الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما السِّحرُ الرِّياضِيُّ؛ وهو: ما يَرجع إلى خِفَّةِ اليد وسرعة الحركة،
والسِّحرُ التَّمْوِيهيُّ؛ وهو: ما يكون بتموِيه بعض الموادِ بما يُظْهِرُها على غير حقيقتها= فهذانِ النوعان مِنَ الغِشِّ والخِداع، وليسا من السِّحر الذي هو كفرٌ (1).
- وحقيقةُ شهادةِ أنَّ محمدًا رسول الله:
- أنَّ الله أرسله إلى جميعِ الناسِ بالهدى ودينِ الحق.
- وأنَّه خاتم النبيين.
- وأنه الصادق المَصْدُوق في كلِّ ما أَخبر به.
- وأنَّ هديه صلى الله عليه وسلم خيرُ الهدي.
- وأنَّ الإيمانَ به، وطاعتَه، ومحبتَه، وأتباعَه؛ واجبٌ على كلِّ أحد.
و
جملةُ ما يناقض حقيقةَ شهادة أنَّ محمدًا رسولُ الله أمورٌ:
(1) قال المؤلف في «شرح نواقض الإسلام» ص 34: «فهذا السِّحرُ سِحرٌ لُغَويٌ فقط .. لكنهم جعلوه وسيلة لترويجِ أعمالٍ سحرية سحرًا حقيقيًا» .
1 -
جَحْدُ رسالتِه صلى الله عليه وسلم، أو تكذيبُه، أو الشكُ في صِدقه.
2 -
جحدُ خَتْمِه للنبوة، أو دعوى النبوة بعده صلى الله عليه وسلم، أو تصديقُ مدَّعِيها، أو الشكُ في كذبه.
3 -
جحدُ عمومِ رسالتِه صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك: اعتقادُ أنه رسولٌ للعرب خاصة، أو دعوى ذلك، أو أنَّ اليهودَ والنصارى لا يجبُ عليهمُ اتِّباعه، أو أنَّ أحدًا يَسَعُه الخروجُ عن شريعته صلى الله عليه وسلم؛ كـ:«الفيلسوف» (1)، أو «العارف» من الصوفية (2) ونحوهما.
(1) فعندهم أن الشرائع جاءت بها الرسل لينتفع بها العامة في إقامة مصلحة دنياهم لا ليعرفوا الحق؛ إذ في الحقيقة لا بعث ولا حساب، والفيلسوف على درجة من الكمال لا يحتاج معها إلى ما جاءت به الرسل؛ فهو مستغنٍ عن اتباعهم بما عنده من الحكمة.
انظر: «الرد على المنطقيين» ، ص 326 وص 486 و «جامع المسائل» 6/ 162، و «الرسالة الصفدية» ص 240 و 277 و 487.
(2)
لأنه عندهم إذا وصل إلى مقام الفناء في توحيد الربوبية، وشهد الإرادة القدرية= جرى معها وأسقط الأمر والنهي، والعارف المحقق يجوز له التدين بدين اليهود والنصارى.
انظر: «مجموع الفتاوى» 8/ 347 و 13/ 266 و 27/ 59 و 28/ 571 و «الرسالة الصفدية» ص 268، و «شرح العقيدة التدمرية» ص 582.
4 -
تَنقُّصُ الرسول صلى الله عليه وسلم، وعَيبُه في شخصه، أو في هديه وسيرته.
5 -
السخريةُ من الرسول صلى الله عليه وسلم، والاستهزاءُ به، أو بشيءٍ مما جاء به من العقائد، والشرائع.
6 -
تكذيبُه صلى الله عليه وسلم في شيء مما أَخبر به من الغيب مما يتعلق بالله، أو يتعلق بالملائكة، والكتب، والرسل، والمبدأ، والمعاد، والجنة والنار.
- ما يناقض حقيقةَ الشهادتين جميعًا، ويشمل أمورًا:
1 -
التكذيب بأنَّ القرآنَ من عند الله، أو جحد سورةٍ، أو آيةٍ، أو حرفٍ منه، أو قال: إنَّه مخلوقٌ، أو: إنه ليس كلامَ الله.
2 -
تفضيل حكمِ القانون الوضعيِّ على حكم الله ورسولِه، أو تسويته به، أو تجويز الحكم به ولو مع تفضيل حكم الله ورسولِه.
3 -
تحريم ما أحلَّ اللهُ ورسولُه، وتحليل ما حرم الله ورسوله، أو الطاعة في ذلك.
تنبيهان:
ينبغي أنْ يُعلم:
- أنَّ ما تقدم من أنواع الردة؛
منه: ما لا يحتمل العذر؛ كـ: جحد وجود الله، وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم = فهذا يكفرُ به المعين بكلِّ حال؛ لأنَّ ما جحده أعظمُ الضروريات.
