المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌توطئة إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل - حديث رزية يوم الخميس في الصحيحين

[عبد القادر المحمدي]

الفصل: ‌ ‌توطئة إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل

‌توطئة

إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

فإن لكل أمة تاريخاً يمثل مجموعة الأحداث والمواقف التي مرت بها تلك الأمة خلال الحقب الزمنية المتتالية، والتي أسهمت في البناء الحضاري لتلك الأمة.

وهذه الأحداث والمواقف منها ما هو ايجابي يفتخر به الناس، ومنها ما هو سلبي يستفاد منه كدروس ينبغي الاعتبار بها، وتجنب تكرارها، فأما الأولى وهي (الايجابيات) فالتاريخ الإسلامي حافل بها، والعالم كله يعرف ما حصده تاريخ المسلمين من حسنات طيلة الحقبة الزمنية التي كان له فيها سلطان، فانتشر العلم والعلماء، وأُنصف الناس وعاشوا في رخاء وعدل، ولم يقتصر هذا الخير على المسلمين بل عمّهم وغيرهم، وكل هذا الخير انتشر من خلال المبادئ السامية المنبثقة عن العقيدة الصافية، والتضحيات الجسيمة الغالية، ولم يقتصروا في دعوتهم على السيف والرمح كما يزعم بعض دعاة الشؤم وأذنابهم، بل تعددت السبل وتنوعت الأسباب في ذلك، حتى فتح الله على يد تجار لا علاقة لهم بالسيف ولا بالقلم آذاناً صماً وقلوباً غلفاً، وأما السيف والرمح فكانا الدرع الحصين الذي يحمي بلاد المسلمين من أطماع الطامعين.

فالتاريخ الإسلامي أنساني بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، وحق لنا أن نفتخر به وتشرئب الأعناق.

ورحم الله من قال:

ملكنا فكان العدل منا سجية

فلما ملكتم سالت بالدم أبطح

وأما عن هاتيك السلبيات في تاريخ المسلمين والتي يجعجع بها بعض المغرضين، فالباحث اليقظ المنصف يجدها في الغالب (مفتعلة)،مسيّسة لأهداف وأغراض شتى، وهي في الحقيقة لا تتعدى عن كونها:

1 -

وردت في كتب التاريخ التي لم تشترط الصحة في الروايات، لأنها عنيت بجمع الروايات حسب، كتاريخ الطبري وطبقات ابن سعد وغيرهما، فالإمام الطبري ت (310هـ) قصد جمع الروايات والأحداث التاريخية دون نقد وتفتيش، ولو أراد أن يعمد إلى نقدها لما عجز فهو ناقد بارع، وكتابه (تهذيب الآثار) شاهد على ذلك، ولو قصد نقدها على طريقة النقاد لأصبح حجمه أضعاف أضعافه، ولأفنى عمره في أوله،،وتاريخه على ما فيه إلا أنه عمل كبير، فجزاه الله خيراً على هذا الجهد العظيم الذي تفطن له في وقت مبكر، ولولا هذا العمل لفاتت علينا روايات كثيرة، وقد تضمن كتابه روايات صحيحة وهي كثيرة، وفيه أيضاً من القصص الباطلة والأحداث المنكرة التي يشهد القلب ببطلانها.

ص: 2

2 -

أنها وردت في كتب اختصرت تلك الكتب، إذ إنّ تاريخ الطبري -مثلاً- مصدر كل المؤرخين، فتجد الحادثة الواحدة تتكرر في أكثر من مصدر فيظن من لا يحسن البحث أنها تقوية للرواية والأمر ليس هكذا.

3 -

قد ترد في مصادر باطلة غير موثقة عند أهل العلم، كمروج الذهب للمسعودي، ومقاتل الطالبيين، والأغاني لأبي فرج الأصفهاني ففيهما أوابد وطامات.

