الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشرط الخامس: "أن لا يكون مبخرًا مطيبًا
"
لأحاديث كثيرة تنهى النساء عن التطيب إذا خرجن من بيوتهن ونحن نسوق الآن بين يديك ما صح سنده منها:
1-
عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية".
2-
عن زينب الثقفية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
1- أخرجه النسائي "2/ 283"، وكذا أبو داود "2/ 192"، والترمذي "4/ 17 -بشرح المباركفوري"، والحاكم "2/ 396"، وأحمد "4/ 400 و413"، وابن خزيمة "3/ 91/ 1681"، وابن حبان "1474 - مورد"، وقال الترمذي:
"حسن صحيح". والحاكم.
"صحيح الإسناد".
ووافقه الذهبي.
قلت: وإسناده حسن.
2-
أخرجه مسلم وأبو عوانة في "صحيحيهما"، وأصحاب "السنن"، وغيرهم، وقد تكلمت على أسانيده في "الثمر المستطاب"، ثم "الصحيحة""1094".
"إذا خرجت إحداكن إلى المسجد فلا تقربن طيبًا".
3-
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أيما امرأة أصابت بخورًا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة".
4-
عن موسى بن يسار عن أبي هريرة:
"أن امرأة مرت به تعصف ريحها فقال: يا أمة الجبار المسجد تريدين؟ قالت: نعم، قال: وله تطيبتِ؟ قالت: نعم قال: فارجعي فاغتسلي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"ما من امرأة تخرج إلى المسجد تعصف ريحها فيقبل الله منها صلاة حتى ترجع إلى بيتها فتغتسل".
3- أخرجه مسلم وأبو عوانة في "صحيحيهما"، وأصحاب "السنن"، وغيرهم، وقد تكلمت على أسانيده في "الثمر المستطاب"، ثم "الصحيحة""1094".
4-
أخرجه البيهقي "3/ 133و246" من طريق الأوزاعي عن موسى بن يسار. وإسناده صحيح إن كان ابن يسار هذا هو الكلبي مولاهم المدني، فإن له رواية عن أبي هريرة، وإن كان هو الأردني فهو منقطع، وهذا هو الأقرب، فقد ذكروا في الرواة عنه -دون الأول- الأوزاعي، وهذا الحديث من روايته عنه كما ترى، وقد ذكروا في ترجمته أنه أرسل عن أبي هريرة. والله أعلم.
والحديث عزاه المنذري في "الترغيب""3/94" لابن خزيمة في "صحيحه"، وأخرجه البيهقي من طريق أخرى عن أبي هريرة، وله طريق، أو طرق أخرى ذكرتها في كتابي المذكور آنفًا، ثم في المجلد الثالث من "الصحيحة""1031 -مكتبة المعارف/ الرياض".
ووجه الاستدلال بهذه الأحاديث على ما ذكرنا العموم الذي فيها. فإن الاستعطار والتطيب كما يستعمل في البدن يستعمل في الثوب أيضًا لا سيما وفي الحديث الثالث ذكر البخور فإنه بالثياب أكثر استعمالًا وأخص.
وسبب المنع منه واضح وهو ما فيه من تحريك داعية الشهوة وقد ألحق به العلماء ما في معناه كحسن الملبس والحلي الذي يظهر والزينة الفاخرة وكذا الاختلاط بالرجال1.
وقال ابن دقيق العيد:
"وفيه حرمة التطيب على مريدة الخروج إلى المسجد لما فيه من تحريك داعية شهوة الرجال"2.
قلت: فإذا كان ذلك حرامًا على مريدة المسجد فماذا يكون الحكم على مريدة السوق والأزقة والشوارع؟ لا شك أنه أشد حرمة وأكبر إِثْمًا وقد ذكر الهيتمي في "الزواجر""2/ 37" أن خروج المرأة من بيتها متعطرة متزينة من الكبائر ولو أذن لها زوجها.
ثم إن هذه الأحاديث عامة تشمل جميع الأوقات وإنما خص بالذكر العشاء الآخرة في الحديث الثالث؛ لأن الفتنة وقتها أشد فلا يتوهمن منه أن خروجها في غير هذا الوقت جائز. وقال ابن الملك:
1 انظر "فتح الباري""2/ 279".
2 نقله المناوي في "فيض القدير" في شرح حديث أبي هريرة الأول.
"والأظهر أنها خصت بالنهي؛ لأنها وقت الظلمة وخلو الطريق والعطر يهيج الشهوة، فلا تأمن المرأة في ذلك الوقت من كمال الفتنة بخلاف الصبح والمغرب فإنهما وقتان فاضحان وقد تقدم أن مس الطيب يمنع المرأة من حضور المسجد مطلقًا"1.