ومنه: ما يحتمل العذر بالجهل، أو التأويل؛ مثل: جحد شيءٍ مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مِنَ الأخبار والشرائعِ= فهذا لا يكفرُ به المعين إلا بعد إقامةِ الحجة عليه؛ لتطرق الاحتمالات الحاملة له على الجحد؛ كخفاء الأدلة.
- أنَّ مَن أَظهر شيئًا مما تقدم من أنواع الردة؛ جادًا أو هازلًا أو مداهنًا أو معاندًا في خصومة ـ أَيْ: غيرَ مُكْرَهٍ ـ= كَفَرَ بذلك؛ لقوله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106](1).
(1) قال المؤلف في «الشرح» : «مَن تكلم بالكفر اختيارًا مِن غير إكراه= فقد شرح بالكفر صدرًا؛ لأنه تكلم بالكفرِ أو فعل الكفرَ مختارًا، وهذا لا يكون إلا مع انشراح الصدر، نبَّه على هذا شيخ الإسلام ابن تيمية ~» .
الدرس الأول/الدقيقة: 29.
وانظر كلام ابن تيمية في: «الإيمان الكبير» ص 220، و «الإيمان الأوسط» ص 561.
ومِن ذلك: إظهارُ السجودِ للصنم مجاملةً للمشركين، وطلبًا للمنزلة لديهم، والنَّيْلَ مِن دنياهم، وإن ادعى أنه يَقصِد بسجوده ذلك؛ السجودَ لله، أو لا يقصد السجود للصنم؛ فإنَّه بذلك مُظهِرٌ للكفر مِن غير إكراهٍ= فيَدخل في عموم قوله تعالى:{مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ..} الآية. (1).
الثالث (2): ما يلزم منه لزومًا ظاهرًا ويدل دلالة ظاهرة على عدم الإقرار بالشهادتين باطنًا، ولو أقرَّ بهما ظاهرًا، وذلك يشمل أمورًا، منها:
1 -
الإعراضُ عن دين الإسلام، لا يتعلَّمه ولا يعمل به، ولا يبالي بما يترك مِنَ الواجبات، وما يأتي من المحرمات، ولا بما يَجهل من الأحكام.
وينبغي أن يُعلم أنَّ المكلفَ لا يَخرج مِن كفرِ الإعراض ـ المستلزمِ لعدمِ إقرارِه ـ بفعل أيِّ خصلةٍ
(1) للمؤلف فتوى مطولة في «حكم السجود أمام الصنم» ، رأى المؤلف أهمية إلحاقها في آخر الكتاب، فانظرها في ص 37.
(2)
يعني مِن الأمور الثلاثة التي هي جِماع: ما يخرج به المسلم من الإسلام ويصير مرتدًا. فـ:
الأول: ما يضاد الإقرار بالشهادتين، والثاني: ما يناقض حقيقة الشهادتين.
من خصالِ البِرِّ وشعبِ الإيمانِ؛ فإنَّ مِن هذه الخصالِ ما يشترك الناسُ في فعله ـ كافرُهم ومؤمنهم ـ كـ: إماطة الأذى عن الطريق، وبِرِّ الوالدين، وأداء الأمانة.
وإنما يتحقق عدم هذا الإعراض والسلامة منه= بفعل شيء من الواجبات التي تختص بها شريعة الإسلام التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم ـ كـ: الصلاة والزكاة والصيام والحج ـ إذا فَعل شيئًا من ذلك إيمانًا واحتسابًا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ~: «فلا يكون الرجل مؤمنًا بالله ورسوله مع عدم شيء (1) من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم» (2).
2 -
أنْ يضعَ الوالي قانونًا يتضمن أحكامًا تُناقِض أحكامًا قَطْعيةً من أحكام الشريعة، معلومةً من دين الإسلام بالضرورة، ويفرضَ الحكم به، والتحاكم إليه، ويعاقبَ من حَكَمَ بحكم الشريعة المخالِف له، ويدَّعي مع ذلك الإقرارَ بوجوبِ الحكم بالشريعة ـ شريعة الإسلام ـ التي هي حكمُ الله ورسولِه.
(1) كذا وردت العبارة في «الإيمان الأوسط» ، ولعل المناسب للسياق:«مع عدم فعل شيء» . قاله المؤلف.
(2)
«الإيمان الأوسط» ص 621.
ومن هذه الأحكام الطاغوتية المضادة لحكم الله ورسوله:
- الحكمُ بِحُرِّيَّة الاعتقادِ؛ فلا يُقتل المرتدُ، ولا يُستتاب.
- حريةُ السلوكِ؛ فلا يُجبر أحدٌ على فعل الصلاة، ولا الصيام، ولا يعاقبُ على ترك ذلك.
- تبديلُ حدِّ السرقة ـ الذي هو قطع اليد ـ بالتعزير والغرامة.
- منعُ عقوبة الزانيين بتراضيهما إلا لِحَقِّ الزوج، أو نحو ذلك مما يتضمن إباحة الزنا وتعطيل حدِّه من الجلد والرجم.
- الإذنُ بصناعة الخمر، والمتاجرةُ فيه، ومنعُ عقوبِة شاربِه (1).
