الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمور بأسرها من كسب الآدمي ومقدوره بإجراء الله تعالى العادة في ذلك كذلك، والذي يسمع عند تحقق هذا المجموع فهو الكلام القديم وقد أشار إلى ذلك الإمام أحمد1 رضي الله عنه فيما رواه ابناه صالح2 وعبد الله في كتاب"المحنة"3 أنه قال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق، فهو ضال مبتدع وقائل بما لم يقل به أحد من سلف الأمة.
فقد تلخص في هذه المقدمة حقيقة الكلام والحروف وما قيل فيهما فعند ذلك نشرع في المقصود وهو:
1 أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، أبو عبد الله، الإمام حقاً، وشيخ الإسلام صدقاً، طلب العلم وهو ابن خمسة عشر سنة، في العام الذي مات فيه مالك، وحماد بن زيد، ولد سنة (164هـ) وتوفي رحمة الله سنة (240هـ)"سير أعلام النبلاء"(9/434) .
2 صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المحدث الحافظ الفقيه القاضي أبو الفضل البغدادي قاضي أصبهان كان عالماً سخياً جداً توفي سنة (266هـ)"سير أعلام النبلاء"(361/10)
3 عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، الحافظ، الناقد، محدث بغداد، أبو عبد الرحمن ولد سنة (213هـ)"سير أعلام النبلاء"(11/62) ، وانظر أيضاً" شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة"(2/391) .
القسم الثاني: تحرير محل النزاع وذكر البرهان عليه
فصل في كلام الله
الأمور بأسرها من كسب الآدمي ومقدوره بإجراء الله تعالى العادة في ذلك كذلك، والذي يسمع عند تحقق هذا المجموع فهو الكلام القديم وقد أشار إلى ذلك الإمام أحمد1 رضي الله عنه فيما رواه ابناه صالح2 وعبد الله في كتاب"المحنة"3 أنه قال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق، فهو ضال مبتدع وقائل بما لم يقل به أحد من سلف الأمة.
فقد تلخص في هذه المقدمة حقيقة الكلام والحروف وما قيل فيهما فعند ذلك نشرع في المقصود وهو:
القسم الثاني
في تعين محل النزاع وذكر البرهان عليه وإيراد الأسئلة والجواب عنها وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
مسألة:
كلام الله ليس إلا الحروف والأصوات المفيدة لأمور الشرع المنزلة على النبي صلى الله عليه وسلم بنظم القرآن. وهو الموجود بين أظهرنا، الذي نتلوه بألسنتنا وتحفظه أولادنا ونكتبه في مصاحفنا، وليس لله كلام سواه، هذا مذهبنا وبه قال الإمام
1 أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، أبو عبد الله، الإمام حقاً، وشيخ الإسلام صدقاً، طلب العلم وهو ابن خمسة عشر سنة، في العام الذي مات فيه مالك، وحماد بن زيد، ولد سنة (164هـ) وتوفي رحمة الله سنة (240هـ)"سير أعلام النبلاء"(9/434) .
2 صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المحدث الحافظ الفقيه القاضي أبو الفضل البغدادي قاضي أصبهان كان عالماً سخياً جداً توفي سنة (266هـ)"سير أعلام النبلاء"(361/10)
3 عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، الحافظ، الناقد، محدث بغداد، أبو عبد الرحمن ولد سنة (213هـ)"سير أعلام النبلاء"(11/62) ، وانظر أيضاً" شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة"(2/391) .
الشافعي1 رضي الله عنه على ما نقل عنه أنه قال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر2.
وكذلك سئل عن رجل حلف بالطلاق الثلاث لا تكلمت، فقرأ القرآن هل يحنث؟ فقال: لايحنث لأن القرآن كلام الله وليس بكلام الآدميين3.
وقد نقلنا فيما سلف بعض ما نقل عن الإمام أحمد رضي الله عنه، وبه قال حماد بن زيد4 وحماد بن سلمة5 ويزيد بن هارون6 وعبد الرحمن بن مهدي7،
1 محمد بن إدريس الشافعي، عالم العصر، ناصر الحديث، فقيه الملة، أبو عبد الله القرشي وكان من أعقل الناس، ولو جمعت أمة لوسعهم عقله، توفي رحمه الله في سنة (204هـ)"سير أعلام النبلاء"(8/377) .
2 انظر:" شرح أصول أهل السنة والجماعة"(2/390-319) .
3 انظر المصدر السابق.
4 حماد بن زيد بن درهم، العلامة، الحافظ الثبت محدث الوقت، أبو إسماعيل الازدي مولى آل جرير بن حازم البعري، الأزرق الضرير، أحد الأعلام، أصله من سجستان، توفي رحمه الله في سنة (179هـ)" سير أعلام النبلاء"(7/345) .
5 حماد بن سلمة بن دينار، الإمام القدوة، شيخ الإسلام، أبو سلمة البصري، النحوي البزار الخرقي الطائي، مولى آل ربيعة بن مالك، وابن أخت حميد الطويل، وكان بحراً من بحور العلم، توفي رحمة الله سنة (167هـ)" سير أعلام النبلاء"(7/366) .
6 يزيد بن هارون بن زاذي، الإمام القدوة، شيخ الإسلام، أبو خالد السلمي، مولاهم الوسطي، الحافظ، كان حافظاً متقناً، وكان رأسا في السنة معادياً للجهمية منكراً تأويلهم في مسألة الاستواء. توفي رحمه الله سنة (206هـ)" سير أعلام النبلاء"(8/228) .
7 عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن، الإمام الناقد المجود، سيد الحفاظ، أبو سعيد العنبري، مولاهم البصري اللؤلؤي، ولد سنة خمس وثلاثين ومئة، قاله أحمد بن حنبل، طلب هذا الشأن، وهو ابن بضع عشرة سنة، قال الشافعي: لا أعرف نظير هذا في الشأن، وكان قدوة في العلم والعمل. توفي رحمه الله سنة (198هـ)" سير أعلام النبلاء"(8/121) .
وإسماعيل بن علية1، وسفيان بن عيينة2 ويوسف بن الماجشون3 وغير هؤلاء من الأئمة. والسادات من كبار العلماء والمحدثين ممن يضيق هذا المختصر عن ذكرهم وتعدادهم4
وذهب أبو الحسن الأشعري5 وأتباعه كأبي إسحاق الإسفراييني6. وأبي
1 إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم، الإمام، العلامة، الحافظ، الثبت، أبو بشر الأسدي، مولاهم البصري الكوفي الأصل، المشهور بابن علية وهي أمه، ولد سنة مات الحسن البصري سنة عشر ومئة، كان فقيها، إماما، مفتيا، من أئمة الحديث. توفي رحمه الله سنة (193هـ) ." سير أعلام النبلاء"(8/63) .
2 سفيان بن عيينة بن أبي عمران، مولي محمد بن مزاحم، أخي الضحاك بن مزاحم الإمام الكبير حافظ العصر، شيخ الإسلام، أبو محمد الهلالي الكوفي، ثم المكي، مولدة في الكوفة في سنة سبع ومئة، قال الشافعي: لولا مالك وسفيان بن عيينة لذهب علم الحجاز. توفي رحمة الله سنة (185هـ) .." سير أعلام النبلاء"(7/653) .
3 يوسف بن يعقوب بن أبي سلمه الماجشون، الإمام المحدث المعمر، أبو سلمة التيمي المنكدري مولاهم المدني، وثقة يحيى بن معين، وأبو داوود، وقال أبو حاتم: لابأس به. توفي رحمه الله سنة (185هـ) ." سير أعلام النبلاء"(7/597) .
