المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الأول: مضمون الكتاب الذي هم النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته - حديث رزية يوم الخميس في الصحيحين

[عبد القادر المحمدي]

الفصل: ‌المطلب الأول: مضمون الكتاب الذي هم النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته

وقد أثار أصحاب البدع شبهات كثيرة حول هذا الحديث، متعكزين في ذلك على بعض الألفاظ المتشابهة في بعض طرق الحديث وسنحاول في هذا البحث عرض تلك الشبه والرد عليها إن شاء الله تعالى.

‌المبحث الثاني

شبهات حول الحديث

‌المطلب الأول: مضمون الكتاب الذي هم النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته

.

أما عن مضمون الكتاب الذي عزم النبي صلى الله عليه وسلم على كتابته للمسلمين فقد اختلف فيه على أقوال:

قال الإمام النووي:" اختلف العلماء في الكتاب الذي هم النبي صلى الله عليه وسلم به فقيل أراد أن ينصّ على الخلافة في إنسان معين لئلا يقع نزاع وفتن، وقيل: أراد كتاباً يبين فيه مهمات الأحكام ملخصة ليرتفع النزاع فيها ويحصل الاتفاق على المنصوص عليه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم هم بالكتاب حين ظهر له أنه مصلحة أو أوحي إليه بذلك ثم ظهر أن المصلحة تركه أو أوحي إليه بذلك ونسخ ذلك الأمر الأول وأما كلام عمر رضي الله عنه فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره لأنه خشي أن يكتب صلى الله عليه وسلم أمورا ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها فقال عمر:"حسبنا كتاب الله"، لقوله تعالى:"ما فرطنا في الكتاب من شيء"، وقوله:" اليوم أكملت لكم دينكم "،فعلم أن الله تعالى أكمل دينه فأمن الضلال على الأمة وأراد الترفيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان عمر أفقه من ابن عباس وموافقيه"(1).

وقال البيهقي:" وإنما أراد ما حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أن يكتب استخلاف أبي بكر ثم ترك كتابته اعتمادا على ما علم من تقدير الله تعالى ذلك، كما هم به في ابتداء مرضه حين قال: وارأساه، ثم بدا له أن لا يكتب وقال يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ثم نبه أمته على خلافته باستخلافه إياه في الصلاة حين عجز عن حضورها

" (2).

وقال ابن حجر:" وهذا يدل على أن الذي أراد أن يكتبه لم يكن أمرا متحتماً لأنه لو كان مما أمر بتبليغه لم يكن يتركه لوقوع اختلافهم ولعاقب الله من حال بينه وبين تبليغه ولبلغه لهم لفظا كما أوصاهم بإخراج المشركين وغير ذلك"(3).

وقد اختلف أهل العلم في مضمونه على أقوال:

(1) شرح النووي 11/ 76،وينظر إكمال المعلم 5/ 379،وعمدة القاري3/ 328،وفتح الباري 1/ 209.

(2)

دلائل النبوة 7/ 144.

(3)

فتح الباري 8/ 134.

ص: 15

1 -

أنه أراد أن ينصَّ على خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

وقد حكى هذا القول سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله (1) وإليه ذهب البيهقي (2) والقرطبي (3)،وشيخ الإسلام ابن تيمية (4)، والسويدي (5)،وذكر القاضي عياض:" أن الكتاب كان في أمر الخلافة وتعيينها من غير أن يشير إلى أبي بكر"(6).

ويؤيده ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه:"ادعي لي أبا بكر: أباك وأخاك حتى اكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر"(7).وهذا الحديث نص في موضع النزاع، وهو من أقوى الأدلة لمن قال بتنصيص النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه.

وأخرج البخاري ومسلم عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال:" أتت امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك ـ كأنها تريد الموت ـ قال صلى الله عليه وسلم: إن لم تجديني فأتِ أبا بكر"(8).

على أنّ الصديق لم يدع وصية به! لما وقع الخلاف في سقيفة بني ساعدة، بل أشار عليهم بعمر أو أبي عبيدة رضي الله عنهم؟

2 -

أنه أراد أن يكتب بعض المسائل الفقهية المهمة التي ستطرأ على الأمة (9).

3 -

ذهبت الشيعة الإمامية إلى أنه أراد أن يوصي لعلي رضي الله عنه بالخلافة من بعده.

