الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشرط الرابع: "أن يكون فضفاضًا غير ضيق فيصف شيئًا من جسمها
"
لأن الغرض من الثوب إنما هو رفع الفتنة ولا يحصل ذلك إلا بالفضفاض الواسع وأما الضيق فإنه وإن ستر لون البشرة فإنه يصف حجم جسمها أو بعضه ويصوره في أعين الرجال وفي ذلك من الفساد والدعوة إليه ما لا يخفى فوجب أن يكون واسعًا وقد قال أسامة بن زيد:
"كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة مما أهداها له دحية الكلبي فكسوتها امرأتي فقال: ما لك لم تلبس القبطية؟ قلت: كسوتها امرأتي فقال: "مرها فلتجعل تحتها غلالة، فإني أخاف أن تصف حجم عظامها" 1.
فقد أمر صلى الله عليه وسلم بأن تجعل المرأة تحت القبطية غلالة -وهي شعار يلبس تحت الثوب- ليمنع بها وصف بدنها والأمر يفيد الوجوب كما تقرر في
1 أخرجه الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة""1/ 441"، وأحمد، والبيهقي، بسند حسن، وله شاهد من حديث دحية نفسه، أخرجه أبو داود والبيهقي والحاكم، وصححه، وفيه نظر، وقد تكلمنا على الحديث مفصلًا في "الثمر المستطاب"، فأغنى عن الإعادة.
الأصول ولذلك قال الشوكاني في شرح هذا الحديث "2/ 97" ما نصه:
"والحديث يدل على أنه يجب على المرأة أن تستر بدنها بثوب لا يصفه وهذا شرط ساتر العورة وإنما أمر بالثوب تحته؛ لأن القباطي ثياب رقاق لا تستر البشرة عن رؤية الناظر بل تصفها".
وهو كما ترى قد حمل الحديث على الثياب الرقيقة الشفافة التي لا تستر لون البشرة فهو على هذا يصلح أن يورد في الشرط السابق ولكن هذا الحمل غير متجه عندي بل هو وارد على الثياب الكثيفة التي تصف حجم الجسم من ليونتها ولو كانت غير رقيقة وشفافة وذلك واضح من الحديث لأمرين:
الأول: أنه قد صرح فيه بأن القبطية كانت كثيفة أي: ثخينة غليظة فمثله كيف يصف البشرة ولا يسترها عن رؤية الناظر؟ ولعل الشوكاني رحمه الله ذهل عن هذا القيد "كثيفة" في الحديث ففسر القبطية بما هو الأصل فيها.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صرح فيه بالمحذور الذي خشيه من هذه القبطية فقال:
"إني أخاف أن تصف حجم عظامها".
فهذا نص في أن المحذور إنما هو وصف الحجم لا اللون.
فإن قلت: فإذا كان الأمر كما ذكرت وكانت القبطية ثخينة فما فائدة الغلالة؟
قلت: فائدتها دفع ذلك المحذور؛ لأن الثوب قد يصف الجسم ولو
كان ثخينًا إذا كان من طبيعته الليونة والانثناء على الجسد كبعض الثياب الحريرية والجوخ المعروفة في هذا العصر فأمر صلى الله عليه وسلم بالشعار من أجل ذلك. والله تعالى أعلم.
وقد أغرب الشافعية فقالوا:
"أما لو ستر اللون ووصف حجم الأعضاء فلا بأس كما لو لبس سروالًا ضيقًا" قالوا:
"ويستحب أن تصلي المرأة في قميص سابغ وخمار وتتخذ جلبابًا كثيفًا فوق ثيابها ليتجافى عنها ولا يتبين حجم أعضائها"1.
1 ذكره الرافعي في "شرحه" 4/ 92 و105 -بشرح المهذب".
قلت: فعلى رأيهم هذا يجوز للمرأة اليوم أن تخرج لابسة هذه الثياب الضيقة التي تلتصق بالجسم وتصفه وصفًا دقيقًا، حتى ليخال من كان بعيدًا عنها أنها عارية! كهذه الجوارب اللحمية التي تصف حجم الساقين والفخذين وتزيدهما جمالًا، بل التبان الذي يصف العضو نفسه! لو أن امرأة لبست مثل هذا اللباس جاز لها ذلك عندهم؛ لأنها سترت اللون به، ولو أعطت المرأة لونًا أجمل من لونها الطبيعي! فهل يقول بجواز هذا اليوم مسلم؟ فهذا من الأدلة الكثيرة على وجوب الاجتهاد، وترك التقليد، فهل من مذكر؟!
وبهذه المناسبة أقول: إن كثيرًا من الفتيات المؤمنات يبالغن في ستر أعلى البدن -أعني الرأس- فيسترن الشعر والنحر، ثم لا يبالين بما دون ذلك فيلبسن الألبسة الضيقة والقصيرة التي لا تتجاوز نصف الساق! أو يسترن النصف الآخر بالجوارب اللحمية التي تزيده جمالًا، وقد تصلي بعضهن بهذه الهيئة، فهذا لا يجوز، ويجب عليهن أن يبادرن إلى إتمام الستر كما أمر الله تعالى، أسوة بنساء المهاجرين الأول، =
والقول بالاستحباب فقط ينافي ظاهر الأمر فإنه للوجوب كما تقدم وعبارة الإمام الشافعي رضي الله عنه في "الأم" قريب مما ذهبنا فقد قال: "1/ 78":
"وإن صلى في قميص يشف عنه لم تجزه الصلاة
…
فإن صلى في قميص واحد يصفه ولم يشف كرهت له ولا يتبين أن عليه إعادة الصلاة
…
والمرأة في ذلك أشد حالًا من الرجل إذا صلت في درع وخمار يصفها الدرع وأحب إلي أن لا تصلي إلا في جلباب فوق ذلك وتجافيه عنها لئلا يصفها الدرع".
