المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثانيقولهم: أهجر - حديث رزية يوم الخميس في الصحيحين

[عبد القادر المحمدي]

الفصل: ‌المطلب الثانيقولهم: أهجر

وتأمل قول الهزيل بن شرحبيل لما بين بطلان مثلها فقال:"أبو بكر رضي الله عنه كان يَتَأَمَّرُ على وصيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ودَّ أبو بكر أنّه وجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً فَخُزِمَ أَنْفُهُ بِخِزَامٍ "(1).

وهنا استفهام انكاري: أي هل كان أبو بكر يتأمر على عليّ لو كان وصياً كما يُزعم؟ ولو وجد مثل ذلك لانساق له انسياقاً!

‌المطلب الثاني

قولهم: أهجر

أثار المبتدعة شبهة حول صدور هذه العبارة من الصحابة واتهموهم بالإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وزعموا أن قائل تلك العبارة هو عمر رضي الله عنه،ولبيان الرد على شبههم نقول:

أولاً: معنى الهجر لغة:

الهُجْر بالضم. وهَجَر يَهْجُر هَجْراً، ضبط في الأصل: هَجَراً بفتحتين، وليس في المعاجم بالفتح: إذا خَلَط في كلامه وإذا هَذَى (2)

فالهجر في اللغة هو اختلاط الكلام بوجه غير مفهوم وهو على قسمين:-

قسم لا نزاع لأحد في عروضه للأنبياء عليهم السلام، وهو عدم تبيين الكلام لبحة الصوت وغلبة اليبس بالحرارة على اللسان، وقد ثبت بإجماع أهل العلم أن نبينا صلى الله عليه وسلم كانت بحة الصوت عارضة له في مرض موته صلى الله عليه وسلم فجاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:"كنت أسمع أنّه لا يموت نبيّ حتى يخير بين الدنيا والآخرة فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه وأخذته بحة يقول: {مع الذين أنعم الله عليهم} الآية فظننت أنه خير"(3).

والقسم الآخر: هو جريان الكلام غير المنتظم أو المخالف للمقصود على اللسان بسبب العوارض من أمراض أو آفات (الهذيان) وهذا يمتنع بحق الأنبياء، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا أتكتب كل شىء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق "(4).

(1) أخرجه الحميدي (722) وأحمد 4/ 381 وابن ماجه (2696).

(2)

النهاية في غريب الحديث 5/ 557.وينظر القاموس المحيط 2/ 30.

(3)

أخرجه البخاري (4081)،ومسلم 7/ 137 (2444).

(4)

أخرجه أحمد 2/ 162،وأبو داود (3646)،وغيرهما.

ص: 24

أما نسبة القول إلى عمر صلى الله عليه وسلم كما قال بعض المبتدعة، فأقول:

ذهبت بعض الفرق المبتدعة إلى الطعن في الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه زاعمين أنه هو من قال: (هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم)!

يقول الخميني في كشف الإسرار: "عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في فراش المرض، ويحف به عدد كثير، قال مخاطباً الحاضرين: تعالوا أكتب لكم شيئاً يحميكم من الوقوع في الضلالة، فقال عمر بن الخطاب: لقد هجر رسول الله. وقد نقل نص هذه الرواية المؤرخون وأصحاب الحديث من البخاري ومسلم وأحمد مع اختلاف في اللفظ، وهذا يؤكد أن هذه الفرية صدرت من ابن الخطاب المفتري. الواقع أنهم ما أعطوا الرسول حق قدره

الرسول الذي كد وجد وتحمل المصائب من أجل إرشادهم وهدايتهم، وأغمض عينيه وفي أذنيه كلمات ابن الخطاب القائمة على الفرية والنابعة من الكفر والزندقة" (1)!!

ويقول ابن المطهر الحلي:" في المطاعن التي نقلها السنة عن عمر بن الخطاب: نقل الجمهور عن عمر مطاعن كثيرة منها قوله عن النبي صلى الله عليه وسلم لما طالب في حال مرضه دواة وكتفاً ليكتب فيه كتاباً لا يختلفون بعده وأراد أن ينصّ حال موته على علي ابن أبي طالب "ع"، فمنعهم عمر وقال: إنّ رسول الله ليهجر حسبنا كتاب الله. فوقعت الغوغاء وضجر النبي صلى الله عليه وسلم فقال أهله: لا ينبغي عند النبي الغوغاء. فاختلفوا فقال بعضهم: أحضروا ما طلب، ومنع آخرون. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ابعدوا. هذا الكلام في صحيح مسلم. وهل يجوز مواجهة العامي بهذا السفه فكيف بسيد المرسلين"(2).