4 انظر" شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة"(2/385-399) فإنه ساق من قال بذلك من أهل البصرة، والكوفة، ومصر والعواصم والثغور، وخراسان، وغيرهم.
5 علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن عبد الله بن موسى ابن أمير البصرة بلال بن أبي بردة ابن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي موسى عبد الله بن قيس بن حفار، الأشعري اليماني البصري، العلامة إمام المتكلمين، أبو الحسن، كان عجباً في الذكاء، وقوة الفهم، ولما برع في معرفة الاعتزال، كرهه وتبرأ منه، وصدق للناس، فتاب إلى الله تعالى منه، ثم أخذ يرد على المعتزلة، ويهتك عوارهم. توفي رحمه الله سنة (324أو330هـ)" سير أعلام النبلاء"(11/540) .
6 إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، الأستاذ أبو إسحاق، الإمام الأوحد العلامة، الأصولي الشافعي الملقب ركن الدين، أحد المجتهدين في عصره، وصاحب التصانيف الباهرة. توفي رحمه الله سنة (418هـ) ." سير أعلام النبلاء"(13/225) .
بكر بن فورك 1، وأبي بكر الباقلاني2، وأبي القاسم القشيري3، وأبي القاسم الإسفراييني، وأبي محمد الجويني4 وأبي سهل الصعلوكي5 وغيرهم. إلى أن هذه الحروف والأصوات التي نتلوها ويحفظها أولادنا ونرجع إليها في حلالنا وحرامنا، المنزلة على النبي صلى الله عليه وسلم بنظم القرآن، محدثة وإنها عبارة ودلالة على الكلام القديم ولم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم كلام قديم.
ووجه البرهان على ما ادعيناه أن نقول كلام الله تعالى منزل، والمنزل ليس إلا الحرف والصوت ينتج أن كلام الله هو الحرف والصوت، فإذا أثبتنا أن كلام الله
1 ابن فورك، الإمام الأوحد العلامة الصالح، شيخ المتكلمين، أبو بكر، محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني، كان أشعريا رأساً في الكلام، أخذ عن أبي الحسن الباهلي صاحب الأشعري. توفي رحمه الله (406هـ)" سير أعلام النبلاء"(13/130) .
2 ابن البقلاني، الإمام العلامة، أوحد المتكلمين، مقدم الأصوليين، القاضي أبو بكر، محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن قاسم البصري، ثم البغدادي، صاحب التصانيف، وكان يضرب به المثل في الفهم والذكاء، أخذ القاضي أبو بكره المعقول عن أبي عبد الله بن محمد بن أحمد بن مجاهد الطائي صاحب أبي الحسن الأشعري توفي رحمه الله في سنة (403هـ) ." سير أعلام النبلاء"(13/114) .
3 القشيري الإمام الزاهد، القدوة، الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحه القشيري، الخرساني، النيسابوري، الشافعي، الصوفي، المفسر ولد سنة (375هـ) كان عديم النظير في السلوك والتذكير، لطيف العبارة، طيب الأخلاق. توفي رحمه الله سنة (165هـ) ." سير أعلام النبلاء"(13/564) .
4 الجو يني، شيخ الشافعية، أبو محمد، عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيوية الطائي السنبسي الجويني، والد إمام الحرمين، كان فقيها مدققا محققا مفسرا نحويا، توفي رحمه الله سنة (438هـ)" سير أعلام النبلاء"(13/403) .
5 الصعلوكي، الإمام ذو الفنون أبو سهل، مجمد بن سليمان بن محمد بن سليمان بن هارون الحقي العجلي الصعلوكي النيسابوري، الفقيه الشافعي، المتكلم، النحوي، المفسر، اللغوي، الصوفي، شيخ خراسان، حبر زمانه، وبقية أقرانه، أفتى ودرس بنيسابور نيفا وثلاثين سنة. توفي رحمه الله سنة (369هـ)" سير أعلام النبلاء"(12/341) .
هو الحرف والصوت، وذكرنا الدليل على المقدمات، ثبت كونه قديماً بالإجماع.
وبيان كونه منزلاً من وجهين:
أحدهما: الآيات منها قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام:114]، {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء:192-193] ، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر: 9]، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّا} [يوسف:2] ، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاًً} [الإنسان:23] ، {وَبالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 105] ، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ} [البقرة:184] وأمثال هذا كثير في الكتاب العزيز. فهذه الإضمارات عائدة إلى كلام الله تعالى بالإجماع أو لضرورة عدم عودها إلى غير كلام الله تعالى. والوجه الثاني: إجماع الصحابة واتفاقهم على أن كلام الله تعالى منزل والذي يحقق ذلك تتبع جريانهم، وإن هذا الأمر كان مقرراً في عقائدهم جازمين، إذ لو تطرق إلى أحد منهم في ذلك شك أو شبهة لأزالوه بالسؤال للنبي صلى الله عليه وسلم مع ما كانوا فيه من الحمية في الدين والاحتراز عن الوقوع في الجهالات، وحينئذ يعلم أن عدم سؤالهم مع كثرة إطلاق لفظ النزول فيما بينهم وانتظارهم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقائعهم دليل على إجماعهم واتفاقهم على أن كلام الله منزل على نبيه. ونحن نشير إلى جملة من تلك الوقائع التي يعسر إحصائها ليحصل الجزم بأنهم كانوا معتقدين ذلك: فمن ذلك: حديث عائشة رضي الله عنها، أن الحارث بن هشام سأل النبي صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي؟ الحديث في أول صحيح البخاري1.
1 رواه البخاري (2-3043) ومسلم (2333)
ومنها: ماروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه قال:" أغفي النبي صلى الله عليه وسلم إغفاءة فرفع رأسه مبتسماً فأما قال وإما قالوا يا رسول الله: لم ضحكت؟ قال: " إنه أنزلت علي آنفًا سورة فقرأ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} حتى ختمها "1 رواه مسلم وأبو داوود والنسائي. ومنها: ماروي عن عبد الحميد صاحب الزيادي قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: قال أبو جهل بن هشام: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فنزلت {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} 2 اتفق عليه البخاري ومسلم. ومنها: حديث الإفك وقول عائشة رضي الله عنها:" ماكنت ظننت أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولإن أصغر في نفسي أن يتكلم الله بالقرآن في أمري"3 الحديث بطوله حتى أنزل عليه فلما أنزل الله إلى آخره اتفقا على صحته. وعن الحسن في قوله تعالى4:{فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة:232] قال: حدثني معقل بن يسار أنها نزلت فيه اتفق عليه البخاري وأبو داوود والترمذي والنسائي5.وعن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: أخذنا نفراً من
1 رواه مسلم (400) وأبو داوود (4747) والنسائي (904) وفي"الكبرى"(977) و (11702) .
2 رواه البخاري (4371) و (4372) ومسلم (6951) .
3 رواه البخاري (2518) ومسلم (6951) .
4 في الأصل: ولا، والصواب ما أثبتناه.
5 رواه البخاري (4255) و (4837) و (5021) وأبو داوود (2087) والترمذي (2981) والنسائي" الكبرى"(11041) و (11042) .
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه1 فأنزل الله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} حتى ختمها2 [الصنف 1] رواه أبو عيسى الترمذي* وعن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنهما، أنه قال: ماكنا ندعوا زيد بن حارثة، إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} 3 [الأحزاب:5] أخرجه الترمذي والنسائي*.وفي جامع الترمذي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:" كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي، سمع عند وجهه كدوي النحل"4.*وفيه أيضاً من حديث الصديق رضي الله عنه قال:"كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت
1 في الأصل: لعلمناه، والصواب ما أثبتناه.
