المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثالثقول عمر رضي الله عنه حسبكم كتاب الله - حديث رزية يوم الخميس في الصحيحين

[عبد القادر المحمدي]

الفصل: ‌المطلب الثالثقول عمر رضي الله عنه حسبكم كتاب الله

ولا أدري عدم معرفة الرجل لولديه في ساعة الموت ما يسمى؟ وهي وهذه الرواية -المنكرة - لو سلمنا لهم بصحتها أليس فيها عذر لمن قال من الصحابة: أهجر؟ ولا أدري لماذا هم مفتونون بتتبع المتشابهات عند غيرهم ولا يبصرون الأوابد والطامات في كتبكم؟،وأين الإنصاف والموضوعية في البحث والجدال.

‌المطلب الثالث

قول عمر رضي الله عنه حسبكم كتاب الله

وأما ما ادعوه من اعتراض عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (عندكم كتاب الله، حسبنا كتاب الله) وأنه لم يمتثل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أراد من كتابة الكتاب، فالرد عليه: أنه ليس في قول عمر هذا الاحتمال، أي اعتراض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم امتثال أمره كما قد يتوهم، ويرد عليهم:

1 -

أنّ قول عمر رضي الله عنه: (حسبنا كتاب الله) حسم للخلاف الذي وقع بين الحاضرين لا على أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ظاهر من قوله:(عندكم كتاب الله) فإن المخاطب جمع وهم المخالفون لعمر رضي الله عنه في رأيه. وإلا فعمر رضي الله عنه هو من اشد الناس إتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم.

ثم لو ادعى مدعٍ أنّ عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه كان ممن قال بقول عمر رضي الله عنه أو ممن خالفه لما وجد إلى ذلك سبيلاً فاحتمال الأمرين جائز.

2 -

أنّه ظهر لعمر رضي الله عنه ومن كان على رأيه من الصحابة، أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بكتابة الكتاب ليس على الوجوب، وأنه من باب الإرشاد إلى الأصلح، وقد نبه على هذا القاضي عياض (1)، والقرطبي (2)، والنووي (3)، وابن حجر (4).

ثم إنه قد ثبت بعد هذا صحة اجتهاد عمر صلى الله عليه وسلم وذلك بترك الرسول صلى الله عليه وسلم كتابة الكتاب، ولو كان واجباً لم يتركه لاختلافهم، لأنه لن يترك التبليغ لمخالفة من خالف، ولهذا عد هذا من موافقات عمر رضي الله عنه.

قال القرطبي في سبب اختلافهم:"وسبب ذلك أن ذلك كله إنما حمل عليه الاجتهاد المسوغ، والقصد الصالح، وكل مجتهد مصيب، أو أحدهما مصيب، والآخر غير مأثوم بل مأجور كما قررناه في الأصول "(5).

(1) إكمال المعلم 5/ 381.

(2)

المفهم 4/ 560.

(3)

شرح مسلم 11/ 78.

(4)

فتح الباري 8/ 134.

(5)

المفهم 4/ 560.

ص: 31

ثم صح عن علي رضي الله عنه أنه رفض محو كلمة (رسول الله صلى الله عليه وسلم) لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية أن يفعل ذلك؟ فهل تعد مخالفة؟ الجواب قطعاً: لا؟ وهذه كتلك، فتأمل.

وحتى على قول من قال إنّ خطاب عمر رضي الله عنه لما قال (حسبنا كتاب الله) أراد التوقف عن الإتيان بالكتاب فلم يفهم من قول عمر رضي الله عنه أنه قصد الاستغناء عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم،ومن زعم ذلك من المبتدعة فهو زعم لا دليل عليه، لأن عمر رضي الله عنه لم يرد بقوله هذا الاستغناء عن بيان السنة المطهرة، بل قال ما قاله لما قام عنده من القرينة بالاجتهاد السائغ على أنّ كتابة هذا الكتاب مما سبق تأصيله في كتاب الله عز وجل.

وقال الخطابي: "لم يتوهم عمر الغلط فيما كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد كتابته، بل امتناعه محمول على أنه لما رأى ما هو فيه من الكرب وحضور الموت خشي أن يجد المنافقون سبيلاً إلى الطعن فيما يكتبه وإلى حمله على تلك الحالة التي جرت العادة فيها بوقوع بعض ما يخالف الاتفاق فكان ذلك سبب توقف عمر رضي الله عنه، لا أنه تعمد مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم ولا جواز الغلط عليه حاشا وكلا "(1).