3 -
تولي الكفارِ من اليهودِ والنصارى والمشركينَ، بمناصرتهم على المسلمين، قال تعالى:
(1) قال المؤلف في «الشرح» : «فَرقٌ بين وضعِ قانونٍ يناقض أحكام الشريعة وبين التقصير في التطبيق والتنفيد، فرقٌ بين مَن يقصِّر في عقوبة شارب الخمر ـ مثلًا ـ ولا يقيم عليه الحد وبين من يضع له قانونًا أنه لا يعاقب» .
الدرس الخامس/الدقيقة: 48.
4 -
أنْ يَترك المسلمُ الصلاةَ دائمًا بحيث لا يصلى إلا مجاملةً للناس إذا كان بينهم، ولو بغير طهارة، فإنَّ ترْكَ الصلاةِ على هذا الوجه= لا يَصدر ممن يقِرُّ بوجوبها في الباطن؛ فكُفْرُ هذا بـ: تركِ الإقرار بوجوب الصلاة؛ لا بمطلقِ تركِ الصلاة الذي اختلف فيه أهلُ السنة.
ولهذا يجب أن يُفرَّق بين هذا وبين مَن يصلي لكنه لا يحافظ عليها؛ فيتركها أحيانًا ويُقَصِّر في واجباتها،
(1) كلام المؤلف هنا مختصر، وقال في «الشرح»: «تولي الكفار مراتب؛ منه ما يوجب الكفر والردة، ومنه ما هو دون ذلك ـ إلى أن قال ـ أما إذا ظاهَرَهم رغبةً في إذلالِ الإسلام وهضمه= فهذا ناقضٌ للإسلام بلا شك.
أما إذا كانت المظاهرة دوافعها رغبة أو رهبة= فهذا محل نظر واجتهاد، والأظهر عندي أنه لا يوجب الردة». الدرس الخامس/الدقيقة:52.
وانظر نحوه في: شرحه لـ «نواقض الإسلام» ص 35.
وللمؤلف فتوى مفصَّلة في هذه المسألة، وفتوى ـ أيضًا ـ في نوع الفعل الذي وقع فيه حاطب رضي الله عنه، رأى المؤلف حفظه الله أهمية إلحاقهما في آخر الكتاب، فانظر ص 49، وص 53.
كما يدل على ذلك حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خمسُ صلواتٍ كتبهن اللهُ على العباد، مَن أتى بهن لم يُضيِّع مِن حقهن شيئًا ـ استخفافًا بحقهن ـ= كان له عند اللهِ عَهدٌ أنْ يدخلَه الجنةَ، ومَن لم يأتِ بهن= جاء وليس له عند الله عهدٌ؛ إنْ شاء عذَّبه، وإن شاء أدخله الجنة» (1).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ~: «فأمَّا مَن كان مُصِرًَّا على تركها لا يصلي قط، ويموت على هذا الإصرار والترك= فهذا لا يكون مسلمًا، لكن أكثر الناس يصلون تارة، ويتركونها تارة؛ فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها، وهؤلاء تحت الوعيد، وهم الذين جاء فيهم الحديث الذي في «السنن» حديث عبادة بن الصامت ـ وذكر الحديث ـ فالمحافظُ عليها الذي يصليها في مواقيتها كما أمر الله تعالى، والذي (2) يؤخرها أحيانًا عن وقتها، أو يترك واجباتها= فهذا تحتَ مشيئةِ الله تعالى،
(1) رواه مالك في «الموطأ» (320)، وأبو داود (1415)، والنسائي (468)، وابن ماجه (1401)، وصححه: ابنُ حبان (1732)، وابنُ عبد البر في «التمهيد» 23/ 288.
(2)
في المطبوع من «مجموع الفتاوى» «والذي ليس يؤخرها» والمناسب للسياق حذف «ليس» ، وبحذفها يستقيم الكلام. قاله المؤلف.
وقد يكون لهذا نوافلُ يُكَمِّل بها فرائضه كما جاء في الحديث (1)» (2).
وقال ~ في الأمراء الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يؤخرون الصلاة عن وقتها: «وإن قيل ـ وهو الصحيح ـ إنهم كانوا يُفَوِّتُونها؛ فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الأمة بالصلاة في الوقت، وقال: «اجعلوا صلاتكم معهم نافلة» (3)، ونهى عن قتالهم .. ومؤخرها عن وقتها= فاسقٌ، والأئمةُ لا يُقاتَلون بمجرد الفِسق .. وهؤلاء الأئمة فساقٌ، وقد أمر بفعلها خلفهم نافلة» (4).
5 – ومنها تَعَمُّد إلقاءِ المصحف في الحُشِّ أو البول عليه، أو كتابته بالنجاسة؛ فإن هذا الصنيعَ غايةٌ في امتهان القرآن العظيم؛ لا يَصدر عمَّن يُقرُّ بأنه كلامُ الله عز وجل.
(1) القدسي الذي فيه: «انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع= فأكملوا بها ما ضيَّع من فريضته» .
