الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث - الإنكار على ولاة الأمور (الحكام) :
شريعة الإسلام شريعة محكمة لا خلل فيها ولا زلل، لا ريب في ذلك ولا شك فالمشرع هو العليم الحكيم جل في علاه، ولعل من أعظم ما جاءت به الشريعة التأكيد على اعتبار الأشخاص والأزمان والأحوال، وهذا يعد من الأصول العظيمة التي لا بد من مراعاتها واعتبارها.
والكلام في مسألة الإنكار على السلطان الأعظم، أو أي من الولاة والأمراء ممن بيده السلطة والقوة كلام يطول، وحسبنا هنا أن نشير إلى جهود أئمة الدعوة السلفية في ترسيخ مفاهيم أهل السنة والجماعة في الدعوة إلى فقه الإنكار على الولاة والأمراء؛ المسألة التي زلت فيها أفهام؛ فسببت الفساد العريض، وأشير إلى ما يأتي:
أ) يؤكد أئمة الدعوة عمليًا ونظريًا على أهمية حسن العلاقة بين العلماء والأمراء، وأن هذا له آثاره الحسنة على الطرفين، أو على المجتمع بأكمله، وفي ذلك يقول الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب:". . . فإن كان الأمير ما يجعل بطانته أهل الدين صار بطانته أهل الشر. . . "(1) ؛ بل يرى رحمه الله أن أمر الدين لا يستقيم للعلماء ولا للولاة إلا إذا كان بالتكاتف والتعاضد والتعاون بينهم (2)، ويقول الإمام سعود بن عبد العزيز رحمه الله في التأكيد على هذا المعنى موجهًا للأمراء وطلبة العلم والدعاة وعامة الناس:". . . وكل بلاد فيها طائفة أهل الدين يجتمعون ويصيرون يدًا واحدة، وأميرهم ومطوعهم، والأمير يصير حربة لأهل الدين ويشد عضدهم ويحمي ساقهم ويطلق أيديهم، والمطوع يؤازر الأمير، ويقوم مع أهل الدين ويبث العلم في جماعته ويحضهم على المذاكرة. . . "(3)، ويحذر رحمه الله من مخالفة ذلك من قِبل الأمراء فيقول: ". . . والأمير الذي يبغي الإمارة شيخة ولا يرضى أن غيره يأمر بالحق وينهى عن الباطل، فذاك نعرف أنه شيخ ومدور ملك، ما هو يدور دينًا ولا حقًا، ولنا فيه أمر ثان، والذي غرضه الدين يبدل الممشى، ويصنف جماعة الدين
(1) رسالة له، ضمن الدرر السنية في الأجوبة النجدية:(7 / 239) .
(2)
انظر: رسالة للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ضمن الدرر السنية في الأجوبة النجدية:(7 / 239) .
(3)
رسالة له، ضمن الدرر السنية في الأجوبة النجدية:(9 / 21) .
ويقوم حقهم، ويظهر وقارهم، ويجعلهم بطانته وأهل مجلسه ورأيه، ويبعد أرباب الفسوق والمعاصي، ويقوم عليهم بالأدب الذي يزجرهم. . . وأهل الدين أنا مقدمهم ومطلق أيديهم، ومانع الأمراء لا يمنعون أهل الدين عن القول بالحق والأمر به. . . وبلغنا الخبر أن بعض الأمراء متسلط على من يدعي الدين، بأمور ظاهرها حق وباطنها مغشة. . . ولا يفعل هذا أمير مع أهل الدين فأدعه في الإمارة يومًا واحدًا. . . " (1) .
وفي تطبيق عملي لعمق العلاقة بين العلماء والولاة يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في رسالة منه للإمام فيصل بن تركي: " من محبكم الداعي لكم بظهر الغيب عبد الرحمن بن حسن إلى الابن الإمام فيصل بن تركي. . . وكنت والله يعلم صدقي بما قلته أني أحبك وأقدمك في المحبة على من مضى من حمولتك وحمولتي، واليوم الذي أجتمع بك فيه عندي يوم مسرور، ولا عندي لك مكافآت إلا بالدعاء والنصح باطنًا. . . "(2) .
(1) رسالة له، ضمن الدرر السنية في الأجوبة النجدية:(9 / 21) .
(2)
رسالة له، ضمن الدرر السنية في الأجوبة النجدية:(9 / 30) .
ومن خلال ما سبق يتضح اهتمام أئمة الدعوة السلفية بنجد في تقوية الأصرة بين العلماء والأمراء، وأن قيام الدين على تمامه يكون بذلك، ويتضح منهجهم في التأكيد على ذلك وتطبيقه في أرض الواقع، الأمر الذي انتج دعوة سلفية جددت الدين في القلوب والعقول، وأقامت دولة لا يستهان بها.