2 رواه الترمذي (3309) وأحمد في" المسند"(23276) والدرامي (2301) وابن حبان في صحيحه (4549) والحاكم" المستدرك"(2384)(2385)(2387) والبيهقي في" الكبرى"(19011) وفي" الشعب"(4206) من طرق الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام. قال الترمذي: وقد خلف محمد بن كثير في إسناد هذا الحديث عن الأوزاعي.
وروى ابن المبارك عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن سلام، أو عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام. وروى الوليد بن مسلم هذا الحديث عن الأوزاعي نحو رواية محمد بن كثير. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد وعلى شرط الشيخين ولم يخرجاه.
3 رواه البخاري (4504) ومسلم (6212) والترمذي (3209) و (3814) والنسائي في" الكبرى"(11396) . وقد قصر الأرموي وتابعه المصنف رحمه الله فعزاه للترمذي والنسائي وهو في الصحيحين كما ترى.
4 رواه الترمذي (3173) وأحمد في"المسند"(224) وعبد الرزاق في" المصنف"(6038) والبزار (30) والنسائي في"الكبرى"(1439) والحاكم (1961) .
قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
نقول: فيه يونس بن سليم مجهول، لم يوثقه سوى ابن حبان
هذه الآية {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِه} " [النساء:123] "1. وفي حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال:" لما نزلت {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} جاء ابن أم مكتوم وكان أعمى وجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف بمثلي وأنا ضرير فنزل تلك الساعة {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} 2 [النساء:65] "وفي حديث عبادة بن الصامت وكان عقبياً بدرياً أحد نقباء الأنصار رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أنزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد3 له وجهه. فأنزل الله ذات يوم فلقي ذلك فلما سري عنه قال خذوا عني4.* وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أن اليهود قالوا للمسلمين: من أتى امرأة مدبرة جاء ولدها أحول فأنزل الله {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} 5 [البقرة:223] .*وعن ابن عباس في قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} [القيامة:16] قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل جبريل عليه السلام بالوحي فكان مما يحرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه وكان يعرق منه فأنزل الله هذه الآية6.
1 رواه الترمذي (3039) وقال: هذا حديث غريب وفي إسناده مقال، وموسى بن عبيدة يضعف في هذا الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد وأحمد بن حنبل. ومولى ابن سباع مجهول. وقد روى هذا الحديث من غير هذا الوجه عن أبي بكر، وليس له إسناد صحيح أيضاً. وفي الباب عن عائشة.
2 رواه البخاري (4418) ومسلم (4889) .
3 قال ابن فارس: ربد: الراء والباء والدال أصلان: أحدهما لون من الألوان، والأخر الإقامة، فأول الربدة، وهو لون يخالط سواده كدرة غير حسنة" معجم مقاييس اللغة"(616) .
4 رواه مسلم (1690) .
5 رواه البخاري (4254) ومسلم (1435) .
6 رواه البخاري (4644) ومسلم (1004) .
وعن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قالا:" مكث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن وبالمدينة عشر سنين"1.*وعن مسروق قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:"والذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن أنزلت ولو أعلم أن أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل ركبت إليه*"2.*وعن ابن إسحاق قال سمعت البراء رضي الله عنه يقول: آخر آية نزلت {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:176] وآخر سورة نزلت: براءة3.وروي عن عثمان بن عطاء4 عن أبيه عن ابن عباس قال" أول ما أنزل من القرآن بمكة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} ثم {نْ وَالْقَلَمِ} ثم {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ثم {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ثم {تُبْتُ} ثم {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ثم {سَبَّحَ} ثم {وَاللَّيْلِ} ثم {وَالْفَجْرِ} ثم {وَالضُّحَى} ثم {أَلَمْ نَشْرَحْ} ثم {وَالْعَصْرِ} ثم {وَالْعَادِيَاتِ} ثم {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ثم {الْكَوْثَرَ} ثم {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ} ثم" المعوذتين" على الاختلاف ثم {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثم {وَالنَّجْمِ} ثم {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} ثم {وَالشَّمْسِ} ثم {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} ثم {وَالتِّينِ} ثم {لِإِيلافِ} ثم {الْقَارِعَة} ثم {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} ثم {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ} ثم {وَالْمُرْسَلاتِ} ثم {أَرَأَيْتَ} ثم {لا أُقْسِمُ} ثم {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} ثم
1 رواه البخاري (4195) و (4694) .
2 رواه البخاري (4716) ومسلم (6283) .
3 رواه البخاري (4377) ومسلم (4129) .
4 عثمان بن عطاء بن أبي مسلم الخراساني، أبو مسعود المقدسي، أصله من بلخ، ضعفوه في الحديث"تهذيب التهذيب"(7/123) .
{الأعراف} ثم {قل أوحي} ثم {يس} ثم {الفرقان} ثم {الملائكة} ثم {كهيعص} ثم {طه} ثم {اقتربت} ثم {إذا وقعت} ثم {الشعراء} ثم {النمل} ثم {القصص} 1 ثم {بني إسرائيل} ثم {يونس} 2 ثم" هود " ثم" يوسف "ثم" الحجر "ثم" الأنعام "3 ثم {والصافات} ثم" لقمان "ثم" سبأ "ثم" الزمر "4 ثم {حم المؤمن} ثم {حم السجدة} ثم {حم عسق} ثم {الزخرف} ثم {الدخان} ثم {الجاثية} ثم {الأحقاف} 5 ثم {وا لذاريات} ثم {هل أتى على الإنسان} على الاختلاف ثم {الغاشية} ثم {الكهف} 6 ثم {النحل} 7 ثم {نوح} ثم {إبراهيم} ثم {الأنبياء} ثم {المؤمنون} ثم {آلم تنزيل السجدة} ثم {والطور} ثم {الملك} ثم {الحاقة} ثم {سأل سائل} ثم {عم يتساءلون} ثم {والنازعات} ثم {انفطرت} ثم {انشقت} ثم {الروم} ثم {العنكبوت} ثم {ويل للمطففين} . فهذه خمسة وثمانون موضوعاً8 كلها مكية. ثم أول ما نزل بالمدينة: فاتحة الكتاب ثم البقرة ثم الأنفال9 ثم آل عمران ثم الأحزاب ثم الممتحنة ثم النساء ثم {إذا زلزلت} ثم الحديد ثم الصف ثم سورة محمد صلى الله عليه وسلم ثم الرعد ثم الرحمن ثم الطلاق ثم {لم يكن} ثم"الحشر" ثم {إذا جاء}
1 إلا قوله تعالى: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} إلى قوله تعالى {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض} .
2 إلا قوله تعالى: {ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به} .
3 إلا قوله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ} .
4 إلا قوله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} .
5 إلا قوله تعالى: {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله} .
6 إلا قوله تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} .
7 إلا قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتوم به} .
8 هذه (84) موضعاً فقط، و (ألهكم التكاثر) تمام (85) ،والله أعلم.
9 إلا قوله تعالى: {يا أيه النبي حسبك الله} .