4 -

قد تأتي حادثة ما بروايات عديدة، وبألفاظ مختلفة وفي كتب شتى، فتلفق الروايات الصحيحة بغيرها، وتدلس ألفاظ بعضها ببعض إما بقصد من رجل مبتدع مريض، أو لهوى سياسي وهكذا. أو بغير قصد فيقع في مثله عالم نحرير يخطئ في نسبتها أو تتداخل عليه الألفاظ، كما وقع للإمام الناقد المحقق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في نسبة قول (أهجر رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلى عمر رضي الله عنه (1)،والصحيح أنها لم تأت من طريق صحيح عنه ولم يذكرها أحد من رواة الأثر بسند معتبر. وما أظنها إلا سبق قلم- كما يقال-،والعصمة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

5 -

وقد يأتي اسم أو كنية لرجل كذاب أو مبتدع موافقاً لإمام معتبر عند أهل العلم مشهور به، فيُنسب إليه قول مستنكر يظنه بعض الناس ممن لا يميزه أنه قول لذاك الإمام، فمن أمثلة ذلك:

السدي: فهناك السدي الكبير (إسماعيل بن عبد الرحمن بن ابي كريمة الكوفي الأعور ت128هـ) وهذا من أئمة العلم الثقات. والآخر: السدي الصغير الكذاب الرافضي الخبيث.

وكذا الطبري: فهناك الطبري الثقة الإمام المفسر المحدث: (محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الآملي أبو جعفر الطبري ت 310هـ) صاحب المصنفات، والآخر الكذاب رافضي خبيث (محمد بن جرير بن رستم الطبري) له مؤلفات في مذهبه.

ونجد اليوم كثيراً من الكذابين يدلسون على الناس بهذه الطريقة.

* وقد تٍقع مثل تلك الروايات المنكرة والباطلة في كتب الرواية المسندة كذا لأسباب:

1 -

إما أن يكون هدف المصنِف في مصنَفه جمع الروايات عن شيوخه التي جمعها طيلة حياته، فيصنف كتابه للناس ولا يشترط على نفسه درجة الصحة بل ولا حتى أدنى درجات القبول، فالشيخ أنما ألف كتابه ليجمع فيها حديثه ليس غير فيرتبه على طريقة المعجم كالإمام الطبراني ت (360هـ)،أو أنه خرّج الروايات فقط ولم

(1) منهاج السنة 6/ 24.فلعل الشيخ رحمه الله عرض المسألة على سبيل المجادلة أي حتى لو ثبتت -وهي لا تثبت - فأجاب عنها، أو هي سبق قلم، والله أعلم.

ص: 3

يحكم عليها بحكم معين فينقلها على وجهها، ويترك الأمر على من بعده، وهو معذور بذلك، كما في كتاب "كنز العمال" وغيره.

2 -

أو أن تكون تلك الروايات وردت في مصنفات اشترط أصحابها الصحة ولم يوفقوا إلى ذلك فأطلقوا اسم الصحيح على مصنفاتهم فظن من لا يميز أنها روايات صحيحة

كالمستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ت (405هـ) فإنه زعم أنّ رواياته على شرط صحيحي الشيخين أو أحدهما، فجاء بالقليل مما يقبل والكثير مما ينتقد حتى ملأ كتابه بالأوابد والطامات، فيأتي من لا يعرف العلم فيقول صححه الحاكم! والحق أنه باطل منكر حكم عليه أئمة الصنعة من شيوخ شيوخ الحاكم بالبطلان، ومن تتبع عرف.

وكذا صحيح ابن خزيمة ت (311هـ) فهو وإن كان من النقاد والحفاظ المتقنين إلا أنه أورد في صحيحه أحاديث ضعيفة ومنكرة فيظن بعض عوام الناس أنها صحيحة لوردوها فيه. وكذا كتاب المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع المسمى اختصاراً (صحيح ابن حبان) ت (354هـ).