نص على ذلك كل أئمة الشيعة، وهو من أصول دينهم ومعتقدهم.

ومن ذلك ما نقله الكليني عن موسى بن جعفر رحمه الله تعالى قال: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أليس كان أمير المؤمنين كاتب الوصية ورسول الله (ص) المملي عليه وجبرئيل والملائكة المقربون عليهم السلام؟ قال: فأطرق طويلاً ثم قال: يا أبا الحسن قد كان ما قلت؛ ولكن حين نزل برسول الله (ص) الأمر نزلت الوصية من عند الله كتاباً مسجلا ً نزل بها جبرئيل مع أمناء الله تبارك وتعالى من الملائكة فقال جبرائيل: يا محمد

(1) شرح النووي 11/ 76.

(2)

دلائل النبوة 7/ 144.

(3)

المفهم 4/ 558.

(4)

منهاج السنة 23.

(5)

الصارم الحديد في عنق صاحب سلال الحديد 2/ 48.

(6)

الشفا 2/ 890.

(7)

أخرجه أحمد 6/ 144،ومسلم 7/ 110،وغيرهما. ٍ

(8)

برقم (3659).

(9)

ينظر: إكمال المعلم 5/ 379،وشرح النووي 11/ 76،وعمدة القاري3/ 328،وفتح الباري 1/ 209.

ص: 16

مُر بإخراج من عندك إلا وصيك ليقبضها منّا وتشهدنا بدفعك إياها إليه ضامناً لها ـ يعني علياً (ع) - وفاطمة فيما بين الستر والباب

" (1).

ومنه: قال سليم بن قيس الهلالي:" سمعت سلمان يقول: سمعت علياً (ع) بعد ما قال ذلك الرجل (عمر) ما قال وغضب رسول الله (ص) ودفع الكتف: ألا نسأل رسول الله (ص) عن الذي كان أراد أن يكتبه في الكتف مما لو كتبه لم يضل أحد ولم يختلف اثنان فسكت حتى إذا قام من في البيت وبقي علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وذهبنا نقوم وصاحبي أبو ذر والمقداد قال لنا علي (ع): اجلسوا. فأراد أن يسأل رسول الله (ص) ونحن نسمع فابتدأه رسول الله (ع) فقال: ((يا أخي أما سمعت ما قال عدو الله أتاني جبرئيل (ع) قبل فأخبرني أنه سامري هذه الأمة (2)، وأن صاحبه عجلها (3)،وأن الله قد قضى الفرقة والاختلاف على أمتي من بعدي فأمرني أن اكتب ذلك الكتاب الذي أردت أن أكتبه في الكتف لك وأشهد هؤلاء الثلاثة عليه أدع لي بصحيفة. فأتى بها فأملى عليه أسماء الأئمة الهداة من بعده رجلا ً رجلاً وعلي (ع) يخط بيده وقال رسول الله (ص): إني أشهدكم أن أخي ووزيري ووارثي وخليفتي على أمتي علي بن أبي طالب ثم الحسن ثم الحسين ثم من بعدهم تسعة من ولد الحسين

" (4).

وروى الطوسي (شيخ الطائفة) بسنده عن جعفر الصادق عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما قبض الله نبياً إلا أمره أن يوصي إلى أفضل عشيرته من عصبته وأمرني أن أوصي. فقلت: إلى من يا رب؟ فقال: أوص يا محمد إلى ابن عمك علي بن أبي طالب فإني قد أثبته في الكتب السالفة وكتبت فيها أنه وصيك، وعلى ذلك أخذت ميثاق الخلائق ومواثيق أنبيائي ورسلي أخذت مواثيقهم لي بالربوبية ولك يا محمد بالنبوة ولعلي بالولاية"(5).

قلت نعم، ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وأوصى وصيته، فأوصى بكتاب الله تعالى، وبالصلاة، وبالنساء، وبالوصايا الثلاث في هذا الحديث وغيرها مما ثبت، وقد سئل ابن أبي أوفى عن مثل هذا السؤال، كما أخرج ابن

(1) الكافي1/ 311.

(2)

يريد الفاروق عمر رضي الله عنه! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

(3)

يريد أبا بكر الصدّيق! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

(4)

كتاب سليم بن قيس الهلالي ص398،وينظر غيبة النعماني ص81.

(5)

أمالي الشيخ الطوسي 1/ 102.