{نصر الله} ثم النور ثم الحج1 ثم المنافقون2 ثم المجادلة ثم الحجرات ثم التحريم ثم الجمعة ثم التغابن ثم الفتح ثم التوبة فهذه ثمانية وعشرون3 سور مدنية وشيوع نزول كلام الله بل نزول كتبه أظهر من أن يحتاج إلى إقامة الدليل عليه.*فقد روي عن أبي ذر رضي الله عنه قال:"قلت يا رسول الله! كم كتاب أنزل الله؟ قال:" مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل على آدم عشرة صحائف، وعلى شيث خمسين صحيفة4 وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وأنزل على موسى التوراة، وعلى داود الزبور، وعلى عيسى الإنجيل وأنزل على نبيكم الفرقان 5"*وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"نزلت التوراة على موسى لست خلون من شهر رمضان، وأنزل الزبور على داود لاثنتي عشرة خلت من شهر رمضان، وأنزل الإنجيل على عيسى لثمان عشرة خلت من شهر رمضان، وأنزل الفرقان جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر. وصحف إبراهيم أنزلت عليه في أول ليلة من شهر رمضان"6.
1 إلا قوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول} إلى قوله تعالى [عقيم] .
2إلا قوله تعالى: {ليخرجن الأعز منها الأذل} .
3 هذه [27] موضعاً فقط، و {هل أتى على الإنسان} تمام [28] والله تعالى أعلم.
4 في الأصل: صحائف، والصواب ماأثبتناه.
5 رواه الطبراني في التاريخ (1/96) وابن حبان في"الصحيح"(361)"الموارد"(94) في حديث طويل، وفيه يحيى بن يحيى الغساني، كذبه أبو حاتم وأبو زرعة. ووثقه الطبراني وابن حبان.
6 رواه أبو يعلى (2190) من حديث جابر، وفيه سفيان بن وكيع وهو ضعيف، ورواه أحمد في"المسند"(4-107) والطبراني"الكبير"(22/75) وفي"الأوسط (3740) والبيهقي في"الكبرى" (18429) من حديث واثلة وفيه عمران القطان، وأبو داود، والنسائي ووثقه ابن حبان، وقال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث.
* وروي عن مقاتل بن سليمان1 أنه قال:" أنزل الله الفرقان من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا إلى السفرة وهم الكتبة، فكان ينزل من اللوح المحفوظ ليلة القدر ما ينزل به جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم في السنة كلها إلى مثلها من العام المقبل، حتى نزل القرآن كله في ليلة القدر، ثم نزل به جبريل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم في الأيام، وقبضه جبريل من السفرة في عشرين شهراً وأدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة"2.وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لقد أنزلت علي آيات ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلهن، وهن فاتحة الكتاب وأم القرآن والسبع المثاني"3وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" أنزل القرآن على سبعة أحرف "4 فالمراد به على سبع لغات في قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ولهذا قال الشعبي: الحروف واحدة لكن المختلف لغات القوم. وروي عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض
1 مقاتل بن سليمان البلخي، أبو الحسن، كبير المفسرين، يروي عن مجاهد، والضحاك، وابن بريدة، وعطاء، وابن سيرين، وعمر بن شعيب، وغيرهم. وقال البخاري: مقاتل لا شيء البتة. وقال الذهبي: أجمعوا على تركه. توفي رحمه الله سنة (150هـ) أو بعدها. سير أعلام النبلاء (7/154) .
2 لا أرى هذا الخبر أتى إلا من قبل مقاتل، وقد وصفه وكيع بالكذب، وقال النسائي: كان مقاتل يكذب. وقال العباس بن مصعب: كان مقاتل لا يضبط الإسناد. وقال ابن حبان: كان يأخذ من اليهود والنصارى من علم القرآن الذي يوافق كتبهم، وكان يشبه الرب بالمخلوقات، وكان يكذب في الحديث." ميزان الاعتدال"(6/ 505-506-507) .
3 رواه الترمذي (3125) بنحوه من حديث أبي بن كعب، وروى البخاري نحوه (4204) من حديث سعيد بن المعلى.
4 رواه البخاري (2287) ومسلم (1896) .
أسفاره وعمر رضي الله عنه يسير ليلاً معه، فسأل عمر عن شيء فلم يجبه، ثلاث مرات لا يجيبه، قال عمر: فتقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في قرآن. فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فقال:" لقد أنزل علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1] "1.وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له. فأنزل الله {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] 2وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل:" ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فنزل {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} 3 [مريم:64] ".وعن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" أي عم قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله "فقالا له: يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فكان آخر ما تكلم به أن قال: على ملة عبد المطلب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لأستغفرن لك مالم أنه عنك " فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية4 [التوبة:113] وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما توفي عبد الله بن أبي، صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلينا معه. فأنزل الله عليه {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً} 5 [التوبة:84]
1 رواه البخاري (2943) .
2 رواه البخاري (503) ومسلم (6932) .
3 رواه البخاري (4454) .
4 رواه البخاري (4398) ومسلم (131) .
5 رواه البخاري (4393) و (4395) ومسلم (6157) .
فعلم بمجموع هذه الأدلة أن نزول كلام الله على أنبيائه متفق عليه بين الفرق بأسرها، فمنكر ذلك يكون خارقاً للإجماع لا يعتد به، سيما من خرق إجماع الصحابة1 فيما هو من أصول الدين ودعائمه، فإنهم رضوان الله عليهم أجمعوا على ذلك من غير أن يخطر لهم حقيقة أو مجازاً في معنى النزول، فإن هذا الأمر من أهم الأمور في الدين وعليه بنيان قواعد شرائع المسلمين، فلما أهملوا ذلك لم يتعرضوا إليه، دل على اتفاقهم ما قلنا، ولا يمكن إطباق جميع الصحابة وهم نقلة هذا العلم وأصول الدين وأصحاب العربية واللسان والفصاحة على استعمال المجاز في صور لا تعد ولا تحصى، فيصير هذا الإجماع كإجماع المسلمين على أن المدفون بيثرب في الحجرة المحجوج2 محمد بن عبد الله بن عبد المطلب هو رسول الله حقاً، وأن الناس بأسرهم إذا وصلوه حيوه وسلموا عليه وتضرعوا بين يديه كأنهم شاهدوه عياناً من غير أن يخطر لهم أن المدفون ثم روحه أم جسده أم المجموع فاحتمال خطران هذا الخاطر لأحد من أصحاب الخيالات الفاسدة لا يقدم
1 قال شمس الدين محمد بن مفلح الحنبلي (ت:763) :لا يختص الإجماع بالصحابة، وإجماع كل عصر حجة عند أحمد وعامة الفقهاء والمتكلمين، خلاف لداود وأصحابه، وعن أحمد مثله قال ابن عقيل: وصرفها شيخنا عن ظاهرها بلا دليل.
وقال بعض أصحابنا: لا يكاد يوجد عن أحمد احتجاج بإجماع بعد عصر التابعين أو بعد القرون الثلاثة.
لنا عموم الأدلة. احتجوا: بظاهر الآيات السابقة، فكانوا كل الأمة، وليس من بعدهم كلها دونهم، وموتهم لم يخرجهم منها.
رد: فيقدح موت الموجود حين الخطاب في انعقاد إجماع الباقين، ومن أسلم بعد الخطاب لا يعتد بخلافه.
قالوا: ما لا يقطع فيه سائغ فيه الاجتهاد وبإجماع الصحابة، فلو اعتد بإجماع غيرهم تعارض الإجماعان.
رد: لم يجمعوا على أنها اجتهادية مطلقاً، وإلا لما أجمع من بعدهم فيها لتعارض الإجماعين، وبلزومه بالصحابة قبل إجماعهم، فكان مشروطاً بعدم الإجماع" أصول الفقه"(2/402-403) .
2 هكذا في الأصل، ولعل الصواب: المحجوج إليه.