1 نقله الشيخ على القارئ في "المرقاة""2/ 71".
الشرط السادس: "أن لا يشبه لباس الرجل"
لما ورد من الأحاديث الصحيحة في لعن المرأة التي تتشبه بالرجل في اللباس أو غيره. وإليك ما نعلمه منها:
1-
عن أبي هريرة قال:
"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل".
1 أخرجه أبو داود "2/ 182"، وابن ماجه "1/ 588"، والحاكم "4/ 194"، وأحمد "2/ 325"، من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عنه. وقال الحاكم:
"صحيح على شرط مسلم"، وأقره الذهبي، وهو كما قالا.
ورواه ابن حبان أيضًا في "صحيحه""1455 و1456 - موارد"، عزاه المنذري في "الترغيب""3/ 105-106" والشوكاني في "نيل الأوطار""2/ 98" للنسائي، ولعله في "سننه الكبرى"، ثم طبع، وهو فيه "5/ 397"، ثم قال الشوكاني:
"ورجاله رجال الصحيح".
2-
عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"ليس منا من تشبه بالرجال من النساء ولا من تشبه بالنساء من الرجال".
2- أخرجه أحمد "2/ 199-200": حدثنا عبد الرزاق: أخبرنا عمر بن حوشب -رجل صالح: أخبرني عمرو بن دينار عن عطاء عن رجل من هذيل قال: رأيت عبد الله بن عمرو بن العاص، ومنزله في الحل، ومسجده في الحرم، قال: فبينا أنا عنده رأى أم سعيد ابنة أبي جهل متقلدة قوسًا، وهي تمشي مشية الرجل، فقال عبد الله: من هذه؟ قال الهذلي: فقلت: هذه أم سعيد بنت أبي جهل. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره
…
قلت: وهذا إسناد رجاله ثقات إلا الرجل المبهم، ولم يسم، كما قال المنذري "3/ 106"، وتبعه الهيثمي "8/ 103"، وزاد:
"والهذلي لم أعرفه. وراه الطبراني باختصار، وأسقط الهذلي المبهم، فعلى هذا رجال الطبراني كلهم ثقات".
قلت: وكذلك أخرجه أبو نعيم في الحلية" "3/ 321" من طريق أحمد بإسقاط هذا المبهم، وباختصار قصته، مقتصرًا على الحديث المرفوع فقط، وقد ذكر الحافظ في "التعجيل" "ص200 رقم 495" أن البخاري أخرج -يعني في "التاريخ- من طريق عمرو بن دينار عن عطاء قال: سمعت ابن عمر "كذا الأصل، ولعله سقط منه الواو": سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"ليس منا من تشبه من النساء بالرجال".
قلت: فقد صرح عطاء -وهو ابن يسار بسماعه للحديث من ابن عمرو، فعاد موصولًا صحيح الإسناد، ويحتمل أن عطاء كان يروي الحديث عن الهذلي مع قصته عن ابن عمرو، وعن ابن عمرو مباشرة بدون القصة. والله أعلم. =
...................................................................................
= ثم وقفت على إسناد الحديث في "تاريخ البخاري"، فوجدت فيه ما لا بد من بيانه:
أولًا: قال البخاري "2/ 2/ 362":
"وقال يحيى بن موسى: نا عبد الرزاق: نا عمر2 بن حبيب "! " الصنعاني عن عمرو بن دينار عن عطاء بن أبي رباح: حدثني رجل من هذيل: رأيت عبد الله بن عمر "! "
…
وأقبلت امرأة تمشي مشية الرجال...." الحديث نحو رواية أحمد ليس فيه سماع عطاء من ابن عمر الوارد في "التعجيل"!.
هذا أولًا.
وثانيًا: قوله: "عمر2 بن حبيب": هكذا وقع في الأصل المطبوع، ولي عليه ملاحظتان:
الأولى: قوله: "حبيب": أخشى أن يكون محرفًا من: "حوشب"؛ لأنه كذلك هو في "المسند" و"الحلية"؛ كما تقدم، ولم يعلق عليه محققه الفاضل بشيء.
الثانية: علق على قوله: "عمر2"، فقال:
"وقع في الأصل: "عمرو"؛ كذا، وإنما هو: "عمر"، ذكروا ترجمته في باب عمر -ح".
فأقول: كذلك فعلوا؛ كابن أبي حاتم وابن حبان ومن بعدهم مثل "التهذيب" وغيره، لكن لقد لفت نظري أمور:
1-
لقد ذكروا أنه روى عن إسماعيل بن أمية، وعنه عبد الرزاق، فلم يذكروا روايته عن عمرو بن دينار! وقال الذهبي في "الميزان":
"شيخ لعبد الرزاق يجهل حاله".