رواه أحمد 28/ 150، وأبو داود (862)، وابن ماجه (1426) وصححه الحاكم (980) من حديث تميم الداري رضي الله عنه. وقد روي من حديث غيره من الصحابة رضي الله عنهم. انظر بعضها في:«تعظيم قدر الصلاة» ، باب «إكمال الفريضة بالنوافل» 1/ 210.
(2)
«مجموع الفتاوى» 22/ 49.
(3)
رواه مسلم (648).
(4)
«مجموع الفتاوى» 22/ 61 بتصرف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ~: «ولا يُتَصوَّر في العادة أنَّ رجلًا يكون مؤمنًا بقلبه، مقرًا بأن الله أوجب عليه الصلاة، ملتزمًا لشريعة النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به، يأمره ولي الأمر بالصلاة= فيمتنع حتى يقتل، ويكون مع ذلك مؤمنًا في الباطن، قط لا يكون إلا كافرًا.
ولو قال: أنا مقرٌّ بوجوبها، غير أني لا أفعلها= كان هذا القول مع هذه الحال= كذبًا منه، كما لو أخذ يلقي المصحف في الحُشِّ ويقول: أشهد أنَّ ما فيه كلام الله، أو لو جعل يقتل نبيًا من الأنبياء ويقول: أشهد أنه رسولُ الله، ونحو ذلك من الأفعال التي تنافي إيمانَ القلب، فإذا قال: أنا مؤمِن بقلبي مع هذه الحال= كان كاذبًا فيما أظهره مِن القول» (1).
أما قول السائل: «هل سوء التربية عذرٌ في كفر من سبَّ الله أو رسوله؟»
فالجواب:
أنَّ سبَّ اللهِ ورسولِه مِن نواقضِ الإسلامِ البينة؛ لأنه استهانةٌ بالله ورسوله، وذلك يناقض ما تقتضيه الشهادتان من التعظيم لله ورسولِه.
وسوءُ التربية ليس عذرًا للمكلف في تركِ واجب،
(1)«الإيمان الأوسط» ص 615.
ولا فعلِ محرمٍ مِن سائر المحرمات؛ فضلًا عمَّا هو مِن أنواع الكفر بالله.
ولو صحَّ أنَّ سوء التربية عذرٌ في شيءٍ مِن ذلك= لكان أولادُ اليهودِ والنصارى وغيرِهم؛ معذورينَ في تَهَوُّدِهم وتنصُّرِهم، وهذا لا يقوله مسلمٌ، ومَن قال ذلك= فهو كافر؛ يُعرَّفُ ويستتاب؛ فإن تاب وإلا وجب قتله مرتدًا.
وفي «الصحيحين» عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة؛ فأبواه= يهوِّدانه، وينصِّرانه، ويمجِّسانه، كما تُنْتَجُ البهيمةُ بهيمةً جمعاءَ، هل تُحِسُّون فيها من جَدْعاء؟» ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ} [الروم: 30](1).
وقال تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: 22].
هذا، وأسأل اللهَ أنْ يثبِّت قلوبَنا على دينه، وأنْ يُحبِّب إلينا الإيمانَ ويزيِّنه في قلوبِنا، ويكرِّه إلينا الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ، ويجعلَنا من الراشدين، إنه تعالى سميع الدعاء، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
(1) البخاري (1359)، ومسلم (2658) واللفظ له.
الملحق الأول
حكم السجود أمام الصنم
السؤال: ما قول أهل العلم في قول مَن يُقرِّر أنَّ السجود قُدَّام الصنم لا يكون كفرًا وشركًا، ولو أقر بلسانه أنه يسجد للصنم، أو أظهر بهذا السجود موافقة المشركين على دينهم، ما دام أنه في الباطن لم يقصد السجود، ويقرِّر أن المشرك الوثني لو عرف صحة دين الإسلام وأقر به، لكن مداهنة لقومه وخوفًا من الملامة والعيب= يسجد معهم ـ طوعًا ـ لأوثانهم، ويذبح لها ويطوف بها ويظهر تعظيمها، ولا يصرح بالبراءة منها، فمثل هذا لا يحكم بكفره مع كونه آثما، وربما احتج هذا المقرِّر بكلام متشابه منسوب لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فما تقولون في ذلكم؟
الإجابة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، أما بعد:
فإن من المعلوم أن الكفر والإيمان يتعلقان بالظاهر والباطن، والناس بهذا الاعتبار أربعة أقسام:
القسم الأول: مؤمن ظاهرًا وباطنًا.
القسم الثاني: كافر ظاهرًا وباطنًا.
القسم الثالث: مؤمن ظاهرًا لا باطنًا، وهو المنافق، وهذه الأقسام هي التي ذكرها الله في أول سورة البقرة، وفي مواضع أخرى من القرآن.
وأما القسم الرابع؛ فهو مَن أظهر الكفر قولًا أو فعلًا مكرهًا وقلبه مطمئن بالإيمان، كالرجل من آل فرعون الذي يكتم إيمانه خوفًا من فرعون وملئه، ومثل الذي نزلت فيهم هذه الآية:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْد إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلِيهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106].