في أصل الإجماع، فكذلك توهم كون هذا المنقول حقيقة أو مجازاً لا يقدح في إجماع الصحابة على حقيقة الإنزال. دليل آخر في بيان تحقيق الإجماع بالنسبة إلى جمهور الإسلام: أن كلام الله منزل على نبيه صلى الله عليه وسلم حقيقة، أنه لو قام شخص من الناس في أي زمان أو مكان في محفل عظيم جامع للعلماء والفضلاء والأذكياء وقال بلسان وصوت عالي يسمعه الحاضر أن كلام الله منزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، لما أنكر عليه أحد ولسارعوا إلى تصديقه، ولو عكس المقالة لسارعوا عليه، ولا تطابق عليه الناس إما على قتله، وإما على قلة عقله، وإما على تكفيره وجهله، ومن كابر على هذا المقال فليجرب بنفسه هذا الحال ليختبر حينئذ المال. والشيء هو مقرر في أذهان العقلاء وعقائد هم على هذا الحد لا يكون جحده إلا مكابرة. والعجب أن كتب الأشاعرة مشحونة لأن كلام الله منزل على نبيه، ومكتوب في المصاحف، ومتلو بالألسنة على الحقيقة، ثم يقولون: المنزل هو عبارة، والمكتوب غير الكتابة، والمتلو غير التلاوة، ويشرعون في مناقضات ظاهرة وتعقبات باردة ركيكة. ويكفي في ضحد هذا المعتقد كونهم لا يستطيعون على التصريح به بل هم فيه على نحو من المراء. وسنبين في خاتمة الكتاب حقيقة الكلام في هذه المباحثات إن شاء الله تعالى. يعلم بما ذكرنا في الآيات والأخبار المتضمنة إجماع الصحابة وإجماع غيرهم من العلماء والعقلاء أن كلام الله القديم منزل على نبي الله صلى الله عليه وسلم حقيقة لا مجازاً، والمنزل ليس إلا الحرف والصوت إما بالإجماع أو لاستحالة نزول المعنى القائم، فتعين أن يكون الحرف والصوت هو كلام الله ضرورة انعقاد الإجماع
على تحققه ونزوله، ويلزم من ذلك قدمه في الإجماع. فإن قيل: نسلم أن كلام الله قديم، ولكن لا نسلم كونه منزل، وما ذكرتم من الآيات والأخبار ودعوة الإجماع، كل ذلك لا يدل على أن القديم منزل، بل يدل على نزول هذه العبارة عن ذلك القديم، وليس ذلك إلا عين مذهبنا فإنا نسلم أن عبارة القديم ودلالته منزلة والكلام القديم عندنا غير ذلك وهو قائم بذات الله تعالى، ومستحيل نزوله وجميع الإطلاقات الواردة في الآيات والأخبار كلها بطريق المجاز لفهم الله منها ولما استحال نزول القديم وورود التغيرات عليه وجب حمل النزول في هذه الإطلاقات على المجاز ليكون ذلك تقريراً للقواعد العقلية ونسجاً على منوال اللغة في استعمال المجاز الصادف عن الحقيقة، على أنا أقول الكلام على بطلان مذهبكم من عشرين وجها: الأول: أن ماذكرتم مخالف لبديه العقل فيكون مردوداً لأنا نشاهد محال هذه الحروف قبل تسطيرها خالية عنها، ثم بعد ذلك نشاهدها1 موجودة، والقديم مستحيل بعد أن لم يكن. الثاني: هذه الحروف يلازمها التركيب وهو من لوازم الأجسام ولازم المحدث محدث. الثالث: يلزم تنجيس القديم فيما إذا كتب بالحبر النجس وقول ذلك قبح في الإسلام. الرابع: هذه الحروف المشاهدة في هذا المصحف المعين مثلاً إما أن تكون قديمة أو لا، والأول يلزم منه تعدد القدماء، ضرورة أنها غيرها. والثاني هو مذهبنا. الخامس: لو حلت الصفة القديمة بهذا المحل المعين فإما أن تفارق ذات البارئ أو لا، والأول يلزم منه خلو ذاته عن هذه الصفة. والثاني يلزم منه قيام الشيء
1 في الأصل: نشاهد والصواب ما أثبتاه.
الواحد بالمحلين، وكل واحد منهما محال، فالحلول محال.
السادس: النصارى لما أثبتوا على زعمهم حلول الكلمة القديمة في عيسى كفرهم جميع المسلمين، وما صرتم إليه من المعتقد أعظم من ذلك إذ هو حلول ما لا يحصى ويعد من القدماء فيما لا يحصى ويعد من المحدثات.
السابع: الباري تكلم بهذه الحروف دفعة أو التعاقب فإن كان الأول فالذي نسمعه عين كلام الله ضرورة كونه متعاقباً، وإن كان الثاني فيكون محدثاً لأن الأول لما انقضى وثبت عدمه امتنع قدمه.
الثامن: إذا كتب إنسان آية من القرآن في محل ثم محى ما كتبه، فذلك المحو والانعدام إما أن يكون وارداً على القديم أو لا، والأول محال لما فيه انعدام القديم، والمشاهدة الحسية توجب لنا القطع بورود المحو والانعدام على هذه الحروف، فيلزم أن لا تكون قديمة ضرورة لتحقق الانعدام فيها.
التاسع: مخارج الحروف معلومة عند سيبويه ستة عشر مخرجاً، للحلق منها ثلاثة مخارج لسبعة أحرف، فأقصاها مخرج الهمزة والألف والهاء، وأوسطها العين والحاء وأدناها إلى الفم الغين والخاء وحروف اللسان على أربعة أقسام:
أقصى اللسان، وطرفه، ووسطه، وحافتاه.
فأقصى اللسان: له مخرجان لحرفين فالقاف من أقصى اللسان وما فوقه من الحنك والكاف من أقصى اللسان مستقبلاً من أعلى الحنك محاذياً موضع القاف من وسط اللسان، بينه وبين وسط الحنك مخرج واحد للشين. والجيم والياء.
من طرف اللسان خمسة مخارج لأحد عشر حرفاً فإما الطاء والتاء والدال من مخرج واحد، وهو مابين طرف اللسان، وأصول الثنايا العليا.
والظاء والثاء والذال من مخرج واحد وهو مابين طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا.
والصاد والزاي والسين من مخرج واحد وهو مابين طرف اللسان وأصول الثنايا العليا.
والنون من مخرج واحد وهو طرف اللسان وما يتصل بالخياشيم.
والراء من مخرج واحد وهو طرف اللسان غير أنه أدخل في ظهر اللسان لانجرافه إلى اللام.
ولحافة اللسان مخرجان لحرفين: فمن حافة اللسان من أقصاها وما يلي الأضراس مخرج الضاد، ومن الناس من يخرجها من الجانب الأيمن ومن الناس من يخرجها من الجانب الأيسر وهم الأكثر، وخروجها من هذا كخروجها من هذا ومن حافة اللسان ومن أدناها إلى ما يلي الثنايا العليا، والباء والميم والواو مخرجهن مابين الشفتين غير أن الشفتين تنطبقان بالميم والباء ولا ينطبقان بالواو بل ينفتحان.
والنون الساكنة والتنوين مخرجهما من الخياشيم.
وقال الفراء وقطرب وابن كيسان: المخارج أربعة عشر مخرجاً، فجعلوا الراء واللام والنون من مخرج واحد وهو طرف اللسان
وذكر أبو عمرو الداني1 أرجوزة في هذا المعنى شعراً فقال:
تسع وعشرون حروف المعجم
…
فسبعة للحلق منها فاعلم
1 أبو عمرو الداني الإمام الحافظ، المجود المقرئ، الحاذق، عالم الأندلس، أبو عمرو، عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد بن عمر الأموي، مولاهم الأندلسي القرطبي، ثم الداني ويعرف قديماً بابن الصيرفي مصنف التيسير وجامع البيان وغير ذلك توفي رحمة الله سنة (444هـ)
سير أعلام النبلاء (13/481) .