ص: 17

حبان عن طلحة بن مصرف قال:"سئلت عبد الله بن أبي أوفى: هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما ترك شيئا يوصي فيه. قيل: فكيف أمر الناس بالوصية ولم يوص؟ قال: أوصى بكتاب الله"(1).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"من جهل الرافضة أنهم يزعمون أن ذلك الكتاب كان كتابه بخلافة علي وهذا ليس في القصة ما يدل عليه بوجه من الوجوه ولا في شيء من الحديث المعروف عند أهل النقل أنه جعل عليا خليفة كما في الأحاديث الصحيحة ما يدل على خلافة أبي بكر ثم يدعون مع هذا أنه كان قد نص على خلافة علي نصا جليا قاطعا للعذر فإن كان قد فعل ذلك فقد أغنى عن الكتاب وإن كان الذين سمعوا ذلك لا يطيعونه فهم أيضا لا يطيعون الكتاب فأي فائدة لهم في الكتاب لو كان كما زعموا؟ "(2).

وقال ابن كثير رحمه الله تعالى:"وهذا الحديث مما قد توهم به بعض الأغبياء من أهل البدع من الشيعة وغيرهم كل مدع أنه كان يريد أن يكتب في ذلك الكتاب ما يرمون إليه من مقالاتهم، وهذا هو التمسك بالمتشابه. وترك المحكم وأهل السنة يأخذون بالمحكم، ويردون ما تشابه إليه، وهذه طريقة الراسخين في العلم كما وصفهم الله عز وجل في كتابه، وهذا الموضع مما زل فيه أقدام كثير من أهل الضلالات، وأما أهل السنة فليس لهم مذهب إلا اتباع الحق يدورون معه كيفما دار، وهذا الذي كان يريد عليه الصلاة والسلام أن يكتبه قد جاء في الأحاديث الصحيحة التصريح بكشف المراد منه"(3).يريد خلافة أبي بكر والله أعلم.

ونقول: إنّ في إثبات مثل هذه النصوص واعتقادها أموراً خطيرة للغاية قد توصل صاحبها إلى الكفر والعياذ بالله، فالوصية إن ثبتت كانت واجباً شرعياً ضرورياً لا يصح مخالفته أو تركه أو إنكاره ويكفر منكره ولازمه أنّ عامة الصحابة كفروا وارتدوا؟ وهو معارض بنصوص القرآن الكريم فقد جاء في أكثر من موضع امتداحهم والرضى عنهم، فمن ذلك:{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} التوبة100،وقال:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} الفتح18،وقال:{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} الفتح29.

(1) أخرجه ابن حبان (6130).

(2)

منهاج السنة 6/ 315.

(3)

البداية والنهاية 5/ 248.

ص: 18

ثم من المعروف أن القرآن كان ينزل لحوادث معينة أو بغيرها ولكنه في أمات القضايا وطوارئ الأمور كان ينزل في ساعته، حتى كان بعض المنافقين يحذرون من نزول آية أو سورة تكشف عورتهم، قال تعالى:{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} التوبة64.

وكان الصحابة يحذرون مثل ذلك من شدة تقواهم وورعهم فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:" لما أصيب حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه خرج زيد بن حارثة حتى أقدم ابنة حمزة، وقال: أنا أحق بها تكون عندي؛ تجشمت السفر، وهي ابنة أخي. وقال علي بن أبي طالب: أنا أحق بها تكون عندي، وهي ابنة عمي، وعندي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال جعفر بن أبي طالب: أنا أحق بها، لي مثل قرابتك، وعندي خالتها، والخالة والدة. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنا أقضي بينكم في ذلك وفي غيره ". قال علي: فتخوفت أن يكون قد نزل فينا قرآن لرفعنا أصواتنا، .... الحديث"(1).

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"كنا نتقي الكلام والانبساط إلى نسائنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم هيبة أن ينزل فينا شيء فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم تكلمنا وانبسطنا"(2).

ومنه أيضاً: ما رواه سلمة بن صخر الأنصاري رضي الله عنه قال: كنت رجلا قد أوتيت من جماع النساء ما لم

يؤت غيري فلما دخل رمضان تظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان فرقا من أن أصيب منها في ليلتي فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار وأنا لا أقدر أن أنزع فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فوثبت عليها فلما أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري فقلت انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بأمري فقالوا لا والله لا نفعل نتخوف أن ينزل فينا قرآن أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة يبقى علينا عارها ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك .... الحديث (3).