وقال النووي:" أما كلام عمر رضي الله عنه فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر رضي الله عنه وفضائله ودقيق نظره، لأنه خشي أن يكتب صلى الله عليه وسلم أموراً ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها فقال عمر: حسبنا كتاب الله لقوله تعالى {ما فرطنا في الكتاب من شيء} وقوله تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم} فعلم أنّ الله تعالى أكمل دينه فأمن الضلالة على الأمة وأراد الترفيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان عمر أفقه من ابن عباس وموافقيه"(2).

وقال ابن بطال:" فعمر أفقه من ابن عباس حين اكتفى بالقرآن الذى أكمل الله فيه الدين، ولم يكتف بذلك ابن عباس "(3).

وتُعقب ابن بطال:" بأن إطلاق ذلك مع ما تقدم ليس بجيد فإن قول عمر رضي الله عنه:حسبنا كتاب الله. لم يرد أنه يكتفى به عن بيان السنة بل لما قام عنده من القرينة وخشي من الذي يترتب على كتابة الكتاب مما تقدمت الإشارة إليه فرأى أن الاعتماد على القرآن لا يترتب عليه شيء مما خشيه. وأما ابن عباس فلا يقال في حقه لم يكتف بالقرآن مع كونه حبر القرآن وأعلم الناس بتفسيره وتأويله؛ ولكنه أسف على ما فاته من البيان بالتنصيص عليه لكونه أولى من الاستنباط والله أعلم"(4).

(1) شرح النووي 11/ 77،وفتح الباري 8/ 134.

(2)

شرح مسلم 11/ 77.

(3)

شرح البخاري1/ 189.

(4)

فتح الباري8/ 132.

ص: 32

أما عن ادعائهم أن عمر رضي الله عنه اضطهد الصحابة وغلبهم بالقوة فدونه خرط القتاد! فكيف يستطيع رجل واحد –كما جاء في رواياتهم (1) - أن يمنع النبي صلى الله عليه وسلم من تبليغ أمرٍ تزعمون أنه وصية الله ورسوله! وهو أمر لا يجوز جهله ناهيك عن نكرانه والتنكب له؟

ثم أنتم زعمتم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه مراراً وتكراراً في غدير خم وغيره –فلو سلمنا جدلاً- فما الطائل إذن من دفعه في هذا الموضع أو منعه، والناس كل الناس تعرفه؟ ولو أعملتم النظر في فريتكم هذه لوقعتم في الكفر على قواعدكم إذ تزعمون أنّ الوصية نصَّ عليها القرآن وذكرت صراحة بقوله تعالى:" {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} المائدة67.

يقول ابن تيمية رحمه الله:" ومن توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة علي فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السنة والشيعة، أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه، وأما الشيعة القائلون بأن علياً كان هو المستحق للإمامة فيقولون إنه قد نص على إمامته قبل ذلك نصاً جلياً ظاهراً معروفاً وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب، وإن قيل إن الأمة جحدت النص المعلوم المشهور فلأن تكتم كتاباً حضره طائفة قليلة أولى وأحرى، وأيضاً: فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته، ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك فلو كان ما يكتبه في الكتاب مما يجب بيانه وكتابته لكان النبي صلى الله عليه وسلم يبينه ويكتبه ولا يلتفت إلى قول أحد فإنه أطوع الخلق له، فعلم أنه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجباً ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذ إذ لو وجب لفعله ......... كما لم يترك تبليغ غير ذلك لمخالفة من خالفه ومعاداة من عاداه وكما أمر في ذلك الحال بإخراج اليهود من جزيرة العرب وغير ذلك مما ذكره في الحديث

وقد حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر رضي الله عنه، ثم ترك ذلك اعتماداً على ما علمه من تقدير الله تعالى ذلك كما هم بالكتاب في أول مرضه حين قال:"وارأساه"، ثم ترك الكتاب، وقال:"يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر"، ثم نبه أمته على استخلاف أبي بكر بتقديمه إياه في الصلاة" (2).

