المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الأول - الحكم إذا ترتب على الإنكار مفسدة أعظم: - جهود أئمة الدعوة السلفية بنجد في التصدي للعنف والإرهاب من خلال الدعوة إلى فقه إنكار المنكر

[صالح بن عبد الله الفريح]

الفصل: ‌المطلب الأول - الحكم إذا ترتب على الإنكار مفسدة أعظم:

‌المبحث الثاني فقه ما يجب حال الإنكار

لعل مما لا شك فيه أن الممارسة الفعلية لواجب إنكار المنكر تحتاج من القائم بها إلى فقهٍ لكيفية الإنكار الصحيحة، وبدون هذا الفقه لا يتحقق الهدف منها، وهذا أمر له دوره المهم في نجاح الداعية، ولعل من أهم ما يجب على المسلم فقهه حال إنكار المنكر ما يأتي:

‌المطلب الأول - الحكم إذا ترتب على الإنكار مفسدة أعظم:

والمراد هنا أن المنكر قد يترتب على إنكاره وقوع مفسدة أعظم من المنكر نفسه، وهذا أمر معلوم ومشاهد.

ولإدراك هذا الأمر على حقيقته لا بد أن يدرك كل مسلم ما المقصد من التشريع الإلهي، وهو أمر كان أئمة الدعوة السلفية يعنون به، يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ في إحدى رسائله منبهًا عليه:" والقصد من التشريع والأوامر تحصيل المصالح ودرء المفاسد حسب الإمكان وقد لا يمكن إلا مع ارتكاب أخف الضررين أو تفويت أدنى المصلحتين. . . "(1) .

(1) رسالة له، ضمن مجموعة الرسائل والمسائل النجدية:(3 / 188) .

ص: 38

والمتأمل يدرك خطورة الفهم الخاطئ في قضية ترتيب الأولويات في إنكار المنكر، وقد عُني أئمة الدعوة السلفية بنجد بهذا الأمر عناية فائقة، فكانوا ينبهون على الواجب فيها، حيث يبينون في كثير من رسائلهم أن المنكر إذا ترتب على إنكاره منكرٌ أكبر منه لم يجز الإنكار؛ سواء كان المترتب مفسدة عامة أو مضرة خاصة، ولذلك كانوا يؤكدون في رسائلهم على هذا المعنى وتأصيله من خلال بيان أنه رأي قديم قال به العلماء، يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب:". . . يذكر العلماء أن إنكار المنكر إذا صار يحصل بسببه افتراق لم يجز إنكاره. . . "(1) .

(1) رسالة له، ضمن الدرر السنية في الأجوبة النجدية:(7 / 25) .

ص: 39

ويبين المزيد حول هذا الأمر الشيخ حمد بن ناصر بن معمر فيقول: ". . . ولكن إن خاف حصول منكر أعظم سقط الإنكار، وأنكر بقلبه وقد نص العلماء على أن المنكر إذا لم يحصل إنكاره إلا بحصول منكر أعظم منه لا ينبغي، وذلك لأن مبنى الشريعة على تحصيل المصالح وتقليل المفاسد. . . "(1) ، بل إن الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ كان يدعو في رسائله إلى التفكر في النتيجة قبل ممارسة الشعيرة؛ حتى لا يقع الخلل ثم تصعب المعالجة، ولا سيما بعد وقوع النزاع والشقاق فيقول:" وأوصيكم أيضًا بالبصيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا أمر الإنسان من أمور الخير نظر فإن كان يترتب على ذلك الأمر خير في العاجل والآجل وسلامة في الدين وكان الأصلح الأمر به؛ مضى فيه بعلم وحلم ونية صالحة، وإن كان يترتب على ذلك الأمر شر وفتن وتفريق كلمة في العاجل والآجل ومضرة في الدين والدنيا وكان الصلاح في تركه؛ وجب تركه ولم يأمر به؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. . . "(2) .

(1) رسالة له، ضمن الدرر السنية في الأجوبة النجدية:(7 / 31) .

(2)

رسالة له، ضمن الدرر السنية في الأجوبة النجدية:(7 / 41) .

ص: 40

ومن الذين أكدوا على وجوب مراعاة هذا الأمر من أئمة الدعوة السلفية بنجد؛ الشيخ سليمان بن سحمان حيث يقرر أن الإنكار لأي منكر إذا كان يسبب قمعًا لأهل الحق، ويمنعهم من إظهار دينهم، واجتماعهم عليه والدعوة إليه، ويسلط عليهم أعداءهم؛ فيشتتوهم ويشردوهم في كل مكان، أو يؤذوهم ويضيقوا عليهم، أو كان يسبب إظهارًا لأهل الباطل وإعلاءً لكلمتهم على أهل الحق؛ لم يكن الإنكار جائزًا، بل هو - والحال هذه - مخالف لما يحبه الله ويقرب إليه، وهنا يجب مراعاة القاعدة الشرعية التي تنص على أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، بل يبين الشيخ أمرًا آخر لا يقل أهمية عن سابقه وهو: أنه لو حكم على الحكام بالردة؛ وهم لا يجرون أحكام الكفر في بلادهم، ولا يمنعون إظهار شعائر الإسلام، فالبلد حينئذٍ بلد إسلام بعدم إجراء أحكام الكفر فيها، ولأجل ذلك فمراعاة درء مفسدة الإنكار التي تؤدي إلى قمع أهل الحق، وتشريدهم وتشتيتهم وإذلالهم وإظهار أهل الباطل باطلهم، وإعلاء كلمتهم على أهل الحق؛ مقدم على مصلحة الإنكار على الحكام ومنابذتهم، ولأهمية كلامه رحمه الله ٍٍِِ في هذا أنقله بنصه هنا حيث يقول: " وقد ذكر أهل العلم أن درء