وقال أحمد حسين يعقوب: (أول من اتهم بالهجر، رسول الله ورفع بوجهه شعار "حسبنا كتاب الله" هو عمر بن الخطاب، حيث حضر هو وثلة من حزبه ليطمئنوا على الوضع الصحي لرسول الله، ومن المؤكد أن شخصاً ما أخبر عمر بأن الرسول سوف يكتب وصية تلك الليلة، فأحضر عمر عدداً كبيراً من حزبه ليحول بين الرسول، وبين كتابة وصيته كما أقر عمر بذلك. وما أن قال الرسول:"قربوا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً" حتى تصدى له عمر بن الخطاب، فقال فوراً دون أن يسأل عن مضمون الكتاب:"حسبنا كتاب الله، إن رسول الله قد هجر" وبدون تروٍ صاح الحاضرون من حزب عمر فقالوا: القول ما قاله عمر!! إن رسول الله يهجر، واستغرب الحاضرون من غير حزب عمر، وصعقوا من هول ما سمعوا، فقالوا عفوياً: قربوا

(1) كشف الأسرار ص 137.

(2)

نهج الحق ص 273.

ص: 25

يكتب لكم رسول الله، وكان الحاضرون من حزب عمر يشكلون الأكثرية، لأنهم أعدوا للأمر عدته فصاح عمر وأعوانه:"حسبنا كتاب الله إن الرسول يهجر" واختلف الفريقان وتنازعوا، وصدم عمر وحزبه خاطر النبي، فقال النبي للجميع:"قوموا عنى، ولا ينبغي عندي التنازع، وما أنا فيه خير مما تدعوني إليه" ولقد أصاب ابن عباس عندما سمى ذلك اليوم بيوم الرزية) (1).

ويقول العاملي البياضي في مطاعن عمر:"وثالثها أن الغوغاء لم تكن بطلب الكتاب بل بالمخالفة كما أخرجه البخاري وغيره من قول بني هاشم قربوا إليه كتاباً وقول عمر ومن معه لا ندعه يكتب وإنه قد هجر

وهذا آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم،وقد قال الله:(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ) الأحزاب/ 57 (2).

وقال نور الدين التستري:"وذلك لأن أول من سبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه هو عمر بن الخطاب

حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آتوني بدواة وكتف لأكتب كتاباً لن تضلوا بعده أبداً فقال عمر إن الرجل ليهجر حسبنا كتاب الله" (3).اهـ

ثم يأتي شخص أو مؤسسة إعلامية يفترض بها الأمانة والموضوعية لتدلس على السائل أنّ لفظة (هجر) قالها عمر رضي الله عنه وتأمل فيما جاء في موقع: مركز الأبحاث العقائدية الألكتروني16/ 12/2004،جاء فيه جواب على هذا السؤال:

بعد السلام والتحية لكم كنت ابحث عن مصدر قول عمر: إنّ الرجل ليهجر. وجزاكم الله خيرا.

الأخ السيد حيدر الموسوي المحترم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

منع عمر من أن يكتب النبي (صلى الله عليه وآله) عند مماته كتاباً وقال: (إن الرجل ليهجر) أو: (إن النبي غلبه الوجع)، تجده بألفاظ مختلفة في: صحيح البخاري 1/ 32 كتاب العلم / باب كتابة العلم و 4/ 7 كتاب المرضى / باب قول المريض قوموا عني و 4/ 271 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة / باب كراهية الخلاف و 2/ 178 كتاب الجهاد والسير / باب هل يستشفع إلى أهل الذمة و 4/ 62 باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب ، صحيح مسلم 3/ 1259 كتاب الوصية / باب ترك الوصية و 3/ 1257 كتاب الوصية / باب ترك الوصية ، مسند أحمد 1/ 24 و 222 و 3/ 346 ، ودمتم سالمين. أ. هـ