فدل هذا الاستثناء على أن من أظهر الكفر بقول، أو فعل وهو غير مكره، بل هازلًا أو مداهنًا أو طامعًا= فهو ممن شرح بالكفر صدرًا؛ لأن ما أظهره من الكفر= هو فيه مختار، والاختيار إنما يكون مع شرح الصدر= فيكون ممن كفر ظاهرًا وباطنًا، ولهذا قال تعالى:
قال شيخ الإسلام: «وهذه الآية مما يدل على فساد قول جهم ومن اتبعه، فإن الله جعل كلَّ مَن تكلم بالكفر من أهل وعيد الكفار، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان.
فإن قيل فقد قال تعالى: {ولكن من شرح بالكفر صدرًا} ؟
قيل: وهذا موافق لأولها؛ فإنه من كفر من غير إكراه= فقد شرح بالكفر صدرًا، وإلا ناقص أولَ الآية آخرُها» (1).
إذا ثبت هذا؛ فمَن أظهر الموافقة للمشركين بأن دعوه للسجود لصنمهم أو الذبح له= فأجابهم طائعًا مختارًا لأي غرض من الأغراض، وزعم أنه إنما سجد لله وذبح لله؛ فهو ممن كفر بالله وشرح بالكفر صدرًا، وأبلغ من هذا أن مَن أقرَّ للمشركين بأنه يسجد لصنمهم ويذبح له ثم يدعي أنه يكذب عليهم، وهذا مثل من يقول لليهود أو النصارى أو المشركين: إن الدين الذي
(1)«الإيمان الكبير» ص 220.
أنتم عليه حق، ويزعم أنه يفعل ذلك لتبقى منزلته عندهم فيبقى معظمًا محترمًا، أو لينال حظًا من الحظوظ الدنيوية على أيديهم، فكل هؤلاء داخلون في عموم قوله تعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْد إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلِيهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فلم يستثن من الوصف بالكفر والوعيد إلا المكره.
ولو كان مَن أظهر الكفر مختارًا لا يعد كافرًا ظاهرًا وباطنًا= لما حكم الله بالكفر على المستهزئين في قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهِزئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 65 - 66].
قال شيخ الإسلام تعليقًا على هذه الآيات: «فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل كنا نخوض ونلعب، وبيَّن أن الاستهزاء بآيات الله كفرٌ، ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدره بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه= منعه أن يتكلم بهذا الكلام» (1).
(1)«الإيمان الكبير» ص 220.
وكذلك يلزم ـ على القول بأن من أظهر الكفر مختارًا لا يكون كافرًا في الباطن ـ أنَّ مَن صدَّق الرسول باطنًا بل وظاهرًا ولكن قال: لا أتبعه بل أعاديه وأحاربه، لأني لا أستطيع أن أخالف أهل ملتي، لا يعد كافرًا في الباطن، وهذا قول غلاة المرجئة الجهمية، وهو أفسد أقوال المرجئة، وفساده معلوم من دين الإسلام بالضرورة.
ولو كان الأمر كما يزعمون= لما كفر الجاحدون الذين قال الله فيهم: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، قال شيخ الإسلام: «و [المحبة] تستلزم الإرادة، والإرادة التامة مع القدرة= تستلزم الفعل؛ فيمتنع أن يكون الإنسان محبًا لله ورسوله، مريدًا لما يحبه الله ورسوله إرادة جازمة مع قدرته على ذلك؛ وهو لا يفعله، فإذا لم يتكلم الإنسان بالإيمان مع قدرته= دل على أنه ليس في قلبه الإيمان الواجب الذي فرضه الله عليه.
ومن هنا يظهر خطأ قول جهم بن صفوان ومن اتبعه، حيث ظنوا أن الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه، لم يجعلوا أعمال القلب من الإيمان، وظنوا أنه قد يكون الإنسان مؤمنًا كامل الإيمان بقلبه؛ وهو مع هذا يسب الله ورسوله، ويعادي الله ورسوله، ويعادي
أولياء الله، ويوالي أعداء الله، ويقتل الأنبياء، ويهدم المساجد، ويهين المصاحف، ويكرم الكفار غاية الكرامة، ويهين المؤمنين غاية الإهانة، قالوا: وهذه كلها معاص لا تنافي الإيمان الذي في قلبه، بل يفعل هذا وهو في الباطن عند الله مؤمن» (1).
