المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الإيمان قول وعمل يزيد وينقص - حقيقة الإيمان

[طارق عبد الحليم]

الفصل: ‌الإيمان قول وعمل يزيد وينقص

كما يقول شارح الطحاوية "فالحاصل أن حالة اقتران الإسلام بالإيمان غير حالة إفراد أحدهما عن الآخر، فمثل الإسلام من الإيمان كالشهادتين أحدهما من الأخرى، فشهادة الرسالة غير شهادة الوحدانية، فهما شيئان في الأعيان وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم كشئ واحد، كذلك الإسلام والإيمان، لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له إذ لا يخلو المؤمن من إسلام به يتحقق إيمانه، ولا يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه"(1) .

الفصل الثاني

‌الإيمان قول وعمل يزيد وينقص

الإيمان شرعاً (2) : هو تصديق خبر الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن ربه عز وجل جملة وعلى الغيب والانقياد لشريعته والتزامها (3) .

والحديث في هذا الأمر على أصلين.

الأول: أن الإيمان قول وعمل.

الثاني: أنه يزيد وينقص.

الأصل الأول: الإيمان قول وعمل.

وتفصيل هذه الجملة أن الإيمان قول وعمل بالقلب واللسان والجوارح.

(1) شرح الطحاوية لابن أبي العز ص 251.

(2)

وأما عن الإيمان لغة فقد اختلف العلماء في تحديد معناه، فقد نقل عن بعضهم أن الإيمان لغة التصديق وهو ما ذكره ابن حجر في الفتح جـ1ص46، والكشميري في الفيض جـ1 ص 44، وصاحب المعارج جـ2 ص25. ورد هذا القول الإمام ابن تيمية في كتاب "الإيمان" من ستة عشر وجهاً أنكر فيها أن المعنى اللغوي للإيمان هو التصديق فارجع إليه ص 106 وبعدها. ونحن لا ننقل هذا الخلاف بتفصيل ولا ننازع فيه لأن لفظ الإيمان منقول عن معناه في استعمال الشرع عند من قال إن معناه اللغوي التصديق، وعند من نازع في نقله فإن معناه اللغوي مطابق للشرعي فالحاصل واحد والحمد لله.

(3)

وسيأتي بيان هذه الجملة في الفصل الثالث من هذا الباب إن شاء الله تعالى.

ص: 14

يقول شارح العقيدة الطحاوية الإمام ابن أبي العز "وهنا أصل آخر وهو أن القول قسمان: قول القلب وهو الإعتقاد (1) وقول اللسان وهو التكلم بكلم الإسلام: والعمل قسمان عمل القلب وهو نيته وإخلاصه وعمل الجوارح"(2) .

ويقول صاحب "معارج القبول": " (اعلم) يا أخي وفقني الله وإياك والمسلمين (بأن الدين) الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه ورضيه لأهل سماواته وأرضه. وأمر أن لا يعبد إلا به ولا يقبل من أحد سواه ولا يرغب عنه إلا من سفه نفسه ولا أحسن دينا ممن التزمه واتبعه هو (قول) أي بالقلب واللسان (وعمل) أي بالقلب واللسان والجوارح"(3) .

ويقول الإمام ابن القيم: "وهاهنا أصل آخر، وهو أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل. والقول قسمان: قول القلب وهو الاعتقاد، وقول اللسان وهو التكلم بكلم الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب وهو نيته وإخلاصه وعمل الجوارح"(4) .

(1) وإن الاصطلاح على تسمية قول القلب هنا "الاعتقاد" وقصره على ذلك يجب أن يفهم منه شمول الاعتقاد لمعنى الالتزام كما سيأتي بعد، وليس "الاعتقاد" أو قول القلب هو مجرد التصديق بمعنى نسبة الصدق إلى الخبر أو المخبر وإنما إن قيل هو التصديق فيعنى به التصديق المخصوص المتضمن للإقرار والالتزام والانقياد، فإنه من المعلوم من الدين بالضرورة أن من "صدق" بشريعة من شرائع الإسلام دون "الالتزام بها" التزام الطاعة بالقبول – وليس التنفيذ كما سيأتي في التفريق بينهما – كان ولا ينجيه الاعتقاد بمعنى التصديق فقط بهذا إلا تضمن الالتزام بطاعة الله فيها فيكون مسلماً، حتى وإن ترك أعمال الطاعات كسلاً أو هوى، وهذا ما سنفصله بعد في الفصل الثالث من هذا الباب إن شاء الله تعالى.

(2)

شرح العقيدة الطحاوية ص 245.

(3)

معارج القبول جـ2ص17.

(4)

كتاب الصلاة لابن القيم ص24.

ص: 15

وبيان هذه الأقسام (1) هو أن:

قول القلب: تصديقه وانقياده (2) .

قال تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون)(3) . وقال تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا)(4) . وفي حديث الشفاعة: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه من الخير ما يزن شعيرة

" (5) .

قول اللسان: وهو النطق بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله والإقرار بلوازمهما (6)

(1) راجع في بيان معاني هذه الأقسام إلى كل من شرح الطحاوية ص245 ومعارج القبول جـ2ص17 وغيرها.

(2)

وهو المعنى الذي نبهنا عليه سابقاً من أنه إذا اعتبر "الاعتقاد" هو قول القلب لزم أن يكون "قول القلب" يشمل التصديق والانقياد.

(3)

الزمر 23.

(4)

الحجرات 15.

(5)

رواه البخاري ومسلم.

(6)

وننبه هنا إلى أمرين: أولهما: أن النطق بالشهادتين المعتبر شرعاً هو المستلزم لمعرفة معناهما وتحقيق لوازمهما مع ترك ما يناقضهما، وليس هو مجرد النطق اللفظي فقط كما سنبين في الفصل الثاني من الباب الثالث، وإلا فإن الجهل بمعناهما يتنافى كلية مع معنى قول القلب السابق لقول اللسان، والذي أجمع العلماء على اعتباره ركن الإيمان، إذ كيف يجتمع الجهل بالشئ مع تصديقه والإقرار به؟! ويرجع في هذا تفصيلا لكتابنا عن عارض الجهل في الشريعة المسمى "الجواب المفيد".

ثانياً: أن المراد بالنطق بالشهادتين هو ظهور دلالة الإسلام، فإن إسلام الفارسي الذي لا يتكلم العربية يتحقق بمجرد إعلانه الإستسلام بلفظ "ميتراس" أي أسلمت، وأي دلالة على الإسلام تكون معتبرة طالما أنها تكفي للتدليل على الإنخلاع من الشرك والتبري من دين الكفر، فإن قول الشهادة يكون معتبراً في بعض الحالات كحالة عباد الأوثان فإنه يكتفي منهم بقول لا إله إلا الله لأنهم لم يكونوا عليها قبل الإسلام، وأما أهل الكتاب المعتقدين لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى العرب فلا يكتفى بنطقه الشهادتين منهم بل لابد من أن ينضم إليهما قول "إلى العرب العالم كافة" يقول الإمام النووي في شرحه على مسلم:"ذكر القاضي عياض معنى هذا وأوضحه، فقال اختصاص عصمة المال بالنفس بمن قال لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الإيمان. وأن المراد بهذا مشركو العرب وأهل الأوثان ومن لا يوحد وهم كانوا أول من دعى إلى الإسلام وقوتل عليه فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفي في عصمته بقول لا إله إلا الله إذ كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده، ولذلك جاء في الحديث الآخر وأني رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة"اهـ.

كلام القاضي شرح النووي على مسلم جـ1 ص 207.

كما نص على هذا المعنى ابن قدامة المقدسي في المغني، قال:"والثانية" أنه إن كان مقراً بالتوحيد كاليهود حكم بإسلامه لأن توحيد الله ثابت في حقه وقد ضم إليه الإقرار برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فكمل إسلامه، وإن كان غير موحد كالنصارى والمجوس والوثنيين لم يحكم بإسلامه حتى يشهد أن لا إله إلا الله وبهذا جاءت أكثر الأخبار وهو الصحيح لأن من جحد شيئين لا يزول جحدهما إلا بإقراره بهما جميعاً، وإن قال أشهد أن النبي رسول الله لم يحكم بإسلامه لأنه يحتمل أن يريد غير نبينا

وعن عمران بن حصين قال: أصاب المسلمون رجلاً من بني عقيل فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد إني مسلم فقال صلى الله عليه وسلم "لو كنت قلت وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح" رواه مسلم ويحتمل أن هذا في الكافر الأصلي أو من جحد الوحدانية، أما من كفر بجحد نبي أو كتاب أو فريضة ونحوها فلا يصير مسلماً بذلك – أي بقوله إني مسلم أو نطقه بالشهادتين – لأنه ربما اعتقد أن الإسلام ماهو عليه، فإن أهل البدع كلهم يعتقدون أنهم هم المسلمون ومنهم من هو كافر"اهـ.

المغني جـ8ص143.

ويراجع في نفس المعنى بدائع الصنائع للكاساني جـ9ص4312، فهذا المعنى متواتر في كتب الفقه والعقائد بأجمعها على اختلاف مذاهبها – فابن قدامة حنبلي والنووي شافعي والقاضي عياض مالكي والكاساني حنفي – والشاهد فيه أن نطق الشهادتين باللسان إنما هو معتبر في حالة دلالته على الإسلام، وليس في كل حالة على الإطلاق، والحديث مبسوط في هذا الأمر في كتابنا عن "التوحيد" وغيره فارجع إليه.

