المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مرجئة العصر الحديث - حقيقة الإيمان

[طارق عبد الحليم]

الفصل: ‌مرجئة العصر الحديث

وكذلك يظهر أن المقاصد والنيات معتبرة في الأعمال، وأن العمل الذي لا يقوم على قصد فهو لا معنى له، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات"(1) ، وقد تكلم ابن القيم على اعتبار المقاصد في العقود عامة دون اللفظ المجرد، قال تحت عنوان:"العبرة في العقود القصد دون اللفظ المجرد".

"ومما يوضح ما ذكرناه - من أن المقصود في العقود معتبرة دون الألفاظ المجردة التي لم تقصد بها معانيها وحقائقها أو قصد غيرها.."(2) ، ثم ذكر أمثلة من العقود المعتبر فيها القصد والنية دون اللفظ

ولا يخفى أن عقد الإسلام بكلمة لا إله إلا الله هو أولى العقود بهذا المعنى وأعلاها شأناً فلا يصح أن يكون اعتبار اللفظ المجرد فيه دون القصد والنية، وهو معنى التوحيد المتضمن إثبات الربوبية اللائقة به سبحانه، وتحقيق العبودية له اللازمة لربوبيته المنفية عمن عداه.

الفصل الثالث

ردود على شبهات

‌مرجئة العصر الحديث

وبعد.. فقد أثارت المرجئة - قديماً وحديثاً - بعض الشبهات التي اعتقدوا أنها تقدح فيما قررناه من قبل، من أن مجرد التلفظ بالشهادتين لا يثبت بمجرده الإسلام، إلا أن يكون دلالة على ترك الشرك والتبرؤ من دين الكفر، وأن المقصود الأول للإسلام هو عبادة الله وحده سبحانه وتعالى وترك الشرك وليس مجرد الإتيان بلفظ لا مدلول له ولا معنى يراد به.

ومن هذه الشبهات التي أثاروها: قصة أبي طالب، وجارية معاوية ابن الحكم ومؤمن آل فرعون، وقصة النجاشي.

(1) متفق عليه.

(2)

السابق جـ3 ص 119 وبعدها.

ص: 98

وقبل أن نرد تفصيلاً على هذه الشبهات، نريد أن نؤكد على معنى هام وهو أن الأصل - أو القاعدة الكلية - إذ تقررت فإنما تتقرر بضم جزئيات كثيرة من مجموع الشريعة ينتظم منها معنى واحد أو أصل واحد يجرى مجرى العموم، فلا يقدح فيه تخلف جزئية عن الدخول تحته، وإنما الأصل إذا تقرر بشواهد من الكتاب والسُّنَّة وغير ذلك من الأدلة الشرعية، فإنه يكون الحاكم على الجزئيات في الشريعة، فلا يمكن بعد ذلك معارضته بجزئية واحدة وردت في نص معين، لأن ذلك يعني معارضة نصوص كثيرة بنص واحد، وهو ما لا يصح شرعاً ولا عقلاً، وأما عند معارضة قضية ما أو نص معين لأصل كلي متقرر في الشريعة، تكون هذه القضية "قضية عين" أو "حكاية حال" لا تقدح في ثبوت الأصل الكلي.

وقد ناقش أئمة "أصول الفقه" هذه المسألة في معرض دراستهم لقضية "العموم والخصوص" وخاصة الإمام الشاطبي رحمه الله الذي جلاها أحسن تجلية وبينها أوضح بيان في "الموافقات".

فقضايا الأعيان: هي القضايا التي تعارض بظاهرها قاعدة عامة أو مطلقة سواء ثبتت هذه القاعدة بطريق النص العام أو الاستقرار الجزئي.

وفي طرق ثبوت العموم يقول الإمام الشاطبي رضي الله عنه: "العموم إذا ثبت فلا يلزم أن يثبت من جهة صيغ العموم فقط بل له طريقان:

أحدهما: الصيغ إذا وردت. وهو المشهور في كلام أهل الأصول.

والثاني: استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ" (1) اهـ.

ويقرر الشاطبي قاعدة قضايا الأعيان فيقول: "إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان ولا حكايات الأحوال. والدليل على ذلك أمور:

أحدها: أن القاعدة مقطوع بها بالفرض، لأنا إنما نتكلم في الأصول الكلية القطعية، وقضايا الأعيان مظنونة أو متوهمة. والمظنون لا يقف للقطعي ولا يعارضه.

(1)"الموافقات" جـ3 ص 298 المسألة السادسة من العموم والخصوص.

ص: 99

الثاني: أن القاعدة غير محتملة، لاستنادها إلى الأدلة القطعية. وقضايا الأعيان محتملة لإمكان أن تكون على غير ظاهرها، أو على ظاهرها وهي مقتطعة ومستثناة من ذلك الأصل. فلا يمكن والحالة هذه إبطال كلية القاعدة بما هذا شأنه.

والثالث: أن قضايا الأعيان جزئية. والقواعد المطردة كليات. ولا تنهض الجزئيات أن تنقض الكليات. ولذلك تبقى أحكام الكليات جارية في الجزئيات وإن لم يظهر فيها معنى الكليات على الخصوص، كما في المسألة السفرية بالنسبة إلى الملك المترف، وكما في الغنى بالنسبة إلى مالك النصاب والنصاب لا يغنيه على الخصوص، وبالضد في مالك غير النصاب وهو به غنى.

والرابع: أنها لو عارضتها فإما أن يعملا معاً، أو يهملا، أو يعمل بأحدهما دون الآخر. أعني في محل المعارضة: فإعمالهما معاً باطل وكذلك إهمالهما، لأنه إعمال للمعارضة فيما بين الظني والقطعي. وإعمال الجزئي دون الكلي ترجيح له على الكلي، وهو خلاف القاعدة، فلم يبق إلا الوجه الرابع وهو إعمال الكلي دون الجزئي وهو المطلوب" (1) اهـ.

ويقول في نفس المعنى: "

لأن الأمر الكلي إذا ثبت فتخلَّف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كلياً. وأيضاً فإن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار العام القطعي، لأن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت. إلى قوله:

(1)"الموافقات" جـ3 ص 261، 262 المسألة الأولى كتاب العموم والخصوص.

ص: 100

.. فإذا كان كذلك فالكلية في الاستقرائيات صحيحة، وإن تخلف عن مقتضاها بعض الجزئيات. وأيضاً فالجزئيات المتخلفة قد يكون تخلفها لِحكم خارجة عن مقتضى الكلي فلا تكون داخلة تحته أصلاً. أو تكون داخلة لكن لم يظهر لنا دخولها، أو داخلة عندنا لكن عارضها على الخصوص ما هي به أولى، فالملك المترفه قد يقال إن المشقة تلحقه لكنا لا نحكم عليه بذلك لخفائها، أو نقول في العقوبات التي لم يزدجر صاحبها: إن المصلحة ليست الازدجار فقط، بل ثم أمر آخر وهو كونها كفارة، لأن الحدود كفارات لأهلها وإن كانت زجراً أيضاً على إيقاع المفاسد، وكذلك سائر ما يتوهم أنه خادم للكلي.

فعلى كل تقدير لا اعتبار بمعارضة الجزئيات في صحة وضع الكليات للمصالح" (1) اهـ.

وبعد فسنذكر الرد على بعض الشبهات التي يثيرها المرجئة عن بعض قضايا الأعيان وهي:

1 -

أبو طالب.

2 -

جارية معاوية بن الحكم.

3 -

مؤمن آل فرعون.

4 -

النجاشي.

(1)

أبو طالب:

حكى البخاري في كتاب الجنائز من حديث المسيب بن حزن قال: "لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله. فقال أبوجهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب، آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ""أما والله لأستغفرن لك ما لم أنْه عنك"، فأنزل الله تعالى فيه: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين

الآية) (2) .

(1)"الموافقات" جـ2 ص 53 المسألة العاشرة، كتاب المقاصد.

(2)

التوبة 113.

ص: 101

وقد وقفت مبتدعة العصر الحديث على هذا الحديث فاعتقدوا أن الإسلام كلمة، والنجاة من النار بكلمة أو من الخلود فيها بكلمة لا شيء بعدها. ومن أثبت شيئاً معها لصحة الإسلام فهو من الخوارج بزعمهم.

قال الحميدي: سمعت وكيعاً يقول أهل السُّنَّة يقولون الإيمان قول وعمل والمرجئة يقولون الإيمان قول والجهمية يقولون الإيمان المعرفة: وفي رواية أخرى عنه، وهذا كفر" (1) .

وقد احتج عليهم الإمام أحمد بما أفحمهم في هذا المجال، قال أحمد:"ويلزمه أن يقول هو مؤمن بإقراره، وإن أقر بالزكاة في الجملة ولم يجد في كل مائتي درهم خمسة أنه مؤمن، فيلزمه أن يقول: إذا أقر ثم شد الزنار في وسطه وصلى للصليب وأتى الكنائس والبيع وعمل الكبائر كلها إلا أنه في ذلك مقر بالله فيلزمه أن يكون عنده مؤمناً، وهذه الأشياء من أشنع ما يلزمهم"(2) اهـ.