وأما ما يتعلق به مَن يزعم أن السجود أمام الصنم موافقةً للمشركين لا يكون شركًا من قول شيخ الإسلام رحمه الله: «وما كان كفرًا من الأعمال الظاهرة؛ كالسجود للأوثان، وسب الرسول، ونحو ذلك؛ فإنما ذلك لكونه مستلزمًا لكفر الباطن، وإلا فلو قُدِّر أنه سجد قدام وثن ولم يقصد بقلبه السجود له، بل قصد السجود لله بقلبه، لم يكن ذلك كفرًا، وقد يباح ذلك إذا كان بين مشركين يخافهم على نفسه، فيوافقهم في الفعل الظاهر، ويقصد بقلبه السجود لله، كما ذُكر أن بعض علماء المسلمين وعلماء أهل الكتاب فعل نحو ذلك مع قوم من المشركين حتى دعاهم إلى الإسلام؛ فاسلموا على يديه، ولم يُظهِر منافرتهم في أول الأمر» (2) = فلا يمكن حمله على من يسجد مجاملة
(1)«الإيمان الكبير» ص 188.
(2)
مجموع الفتاوى 14/ 120
أو طمعًا؛ بل مراد الشيخ مَن تعمَّد السجود لله قدام وثن موهمًا للمشركين أنه يسجد لصنمهم خوفًا منهم لقوله: «وقد يباح ذلك إذا كان بين مشركين يخافهم على نفسه» .
ففيه إشكال من وجهين:
الأول: قوله: «علماء أهل الكتاب» حيث قرنهم بعلماء المسلمين، ومعلوم أن علماء أهل الكتاب لن يدعوا المشركين إلى الإسلام، وقد قال في آخر كلامه:«حتى دعاهم إلى الإسلام فأسلموا» .
والجواب:
أن يقال أراد بعلماء أهل الكتاب مَن كان يكتم إيمانه بين قومه المشركين كالنصارى؛ فهم مسلمون في الباطن وإن كانوا في الظاهر معدودين في أهل الكتاب، كما يذكر شيخ الإسلام هذا الصنف في تفسير بعض الآيات؛ كقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلِه لا يَشْتَرُونَ
بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إَنَّ اللهَ سَرِيعُ الحْسَابِ} [آل عمران: 199].
أو يقال: أراد بهم علماء أهل الكتاب قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد بالإسلامِ الإسلامَ العام الذي هو دين الرسل كلهم.
وقد كان منهم من يكتم إيمانه خوفًا ويتلطف في الدعوة إلى الإسلام، كما أخبر الله عن مؤمن آل فرعون، فقد كان يكتم إيمانه بموسى عليه السلام، ومع ذلك دعا قومه إلى التوحيد والإيمان باليوم الآخر.
وعلى هذا؛ فالحامل لهم على السجود قدام الصنم= هو الخوف من قومهم.
الوجه الثاني من الإشكال: قوله: «ولم يظهر منافرتهم في أول الأمر» يشعر بأنهم فعلوا السجود قدام الصنم تألفًا لهم من أجل دعوتهم لا خوفًا منهم.
والجواب: أنَّ هذه العبارة إذا بنيت على ما قبلها= اقتضى ذلك أن الذي لم يظهر المنافرة؛ كان الحامل له على عدم المنافرة= هو الخوف منهم، وآثر الرخصة بترك الصدع والمجاهرة التي تنفرهم= ليتمكن من دعوتهم كما صنع مؤمن آل فرعون.
وعلى هذا؛ فالشيخ ~ لا يدل كلامه على
جواز السجود قدام الصنم اختيارًا من أجل دعوة المشركين إلى الإسلام، وإنما يعذر من فعل ذلك خوفًا.
وبعد؛ فمن سجد قدام الصنم خوفًا كان معذورًا بالإكراه، ومن كان جاهلًا وسجد قدام الصنم متأوِّلًا تأليف المشركين من أجل دعوتهم= كان معذورًا للتأويل؛ فإنَّ تَعَمُّدَ السجود قدام الصنم حرام؛ بل هو كفرٌ؛ إذا كان إظهارًا لموافقة المشركين على شركهم، ولا يعذر في ذلك إلا من كان خائفًا أو متأولًا تأليفهم كما تقدم.
وكلامُ الشيخ صريحٌ بأنَّ كُفر الباطن أصلُ الكفر الظاهر، فما كان كفرًا من الأقوال والأعمال الظاهرة؛ كسب الرسول صلى الله عليه وسلم والسجود للوثن؛ فإنه مستلزمٌ لكفر الباطن، ومعنى ذلك أن سب الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصدر إلا عمَّن هو كافرٌ في الباطن كفرَ التكذيب أو كفر الإباء، وكذلك السجود للوثن لا يكون إلا مع كفر الباطن.
ولكن كون السجود للوثن؛ إنما يتعين بإقرار الساجد ولو كان كاذبًا، وكذلك إذا أظهر الموافقة للمشركين، كما إذا دعوه للسجود لصنمهم= فأجابهم، أو قاموا للسجود؛ فقام وسجد معهم= فكل هذه من أنواع الكفر الظاهر، ومَن صدرت منه= فهو كافر ظاهرًا وباطنًا إلا أن يكون مكرهًا؛ لقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ
بَعْد إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} الآية.
ومعنى الآية ـ والله أعلم ـ أنَّ من أظهر الكفر= فهو كافر إلا أنْ يكون مكرهًا وقلبه مطمئن بالإيمان.