ب) التنبيه على المنهج الأمثل في التعامل مع الولاة والإنكار عليهم عندما يقع منهم شيء من المعاصي والمخالفات الشرعية التي لا يسلم منها بشر، وبيان خطورة تجاوز هذا المنهج وانعكاسات تلك السلبية على الدعوة والمجتمع بأسره، ويتضح ذلك من خلال النقاط الآتية:
1-
الواجب على الدعاة معرفة ما للحكام من منزلة ومرتبة أنزلهم الله إياها، فالتعامل معهم ليس كالتعامل مع غيرهم من سائر الناس، ولأجل ذلك فلا ينبغي أن تتحين أخطاؤهم وزلاتهم بل يُتغاضى عنها، يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب:". . . وأهل الدين عليهم جمع الناس على أميرهم والتغاضي عن زلته، هذا أمر لا بد منه من أهل الدين يتغاضون عن أميرهم. . . "(1)، والمراد بالتغاضي: التغافل (2) ، وهو أمر قد يكون له من الأثر أكثر مما للمواجهة والمصادمة.
(1) رسالة له، ضمن الدرر السنية في الأجوبة النجدية:(7 / 239) .
(2)
القاموس المحيط، محمد بن يعقوب الفيروزآبادي:(1699) ، ط2، 1407هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
2-
ثم إذا كان الإنكار فلا بد من سلوك المنهج الصحيح معهم، وقد ذكر له أئمة الدعوة مجموعة من المعالم الرئيسية من أبرزها:
الرفق: فلئن جاز الإغلاظ في بعض الأحوال على فاعل المنكر، فهذا قد يكون ممتنعًا في حق الإمام، ومن له ولاية؛ لأنه قد يستخدم سلطانه في البطش بمن أغلظ عليه، ولأجل ذلك يؤكد أئمة الدعوة السلفية على هذا المعلم، فيقول الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب في ذلك:". . . والجامع لهذا كله أنه إذا صدر المنكر من أمير أو غيره أن يُنصح برفق. . . "(1) .
الإخفاء وعدم الإعلان بالنصيحة، وفي هذا يقول الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب:". . . والجامع لهذا كله أنه إذا صدر المنكر من أمير أو غيره أن يُنصح برفق خفية ما يشرف عليه أحد، فإن وافق وإلا استلحق عليه رجالًا يقبل منهم بخفية فإن ما فعل. . . فيرفع الأمر إلينا خفية. . . "(2) .
(1) رسالة له، ضمن الدرر السنية في الأجوبة النجدية:(7 / 25) .
(2)
رسالة له، ضمن الدرر السنية في الأجوبة النجدية:(7 / 25، 26) .
وتعليقًا على هذه الرسالة يقول الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل: ". . . فالواجب على المسلم أن ينكر المنكر على من أتى به بخفية خصوصًا إن كان على أمير، فإن إنكار المنكر على الولاة ظاهرًا مما يوجب الفرقة والاختلاف بين الإمام ورعيته. . . "(1)، ويقول أيضًا:". . . وإنكار المنكر على الولاة ظاهرًا من إشاعة الفاحشة. . . "(2) .
ولا شك في أهمية مراعاة هذين الأمرين اللذين جاءت النصوص الشرعية ببيانهما، كما أن أئمة الدعوة السلفية بنجد كان لهم عناية بغيرها، وأحببت الإشارة إليهما لأهميتهما وحاجة الناس إلى الالتزام بهما اليوم.
(1) رسالة له، ضمن الدرر السنية في الأجوبة النجدية:(7 / 306) .
(2)
رسالة له، ضمن الدرر السنية في الأجوبة النجدية:(7 / 307) .
ج) التصدي لكل إخلال بالمنهج السلفي الأمثل في التعامل مع ولاة الأمور؛ يعد وأدًا للفتنة في مهدها، وحماية للمجتمع من أن يغرق في فتن عمياء؛ تأتي على الأخضر واليابس، وذلك ببيان الحق فيما يقع من مخالفات في حق ولاة الأمر؛ بالتعدي على سلطاتهم، أو إساءة الظن بهم، أو رميهم بالفضائع والتهم الباطلة؛ لأن ذلك يدفع إلى ما لا تحمد عقباه، ومن أخطر ذلك التعدي على سلطة ولاة الأمور وعدم السمع والطاعة لهم، أو الإفتيات عليهم، ولا شك أن هذه الأمور له آثارها الفاسدة التي تدمر المجتمع بأسره، وتجعل الصراع داخليًا، ولأجل ذلك جاءت توجيهات أئمة الدعوة السلفية بنجد محذرة من هذا المنزلق، ومقرعة لمن وقع فيه، وناصحة له بالرجوع، يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب:". . . ومن تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا ولو كان عبد ًا حبشيًا. . . "(1) .