أتنجى الكلمة من النار ولو بقى مع تلفظه بها يعبد الأصنام ويستقسم بالأزلام وينذر للات والعزى ويتبرك بها لتقربه إلى الله زلفى، ذلك راجع إلى أهل الخلاف على أن الألفاظ هل تراد لذواتها أم لمعانيها؟ فإن من قال إن الألفاظ تراد لذواتها كان من لازم قوله أن من تلفظ بكلمة التوحيد - لا إله إلا الله - لم يكن قد خرج عن مقتضى اللفظ مع بقائه على ما كان عليه من الشرك من التحاكم إلى الكهان وعبادة الأصنام ومظاهرة المشركين.

وهذا تكذيب لصريح القرآن، فعلم أن الألفاظ إنما تراد لمعانيها وإن الكلمة إنما هي التوحيد المتضمن لتوحيد الأسماء والصفات وتوحيد القصد والإرادة والعمل، أي توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ولم يكن بد من ترك الشرك كله في الربوبية وفي الألوهية، وإفراد الله وحده بالعبادة من نسك وولاية وحكم.

(1) كتاب الإيمان لابن تيمية ص 264.

(2)

كتاب "الإيمان" لابن تيمية ص 349.

ص: 102

وترك العمل عمل، (وهي قاعدة أصولية) فلابد من القول مع العمل. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإسلام:"أن تقول أسلمت لله وتخليت".

ومثل هذا في النصوص كثير. ولما كانت القضية هي قضية الإسلام الأولى حسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً لفظياً، وإن كانت واضحة تماماً من حيث المعنى قطعاً، ولكن من يهدي من أضل الله؟ وهذه هي أقواله صلى الله عليه وسلم.

1 -

من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله تعالى.

2 -

من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله تعالى.

ويقول ربنا عز وجل: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) .

ويقول: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) أي التزموا الشرائع.

ويقول محمد بن نصر المروزي: " فمن كان ظاهره أعمال الإسلام ولا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب، فهو منافق نفاقاً ينقل عن الملة ومن كان عقده الإيمان بالغيب ولا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام فهو كافر كفراً لا يثبت معه توحيد"(1) .

وقال سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان أنه: "قول وعمل ونية وسُنة، لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سُنة فهو بدعة"(2) .

ويقول ابن تيمية عن أبي طالب: ".. بل أبو طالب وغيره كانوا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم ويحبون علو كلمته وليس عندهم حسد له، وكانوا يعلمون صدقه، ولكن كانوا يعلمون في متابعته فراق دين آبائهم وذم قريش لهم، فما احتملت نفوسهم ترك العادة واحتمال هذا الذم، فلم يتركوا الإيمان لعدم العلم بل لهوى النفس، فكيف يقال إن كل كافر إنما كفر لعدم علمه بالله"(3) .

(1) كتاب "الإيمان" لابن تيمية ص 286.

(2)

كتاب "الإيمان" ص 147.

(3)

كتاب "الإيمان" ص 164.

ص: 103

وقد سبق نقل ما أورده ابن القيم في زاد المعاد: ".. أن إقرار الكاهن الكتابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه نبي، لا يدخله في الإسلام ما لم يلتزم طاعته ومحبته ومتابعته"(1) .. الخ.

وأبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي نصره وشد أزره في طوال السنين العشرة التي عاشها في أول الدعوة، كان يعلم حق العلم معنى دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفهم أن دعوة "لا إله إلا الله" هي بذاتها دعوة هدم الأصنام، لتحل محلها تلك الكلمة، فيرد الأمر كله إلى الله عز وجل وحده.

فالتوجه بالدعاء والشعائر والرجاء والخوف والتوكل، سيكون لله مباشرة، وليس للأصنام، والولاء والتناصر سيكون لله وفي الله.

والتحاكم إلى الله وحق التشريع لله، وهو الحق الذي اغتصبه الوثنيون فأعطوه للأصنام، وما في معناها.. ففهم أبو طالب أن كل هذه المعاني هي مقتضى الكلمة التي دعاه إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفهم منها أنها نظام متكامل يهدم النظام الذي يعيشون عليه، والذي بنى على أساس الإشراك بالله. فكان أن رفض أبو طالب ذلك الأمر كله. ولم يرفض مجرد التلفظ بكلمة ليس لها مضمون ولا محتوى.

فإذن ما كان يريده رسول الله صلى الله عليه وسلم منه هو التوبة عن الشرك، والانخلاع من عبادة غير الله، وأن يلقى الله على غير دين عبد المطلب، بل على دين إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما، والعبودية لله وحده بقبول شرعه، ورفض ما سواه، مع الإقرار بالتوحيد وصحة الرسالة، وهي أشياء لا تتوقف على دخول وقت، ولا حولان حول، ولا انتفاء مانع، ولا غير ذلك مما يلزم وجوده في الفروع دون الأصل.

(1)"زاد المعاد" جـ3 ص 42.

ص: 104

ثم، أليست هذه الكلمة التى دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب حينما تلا عليهم قول الله تعالى:"قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضا أرباباً من دون الله فإن تولوا [أي عن التوحيد كما قال العلماء] فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون"(1) . فهذه الكلمة هي عهد وميثاق مع الله على الإقرار بالتوحيد والانخلاع من الشرك وإفراد الله بالعبودية.

(2)

جارية معاوية بن الحكم:

قال معقل بن عبيد الله العنسي بعد كلام: "فلقيت الحكم بن عتبة فقلت له: إن عبد الكريم وميموناً بلغهما أنه دخل عليك ناس من المرجئة، فعرضوا قولهم عليك فقبلت قولهم؟ ، فقال: فقيل ذلك على ميمون وعبد الكريم؟! لقد دخل علىَّ اثنا عشر رجلاً وأنا مريض، فقالوا: يا أبا محمد بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل بأمة سوداء أو حبشية فقال: يا رسول الله، علىَّ رقبة مؤمنة، أفترى هذه مؤمنة؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهدين أن لا إله إلا الله، فقالت: نعم، قال: وتشهدين أن محمداً رسول الله، قالت: نعم، قال: وتشهدين أن الجنة حق والنار حق؟ ، قالت: نعم قال: وتشهدين أن الله يبعثك بعد الموت، قالت: نعم. قال فأعتقها فإنها مؤمنة. فخرجوا وهم ينتحلون ذلك"(2) اهـ.

وفي رواية أخرى، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أين الله، فقالت: في السماء، ومن أنا؟ فقالت: رسول الله، فقال: اعتقها فإنها مؤمنة".

(1) سورة "آل عمران" آية 64.

(2)

"الإيمان" لابن تيمية ص 175 - 176.

ص: 105

والقصة أصلاً بصدد عتق الكفارة، أي الرقاب فيها يجزئ؟ ولذلك تنازع الفقهاء في أي الرقاب يجزئ عتقه، وذلك لكلمة مؤمنة التي جاءت في آيات العتق الخاص بالكفارات، وتنازعوا هل يجزئ الصغير به، على قولين معروفين للسلف، هما روايتان عن أحمد. فقيل لا يجزئ عتقه لأن الإيمان قول وعمل، والصغير لا يؤمن بنفسه، وإنما إيمانه تبع لأبويه في أحكام الدنيا، ولم يشترط أحد أن يعلم هل هو مؤمن في الباطن أم لا.

وقيل: يجزئ عتقه لأن العتق من الأحكام الظاهرة وهو تبع لأبويه، فكما أنه يرث منهما، ويصلي عليه، ولا يصلي إلا على مؤمن فإنه يعتق.

ص: 106

وهي قضية عين تنزل على مقتضى القواعد الكلية. ولم يرد في القصة أن هذا كان ابتداء إسلامها، وكذلك لم يرد أنها عندما أقرت به بما أقرت به لم تدخل فيما دخل فيه غيرها من المسلمين. أو لم تكن قد دخلت فعلاً فيما دخل فيه المسلمون. وقد تكون القصة وردت لتبين أي قدر من الإيمان يلزم للعتق، وعلى كل حال فقضايا الأعيان ترتبط بملابساتها دائماً، ولا يمكن أن يقدح حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم سواء في هذه الحادثة أو في غيرها في القواعد والأصول، ولهذا لم يقدح حبس ثمامة بن أثال، في سارية المسجد، في عموم النهي عن دخول كل المشركين لكل المساجد. وقد جاء في الرواية الأخرى، أنه عندما سألها أين الله؟ ، قالت: في السماء. وقد اختلف المتكلمون أنفسهم في الرد على هذا السؤال، فالمعتزلة قالت: في كل مكان، وقالت الأشاعرة: لا في داخل العالم ولا في خارجه، وقال السلف في السماء فوق عرشه من غير تحيز، وكلهم يشهد أن لا إله إلا الله (1) !