وسبقه إلى ذلك ابن القطان.
2-
لم يذكر البخاري هذا الراوي في "التاريخ الكبير"، ولا في "الصغير"؛ لا =
...................................................................................
= فيمن اسمه: "عمر"، ولا فيمن اسمه:"عمرو"، لا فيمن اسم أبيه:"حبيب"، ولا فيمن اسمه:"حوشب".
3-
بناء على ما تقدم؛ فإنه يغلب على الظن أن عمرو بن حوشب هذا غير عمر بن حوشب الذي ترجموه؛ لاختلاف شيخهما أولًا، ولتصريح عبد الرزاق بأنه رجل صالح ثانيًا.
4-
وسواء كان الصواب هذا أو ذاك؛ فإن الحكم عليه بالجهالة لا يتمشى مع تصريح عبد الرزاق بأنه "رجل صالح"؛ فإن من علم حجة على من لم يعلم، ومن الظاهر أن الذي ترجموه لم يقفوا على تصريحه هذا، وإلا لنقلوه. والله أعلم.
ثالثًا: قوله في رواية البخاري المتقدمة: "عطاء بن أبي رباح" يدل على خطأ قولي سابقًا: "هو ابن يسار"، فيرجى الانتباه.
رابعًا وأخيرًا: يتكشف لنا مما تقدم أن علة إسناد هذا الحديث هي ذاك الهذلي التابعي؛ لأنه لم يسم.
ولذلك أعله البخاري، فقال عقبه:
"وهذا مرسل"؛ يعني: منقطع.
لكن مثله مما يستشهد به، ويتقوى حديثه بما ذكر قبله.
وأما الشيخ أحمد شاكر رحمه الله؛ فجزم في تعليقه على "المسند""11/ 103-104" بأن إسناده حسن؛ متبنيًا قول عبد الرزاق في عمرو بن حوشب.
وقال في الهذلي إنه:
"تابعي مبهم، جهل حاله، فهو على السترة
…
".
كذا قال، وهو توسع غير مرض؛ فإن الستر في الرواية يتطلب شيئًا آخر، وهو الضبط والحفظ، فالصواب أن يستشهد بمثله. والله أعلم.
3-
عن ابن عباس قال:
"لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء وقال: "أخرجوهم من بيوتكم". قال: فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلانًا وأخرج عمر فلانًا".
وفي لفظ:
"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال".
4 -
عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
3- أخرجه البخاري "10/ 274" وأبو داود "2/ 305"، والدارمي "2/ 280-281"، وأحمد "رقم 1982 و2006 و2123" من طريق هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عنه. وأخرجه الترمذي "4/ 16-17" وصححه، وابن ماجه "1/ 589"، والطيالسي "رقم 2679"، والبخاري أيضًا "10/ 273"، وأبو داود "2/ 182"، وأحمد "رقم 2263 و2291 و3060 و3151 و4358" من طرق أخرى عن عكرمة به دون قوله:"وقال أخرجوهم.. إلخ". واللفظ الآخر للبخاري.
4-
أخرجه النسائي "1/ 357"، والحاكم "1/ 72 و4/ 146-147"، والبيهقي "10/ 226"، وأحمد "رقم 6180" من طريقين صحيحين عن عبد الله بن يسار مولى ابن عمر عن سالم عن ابن عمر به. وقال الحاكم:
"صحيح الإسناد". ووافقه الذهبي، وهو كما قالا إن شاء الله تعالى، فإن عبد الله هذا؛ وإن لم يذكروا توثيقه عن غير ابن حبان؛ فقد روى عنه جماعة من الثقات. وقد قال الهيثمي "8/ 147-148":
"ثلاث لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق والديه، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال، والديوث".
5 -
عن ابن أبي مليكة -واسمه عبد الله بن عبيد الله- قال: قيل لعائشة رضي الله عنها: إن المرأة تلبس النعل؟ فقالت:
"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجلة من النساء".
وفي هذه الأحاديث دلالة واضحة على تحريم تشبه النساء بالرجال،
= "رواه البزار بإسنادين، ورجالهما ثقات".
وقال المنذري "3/ 220":
"رواه النسائي والبزار واللفظ له بإسنادين جيدين".
ونقل المناوي في "الفيض" عن صاحب "الفردوس" -وهو الديلمي- أنه قال: "صحيح".
وقد ذهل المنذري وتبعه الهيثمي ثم السيوطي في "الجامع"، فلم يعزوه إلى الإمام أحمد.