ص: 16

قال تعالى: (وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق)(1) .

وقال تعالى: (وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب)(2) .

عمل القلب: "وهو النية والإخلاص والمحبة والانقياد والتوكل".

قال تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه)(3) .

وقال تعالى: (إنما نطعمكم لوجه الله)(4) .

وقال تعالى: (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً)(5) .

وعن النبي صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات"(6) .

عمل اللسان والجوارح. فعل اللسان كتلاوة القرآن والذكر.

وعمل الجوارح كإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والجهاد والحج (7)

(1) القصص 53.

(2)

الشورى 15.

(3)

الأنعام 52.

(4)

الإنسان 9.

(5)

الأنفال 28.

(6)

متفق عليه.

(7)

وقد خالف في هذا – أي إدخال أعمال الجوارح في مسمى الإيمان – بعض فقهاء الكوفة كأبي حنيفة وغيره، ومدار خلافهم في أمرين:

(أ) أن مسمى الإيمان يشمل القول دون العمل.

(ب) إن الإيمان – بمعناه عندهم – لا يزيد ولا ينقص. فنقول وبالله التوفيق قالوا "إن مسمى الإيمان لا يدخله عمل الجوارح، وجعلوه بذلك مرادفاً للتصديق وهو تصديق مخصوص مستلزم للإقرار والانقياد كما سيتضح بعد فيما سننقله عن أئمتهم في معناه – فلاحظوا بذلك المعنى اللغوي – كما أثبتوه – دون المعنى الشرعي كما قال شارح الطحاوية: "فالإمام أبو حنيفة رضي الله عنه نظر إلى حقيقة الإيمان لغة مع أدلة من كلام الشارع وبقية الأئمة رحمهم الله نظروا إلى حقيقته في عرف الشرع فإن الشرع ضم إلى ذلك – التصديق- أوصافاً وشرائط". شرح الطحاوية ص 241. وقد استدلوا على ذلك بأدلة تدل على أن الإيمان هو التصديق دون العمل كقوله تعالى (وما أنت بمؤمن لنا) أي مصدق لنا كما دللوا بمبانيه الإيمان للأعمال الصالحة في التعبير القرآني على افتراقهما في المعنى كقوله تعالى "الذين آمنوا وعملوا الصالحات" فالأعمال إذن ثمرة من ثمرات الإيمان وليست لازماً من لوازمه، ثم كان من نتيجة هذا النظر أن كان الإيمان – في مصطلحهم – لا يقبل الزيادة ولا النقصان، وإنما تتفاوت مراتب اليقين القلبي، وأما أصل الإيمان – التصديق – فهو مرتبة محفوظة. وننقل هنا من أقوال أئمة الأحناف ما يدل على ما ذكرناه.

يقول شارح الفقه الأكبر: " (وإيمان أهل السماء والأرض) أي من الملائكة وأهل الجنة والأنبياء والأولياء وسائر المؤمنين من الأبرار والفجار (لا يزيد ولا ينقص) أي من جهة المؤمن، نفسه، لأن التصديق إذا لم يكن على وجه التحقيق يكون في مرتبة الظن والترديد، والظن غير=

= مفيد في مقام الاعتقاد عند أرباب التأييد قال تعالى (إن الظن لا يغني من الحق شيئاً) فالتحقيق أن الإيمان كما قال الإمام الرازي لا يقبل الزيادة والنقصان من حيث أصل التصديق لا من جهة اليقين فإن مراتب أهلها مختلفة في الدين".

شرح الفقه الأكبر لملا علي القاري ص70.

وراجع التفسير الكبير للرازي جـ2ص26.

ثم يقول بعدها: "وهذا معنى ما ورد لو وزن إيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه بإيمان جميع المؤمنين لرجح إيمانه يعني لرجحان إيقانه ووقار جنانه وثبات إتقانه وتحقيق عرفانه، لا من جهة ثمرات الإيمان من زيادات الإحسان لتفاوت أفراد الإنسان من أهل الإيمان في كثرة الطاعات وقلة العصيان وعكسه في مرتبة النقصان مع بقاء أهل وصف الإيمان في حق كل منهما بنعت الايقان، فالخلاف لفظي عند أرباب العرفان" السابق ص 70.

ويقول صاحب "فيض الباري" العلامة الكشميري: "وأثبت شئ في هذا الباب عقيدة الطحاوي فإنه كتب في أوله أنه يكتب فيه عقائد الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأبى يوسف رحمه الله تعالى، وأحسن شروحه شرح القونوى وهو حنفي المذهب تلميذ ابن كثير ويستفاد منه أن الإمام رحمه الله تعالى إنما نفى الزيادة والنقصان في مرتبة محفوظة كما سيأتي ولا ينفي مطلقاً" فيض الباري شرح البخاري جـ1ص60. وتعليقاً على ذلك نقول: إنه بالنسبة لمسألة دخول الأعمال في مسمى الإيمان فإن الحق – والله أعلم – في جانب جمهور أهل السنة والجماعة الذين اعتبروا إن الإيمان قول وعمل، فالأعمال داخلة في مسماه، فإنه من المقرر في علم الأصول أن اللفظ إن كان له استعمالان لغوي وشرعي قدم المعنى الشرعي على اللغوي.

(راجع الموافقات جـ2ص268 وبعدها) .

وأما عن مباينة الأعمال الصالحة للإيمان في التعبير القرآني فقد أوضح الإمام ابن تيمية أن ذلك إنما هو من قبيل عطف الخاص على العام كما في قوله تعالى: (من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) البقرة 98 ومثاله كثير في القرآن.

كما رد ابن تيمية تفصيلاً على ما ذهبت إليه هذه الطائفة من الفقهاء في كتاب "الإيمان" بأكثر من ستة عشر وجهاً فارجع إليها ص247 وبعدها، ص51 وبعدها وإنما مرادنا هنا هو إثبات ما ذهب إليه جمهور أهل السنة في هذا الأمر والمهم هنا هو أن نبين كذلك أنه وإن كان أبو حنيفة قد قصر لفظ الإيمان على التصديق – الذي هو تصديق مخصوص كما سنبينه بعد – فإنه متفق مع أهل السنة جميعاً على ترتيب الثواب والعقاب على الأعمال – وهو ما فارقته فيه المرجئة – سواء فعلها أو تركها فهم في ذلك سواء.

يقول ابن تيمية: "ومما ينبغي أن يعرف أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي وإلا فالقائلون بأن الإيمان قول من الفقهاء كحماد بن أبي سليمان – وهو أول من قال ذلك ومن اتبعه من أهل الكوفة – وغيرهم متفقون مع جميع علماء السنة على أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد وإن قالوا إن إيمانهم كامل كإيمان جبريل فهم يقولون إن الإيمان بدون العمل المفروض ومع فعل المحرمات يكون صاحبه مستحقاً للذم والعقاب كما تقوله الجماعة

" الإيمان ص255.

كذلك فإن الحنفية قد جعلوا كثيرا من الأعمال من شرائط الإيمان ومستلزماته، وجعلوا من لم يأتي بها كافراً، بل توسعوا في ذلك عن سواهم من المذاهب، قال صاحب الفقه الأكبر" "

وفي الخلاصة من وضع قلنسوة المجوس على رأسه قال بعضهم يكفر، وقال بعض المتأخرين إن كان لضرورة برد.. لا يكفر الإيمان وإلا كفر"جـ155.

وكذلك: "وفي الخلاصة من أهدى بيضة إلى المجوسي يوم النوروز كفر أي لأنه أعانه على كفره وإغوائه أو تشبه بهم في أهدائه.." إلى غير ذلك كثيراً جداً من الأعمال التي نصوا على كفر فاعلها أو على كفر من لم يتركها "إن كانت من أعمال المشركين" فهم وإن جعلوا الإيمان "التصديق" إلا أن ذلك خلاف لفظي لأن من الأعمال عندهم – بل أكثر مما هي عند غيرهم – ما يكفر فاعله ويخرج عن الملة مطلقاً، ونظرة في كتب فقه الحنفية تؤكد ذلك مما لا يدع مجالا للشك (راجع شرح الفقه الأكبر، الإعلام بقواطع الإسلام للهيثمي) .

وأما بالنسبة لمسألة التصديق ومعناه والمراد منه، فقد ذكرنا من قبل أن الأحناف وإن اعتبروا أن الإيمان هو التصديق إلا أنهم جعلوا الإقرار من لوازمه.

= فمدار النجاة عندهم – كمداره عند أهل السنة جميعاً – على الالتزام بالطاعة – كما سيتبين بعد في مفهوم الالتزام عند أهل السنة – مع ترك أعمال الشرك جملة، ولم يجعلوه كما يعتقد بعض مرجئة العصر الحديث – هو مجرد نسبة الصدق إلى الخبر أو المخبر، فإن هذا الأمر مما لا يختلف فيه بين أبي حنيفة وبقية الأئمة لمساسه بأصل الدين ومدار النجاة من الكفر المخلد في النار وهذا ما عناه الإمام الكشميري في "فيض البارى" حيث ذكر أن الخلاف بين أبي حنيفة وبقية الأئمة – وإن لم يكن نزاعاً لفظياً في رأيه – إلا أنه اختلاف في جهة النظر ولكن مدار النجاة عندهم واحد يقول:

"ومن ههنا علمت أن الاختلاف ليس من باب الاختلاف في الأنظار بمعنى أن هذا مؤد إلى طرف صحيح وهذا أيضاً لطرف آخر صحيح وعند كل حصة صحيحة، والناتج عند كل واحد ناج عن الآخر وكذلك الهالك عند واحد هالك عند الآخر" فيض البارى جـ2ص63.