فإذا كان اللفظ يثبت إسلاماً، لوجب اعتبار العباس مسلماً بقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد كنت مسلماً – مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتبره كذلك بمجرد هذا القول – ولوجب اعتبار من تكلم بالإسلام في مكة مع مظاهرتهم للمشركين مسلمين بمجرد القول، كذلك فإن الذين قالوا: صبأنا لم يمكن القطع بإسلامهم في الحال بناءً على القول، ولا فرق كما قلنا بين ذلك وبين قول الجارية.

(1) وينبغي الإشارة هنا إلى أن هؤلاء المخالفين لأهل السنة بإثبات الإيمان بمجرد القول – ويجعلون عمدتهم في ذلك ظاهر الحديث – قد أولو قول الجارية: في السماء، وصرفوه عن ظاهره خلافاً لأهل السنة الذين يثبتون كون الله عز وجل في السماء فوق العرش مباين للخلق، فلو قال قائل: إن الله في السماء لما اعتبروا ذلك القول صحيحاً ابتداءً، فكيف يصححون الإيمان بمجرده؟!.

ص: 107

وقضايا الأعيان ليست محل بيان حتى يقال عدم البيان في موضع البيان، بيان للعدم، وإنما البيان تكفلت به القواعد.

3-

النجاشي:

يقول ابن تيمية في كتاب الإيمان: "وكذلك لو قيل إن رجلاً يشهد أن محمداً رسول الله باطناً وظاهراً، وقد طلب منه ذلك، وليس هناك رهبة ولا رغبة يمتنع لأجلها، فامتنع منها حتى قتل، فهذا يمتنع أن يكون في الباطن يشهد أن محمداً رسول الله، ولهذا كان القول الظاهر، من الإيمان الذي لا نجاة للعبد إلا به عند عامة السلف والخلف من الأولين والآخرين إلا الجهمية (جهماً ومن وافقه) فإنه إذا قدر أنه معذور لكونه أخرس أو لكونه خائفاً من قوم إن أظهر الإسلام آذوه، ونحو ذلك، فهذا يمكن أن لا يتكلم مع إيمان في قلبه، كالمكره على كلمة الكفر، قال الله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) ، وهذه الآية مما يدل على فساد قول جهم، فإنه جعل كل من تكلم بالكفر، من أهل وعيد الكفار، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، فإن قيل: فقد قال تعالى (ولكن من شرح بالكفر صدراً) ، قيل: هذا موافق لأولها، فإنه من كفر من غير إكراه فقد شرح بالكفر صدراً، وإلا تناقض أول الآية وآخرها، ولو كان المراد بمن كفر هو الشارح صدره، وذلك يكون بلا إكراه، لم يستثن المكره فقط، بل كان يجب أن يستثنى المكره وغير المكره إذا لم يشرح صدره، وإذا تكلم بكلمة الكفر طوعاً فقد شرح بها صدراً وهي كفر.. الخ"(1) اهـ.

ولذلك قال بعضهم: النجاشي شهد الرسول صلى الله عليه وسلم بإسلامه، وقد كان على رأس نظام الكفر والتثليث بالحبشة، ولم يعترف بالإسلام اعترافاً جازماً خوفاً على ملكه، وإنما هي إشارة عرف منها الرسول إيمانه.. فنقول وبالله التوفيق:

(1)"الإيمان" ص 188.

ص: 108

1-

أنهم اعتمدوا في هذا الذي قرروه على ما رواه ابن هشام عن ابن اسحق عن جعفر بن محمد عن أبيه، من خروج الحبشة على النجاشي، وقولهم له:"فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد؟ قال: فما تقولون في عيسى؟ قالوا: نقول هو ابن الله. فقال النجاشي ووضع يده على صدره على قبائه، وهو يشهد أن عيسى ابن مريم لم يزد على هذا شيئاً، إنما يعني ما كتب في قبائه، وكان قد كتب فيه هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويشهد أن عيسى ابن مريم عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم، فرضوا وانصرفوا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات النجاشي صلى عليه واستغفر له".

وما رواه ابن اسحق عن جعفر بن محمد لم يتحدد له وقت، فلعله كان في البداية، ليوافق ما جاء في حديث أم سلمة من خروج رجل من الحبشة عليه. ولكن حديث أم سلمة كله ليس فيه إشارة إلى إسلام النجاشي. والثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليه عمرو بن أمية الضمري بعد غزوة الخندق يدعوه إلى الإسلام، فأخبره النجاشي أنه أسلم على يدي جعفر.

ولم تكن هذه هي بعثة عمرو بن أمية الضمري الأولى إلى النجاشي، بل كانت الأخيرة، أما الأولى فقد كانت بعد غزوة بدر، فيتضح من هذا أن إسلام النجاشي كان بين غزوة بدر وغزوة الخندق، ولقد عاد عمرو وجعفر وكل من في الحبشة من المسلمين عقيب فتح خيبر، وهذا هو بعض حديث أم سلمة:".. قالت: فقرأ عليه صدراً من "كهيعص" قالت: فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون".

ص: 109

وكانت هذه زيارة عمرو بن العاص الأولى له بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة، وقبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وفي حديثها أيضاً:"قالت: فلما دخلوا عليه قال لهم: ماذا تقولون في عيسى ابن مريم؟ قالت: قال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، هو عبد الله ورسوله وروحه، وكلمة ألقاها إلى مريم العذراء البتول، قالت، فضرب النجاشي بيده الأرض فأخذ منها عوداً، ثم قال: والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، قالت: فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم شؤم بأرضي، والشيوم الآمنون".

ثم ذكرت أن رجلاً من الحبشة خرج عليه ينازعه ملكه، وأن النجاشي انتصر عليه، واستقر له أمر الحبشة ومكن الله له فيها. ثم قالت: فكنا عنده في خير منزل، حتى قدمنا على رسول الله عليه وسلم بمكة، وقد هاجرت بعد ذلك أم سلمة إلى المدينة بعد هجرة زوجها أبو سلمة بنحو عام، ثم توفي زوجها، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال سنة أربع من الهجرة. "سيرة ابن هشام"(1) .

2-

أورد القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى..) الخ.

(1) راجع قصة النجاشي من "سيرة ابن هشام" جـ1/338:334.

ص: 110

وهذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه لما قدم عليهم المسلمون في الهجرة الأولى، حسب ما هو مشهور في سيرة ابن اسحق وغيره. خوفاً من المشركين وفتنتهم وكانوا ذوي عدد. ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد ذلك، فلم يقدروا على الوصول إليه، حالت بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم الحرب، فلما كانت وقعة بدر، وقتل الله فيها صناديد الكفار، قال كفار قريش: إن ثأركم بأرض الحبشة، فاهدوا إلى النجاشي وابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم، لعله يعطيكم من عنده فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر، فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة بهدايا، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري وكتب معه إلى النجاشي، فقدم على النجاشي فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم، ثم أمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن، فقرأ سورة مريم، فقاموا تفيض أعينهم من الدمع. فهم الذين أنزل الله فيهم:(ولتجدن أقربهم مودة الذين آمنوا.. – وقرأ إلى – الشاهدين)(1) رواه أبو داود.

3-

جاء في "زاد المعاد" جـ3 صـ06 في ذكر خطابه صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي قال:

".. وبعث بالكتاب مع عمرو بن أمية الضمري، فقال ابن اسحق إن عمراً قال له: يا أصحمة إن علي القول وعليك الاستماع، إنك كأنك في الرقة علينا، وكأنا في الثقة بك منك، لأنا لم نظن بك خيراً قط إلا نلناه، ولم نخفك على شئ قط إلا أمناه، وقد أخذنا الحجة عليك من فيك، الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد، وقاض لا يجور، وفي ذلك الموقع الحز وإصابة المفصل، وإلا فأنت في هذا النبي الأمي، كاليهود في عيسى ابن مريم.

(1)"القرطبي" جـ6/255.

ص: 111

وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم رسله إلى الناس، فرجاك لما لم يرجهم له، وأمنك على ما أخافهم عليه، بخير سالف وأجر ينتظر، فقال النجاشي: أشهد بالله أنه النبي الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى براكب الحمار، كبشارة عيسى براكب الجمل، وأن العيان ليس بأشفى من الخير.

ويقول في رده على الرسول صلى الله عليه وسلم: "أما بعد فقد بلغني كتابك يا رسول الله، فيما ذكرت من أمر عيسي، فورب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت تفروقاً (1) ، إنه كما ذكرت وقد عرفنا ما بعث به إلينا، وقد عرفنا ابن عمك وأصحابك، فأشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين.