وأما السجود قدام الصنم، الذي لم تدل القرائن القولية أو الحالية على أنه سجود للصنم، فمن أظهر أنه يسجد للصنم، أو دلت القرائن على ذلك= فإنه كافر، وإن قصد السجود لله، إلا أن يكون مكرهًا، كما تقدم.
وأما السجود لله قدام الصنم من غير أن يقوم دليل يقتضي أنه سجود للصنم فهو حرام، لأنه تشبه بالمشركين، فإن وقع ذلك خوفًا منهم= فيُغتفر للعذر، فيعذر للتأويل، وإن كان لا يجوز أن يتخذ وسيلة للدعوة إلى الله، فإن ما كان في نفسه حرامًا= لا يجوز أن يدخل في وسائل الدعوة، ففيما أباح الله وشرع غنية وكفاية عمّا حرَّم، كما جاء في الحديث:«إنَّ الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» (1).
(1) رواه إسحاق (1912)، وأبو يعلى (6966)، وصححه ابن حبان (1391) من حديث أم سلمة <، وله شاهد صحيح من قول ابن مسعود رضي الله عنه، علَّقه البخاري قبل حديث (5614)، انظر: طرقه في «فتح الباري» 10/ 79.
وقال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبَّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل: 125] وليس من الحكمة دعوة المشركين بإظهار الموافقة لهم فيما هو من دينهم؛ فإن ذلك مما يرضون به ويحتجون به على من أنكر عليهم شركهم، وليس لهذا المسلك في الدعوة مستند من كتاب ولا سنة، بل قد دل القرآن على أنَّ مِن أسس الدعوة= الصدع بالحق مع القدرة على ذلك قال تعالى:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمشرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الْذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخرَ فَسَوفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 94 - 96]، والله أعلم.
ومما تقدم= يتبين خطأ هذا المقرِّر أنَّ السجود قدام الصنم لا يكون كفرًا وشركًا ولو أقرَّ بلسانه أنه يسجد للصنم، أو أظهر بهذا السجود موافقة المشركين على دينهم ما دام أنه في الباطن لم يقصد السجود للصنم.
وأقبح مِن هذا زعمُ هذا المقرر ـ كما ورد في السؤال ـ (أن المشرك الوثني لو عرف صحة دين الإسلام وأقر به، لكن مداهنة لقومه وخوفًا من الملامة والعيب= يسجد معهم ـ طوعًا ـ لأوثانهم، ويذبح لها ويطوف بها ويظهر تعظيمها، ولا يصرح بالبراءة منها، فمثل هذا لا يحكم بكفره مع كونه آثما).
وهذا القول منكر عظيم، وهو يشبه قول جهم، أو هو حقيقة قول جهم في الإرجاء، وذلك لما تقدم من أنَّ إظهار الموافقة للمشركين على دينهم بقولٍ أو فعلٍ لأي سبب من الأسباب إلا الإكراه= هو كفر في ذاته، فيكفر باطنًا وظاهرًا من صدر منه ذلك، إلا أن يكون مكرهًا لعموم قوله تعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْد إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} الآية.
فعلى هذا المقرر أن يراجع نفسه وأن يستهدي ربه؛ فإنَّ المقام خطر، لأن ما يقرره من أعظم ما يجرئ الجاهلين وأهل الأهواء على التفوه بالكفر ومداهنة الكافرين، مما يفضي بهم إلى الانسلاخ من دين الإسلام؛ تعلقًا بمثل هذه الشبهات، فيكون المقرِّر بما قرره= هو السبب في ضلالهم.
هذا ونسأل الله أن يلهمنا وإياه الصواب، وأن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، وألَّا يجعله متلبسًا علينا فنضل. وصلى الله وسلم على محمد.
أملاه المؤلف حفظه الله في:
20/ 10/1431 هـ.
الملحق الثاني
مظاهر الكفار على المسلمين رهبة لا كرهًا للمسلمين
أُفيدك بأني قد قرأت كتابًا بعنوان: «مسائل العذر بالجهل» تحت إشراف فضيلتكم، وفهمت منه أن إعانة الكفار بالقتال معهم ضد المسلمين لا تكون كفرًا، إلا بشرط الرغبة في إظهار دينهم، أو المحبة لدينهم، وعبَّر أن القتال مع الكفار ضد المسلمين ـ حمية ولمصالح دنيوية ـ ليس كفرًا مخرجًا من الملة، فهل هذا الفهم صحيح؟ وهل قال به أحد من أهل السنة؟ وما رأي فضيلتكم في اشتراط ما ذُكِر أعلاه للحكم بتكفير من قاتل المسلمين مع الكافرين؟
الإجابة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فلا شك أن أسباب مظاهرة بعض الكافرين على بعض المسلمين تختلف:
- فتارة يكون الباعث بغض الإسلام وأهله.
- وتارة يكون عن رغبة في مصلحة أو رهبة من ضرر يلحق بهذا المظاهر.