ثم كيف يستطيع عمر رضي الله عنه أن يقهر أمة كاملة فيهم أمثال أبي بكر وعثمان وعلي وطلحة وسعد، وهم أهل الشجاعة والدين وقد نصّ القرآن على صدقهم وشدتهم!! فيكتمونه عن الناس ولا يبلغونه، ولا ينصرون نبيهم في هذه اللحظات التي هي أشد اللحظات عليهم، لحظات الفراق وقد عرفوا بحبه واتباعه، حتى قال

(1) ينظر مثلا: إثبات الهداة، الحر العاملي1/ 549،والغيبة، للمجلسي ص150،وله أيضاً: بحار الأنوار 53/ 147وغاية المرام، لهاشم البحراني 1/ 370.

(2)

منهاج السنة 6/ 25 - 26.

ص: 33

عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه لما أرسلته قريش مفاوضاً قبل أن يسلم لما رجع إلى قريش:"

والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمدا والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما له

" (1).

فالصحابة الذين قتلوا وأوذوا وشردوا فصبروا من أجل إعلاء كلمة الحق أمام طاغية عصره أبي جهل وغيره من طواغيت الباطل في بدر الفرقان وأحد وحنين .. الخ أيعجزون عن رد رجل واحد، كائناً من كان -لو سلمنا لكم- وفي حضرة من هو أحب إليهم من أنفسهم وأموالهم والناس أجمعين؟ ولو أردنا إيراد بعض مآثرهم في توقير النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه والأدب بين يديه لما وسعنا مثل هذا البحث ولا عشرات أمثاله! ووالله لو حدثت طفلاًلم يبلغ الحلم على فطرته بمثل هكذا خرافة لاستنكرها أيما استنكار؟!،ولكن ما قولك فيمن رضع الحقد والطعن والتكفير، أعاذنا الله من الجهل والبدع. زيادة على ما في هذا القول من تهمة لكل الصحابة – ومنهم علي رضي الله عنه في دينهم وشجاعتهم.

وقد جاءت في كتب القوم نصوص كثيرة تنصّ على أنّ هناك من سمع وعلم الوصية المزعومة وهم من أبرز الصحابة جرأة وشجاعة وجلادة: كعلي بن أبي طالب والمقداد وأبي ذر وسلمان وأسامة، وطلحة والزبير، وأبي سفيان!!! وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، ومن ذلك ما يروونه:

عن سليم بن قيس الهلالي: قال الإمام علي (ع) لطلحة: " ألست قد شهدت رسول الله (ص) حين دعا بالكتف ليكتب فيها مالا تضل الأمة ولا تختلف، فقال صاحبك ما قال: (إن نبي الله يهجر) فغضب رسول الله (ص) ثم تركها قال: بلى قد شهدت ذلك. قال: فإنكم لما خرجتم أخبرني بذلك رسول الله (ص) بالذي أراد أن يكتب فيها وأن يشهد عليها العامة فأخبره جبرئيل: (إن الله عز وجل قد علم من الأمة الاختلاف والفرقة) ثم دعا بصحيفة فأملى عليّ ما أراد أن يكتب في الكتف وأشهد على ذلك ثلاث رهط: سلمان وأبا ذر والمقداد وسمى من يكون من أئمة الهدى الذين أمر الله بطاعتهم إلى يوم القيامة. فسماني أولهم ثم ابني هذا ـ وأدنى بيده إلى الحسن ـ ثم الحسين ثم تسعة من ولد ابني هذا ـ يعني الحسين- كذلك كان يا أبا ذر وأنت يا مقداد فقاموا وقالوا: نشهد بذلك على رسول الله (ص) "(2).

(1) صحيح البخاري (2529).

(2)

كتاب سليم بن قيس الهلالي ص211،وغيبة النعماني ص81.

ص: 34

فهذا سلمان وأبو ذر رضي الله عنهما، وكذا العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وأسامة وأبو سفيان وغيرهم كما نقل في نهج البلاغة (1) فهؤلاء كلهم يعلمون بوصيته صلى الله عليه وسلم لعلي –كما يزعمون- فلماذا سكتوا جميعاً! هل خوفاً من رجل واحد!؟،ومما ثبت عند الجميع أنّ الصحابة الكرام كان ينتقد أحدهم الآخر ولا يسلّم له إلا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فهل يعقل أن يرد سلمان على عمر رضي الله عنهما وهو خليفة المسلمين لثوب لبسه ويسكت عن وصية النبي صلى الله عليه وسلم في علي؟ ولا يقال إنّ علياً ومن معه كانوا مستضعفين؟ فهو قول باطل لكون الولاء في الإسلام لم يكن للعشيرة ولا للقبيلة وإنما للدين، ولو كان الأمر للعشيرة أو القبيلة لكان الأمر للأوس أو الخزرج؟ لأن أبا بكر وعمر وعلياً وعثمان رضي الله عنهم كانوا من أهل مكة والخلاف وقع في المدينة.

