المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ذلك أنك ما جزيت من عصى الله فيك بمثل أن - حقيقة الإيمان

[طارق عبد الحليم]

الفصل: ذلك أنك ما جزيت من عصى الله فيك بمثل أن

ذلك أنك ما جزيت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه [إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون](1) ، وقال تعالى [وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط](2) .

وإن أرادوا أن ينكروا بما شاءوا من حجج عقلية أو سمعية فأنا أجيبهم إلى ذلك كله وأبينه بياناً يفهمه الخاص والعام أن الذي أقوله: هو الموافق لضرورة العقل والفطرة، وأنه الموافق للكتاب والسُّنَّة وإجماع سلف الأمة، وأن المخالف لذلك هو المخالف لصريح المعقول، وصحيح المنقول، فلو كنت أنا المبتدئ بالإنكار، والتحديث بمثل هذا لكانت الحجة متوجهة عليهم، فكيف إذا كان الغير هو المبتدئ بالإنكار [ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ماعليهم من سبيل](3) . [ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون](4) . [إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد](5) . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.." (6) .

‌المقدمة

إن الحمد لله نستعينه ونستغفره، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وبعد:

فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

وقد أمر الله عز وجل المؤمنين بالاعتصام بحبله، والتزام الجماعة، وذم التفرق والاختلاف في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)(7) .

قال الطبري: (عن ابن مسعود أنه قال: "واعتصموا بحبل الله جميعاً" قال: الجماعة)(8) .

(1) النحل 128.

(2)

آل عمران 120.

(3)

الشورى 41.

(4)

الصافات 171-173.

(5)

غافر 51.

(6)

من رسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية مجموع الفتاوى جـ3صـ542.

(7)

آل عمران 103.

(8)

الطبري جـ4ص30.

ص: 2

وقال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)(1) .

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطاً ثم قال: هذه سبيل الله ثم خط خطوطاً عن يمينه وخطوطاً عن يساره ثم قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها ثم قرأ هذه الآية"(2)) .

قال القرطبي: "وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية، وسائر أهل الملل وأهل البدع والضلالات من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام"(3) . ولكن لما كان أمر الله قدراً مقدوراً، ولا تبديل لكلمات الله، فقد افترقت الأمة كما أخبر عن ذلك عز وجل وكما حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة. ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم)(4) . وقال صلى الله عليه وسلم: "لتركبن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم حتى لو أن أحدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه"(5) .

كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة"(6) .

(1) الأنعام 153.

(2)

رواه ابن ماجه والدرامي واللفظ له.

(3)

القرطبي جـ7ص138.

(4)

هود 119. وقد قيل في معنى قوله تعالى (ولايزالون مختلفين) وجهين أنها في المختلفين في أصل الدين كاليهود والنصارى، والآخر أنها في أهل البدع المتفقين في أصل الدين المختلفين في الآراء. وعلى هذا يكون "إلا من رحم ربك" هم أهل السّنة. راجع الاعتصام للشاطبي جـ2ص166 إلى ص172.

(5)

أخرجه الحاكم.

(6)

رواه ابن ماجه بسنده عن أنس. وللحديث روايات أخرى اختلفت في عدد الفرق وقد حاول الشاطبي التوفيق بين هذه الروايات كلها راجع الاعتصام جـ2ص240.

ص: 3

وقال صلى الله عليه وسلم: "لاتزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك"(1)) .

فعلم من هذا يقيناً أن هذه الطائفة الناجية الظاهرة على الحق، العارفة به، هي الواجب اتباعها، وهي التي على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما جاء في إحدى روايات الحديث.