ص: 41

المفاسد مقدم على جلب المصالح، فدرء مفسدة قمع أهل الحق وعدم إظهار دينهم واجتماعهم عليه والدعوة إلى ذلك، وعدم تشتيتهم وتشريدهم في كل مكان؛ مقدم على جلب مصلحة الإنكار على ولاة الأمور، مع قوتهم وتغلبهم وقهرهم، وعجز أهل الحق عن منابذتهم وإظهار عداوتهم، والهجرة عن بلادهم، بمجرد الدخول في طاعتهم في غير معصية الله ورسوله، فإذا كان لأهل الدين حوزة واجتماع على الحق وليس لهم معارض فيما يظهرون به دينهم ولا مانع يمنعهم من ذلك، وكون الولاة مرتدين عن الدين بتوليهم الكفار، وهم مع ذلك لا يجرون أحكام الكفر في بلادهم، ولا يمنعون من إظهار شعائر الإسلام؛ فالبلد حينئذٍ بلد إسلام لعدم إجراء أحكام الكفر، كما ذكر ذلك شيخنا الشيخ عبد اللطيف رحمه الله ٍٍِِ عن الحنابلة وغيرهم من العلماء، وإذ كان الحال على ما وصفناه فمراعاة درء مفسدة قمع أهل الحق وتشريدهم وتشتيتهم وإذلالهم، وإظهار أهل الباطل باطلهم وإعلاء كلمتهم على أهل الحق، وكذلك مراعاة جلب المصالح في إعزاز أهل الحق، واحترامهم وعدم معارضتهم مقدم والحالة هذه على مصلحة الإنكار على ولاة الأمور، من غير قدرة على ذلك، لأجل تغلب أهل الباطل وقوتهم

ص: 42

وعجز أهل الحق عن منابذتهم، وعدم تنفيذ الأمور التي يحبها الله ويرضاها، فدرء المفسدة المترتبة على الإنكار على الولاة أرجح من المصلحة المترتبة على منابذتهم بأضعاف مضاعفة، وإذا استلزم الأمر المحبوب إلى الله أمرًا مبغوضًا مكروهًا إلى الله، وتفويت أمر هو أحب إلى الله منه لم يكن ذلك مما يحبه الله ويقرب إليه؛ لما ينبني عليه ذلك من المفاسد وتفويت المصالح، وقد ذكر أهل العلم قاعدة تنبني عليه أحكام الشريعة؛ وهي ارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت أعلاهما وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاها " (1) .

(1) رسالة له، ضمن الدرر السنية في الأجوبة النجدية:(7 / 234، 235) .

ص: 43

ولقد أدرك أئمة الدعوة السلفية بنجد أهمية هذا الأمر؛ فكانوا يعلمون من خلال رسائلهم وفتاويهم طلبة العلم وعامة الناس الموازنة بين المصالح والمفاسد، فمن ذلك فتوى للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ يقول فيها:". . . وأما البداءة بالسلام فلا ينبغي أن يُبدأ الكافر بالسلام؛ بل هو تحية أهل الإسلام، لكن إن خاف مفسدة راجحة وفوات مصلحة كذلك فلا بأس بالبداءة. . . "، ثم يقول في بيان تطبيقات أساليب الإنكار وكيف يمكن مراعاة المصالح في ذلك والمفاسد:". . . والهجر إنما شرع لما فيه من المصلحة وردع المبطل، فإذا انتفى ذلك وصار فيه مفسدة راجحة فلا يُشرع "(1) .

والخلاصة أن تطبيق هذه الشعيرة له ميزان مهم يجب أن يقاس به، وهو مراعاة المصالح والمفاسد، فلا يصح أن يكون القيام بهذه الشعيرة سببًا لما لا تحمد عقباه؛ من تسليط لأهل الباطل على أهل الحق! وإيجاد أسباب لهم ليشنوا عدوانهم ويمارسوا ظلمهم ويتهجموا على أهل الحق، ويسوموهم ومبادئهم كل سوء وأذى، مع أن سُبل التغيير والإصلاح متعددة ليست فقط سبيلًا واحدًا.

(1) رسالة له، ضمن مجموعة الرسائل والمسائل النجدية:(3 / 128) .

ص: 44

ومن خلال ما سبق نلحظ بُعد نظر أئمة الدعوة السلفية بنجد في معالجة مثل هذه الظواهر والتصدي لها، ويتضح بما لا يدع مجالًا للشك سلامة فكرهم ومبادئهم من الدعوة إلى استخدام العنف والإرهاب في الإنكار بكل حال وأنهم يملكون منهجية متزنة في معالجة المنكرات والتعامل معها، بذلوا وسعهم في بيانها وتوضيحها للناس عمومًا ولطلبة العلم خصوصًا.

ص: 45