وتوفي النجاشي سنة تسع، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته ذلك اليوم، فخرج بالناس إلى المصلى فصلى عليه وكبر أربعاً. قلت: وهذا وهم والله أعلم، وقد خلط راويه ولم يميز بين النجاشي الذي كتب إليه يدعوه فهما اثنان، وقد جاء ذلك مبيناً في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى النجاشي وليس بالذي صلى عليه " (2) .

4-

جاء في زاد المعاد جـ3ص62 في كتابه صلى الله عليه وسلم إلى ملك عمان: "فسألني أين كان إسلامك (3) ، قلت عند النجاشي، وأخبرته أن النجاشي قد أسلم، قال فكيف صنع قومه بملكه؟ فقلت: أقروه واتبعوه، قال: والأساقفة والرهبان تبعوه؟ قلت نعم.." إلى أن يقول:

(1) التفروق: غلافة بين النواة والقشر.

(2)

"زاد المعاد" جـ3 ص 60، 61.

(3)

يقصد عمرو بن العاص.

ص: 112

"ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي؟ قلت: بلى. قال: بأي شئ علمت ذلك؟ قلت: كان النجاشي يخرج له خرجاً، فلما أسلم وصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم قال: لا والله لو سألني درهماً واحداً ما أعطيته. فبلغ هرقل قوله فقال له النياق أخوه: أتدع عبدك لا يخرج لك خرجاً ويدين بدين غيرك ديناً محدثاً به. قال هرقل: رجل رغب في دين فاختاره لنفسه، ما أصنع به، والله لولا الضن بملكي لصنعت كما صنع"(1) .

5-

وما ذكره في "زاد المعاد" عن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي مع عمرو بن أمية الضمري، وما ذكره أيضاً عن بعثة عمرو بن العاص إلى عبد وجيفر ابني الجلندي، وحواره مع عبد بن الجلندي، يتفق مع ما جاء في سيرة ابن هشام أن عمرو بن العاص بعد غزوة الخندق، وإحساسه باقتراب ظهور أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قرر هو ونفر من قريش أن يرتحلوا إلى الحبشة، فإن ظهرت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد إلى مكة، وإن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان هو عند النجاشي فلا يصل إليه، ثم إنه لما وصل الحبشة، وزار النجاشي، وقرب إليه ما معه من هدايا، وجد عنده عمرو بن أمية الضمري، فسأله أن يعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتله، فغضب النجاشي، وضربه بمروحته ضربة كاد يطير لها أنفه، وقال له: تسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله؟ ، قلت: أيها الملك أكذاك هو؟ ، قال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه فإنه والله على الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، قال: قلت: أتبايعني على الإسلام؟ قال: نعم، فبسط يده فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي وقد حال رأي عما كان عليه، وكتمت أصحابي إسلامي.

(1)"زاد المعاد" جـ 3 ص 62.

ص: 113

وبعد كل هذا يقال عن العبد الصالح النجاشي، أنه عندما اعترف بالإسلام، لم يعترف اعترافاً جازماً، وكان على رأس نظام الكفر والتثليث، يحكم بغير ما أنزل الله، عجباً! لقد قالوا ما لو أدركه "على عبد الرازق" قبل شؤمه الذي كتب، لاشتد بهم فرحه.

6-

أما عن إمكان الخلط بين كون النجاشي مات ملكاً ولم يحكم بحكم الله، فهو وهم كما بينا، نتج من اعتبار أن النجاشي الذي كتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ست هجرية ومات ملكاً عام تسع، هو النجاشي الذي قابله عمرو بن العاص، والذي صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإن هذا غير ذاك، كما ذكر ابن القيم في "زاد المعاد"، وذكر أن صحيح مسلم أوضح ذلك.

جاء في صحيح مسلم::حدثني يوسف بن حماد والمعنى حدثنا عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن أنس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم".

وذكر مسلم نفس الحديث بسندين مختلفين عن هذا، كلها عن أنس، ولم يذكر فيها قوله:"وليس بالنجاشي" ولكن يتضح من مقارنة ذلك مع قصة عمرو بن العاص، أن رواة السندين الأخيرين قد وهموا، أو نسوا ما ثبت في رواية الطريق الأول. والله أعلم.

ص: 114

ويؤيد ذلك ما ورد في "البداية والنهاية" لابن كثير، فقد قال في روايته عن هجرة المسلمين الأولين إلى الحبشة، وذكر خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي سنة تسع قال:".. هكذا ذكره البيهقي بعد قصة هجرة الحبشة، وفي ذكره ههنا نظر، فإن الظاهر أن هذا الكتاب، إنما هو إلى النجاشي الذي كان بعد المسلم، صاحب جعفر وأصحابه، وذلك حين كتب إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الله عز وجل، قبيل الفتح، كما كتب إلى هرقل عظيم الروم.. إلى قوله:".. فهذا الكتاب إلى الثاني لا إلى الأول، وقوله فيه إلى النجاشي الأصحم، لعل الأصحم مقحم من الراوي بحسب ما فهم. والله أعلم) اهـ.

ثم أورد بعدها خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي الأول، الذي أرسله مع عمرو بن أمية الضمري، ورد النجاشي عليه، قال فيه:".. فأشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين، وقد بعثت إليك يا نبي الله بأريحا بن الأصحم بن أبجر، فإني لا أملك إلا نفسي، وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله، فإني أشهد أن ما تقول حق".

(4)

مؤمن آل فرعون:

ص: 115

لم يرد في القرآن ولا في غيره من النصوص، أن مؤمن آل فرعون كان يكتم عن موسى والمؤمنين معه، وإلا كيف يحكمون بإسلامه ويعاملونه على أنه مسلم مؤمن معهم، وهو يكتم عنهم أمره، وإنما كان يكتم أمره عن فرعون وملأه، ولا يعني هذا أنه كان يوالي فرعون، أو يلتزم بشريعته، بل شأنه في ذلك شأن نعيم بن مسعود عندما أسلم، إبان غزوة الخندق، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما عرض عليه نعيم جهاده:"إنما أنت رجل واحد فخذل عنا" وطلب منه أن يكتم إيمانه حتى ينجح في مهمته، ففعل نعيم ما فعل مع أبي سفيان وبني قريظة وغيرهم، وهم لا يعلمون أنه على دين محمد، لأنه كتم عنهم إسلامه، وكفعل محمد بن مسلمة، عندما قتل كعب بن الأشرف، واستأذن الرسول عليه الصلاة والسلام أن يذكره فأذن له، فجعل محمد بن مسلمة يشكو إلى كعب شأن محمد وأصحابه، ليظن كعب أن به نفاقاً، فيأمنه، وقد كان، وبهذا استطاع أن يقتله، وكما كان المسلمون يستخفون بإسلامهم في مكة، فإنهم كانوا يكتمون إيمانهم عن قومهم حتى يأمنوا أذاهم، ولكن كان الرسول عليه الصلاة والسلام ومن معه ومعهم من المؤمنين يعلمون شأنهم.

وليس معنى أنهم كانوا يكتمون إيمانهم عن قومهم أنهم كانوا يعبدون معهم الأصنام، أو يذبحون على النصب،أو يستحلون الميتة، أو يأدون البنات، أو يتحاكمون إلى الكهان.

كلا، وإنما فقط مع اعتزالهم، لكل ذلك لا يعلنون أنهم اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم، وكانت موالاتهم للرسول والمؤمنين بالشرائع، هي الأساس الذي قام عليه إسلامهم؟ قام على العبودية لله بقبول شرعه، ورفض ما سواه وهو معنى الالتزام بالشرائع جملة وعلى الغيب، وهذا هو معنى استسلامهم لشريعة الله، حتى قبل أن ينزل منها فرض واحد.

ص: 116

وكذلك شأن مؤمن آل فرعون. ثم الرجل قد أعلن إيمانه كالراسيات الشوامخ، وصدع بالحق في وجه فرعون وجنوده حين حان الحين لذلك، كما يتبين من قصته في القرآن الكريم.

الباب الثالث

في الرد على الخوارج (1)

(1) نبذة تاريخية: الخوارج اسم عرف في التاريخ عن طائفة من جند علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، خرجوا عليه في موقعة صفين مع معاوية رضي الله عنه، لقبوله التحكيم في قضية الصراع بينهما، زاعمين أنه بذلك شك في حقه في الخلافة، وحكم الرجال في كتاب الله - فسموا المحكمة - ورفعوا شعار (لا حكم إلا لله) فقال علي رضي الله عنه:"كلمة حق أريد بها باطل"، وتوجهوا إلى حروراء وهي مدينة بقرب الكوفة - فسموا كذلك الحرورية - حيث تجمعوا لقتال عليِّ فقاتلهم في موقعة النهروان، وهزمهم، فزاد كرههم له رغم أمره أن لا يقتل هاربهم ولا تسبى نساؤهم، وقوله:"ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه"، وهذا كله في حق خوارج علي بالذات، قبل أن تتطور مذاهبهم وآرائهم التي أوجبت الخلاف في تكفيرهم، وقد اشتدت الدولة الأموية في قتالهم، خاصة قائدها المهلب بن أبي صفرة وابن زياد، وقد انقسموا إلى عدة طوائف تصل إلى العشرين، تختلف فيما بينها في نظرتها إلى المسلمين من حولهم ولهم نظريات في السياسة كالخلافة والإمامة، ونظرات في العقائد، كالإيمان ومرتكب الكبيرة، من هذه الفرق الأزارقة، وهي أشدهم، وقد كفروا علياً ومعاوية وجميع المسلمين غير أتباعهم، واستحلوا دماء المسلمين وأطفالهم ونسائهم، واعتبروهم كعباد الأوثان، وكانوا يكفرون مرتكب الكبيرة. ومنهم النجدات، الصفيرية، البهيسية، الإباضية والأخيرة أقربهم إلى أهل السنة، فقد قالوا إن مرتكب الكبيرة كافر كفر نعمة، إلى غير ذلك من الفرق.