الهاء والهمزة قبل والألف
…
والحاء والعين فميز ما أوصف
والخاء والغين كما بينت لك
…
والكاف والقاف فمن أقصى الحنك
والجيم والشين وحرف الياء
…
من وسط اللسان باستواء
ومخرج الدال وحرف الطاء
…
بين الثنايا مع حرف التاء
والتاء ثم الطاء بعد الدال
…
من طرفي هذين باعتدال
والصاد والزاي نعم والسين
…
من الثنايا طرف تكون
في مذهب الفراء والحربي
…
كمذهب ابن قنبرا البصري
بل قال أن اللام لا ستواها
…
من حافة اللسان من أقصاها
ومخرج التنوين وهو غنة
…
من داخل الخيشوم فأعلمنه
والصاد تنفرد عن سواها
…
بحافة اللسان من أدناها
إلى الذي تلي من الأضراس
…
وقل من يحكمها من الناس
وأحرف والثنية منها الفاء
…
وهي من باطنها والباء
والميم والواو وثلاث هنه
…
مابين ضم الشفتين هنه1
1 ولأبي عمرو نظم عظيم في هذه المسألة التي نحن بصددها، ولقد آثرت أن أذكره لنافسته. قال رحمه الله تعالى:
كلم موسى عبده تكليماً
…
ولم يزل مدبراً حكيماً
كلمه وقوله قديم
…
وهو فوق عرشه العظيم
والقول في كتابة المفصل
…
بأنه كلامه المنزل
على رسوله النبي الصادق
…
ليس بمخلوق ولا خالق
من قال فيه أنه مخلوق
…
أو محدث فقوله مروق
الوقف فيه بدعة مضلة
…
ومثل ذاك اللفظ عند الجلة
كلا الفريقين الجهمية
…
الواقفون فيه واللفظية
ولهذا النظم صلة انظر سير أعلام النبلاء (13/484) .
وإنما حكيت لك هذه المخارج مشروحة لتعلم أنها كلها جسمانية، ولا تحقق للحروف إلا بها، والبارئ منزه عن ذلك كله.
العاشر: وما صرتم إليه متحقق فيه قبل وبعد، وهما من خواص المحدثات ولوازمها،
الحادي عشر: الكلام على ما قلتم صفة فعلية لا ذاتية كما في الشاهد.
الثاني عشر: القدم لا يتصور فيه تجدد بل يتعلق بالموجودات، والكلام ليس كذلك لأن حقيقة مبنية من المتجددات في كل وقت وزمان كما في الشاهد.
الثالث عشر: إذا كان متكلماً في الأزل على ما ذكرتم، فإما أن يكلم نفسه أو غيره لاستحالة تحقق المحدثات أزلاً، ولا جائز أن يكلم نفسه لعدم الفائدة في ذلك.
الرابع عشر: لو كان القديم ما ذكرتم، لما كان قارئه مثاباً في وقت عاصياً في وقت، وكذلك كتابته ولمسه لأن الحقيقة الواحدة لا تختلف، أو لأن الثواب والعقاب لا يتحققان إلا على فعل الآدمي ومقدوره.
الخامس عشر: الخطوط تختلف والحروف تتفاوت والقديم ليس كذلك.
السادس عشر: إذا تكلمنا بكلامه يلزم أن نعلم علمه، ونقدر بقدرته، وإلا يلزم أن تكون القدرة على أحد المتساويين غير ثابتة على المساوي الآخر فيلزم الترجيح من غير مرجح وهو محال، لأن حقيقة الصفة القديمة من حيث هي صفة قديمة واحدة.
السابع عشر: لو كان هذا الكلام الذي نتلوه المنسوب إلينا تلاوته كلام الله حقيقة لصدق علينا: أنا نحن الآمرون الناهون المشرعون للأحكام وهذه النسبة منتفية بالإجماع.
الثامن عشر: لو جاز أن نتكلم بكلامه تعالى لجاز لزيد أن يتكلم بكلام عمرو وليس كذلك.
فصل: في كلام الله
التاسع عشر: إذا كنا1 متكلمين بكلامه على وجه لا يتحقق الامتياز يلزم مشاركته تعالى في صفته2 القديمة وذلك محال.
العشرون: لو كان هذا الكلام الذي نتلوه حقيقة كلام الله لزم منه قيام الصفة الواحدة بالأغيار المتعددة. وذلك محال.
فعلم بمجموع ما ذكرنا أن الذي صرتم إليه مخالف لبديهية العقل ومستحيل في نفسه فلا سبيل إلى المصير إليه.
والجواب الذي نقوله في الرد عليهم: أن مجموع ما ذكرنا من الآيات والأخبار والإجماع صريح في مدعانا ونص له عليه وفيه ودعوى المجاز مردود إذ هو خلاف الأصل ثم كيف يظن بالصحابة رضي الله عنهم وهم أصحاب العربية وأهل اللغة تواطئهم على استعمال المجاز في صور لا تعد ولا تحصى.
فإما قولكم: أن ما ذكرناه مخالف للقواعد العقلية.
قلنا: لا وسنبين في جواب الأسئلة أن هذا المعتقد لا يخالف الأمور العقلية ولا ينافيها، حينئذ يكون المصير إلى ما ذكرناه أولى إذ هو تبع للصحابة واستعمالات الإطلاقات في موضوعها الأصلي وغير مناف للأمور العقلية، حينئذ لا يشك عاقل في ترجيح هذا على ما عداه، على أنا لا نقتصر على هذا، بل نقول: يجب أن تكون الحقيقة مرادة من تلك الإطلاقات المذكورة في الأخبار والآيات لعشرين وجهاً:
الأول: لولم يكن المراد ما ذكرنا، للزم من ذلك التلبيس من الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم إذ يكون مصرحاً بنزول كلامه والمراد غيره وذلك محال في حق الله تعالى.
1 في الأصل: إذ كان، والصواب ما أثبتناه.
2 في الأصل: صفة، والصواب ما أثبتناه.
الثاني: يلزم منه ارتفاع التكاليف بأسرها لأنها إنما أوجبت بكلام الله تعالى، وهذا غير كلام الله ومحال أن يكون هذا غير كلام الله، فإن في فتح هذا الباب مفسدة عظيمة.
الثالث: لو لم يكن المراد ما ذكرنا، للزم منه العبث في قوله {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّه} [التوبة:6]
إذ الإجارة حينئذ تكون حاصلة بغير كلام الله، أو يلزم منه المحال، فإن سماع القائم بالنفس مع كونه قائماً محال، وكذلك قوله تعالى:{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} (البقرة)(75)
وقول النبي صلى الله عليه وسلم" إن قريشاً منعتني أن أبلغ كلام الله ربي "1 وليس المراد بهذا إلا ما ذكرنا.
الرابع: لو لم يكن ما ذكرناه ثابتاً، لما ثبتت هذه الأحكام من وجوب تعظيم المصحف واحترامه، وتحريم مسه إلا على طهارة، حتى أنه نقل عن جماعة من العلماء والزهاد رحمهم الله، أنهم ما دخلوا بيتاً فيه مصحف إلا على طهارة، لأن هذه الأمور لا تفعل طبعاً إلا لكلام الله تعالى إما بالإجماع أو الدوران، لا يقال يفعل ذلك لدلالتها على القديم، لأنا نقول: فكتب الحديث والفقه والتفسير تدل على ما يدل عليه من الحل والحرمة، والمجموع منتف عليه.