وإن هذه الفرقة الناجية - بإذن الله - هي التي تتناول النصوص - من الكتاب والسُّنَّة - متبعة في فهمها أصول النظر الصحيح والفهم السليم الذي يجب أن يفهم منها بإعتبار مفهوم خطاب العرب ولغتهم، وبإعتبار فهم مقاصد الشريعة العامة واتجاهها، وهو الفهم الذي سلكه السلف الصالح، فخط به اتجاهاً في النظر إلى الأمور نتج عنه مسلك أهل السُّنَّة والجماعة عبر العصور والقرون في فهم ما عرض من مشكلات فكرية وعقائدية، فالناس في فهم الأمور طرفان ووسط.. الطرفان إما إلى تفريط وإما إلى إفراط.

والوسط هم أهل العدل الذين قال الله تعالى فيهم: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً"(2) .

وكان من نتيجة الفرقة والاختلاف، واختلال الفهم والنظر، أن نشأت في الإسلام فرق كثيرة - سواء - عقائدية أو سياسية (3) - فرقت أهل الإسلام وجعلتهم شيعاً وأحزاباً

كل حزب بما لديهم فرحون! .

وكانت هذه الفرق - على الجملة - إما إلى تفريط - كما هو حال المرجئة - وإما إلى إفراط كما هو حال الخوارج.

(1) رواه مسلم.

(2)

البقرة 143.

(3)

راجع الفرق بين الفرق للبغدادي، الملل والنحل لابن حزم، وغيرها من كتب الفرق لترى كيف لعب الشيطان بهؤلاء الناس فمزقوا دينهم وصاروا شيعاً وأحزاباً، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ص: 4

وقد كان السبب الأساسي في إنحراف هذه الفرق عن جادة الطريق راجع إلى عدة أسباب مشتركة في منهجها بينهم، هي سمة أهل البدع والأهواء كلهم في تناول النصوص وفهمها فهماً مريضاً خادماً لفكرة أساسية اعتقدوها ابتداءً ثم حملوا عليها النصوص تأكيداً لفكرتهم وتقديماً لها على ما قصد إليه الشارع محادةً لله ولرسوله حيث يقول تعالى:(يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)(1) .

يقول الإمام ابن تيمية: "أحدها قوم اعتقدوا معاني، ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها! .

الثاني: قوم فسروا القرآن بمجرد مايسوغ أن يريده من كان من الناطقين بلغة العرب بكلامه من غير النظر إلى المتكلم بالقرآن، والمنزل عليه، والمخاطب به! .

فالأولون راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ماتستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان، والآخرون راعوا مجرد اللفظ، وما يجوز أن يريد به عندهم العربي من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم، وسياق الكلام" (2) .

وهذا النهج من النظر إلى النصوص نهج منحرف ولاشك، لأنه يؤدي إلى تضارب القرآن الكريم والسُّنَّة المطهرة، وما من فرقة من هذه الفرق الزائغة إلا وأعرضت عن بعض الآيات والأحاديث التي لم توافق مذهبها غير راغبين في الجمع بينها وبين سواها من النصوص ليتحد الفهم، ويستقيم النظر، ويخرج من مضمون قوله تعالى:(كما أنزلنا على المقتسمين. الذين جعلوا القرآن عضين" (3) .

روى الطبري في تفسيره عن الضحاك في قوله تعالى: (جعلوا القرآن عضين) جعلوا كتابهم أعضاء كأعضاء الجزور، وذلك أنهم تقطعوه زبرا، كل حزب بما لديهم فرحون، وهو قوله تعالى:(فرقوا دينهم وكانوا شيعاً)(4) .

وقد بيَّن الشاطبي مسالك أهل البدع والأهواء في الفهم السقيم، منبهاً على مسالك أهل الحق في الفهم المستقيم، في كتابه "الاعتصام".

(1) الحجرات 1.

(2)

مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية ص81.

(3)

الحجر 91.

(4)

الطبري ج14ص64..

ص: 5

يقول: "أن للراسخين طريقاً يسلكونها في اتباع الحق، وأن الزائغين على طريق غير طريقهم، فاحتجنا إلى بيان الطريق التي سلكها هؤلاء لنجتنبها، كما نبين الطريق التي سلكها الراسخون لنسلكها"(1) .

