الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وصلاة الله وسلامه على أفضل رسله، وخاتم أنبيائه، وعلى آله وأصحابه، وإخوانه1؛ المتمسكين بسنته، والمتهدين بهديه، إلى يوم الدين.
أما بعد؛ فهذه هي الطبعة الثانية لكتابنا "حجاب المرأة المسلمة"، يصدرها المكتب الإسلامي –جزى الله صاحبه خيرًا- بعد أن مضى على الطبعة الأولى منه عشر سنوات؛ ازددنا فيها إيمانًا بضرورة نشره وإذاعته بين المسلمين، وخصوصًا النساء اللاتي اغتررن بالمدينة الأوربية الزائفة، وانجرفن وراء بهارجها ومفاتنها، فتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وكشفن من أبدانهن أمام الرجال الأجانب؛ ما كانت إحداهن من قبل لا تتجرأ أن تظهره أمام أبيها ومحارمها!
1 قال صلى الله عليه وسلم: "وددت أنا قد رأينا إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد". رواه مسلم عن أبي هريرة، ولغيره بلفظ:"إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني"، وهو مخرج في الصحيحة 2927.
ولقد علمت أن كتابنا هذا كان له الأثر الطيب –والحمد لله- عند الفتيات المؤمنات، والزوجات المحصنات، فقد استجاب لما تضمنه من الشروط الواجب توفرها في جلباب المرأة المسلمة الكثيرات منهن، وفيهن من بادرت إلى ستر وجهها أيضًا، حين علمت منه أن ذلك من محاسن الأمور، ومكارم الأخلاق، مقتديات فيه بالنساء الفضليات من السلف الصالح، وفيهن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن.
ومع ذلك، فإن بعض أهل العلم وطلابه، ولا سيما المقلدين منهم –فإنهم مع إعجابهم بالكتاب وأسلوبه العلمي، وقوة حجته، ونصاعة برهانه- لم يرقهم ما جاء فيه من التصريح بأن وجه المرأة ليس بعورة، وقد كتب إلي بذلك أحد الأساتذة في المدارس الثانوية، وشافهني به آخرون هنا في سورية، وفي الحجاز أيضًا، وهؤلاء فريقان:
الأول:
من لا يزال يرى أن الوجه عورة، وليس ذلك عن دراسة الأدلة الشرعية، وتتبعها من مصادرها الأصلية، وإنما تقليدًا لمذهبه الذي نشأ عليه، أو البيئة التي عاش فيها، وفيها بعض المتحمسين لذلك أشد الحماسة بحسن نية، وعاطفة إسلامية، وغيرة دينية. وقد جلست إلى أحد هؤلاء الفضلاء جلسة دامت ساعات، تباحثنا فيها حول المسألة، وكان ذلك بطلب مني، لعلي أجد عنده، ما يؤيد رأيه، فلم أحظ بشيء من ذلك، وكل الذي سمعته منه، إنما هي شبهات عرضت له على بعض أدلة الكتاب، صدته عن الاقتناع بها، وتبني لازمها، فأجبته ليلتئذٍ عن شبهاته بما يسر الله، ثم فكرت
بعد ذلك في المسألة مرة أخرى، وأجلت النظر في أدلتها، وما وردني من شبهات حولها، فازددت بذلك اقتناعًا بصواب رأيي، وخطأ الرأي المخالف له، كيف لا، ورأينا هو ما ذهب إليه جماهير العلماء من المفسرين والفقهاء؛ كما هو مشروح في هذا الكتاب، وقد أوردت تلك الشبهات، وما فتح الله علي من الجواب في هذه الطبعة منه.
الثاني:
من يذهب معنا إلى أن الوجه ليس بعورة، ولكنه يرى مع ذلك أنه لا يجوز إشاعة هذا المذهب نظرًا لفساد الزمان، وسدًّا للذريعة، فإلى هؤلاء أقول:
إن الحكم الشرعي الثابت في الكتاب والسنة لا يجوز كتمانه وطيه عن الناس؛ بعلة فساد الزمان أو غيره، لعموم الأدلة القاضية بتحريم كتمان العلم، مثل قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159] .
وقوله صلى الله عليه وسلم: "من كتم علمًا ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار".
رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم، وصححه هو والذهبي، وغير ذلك من النصوص الرادعة عن كتم العلم.
فإذا كان القول بأن وجه المرأة ليس بعورة حكمًا ثابتًا في الشرع كما
نعتقد، فكيف يجوز القول بكتمانه، وترك تعريف الناس به؟! اللهم غُفرًا.