وهذا الذي أشار إليه العلامة الكشميري هو ما نريد أن نؤكد عليه هنا، فإن خلاف أبي حنيفة وأصحابه مع بقية أهل السنة إنما هو خلاف لفظي يتناول مدلولات الألفاظ أو خلاف في الأنظار يصل إلى طرف صحيح، وإنما المهم هو أن القدر اللازم للنجاة من الخلود في النار عند كل منهما لا يتغير فأبو حنيفة قد أطلق الإيمان على التصديق ثم جعل شرط قبوله الإقرار بالطاعة، والانقياد - وليس نطق اللسان فقط - لضمان النجاة، وأهل السنة قد أطلقوا الإيمان على التصديق والإقرار والالتزام بالطاعة معاً، وهو المستلزم للانقياد للشرائع عامة وأدخلوا في مسماه الأعمال فيكون بهذا المعنى الإقرار شرطاً عند أبي حنيفة وشرطاً (أو ركناً) عند بقية أهل السنة.

يقول صاحب فيض الباري: ".. فأقول إن الجزء الذي يمتاز به الإيمان والكفر هو التزام الطاعة مع الردع والتبرى عن دين سواه.." إلى قوله: "فهذا هو الصواب في تفسيره. فقد نقل الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى الإجماع على كون هذا الجزء مما لابد منه في باب الإيمان وحينئذ ينبغي أن يراد من الاقرار في قول الفقهاء الاقرار بالتزام الطاعة" الفيض جـ1 من 51.

وما ذكره في غاية الأهمية للدلالة على أن مراد الفقهاء بالاقرار ليس هو نطق الشهادتين باللسان ولكن هو التزام الطاعة وعدم الانخلاع من الأحكام الشرعية عامة. ثم يبين أن القول بأن الاقرار المنجي هو النطق بالشهادتين يورد إشكالاً يقول: "وههنا إشكال يرد على الفقهاء والمتكلمين وهو أن بعض أفعال الكفر قد توجد من المصدق كالسجود للصنم والاستخفاف بالمصحف، فإن قلنا أنه كافر، ناقض قولنا: "إن الإيمان هو التصديق" ثم يجيب قائلاً: فالحق في الجواب ما ذكره ابن الهمام رحمه الله تعالى وحاصله أن بعض الأفعال تقوم مقام الجحود نحو العلائم المختصة بالكفر.

وإنما يجب في الإيمان التبرؤ عن مثلها أيضاً، كما يجب التبرؤ عن نفس الكفر، ولذا قال تعالى:(لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) في جواب قولهم (إنما كنا نخوض ونلعب) لم يقل إنكم كذبتم في قولكم بل أخبرهم بأنه بهذا اللعب والخوض اللذين من أخص علائم الكفر خلعوا ربقة الإسلام عن أعناقهم وخرجوا عن حماه إلى الكفر، فدل على أن مثل تلك الأفعال إذا توجد في رجل يحكم عليه بالكفر ولا ينظر إلى تصديقه في قلبه ولا يلتفت إلى أنها كانت منه خوضاً وهزءاً فقط أو كانت عقيدة، ومن ههنا تسمعهم يقولون إن التأويل في ضروريات الدين غير مقبول وذلك لأن التأويل فيها يساوي الجحود. وبالجملة إن التصديق المجامع مع أخص أفعال الكفر لم يعتبره الشرع تصديقاً، فمن أتى بالأفعال المذكورة فكأنه فاقد للتصديق عنده وأوضحه الجصاص فراجعه" الفيض جـ1 ص 5.

فانظر رحمك الله إلى قول كبار أئمة الحنفية - كابن الهمام والكشميري والجصاص - وهم الذين أطلق عليهم بعض العلماء - مرجئة الفقهاء لمجرد أنهم أخرجوا الأعمال من مسمى الإيمان لفظاً فقط رغم اشتراطهم للقدر اللازم منها للنجاة من الخلود في النار كبقية أهل السنة سواء بسواء.

يقول شارح الطحاوية مبيناً ذلك: "ولم يقابل لفظ الإيمان قط بالتكذيب كما يقابل لفظ التصديق وإنما يقابل بالكفر.. والكفر لا يختص بالتكذيب بل لو قال أعلم أنك صادق ولكن لا أتبعك بل أعاديك وأبغضك وأخالفك لكان كفراً أعظم، فعلم أن الإيمان ليس التصديق فقط ولا الكفر التكذيب فقط بل إذا كان الكفر يكون تكذيباً ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب، فكذلك الإيمان يكون تصديقاً وموافقة وموالاة وانقياداً ولا يكون مجرد التصديق". شرح الطحاوية ص 243.

ويقول الإمام الطحاوي في المتن: "وأهله - أي أهل الإيمان - في أصله سواء" أي متفقون على أصله المنجي من الخلود في النار الموقع خلافه في الكفر، فالمحصلة إذن واحدة والخلاف وإن كان لفظياً.. أو خلافاً في النظر كما يرى صاحب الفيض - فالاتفاق حاصل فيما هو مدار النجاة من الكفر، وترتب الثواب والعقاب حسب إتيان الأعمال أو تركها متفق عليه بينهم، والأعمال المكفرة والتي تعرف بها انخرام الأصل وسقوط عقد القلب محددة في مذاهبهم، بل إن الأحناف توسعوا في دلالات الكفر بالأعمال عن سائر المذاهب، كما ذكرنا من قبل، وأما أن يقال إن الإيمان هو التصديق ثم يقابل التصديق بالتكذيب فيكون الكفر هو التكذيب فقط، فذلك ما لم يقله أحد من أئمة السنة لا الأحناف ولا غيرهم، بل إن هذا هو محور بدعة الإرجاء المذمومة كما سنبين بعد إن شاء الله تعالى، كذلك أن يقال إن إخراج الأعمال من مسمى الإيمان يعني عدم حدوث أو ترتب الكفر على عمل من الأعمال فهذا خلاف ما ذهب إليه جميع أهل السنة - بما فيهم الحنفية - بل إن قائل ذلك قد اضطرب فهمه عامة سواء في مفهوم الأحناف للإيمان أو في مفهوم بقية أئمة السنة فيه، كذلك اضطرب في مفهوم الكفر العملي والاعتقادي ومجالهما كما سنبين بعد. ومما يجدر هنا، أن ننقل أثراً رواه ابن أبي العز في شرحه على الطحاوية يفيد تردد أبي حنيفة في قوله في الإيمان، قال:"إن حماد بن زيد كما روى له حديث أي الإسلام أفضل. الخ قال له: ألا نراه يقول أي الإسلام أفضل؟ قال الإيمان ثم جعل الهجرة والجهاد من الإيمان؟ فسكت أبوحنيفة فقال بعض أصحابه: "ألا نجيبه يا أبا حنيفة قال: بم أجيبه وهو يحدثني بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" شرح الطحاوية ص 253.

ص: 17

قال تعالى: (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن)(1) .

وقد أجمع العلماء على هذا الأصل.

ذكر الآجري في "الشريعة": "حدثنا أبو حفص عمر بن أيوب السقطي قال: سمعت أبا جعفر محمد بن سليمان يقول: سمعت سفيان بن عيينة يقول غير مرة: "الإيمان قول وعمل"، قال ابن عيينة: "وأخذناه ممن قبلنا: قول وعمل، وأنه لا يكون قول إلا بعمل". قيل لابن عيينة:"يزيد وينقص؟ قال: فأي شئ إذاً؟ "(2) . كما نقل ابن تيمية قول أبي القاسم الأنصاري شيخ الشهرستاني في شرح الإرشاد لأبي المعالي قوله:

"وذهب أهل الأثر إلى أن الإيمان جميع الطاعات فرضها ونفلها، وعبروا عنه بأنه إتيان ما أمر الله به فرضاً ونفلاً والانتهاء عما نهى عنه تحريماً وتأدباً"(3) .

كما قال: "ولهذا كان القول أن الإيمان قول وعمل عند أهل السُّنَّة من شعائر السُّنَّة، وحكى غير واحد الاجماع على ذلك"، وقد ذكرنا عن الشافعي رضي الله عنه ماذكره من الاجماع على ذلك قوله في الأم:"وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم وممن أدركناهم يقولون إن الإيمان قول وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر"(4) .

ثم نقل ابن تيمية أسماء من قال بهذا من أئمة مكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط، وقال أبو عبيد:"وهو قول أهل السُّنَّة المعمول به عندنا"(5) .

إلى غير ذلك من آثار أجمعت كلها على هذا القول دون خلاف معتبر.

الأصل الثاني: أن الإيمان يزيد وينقص.

وهو كما قال السلف: "يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية"(6) .

قال تعالى: "وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً"(7) .

(1) فاطر 29.