وهذا تدليس صريح وكذب لا يبرره إلا التعصب الأعمى، فالحق أنّ هذه اللفظة (يهجر) لم تنسب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أي رواية لا في الصحيحين ولا في غيرهما من كتب أهل السنة كما يدعون، نعم هي ثابتة في الصحيحين وغيرهما لكن ليست عنه رضي الله عنه،والذي هو محل النزاع، والصحيح كما في الروايات الصحيحة أنّ من قالها هم بعض الحاضرين كما في رواية الشيخين. والأصح في ضبط هذه اللفظة (أهجر) بالهمز أي بالاستفهام اعتراضاً على من رفض الكتابة للرسول صلى الله عليه وسلم أي هل يمكن أن يهذي حتى تمنعوا عن أن تحضروا دواة ليكتب لنا الكتاب؟ نص على ذلك القاضي عياض (4) والنووي (5) والسيوطي (6).

وقال الإمام النووي: "وإن صحت الروايات الأخرى كانت خطأ من قائلها، قالها بغير تحقيق بل لما أصابه من الحيرة والدهشة لعظيم ما شاهده من النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الحال الدالة على وفاته وعظيم المصاب وخوف الفتن والضلال بعده"(7).

وقال الدهلوي:"من أين يثبت أن قائل هذا القول هو عمر رضي الله عنه مع أنه وقع في أكثر الروايات (قالوا) بصيغة الجمع "(8). ونجمل الرد في الآتي:

أولاً: إنّ الثابت الصحيح في هذه اللفظة أنها وردت بصيغة الاستفهام هكذا (أهجر؟) استفهاماً، وهذا بخلاف ما جاء في بعض الروايات بلفظ (هجر، ويهجر) وتمسك به بعضهم فإنه مرجوح على ما حقق ذلك المحدثون، وشراح الحديث: منهم القاضي عياض (9)، والقرطبي (10)، والنووي (11)، وابن حجر (12).

فقد نصوا على أن الاستفهام هنا جاء من الصحابة لا على سبيل وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالهجر، وإنما على سبيل الإنكار على من قال منهم:(لا تكتبوا).وهو استنكار استفهامي.

قال الإمام القرطبي: ((وقوله: أهجرَ؟ استفهموه؛ كذا الرِّواية الصحيحة في هذا الحرف أهَجَرَ؟ بهمزة الاستفهام، وهَجَرَ بالفتح بغير تنوين على أنَّه: فعل ماض. وقد رواه بعضهم: أهُجُرًا بفتح الهمزة،

(1) كربلاء الثورة والأساة ص84.

(2)

الصوارم المهرقة ص224.

(3)

المصدر نفسه.

(4)

إكمال المعلم 5/ 380.

(5)

شرح النووي 11/ 78.

(6)

الديباج 4/ 237.

(7)

شرح مسلم 11/ 78.

(8)

مختصر التحفة الإثني عشرية ص250.

(9)

انظر: الشفا 2/ 886.

(10)

انظر المفهم 4/ 559.

(11)

انظر شرح صحيح مسلم 11/ 79.

(12)

انظر فتح الباري 8/ 133.

ص: 26

وبضم الهاء، وتنوين الراء، على أن يجعله مفعولاً بفعل مضمر؛ أي: أقال هُجْرًا. وقد روي في غير "الأم": هَجَرَ بلا استفهام. والهجر: يراد به هذيان المريض، وهو: الكلام الذي لا ينتظم، ولا يعتد به لعدم فائدته. ووقوع مثل هذا من النبي صلى الله عليه وسلم في حال مرضه أو صحته محال لأن الله تعالى حفظه من حين بعثه إلى حين قبضه عمَّا يُخِلّ بالتبليغ. ألا تسمع قوله تعالى:{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى} النجم3و4 وقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر9.