وقد قالت عائشة رضي الله عنها: "لا بد للمرأة من ثلاثة أثواب تصلي فيهن: درع وجلباب وخمار،
= حين نزل الأمر بضرب الخمر؛ شققن مروطهن فاختمرن بها، ولكننا لا نطالبهن بشق شيء من ثيابهن! وإنما بإطالته وتوسيعه حتى يكون ثوبًا سائرًا لجميع ما أمرهن الله بستره.
ولقد رأينا كثيرًا من الفتيات المغرورات ببعض من يزعمن أنهن من الداعيات! قد جعلن شعارًا لهن تقصير ثيابهن إلى نصف الساق، مع لبس الجوارب التي تحجم السيقان، مع وضع الخمار "الإيشارب" فقط على رءوسهن؛ دون الجلباب على الخمار كما هو نص القرآن الكريم على ما تقدم بيانه، وهن بذلك لا يشعرن أنهن يحشرن أنفسهن في زمرة من قال الله تعالى فيهم:{وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} ، فإلى المخلصات منهن أوجه نصيحتي هذه أن لا يؤثرن على اتباع الكتاب والسنة تقليد حزب أو شيخ، بَلْهَ شيخة! والله عز وجل يقول:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] .
وكانت عائشة تحل إزارها فتجلبب به"1.
وإنما كانت تفعل ذلك لئلا يصفها شيء من ثيابها وقولها: "لا بد" دليل على وجوب ذلك وفي معناه قول ابن عمر رضي الله عنهما:
"إذا صلت المرأة فلتصل في ثيابها كلها: الدرع والخمار والملحفة"2.
وهذا يؤيد ما سبق أن ذهبنا إليه من وجوب الجمع بين الخمار والجلباب على المرأة إذا خرجت. "انظر ص 84 - 85".
ومما يحسن إيراده هنا استئناسًا ما روي عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت:
"يا أسماء! إني قد استقبحت ما يصنع بالنساء أن يطرح على المرأة الثوب فيصفها فقالت أسماء: يا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أريك شيئًا رأيته بالحبشة؟ فدعت بجرائد رطبة فحنتها ثم طرحت عليها ثوبًا فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله تعرف به المرأة من الرجل. فإذا مت أنا فاغسليني أنت وعلي ولا يدخل علي أحد فلما توفيت غسلها علي وأسماء رضي الله عنهما"3.
1 أخرجه ابن سعد "8/ 71" بإسناد صحيح على شرط مسلم.
2 رواه ابن أبي شيبة في "المصنف""2/ 26/ 1" بسند صحيح.
3 أخرجه أبو نعيم في "الحلية""2/ 43" والسياق له، والبيهقي "4/ 34-35" أتم منه، وفيه أن أسماء صنعت لفاطمة نعشًا كما كانت وصفت لها، أخرجاه من طريق أبي العباس السراج محمد بن إسحاق الثقفي: حدثنا قتيبة بن سعيد: حدثنا =
فانظر إلى فاطمة بضعة النبي صلى الله عليه وسلم كيف استقبحت أن يصف الثوب المرأة وهي ميتة فلا شك أن وصفه إياها وهي حية أقبح وأقبح فليتأمل في هذا مسلمات هذا العصر اللاتي يلبسن من هذه الثياب الضيقة التي تصف نهودهن وخصورهن وألياتهن وسوقهن وغير ذلك من أعضائهن ثم ليستغفرن الله تعالى وليتبن إليه وليذكرن قوله صلى الله عليه وسلم: "الحياء والإيمان قرنا جميعًا فإذا رفع أحدهما رفع الآخر"1.
= محمد بن موسى المخزومي عن عون بن محمد بن علي بن أبي طالب عن أمه أم جعفر بنت محمد بن جعفر، وعن عمارة بن المهاجر عن أم جعفر. وأخرج البيهقي "3/ 396" القطعة الأخيرة منه:"يا أسماء! إذا أنا مت" إلخ، من طريق أخرى عن قتيبة بن سعيد وعبد الله بن نافع عن محمد بن موسى به. لكن ابن نافع لم يذكر فيه "عمارة بن المهاجر"، وقال ابن التركماني:
"في سنده من يحتاج إلى كشف حاله".
قلت: وهم المخزومي هذا، وعوف بن محمد، وعمارة، لم أجد من ترجمهم. وأما أم جعفر هذه، فلها ذكر في "تهذيب التهذيب"، وغيره، وتكنى أم عون أيضًا.
وقد روي الحديث عن أسماء بلفظ آخر؛ أخرجه الطبراني في "الأوسط" عنها أن ابنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم توفيت، وكانوا يحملون الرجال والنساء على الأسرة سواء. فقالت: يا رسول الله! إني كنت بالحبشة وهم نصارى أهل كتاب، وهم يجعلون للمرأة نعشًا فوق أضلاع؛ يكرهون أن يوصف شيء من خلقها، أفلا أجعل لابنتك نعشًا مثله؟ فقال: اجعليه، فهي أول من جعل نعشًا في الإسلام لرقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الهيثمي في "المجمع""3/ 26": "وفيه خلف بن راشد، وهو مجهول".
1 أخرجه الحاكم "1/ 22"، وأبو نعيم "4/ 297" من حديث ابن عمر، وقال الحاكم:"صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.