والحديث رواه الضياء في "المختارة""1/ 75" من الوجه المذكور عن ابن عمر، فجعله من مسند عمرو، وليس من مسند ابنه عبد الله، والأول عندي أصح.
وله شاهد من حديث عمار بن ياسر.
أخرجه أبو عمرو بن مهند في "المنتخب من فوائده""268/ 2".
ثم خرجت الحديث في "الصحيحة""1397".
5-
أخرجه أبو داود "2/ 184" في قطعة من "حديثه""5/ 2" من طريق ابن جريج عن ابن أبي مليكة به، ورجاله ثقات؛ غير أن ابن جريج مدلس، وقد عنعنه، فالحديث صحيح بشواهده المتقدمة.
وعلى العكس وهي عامة تشمل اللباس وغيره إلا الحديث الأول فهو نص في اللباس وحده وقد قال أبو داود في "مسائل الإمام أحمد""ص 261":
"سمعت أحمد سئل عن الرجل يُلبس جاريته القرطق1؟ قال: لا يلبسها من زي الرجال لا يشبهها بالرجال".
قال أبو داود:
"قلت لأحمد: يلبسها النعل الصرارة؟ قال: لا إلا أن يكون لبسها للوضوء. قلت: للجمال؟ قال: لا. قلت: فيجز شعرها؟ قال: لا"2.
1 في "النهاية":
"جاء الغلام وعليه قرطق أبيض، أي قباء. وهو تعريب "كرته" وقد تضم طاؤه".
2 الظاهر أن مراد الإمام رضي الله عنه بـ"الجز" هنا الحلق والاستئصال، "لأن الجز -وهو بالجيم والزاي الثقيلة- قص الشعر والصوف إلى أن يبلغ الجلد" كما في "الفتح""10/ 285".
وقد جاء النهي الصريح في ذلك، وهو ما أخرجه النسائي "2/ 276"، والترمذي "2/ 109" من حديث علي رضي الله عنه:
"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها".
وإسناده صحيح لولا أن الراوي اضطرب في وصله وإرساله، وبه أعله الترمذي على تساهله الذي عرف به، وقد خرجت الحديث، وتكلمت عليه من جميع طرقه التي وقفت عليها في "الضعيفة""678".
والظاهر أن المقصود بنهي أحمد عن جز شعرها؛ أن تحلقه، وهذا بخلاف =
وقد أورد الذهبي تشبه المرأة بالرجال، وتشبه الرجال بالنساء في "الكبائر" "ص 129" وأورد بعض الأحاديث المتقدمة ثم قال:
"فإذا لبست المرأة زي الرجال من المقالب والفرج والأكمام الضيقة فقد شابهت الرجال في لبسهم قتلحقها لعنة الله ورسوله ولزوجها إذا أمكنها من ذلك أو رضي به ولم ينهها؛ لأنه مأمور بتقويمها على طاعة الله ونهيها عن المعصية لقول الله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، الرجل راع في أهله ومسئول عنهم يوم القيامة" متفق عليه وهو مخرج في "غاية المرام""269".
وتبعه على ذلك الهيتمي في "الزواجر""1/ 126" ثم قال:
"عد هذا من الكبائر واضح لما عرفت من هذه الأحاديث الصحيحة وما فيها من الوعيد الشديد والذي رأيته لأئمتنا أن ذلك التشبه فيه قولان،
= أخذها من شعر رأسها، فإنه جائز، لما رواه مسلم "1/ 176" عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال:
"دخلت على عائشة أنا وأخوها من الرضاعة، فسألها عن غسل النبي صلى الله عليه وسلم من الجنابة
…
قال: وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يأخذن من رءوسهن حى تكون كالوفرة". "وهي من الشعر ما كان إلى الأذنين ولا يجاوزهما"، وإنما يجوز لهن ذلك إذا لم يقصدن التشبه بالأجنبيات، وإلا فلا يجوز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:
"من تشبه بقوم فهو منهم". وغيره مما سيأتي ذكره عند الكلام على الشرط السابع.
أحدهما أنه حرام، وصححه النووي بل صوبه، وثانيهما أنه مكروه، وصححه الرافعي في موضع، والصحيح بل الصواب ما قاله النووي من الحرمة، بل ما قدمته من أن ذلك كبيرة، ثم رأيت بعض المتكلمين على الكبائر عده منها وهو ظاهر".