وقد شهد له بأنه على صراط مستقيم، وأنه على الحق المبين، إلى غير ذلك؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"خذوا عني في الغضب والرضا، فإني لا أقول على الله إلا حقًّا "(1). ولمَّا علم أصحابه هذا: كانوا يأخذون عنه ما يقوله في كل حالاته، حتَّى في هذه الحالة، فإنهم تلقَّوا عنه، وقبلوا منه جميع ما وصَّى به عند موته، وعملوا على قوله:"لا نورث"(2)، ولقوله:" أخرجوا المشركين من جزيرة العرب"(3)، و" أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم "(4)، إلى غير ذلك. ولم يتوقفوا، ولا شكُّوا في شيء منه. وعلى هذا: يستحيل أن يكون قولهم: أَهَجَرَ، لشكٍّ عرض لهم في صحة قوله زمن مرضه، وإنَّما كان ذلك من بعضهم على جهة الإنكار على من توقف في إحضار الكتف والدواة، وتلكَّأ عنه، فكأنه يقول لمن توقف: كيف تتوقف، أتظن: أنه قال هذيانًا؟ فدع التوقف وقرِّب الكتفَ، فإنه إنما يقول الحق، لا الْهَجَرَ. وهذا أحسنُ ما يحمل ذلك عليه. فلو قدَّرنا: أن أحدًا منهم قال ذلك عن شكٍّ عرض له في صحَّة قوله؛ كان خطأ منه. وبعيدٌ أن يقرَّه على ذلك القول من كان هناك ممن سمعه من خيار الصحابة، وكبرائهم، وفضلائهم. هذا تقديرٌ بعيدٌ، ورأيٌّ غير سديد. ويحتمل: أن يكون هذا صدَرَ عن قائله عن دهشٍ وحيرةٍ أصابه في ذلك المقام العظيم، والمصاب الجسيم ". (5) إنتهى كلام القرطبي.

قلت: وتوجيه القرطبي رحمه الله لقول من قال: هجر على ثلاثة أوجه:

الأول: على المعنى اللغوي العام (الهذيان)،وقد استبعده، وهو قول الأمة بالإجماع.

الثاني: قالها جماعة استفهاماً إنكارياً لمن تلكأ عن إنفاذ أمر الكتابة. وحسنه القرطبي.

(1) أخرجه أحمد 2/ 162،وأبو داود (3646)،وغيرهما.

(2)

قطعة من حديث أخرجه البخاري (2862)،ومسلم 9/ 109 (1758) من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقد صح من حديث غيرها.

(3)

قطعة من حديث بحثنا هذا.

(4)

قطعة من حديث بحثنا هذا

(5)

المفهم 4/ 560.

ص: 28

والثالث: أنه قالها القائل (وهم على الراجح: بعض من قرب دخوله في الاسلام) دهشة وحيرة للمصاب الجلل بالنبي صلى الله عليه وسلم.

وقد حسّن الأخير الحافظُ ابن حجر وقال:" ويظهر لي ترجيح ثالث الاحتمالات التي ذكرها القرطبي، ويكون قائل ذلك بعض من قرب دخوله في الإسلام، وكان يعهد أن من اشتد عليه الوجع قد يشتغل به عن تحرير ما يريد أن يقوله لجواز وقوع ذلك ولهذا وقع في الرواية الثانية فقال بعضهم إنه قد غلبه الوجع ووقع عند الإسماعيلي من طريق محمد بن خلاد عن سفيان في هذا الحديث، فقالوا: ما شأنه يهجر؟ استفهموه.

وعن ابن سعد من طريق أخرى عن سعيد بن جبير أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ليهجر، ويؤيده أنه بعد أن قال ذلك: استفهموه بصيغة الأمر بالاستفهام أي اختبروا أمره بأن يستفهموه عن هذا الذي أراده وابحثوا معه في كونه الأولى أولا وفي قوله في الرواية الثانية فاختصموا فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم ما يشعر بأن بعضهم كان مصمما على الامتثال والرد على من امتنع منهم ولما وقع منهم الاختلاف ارتفعت البركة كما جرت العادة بذلك عند وقوع التنازع والتشاجر وقد مضى في الصيام أنه صلى الله عليه وسلم خرج يخبرهم بليلة القدر فرأى رجلين يختصمان فرفعت" (1).

قلت: وهذان التوجيهان جيدان، وهما في الجملة يدلان على توقير الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم،وحتى من قالها من عامة الصحابة ممن تأخر إسلامه: أهجر؟ فإنه معذور بالذهل، فالرجل يعذر بالإغلاق إما لشدة فرح أو حزن، كما في قصة الرجل الذي فقد دابته ثم وجدها بعد يأس فقال:" اللهم أنت عبدي، وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح"(2).

ثالثاً: إنّ هذه اللفظة صدرت بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبار أصحابه،-وفيهم علي رضي الله عنه فلم ينكروا على قائلها، ولم يؤثموه، فدل على أنه معذور على كل حال، ولا ينكر عليه بعد ذلك إلا مفتون في الدين، زائغ عن الحق والهدى، والعياذ بالله.