(2)

كتاب الشريعة للآجرى ص 116.

(3)

الإيمان لابن تيمية ص 124.

(4)

السابق ص 265.

(5)

الإيمان ص 266 وبعدها.

(6)

فتح الباري لابن حجر جـ1 ص47، الشريعة للآجرى ص114 عن محمد بن علي رضي الله عنه.

(7)

الأنفال 2.

ص: 18

وقال تعالى: "فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون"(1) .

وقال تعالى: "هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم"(2) .

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "الإيمان يبدأ لمظة بيضاء في القلب، كلما ازداد الإيمان ازدادات بياضاً حتى يبيض القلب كله، وإن النفاق يبدأ لمظة سوداء في القلب، فكلما ازداد النفاق ازدادت حتى يسود القلب كله"(3) .

ويقول شارح الطحاوية: "وكلام الصحابة رضي الله عنهم في هذا المعنى كثير أيضاً، منه قول أبي الدرداء رضي الله عنه: "من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم ينقص".

وعن عمر بن الخطاب أنه يقول لأصحابه: "هلموا نزداد إيماناً" يتذكرون الله تعالى عز وجل.

وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه: "اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً".

وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول لرجل: "اجلس بنا نؤمن ساعة"، ومثله عن عبد الله بن رواحة.

وصح عن عمار بن ياسر أنه قال: "ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان: إنصاف من نفسه، والإنفاق من إقتار، وبذل السلام للعالم". ذكره البخاري رحمه الله في صحيحه" (4) .

وذكر الآجري في "الشريعة: "حدثنا حفص بن محمد الصندي بسنده عن عمير بن حبيب قال: الإيمان يزيد وينقص، فقيل وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله عز وجل وحمدناه وسبحناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا فذلك نقصانه".

وعن ابن عباس وأبي هريرة بسنده قال: الإيمان يزيد وينقص.

(1) التوبة124.

(2)

الفتح 4.

(3)

عن رسالة "الإيمان" لأبي بكر بن أبي شيبة ط المدني ص9.

(4)

شرح الطحاوية لابن أبي العز ص247، كتاب الإيمان لابن تيمية ص191.

ص: 19

وقال: حدثنا أبوبكر بن أبي داود بسنده عن عبد الرزاق قال: سمعت معمراً وسفيان الثوري ومالك بن أنس وابن جريج وسفيان بن عيينة يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص" (1) .

وغير ذلك كثير من الآثار التي وردت تدل على إجماع أهل السُّنَّة والجماعة على هذا القول، وهي تثبت كلها أن إيمان المرء يزيد وينقص حسب ما يقوم به من عمل صالح أو طالح، وهو أمر يعانيه كل مسلم في حياته، فهو كلما أخذ بالصالح من القول والعمل أحس بفيضان النور الإلهي يعمر قلبه وكيانه

وكلما بعد عن العمل الصالح والقول الصالح كلما أحس بغشاوة على قلبه تزداد كثافتها حتى يصبح قلبه أسوداً مرباداً ويرون عليه الران كما قال تعالى: "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون"(2) .

قاعدة في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه:

لقد استفاض العلماء في شرح هذه المسألة في كتب العقائد عامة، فلا مجال للزيادة على ذلك، وإنما نريد أن نتناول بالبحث هنا بعض مانحسب أنه قد خفى على الكثيرين في هذا الزمان من معان متعلقة بهذا الأمر، مما أدى إلى اضطرابهم في فهم أقوال السلف، وبالتالي إلى فهم القضية عامة. ونحصر قولنا في أمرين:

أولاً: إثبات أن هناك حد أدنى من الإيمان الذي ينجو به صاحبه من الخلود في النار.

ثانياً: لزوم جنس الأعمال لتحقيق هذا الحد الأدنى من الإيمان الذي ينجو به صاحبه من الخلود في النار وهما قضيتان متلازمتان. فنقول وبالله التوفيق:

(1) الشريعة للآجرى ص111 وبعدها.

(2)

المطففين14.

ص: 20

أولاً: أن لفظ "الإيمان" فيما رويناه عن السلف الصالح - والذي قالوا عنه أنه يزيد وينقص - إنما عنى به كمال الإيمان أو استكمال درجاته، فالإيمان بمعناه الشامل يتحقق بكماله لمن حقق التوحيد - أي أتى بالقدر اللازم للنجاة من الخلود في النار - ثم قام بالأعمال التي بلغته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمر قلبه بالتصديق والإقرار بالرسالة وانقاد لشرائعها ظاهراً وباطناً، وقام بما طلبه منه الشارع من أوامر ونواهي، فهذا يكتمل إيمانه ويزداد حسب قيامه بهذه الأوامر وتركه لتلك النواهي، وينقص في درجات الكمال حسبما يترك من أوامر أو يفعل من محظورات، فتعبير السلف عن الإيمان - الذي يزيد وينقص - في هذه الدرجة هو ماقصدوه بالنقص بالمعصية والزيادة بالطاعة (1) .

ولهذا الأمر تفصيل ذكره الإمام "ابن تيمية" في كتاب "الإيمان"، فقد أوضح أن الإيمان لا يستوي في حق كل مكلف أو في كل وقت، وإنما له درجات ثلاث - حسب تعبيره - وهي:

(أ) الإيمان المجمل:

وهو القدر من الإيمان الذي لا يقبل نقصاً، فأي نقص فيه يعني انخرام أصل الدين، ومحصلته الإيمان بربوبية الله تعالى وألوهيته على عباده، معرفة وتصديقاً وإقراراً وانقياداً والتزاماً بطاعته مع ترك أعمال الشرك الأكبر كلية، وتصديق خبر الرسول صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب.

(1) وقد نقلنا من قبل أثراً عن أبي القاسم الأنصاري قال فيه عن الإيمان المقصود أنه "جميع الطاعات فرضها ونقلها" وهو يوضح ما قصدناه من أن تعبير السلف إنما هو في مرتبة الإيمان الواجب فينقص بالمعصية ويزيد بالطاعة.

ص: 21

وهذا القدر من الإيمان - الذي هو أصل دين الله - إنما يظهر بهذا القدر فقط - دون اشتراط أي عمل من أعمال الجوارح - في حق من مات قبل نزول الفرائض والشرائع عامة، ومثله في حق المتحنفين من العرب قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم أو من مات ولم تبلغه شرائع عملية لوجوده في شواهق جبل، أو دار بعيدة عن دار الإسلام مثلاً، فهذا القدر بالنسبة لهؤلاء لا يتصور فيه أي قدر من الأعمال التي يجب فعلها لعدم ورود الشريعة بعد، أو لغيابها عمن هو في دار حرب أو في شواهق الجبال مثلاً.

(ب) الإيمان الواجب أو المفصّل:

ص: 22

وهو يشمل المعنى السابق - للإيمان المجمل - مضافاً إليه الالتزام بما بلغه من شرائع والانقياد لها أمراً أمراً وخبراً خبراً، فينضاف إلى معنى التصديق والإقرار جملة والالتزام بالطاعة، الإقرار بكل خبر أو أمر على حدة، ثم التزام ما ينبني عليه فعل من هذه الأوامر والشرائع التزام قبول وطاعة بالأخبار والأوامر كلها، والتزام تنفيذ لما هو مشترط لصحة الإسلام بالذات - كما سيأتي بعد في معنى الالتزام في الفصل الثالث (1) - وتكون سائر الواجبات هي التي يجري فيها قولهم بالزيادة والنقص في الإيمان، فكلما أتى المرء من واجبات إزداد إيمانه الواجب، وكلما أتى من معاصي نقص إيمانه الواجب، فالإيمان الواجب إذاً هو الذي يظهر فيه معنى العمل بالأوامر والنواهي (2) ، لأن الإيمان المجمل – كما ذكرنا – لا يظهر ولا يكون واجباً إلا في حق من لم تبلغه شرائع أو من مات قبل نزولها، مع افتراض ترك الشرك الأكبر جملة في كل الأحوال (3)

(1) والالتزام على الجملة ينقسم إلى: التزام القبول والطاعة: أي عقد القلب بنية العمل عند القدرة والعلم، والتزام تنفيذ. وهو أداء هذه الشرائع بالفعل أمراً أمراً، وفي هذا القدر الأخير تجرى الزيادة والنقص.

(2)

وعلى ما ذهب إليه فقهاء الكوفة - الذين أخرجوا الأعمال من مسمى الإيمان - فأنهم يتفقون مع أهل السنة في معنى الإيمان المجمل - إذ لا يتصور خلاف أحد من المسلمين عليه فهو أصل الدين وهو توحيد الله عز وجل وإنما افتراقهم في إثبات مسمى الإيمان الواجب المتضمن للأعمال، فهم لا يثبتونه نظراً لاخراجهم الأعمال من مسمى الإيمان مطلقاً، وإن رتبوا الثواب والعقاب على الأعمال كأهل السنة سواء بسواء كما سبق أن أوضحنا.

(3)

يقول الحافظ في الفتح: "فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا ولم يحكم عليه بكفر إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود لصنم" الفتح جـ1ص46. والشاهد هنا هو قوله: "إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره" فهو دال على شرط عدم وجود المناقض من أفعال الشرك الأكبر، أما عن الأفعال المشترطة لصحة الإسلام فسيأتي بيان الحديث عنها بعد.