نعم؛ من كان يرى أنه مع ذلك لا يجوز العمل به سدًّا للذريعة، فعليه هو بدوره أن يبين ذلك الذي يراه للناس ولا يكتمه، ويأتي بالأدلة التي تؤيد رأيه، وهيهات هيهات! فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى الفضل بن العباس رضي الله عنه يلتفت إلى المرأة الخثعمية، وكانت امرأة حسناء ينظر إليها، وتنظر إليه، وهي غير محرمة –كما سأبينه- ثم لا يكون منه عليه الصلاة والسلام أكثر من أن يصرف وجه الفضل عنها، ولا يأمرها أن تستر وجهها عنه، فأي ذريعة ووسيلة أوضح من هذه، وهو صلى الله عليه وسلم القائل بهذه المناسبة:"رأيت شابًّا وشابة، فلم آمن الشيطان عليهما"1.
فهذا الحديث الصحيح، يقرر أن كشف المرأة عن وجهها –ولو كانت جميلة- حق لها، إن شاءت أن تأخذ به فعلت، وليس لأحد أن يمنعها من ذلك، بزعم خشية الافتنان بها، فمثل هذا الحديث منعنا من أن نقول برأي الفريق المذكور، وأوجب علينا إشاعة الرأي الصواب في المسألة.
على أنه لم يفتنا أن نلفت نظر النساء المؤمنات إلى أن كشف الوجه وإن كان جائزًا، فستره أفضل، وقد عقدنا لذلك فصلًا خاصًّا في الكتاب "الصفحة 104".
وبذلك أدينا الأمانة العلمية حق الأداء، فبينا ما يجب على المرأة، وما يحسن بها، فمن التزم الواجب فبها ونعمت، ومن أخذ بالأحسن فهو أفضل.
1 راجع ص 62.
وهذا هو الذي التزمته عمليًّا مع زوجتي، وأرجو الله تعالى أن يوفقني لمثله مع بناتي حين يبلغن أو قبيل ذلك.
ومن الغريب ما جاء في كتاب الأستاذ الذي سبقت الإشارة إليه:
"وقد يلحظ أحدهم، أو يسمع حرصك الحسن على ستر أهلك الستر المطلوب دون السماح بإظهار الوجه، معاذ الله! فإذا قرأ ما كتبت، قال: خالفت فتواه تقواه، ورماك بما لا يجمل"!.
وقد كنت أرسلت إليه جواب كتابه بتاريخ "23/ 9/ 74هـ"1، ومما فيه جوابًا على هذه الفقرة؛ قولي:
"إن رماني أحدهم ظلمًا "بما لا يجمل"، فإن لي أسوة حسنة بالأنبياء والصالحين صولات الله عليهم أجمعين، الذين لم يرمهم أعداؤهم "بما لا يجمل" فقط، بل وبما يقبح، ومما لا شك فيه عندي؛ أن الرامي بما أشار إليه حضرة الكاتب، معتد ظالم، أو جاهل ينبغي أن يعلم، وذلك لأمرين.
الأول: أن غاية ما قررته في الكتاب أن وجه المرأة ليس بعورة، وأنه يجوز أن تظهره بالشرط المذكور فيه، وهذا ليس معناه أنه يلزم القائل به أن يكشف وجه زوجه ولا بد؛ لأن هذا ليس من شأن الأمر الجائز، بل هو من لوازم الأمر الواجب، إذ إن كل واحد يعلم أن الجائز هو ما يجوز فعله، كما يجوز تركه، فإذا أنا أخذت بالترك أو أخذت بالفعل؛ فعلى الحالتين لم أخرج
1 أرسل الجواب المذكور إلى مجلة التمدن الإسلامي لينشر فيها يومئذ، فأبى المردود عليه ذلك، وقنع بالاطلاع عليه هو نفسه فقط!
عما أفتيت به من الجواز. فتبين من ذلك أن من قال فِيَّ: "خالفت فتواه تقواه"؛ كان بعيدًا جدًّا عن الفهم السليم، أو العدل.
والآخر: أنني بجانب تقريري أن الوجه ليس بعورة، قد قررت أيضًا أن الستر هو الأفضل، ووردت فيه "ص104" على من زعم أن الستر بدعة وتنطع في الدين؛ بأحاديث وآثار أوردتها، ثم ختمتهما بما نصه "ص114":
فيستفاد مما ذكرنا أن ستر المرأة لوجهها ببرقع أو نحوه مما هو معروف اليوم عند النساء المحصنات، أمر مشروع محمود، وإن كان لا يجب ذلك عليها، بل من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج".
فهذا مني نص صريح في تفضيل الستر، ورد على الطائفتين المتشددتين: القائلين منهم بوجوبه، والقائلين منهم ببدعته، و"خير الأمور أوساطها"1.