ومعلوم أنه لا يستوي من يحب الله ورسوله ودينه ـ ولكن حمله غرض من الأغراض على معاونة بعض الكفار على بعض المسلمين ـ لا يستوي هذا ومن يبغض الإسلام وأهله.
وليس هناك نص بلفظ «المظاهرة» أو «المعاونة» يدل على أن مطلق المعاونة ومطلق المظاهرة= يوجب كفر مَن قام بشيء من ذلك لأحد من الكافرين.
وهذا الجاسوس الذي يَجُسُّ على المسلمين ـ وإن تحتم قتله عقوبة ـ فإنه لا يكون بمجرد الجس مرتدًا، ولا أدل على ذلك من قصة حاطِب بن أبي بَلْتَعَةَ رضي الله عنه فقد أرسل لقريش يخبرهم بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، ولما أطلع اللهُ نبيَه على ما حصل من حاطب، وعلى أمر المرأة التي حملت الكتاب= عاتب النبيُّ صلى الله عليه وسلم حاطبًا على ذلك، فاعتذر بأنه ما حمله على ذلك إلا الرغبة في أن يكون ذلك يدًا له عند قريش يحمون بها أهله وماله، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم عذره، ولم يأمره بتجديد إسلامه، وذكر
ما جعل الله سببًا لمغفرة الله له، وهو شهوده بدرًا (1).
وهذه مظاهرة أيُّ مظاهرة، فإطلاق القول بأنَّ مطلق المظاهرة ـ في أي حال من الأحوال ـ يكون ردة= ليس بظاهر.
فإن المظاهرة تتفاوت في قدرها ونوعها تفاوتًا كثيرًا، وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51] = لا يدل على أنَّ أيَّ تولٍّ يوجب الكفر، فإن التولي على مراتب، كما أن التشبه بالكفار يتفاوت، وقد جاء في الحديث:«من تشبه بقوم فهو منهم» (2)، ومعلوم أنه ليس كلُّ تشبه يكون كفرًا= فكذلك التولي.
(1) رواه البخاري (3983)، ومسلم (2494) من حديث علي رضي الله عنه.
(2)
رواه أحمد 9/ 123، وأبو داود (4027)، وقال ابن تيمية في «اقتضاء الصراط المستقيم» ص 269:«إسناد جيد .. وقد احتج الإمام أحمد وغيره بهذا الحديث» ، وقال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» 15/ 509:«إسناده صالح» ، وقال العراقي في «المغني عن حمل الأسفار» 1/ 318:«إسناد صحيح» ، وقال ابن حجر في «فتح الباري» 10/ 271:«إسناد حسن» ، وقال 10/ 274:«قد ثبت» ، وقد تُكلم فيه، انظر حاشية «المسند» السابقة، و «المقاصد الحسنة» حديث (1101).
والحاصل: أن ما ورد في الكتاب المسؤول عنه من التفصيل= هو الصواب عندي. والله أعلم.
أملاه المؤلف حفظه الله في:
1/ 2/1427 هـ.
الملحق الثالث
نوع الفعل الذي وقع فيه حاطب رضي الله عنه
ما هو الفعل الذي وقع فيه الصحابي حاطِب؟ ومن أي نوع هو؟ وهل مَن فعل مثل ما فعل حاطب الآن لا يكفر؟
الحمد لله، الفعل الذي وقع من حاطِب رضي الله عنه أنه كتب لأهل مكة يخبرهم بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، ليكون ذلك يدًا له عندهم يحمون بها أهله وماله، وهذا فعل الجاسوس، وقد دفع حاطب الكتاب إلى امرأة لتبلغه إلى قريش= فنزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عليًا والزبير {في أثر تلك المرأة فأدركاها فأخذا منها الكتاب.
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم حاطبًا، فقال: ما هذا؟ فقال: لا تعجل عليَّ ـ وذَكَر سبب فعله ـ وقال: ولم أفعله ارتدادًا عن ديني ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام= فصدَّقه النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر بمغفرة الله له لشهوده بدرًا حين قال لعمر: «وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر؛ فقال:
اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (1).
فلم يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم ما وقع من حاطب موجِبًا لردته، ولهذا أجمع العلماء أن المسلم إذا جَسَّ على المسلمين= لا يكفر، وإنما اختلفوا في قتله، وهو موضع اجتهاد.
ومما يدل على أنَّ حاطبًا لم يكفر بما وقع منه: أن الله تعالى خاطبه باسم «الإيمان» بقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} الآيات [الممتحنة].
فمَن فعل مثل ما فعل حطب ـ أي مِن غير ارتداد ورغبة عن الإسلام ـ =فإنه لا يكفر؛ بل هو مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب؛ يستوجب عليها القتل، أو التعزير، وإنما اندفعت العقوبة عن حاطب رضي الله عنه لكونه من أهل بدر، كما نوه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، والله أعلم.
أملاه المؤلف حفظه الله في:
2/ 8/1425 هـ
(1) تقدم تخريجه في ص 51.