فعلي رضي الله عنه من أشرف قبائل العرب وأعزها بيتاً وأمنعها رجالاً فكيف يصبر على ضيم ولا سيما إن كان في الدين!! وهذه العزة والمنعة يقرون بها في كتبهم: فيروون عن علي رضي الله عنه أنه قال ليهودي:"يا أخا اليهود (2)!!! - ثم إني لو طلبت حقي لكنت أولى ممن طلبه لعلم من مضى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ومن بحضرتك منه بأني كنت أكثر عدداً وأعز عشيرة وأمنع رجالاً وأطوع أمراً وأوضح حجة وأكثر في هذا الدين مناقب وآثاراً لسوابقي وقرابتي ووراثتي ...... "(3).

فهذا النص من فمهم وهو يدينهم فلم يكن مستضعفاً كما يصورونه، وهذه فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم وزوج علي جهرت بطلبها أرض فدك وخاصمت من أجلها، فهل أرض فدك أعز على فاطمة من وصية الدين؟ وهل علي رضي الله عنه أقل شجاعة منها؟ – حاشاه- فهذه الفرية مردودة شرعاً وعقلاً، والهدف الواضح هو الطعن في علي رضي الله عنه أولاً؛ إذ يصورنه ضعيفاً مهزوماً خواراً –حاشاه- فهو أسد الله وسيف نبيه المسلط على أعداء الله تعالى.

وتأمل في هذه النصوص الباطلة التي ينقلونها فتنقلب على قائلها حجة!،فجاء في نهج البلاغة يصف حادثة السقيفة:"فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال: يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم فإنّ الناس في ظلكم ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولا يصدر أحد إلا عن رأيكم أنتم أهل العزة والمنعة، وأولو العدد والكثرة وذوو البأس والنجدة وإنما ينظر الناس ما تصنعون، فلا تختلفوا فتفسد عليكم أموركم فإن أبى هؤلاء إلا ما سمعتم فمنا أمير ومنهم أمير. فقال عمر هيهات لا يجتمع سيفان في غمد والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبيها من غيركم، ولا تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة منهم من ينازعنا سلطان محمد ونحن أولياؤه

(1) نهج البلاغة شرح أبي حديد 1/ 210.

(2)

وعجباً لهذه العقيدة التكفيرية التي تكفر الصحابة الموحدين، وتجعل من اليهود المشركين أخواناً لهم؟!.

(3)

الخصال ص374.

ص: 35

وعشيرته. فقال الحباب بن المنذر: يا معشر الأنصار املكوا أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر فإن أبوا عليكم فأجلوهم من هذه البلاد فأنتم أحق بهذا الأمر منهم فإنه بأسيافكم دان الناس بهذا الدين أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب أنا أبو شبل في عريسة الأسد، والله إن شئتم لنعيدنها جذعة. فقال عمر: إذن يقتلك الله. قال: بل إياك يقتل" (1).

وهذه القصة لا تثبت من وجه صحيح بل هي باطلة، وفيها ما فيها من الدس والطعن، إذ الثابت عن الحباب بن المنذر رضي الله عنه أنه قال: منا أمير ومنكم أمير (2)،والمهم هنا: لماذا اعترض الحباب –وسكت علي رضي الله عنهما، وأنتم تقولون هو وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهذا النص –المزعوم-يقطع أن عمر رضي الله عنه يرد ويناقش بل ويسب؟! - حاشاه – فأين زعمكم أنّ عمر رضي الله عنه الجم الصحابة كلهم ومنع الوصية؟

ثم ثبت بالسند الصحيح عندنا أن بعض الأنصار أرادوا سعد بن عبادة للخلافة في حادثة سقيفة بني ساعدة (3)،فلماذا تكلم كل هؤلاء وترك مثله علي رضي الله عنه، ولماذا لم يدلِ برأيه مثل بقية الصحابة؟ فإن قيل ترك ذلك لئلا تقع فتنة بين الصحابة؟