وحقيقة الأمر عندي؛ أنه وإن كان قلبي ليكاد يتفطر أسى وحزنًا من السفور المزري، والتبرج المخزي، الذي تهافتت عليه النساء في هذا العصر، تهافت الفراش على النار، فإنني لا أرى أبدًا أن معالجة ذلك يكون بتحريم ما أباح الله لهن من الكشف عن الوجه، وأن نوجب عليهن ستره بدون أمر من الله ورسوله. بل إن حكمة التشريع، والتدرج فيه، وبعض أصوله التي
1 حديث ضعيف الإسناد، ولذلك لم أستجز عزوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لا سيما وقد رواه أبو يعلى من قول وهب بن منبه بنحوه، وسند جيد.
منها بقوله صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا" 1، وأصول التربية الصحيحة، كل ذلك ليوجب على فقهاء الأمة ومربيها ومرشديها، أن يتلطفوا بالنساء، ويأخذوهن بالرفق لا بالشدة، ويتساهلوا معهن فيما يسر الله فيه، ولا سيما ونحن في زمن قل فيه من يأخذ بالعزائم من الأمور والفرائض، فضلًا عن المستحبات والنوافل!
فإذا كان بعض العلماء اليوم يرون أن في كشف المرأة عن وجهها مع سترها لما سواه من بدنها مما أمرها الله به خطرًا عليها –زعموا- فنرى أنه لا يليق بهم أن يكتفوا من المسألة بإظهار الإنكار الشديد على من يخالفهم في الرأي، واتخاذ القرار بمنع دخول الكتاب إلى بلادهم، بل إن عليهم أمرين اثنين لا بد لهم من القيام بهما:
الأول: أن يبينوا للناس حكم الله فيها، مستدلين عليه بالكتاب والسنة، لا تقليدًا للمذهب، أو اتباعًا للتقاليد، وبذلك فقط؛ يظهر للناس الصواب من الخطأ، بل الحق من الباطل {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17] . إنهم إن فعلوا ذلك استجاب لهم النساء المؤمنات، فهل يفعلون؟!
والآخر: أن يُعْنَوا بتربية الفتيات المسلمات تربية إسلامية صحيحة، وخصوصًا في المدارس والمساجد والجامعات، بتعليمهن وتثقيفهم الثقافة الشرعية النافعة، ومنع المجلات الخليعة أن تتسرب إليهن، وتفسد عليهم أخلاقهن، ونحو ذلك من الوسائل المبذولة في العصر الحاضر، مما يمك
1 أخرجه الشيخان.
استعماله في الشر والخير، {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] .
بمثل هذا وذاك يمكن أن يوجد جيل من النساء المؤمنات اللاتي إذا سمعن مثل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] ؛ بادرن إلى امتثال أمره كما فعلت نساء الأنصار رضي الله عنهن حين نزل قوله عز وجل: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] ، بادرن فاختمرن بما تيسر لهن من الأزر كما هو مذكور في موضعه من الكتاب "الصفحة 78".
فمثل هذه النسوة يمكن أن تؤمر بستر الوجه إن كان واجبًا، وأما أمر السواد الأعظم من النساء بذلك، في مثل بلادنا السورية، وغيرها كمصر ونحوها من البلدان الأخرى التي انتشر، أو بدأ ينتشر فيها التبرج والخلاعة بأبشع صوره، مما لم تنج منه مع الأسف حتى بلاد التوحيد التي كنا نأمل أن تكون الحصن الحصين للمسلمين من هذا التبرج، فأمر هذا الجنس من النساء بستر الوجه الذي لم يأمر الله به، وهن لا استعداد عندهن أن يسترن نحورهن وصدورهن وما هو أكثر من ذلك؛ مما لا يذهب إليه من كان عنده ذرة من رائحة فقه الكتاب والسنة.
فمن الحكمة إذن، أن يقنع العلماء في هذا العصر بأن يستجيب النساء لما أمر الله بع من حجب البدن كله؛ حاشا الوجه والكفين، فمن حجبهما أيضًا منهن، فذلك ما نستحبه لهن، وندعو إليه. وأما إيجاب ذلك عليهن، فهو عندي تشدد في الدين، وتنطع لا يحبه الله، وخصوصًا على النساء اللاتي وصانا بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا، في أحاديث كثيرة، منها قوله عليه
الصلاة والسلام: "رفقًا بالقوارير"1.
ويوم يستجيب النساء المسلمات لأمر الله؛ إلا من شذ منهن، وتكون غريبة مهينة بين المستجيبات، فيومئذ يعود إلى المسلمين عزهم ومجدهم، وتقوم لهم دولتهم، وينصرهم الله على عدوهم {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 4] ، ولن يكون ذلك إلا إذا استجاب لأمره تعالى الرجال قبل النساء، وعسى أن يكون ذلك قريبًا. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24] .
دمشق 25/ 7/ 1385هـ
محمد ناصر الدين الألباني.
1 أخرجه البخاري بمعناه.