فتأمل مثل ذلك، وحذر الصحابة من نزول قرآن فيهم، ثم يأتي مفتر ٍ أشر يتهمهم بالنكوص وإنكار أمر شرعي وأصل من الأصول –كما يزعمون-.

وهنا سؤال مهم: لماذا لم يتنزل القرآن في هذه الحادثة والنبي صلى الله عليه وسلم عاش بعدها أربعة أيام؟ إذن إثبات هذه الوصية معارض بالقرآن الكريم، ومعارض بقول علي رضي الله عنه فقد نقلوا عنه في خطبته حينما دعوه إلى البيعة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه أنه قال فيها:" دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان، لا تقوم له

(1) أخرجه أحمد 1/ 98 و115،أبو داود (2280) والنسائي في الكبرى (8402) والطحاوي –واللفظ له-في شرح مشكل الآثار 7/ 107،وغيرهم. ٍوالحديث أصله في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري (4788).

(3)

أخرجه الترمذي (3221).

ص: 19

القلوب، ولا تثبت عليه العقول

إلى أن قال: وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزير خير لكم مني أمير " (1).

فكيف يرفض تكليفاً شرعياً، ومستحقاً له منع منه لعقود من الزمن؟ ثم ما حكمه من الناحية الشرعية؟ هل سيجر حكمهم في علي رضي الله عنه كما قالوا في الصحابة؟

ونقل عن علي رضي الله عنه أيضاً في نهج البلاغة مخاطباً طلحة والزبير:" والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة، ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها "(2).

فتأمل في قوله (رغبة) وقوله (دعوتموني .. حملتموني) فأين هي الوصية؟

وأورد الطبري في تاريخه أنّ علياً ارتقى في يوم الجمعة أعواد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول خطبة له، وقال:"أيها الناس -عن ملأٍ واُذُنٍ -إنّ هذا أمركم، ليس لأحد حق إلا أن أمرتم. وقد افترقنا في الأمس على أمر -أي على البيعة له -فإن شئتم قعدت لكم، وإلا فلا أجد على أحد"(3).

فعلي رضي الله عنه " يعلن على رؤوس الأشهاد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم،وعلى منبره وبعد البيعة له أنه لا يستمد الخلافة من حق يدعيه ولا من شيء سبق، بل يستمدها من البيعة إذا ارتضها الأمة، وإلا فإنه - كإخوانه الثلاثة الذين سبقوه - أرفع من أن يجعلها أكبر همه وغرض نفسه. هذا هو الذي وقع، وهذه الحقائق صدرت من فم علي بن أبي طالب نفسه، ومن سنة 35هـ إلى اليوم الذي تحاور فيه الإمام زيد بن علي بن الحسين مع شيطان الطاق لم يخطر على بال أحد من آل البيت، لا علي، ولا الحسن، ولا الحسين، ولا علي بن الحسين، ولا محمد بن الباقر، ولا غيرهم - أن هناك إمامة لآل البيت كما اخترعها شيطان الطاق فأساء بذلك إلى الإسلام وإلى آل البيت، وإلى أمة محمد جميعاً، فالله حسبه "(4).

وأتساءل هنا: ما الحكم -عندهم- فيمن أنكر هذه الوصية وخالفها؟

قال الصدوق (ابن بابويه القمي):" اعتقادنا فيمن جحد إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمة من بعده أنه كمن جحد جميع الأنبياء، واعتقادنا فيمن أقر بأمير المؤمنين وأنكر واحدا من بعده من الأئمة إنه بمنزلة من أقر بجميع الأنبياء، ثم أنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم "(5).

(1) نهج البلاغة ص 178، 179 شرح محمد عبده.

(2)

نهج البلاغة ص 397 شرح محمد عبده

(3)

تاريخ الطبري 6/ 157.

(4)

مختصر التحفة الأثني عشرية ص263

(5)

الاعتقادات للقمي ص111.

ص: 20

وقال الطوسي:" ودفع الإمامة كفر، كما أن دفع النبوة كفر لأن الجهل بهما على حد واحد "(1).

فعلي رضي الله عنه حينما رفضها ههنا هل يعد كافراً –حاشاه-أو لا؟ فإن قالوا: لا؟ نقول: تناقضتم! فمن باب أولى أنّ من أنكرها من عامة الناس غير كافر فالجاهل يعذر!