4 -

أو يأتي في طبعة من طبعات كتاب ما اسم الصحيح على كتاب وهذه الزيادة غلط محض وقع فيه ناسخ أو محقق، كما وقع في طبعة من طبعات جامع الإمام الترمذي ت (279هـ) ففي طبعة الشيخ أحمد محمد شاكر:(الصحيح الجامع)،وهو غلط فالإمام لم يشترط صحته، واسمه على الصحيح (الجامع)،وقد اشتهر باسم السنن، ولا ضير، المهم أنه لم يشترط الصحة -إصلاً- وفيه الصحيح والحسن والضعيف والباطل كما نص على ذلك مصنفه رحمه الله تعالى، وهو جامع معلل لمن تامله.

فيأتيك جاهل أو جاحد أو حاسد أو حاقد فيتهم الأمة بالتناقض أو بتحريف الحق ونكرانه لأنهم ينكرون رواية جاءت في مثل هاتيك المصنفات (الصحيحة!) فتأمل.

5 -

أو يأتي شيخ متأخر أو معاصر فيحكم باجتهاده تصحيحاً وتضعيفاً، فيخطئ في حكمه، فيصحح حديثاً منكراً - هو يراه بحسب اجتهاده صحيحاً - فيأتيك مبتدع أو جاهل ليحاكم الأمة أو يحاكم إماماً من أئمة العلم كونه يضعف حديثاً في مصنف ذلك الشيخ المتأخر أو المعاصر، كأحكام الهيثمي في مجمع الزوائد، أو السيوطي في الجامع الكبير والصغير، أو الشيخ أحمد محمد شاكر والشيخ الألباني أو الشيخ شعيب الأرنؤوط وغيرهم من المعاصرين، وكثيراً ما أجد من يفعل مثل ذلك في القنوات الفضائية اليوم، فتأمل!

لهذا ولغيره من الأسباب يجب على طلبة العلم اليوم التوجه إلى التفتيش والنقد في الروايات التاريخية وإشاعة مفهوم التثبت والدليل في المعلومة التاريخية وغيرها، وضرورة تطبيق القواعد الحديثية النقدية على الروايات

ص: 4

التاريخية، لا سيما تلك التي يثار حولها الجدل، وكذا التزام طريقة نقد أئمة الصنعة المتقدمين في التعامل مع الروايات الحديثية، والتأني الشديد في أحكامهم على الأحاديث، فالخطب جلل.

فهذه بعض أسباب تنطع بعض الجهلة بها في اتهام التاريخ الإسلامي وتعكزه على بعض الروايات المنكرة أو الألفاظ المتشابهة، أو تلفيق النصوص زيغاً في قلوبهم أو بدعة تشربت في نفوسهم أو حسداً منهم، لما سطره تاريخ المسلمين من مفاخر عظام وأحداث جسام ورموز فرائد عز التاريخ أن يأتي بمثلهم:

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير

وليس غريباً على أعداء الإسلام مثل ذلك، ولكن العجب في لهث بعض الجهلة والمنتحلين وراءهم! فكنا بالأمس نسمع تلك الشبه من محافل اليهود والصليبين، واليوم نسمعها من بني جلدتنا وممن يلبسون ثوب الإسلام- زوراً-،والعياذ بالله.

وفي الوقت الذي يفتخر العالم كله بتاريخهم الغابر الأغبر! الذي ليس فيه إلا الدماء والقتل والظلم، ففارس اليوم تمجد كسرى ورستم، وتحتفل بيوم النار المقدسة!! والغرب يمجد الحملات الصليبية، حتى أنّ الرئيس الأمريكي "بوش" تبجح بها في غزوه لبلادنا اليوم! نجد كثيراً ممن يزعم أنه عربي مسلم يدوس العروبة بقدميه، ويشنع على الإسلام وأهله، ومصداق ذلك ما تخطه أنامله وتنطق زوراً شفتاه، فيخرج علينا بين الفينة والأخرى دعيٌ يتهم رجالاً لو لم يكونوا -بمن الله وفضله- ولم يبذلوا ما بذلوا من المهج والأرواح لكنا اليوم عبيداً في قصور كسرى وقيصر؟ يتهجم على جيل فريد عقم الزمان أن يأتي بمثلهم إلى يوم الدين، وعقمت الأرحام أن تلد كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد

الخ رضي الله عنهم.