وقد عرف الخوارج بشدة العبادة والزهد وقوة العقيدة والشجاعة النادرة، ولهم في ذلك أحاديث مشهورة في التاريخ، ومن أشهر خطبائهم أبي حمزة الخارجي وقطري بن الفجاءة.

راجع "البيان والتبيين" للجاحظ جـ2 ص 277، "نيل الأوطار" للشوكاني جـ7 ص 339، "تاريخ الإسلام السياسي" لحسن إبراهيم جـ1 ص 375. "الملل والنحل" للشهرستاني هامش ابن حزم جـ1 ص 157 وغيرها.

ص: 117

الفصل الأول

مجمل أقوال الخوارج

وعلى الطرف النقيض للمرجئة – الذين أشاعوا الفسق بآرائهم، فانتشرت المعاصي واستبيحت حرمات الله – كانت أقوال الخوارج وشبهاتهم – قديماً وحديثاً – مثالاً للتنطع في الدين في غير موضعه، نظراً لظروف النشأة السياسية لهم، فخرجوا عن عقائد أهل السُّنَّة والجماعة، وغلوا في دينهم، ونظروا إلى النصوص نظرة سطحية لا تنفذ إلى المعاني، يقرؤون القرآن ولا يجمعون بين نصوصه، كما هو حال أهل الأهواء والبدع جميعاً، فصدق عليهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة" متفق عليه.

وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم بسنده عن أبي سعيد قال: "بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماً فأتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم، قال: يا رسول الله اعدل، فقال: ويلك، فمن يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل. فقال عمر: يا رسول الله أتأذن لي فيه فأضرب عنقه؟ فقال: دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شئ، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شئ، ثم ينظر إلى نفسه – وهو قدحه – فلا يوجد فيه شئ، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شئ، قد سبق الفرث والدم"(1) .

(1) عن "نيل الأوطار" للشوكاني جـ7 ص 344، والنصل والرصاف والنفي والقذذ هي أجزاء من السهم وأنواع منه، يريد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يخرجون من الدين لا يتعلق منه بهم شيئاً.

ص: 118

ومجموع صفاتهم تدل على شدة تعبدهم والتزامهم بالأمر، إلا أن ذلك ليس بدافعهم لبدعتهم في تكفير المسلمين وقتلهم أهل القبلة، وشذوذهم في الرأي الذي بنوا عليه مذهبهم في ذلك، ومخالفتهم لأهل السُّنَّة والجماعة في منهج النظر إلى النصوص الشرعية، ومن ثم في النتيجة التي وصلوا إليها بمنهاجهم الأعوج، وفهمهم السقيم.

وسنورد – إن شاء الله تعالى – مجمل أقوالهم وشبهاتهم وأدلتهم عليها، ثم نفصل القول فيها بعد ذلك لننقضها شبهة شبهة. سائلين الله التوفيق والهداية للحق بإذنه.

مجمل أقوالهم:

(1)

قالوا: إن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان، فهو قول وعمل، لكنه ثابت لا يزيد ولا ينقص، فإن ذهب أحد أوصافه أو أجزائه ذهب كله جملة واحدة، ولم يصح وصف صاحبه بالإيمان مطلقاً بل هو كافر طالما عرف ذنبه ولم يتب منه.

يقول ابن تيمية: (ثم قالت الخوارج والمعتزلة: الطاعات كلها من الإيمان، فإذا ذهب بعضها ذهب بعض الإيمان فذهب سائره، فحكموا بأن صاحب الكبيرة ليس معه شئ من الإيمان)(1) .

ثم يفصل جماع شبهتهم في ذلك فيقول: (وجماع شبهتهم في ذلك أن الحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها، كالعشرة فإنه إذا زال بعضها لم تبق عشرة وكذلك الأجسام المركبة كالسكنجبين (2) إذا زال أحد جزئيه خرج عن كونه سكنجبيناً. قالوا: فإذا كان الإيمان مركب من أقوال وأعمال، ظاهرة وباطنة، لزم زواله بزوال بعضها، وهذا قول الخوارج والمعتزلة، قالوا: ولأنه يلزم أن يكون الرجل مؤمناً بما فيه من الإيمان، كافراً بما فيه من الكفر، فيقوم به كفر وإيمان، وادعوا أن هذا خلاف الإجماع) (3) .

(1) الإيمان الأوسط ط "مكتبة الفرقان" ص 52.

(2)

السكنجبين. شراب مركب من حامض وحلو مثل شراب الليمون.

(3)

السابق ص 53.

ص: 119

(2)

كما كان من نتيجة ذلك أنهم سووا بين أعمال الكفر وأعمال المعاصي، فجعلوا من يفعل المعصية كافراً، وجعلوها كلها - بذلك النظر - أفعال مكفرة ما لم يتب منها، فأنكروا انقسام الذنوب إلى شرك وإلى معاصي دون الشرك، واستدلوا على كفر العاصي بأدلة - بزعمهم - منها:

1 -

أن الله سبحانه قد أطلق اسم الإيمان على الأعمال كلها - فعلاً وتركاً - فتكون كلها داخلة في أصله، فمن ترك منها شيئاً نزع عنه وصف الإيمان جملة وكان كافراً كما قلنا من قبل.

2 -

قول الله تعالى في مواضع متعددة من كتابه أن معصية الله ورسوله تدخل النار مع الخلود فيها كقوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين)(1) .

وقوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً)(2) .

وقوله تعالى: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)(3) .

فحملوا لفظ المعصية في الآيات على مطلق المعصية أو الذنب، وأن الخلود في النار يعني الكفر.

وكذلك وصفه تعالى لبعض مرتكبي المعاصي بأنهم من أصحاب النار الخالدين فيها.. قالوا فهم كافرون بهذا، كقوله تعالى:(ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً)(4) واستدلوا على ذلك بأن إبليس إنما كفر بمعصية الله سبحانه في عدم طاعته للأمر بالسجود لآدم، ومثله كل عاص لله تارك لأمره.

3-

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكر بعض المعاصي في أحاديثه الصحيحة وأطلق عليها اسم الكفر:

مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "اثنتان في الناس هما بهم كفر، الطعن في النسب، والنياحة على الميت"(5) .

وقوله صلى الله عليه وسلم: "أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم"(6) .

(1) النساء 14.

(2)

الجن 23.

(3)

البقرة 81.

(4)

النساء93.

(5)

رواه مسلم.

(6)

رواه مسلم.

ص: 120

وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفاراً بضرب بعضكم رقاب بعض"(1) .

وقوله صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"(2) .

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا كَفَّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما"(3) .

وقد حملوا الكفر في هذه الأحاديث على الكفر الأكبر الناقل عن الملة لمرتكب هذه المعصية مطلباً. كذلك وصفه صلى الله عليه وسلم لمرتكب المعاصي أنهم ليسوا مؤمنين:

كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن"(4) .

وقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله"(5) .

وقوله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا"(6) .

فحملوا قوله صلى الله عليه وسلم على مرتكب المعصية أنه ليس بمؤمن يعني كافراً، وكذلك أن لعنة الله تعني كفر من لعنه الله، كما قال الله تعالى:(فلعنة الله على الكافرين)(7) فلعنة الله إذن لا يستحقها إلا الكافر.

ثم كان من نتيجة هذا أن جوزوا الكفر على الأنبياء عليهم السلام، وادعوا أن آدم عليه السلام قد كفر بالله بأكله من الشجرة، ثم تاب بعد ذلك، وذلك قوله تعالى:(وعصى آدم ربه فغوى)(8) الآية.

(1) متفق عليه.

(2)

رواه مسلم.

(3)

رواه مسلم.

(4)

رواه مسلم.

(5)

رواه مسلم عن ابن مسعود.

(6)

رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة.

(7)

البقرة 89.

(8)

سورة طة 121.