ص: 23

فيكون من عاش فأدرك هذه الواجبات المفروضة - أو من بلغته عامة - لابد له من التزامها لدخولها في الإيمان الواجب في حقه خلاف من مات قبلها أو لم تصله.

(جـ) الإيمان الكامل:

ويشمل الإتيان بالمستحبات والبعد عن المكروهات، فهو يشتمل إذن على جميع الأعمال واجبها ومستحبها وترك حرامها ومكروهها. فيكون ما عناه السلف من زيادة الإيمان ونقصه إنما هو في مرتبة الإيمان الواجب والكامل، ينقص بالمعصية ويزداد بالطاعة والعمل الصالح، فهاتين المرتبتين أو الدرجتين يعقل فيهما معنى الزيادة والنقصان لظهورهما في حق من وجب في حقه العمل لبلوغه له وتكليفه به.

يقول الإمام ابن تيمية في معرض رده على المرجئة الذين يقولون إن الإيمان مجرد ما في القلب:

"ظنهم أن الإيمان الذي فرضه الله على العباد متماثل في حق العباد، وأن الإيمان الذي يجب على شخص يجب مثله على كل شخص، وليس الأمر كذلك فإن اتباع الأنبياء المتقدمين أوجب الله عليهم من الإيمان ما لم يوجبه على أمة محمد، وأوجب على أمة محمد من الإيمان ما لم يوجبه على غيرهم، والإيمان الذي كان يجب قبل نزول جميع القرآن ليس هو مثل الإيمان الذي يجب بعد نزول القرآن، والإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به الرسول مفصلاً ليس مثل الإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبره به مجملاً، فإنه لابد في الإيمان من تصديق الرسول في كل ما أخبر، لكن من صدق الرسول أو مات عقب ذلك لم يجب عليه من الإيمان غير ذلك، وأما من بلغه القرآن والأحاديث وما فيهما من الأخبار والأوامر المفصلة فيجب عليه من التصديق المفصل بخبر بخبر وأمر أمر ما لا يجب على من لم يجب عليه إلا الإيمان المجمل لموته قبل أن يبلغه شئ آخر.

ص: 24

وأيضاً لو قدر أنه عاش فلا يجب على كل واحد من العامة أن يعرف كل ما أمر به الرسول وكل ما نهى عنه وكل ما أخبر به، بل إنما عليه أن يعرف ما يجب عليه هو وما يحرم عليه، فمن لا مال له لا يجب أن يعرف أمره المفصل في الزكاة، ومن لا استطاعة له على الحج ليس عليه أن يعرف أمره المفصل بالمناسك، ومن لم يتزوج ليس عليه أن يعرف ما وجب للزوجة فصار يجب من الإيمان تصديقاً وعملاً على أشخاص ما لا يجب على آخرين.

وبهذا يظهر الجواب عن قولهم خوطبوا بالإيمان قبل الأعمال فنقول:

إن قلتم إنهم خوطبوا به قبل أن تجب تلك الأعمال، فقبل وجوبها لم تكن من الإيمان، وكانوا مؤمنين الإيمان الواجب عليهم قبل أن يفرض عليهم ما خوطبوا بفرضه، فلما نزل، إن لم يقروا بوجوبه لم يكونوا مؤمنين، ولهذا قال تعالى:(ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) ولهذا لم يجئ ذكر الحج في أكثر الأحاديث التي فيها ذكر الإسلام والإيمان كحديث وفد عبد القيس وحديث الرجل النجدي الذي يقال له ضمام بن ثعلبة وغيرهما، وإنما جاء ذكر الحج في حديث ابن عمر وجبريل، وذلك لأن الحج آخر ما فرض من الخمس فكان قبل فرضه لا يدخل في الإسلام والإيمان، فلما فرض أدخله النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان إذا أفرد، وأدخله في الإسلام إذا قرن بالإيمان وإذا أفرد.

وكذلك قولهم: من آمن ومات قبل وجوب العمل عليه مات مؤمناً، صحيح، لأنه أتى بالإيمان الواجب عليه، والعمل لم يكن وجب عليه بعد، فهذا مما يجب أن يعرف فإنه تزول به شبهة حصلت للطائفتين.

فإذا قيل: الأعمال الواجبة من الإيمان، فالإيمان الواجب متنوع ليس شيئاً واحداً في حق جميع الناس.

ص: 25

وأهل السُّنَّة والحديث يقولون جميع الأعمال الحسنة واجبها ومستحبها من الإيمان، أي من الإيمان الكامل بالمستحبات، ليست من الإيمان الواجب، فيفرق بين الإيمان الواجب وبين الإيمان الكامل بالمستحبات.

كما يقول الفقهاء: الغسل ينقسم إلى مجزئ وكامل، فالمجزئ ما أتى فيه بالواجبات فقط، والكامل ما أتى فيه بالمستحبات، ولفظ الكمال قد يراد به الكمال الواجب، وقد يراد به الكمال المستحب" (1) .

ويقول الآجري في "الشريعة":

"أما بعد فاعلموا - رحمنا الله وإياكم - أن الله عز وجل بعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، ليقروا بتوحيده، فيقولوا "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، فكان من قال هذا موقناً من قلبه ناطقاً بلسانه أجزأه، ومن مات على هذا فإلى الجنة، فلما آمنوا بذلك، وأخلصوا توحيدهم فرض عليهم الصلاة بمكة، فصدقوا بذلك وآمنوا وصلوا. ثم فرض عليهم الهجرة فهاجروا وفارقوا الأهل والأوطان".

ثم فرض عليهم بالمدينة الصيام فآمنوا وصدقوا وصاموا شهر رمضان.

ثم فرض عليهم الزكاة فآمنوا وصدقوا وأدوا ذلك كما أُمروا.

ثم فرض عليهم الجهاد فجاهدوا البعيد والقريب، وصبروا وصدقوا.

ثم فرض عليهم الحج فحجوا وآمنوا به.

فلما آمنوا بهذه الفرائض عملوا بها تصديقاً بقلوبهم وقولاً بألسنتهم وعملاً بجوارحهم. قال الله عز وجل: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)(2) .

(1) الإيمان لابن تيمية ص 168.

(2)

الشريعة للآجرى ص101.

ص: 26

وقال: (حدثنا أبو عبد الله محمد بن مخلد العطار قال: حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الصفار قال: حدثني محمد بن عبد الملك المصيصي أبو عبد الله قال: كنا عند سفيان بن عيينة في سنة سبعين ومائة فسأله رجل عن الإيمان؟ فقال: قول وعمل، قال: يزيد وينقص؟ قال: يزيد ما شاء الله وينقص حتى لا يبقى منه مثل هذا، وأشار سفيان بيده، قال الرجل: كيف نصنع بقوم عندنا يزعمون أن الإيمان قول بلا عمل؟ قال سفيان: كان القول قولهم قبل أن تقرر أحكام الإيمان وحدوده، إن الله عز وجل بعث نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كلهم كافة أن يقولوا: لا إله إلا الله وأنه رسول الله، فلما قالوها عصموا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل، فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم، أمره أن يأمرهم بالصلاة فأمرهم ففعلوا فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم أن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم بها. فأمرهم ففعلوا، حتى أتوا بها، قليلها وكثيرها، ولا هجرتهم ولا قتلهم آباءهم ولا طوافهم، فلما علم الله جل وعلا صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالهجرة إلى المدينة فأمرهم ففعلوا فوالله لو لم يفعلوا مانفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم، فلما علم الله تبارك وتعالى صدق ذلك من قلوبهم أمرهم بالرجوع إلى مكة ليقاتلوا آباءهم وأبناءهم، حتى يقولوا كقولهم ويصلوا صلاتهم ويهاجروا هجرتهم فأمرهم ففعلوا حتى أتى أحدهم برأس أبيه، فقال: يارسول الله هذا رأس شيخ الكافرين، فو الله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ولا هجرتهم ولا قتالهم. فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم أمرهم أن يأمرهم بالطواف بالبيت تعبداً وأن يحلقوا رؤوسهم تذللاً ففعلوا، فو الله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ولا هجرتهم ولا قتلهم آباءهم. فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم، أمره أن يأخذ من

ص: 27

أموالهم صدقة يطهرهم بها. فأمرهم ففعلوا، حتى أتوا بها، قليلها وكثيرها، ووالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ولا هجرتهم ولا قتلهم آباءهم ولا طوافهم. فلما علم الله تبارك وتعالى الصدق من قلوبهم فيما تتابع عليهم من شرائع الإيمان وحدوده، قال عز وجل سبحانه وتعالى: قل لهم (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) .

قال سفيان: فمن ترك خلة من خلال الإيمان كان بها عندنا كافراً، ومن تركها كسلاً أو تهاوناً بها أدبناه (1) وكان بها عندنا ناقصاً، هكذا السُّنَّة أبلغها عني من سألك من الناس" (2) .

(1) ذلك خلاف المباني الأربعة ففي تكفير تاركها نزاع مشهور كما سيأتي.

(2)

الشريعة للآجرى ص103.