أجيب: ألستم من نقل قول الحباب بن المنذر –المزعوم –آنفاً: (فإن أبوا عليكم فأجلوهم من هذه البلاد)، أي: اطردوهم من المدينة، (فأنتم أحق بهذا الأمر منهم)؛لأنه يرى قومه أحق بالخلافة! فأين وصيتكم المزعومة؟، (فإنه بأسيافكم دان الناس بهذا الدين)، وهذه أوضح صورة على الدس في هذه القصة (4)،فكيف ينسبه الصحابي الجليل الحباب بن المنذر إلى نفسه وهو من البدريين! ثم يقول:(أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب أنا أبو شبل في عريسة الأسد، والله إن شئتم لنعيدنها جذعة. فقال عمر: إذن يقتلك الله. قال-احباب-: بل إياك يقتل)! وهل بعد هذه الفتنة فتنة؟ فإذا وقع المحذور بزعمكم كانت الفرصة سانحة للمطالبة بالحق الشرعي؟

والأهم من هذا كله: لو كان عمر رضي الله عنه بهذه الصورة المشوهة التي ترسمونها له من حب للدنيا وطمع في الخلافة –حاشاه-فلماذا رفض عمر الخلافة وقد دعاه إليها أبو بكر؟ أليس هذا زهداً منه ومعرفة بحق أبي بكر ومنزلته؟ وهو أهل لها وحق له ذلك.

3 -

إنّ عمر رضي الله عنه كان بعيد النظر، ثاقب البصيرة، سديد الرأي، وقد رأى أن الأولى ترك كتابة الكتاب -بعد أن تقرر عنده أن الأمر به ليس على الوجوب- وذلك لمصلحة شرعية راجحة للعلماء في توجيهها أقوال، فقيل: شفقته على رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يلحقه من كتابة الكتاب مع شدة المرض، ويشهد لهذا قوله:(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع) فكره أن يتكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشق ويثقل عليه (5) مع استحضاره قوله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} الأنعام /38، {تبياناً لكل شيء} .النحل/89.

وقيل: إنه خشي تطرق المنافقين، ومن في قلبه مرض، لما كتب في ذلك الكتاب في الخلوة، وأن يتقولوا في ذلك الأقاويل، نصّ على ذلك القاضي عياض وغيره من أهل العلم (6).

وقيل: إنه خشي أن يكتب أموراً ربما عجزوا عنها فاستحقوا العقوبة لكونها منصوصة، ورأى أن الأرفق بالأمة في تلك الأمور سعة الاجتهاد، لما فيه من الأجر والتوسعة على الأمة.

وقد يكون عمر رضي الله عنه لاحظ هذه الأمور كلها، أو كان لاجتهاده وجوه أخرى لم يطلع عليها العلماء، كما خفيت قبل ذلك على من كان خالفه من الصحابة، ووافقه عليها الرسول رضي الله عنه بتركه كتابة الكتاب، ولهذا عد العلماء هذه الحادثة من دلائل فقهه ودقة نظره.

قال النووي:"وأما كلام عمر رضي الله عنه فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث، على أنه من دلائل فقه عمر، وفضائله، ودقيق نظره"(7).

الوجه الرابع: أن عمر رضي الله عنه كان مجتهداً في موقفه من كتابة الكتاب، والمجتهد في الدين معذور على كل حال، بل مأجور لقول النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم اخطأ فله أجر "(8)، فكيف وقد كان اجتهاد عمر بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يؤثمه، ولم يذمه به، بل وافقه على ما أراد من ترك كتابة.

(1) نهج البلاغة 1/ 364.

(2)

مسند أحمد1/ 132.