وقال الحافظ في "الفتح""10/ 273 - 274" عند شرح حديث ابن عباس المتقدم برقم "3" باللفظ الثاني: "لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال" ما مختصره:
"قال الطبري: لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة التي تختص بالنساء ولا العكس وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: ظاهر اللفظ الزجر عن التشبه في كل شيء، لكن عرف من الأدلة الأخرى أن المراد التشبه في الزي وبعض الصفات والحركات ونحوها لا التشبه في أمور الخير. قال: والحكمة في لعن من تشبه إخراجه الشيء عن الصفة التي وضعها عليه أحكم الحكماء، وقد أشار إلى ذلك في لعن الواصلات بقوله: "المغيرات لخلق الله"1.
1 أخرجه البخاري "10/ 306"، ومسلم "6/ 166-167"، وغيرهما عن ابن مسعود مرفوعًا:
"لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات لخلق الله".
وينبغي أن يعلم أن من يغير خلقه تعالى وصبغته: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} بدون إذن منه، فإنما هو يتبع الشيطان في قوله:{وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] .
فثبت مما تقدم أنه لا يجوز للمرأة أن يكون زيها مشابِهًا لزي الرجل فلا يحل لها أن تلبس رداءه وإزاره ونحو ذلك كما تفعله بعض بنات المسلمين في هذا العصر من لبسهن ما يعرف بـ"الجاكيت" و"البنطلون" وإن كان هذا في الواقع أستر لهن من ثيابهن الأخرى الأجنبية. فاعتبروا يا أولي الأبصار.
ثم وجدت لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- فصلًا جيدًا رأيت من المناسب إيراده في هذا المكان لوثيق صلته به ولما فيه من الفوائد الغزيرة والتحقيق العلمي وهو جواب سؤال وجه إليه وهذا نصه مع الجواب كما جاء في "الكواكب" لابن عروة الحنبلي "ج 93/ 132-134" المحفوظ في المكتبة الظاهرية بدمشق تحت رقم "579 -تفسير":
"مسألة في لبس الكوفية للنساء ما حكمها إذا كانت بالداير والفرق وفي لبسهن الفراجي فما الضابط في التشبه بالرجال في الملبوس؟ هل هو بالنسبة إلى ما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كل زمان بحسبه؟
الجواب:
الحمد لله. الكوفية التي بالفرق والداير من غير أن تستر الشعر المسدول هي من لباس الصبيان والمرأة اللابسة لذلك متشبهة بهم. وهذا النوع قد يكون أوله من قبل النساء قصدن التشبه بالمردان كما يقصد بعض البغايا أن تضفر شعرها ضفيرًا واحدًا مسدولًا بين الكتفين وأن ترخي لها السوالف وأن تعتم لتشبه المردان في العمامة والعذار والشعر ثم قد تفعل الحرة بعض ذلك لا تقصد هذا لكن هي في ذلك متشبهة بالرجال.
وقد استفاضت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح وغيرها بلعن المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء وفي رواية: أنه لعن المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء وأمر بنفي المخنثين وقد نص على نفيهم الشافعي وأحمد وغيرهما وقالوا: جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنفي في حد الزنا وبنفي المخنثين.
وفي "صحيح مسلم"1 عنه أنه قال:
"صنفان من أهل النار من أمتي لم أرهما بعد: كاسيات عاريات مائلات مميلات على رءوسهن مثل أسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر يضربون بها عباد الله".
وقد فسر قوله: "كاسيات عاريات" بأن تكتسي ما لا يسترها فهي كاسية وهى في الحقيقة عارية مثل من تكتسي الثوب الرقيق الذي يصف بشرتها أو الثوب الضيق الذي يبدي تقاطيع خلقها مثل: عجيزتها وساعدها ونحو ذلك، وإنما كسوة المرأة ما تسترها، فلا تبدي جسمها ولا حجم أعضائها؛ لكونه كثيفًا واسعًا.
ومن هنا يظهر الضابط في نهيه صلى الله عليه وسلم عن تشبه الرجال بالنساء وعن تشبه النساء بالرجال وأن الأصل في ذلك ليس هو راجعًا إلى مجرد ما تختاره الرجال والنساء ويشتهونه ويعتادونه فإنه لو كان كذلك لكان إذا اصطلح قوم
1 قلت: هو عنده "8/ 155" بنحوه، ولفظه أقرب إلى لفظ أحمد "2/ 440"، وفيه شريك، ولكنه متابع عند مسلم وغيره، ولذلك خرجته في "الصحيحة 1326" كما تقدم "ص125".
