنه طلبَ جعلَها فائدة وعلةً غائيةً له، فلا يلزمُ أن تكونَ غرضاً وعلةَ باعثة (2).

ـ[وَأَنْ يَجْعَلَهُ مُتَلَقّىً بِالْقَبُولِ وَالرِّضَا، وَأَنْ يَغْفِرَ لِمَنْ رَأَى فِيهِ عَيْباً فَأَصْلَحَهُ بِلَا اعْتِرَاضٍ وَازْدِرَاءٍ، فَإِنَّ التَّصْنِيفَ مَظِنَّةٌ لِلزَّلَلِ، خُصُوصاً إِذَا كَانَ مِنْ مِثْلِي.]ـ

(وَأنْ يجعلَهُ متلقىً بالقبولِ) ضد الردِّ (والرِّضَا) ضد السُّخط، وهما متلازمان غالباً.

(1) أي: العصمة الواجبة، وهي منفية عن السائل.

(2)

فلو جعل تأليف الرسالة علة باعثة .. لكان الغرض من التأليف طلب هذه الفائدة (الإقامة في دار النعيم)، وبجعلها علة غائية .. يحصل المطلوب من غير قصد، كالزارع يطلب الثمر من زرعه فينال بغير قصد منه ظلَّ ما زرع.

ص: 98

(وأنْ يغفرَ لمَنْ رأى فيهِ عيباً فأصلَحَهُ) أي: التمسَ له وَجهَ إصلاحٍ (بِلا اعتراضٍ وازدراءٍ) أي: تحقير، وظاهر حُسْنُ طلب الغفْرِ لمن غفر، وأنه لا يلزمُ من الإصلاخ عدمُ الاعتراض.

(فإنَّ) علَّةٌ لما أفاده السباقُ مِن ترقُّبِ العيبِ، أو انبغاءِ الاستعذارِ (التصنيفَ مَظِنَّةٌ للزَّلَلِ) أي: موضع لظنِّ الزَّلَلِ.

وأصلُ التصنيف: جعل شيءٍ ذا أصنافٍ، والغالبُ أنَّ بين الصنفينِ مناسبةً وأُلْفَة ما، فيقالُ: تأليف، وكادوا الآن يخصُّوا مادةَ التصنيفِ بذوي المتون.

(خُصوصاً) مفعولٌ مطلقٌ، أي: أخصُّ التأليف بكونه مظنَّةَ الزَّلَلِ تخصيصاً، أو اختُصَّ بذلك اختصاصاً، يعني: بزيادة ما ذكر.

(إذا كانَ مِنْ مثلي) ولم يذكر الصفةَ التي فيها المماثلةُ، لاعتقادِ شُهْرَتِها ودِلالةِ ما سبقَ عليها.

ـ[وَهَذَا أَوَانُ الشُّرُوعِ فِي الْمَقْصودِ، بِعَوْنِ الْمَلِكِ الْمَعْبُودِ، فَأَقُولُ وَهُوَ حَسْبِي وَنعْمَ الْوَكِيلُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَاّ بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ:]ـ

(وهذا) الزمن الحالُّ عرفاً، إذ هوَ يتناولُ أوائلَ المستقبلِ (أَوَانُ)

ص: 99

لم تقلب واوُه ألفاً لسكونِ ما بعدها، وقد قال في:" الخلاصة ":

مِنْ يَاءٍ أوْ وَاوٍ بِتَحْرِيكٍ أُصِلْ

أَلِفاً ابْدِلْ بَعْدَ فَتْحٍ مُتَّصِلْ

إِنْ حُرِّكَ التَالِي ......

.......... (1)

(الشروعِ في المقصودِ بعونِ) أي: إعانة (الملكِ المَعبود) سبحانه وتعالى (فأقولُ) الفاءُ للتفريع، ومقولُ القول المقدِّمةُ

إلخ، وما بينهما اعتراضٌ (وَهُوَ) أي: المعهودُ المُتَقَدِّم في الذكر (حَسْبي) أي: كافيَّ (وَنِعْمَ الوكيلُ) هو (ولا حولَ) أي: تحوُّلٌ عن شيءٍ (ولا قوَّةَ) على شيءٍ (إلا باللهِ العلي العظيمِ):

(1) انظر " متن ألفية ابن مالك "(ص 62)، بتقديم (الياء) عن (الواو) كما في نسخة الأزهري وابن الناظم.

والشاهد: عدم قلب واو (أوَان) ألفاً مع انفتاحها، لأن ما بعدها جاء ساكناً ولم يكن لاماً أي: لام الفعل - مثل: بَيَان، وطَوِيل، انظر " شرح ابن عقيل "(2/ 567).

ص: 100