(3)

صحيح البخاري (6328)

(4)

وهو على طريقتهم في الطعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم،فلا يعقل أن يصدر مثل هذا الكلام من رجل تربى في مدرسة القرآن وكنف النبي صلى الله عليه وسلم؟ بل ولا يعقلها الطفل الصغير الذي قرأ شيئاً من القرآن، فلم تأت آية في القرآن الكريم تتحدث عن النصر إلا قرنت بالله تعالى أو نسب النصر إليه تعالى، ومن ذلك قوله تعالى:{وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَاّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِندِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} آل عمران126. و {وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَاّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} الأنفال10.وكذا {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} التوبة25.و {وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} الفتح3.بل في آية تحفظها عجائز المسلمين وصغارهم: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} النصر1. ولا عجب، فهذا ديدنهم، فهم يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم حاشاه- أنه فشل في تربية أصحابه، يقول الخميني:" إن رسول الله قد فشل في تربية أصحابه" خطاب ألقاه في إذاعة طهران بمناسبة مولد الرضا 15 شعبان1400هـ، وينظر أحاديث يحتج بها الشيعة، عبد الرحمن دمشقية 1/ 198.

(5)

انظر: الشفا للقاضي عياض 2/ 888، وشرح صحيح مسلم للنووي 11/ 90، وفتح الباري لابن حجر 1/ 209.

(6)

انظر: الشفا 2/ 889، وشرح النووي 2/ 92.

(7)

شرح النووي 11/ 76.

(8)

رواه البخاري من حديث عمرو بن العاص (7352)، ومسلم 3/ 1342 (1716).

ص: 36

وأما قولهم: إنّ الأكثرية الساحقة كانت على قول عمر رضي الله عنه، ولذلك رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عدم الجدوى من كتابة الكتاب، لأنه علم بأنهم لن يمتثلوه بعد موته. فهذا الكلام مع ما فيه من الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم والطعن على الصحابة بمجرد التخرص والظنون الكاذبة، فهو دليل على جهل مركب، إذ الرسول صلى الله عليه وسلم مأمور بالتبليغ سواء استجاب الناس أو لم يستجيبوا، قال تعالى:{وَأَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} المائدة92. فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بكتابة الكتاب، ما كان ليتركه لعدم استجابة أصحابه، كما أنه لم يترك الدعوة في بداية عهدها لمعارضة قومه وشدة أذيتهم له، بل بلّغ ما أُمر به، وما أثناه ذلك عن دعوته، حتى هلك من هلك عن بينة، وحيَ من حيي عن بينة (1).

فلو كان في هذا الكتاب أمر شرعي واجب التبليغ لاستحال شرعاً وعقلاً وعرفاً أنّ يتركه النبي صلى الله عليه وسلم علماً أنّ الحادثة يوم الخميس ووفاته صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين بالاتفاق فلماذا لم يبلغه بعد؟ علماً أنه أوصى بعد ذلك بغيره من الوصايا الأخرى الواردة في الحديث نفسه؟

قال النووي:"كان النبي صلى الله عليه وسلم همّ بالكتاب حين ظهر له أنه مصلحة، أو أوحي إليه ذلك، ثم ظهر أن المصلحة تركه، أو أوحي إليه بذلك ونسخ ذلك الأمر الأول"(2).

ثم لو سلمنا لهكذا شبه فستفتح علينا أبواب كثيرة أمام شبه أكبر، إذ على هذه القواعد العرجاء يستطيع أي مفتر كذاب أن يدعي ما يشاء في أي مسألة! فالدين كمل والرسالة تمت وما مات النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد بلغ الدين كله.

وقال شيخ الاسلام:"إن قيل: أن الأمة جحدت النص المعلوم المشهور، فلأن تكتم كتابا حضره طائفة قليلة أوْلى وأحرى. وأيضا فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته، ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك، فلو كان ما يكتبه في الكتاب مما يجب بيانه وكتابته، لكان النبي صلى الله عليه وسلم يبيّنه ويكتبه، ولا يلتفت إلى قول أحدٍ، فإنه أطوع الخلق له، فعُلم أنه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجباً، ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذ، إذ لو وجب لفعله، ولو أن عمر رضي الله عنه اشتبه عليه أمر، ثم تبيّن له أوشك في بعض الأمور، فليس هو أعظم ممن يفتى ويقضى بأمور ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم بخلافها، مجتهدا في ذلك، ولا يكون قد علم حكم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الشك في الحق أخف من الجزم بنقيضه"(3).

(1) الإنتصار للصحب، الرحيلي ص293،بتصرف.

(2)

شرح النووي 11/ 76،وينظر منهاج السنة 6/ 315،وفتح الباري 1/ 209.

(3)

منهاج السنة 1/ 396.

ص: 38