الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإنه من فضل الله تعالى أن هدانا للمسلك القويم - مسلك أهل السُّنَّة والجماعة - وسط هذا الخضم الهائل من الآراء والأهواء، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ونسأله تعالى أن يوفقنا إلى الاعتصام بحبله والثبات على هديه إنه سميع عليم.
اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
الباب الأول
مفاهيم ضرورية
الفصل الأول
الإسلام والإيمان
إن المتتبع لآيات القرآن الكريم، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجد أن كلاً من لفظي "الإسلام والإيمان" قد وردا في بعضها بمعنى واحد - أي مترادفين - يدلان على مسمى واحد، وفي بعضها الآخر ورد كل منهما بمعنى مغاير للآخر، ودلّ كل منهما على معنى غير الذي دل عليه الآخر.
وقد تكلم السلف الصالح، وأئمة الإسلام في هذه القضية وامتلأت كتبهم بتحليلها، ونحن - إن شاء الله - ذاكرون لبعض الشواهد من الكتاب والسُّنَّة على هذه القضية أولاً، ثم جامعون بين أطراف هذه الشواهد والأدلة لنصل بذلك إلى الفهم المستقيم الذي تتواكب فيه المعاني كلها وتنتظم في اتساق يرفع الخلاف بين نصوص هذه الشريعة الغراء كما قال تعالى:(ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)(1) .
أولا ً: فقد وردت آيات وأحاديث تفيد أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة من البدن، والإيمان هو الأعمال الباطنة في القلب، فهما إذن متغايران.
مثال ذلك، قال تعالى:(قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم)(2) .
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه مسلم بسنده عن عمر بن الخطاب قال:
(1) النساء 82.
(2)
الحجرات 14.
"بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال صدقت. قال فأخبرني عن الإحسان قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.."(1) .
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير. قال: أن تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف"(2) .
وفي حديث عبد الله بن عبيد الله بن عمير عن أبيه عن جده أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإسلام؟ قال: إطعام الطعام وطيب الكلام [قيل فما الإيمان، قال: السماحة والصبر](3) .
ثانياً: كما وردت الآيات والأحاديث تفيد أن الأعمال الظاهرة داخلة في معنى الإيمان، وأن الأعمال الباطنة داخلة في معنى الإسلام. ومن ذلك:
قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون)(4) .
(1) رواه مسلم.
(2)
رواه البخاري ومسلم.
(3)
صححه الألباني وقال، حديث صحيح رجاله ثقات لولا عنعنة الحسن ولكن له شاهد من حديث عمرو بن عبسة في المسند 4/385 وآخر من حديث عبادة بن الصامت 5/318-319. راجع رسالة الإيمان لابن أبي شيبة ص18 طبعة المدرسة السلفية.
(4)
الحجرات 15.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"(1) .
وفي حديث وفد عبد القيس: "آمركم بأربع: الإيمان بالله وحده وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا الخمس من المغنم
…
" (2) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق منها أن تؤمن بالله ولا تشرك به شيئاً وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم وأن تسلم على القوم إذا مررت بهم فمن ترك من ذلك شيئاً فقد ترك سهماً من الإسلام ومن تركهن فقد ولى الإسلام ظهره"(3) .
وقال تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام)(4) .
ثالثاً: كما وردت آيات وأحاديث تفيد أن الإسلام والإيمان مترادفين. ومن ذلك:
قوله تعالى: (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين)(5) .
(1) راجع شرح النووي على مسلم جـ2ص3.
(2)
السابق جـ1ص181.
(3)
قال الألباني صحيح على شرط الشيخين راجع الإيمان لأبي عبيد ص11 طبعة المدرسة السلفية.
(4)
آل عمران 29.
(5)
الذاريات 35.
قال الإمام أحمد حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا عباد بن راشد حدثنا الحسن حدثنا أبو هريرة ونحن بالمدينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، "تجئ الأعمال يوم القيامة فتجئ الصلاة فتقول يارب أنا الصلاة فيقول إنك على خير. وتجئ الصدقة فتقول يارب أنا الصدقة فيقول إنك على خير، ثم يجئ الصيام فيقول يارب أنا الصيام فيقول إنك على خير. ثم تجئ الأعمال كل ذلك يقول الله تعالى إنك على خير، ثم يجئ الإسلام فيقول يارب أنت السلام وأنا الإسلام فيقول الله إنك على خير بك اليوم آخذ وبك أعطي"(1) .
والجمع بين كل ماسبق من الآيات والأحاديث التي ذكر في بعضها أن الإسلام شئ والإيمان شئ آخر، وفي بعضها أن الإسلام بمعنى الإيمان، هو أنه كما قال ابن رجب:"إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر، ودل بانفراده على ما يدل عليه الآخر بانفراده، فإذا قرن بينهما دل أحدهما على بعض مايدل عليه بانفراده، ودل الآخر على الباقي"(2) .