والذي يظهر –كما سبق- أنّ بعض الصحابة لم يفهم من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وما أمر به صلى الله عليه وسلم لبحة صوته، فراحوا يلحون عليه ويكررون السؤال، ماذا تقصد؟ وكما جاء في لفظ النسائي:"استفهموه فذهبوا يفدون عليه"(3).فالنبي صلى الله عليه وسلم في شدة المرض كما جاء في كل الروايات عند الجميع قال ابن عباس:"لما اشتد به الوجع .... ".والناس يفدون عليه جماعات يسألونه ماذا تقول؟ استفهموه؟ فاختلفوا فقائل يقول: اختبروه

(1) فتح الباري 8/ 132.

(2)

أخرجه مسلم4/ 2104، (2747).

(3)

السنن الكبرى 3/ 343.

ص: 29

وامتحنوه، فلعلها مما يصيب المحتضر، وقائل يقول: ائتوه بالكتاب وقائل يقول: لا غير ذلك، ويذهبون ويعودون إليه صلى الله عليه وسلم فحينها قال القائل: أهجر؟ استفهاماً واستنكاراً لا إقراراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وقد غلبه الوجع:"قوموا عني فالذي أنا فيه خير .. ".

وقال شيخ الإسلام:" فحصل لهم شك هل قوله: أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده هو مما أوجبه المرض أو هو الحق الذي يجب اتباعه وإذا حصل الشك لهم لم يحصل به المقصود فأمسك عنه، وكان لرأفته بالأمة يحب أن يرفع الخلاف بينها ويدعو الله بذلك ولكن قدر الله قد مضى بأنه لا بد من الخلاف كما في الصحيح عنه أنه قال:"سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها وسألته أن لا يهلهكم بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها

" (1).

إذن فهذه الشبه باطلة جملة وتفصيلاً لا تثبت بحق عمر رضي الله عنه ولا حتى في حق الصحابة الكرام، وإنما جل المسألة: أن بعض الصحابة ممن قرب دخوله الإسلام قال: (أهجر)؟ استفهاماً أو طلباً لاستفهامه كما يفعل مع المحتضر ليرى هل خلّط أو لا؟ -حاشاه صلى الله عليه وسلم لما رأى هؤلاء الجدد على الاسلام من حال لم يعرفوها عن النبي صلى الله عليه وسلم،أما عمر والصحابة الآخرون فهم أشد تعظيماً وتوقيراً له صلى الله عليه وسلم لأنهم أعرف الناس بنبيهم وسيدهم صلى الله عليه وسلم.

ثم لا أجد تفسيراً لهذه الحرقة المصطنعة على لفظة (غلبه الوجع، أهجر) وهما حمّالتا أوجه، ثم تأمل في هذا النص الذي نقله القوم في كتبهم وتلقوه بالقبول والتصديق وفيه تصريح واضح منهم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم هجر؟ -حاشاه-بأبي هو وأمي ونفسي والناس أجمعين.

فروى الصدوق في أماليه بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنه قال:"ثم أغمي على رسول لله صلى الله عليه وآله فدخل بلال وهو يقول: الصلاة رحمك الله، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وصلى بالناس، وخفف الصلاة. ثم قال: ادعوا لي علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد، فجاءا فوضع صلى الله عليه وآله يده على عاتق علي عليه السلام، والأخرى على أسامة ثم قال: انطلقا بي إلى فاطمة. فجاءا به حتى وضع رأسه في حجرها، فإذا الحسن والحسين عليهما السلام يبكيان ويصطرخان وهما يقولان: أنفسنا لنفسك الفداء، ووجوهنا لوجهك الوقاء. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله من هذان يا علي؟ قال: هذان ابناك الحسن والحسين. فعانقهما وقبلهما"(2).

(1) منهاج السنة 8/ 572.

(2)

الأمالي للصدوق ص732 - 735 وانظر بحار الأنوار للمجلسي22/ 510 والفتال النيسابوري في روضة الواعظين ص74. ولو قالوا –مثلاً- هذه الرواية غير ثابتة أو ضعيفة لكان خيراً لهم والعجيب أنهم يصححونها ويتلقونها بالتصديق والاحتجاج حتى اختارت لجنة حديثية علمية متخصصة في معهد باقر العلوم انتخاب هذه الرواية من ضمن كلمات الحسين وضمن كتاب أسموه: كلمات الإمام الحسين ص98 دار المعروف بطهران.

ص: 30