ثم إن كانت الوصية لعلي رضي الله عنه واجبة وتركها النبي صلى الله عليه وسلم فقد زعمتم أنه خان الرسالة-حاشاه رضي الله عنه؟!

ثم كيف يبايع علي رضي الله عنه أئمة ضلالة خائنين لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حاشاهم –فهو إما أنه بايع أو لا، والثابت عند الجميع أنه بايع (2)؟،فإن اعتذرتم أنها تقية! قلنا: فأين التقية في إقراره بالبيعة بعد خلافته؟ فقد جاء في نهج البلاغة قول علي رضي الله عنه وهو يذكر أمر الخلافة والإمامة: " رضينا عن الله قضاءه، وسلمنا لله أمره ....... فنظرت في أمري فإذا طاعتي سبقت بيعتي إذ الميثاق في عنقي لغيري "(3).

ويقول علي البحراني في منار الهدى:" ولما رأى ذلك تقدم إلى الصديق، وبايعه المهاجرون والأنصار، والكلام من فيه وهو يومئذ أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، لا يتقي الناس، ولا يظهر إلا ما يبطنه لعدم دواعي التقية، وهو يذكر الأحداث الماضية فيقول: (فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر، فبايعته، ونهضت في تلك الأحداث فتولى أبو بكر تلك الأمور فسدد ويسر وقارب واقتصد فصحبته مناصحاً، وأطعته فيما أطاع الله جاهدا "(4).

وقد جاء في نهج البلاغة نصّ علي رضي الله عنه على خلاف زعمهم في تنصيصه بالوصية، واحتج لصحة خلافته بالشورى لما أرسل إلى معاوية رضي الله عنه:" إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضىً فإن خرج منهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى "(5). وهنا يستدل عليٌّ رضي الله عنه على صحة خلافته وانعقاد بيعته بصحة بيعة من سبقه، وهذا يعني أن عليا رضي الله عنه كان يعتقد بشرعية خلافة أبى بكر وعمر وعثمان، وأن الإمامة والخلافة تنعقد باتفاق المسلمين واجتماعهم على شخص معين، فاجتماع الأنصار والمهاجرين عليهم لم يبق للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، فأين الوصية به وبابنائه من بعده؟

(1) تلخيص الشافي4/ 131، وبحار الأنوار 8/ 368.

(2)

ينظر كتاب سليم بن قيس الهلالي ص119،وأصل الشيعة وأحوالها لمحمد الحسين آل كاشف الغطاء ص69.

(3)

نهج البلاغة ص 81 خطبة 37 ط بيروت بتحقيق صبحي الصالح، ونهج البلاغة شرح محمد عبده ص 95 - 96.

(4)

منار الهدى / لعلي البحراني ص 373، وأيضا ناسخ التواريخ 3/ 532.

(5)

نهج البلاغة ص246،247. شرح محمد عبده.

ص: 21

وقد أوردوا في مصادرهم عن علي بن أبي طالب أنه مدح الخلفاء الراشدين من قبله فقال –مثلاً- في عمر رضي الله عنه في خطبته: " ووليهم والٍ فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه "(1).قال شراح نهج البلاغة "

هذا الوالي هو عمر بن الخطاب" (2).

وقال مادحاً عثمان رضي الله عنه:" والله ما أدري ما أقول لك؟ ما أعرف شيئا تجهله، ولا أدلك على أمر لا تعرفه، إنك لتعلم ما نعلم ما سبقناك إلى شيءٍ فنخبرك عنه ولا خلونا بشيء فنبلغكه، وقد رأيت كما رأينا وسمعت كما سمعنا وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صحبنا وما ابن قحافة ولا ابن الخطاب بأولى لعمل الحق منك وأنت أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشيجة رحم منهما وقد نلت من صهره مالم ينالا "(3).

وهو كلام صريح من علي في مدح عثمان رضي الله عنهما بمدح لا أعرف أحداً من الصحابة ولا من بعدهم إلى يوم الناس هذا مدح عثمان رضي الله عنه بمثل هذا الكلام، وهو إقرار صريح منكم بقرب وفضل الصديق والفاروق وعثمان من الحق.