الخامس: لو لم يكن هذا المنزل غير كلام الله تعالى على الحقيقة لما انعقدت يمين الحالف به، ضرورة عدم الانعقاد بالمحدثات واليمين منعقدة فيها إذا قال: وما في المصحف من كلام الله. كيف والتحليف بالمصاحف من لدن الصحابة إلى زماننا هذا شائع بين الناس من غير إنكار فيكون ذلك إجماعاً.
السادس: لو قيل لقارئ يقرأ آية: أنه يقرأ كلام الله، لا يخطأ فيه هذه القضية
1 رواه أبو داود (4734) والترمذي (2925) والنسائي في"الكبرى"(7727) وابن ماجة (201) وأحمد (14770) والدار مي (3232) من حديث جابر بن عبد الله.
قال الترمذي: هذا الحديث غريب صحيح.
بالإجماع، لو قيل: يقرأ عبارة كلام الله لا كلام الله، لأجمع الناس على ضلالته وتبديعه، وكذا هذا الوجه مطرد فيمن وجد يكتب مصحفاً.
السابع: أجمع المسلمون على إطلاق هذه الكلمات من غير إنكار ولا تعرض إلا كيفية نزول ولا حقيقة ولا مجاز وهي قولهم كلام الله المنزل غير مخلوق وهذه الكلمات مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم روى ذلك أبو نصر السجزي في كتابه.
وروي عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر بن خطاب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود "1
وكذلك روي من طريق أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قال:" القرآن متصل من الله إلينا طرف بيده وطرف في يدينا "2.
الثامن: قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم صفين لما عوتب في التحكيم3:ما حكمت مخلوقاً4 وذلك يدل على ما قلناه، فإن قضية التحكيم مشهورة، حتى إن الشاعر قال فيها حيث يقول:
أيها الحاضرون إن علياً
…
لم يحكم في دينه مخلوقاً
إنما حكم القرآن وقد كان
…
بتحكيمه القرآن حقيقاً
أعلم الناس بالكتاب
…
والسنة والله ملهم توفيقاً
1 انظر" شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للالكائي (1/256-257-258) و"الانتصار" للعمراني (2/600) لم أقف على هذا الحديث مرفوعاً، ولكن ورد موقوفا عن عبد الله بن عمر من وجوه.
2 لم أقف عليه.
3 في الأصل: التحكم، والصواب ما أثبتناه.
4 رواه البيهقي في" الشعب"(168) والبيهقي في" الاعتقاد"(1/105) واللالكائي في"اعتقاد أهل السنة"(2/227-228) .
وكان مع علي ومعاوية رضي الله عنه الجمع العظيم والخلق العميم من كبار الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكر عليه أحد منهم ذلك.
التاسع: لو لم يكن المراد ما ذكرنا لكان قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15] غير مستقيم إذ تبديل مالا يصل إليهم غير متصور، وقد أشار إلى هذا الوجه ابن عقيل1.
العاشر: الذي صرتم إليه لم يقل به أحد من العلماء لأن إثبات كلام الله قديم لا نبصره ولا نقرأه ولا نسمعه خلاف الإجماع.
الحادي عشر: قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88] كذلك قوله: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [الأعلى 18]{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ} [النمل 76]{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء9]{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ} [الحشر 21] وأجمعت الأمة على أن قوله"هذا"إشارة إلى هذا القرآن الذي نتلوه ونحفظه.
الثاني عشر: لو لم يكن المراد ما ذكرنا، لكان رد على الكفار لما قالوا:{إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] غير صحيح لأنهم كانوا يقولون ما قلناه صحيح. فلولا أن هذا الكلام غير كلام البشر وإلا لما اتجهت الملامة والتوبيخ.
الثالث عشر: قوله صلى الله عليه وسلم" مابين الدفتين كلام الله "2 وليس بين الدفتين إلا هذه الحروف.
1 ابن عقيل، الإمام العلامة البحر، شيخ الحنابلة، أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن عبد الله البغدادي الظفري، الحنبلي، المتكلم، صاحب التصانيف. كان يسكن الظفرية ومسجده بها مشهور، ولد إحدى وثلاثين وأربع مائة. وكان يتوقد ذكاءً وكان بحر المعارف، وكنز فضائل، لم يكن له في زمانه نظير توفي سنة (513هـ)"سير أعلام النبلاء"(14/391-392) .
2 رواه البخاري (4731) من حديث ابن عباس.
وعن عبد العزيز قال:"دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس رضي الله عنهما
فقال شداد بن معقل: أترك النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا؟ قال: ما ترك إلا مابين الدفتين.
ودخلنا على محمد بن الحنفية فسألناه: فقال: ما ترك إلا مابين الدفتين1.
وهذه إشارة منهم إلى كلام الله تعالى.
الرابع عشر: قوله تعالى: {فأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود13] فلو لم يكن الثابت ما ذكرناه لكان هذا الكلام بمنزلة قوله:"فأتوا بمثل ما في نفسي""وبمثل مالم تعرفوه" فيكون بمثابة قوله:"فأتوا بمثل عملي وقدرتي" والباري منزه عن ذلك.
الخامس عشر: في ما صرتم إليه رد لقوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل 5]
السادس عشر: قوله صلى الله عليه وسلم" لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو "2
ومعلوم أنه يرد بالنهي الورق والمداد، فتعين ما ذكرنا وإلا لما صح هذا النهي.
السابع عشر: أجمع المسلمون على أن كلام الله مشتمل على أمر ونهي وخبر واستخبار، ومحكم ومتشابه، ومجمل ومبين، وناسخ ومنسوخ، وأنه سور وآيات وأجزاء وأحزاب، والقائم بنفس لا يتصف بذلك.
1 قال الحافظ البيهقي: أجمعت الصحابة على إثباته بين الدفتين. وقال الحافظ ابن حجر: وأجمع السلف على أن الذي بين الدفتين كلام الله. انظر"السنن الكبرى"(2/385) و"فتح الباري"(13/493) . (والدفتين) : بالفاء تثنية الدفة بفتح أوله، وهو اللوح.
2 رواه البخاري (2990) ومسلم (1869) وأبو داود (2610) وابن ماجه (2879) وأحمد (4507-4576) ومالك (979) والشافعي (667) وابن حبان (4715) وابن أبي شيبة (36064) وسعيد بن منصور (2467) وعبد بن حميد (766)(768) وابن الجعد (1185) وأبو يعلى (252) وابن الجارود (1064) من حديث ابن عمر.
الثامن عشر: لو لم يكن هذا" الذي"1 نتلوه كلام الله حقيقة، لما جاز الرجوع إليه في الأحكام، إذ الرجوع إلى غير كلام الله مع وجوده غير جائز بالإجماع.
التاسع عشر: لو لم يكن ما نتلوه ونحفظه كلام الله حقيقة، لما تحقق إعجاز العرب عن الإتيان بمثله مع ما كانوا فيه من الفصاحة والبلاغة، وتوفر دواعيهم على قطع النبي صلى الله عليه وسلم وتعجيزه، وتمكنهم من ذلك في المدة طويلة، ولما تحقق عجزهم وعدم استطاعتهم على الإتيان بمثله، حتى نزل معهم من الجميع إلى عشر سور إلى سورة واحدة، دل ذلك دلالة قطعية على أن هذا الكلام ليس من كلام الآدميين، فتعين أن يكون كلاماً لله إ ذ لا ثالث لذلك.
العشرون: قوله صلى الله عليه وسلم:" أن هذه صلاتنا لا يصح فيها شيئاً من كلام الآدميين "2 إن فيها قراءة فاتحة الكتاب.