ومعالم الطريق المستقيم واضحة بينة لمن أراد الله له الهداية والتوفيق كما قال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه)(2) .

ويمكن أن نجمل بعض سمات أهل البدع والأهواء في مذهبهم في النظر والاستدلال تبعاً لما قرره أئمة أهل السُّنَّة في كتبهم فنقول، أن من طرقهم.

الإعتماد على الأحاديث الواهية الضعيفة والمكذوبة.

ردهم للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم، إما بدعوى أنها غير موافقة للعقول أو أنها غير جارية على الدليل إلى غير ذلك من الشبه.

عدم رد الفروع الجزئية إلى قواعدها الكلية واتباع المتشابه من الآيات وعدم ردها إلى المحكم.

عدم الأخذ بطريق الراسخين في العلم في تناول النصوص بالجمع بين أطراف الأدلة.

فما أجمل في مكان بُيِّن في آخر، وما أطلق في موضع قيد في آخر، وماعم في نص خصص في آخر

فالعمل بالمجملات والمطلقات والعمومات دون النظر إلى مخصصاتها ومقيداتها ومبيناتها يؤدي إلى الزيغ والهلاك.

وليس هذا موضع شرح هذه المآخذ في الاستدلال، وما يمكن أن تؤدى إليه (3) ، ولكننا أردنا أن ننبه إلى طرف منها، لنكون منبهين على تجاوز كلا الطرفين المفرطين، والمفرّطين، في حدود الله والاعتداء عليها لعدم فهمهم الأصيل لمسالك السلف في تناول النصوص.

(1) الاعتصام للشاطبي جـ1ص223.

(2)

الأنعام 153.

(3)

يراجع بحثنا التالي إن شاء الله تعالى عن "أصول الفكر والنظر عند أهل السّنة والجماعة".

ص: 6

وإن من أهم الأمور وأخطرها في عصرنا الحالي - وواقعنا الإسلامي على وجه الخصوص - هو ضرورة إزالة الالتباس الذي حدث في الفهم العام لحقيقة الإسلام والإيمان، بعد أن تجاذب الناس الطرفين الذين أشرنا إليهما في هذا السياق، فمن قائل إن الإسلام الكلمة، وإن من نطق بالشهادتين فهو المسلم عند الله تعالى لا يضره بعد ذلك عمل كائناً ما كان، ومن قائل أن الأعمال كلها - فرضها ونفلها - داخلة في الحد الأدنى للإسلام فمن ترك منها شيئاً - فرضاًأو نفلاً - أو أتى محرماً أو مكروهاً مع علمه به، كفر بالله والعياذ بالله.

وكلا القولين هو من نتاج ذلك الفهم الأعوج الذي ذكرناه، وستكون قضيتنا الأساسية هنا هي قضية من أخطر قضايا الفكر الإسلامي، وهي "دخول الأعمال في الإيمان ولزوم جنسها لصحته، والقدر المطلوب منها ليصير الرجل مسلماً، وما يجب أن يفعل، وما يجب أن يترك ليحقق إسلام المرء ظاهراً وباطناً".

وهي القضية التي تميعت في عقول الناشئة من "دعاة الإسلام" في هذا العصر، حيث خلطوا في النصوص أو اتبعوا المنهج الأعوج في الفهم، فخرجوا إلى نتائج شابهت في كثير منها ما خرجت إليه الفرق التي شذت عن أهل السُّنَّة والجماعة في مختلف العصور.

كما سنناقش بالدليل الشرعي المدعم بالنصوص الثابتة كلاً من الفريقين المفرّطين والمفرطين الذين قال عنهما ابن تيمية بحق "أن معرفة أدلة كل منهما لا تفيد إلا في هدم مذهب الآخر".

وقد قال بعض السلف: "ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط. وإما إلى مجاوزة، وهي الإفراط ولا يبالي بأيهما ظفر زيادة أو نقصان"(1) .

وبعد:

(1) مدارج السالكين لابن القيم ج2ص108.

ص: 7