ثم تأمل نفي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لتلك الوصية وغيرها: فعن الأسود قال: ذكروا عند عائشة أنّ علياً رضي الله عنهما كان وصياً فقالت:"متى أوصى إليه وقد كنت مسندته إلى صدري. أو قالت: حجري فدعا بالطست فلقد انخنث في حجري فما شعرت أنه قد مات فمتى أوصى إليه"(4).

فعائشة رضي الله عنها لم تنفِ صدور مطلق الوصية منه صلى الله عليه وسلم إذ ثبتت وصيته صلى الله عليه وسلم بإخراج المشركين من جزيرة العرب وإجازة الوفد وتجهيز جيش أسامة رضي الله عنه،وإنما نفت الوصية لعلي رضي الله عنه سواء أرادت نفي وصيته صلى الله عليه وسلم بفدك أو باستخلافه رضي الله عنه.

وهذا يدلنا على عمق امتداد هذه الشبهة ووقوعها في وقت مبكر، ومحاولة بعض الناس استغلالها في مشاريعهم المشبوهة ضد الإسلام من خلال بث الشبهات والشهوات في الأمة، لذا طالما سئل علي رضي الله عنه:هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: لا؟

(1) نهج البلاغة بشرح أبي حديد 4/ 519.

(2)

شرح أبي حديد 4/ 519،وكذا شرح ميثم البحراني 5/ 463،والدرة النجفية ص394. والحديث أصله في مسند أحمد:"عن علي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الجمل: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا عهدا نأخذ به في الإمارة ولكنه شيء رأيناه من قبل أنفسنا ثم استخلف أبو بكر رحمة الله على أبي بكر فأقام واستقام ثم استخلف عمر رحمة الله على عمر فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه".وفي إسناده رجل مجهول لا يعرف.

(3)

نهج البلاغة ص 291 شرح محمد عبده، وشرح أبي الحديد 9/ 261.

(4)

أخرجه البخاري (2536)،ومسلم8/ 124 (1636)،وغيرهما.

ص: 22

ونصّ النوبختي في كتابه فرق الشيعة –وهو من كتبهم المعتمدة-على أن أول من أثار هذه الشبهة، وزعم أنّ علياً وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عبد الله بن سبأ اليهودي، فقال:"السبأية أصحاب عبد الله بن سبأ وكان ممن أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة وتبرأ منهم وقال إن عليا عليه السلام أمره بذلك فأخذه علي فسأله عن قوله هذا فأقر به فأمر بقتله فصاح الناس إليه يا أمير المؤمنين أتقتل رجلا يدعو إلى حكم أهل البيت وإلى ولايتك والبراءة من أعدائك فصيره إلى المدائن، وحكى جماعة من أهل العلم من أصحاب علي عليه السلام أن عبد الله بن سبأ كان يهوديا فأسلم ووالى عليا عليه السلام، وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون بعد موسى عليه السلام بهذه المقالة فقال في إسلامه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في علي عليه السلام بمثل ذلك، وهو أول من شهر القول بفرض إمامة علي عليه السلام وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه فمن هناك قال من خالف الشيعة أن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية"(1).

وروى البخاري بإسناده عن أبي جحيفة، قال: سألنا علياً فقلنا: هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إلا أن يعطي الله، ٍعز وجل، عبدا فهما في كتابه، أو ما في هذه الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: فيها العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر" (2).

وفي رواية لمسلم: عن أبي الطفيل قال: سئل علي أخصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يعم به الناس كافة إلا ما كان في قراب سيفي هذا، قال: فأخرج صحيفة مكتوب فيها:" لعن الله من ذبح لغير الله ولعن الله من سرق منار الأرض ولعن الله من لعن والده ولعن الله من آوى محدثا "(3).

وقال المهلب: "في حديث علي من الفقه ما يقطع بدعة المتشيعة المدعين على علىِّ أنه الوصي، وأنه المخصوص بعلم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخص به غيره، لقوله ويمينه: أن ما عنده إلا ما عند الناس من كتاب الله تعالى، ثم أحال على الفهم الذي الناس فيه على درجاتهم، ولم يخص نفسه بشيء غير ما هو ممكن في غيره فصح بهذا وثبت من إقراره على نفسه أنه ليس بوصي للنبي صلى الله عليه وسلم "(4).

(1) فرق الشيعة ص22.

(2)

أخرجه البخاري (111) و (3047) وغيرها من المواضع.

(3)

أخرجه مسلم 3/ 1567 (1978).

(4)

شرح ابن بطال 1/ 188.

ص: 23