على أن يلبس الرجال الخمر التي تغطي الرأس والوجه والعنق والجلابيب التي تسدل من فوق الرءوس حتى لا يظهر من لابسها إلا العينان! وأن تلبس النساء العمائم والأقبية المختصرة ونحو ذلك أن يكون هذا سائغًا! وهذا خلاف النص والإجماع فإن الله تعالى قال للنساء: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ لِبُعُولَتِهِنَّ} الآية، وقال:{قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} الآية وقال: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} ، فلو كان اللباس الفارق بين الرجال والنساء مستنده مجرد ما يعتاده النساء أو الرجال باختيارهم وشهوتهم لم يجب أن يدنين عليهن الجلابيب ولا أن يضربن بالخمر على الجيوب ولم يحرم عليهن التبرج، تبرج الجاهلية الأولى؛ لأن ذلك كان عادة لأولئك وليس الضابط في ذلك لباسًا معينًا من جهة نص النبي صلى الله عليه وسلم أو من جهة عادة الرجال والنساء على عهده بحيث يقال: إن ذلك هو الواجب وغيره يحرم فإن النساء على عهده كن يلبسن ثيابًا طويلات الذيل، بحيث ينجرُّ خلف المرأة إذا خرجت، والرجل مأمور بأن يشمر ذيله حتى لا يبلغ الكعبين، ولهذا لما نهى صلى الله عليه وسلم الرجال عن إسبال الإزار وقيل له: فالنساء؟ قال: "يرخين شبرًا"، قيل له: إذن تنكشف سوقهن قال: "ذراعا لا يزدن عليه"، قال الترمذي:"حديث صحيح" حتى إنه لأجل ذلك روي أنه رخص للمرأة إذا جرت ذيلها على مكان قذر ثم مرت به على مكان طيب أنه يطهر بذلك1، وذلك قول طائفة من أهل العلم في مذهب أحمد وغيره جعلا
1 قلت: الحديث صحيح؛ لأن له شاهدًا ذكرته فيما سبق "ص81"، فتصديره بلفظ:"روي" المشعر اصطلاحًا بضعفه، ليس كما ينبغي.
المجرور بمنزلة النعل الذي يكثر ملاقاته النجاسة، فيطهر بالجامد كما يطهر السبيلان بالجامد؛ لما تكرر ملاقاتهما النجاسة، ثم إن هذا ليس معينًا للستر، فلو لبست المرأة سراويل أو خفًّا واسعًا صلبًا كالمعرق وتدلي فوقه الجلباب بحيث لا يظهر حجم القدم؛ لكان محصلًا للمقصود بخلاف الخف اللين الذي يبدي حجم القدم، فإن هذا من لباس الرجال، وكذلك المرأة لو لبست جبة وفروة لحاجتها إلى ذلك لدفع البرد لم تنه عن ذلك، فلو قال قائل: لم يكن النساء يلبسن الفراء؟ قلنا: فإن ذلك يتعلق بالحاجة، فالبلاد الباردة تحتاج إلى غلظ الكسوة وكونها مدفئة وإن لم يحتج إلى ذلك في البلاد الحارة.
فالفارقة بين لباس الرجال والنساء يعود إلى ما يصلح للرجال وما يصلح للنساء وهو ما ناسب ما يؤمر به الرجال وما يؤمر به النساء، فالنساء مأمورات بالاستتار والاحتجاب دون التبرج والظهور؛ ولهذا لم يشرع لها رفع الصوت في الأذان والتلبية ولا الصعود "كذا ولعله: في الصعود" إلى الصفا والمروة ولا التجرد في الإحرام كما يتجرد الرجل فإن الرجل مأمور أن يكشف رأسه وأن لا يلبس الثياب المعتادة وهي التي تصنع على قدر أعضائه، فلا يلبس القميص ولا السراويل ولا البرنس ولا الخف، لكن لما كان محتاجًا إلى ما يستر العورة ويمشي فيه، رخص له في آخر الأمر إذا لم يجد إزارًا أن يلبس سراويل، وإذا لم يجد نعلين أن يلبس خفين، وجعل ذلك بدلًا للحاجة العامة، بخلاف ما يحتاج إليه حاجة خاصة لمرض أو برد،
فإن عليه الفدية إذا لبسه ولهذا طرد أبو حنيفة هذا القياس، وخالفه الأكثرون للحديث الصحيح1، ولأجل الفرق بين هذا وهذا، وأما المرأة فإنها لم تنه عن شيء من اللباس؛ لأنها مأمورة بالاستتار والاحتجاب، فلا يشرع لها ضد ذلك، لكن منعت أن تنتقب وأن تلبس القفازين؛ لأن ذلك لباس مصنوع على قدر العضو ولا حاجة بها إليه.