ولا شك أن للسمع والطاعة آثارهما المصلحة للمجتمع، يقول الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ وعبد الله العنقري:". . . وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ففيها سعادة الدنيا وبها تنتظم مصالح العباد في معاشهم وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم. . . "(2) .
(1) رسالة له، ضمن الدرر السنية في الأجوبة النجدية:(7 / 239) .
(2)
رسالة له، ضمن الدرر السنية في الأجوبة النجدية:(7 / 299) .
ومع هذا البيان يوجد من لا فقه لديهم ينقمون على ولاة أمورهم أشياء لا يدركون وجه الحق فيها على تمامه، فيناوئون ولاة أمورهم، ويستخفون بهم بناءً على فهمهم السقيم، وجهلهم المردي، ومن الأمثلة على ذلك ما ينقمه بعضهم على ولاة أمورهم في مسائل التواصل مع الكفار، والتعامل معهم، وعقد المعاهدات، والمصالحات، فيظنها من التولي، ثم يبني عليها أحكامًا جائرة، وتصرفات منحرفة، تفسد ولا تصلح؛ ولأجل ذلك جاءت عبارات أئمة الدعوة السلفية محذرة من هذا المنزلق؛ حيث يقول الشيخ عمر بن محمد ابن سليم:". . . فيحرم معصية ولي الأمر والاعتراض عليه في ولايته وفي معاملته ومعاقدته ومعاهدته ومصالحته الكفار. . . ولا يجوز الاعتراض على ولي الأمر في شيء من ذلك؛ لأنه نائب المسلمين والناظر في مصالحهم. . . "(1)، ويقول الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ والشيخ عبد الله العنقري في رسالة لهما في هذا الصدد:". . . فتحرم معصيته والاعتراض عليه في ولايته وفي معاملته وفي معاقدته ومعاهدته؛ لأنه نائب المسلمين والناظر في مصالحهم ونظره لهم خير من نظرهم لأنفسهم لأن بولايته يستقيم نظام الدين وتتفق كلمة المسلمين. . . "(2) .
(1) رسالة له، ضمن الدرر السنية في الأجوبة النجدية:(7 / 315) .
(2)
رسالة لهما، ضمن الدرر السنية في الأجوبة النجدية:(7 / 298) .
فهذا الفهم السقيم وغيره مثله قد ينحرف ببعضهم عن الجادة فيستهين بالإمام ويتصرف بما يخالف الشرع المطهر من افتيات على ولي الأمر بالغزو وإقامة الحدود (1) ، مما لا يصح إلا بإذنه، ولخطورة الأمر بيّن أئمة الدعوة السلفية الموقف الشرعي من مثل هذه التصرفات؛ حيث يقول الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ والشيخ عبد الله العنقري:". . . لا يجوز لأحد الافتيات عليه ولا المضي في شيء من الأمور إلا بإذنه ومن افتات عليه فقد سعى في شق عصا المسلمين وفارق جماعتهم. . . "(2)، ويقول الشيخ عبد الله العنقري:". . . إن الخروج عن طاعة ولي الأمر والافتيات عليه بغزو أو غيره معصية ومشاقة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ومخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة. . . "(3)، ويبين الشيخ عبد الله العنقري أيضًا الآثار المترتبة على هذا الأمر فيقول:". . . وأن الخروج على ولي الأمر والافتيات عليه من أعظم أسباب الفساد في البلاد والعباد والعدول عن سبيل الهدى والرشاد. . . "(4) .
(1) انظر: رسالة للشيخ عبد الرحمن حسن آل الشيخ، ضمن مجموعة الرسائل والمسائل النجدية:(4 / 409) .
(2)
رسالة لهما، ضمن الدرر السنية في الأجوبة النجدية:(7 / 298) .
(3)
رسالة له، ضمن الدرر السنية في الأجوبة النجدية:(7 / 326) .
(4)
رسالة له، ضمن الدرر السنية في الأجوبة النجدية:(7 / 324) .
ولأجل ذلك كله كان أئمة الدعوة السلفية بنجد ينهون عن الطعن في ولاة الأمور والاستهانة بهم، ويعدونه وصمة عظيمة، وزلة وخيمة، على من فعله، يقول الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ:". . . والطعن على من ولاه الله عليكم وعيبه وثلبه وتتبع عثراته للتشنيع عليه ونسبة علمائه إلى المداهنة والسكوت، فهذا والله وصمة عظيمة وزلة وخيمة وقاكم الله شرها. . . "(1) .
ولا شك في الختام أن هذه التوجيهات توضح المنهج الذي سلكه أئمة الدعوة السلفية بنجد في التصدي لأسباب العنف والتطرف والإرهاب التي قد ينتجها عدم الفقه الصحيح لكيفية إنكار المنكر، حيث بيّنتْ ما يجب أن يكون عليه الداعية من فقه لإنكار المنكر.
(1) رسالة له، ضمن الدرر السنية في الأجوبة النجدية:(7 / 282) .