ص: 121

4-

وأن الآيات التي وردت في القرآن الكريم كلها تفيد أن مغفرة الله ورحمته مرتبطة بالتوبة من الذنب أو المعصية، فإن لم يتب منها فهو غير مغفور له لا محالة، فيدخل بها النار خالداً فيها ويكون بذلك كافراً.

واستدلوا بالنصوص التي سبق أن أوردناها للاستدلال على المرجئة، ولكن جعلوا عدم المغفرة للذنب مستلزماً لكفر العاصي والتخليد في النار، على العكس من قول أهل السُّنَّة الذين جعلوا ذلك مستحقاً للعذاب ولكن إلى أجل مسمى يخرج بعده من النار إن كان من الموحدين.

وسنبين إن شاء الله تعالى فساد هذا الأدلة التي أوردوها (1)

(1) ونريد أن نبين أن ما أوردناه من شبهات للخوارج - قديماً وحديثاً - هي شبهاتهم التقليدية التي درجوا عليها في كل عصر وحين. إلا أن هناك بعض الشبهات الأخرى التي لم نتعرض لها حيث أنه لا مجال لبحثها هنا في هذا المبحث. ومن أمثلة ذلك اعتبار بعض فرقهم أن "الجماعة" شرط في صحة الإسلام، وأنها ركن من أركان الإسلام فمن ترك "الجماعة" فقد كفر - على مذهبهم في تكفير العاصي - لقوله صلى الله عليه وسلم:(فمن ترك الجماعة قيد شبر خلع ربقة الإسلام إلى أن يرجع) ، وقصروا الجماعة المعنية في الحديث على أنفسهم، فمن لم يلتزم جماعتهم فقد كفر بزعمهم، وأبيح دمه وماله وعرضه! حتى وإن هذا كان من أتقى الناس وأكثرهم إخلاصاً في الدعوة إلى الله تعالى، فصدق فيهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:".. يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان" وكما قلنا فإن مثل هذه الشبهات ليس محلها هذا المبحث، وإنما أردنا أن ندلل على أنه ما من رأي ذهبوا إليه إلا وهو معروف ومردود عليه بصحيح المنقول وصريح المعقول، وأما عن معنى الجماعة في الحديث فقد فسرت بعدة تفسيرات منها أنها أهل الحديث، ومنها أنها العلماء، ومنها أنها السواد الأعظم، إلى غير ذلك من تفسيرات.

وإنما هم قد بنوا قولهم ذلك على أن كل من عداهم من الناس فهم من الكفار، وعلى هذا فمن لم ينضم إليهم كان ولابد مخالفاً لهم في الرأي أو موالياً للكفار على أقل تقدير، فصار كافراً كذلك، ولا يخفى ما في هذا من زيف أكيد، فهو رأي قد بنى على افتراض خاطئ من أساسه، وإنما الحديث معهم عن صحة ادعائهم في كفر من عداهم من الناس أساساً، فإن ثبت أن ما ذهبوا إليه إنما هو البدعة المنكرة التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم سقطت مثل تلك الشبهات تلقائياً، وهو ما سنحاوله بعد إن شاء الله تعالى.

ص: 122

، وعدم صحة المعاني التي حملوها عليها ومعناها الصحيح عند أهل السُّنَّة.

فأما عن عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة في الإيمان، فقد سبق أن أوضحناها، وأنه قول وعمل يزيد وينقص، كما ناقشنا أصل الإيمان، وعلاقة الأعمال به - سواء الأعمال المشترطة لصحة الإسلام، أو لزوم جنس الأعمال مطلقاً في الأصل ليصدق قوله عمله - ومعنى قولهم بأن زيادة الإيمان بالطاعات ونقصانه بالمعاصي.

وأما عن شبهتهم التي أوردها ابن تيمية والتي بنوا عليها قولهم بزوال الإيمان جملة لزوال أحد أوصافه، فقد أوضح ابن تيمية أن مذهبهم هذا في تشبيه الإيمان بالحقيقة المركبة خاطئ من أساسه، فإن هذه أشبه بالحقيقة الجامعة - التي تجتمع من صفات متعددة - ليس المركبة، وفرق بينهما.

يقول ابن تيمية:

"فإن الحقيقة الجامعة لأمور - سواء كانت في الأعيان أو الأعراض - إذا زال بعض تلك الأمور فقد يزول سائرها وقد لا يزول، ولا يلزم من زوال بعض الأمور المجتمعة زوال سائرها، وسواء سميت مركبة أو مؤلفة أو غير ذلك، لا يلزم من زوال بعض الأجزاء زوال سائرها، وما مثلوا به من العشرة. والسكنجبين مطابق لذلك، فإن الواحد من العشرة إذا زال لم يلزم زوال التسعة، بل قد تبقى التسعة، فإذا زال أحد جزئي المركب لا يلزم زوال الجزء الآخر، ولكن أكثر ما يقولون زالت الصورة المجتمعة، وزالت الهيئة الاجتماعية، وزال ذلك الاسم الذي استحقته الهيئة بذلك الاجتماع والتركيب، كما يزول اسم العشرة والسكنجبين.

فيقال: أما كون ذلك المجتمع المركب ما بقى على تركيبه، فهذا لا ينازع فيه عاقل، ولا يدعي عاقل أن الإيمان، أو الصلاة، أو الحج، أو غير ذلك من العبادات المتناولة لأمور، إذا زال بعضها بقى ذلك المجتمع المركب كما كان قبل زوال بعضه، ولا يقول أحد أن الشجرة أو الدار إذا زال بعضها بقيت مجتمعة كما كانت، ولا أن الإنسان أو غيره من الحيوان إذا زال بعض أعضائه بقى مجموعاً.

ص: 123

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء".

فالمجتمعة الخلق بعد الجدع لا تبقى مجتمعة، ولكن لا يلزم زوال بقية الأجزاء، وأما زوال الاسم فيقال لهم:

هذا أولاً: بحث لفظى، إذا قدر أن الإيمان له أبعاض وشعب، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه:"الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" كما أن الصلاة والحج له أجزاء وشعب، ولا يلزم من زوال شعبة من شعبه زوال سائر الأجزاء والشعب، كما لا يلزم من زوال بعض أجزاء الحج والصلاة زوال سائر الأجزاء، فدعواهم أنه إذا زال بعض المركب زال البعض الآخر ليس بصواب، ونحن نسلم لهم أنه ما بقى إلا بعضه لا كله، وأن الهيئة الاجتماعية ما بقيت كما كانت.

يبقى النزاع هل يلزم زوال الاسم بزوال الأجزاء، فيقال لهم: المركبات في ذلك على وجهين:

منها: ما يكون التركيب شرطاً في إطلاق الاسم.

ومنها: ما لا يكون كذلك.

فالأول كاسم العشرة وكذلك السكنجبين، ومنها ما يبقى الاسم بعد زوال بعض الأجزاء، وجميع المركبات المتشابهة الأجزاء من هذا الباب، وكذلك كثير من المختلفة الأجزاء، فإن المكيلات والموزونات تسمى حنطة وهي بعد النقص حنطة وكذلك التراب والماء ونحو ذلك.

وكذلك لفظ العبادة، والطاعة، والخير، والحسنة، والإحسان، والصدقة، والعلم، ونحو ذلك مما يدخل فيه أمور كثيرة، يطلق الاسم عليها قليلها وكثيرها، وعند زوال بعض الأجزاء وبقاء بعض، وكذلك لفظ "القرآن"، فيقال على جميعه وعلى بعضه ولو نزل قرآن أكثر من هذا لسمى قرآناً، وقد تسمى الكتب القديمة قرآناً.

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"خفف على داود القرآن".

ص: 124

وكذلك لفظ القول والكلام والمنطق ونحو ذلك، يقع على القليل من ذلك وعلى الكثير.

وكذلك لفظ الذكر والدعاء يقال للقليل والكثير، وكذلك لفظ الجبل يقال على الجبل وإن ذهب منه أجزاء كثيرة، ولفظ البحر والنهر يقال عليه وإن نقصت أجزاؤه، وكذلك المدينة والدار والقرية والمسجد ونحو ذلك يقال على الجملة المجتمعة، ثم ينقص كثير من أجزائها والاسم باق، وكذلك أسماء الحيوان والنبات كلفظ الشجرة يقال على جملتها فيدخل فيها الأغصان وغيرها ثم يقطع منها ما يقطع والاسم باق، وكذلك لفظ الإنسان والفرس والحمار يقال على الحيوان المجتمع الخلق، ثم يذهب كثير من أعضائه والاسم باق.. إلى أن قال:-

ومعلوم أن اسم "الإيمان" من هذا الباب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".

ثم من المعلوم أنه إذا زالت الإماطة ونحوها لم يزل اسم الإيمان.

وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: "ويخرج من النار من كان في قلبه مثال حبة من إيمان، فأخبر أنه يتبعض ويبقى بعضه، وأن ذاك من الإيمان، فعلم أن بعض الإيمان يزول ويبقى بعضه، وهذا ينقض مآخذهم الفاسدة، ويبين أن اسم الإيمان مثل اسم القرآن، والصلاة، والحج، ونحو ذلك.