وقد تنازع الفقهاء هل وجهها كرأس الرجل أو كبدنه؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره فمن جعل وجهها كرأسه، أمرها إذا سدلت الثوب من فوق رأسها أن تجافيه عن الوجه كما يجافي عن الرأس ما يظلل به، ومن
1 يعني قوله صلى الله عليه وسلم:
"لا يلبس المحرم القمص، ولا العمائم، ولا السراويل، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعلين؛ فليلبس خفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مسه زعفران أو ورس".
متفق عليه، واللفظ للبخاري في "الحج""رقم 1542 -فتح"، وهو مخرج في "الإرواء""1012".
قال الحافظ في "الفتح":
"وظاهر الحديث أنه لا فدية على من لبسهما إذا لم يجد نعلين، وعن الحنفية تجب. وتعقب بأنها لو وجبت لبينها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه وقت الحاجة".
قلت: ويؤيده حديث ابن عباس أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات:
"من لم يجد إزارًا؛ فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين؛ فليلبس خفين".
متفق عليه. وهو مخرج في "الإرواء""1013".
جعله كاليدين -وهو الصحيح- قال: لم تنه عن ستر الوجه، وإنما نهيت عن الانتقاب كما نهيت عن القفازين، وذلك كما نهي الرجل عن القميص والسراويل، ونحو ذلك، ففي معناه البرقع وما صنع لستر الوجه، فأما تغطية الوجه بما يسدل من فوق الرأس فهو مثل تغطيته عند النوم بالملحفة ونحوها، ومثل تغطية اليدين بالكمين وهي لم تنه عن ذلك.
فلو أراد الرجال أن ينتقبوا ويتبرقعوا، ويدعوا النساء باديات الوجوه، لمنعوا من ذلك، وكذلك المرأة أمرت أن تجتمع في الصلاة، ولا تجافي بين أعضائها، وأمرت أن تغطي رأسها، فلا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار، ولو كانت في جوف بيت لا يراها أحد من الأجانب، فدل ذلك على أنها مأمورة من جهة الشرع بستر لا يؤمر به الرجل حقًّا لله عليها وإن لم يرها بشر وقد قال تعالى:
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن". وقال صلى الله عليه وسلم:
"صلاة إحداكن في مخدعها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في حجرتها أفضل من صلاتها في دارها وصلاتها في دارها أفضل من صلاتها في مسجد قومها وصلاتها في مسجد قومها أفضل من صلاتها معي"2. وهذا كله لما في ذلك من الاستتار والاحتجاب.
1 لا أعلم في السنة ما يشهد لهذا، وعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"صلوا كما رأيتموني أصلي" يرده، وراجع الخاتمة التي في آخر "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم".
2 حديث حسن، أخرجه أحمد وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما". =
ومعلوم أن المساكن من جنس الملابس، كلاهما جعل في الأصل للوقاية ودفع الضرر، كما جعل الأكل والشرب لجلب المنفعة، فاللباس يتقي الإنسان به الحر والبرد ويتقي به سلاح العدو، وكذلك المساكن يتقي بها الحر والبرد ويتقي بها العدو، وقال تعالى:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} وقال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} ، فذكر في هذا الموضع ما يحتاجون إليه لدفع ما قد يؤذيهم وذكر في أول السورة ما يضطرون إليه لدفع ما يضرهم،
= وهو من جملة المخصصات لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد؛ إلا المسجد الحرام". رواه مسلم.
فهو يدل على أن هذا الفضل خاص بالرجال دون النساء، وأن صلاتهن في بيوتهن خير من الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم ومنه تعلم أن تهافت النساء على الصلاة فيه ولا سيما في موسم الحج؛ مما يدل على جهلهن بالشرع، أو استهتارهن بإرشاده، ولاسيما والكثير منهن يخالطن الرجال حتى في شدة الزحام، وذلك عند خروج الرجال من المسجد، فإلى الله المشتكى من قلة حيائهن، وقلَّة غَيرة رجالهن.
هذا ما كنت قلته في الطبعات السابقة، ثم بدا لي أنه لا مسوغ لادعاء التخصيص، وأن الصواب ترك الحديث على عمومه، فيشمل النساء أيضًا، وأنه لا ينافي أن صلاتهن في بيوتهن خير لهن، كما لا ينافي أن صلاة السنة في البيت أفضل من صلاتها في المسجد، لكنه لو صلاها في مسجد من المساجد الثلاثة يكون له أجر التفضيل الخاص بها، والمرأة كذلك.
ولهذا؛ فالتهافت المذكور لا داعي له على كل حال، فعلى النساء المسلمات الانتهاء عنه، وبذلك تزول كثير من المفاسد، والله من وراء المقصد.