ثم يقول ابن رجب بعدها: "وقد صرح بهذا المعنى جماعة من الأئمة. قال أبو بكر الإسماعيلي في رسالته إلى أهل الجبل: قال كثير من أهل السُّنَّة والجماعة إن الإيمان قول وعمل، والإسلام فعل مافرض الله على الإنسان أن يفعله. إذا ذكر كل اسم على حدته مضموماً إلى الآخر، فقيل المؤمنون والمسلمون جميعاً مفردين أريد بأحدهما معنى لم يرد به الآخر، وإذا ذكر أحد الاسمين شمل الكل وعمهم. وقد ذكر هذا المعنى أيضاً الخطابي في معالم السُنن وتبعه عليه جماعة من العلماء بعده"(3) .
(1) رواه أحمد في مسنده.
(2)
رواه أحمد.
(3)
جامع العلوم لابن رجب ص 26.
ثم يقول: "وقد نقل هذا التفريق بينهما عن كثير من السلف: منهم قتادة وداود ابن أبي هند وأبو جعفر الباقر والزهري وحماد بن زيد وابن مهدي وشريك وابن أبي ذئب وأحمد بن حنبل وأبو خيثمة ويحيى بن معين وغيرهم.. وبهذا التفصيل الذي ذكرناه يزول الاختلاف فيقال: إذا أفرد كل من الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ، وإن قرن بين الاسمين كان بينهما فرق. والتحقيق في الفرق بينهما أن الإيمان هو تصديق القلب وإقراره ومعرفته، والإسلام هو استسلام العبد لله وخضوعه وانقياده له"(1) .
ويقول ابن تيمية: "
…
فلهذا فسَّر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بإيمان القلب وبخضوعه وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وفسَّر الإسلام باستسلام مخصوص هو المباني الخمس وهكذا في سائر كلامه صلى الله عليه وسلم يفسَّر الإيمان بذلك النوع ويفسَّر الإسلام بهذا" (2) .
ويقول: "وأما إذا قرن الإيمان بالإسلام، فإن الإيمان في القلب والإسلام ظاهر"(3) .
فما ذكرناه هو حاصل الأمر في هذا الموضوع، وبه يرفع الخلاف - كما قال ابن رجب - بالجمع بين أطراف الأدلة كلها، كما هو معلوم من أصول النظر عند أهل السُّنَّة في تناولهم للنصوص.
ثم إن "الدين" هو جماع ذلك كله. يقول شارح الفقه الأكبر: " (والدين اسم واقع على الإيمان والإسلام والشرائع كلها) أي الأحكام جميعها، والمعنى أن الدين إذا أطلق فالمراد به التصديق والإقرار وقبول الأحكام للأنبياء عليهم الصلاة والسلام"(4) .
(1) جامع العلوم لابن رجب ص26.
(2)
الإيمان لابن تيمية ص224.
(3)
مجموع الفتاوى لابن تيمية جـ7ص553.
(4)
شرح الفقه الأكبر لملا على القارى ص73.
ويقول البغوي في شرح السُّنَّة: "قد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام اسماً لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شئ واحد وجماعها الدين"(1) .
وما ذكره البغوي هو أحسن تفسير لهذا الأمر، فإن هذا التقسيم اصطلاحي فقط، أما من ناحية الحقيقة فإن الإيمان لا يوجد إلا بالإسلام، كما أن الإسلام لا يظهر إلا بالإيمان، وإخبات القلب لازمه العمل، كما أن العمل ينبئ عن التزام القلب وإخباته.. وذلك لصحة التلازم بين الظاهر والباطن كما هو مقرر في الأصول (2) .
يقول ابن تيمية: "وبهذا يظهر خطأ جهم ومن اتبعه في زعمهم أن مجرد إيمان بدون الإيمان الظاهر ينفع في الآخرة، فإن هذا ممتنع، إذ لا يحصل الإيمان التام (3) في القلب إلا ويحصل في الظاهر موجبه بحسب القدرة، فإن من الممتنع أن يحب الإنسان غيره حباً جازماً، وهو قادر على مواصلته ولا يحصل منه حركة ظاهرة إلى ذلك"(4) .
ويقول شارح الفقه الأكبر " (ولكن لا يكون) أي لا يوجد في اعتبار الشريعة (إيمان بلا إسلام) أي انقياد باطن بلا انقياد ظاهري"(5) .
(1) عن ابن تيمية في "الإيمان" ص311.
(2)
الموافقات للشاطبي جـ1 المسألة العاشرة.
(3)
والإيمان التام هنا هو الذي ينجو به صاحبه من الخلود في النار، وليس هو الإيمان الكامل أو "الإيمان الواجب كما قد يوهم اللفظ لقول ابن تيمية في شرح معناه "مقدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام" الإيمان الأوسط ص95 ومعلوم أن تارك الشهادتين كافر بإجماع، فإنتفاء إيمان القلب التام مستلزم الكفر.
(4)
مجموع الفتاوى لابن تيمية جـ7ص553.
(5)
شرح الفقه الأكبر ص 72.