أما الحج ونحوه ففيه أجزاء ينقص الحج بزوالها عن كماله الواجب ولا يبطل، كرمي الجمار، والمبيت بمنى، ونحو ذلك. وفيه أجزاء ينقص بزوالها من كماله المستحب، كرفع الصوت بالإهلال، والرمل والاضطباع في الطواف الأول.

ص: 125

وكذلك الصلاة فيها أجزاء تنقص بزوالها عن كمال الاستحباب، وفيها أجزاء واجبة تنقص بزوالها عن الكمال الواجب مع الصحة، في مذهب أبي حنيفة وأحمد ومالك، وفيها ما له أجزاء إذا زالت جبر نقصها بسجود السهو، وأمور ليست كذلك، فقد رأيت أجزاء الشئ تختلف أحكامها شرعاً وطبعاً، فإذا قال المعترض: هذا الجزء داخل في الحقيقة، وهذا خارج عن الحقيقة، قيل له: ماذا تريد بالحقيقة؟ فإن قال: أريد بذلك ما إذا زال صار صاحبه كافراً، قيل له: ليس للإيمان حقيقة واحدة، مثل حقيقة مسمى "مسلم" في حق جميع المكلفين في جميع الأزمان بهذا الاعتبار، مثل حقيقة السواد والبياض، بل الإيمان والكفر يختلف باختلاف المكلف وبلوغ التكليف له، وبزوال الخطاب الذي به التكليف ونحو ذلك وكذلك الإيمان والواجب على غيره مطلق (1) لا مثل الإيمان الواجب عليه في كل وقت، فإن الله لما بعث محمداً رسولاً إلى الخلق، كان الواجب على الخلق تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، ولم يأمرهم حينئذ بالصلوات الخمس، ولا صيام شهر رمضان ولا حج البيت ولا حرم عليهم الخمر والربا، ونحو ذلك، ولا كان أكثر القرآن قد نزل. فمن صدقه حينئذ فيما نزل من القرآن وأقر بما أمر به من الشهادتين وتوابع ذلك، كان ذلك الشخص حينئذ مؤمناً تام الإيمان الذي وجب عليه، وإن كان مثل ذلك الإيمان لو أتى به بعد الهجرة لم يقبل منه، ولو اقتصر عليه كان كافراً (2) .

قال الإمام أحمد: كان بدء الإيمان ناقصاً، فجعل يزيد حتى كمل، ولهذا قال تعالى عام حجة الوداع:(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) .

(1) هكذا بالأصل.

(2)

انظر رحمك الله إلى هذا النص ودلالته التي لا تقبل المكابرة على ما قررناه في هذا البحث من قبل، ولزوم جنس الأعمال بالجوارح للدلالة على تحقق الإيمان!.

ص: 126

وأيضاً: فبعد نزول القرآن وإكمال الدين إذا بلغ الرجل بعض الدين دون بعض، كان عليه أن يصدق ما جاء به الرسول جملة، وما بلغه عنه مفصلاً، وأما ما لم يبلغه ولم يمكنه معرفته، فذاك إنما عليه أن يعرفه مفصلاً إذا بلغه.

وأيضاً: فالرجل إذا آمن بالرسول إيماناً جازماً، ومات قبل دخول وقت الصلاة أو وجوب شيء من الأعمال، مات كامل الإيمان الذي وجب عليه. فإذا دخل وقت الصلاة فعليه أن يصلي، وصار يجب عليه ما لم يجب عليه قبل ذلك، وكذلك القادر على الحج والجهاد يجب عليه ما لم يجب على غيره من التصديق المفصل، والعمل بذلك.

فصار مايجب من الإيمان يختلف باختلاف حال نزول الوحي من السماء.

وبحال المكلف في البلاغ وعدمه، وهذا مما يتنوع به نفس التصديق، ويختلف حاله باختلاف القدرة والعجز، وغير ذلك من أسباب الوجوب، وهذه يختلف بها العمل أيضاً. ومعلوم أن الواجب على كل هؤلاء لا يماثل الواجب على الآخر، فإذا كان نفس ما وجب من الإيمان في الشريعة الواحدة يختلف ويتفاضل - وإن كان بين جميع هذه الأنواع قدر مشترك موجود في الجميع، كالإقرار بالخالق، وإخلاص الدين له، والإقرار برسله واليوم الآخر على وجه الإجمال - فمن المعلوم أن بعض الناس إذا أتى ببعض ما يجب عليه دون بعض، كان قد تبعض ما أتى فيه من الإيمان، كتبعض سائر الواجبات.

يبقى أن يقال: فالبعض الآخر قد يكون شرطاً في ذلك البعض، وقد لا يكون شرطاً فيه، فالشرط كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، أو آمن ببعض الرسل وكفر ببعضهم، كما قال تعالى:(إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله، ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، أولئك هم الكافرون حقاً، وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً) .

وقد يكون البعض المتروك ليس شرطاً في وجود الآخر ولا قبوله.

ص: 127

وحينئذ فقد يجتمع في الإنسان إيمان ونفاق، وبعض شعب الإيمان وشعبة من شعب الكفر، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر"، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق".

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي ذر: "إنك امرؤ فيك جاهلية". وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لن يدعوهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة، والاستسقاء بالنجوم".

وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر".

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت".

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترغبوا عن آبائكم فإن كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم"(1) الخ.

الفصل الثاني

بحث في أقسام المعاصي

دلت الآيات الكريمة، والأحاديث الصحيحة، والمنقول من أقوال الصحابة والتابعين والأئمة بإجماعهم على أن الذنوب تنقسم إلى قسمين:

1 -

القسم الأول: لا يغفره الله تعالى، وهو الكفر والشرك.

2 -

القسم الثاني: يغفره الله تعالى لمن شاء من الموحدين - سواء مغفرة مطلقة أو بعد التطهر منه بالنار.

قال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يُشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)(2) .

فدلت هذه الآية الكريمة بظاهرها على المعنى الذي قلناه من أن من الذنوب ماهو شرك ومنها ماهو دون ذلك.

(1) الإيمان الأوسط" ط "مكتبة الفرقان" ص 63:56.

(2)

"النساء" 48، 116.

ص: 128

قال الطبري: "

فإن الله لا يغفر الشرك به والكفر، ويغفر ما دون ذلك الشرك لمن يشاء من أهل الذنوب والآثام" (1) .

وقال القرطبي: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" وهذا من المحكم المتفق عليه الذي لا اختلاف فيه بين الأمة" (2) .

روى الإمام أحمد بسنده عن عائشة قالت: قال صلى الله عليه وسلم: "الدواوين عند الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله، فالشرك بالله عز وجل، (إن الله لا يغفر أن يُشرك به) الآية، وقال: "إنه من يُشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة"، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله من صوم يوم تركه، أو صلاة فإن الله يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً فظلم العباد بعضهم بعضاً، القصاص لا محالة".

وروى الحافظ البزار في مسنده بسنده عن أنس بن مالك بنفس المعنى السابق.

وما رواه أحمد بسنده عن معاوية يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً".

وما رواه أحمد بسنده عن أبي ذر قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقول يا عبدي ما عبدتني ورجوتني فإني غافر لك على ما كان منك، يا عبديإن لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لقيتك بقرابها مغفرة".

وما سبق روايته من أحاديث الشفاعة كلها لحديث أبي ذر الذي رواه أحمد، وفيه:".. فقال ذاك جبريل أتاني فقال من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق".

(1)"تفسير الطبري" جـ5 ص 126.

(2)

"تفسير القرطبي" جـ5 ص 245.

ص: 129

وروى ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عمر قال: كنا لا نشك فيمن أوجب الله له النار في الكتاب حتى نزلت علينا هذه الآية: (إن الله لا يغفر أن يُشرك به..)(1) .

وما رواه الطبري بسنده عن ابن عمر قال: "كنا معشر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نشك في قاتل النفس، وآكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرحم، حتى نزلت هذه الآية فأمسكنا عن الشهادة"(2) .

فهذه الآيات الكريمة والأحاديث النبوية قد دلت على أن الشرك الذي لا يغفره الله تعالى غير الذنوب التي يغفرها سبحانه.

وأما عن القسم الثاني وهو الذنوب التي دون الشرك فقد تضافرت الآيات والأحاديث وأقوال السلف الصالح على انقسامها إلى صغائر وكبائر.

قال تعالى: (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها)(3) .

وقال تعالى: (وكل شئ فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر)(4) .

وقال تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم)(5) الآية.

وقال تعالى: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم)(6) الآية.

قال القرطبي: "اللمم: وهي الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله وحفظه"(7) .

وقال صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر"(8) .

(1) الأحاديث كلها ذكرها "ابن كثير" في التفسير جـ2 ص 286 وبعدها.