فقال تعالى:
{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} ، فذكر ما يستدفئون به ويدفعون به البرد؛ لأن البرد يهلكهم، والحر يؤذيهم؛ ولهذا قال بعض العرب: البرد بؤس والحر أذى؛ ولهذا السبب لم يذكر في الآية الأخرى وقاية البرد فإن ذلك تقدم في أول السورة وهو في أثناء السورة ذكر ما أتم به النعمة، وذكر في أول السورة أصول النعم ولهذا قال:{كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} .
والمقصود هنا أن مقصود الثياب يشبه مقصود المساكن والنساء مأمورات في هذا بما يسترهن ويحجبهن فإذا اختلف لباس الرجال والنساء مما كان أقرب إلى مقصود الاستتار والاحتجاب كان للنساء وكان ضده للرجال.
وأصل هذا أن تعلم أن الشارع له مقصودان: أحدهما: الفرق بين الرجال والنساء، والثاني: احتجاب النساء فلو كان مقصوده مجرد الفرق، لحصل ذلك بأي وجه حصل به الاختلاف وقد تقدم فساد ذلك بل أبلغ من ذلك أن المقصود بلباس أهل الذمة إظهار الفرق بين المسلم والذمي، ليترتب على كل منهما من الأحكام الظاهرة ما يناسبه، ومعلوم أن هذا يحصل بأي لباس اصطلحت الطائفتان على التمييز به، ومع هذا فقد روعي في ذلك ما هو أخص من الفرق فإن لباس الأبيض لما كان أفضل من غيره كما قال صلى الله عليه وسلم:"عليكم بالبياض فليلبسه أحياؤكم وكفنوا فيه موتاكم"، لم يكن من السنة أن يجعل لباس أهل الذمة الأبيض ولباس أهل الإسلام المصبوغ،
كالعسلي والأدكن ونحو ذلك بل الأمر بالعكس وكذلك في الشعور وغيرها فكذلك الأمر في لباس الرجال والنساء ليس المقصود به مجرد الفرق، بل لا بد من رعاية جانب الاحتجاب والاستتار.
وكذلك أيضًا ليس المقصود مجرد حجب النساء وسترهن دون الفرق بينهن وبين الرجال؛ بل الفرق أيضًا مقصود حتى لو قدر أن الصنفين اشتركوا فيما يستر ويحجب بحيث يشتبه لباس الصنفين لنهوا عن ذلك، والله تعالى قد بين هذا المقصود أيضًا بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} ، فجعل كونهن يعرفن باللباس الفارق أمرًا مقصودًا ولهذا جاءت صيغة النهي بلفظ التشبه بقوله صلى الله عليه وسلم:"لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء"، فعلق الحكم باسم التشبه وبكون كل صنف يتصف بصفة الآخر.
وقد بسطنا هذه القاعدة في "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" وبينا أن المشابهة في الأمور الظاهرة تورث تناسبًا وتشابُهًا في الأخلاق والأعمال ولهذا نهينا عن مشابهة الكفار ومشابهة الأعاجم ومشابهة الأعراب، ونهي كل من الرجال والنساء عن مشابهة الصنف الآخر.
والرجل المتشبه بالنساء يكتسب من أخلاقهن بحسب تشبهه حتى يفضي به الأمر إلى التخنث المحض والتمكين من نفسه كأنه امرأة، ولما كان الغناء مقدمة ذلك وكان من عمل النساء، كانوا يسمون الرجال المغنين
"مخانيث".
والمرأة المتشبهة بالرجال تكتسب من أخلاقهم حتى يصير فيها من التبرج والبروز ومشابهة الرجال ما قد يفضي ببعضهن إلى أن تظهر بدنها كما يظهره الرجل، وتطلب أن تعلو على الرجال كما يعلو الرجال على النساء، وتفعل من الأفعال ما ينافي الحياء والخفر المشروع للنساء، وهذا القدر قد يحصل بمجرد المشابهة.
وإذا تبين أنه لا بد من أن يكون بين لباس الرجال والنساء فرق يميز بين الرجال النساء وأن يكون لباس النساء فيه من الاستتار والاحتجاب ما يحصل مقصود ذلك، ظهر أصل هذا الباب وتبين أن اللباس إذا كان غالبه لبس الرجال نهيت عنه المرأة، وإن كان ساترًا كالفراجي التي جرت عادة بعض البلاد أن يلبسها الرجال دون النساء والنهي عن مثل هذا يتغير [بتغير] العادات وأما ما كان الفرق عائدًا إلى نفس الستر فهذا يؤمر فيه النساء بما كان أستر
…
ولو قدر أن الفرق يحصل بدون ذلك فإذا اجتمع في اللباس قلة الستر والمشابهة، نهي عنه من الوجهين. والله أعلم".