ص: 28

فالإيمان المجمل - إذن - هو الحد الأدنى الذي ينجو به صاحبه من الخلود في النار، وهو متضمن لترك أعمال الشرك، ويظهر في حق من مات قبل نزول الشرائع عامة، أو لم تبلغه تفاصيل هذه الشرائع لوجوده في دار حر ب أو في بادية بعيدة، وينضاف إلى هذا الإيمان المجمل - أو الواجب في حق من ذكرنا - كل شريعة أو فريضة أو واجب نزل وفرض على الناس فمن بلغه هذا الواجب صار إيمانه متضمناً له، فإن رده ولم يقبله بعد نزوله أو بلوغه له، وادعى ثبوته على ما هو عليه من إيمان مجمل كان كافراً، وإن اعتقده والتزمه فهو بين أمرين: أن يكون هذا الأمر من الأعمال التي جعلها الله عز وجل شرطاً لصحة الإسلام - على خلاف فيها كما سنبين - فيكون بتركها كافراً، أو أن يكون من سائر الواجبات العادية فيكون بتركها فاسقاً قد انتقص من إيمانه بهذا القدر (1)

(1) وأما عن المعارضة بحديث البخاري: "أخرجوا من كان في قلبه حبة خردل من إيمان" من باب " تفاضل أهل الإيمان في الأعمال" فننقل ما قاله ابن حجر في شرحه عليه في الفتح، قال:"والمراد بحبة الخردل هنا ما زاد من الأعمال على أصل التوحيد لقوله في الرواية الأخرى "أخرجوا من قال لا إله إلا الله وعمل من الخير ما يزن ذرة" الفتح جـ1 ص 72.

ويستفاد من هذا أن قدر الذرة من الخير إنما هو فيما زاد عن تحقيق التوحيد. وأما عن حديث الجهنميين الذين يخرجهم الله عز وجل من النار دون أن يعملوا خيراً قط فنقول وبالله التوفيق: إن ما نثبته هنا هو دلالة ترك العمل بالكلية على عدم إيمان القلب وسقوط التوحيد وانتفاء الالتزام، وهذه الدلالة هي ما يقتضيه النظر في القواعد التي جعلها الله مقياساً لدينه يجرى على المكلفين في الدنيا، وأما ما هو في علم الله سبحانه في الآخرة وعند الميزان الحق من تحقق سقوط عقد القلب بالفعل عند المعين من الناس لما كان منه في الدنيا من ترك الأعمال جملة – وهو ما اعتبرناه دلالة على سقوط عقد القلب لامتناع حدوث ذلك ممن يلتزم بالشريعة ابتداءً – نقول إن ذلك مرتبط بعلم الله في الآخرة عن تحقق مدلول الدلالة حقيقة، وإنما نحن نقرر مقتضي القواعد التي دل عليها الله سبحانه وتعالى في الشرع، والتي توافق قياس العقل والفطرة من امتناع قيام التوحيد في قلب من ترك الأعمال بالكلية – بعد بلوغها له – وأن هذا يعتبر دلالة على كفر فاعله، وأما حقيقة ما يؤول إليه من تحقق ذلك للمعين من الناس فإن هذا علمه عند الله عز وجل، فهو من باب إثبات الكفر الباطن كما سيأتي بعد، وأما عن الجهنميين فإننا لا نقول إلا أن الله سبحانه لا يدخل الجنة كافراً به قطعاً، فمن دخل منهم أو ممن سواهم فقد تحقق عند الله عز وجل قيام التوحيد في قلوبهم لا محالة. والله تعالى أعلم.

ص: 29

يقول ابن تيمية: "وقد اتفق المسلمون على أن من لم يأت بالشهادتين فهو كافر، وأما الأعمال الأربعة فاختلفوا في تكفير تاركها، ونحن إذا قلنا إن أهل السُّنَّة متفقون على أنه لا يكفر بالذنب، فإنما نريد به المعاصي كالزنا والشرب، وأما هذه المباني ففي تكفير تاركها نزاع مشهور"(1) .

ثانياً: إن لزوم جنس العمل - أو قدر من أعمال الجوارح - لتحقيق أصل الإيمان الذي ينجو بصاحبه من الخلود في النار - أي في الإيمان الواجب علي من بلغته الأعمال والشرائع - لهو قضية اشتبهت على الكثير من دعاة الإسلام في هذا العصر، فلابد من أن نزيدها وضوحاً وبياناً إن شاء الله تعالى. فنقول وبالله التوفيق:

يقول صاحب "معارج القبول": "وذهب الجبائي وأكثر المعتزلة البصرية إلى أنه - أي الإيمان - الطاعات المفروضة من الأفعال والتروك دون النوافل، وهذا أيضاً يدخل المنافقين في الإيمان، وقد نفاه الله عنهم، وقال الباقون منهم: العمل والنطق والاعتقاد. والفرق بين هذا وبين قول السلف الصالح أن السلف لم يجعلوا كل الأعمال شرطاً في الصحة بل جعلوا كثيراً منها شرطاً في الكمال، كما قال عمر بن عبد العزيز فيها: "من استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، والمعتزلة جعلوها كلها شرطاً في الصحة. والله أعلم" (2) .

(1) الإيمان ص259.

(2)

معارج القبول، حافظ حكمي جـ2ص31.

ص: 30

ويقول ابن تيمية: "ثم قالت الخوارج والمعتزلة الطاعات كلها من الإيمان، فإذا ذهب بعضها ذهب بعض الإيمان فذهب سائره، فحكموا بأن صاحب الكبيرة ليس معه شئ من الإيمان. وقال المرجئة والجهمية: ليس الإيمان إلا شيئاً واحداً لا يتبعض. إما مجرد تصديق القلب كقول الجهمية، أو تصديق القلب واللسان كقول المرجئة. قالوا: لأنا إذا أدخلنا فيه الأعمال صارت جزءاً منه فإذا ذهبت ذهب بعضه، فيلزم إخراج ذي الكبيرة من الإيمان وهو قول المعتزلة والخوارج، لكن قد يكون له لوازم ودلائل فيستدل بها على عدمه، وكان كل من الطائفتين بعد السلف والجماعة وأهل الحديث متناقضين، حيث قالوا - أي أهل السُّنَّة والحديث - الإيمان قول وعمل، وقالوا مع ذلك لا يزول بزوال بعض الأعمال

" (1) .

نخرج مما نقلناه عن "صاحب المعارج" و"ابن تيمية" أن المعتزلة والخوارج قد جعلوا الأعمال كلها شرطاً في صحة الإيمان، وبنوا ذلك على قولهم إن الإيمان قول وعمل لكن لا يزيد ولا ينقص، فكان لابد أن زوال أي عمل من الأعمال يُزيل الإيمان بالكلية، فجعلوا مرتكب الكبيرة مخلداً في النار - كما تقول المعتزلة - أو كافراً - كما تقول الخوارج - وأما المرجئة والجهمية ومن تابعهم ممن دخلت عليهم شبههم قديماً وحديثاً - جعلوا جميع الأعمال شرطاً في الكمال، ولا شئ منها شرطاً في الصحة، أما أهل السُّنَّة والجماعة فقد اعتبروا الإيمان قول وعمل، لكن لايزول جملة بزوال بعض الأعمال، وإنما يزول بزوال جميع الأعمال من جهة أو بزوال أعمال مخصوصة - كالمباني الأربعة على خلاف فيها - من جهة أخرى، فصح أنه يلزم جنس الأعمال مطلقاً لثبوت أصل الإيمان وعدم زواله جملة.

(1) الإيمان الأوسط لابن تيمية ص52ط. مكتبة الفرقان.

ص: 31

فالإيمان المجمل - أو التوحيد - الذي لا يتصور أي قدر من الأعمال فيه، إنما كان في أول دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أصل دعوة الرسل جميعاً عليهم السلام بمكة قبل نزول الشرائع، وهو الذي يعني مجرد المعرفة والتصديق والالتزام القلبي بالطاعة والقبول لشرائع الله مع ترك أعمال الشرك الأكبر التي كان عليها القوم قبل الدعوة، إذ لم يكن ثمة شرائع ولا أعمال يكلف بها المؤمنين حينئذ، فكان إيمانهم هو تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم والإقرار بالرسالة جملة وعلى الغيب، خلاف ترك الأعمال الناقضة للتوحيد الداخلة في أصل الدين، كدعاء غير الله دعاء عبادة ومسألة، أو التحاكم إلى غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولما كمل الدين ونزلت الشرائع وتحددت الأعمال المطلوبة من المسلمين، تحدد منها قدر جعله الله تعالى شرطاً في صحة الإيمان - على حسب تعبير صاحب المعارج - وإن اختلف أهل السُّنَّة في هذه الأعمال المشترطة للصحة (1)

(1) وقد ناقش الأئمة مسألة الأعمال المشترطة لصحة الإسلام في كتب الفقه عامة، ولم يثيروها في كتب العقائد، وهذا هو الذي جعل الاشتباه يدخل على الكثير من المحدثين عن صلة هذه الأعمال بالإيمان، وقد لخص ابن تيمية المسألة فقال "وأما مع الإقرار بالوجوب إذا ترك شيئاً من هذه الأركان الأربعة ففي التكفير أقوال للعلماء وهي روايات عن أحمد.

أحدهما: أنه يكفر بترك واحد من الأربعة حتى الحج وإن كان في جواز تأخيره نزاع بين العلماء، فمتى عزم على تركه بالكلية كفر، وهذا قول طائفة من السلف وهي إحدى الروايات عن أحمد واختارها أبو بكر.