فلو كانت فاتحة الكتاب من كلام الآدميين لتناقض الكلام، لأن نقيض السلب الكلي يتحقق بالإيجاب الجزئي، ومنصب النبوة يجل عن مثل هذه المناقضة.
فثبت بمجموع ما ذكرناه من هذه الوجوه: أن الحقيقة يجب3
أن تكون مرادة من تلك الإطلاقات المذكورة في الأخبار والآيات، وأن هذا الموجود المكتوب في المصاحف الذي نحفظه ونعمل به، هو حقيقة كلام الله القديم المنزل على نبيه
1 ليست بالأصل.
2 رواه مسلم (537) وأبو داوود (930) والنسائي في" المجتبى"(1216) وفي"الكبرى"(556)(1141) وأحمد (23813)(23816) والدارمي (1502) والبخاري في"خلق أفعال العباد"(ص:58) وابن خزيمة (859) وابن حبان (2247)(2248) وابن الجارود في" المنتقى"(212) وابن أبي شيبة (8020) وعبد الرزاق (3577) .
3 في الأصل: تجب.
صلى الله عليه وسلم، إذ هو العمل والأصل والقرآن، وفراراً عن الوقوع في هذه المحذورات وإخراجاً للصحابة رضوان الله عليهم من الجهالات، ولا خفاء على ذي بصيرة أن هذا هو الدين القويم والصراط المستقيم.
وأما الجواب: عما ذكروه من الأسئلة العقلية: قلنا: أما الأول: فنسلم ما ذكرتموه من المشاهد الحسية، لكن ما هو مشاهد من السواد والحمرة، والشخصيات الكسبية، فهو محدث عندنا، والحرف القديم بالقبلية والبعدية، إنما كانت باعتبار ما هو محدث من مجموع ما ذكرنا، مع كونه في هذا المحل، والحرف منفك عن هذه الأمور، فعلم أنه لا يلزم مما ذكرتم حدوثها، لا يقال الإشكال بحاله، فإن التقسيم ورد على نفس الحرف، إ‘ما أن يكون خالياً عن العمل، أو لا يكون خالياً عنه، فإن كان الأول فوجوده حينئذ بعد أن لم يك، فيعود الإشكال، وإن كان الثاني، فيلزم الخلاء للوجود وهو محال، لأنا نقول يكون خالياً عنه، لكن لما كان ذاتياً في قدمه، وعدم الوجود في هذا المحل لا ينفي الوجود، فالمنافاة إنما تقع لو وجد بعد أن لم يكن أصلاً.
الثاني: قولكم هذه الحروف يلازمها التركيب.
إن عنيتم بالتركيب أن كلمات يصدق على واحد منها لا يصدق على أخرى.
فإن قلتم: إن ذلك يستحيل على القديم.
فإن كلما يصدق على صفة من صفاته لا يصدق على أخرى.
وإن عنيتم التركيب الجسماني فلا نسلم تحقق الملازمة حينئذ كما لا يستحيل وجود موجود، لا جوهر ولا جسم ولا عرض، فلم يستحيل وجود حروف يلازمها التركيب مع ما سلف في فصل الحروف من صحة القسمة العقلية، ولئن سلمنا أنه يلازمها التركيب، فلم قلتم أنه يلزم منه حدوثها؟
قولكم: لازم المحدث محدث.
قلنا: إن أردتم بالملازمة المعبر1، فلا نسلم تحقق الحدوث على هذا التفسير، وإن عنيتم بالملازمة عدم الانفكاك، فلا نسلم تحقق الملازمة حينئذ، بل ذلك إنما يقع باعتبار المحال.
قولكم في الثالث: يلزم تنجيس القديم إذا كتب بالحبر النجس.
قلنا: إنما يتنجس للحبر والمداد، أما القديم فلا، ثم إن دفع كلام الله عز وجل من بين أظهرنا وعدم نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم أشنع من هذه المقالة التي نحن بريئون منها.
قولكم في الرابع: أنه بتقدير2 أن يكون المشار إليه في هذا المصحف المعين قديماً، يلزم تعدد القدماء.
قلنا: لا نسلم بل يلزم تعدد الآلات والمحال، أما نفس الحرف فلا، فإن كتب ألفاً بألوان مختلفة متعددة، لا يشعر ذلك بتعدد الألفات، وإنما التعدد يقع باعتبار تلك الألوان مع المحال، والمتعدد بتعدد محله لايكون متعدداً في نفس الأمر، إذ لو كان متعدداً مع قطع النظر عن محله، يلزم أن يكون الواحد أكثر من واحد، وذلك محال.
فلئن قال: حاصل ما تشيرون إليه خلاف ما عولتم عليه، وذلك لأن عندكم كلام الله موجود في المصحف على الحقيقة. وهو هذه الحروف وعلى ما ذكرتم ثم يكون القديم غير هذه الحروف.
قلنا: لا يدل على ما ذكرنا على قدم غير هذه الحروف، بل عندنا أنها قديمة، وهي كلام الله تعالى. ثم عندنا كلام الله تعالى ليس بجسم، وما هو موصوف بالجسمية عندنا محدث، وهو عندنا مباين للكلام
القديم ولا ينافي ذلك وجوده في
1 هكذا بالأصل ولعلها: المعين.
2 في الأصل: بتقدر.
هذا المحل المشار، بدليل ما نذكره في النظير فإن الصناع إذا شخص من صنعته صورة وهيأها من مواد مختلفة، فإن صنعته تكون موجودة في ذلك المحل، بحيث لا يشك عاقل في ذلك، مع أن تلك الآلات التي هي موضوع الصنعة، لا تكون داخلة في حقيقة صنعته التي هي الترتيب والتلفيق، وكل ذلك مرئي مشاهد محقق، فكذلك ما نحن فيه بصدق رؤية الحروف مع عدم المنافاة لقدمها، وما عداها ينزل منزلة الآلات من هذا المصنوع، فليفهم ذلك ففيه غموض وقد أشار إليه الإمام أبو الحسن ابن الزاغوني1 في كتابه"الإيضاح".
ولعمري لقد اندفع بهذا التقرير كثير من كلام الأشاعرة وتلبياتهم عند العارف بمعاني الكلام ودقائقه.
بقي على هذا أن يقال، قد نقل عن مالك – رحمه الله أنه قال: ليس من السنة أن يجادل عنها، إنما السنة أن تخبر بها، فإن قبل منك وإلا فاسكت.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال:"من أخذ دينه بالقياس ذهب دهره في الإلباس، مائلاً عن المنهاج طاعناً في الاعوجاج".
ثم قال ابن عباس رضي الله عنهما: نعرف ربنا بما عرفنا به نفسه، ونصفه بما وصف به نفسه، لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس، قريب من الأشياء غير ملاصق، بعيد منها غير مفارق، تحقق بلا تمثيل، وموحد بلا تعطيل.
1 أبو الحسن الزاغوني، الإمام العلامة، شيخ الحنابلة، ذو الفنون، أبو الحسن علي بن عبيد الله أبن نصر بن عبيد الله بن سهل بن الزاغوني البغدادي، صاحب التصانيف.
ولد سنة خمس وخمسين وأربعمائة، كان من بحور العلم، كثير التصانيف، يرجع إلى دين وتقوى، وزهد وعبادة.
قال ابن الجوزي: صحبته زماناً، وسمعت عنه، وعلقت منه الفقه والوعظ، ومات في سابع عشر المحرم سنة سبع وعشرين وخمسمائة، وكان الجمع يفوق الإحصاء."سير أعلام النبلاء"(14/483) .