ولكي يتحقق لهم مقصودهم وتتم لهم مآربهم راحوا يطعنون في أصح الكتب التي نقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فشمروا السواعد، وبذلوا أوقاتهم للطعن في صحيح الإمام البخاري ت (256هـ) وصحيح الإمام مسلم بن الحجاج ت (261هـ)،الذَين يعدهما المسلمون أصح كتابين في الدنيا بعد كتاب الله تعالى، تلقتهما الأمة بالقبول.

فجاء هذا المؤتمر المبارك ليس نصرة للصحيحين فحسب، بل نصرة للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونصرة للطائفة المنصورة التي من علاماتها اتباعها الحق وتمسكها به، رغم كيد الكائدين وانحراف المنحرفين وانبطاح المتخاذلين، وتميع الجاهلين، فهذا المؤتمر -إن شاء الله - في صحيفة من أقامه ورعاه وشارك فيه، وأعان عليه ولو بشطر كلمة، وما هو إلا دلالة على صدق وإخلاص هذين الجبلين (البخاري ومسلم) فإن الله يدافع عن الذين آمنوا فسخرنا بعد هذه القرون الغابرة لنقف مناصرين لهما ولكتابيهما، وسبحان القدوس الذي أيد البخاري بالنصرة في كل حين بعد تلك المحنة التي عاشها في زمانه! وصدق الإمام مالك رحمه الله لما قال:"ما كان لله بقي".

ص: 5

ومن هنا وقع اختياري على هذا العنوان الدقيق والمسألة المهمة في حديث ورد في هذين الصحيحين فأسميته:"حديث رزية يوم الخميس في الصحيحين دراسة نقدية تحليلية "،وجاء في مبحثين، أما المبحث الأول فاوردت فيه ألفاظ الحديث في الصحيين وبينت الأختلاف الواقع فيها بين طريقي سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه وطريق عبيد الله بن عبد الله عنه. وجاء في ثلاثة مطالب:

أما المطلب الأول: فأوردت فيه: نص حديث ابن عباس رضي الله عنه.

وأما المطلب الثاني فبينت فيه: الصناعة الحديثية العالية عند البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى.

وذكرت المعنى العام للحديث باختصار في المطلب الثالث.

وفي المبحث الثاني: بينت شبهات المبتدعة حول الحديث. وجاء في سبعة مطالب.

ذكرت في المطلب الأول: مضمون الكتاب الذي هم النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته.

وفي المطلب الثاني: ناقشت فريتهم في قول بعض الصحابة: أهجر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ونسبتها إلى عمر رضي الله عنه.أما في المطلب الثالث: ناقشت قول عمر رضي الله عنه حسبكم كتاب الله. وفي المطلب الرابع: ناقشت زعمهم أن عمر رضي الله عنه أتلف حق الأمة لما منع الكتابة.

وخصصت المطلب الخامس: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (قوموا عني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني).

وجاء المطلب السادس: في مناقشة وصايا النبي صلى الله عليه وسلم الثلاث.

وأما في المطلب السابع: فوضحت قول ابن عباس رضي الله عنه (الرزية كل الرزية .... ).

ثم ختمت البحث بأهم النتائج والتوصيات.

وأخيرا فهذا جهد المقل، وبضاعة مزجاة ما لم يتقبلها الله عز وجل بمنه وفضله، وقد أفدت من كل من كتب في هذا الموضوع من العلماء والمشايخ الفضلاء السابقين والمعاصرين، فإن أصبت فالحمد لله وحده، وان أخطأت فبتقصيري وقلة بضاعتي.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 6