الثاني: أنه لا يكفر بترك شئ من ذلك مع الإقرار بالوجوب وهو المشهور عند كثير من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وهي إحدى الروايات عن أحمد اختارها ابن بطة وغيره.

الثالث: لا يكفر إلا بترك الصلاة وهي الرواية الثالثة عن أحمد وقول كثير من السلف وطائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد.

الرابع: يكفر بتركها وترك الزكاة فقط.

الخامس: بتركها وترك الزكاة إذا قاتل عليها الإمام دون ترك الصيام والحج" الإيمان الأوسط ص 152.

والحق أن هذه المسألة - مع كونها تعتبر مسألة خلافية - إلا أن آراء القائلين بعدم تكفير تارك الصلاة أو أي من المباني الأربعة هو أضعف الآراء، ولا مستند لهم فيه إلا ومردود عليه بنظر صحيح.

وقد رد ابن تيمية على موضوع كفر تارك الصلاة في الإيمان الأوسط (مجموع الفتاوى جـ7) ورد على شبهات القائلين بخلاف ذلك، والمنقول عن حكم هذه المباني عن الصحابة والتابعين متواتر يدل على كفر تارك الصلاة على وجه الخصوص.

يقول ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم": "وأما إقام الصلاة فقد وردت أحاديث متعددة تدل على أن من تركها فقد خرج من الإسلام، ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة". وروى مثله من حديث بريدة وثوبان وأنس وغيرهم وخرج محمد بن نصر المروزي من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تترك الصلاة متعمداً فمن تركها متعمداً فقد خرج من الملة".

وفي حديث معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة" فجعل الصلاة كعمود الفسطاط الذي لا يقوم الفسطاط إلا به ولو سقط العمود لسقط الفسطاط ولم يثبت بدونه.

وقال عمر رضي الله عنه: "لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة". وقال سعد وعلي رضي الله عنهما "من تركها فقد كفر".

وقال عبد الله بن شقيق: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون من الأعمال شيئاً تركه كفر إلا الصلاة".

وقال أبو أيوب السختياني: "ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه" وذهب إلى هذا القول جماعة من السلف والخلف. وهو قول ابن المبارك وأحمد وإسحق، وحكى إسحق عليه إجماع أهل العلم. وقال محمد بن نصر المروزي: هو قول جمهور أهل الحديث. وذهب طائفة منهم إلى أن من ترك شيئاً من أركان الإسلام الخمس عمداً أنه كافر. وروى ذلك عن سعيد بن جبير ونافع والحكم وهو رواية عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه وهو قول ابن حبيب من المالكية. وخرج الدارقطني وغيره من حديث أبي هريرة قال: "قيل يا رسول الله الحج في كل عام؟ قال: لو قلت نعم لوجب عليكم ولو وجب عليكم ما أطقتموه ولو تركتموه لكفرتم".

وقد روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب الجزية على من لم يحج. وقال: ليسوا بمسلمين. وعن ابن مسعود أن تارك الزكاة ليس بمسلم. وعن أحمد رواية أن ترك الصلاة والزكاة خاصة كفر دون الصيام والحج.

وقال ابن عيينة: "المرجئة سموا ترك الفرائض ذنباً بمنزلة ركوب المحارم وليسوا سواء لأن ركوب المحارم متعمداً من غير استحلال معصية وترك الفرائض من غير عذر ولا جهل كفر" جامع العلوم ص41 وبعدها.

ويقول ابن تيمية: "وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها، فليست لهم حجة إلا وهي متناولة للجاحد كتناولها للتارك. فما كان جوابهم عن الجاحد كان جواباً لهم عن التارك، مع أن النصوص علقت الكفر بالتولي كما تقدم، وهذا مثل استدلالهم بالعمومات التي يحتج بها المرجئة، كقوله: "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.. أدخله الله الجنة"، ونحو ذلك من النصوص، وأجود ما اعتمدوا عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة، فمن حافظ عليهم كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة". قالوا: فقد جعل غير المحافظ تحت المشيئة، والكافر لا يكون تحت المشيئة. ولا دلالة في هذا، فإن الوعد بالمحافظة عليها، والمحافظة فعلها في أوقاتها كما أمر، كما قال تعالى:(حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) ، وعدم المحافظة يكون مع فعلها بعد الوقت، كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الخندق، فأنزل الله الآية بالأمر بالمحافظة عليها وعلى غيرها من الصلوات.

وقد قال تعالى: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً)، فقيل لابن مسعود وغيره: ما إضاعتها؟ فقال: تأخيرها عن وقتها. فقالوا: ما كنا نظن ذلك إلا بتركها، فقال: لو تركوها لكانوا كفاراً.."، إلى قوله: "وإذا عرف الفرق بين الأمرين، فالنبي صلى الله عليه وسلم، إنما أدخل تحت المشيئة من لم يحافظ عليها، لا من ترك، ونفس المحافظة يقتضي أنهم صلوا ولم يحافظوا عليها، ولا يتناول من لم يحافظ فإنه لو تناول ذلك قتلوا كفاراً مرتدين بلا ريب.." الإيمان الأوسط ص 155 وبعدها.

ويقول ابن القيم في كتاب الصلاة: "على أنا نقول: لا يصر على ترك الصلاة إصراراً مستمراً من يصدق بأن الله أمر بها أصلا، فإنه يستحيل في العادة والطبيعة أن يكون الرجل مصدقاً تصديقاً جازماً أن الله فرض عليه كل يوم وليلة خمس صلوات وأنه يعاقبه على تركها أشد العقاب، وهو مع ذلك مصر على تركها وهذا من المستحيل قطعاً، فلا يحافظ على تركها مصدق بفرضها أبداً، فإن الإيمان يأمر صاحبه بها، فحيث لم يكن في قلبه ما يأمر بها فليس في قلبه شيء من الإيمان، ولا تصغ إلى كلام من ليس له خبرة ولا علم بأحكام القلوب وأعمالها"، كتاب الصلاة ص 19.

فانظر رحمك الله إلى حكمة ابن القيم في ربطه بين الظاهر والباطن، وهو ما سننبه عليه بعد في حينه إن شاء الله تعالى.

وما نريد أن ننبه عليه هنا، هو أن ما أوردناه عن قضية المباني الأربعة إنما هي فرع من أصل قضيتنا، فإن قضيتنا هي لزوم جنس الأعمال لتحقق القدر المنجي من الخلود في النار - لصحة التلازم بين الظاهر والباطن - وقضية المباني الأربعة تدل على أن من الأعمال ذاتها ما يوجب الكفر، وذلك بخلاف المعنى الأول من أنه لابد من تحقق قدر عملي من أعمال الطاعة عامة لتحقق أصل الإيمان وثبوت الصفة في أدنى صورها للمرء، فترك الأعمال جملة بالكامل كفر، كما سنبين، إلى جانب ترك الأعمال المشترطة لصحة الإسلام على خلاف فيها كما أوردنا. والله تعالى أعلم.

ص: 32

، وكذلك وجب تحقيق التوحيد بإتيان قدر عملي من هذه الأعمال الواجبة كلها كدليل على صحة الإيمان، فإنه من الممتنع أن يكون هناك مسلم حقيقة بالنظر إلى ما عند الله عز وجل ولا يؤدي أي شعائر تعبدية أو شرائع عملية طوال حياته بشكل من الأشكال.

يقول ابن تيمية: "قال أحمد بن حنبل: حدثنا خلف بن حيان حدثنا معقل بن عبيد الله العبسي قال: قدم علينا سالم الأفطس بالإرجاء، فنفر منه أصحابنا نفوراً شديداً، منهم ميمون بن مهران وعبد الكريم بن مالك. فإنه عاهد الله أن لا يؤويه وإياه سقف بيت إلا المسجد، قال معقل: فحججت فدخلت على عطاء بن أبي رباح في نفر من أصحابي وهو يقرأ: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا) ، قلت إن لنا حاجة فأخلنا، ففعل، فأخبرته أن قوماً قبلنا قد أحدثوا وتكلموا، وقالوا: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، فقال: أو ليس الله يقول: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) ، فالصلاة والزكاة من الدين، قال: فقلت: إنهم يقولون ليس في الإيمان زيادة، فقال: أو ليس قد قال الله فيما أنزل: (ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم) ، هذا الإيمان.

ص: 33

فقلت: إنهم انتحلوك وبلغني أن أبا ذر دخل عليك في أصحاب له فعرضوا عليك قولهم فقبلته، فقلت: هذا الأمر، فقال: لا والله الذي لا إله إلا هو، مرتين أو ثلاثاً، ثم قال: قدمت المدينة فجلست إلى نافع فقلت: يا أبا عبد الله إن لي إليك حاجة فقال: سر أم علانية؟ فقلت: لا بل سر. قال: رب سر لا خير فيه فقلت: ليس من ذلك. فلما صلينا العصر قام وأخذ بثوبي ثم خرج من الخوخة ولم ينتظر الغاص فقال: حاجتك قال: فقلت: أخلني هذا فقال: تنح، قال: فذكرت له قولهم فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أُمرت أن أضربهم بالسيف حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله. قال: قلت: إنهم يقولون نحن نقر بأن الصلاة فرض ولا نصلي وبأن الخمر حرام ونشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن ننكح، فنثر يده من يدي وقال: من فعل هذا فهو كافر" (1) .

وقال: "قال حنبل: حدثنا الحميدي قال: وأُخبرت أن ناساً يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل شيئاً من ذلك حتى يموت، ويصلي مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه إذا كان مقراً بالفرائض واستقبال القبلة، فقلت هذا الكفر الصراح"(2) .

وقال الإمام "الآجري" في نفس المعنى:

(1) كتاب الإيمان ص 174.

(2)

السابق ص178.

ص: 34

"اعلموا رحمنا الله وإياكم يا أهل القرآن، يا أهل العلم، ويا أهل السُّنَّة والآثار، ويا معشر من فقههم الله عز وجل في الدين - بعلم الحلال والحرام - أنكم إن تدبرتم القرآن كما أمركم الله عز وجل علمتم أن الله عز وجل أوجب على المؤمنين بعد إيمانهم به وبرسوله: العمل وأنه عز وجل لم يثن على المؤمنين بأنه قد رضى عنهم وأنهم قد رضوا عنه وأثابهم على ذلك الدخول إلى الجنة والنجاة من النار إلا بالإيمان والعمل الصالح.. وهذا رد على من قال: الإيمان المعرفة، ورد على من قال: المعرفة والقول وإن لم يعمل: نعوذ بالله من قائل هذا"(1) .

ويقول ابن تيمية: "ممن كان ظاهره أعمال الإسلام ولا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب فهو منافق نفاقاً ينقل عن الملة، ومن كان عقده الإيمان بالغيب ولا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام فهو كافر كفراً لا يثبت معه توحيد"(2) .

ويقول ضارباً مثالاً واضحاً: "فإن قال لهم قائل: لِمَ لم تقولوا كافر إن شاء الله تريدون به كمال الكفر كما قلتم مؤمن إن شاء الله تريدون به كمال الإيمان؟ ، قالوا: لأن الكافر منكر للحق والمؤمن أصل إيمانه الإقرار والإنكار لا أول له ولا آخر فتنتظر به الحقائق.

(1) الشريعة للآجرى ص122.

(2)

الإيمان لابن تيمية ص 286.

ص: 35

والإيمان أصله التصديق والإقرار ينتظر به حقائق الأداء لما أقر، والتحقيق لما صدق، ومثل ذلك كمثل رجلين عليهما حق الرجل، فسأل أحدهما حقه، فقال: ليس لك عندي حق، فأنكر وجحد فلم يبق له منزلة يحقق بها ما قال إذ جحد وأنكر، وسأل الآخر حقه فقال: نعم لك على كذا وكذا، فليس إقراره بالذي يصل إليه بذلك حقه دون أن يوفيه، فهو منتظر له أن يحقق ما قال بالأداء وتصديق إقراره بالوفاء، ولو أقر ثم لم يؤد إليه حقه كان كمن جحده في المعنى إذ استويا في الترك للأداء، فتحقيق ما قال، أن يؤدي إليه حقه، فإن أدى جزءاً منه حقق بعض ما قال ووفى بعض ما أقر به، وكلما أدى جزءاً ازداد تحقيقاً لما أقر به، وعلى المؤمن الأداء أبداً بما أقر به، حتى يموت" (1) .

وهذا الكلام من الإمام واضح بذاته أن على العبد أداء بعض ما أقر، فإن لم يؤد شيئاً بالمرة كان كمن جحد ولم يقر سواء بسواء.

ولقد بنى العلماء هذا القول على قاعدة قطعية في الشريعة الإسلامية وهي قاعدة: "تلازم الظاهر والباطن" فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل الظاهر دليلاً على ما في الباطن ومؤشراً عليه.

قال تعالى: (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون) .

فجعل الله سبحانه فساد ظاهرهم دليلاً على فساد عقيدتهم وباطنهم.

وقال تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) .

(1) السابق ص 277.

ص: 36

وهذا المعنى متواتر في الشريعة، وقاعدة مقررة في الأصول ليس هذا موضع بيانها، ولكن بناء على ذلك فإن ترك الأعمال جملة يدل على فساد القلب فساداً تاماً لا صلاح فيه، وقد أوضح ذلك الإمام ابن تيمية فقال:"فهذا الموضع ينبغي تدبره، فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعلم أن من قال من الفقهاء أنه إذا أقر بالوجوب وامتنع عن الفعل لا يقتل، أو يقتل مع إسلامه، فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شئ من الفعل ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في مسألة الإيمان وأن الأعمال ليست من الإيمان، وقد تقدم أن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب، وأن إيمان القلب التام بدون شئ من الأعمال الظاهرة ممتنع، سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان أو جزء من الإيمان"(1) .

ويقول في موضع آخر: "وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله بقلبه، أو بقلبه ولسانه، لم يؤد واجباً ظاهراً، ولا صلاة ولا زكاة ولا صياماً، ولا غير ذلك من الواجبات، لا لأجل أن الله أوجبها، مثل أن يؤدي الأمانة أو يصدق الحديث أو يعدل في قسمه وحكمه من غير إيمان بالله ورسوله، لم يخرج بذلك من الكفر، فإن المشركين وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور، فلا يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم (2) .

(1) مجموع الفتاوى جـ7ص616 كتاب الإيمان الأوسط.

(2)

السابق جـ7ص621.

ص: 37

ويقول: "

لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح، بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذي في القلب" (1) اهـ.

فهذا دال على أن انعدامها يعني انعدام الإيمان في القلب، ولاشك.

ويقول في بيان جلي: "

فإن الله لما بعث محمداً رسولاً إلى الخلق كان الواجب على الخلق تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر، ولم يأمرهم حينئذ بالصلوات الخمس ولا صيام شهر رمضان ولا حج البيت الحرام ولا حرم عليهم الخمر والربا، ونحو ذلك، ولا كان أكثر القرآن قد نزل، فمن صدقه حينئذ فيما نزل من القرآن وأقر بما أمر به من الشهادتين وتوابع ذلك كان الشخص حينئذ مؤمناً تام الإيمان الذي وجب عليه، وإن كان مثل ذلك الإيمان لو أتى به بعد الهجرة لم يقبل منه ولو اقتصر عليه كان كافراً" (2) .

(1)"الإيمان" ص169 وقد قال قبلها "وذلك لأن أصل الإيمان هو ما في القلب والأعمال الظاهرة لازمة لذلك" فلا يفهم منه أنها تعني كماله، وإنما ذلك عند نقصان بعضها، أما إنعدامها بالكامل فعندئذ ينتفي ما في القلب بالكلية لانعدام الملزوم بانعدام اللازم وهو ما ذكره ابن تيمية في موضع آخر يبين فيه ذلك فقال:"وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم" الإيمان ص105، ويقول:"فصار الإيمان متناولاً للملزوم واللازم وإن كان أصله ما في القلب" ص169.

(2)

مجموع الفتاوى جـ7ص518.

ص: 38

إذن فإن قضية لزوم جنس الأعمال - أعمال الجوارح - للنجاة من الخلود في النار، هي قضية محسومة إن جمعنا بين أقوال العلماء، وفهمناها فهماً صحيحاً متناسقاً لا يخل بما ورد عنهم في مواضع أخرى، أو بمقتضى قواعد أخرى، خاصة وأن عبارات السلف الصالح والأئمة الأعلام قد تتضارب - في ظاهرها - في العديد من المسائل. ولولا اتساق الفهم وحسن الظن بهم والتقدير لهم، مع العلم بأن اختلافهم، إنما هو اختلاف في الأنظار ووجهتها. وأن كل واحد منهم ينظر إلى طرف صحيح، والناج عند أحدهم ناج عند الآخرين والهالك عند أحدهم هالك عند الآخرين، لولا ذلك لأورثنا النظر في العديد من مقالاتهم اضطراباً شديداً في الفهم. والناظر في كتاب ابن تيمية:"الإيمان" يجد مصداق قولنا واضحاً. فإنه قد نقل عن السلف والأئمة في الكتب عن مسمى "الإيمان «أقوالاً كثيرة في عبارات مختلفة توهم التضارب والتضاد فمن قائل إن الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، ومن قائل إن الإسلام اعتقاد ونطق، ومن قائل إن الإيمان قول وعمل ونية، إلى غير ذلك من العبارات.

ولكن حاشاهم والتضارب والتضاد، إنما هي أنظار مختلفة تتفق كلها في الأصل ويتجه كل منها إلى طرف صحيح في ذاته وإنما سوء الفهم، وعدم الجمع بين الأدلة، وعدم إنزال كل قول على المراد منه بالنظر إلى القضية ككل، هو سيما المقصرين من أبناء هذا العصر الآخذين بظواهر العبارات، مما أداهم إلى إثبات ما لم يقصد إليه أحد من السلف والعلماء. يقول ابن تيمية موضحاً هذا المعنى:

"ومن هذا الباب أقوال السلف وأئمة السُّنَّة في تفسير الإيمان فتارة يقولون هو قول وعمل، وتارة يقولون هو قول وعمل ونية، وتارة يقولون قول وعمل ونية واتباع السُّنَّة، وتارة يقولون قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وكل هذا صحيح"(1) .

(1)"الإيمان" لابن تيمية ص146 ومابعدها.

ص: 39