(2)

تفسير "الطبري" جـ5 ص 126.

(3)

"الكهف"49.

(4)

"القمر" 52-53.

(5)

"النساء" 31، ويراجع في معناها تفسير "الطبري" جـ5 ص 36، "ابن كثير" جـ2 ص 233، "المنار" جـ5 ص 46، "القرطبي" جـ5 ص 158.

(6)

"النجم" 32 ويراجع في معناها "القرطبي" جـ 17 ص 105.

(7)

"النجم" 32 ويراجع في معناها "القرطبي" جـ 17 ص 105.

(8)

رواه مسلم والترمذي.

ص: 130

وقال صلى الله عليه وسلم: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل معقرات الذنوب مثل قوم نزلوا بطن واد، فجاء هذا بعود، وجاء هذا بعود، جاء هذا بعود فأنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب لموبقات (1) .

يقول النووي: "وذهب الجماهير من السلف والخلف من جميع الطوائف إلى انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر، وهو مروى أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقد تظاهر على ذلك دلائل من الكتاب والسُّنَّة واستعمال سلف الأمة وخلفها"(2) .

ويقول ابن حجر الهيتمي في مقدمة "الزواجر": "وقال جمهور العلماء أن المعاصي تنقسم إلى صغائر وكبائر"(3) .

ويقول صاحب "تهذيب الفروق": "قوله تعالى"(وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) فجعلها رتباً ثلاثة" الكفر رتبة، أولى والفسوق ثانية، والعصيان ثالثة، بلى الفسوق وهو الصغائر، فجمعت الآية بين الكفر والكبائر والصغائر وسمى بعض المعاصي فسوقاً دون بعض.

وقوله تعالى: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) .

وقوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) فإن فيها صراحة في انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر) (4) .

وقد نظر بعض السلف إلى جلال الله وعظمته سبحانه فمنعهم ذلك من تسمية أي معصية لله تعالى باسم "صغيرة" فهي كلها بالنسبة إلى عظم المخالف كبيرة من الكبائر، وإن اتفقوا على أن منها ما يوجب العقوبة والذم أكثر من غيره، فالخلاف لفظي في جواز التسمية لا في المعنى، والجمهور على إطلاق الصغيرة والكبيرة اصطلاحياً كما سبق أن نقلنا عن العلماء.

(1) رواه أحمد، وحسنه الحافظ في الفتح، ورواه البنوي في شرح السنة.

(2)

"مسلم بشرح النووي" جـ2 ص 85 وبعدها.

(3)

مقدمة "الزواجر عن اقتراف الكبائر" لابن حجر الهيتمي جـ1 ص 7 ط. الشعب.

(4)

هامش "الفروق للقرافي" جـ1 ص 133.

ص: 131

يقول صاحب "تهذيب الفروق": "اختلفوا أولاً في أن إطلاق لفظ صغيرة على معصية الله تعالى هل يمنع إجلالا له وتعظيماً لحدوده إلا في محل تبين تفاوت الذم والعقاب إن نفذ الوعيد، أو يجوز مطلقا) (1) .

ويقول النووي" (.. ولا شك في كون المخالفة قبيحة جداً بالنسبة إلى جلال الله تعالى ولكن بعضها أعظم من بعض"(2) .

ويقول الهيتمي: (اعلم أن جماعة من الأئمة أنكروا أن في الذنوب صغيرة، وقالوا بل سائر المعاصي كبائر، منهم الأستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني والقاضي أبوبكر الباقلاني، وإمام الحرمين في "الإرشاد"، وابن القشيري في "المرشد"، بل حكاه ابن فورك عن الأشاعرة، واختاره في تفسيره فقال: معاصي الله تعالى عندنا كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة وكبيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، ثم أول الآية التالية: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) بما ينبو عنه ظاهرها.. إلى أن قال: -

وقال جمهور العلماء: إن المعاصي تنقسم إلى صغائر وكبائر. ولا خلاف بين الفريقين في المعنى وإنما الخلاف في التسمية والإطلاق، لإجماع الكل على أن من المعاصي ما يقدح في العدالة، ومنها ما لا يقدح فيها، وإنما الأولون فروا من هذه التسمية فكرهوا تسمية معصية الله تعالى صغيرة نظراً إلى عظمة الله تعالى، وشدة عقابه، وإجلالاً له عز وجل عن تسمية معصيته صغيرة، لأنها بالنظر إلى باهر عظمته كبيرة أي كبيرة، ولم ينظر الجمهور إلى ذلك لأنه معلوم، بل قسموها إلى صغائر وكبائر لقوله تعالى:(وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان)(3) .

تحقيق الكبائر وحدها:

فقد وردت أحاديث شريفة تحدد الكبائر بأسمائها، وهي التي وعد الله تعالى عباده بتكفير سيئاتهم إن اجتنبوها، ومن ذلك:

(1)"تهذيب الفروق" هامش "الفروق" للقرافي جـ1 ص 134.

(2)

"مسلم بشرح النووي" جـ2 ص 85.

(3)

مقدمة "الزواجر" للهيثمي جـ 1 ص 7 ط. الشعب.

ص: 132

ما أورده الطبري في تفسيره بسنده عن أنس بن مالك قال: ذكر أو سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكبائر فقال: "الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، فقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قال: قول الزور أو شهادة الزور، قال شعبة: وأكبر ظني قال: شهادة الزور"(1) .

وما أورده الطبري بسنده عن أبي أمامة أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا الكبائر وهو متكئ، فقالوا: الشرك بالله، وأكل مال اليتيم، وفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وعقوق الوالدين، وقول الزور، والغلول، والسحر، وأكل الربا، فقال صلى الله عليه وسلم:"فأين تجعلون الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً.. الآية"(2) .

كما اختلف العلماء في تحديد الكبائر وأنواعها على أقوال نذكر منها مايلي:

(1)

قال البعض: هي المذكورة من أول سورة النساء إلى رأس الثلاثين منها.

لما رواه الطبري بسنده عن ابن مسعود قال: الكبائر من أول سورة النساء إلى الثلاثين منها: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه..)(3) الآية.

(2)

وقال آخرون: الكبائر سبع.

"ومن ذلك ما رواه الطبري بسنده عن محمد بن سهل بن أبي خيثمة عن أبيه قال: إني لفي هذا المسجد، مسجد الكوفة وعلي رضي الله عنه يخطب الناس على المنبر فقال: "يا أيها الناس إن الكبائر سبع، فأصاخ الناس فأعادها ثلاث مرات، ثم قال: ألا تسألوني عنها؟ قالوا يا أمير المؤمنين: ماهي؟ قال الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار من الزحف، والتعرب بعد الهجرة" (4) .

وممن قال ذلك عبيدة بن عمير وعطاء بن أبي رباح.

(3)

وقال آخرون: الكبائر تسع"

(1) تفسير "الطبري" جـ5 ص 42.

(2)

السابق جـ 5 ص 43.

(3)

السابق جـ 5 ص 37.

(4)

السابق جـ5 ص 38.

ص: 133

ومن ذلك ما رواه الطبري بسنده عن طيلسة بن مياس قال: "كنت مع الحدثان، فأصبت ذنوباً لا أراها إلا من الكبائر، فلقيت ابن عمر فقلت: إني أصيب ذنوباً لا أراها إلا من الكبائر قال: ما هي؟ قلت: كذا وكذا. قال: ليس من الكبائر: قلت" أشئ لم يسمعه طيلسة؟ قال: هي تسع وسأعدهن عليك: الإشراك بالله، وقتل النسمة بغير حلها، والفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم ظلماً، وإلحاد في المسجد الحرام، والذي يستسحر، وبكاء الوالدين من العقوق.." (1) .

(4)

وقال آخرون: الكبائر أربع:

ومن ذلك ما رواه الطبري عن ابن مسعود قال: أكبر الكبائر الشرك بالله، والإياس من روح الله، والقنوط من روح الله، والأمن من مكر الله (2) .

(5)

وقال آخرون: هي كل ما نهى الله عنه. وهو قول من حكينا عنهم من قبل أنهم نظروا إلى جلال الله سبحانه، فلم يعتبروا صغيرة في أي نهي لله تعالى.

من ذلك ما رواه الطبري بسنده عن ابن عباس، قال: ذكرت عنده الكبائر، فقال: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة.

وما روى عن ابن عباس أنه سئل عن الكبائر؟ قال: هي إلى السبعين أقرب.

وما روى عنه أن رجلاً سأله، كم الكبائر؟ أسبع هي؟ قال: إلى السبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار (3) .

(1) السابق ص 39 ذكر الشرك بالله على أنه كبيرة بوصفه رأس الكبائر لا أنه من الكبائر التي يغفرها الله إن شاء كما في آية النساء، لأنه لو سوينا بين الشرك بالله وبين بقية الذنوب الكبيرة المذكورة لأغفلنا مقتضى آية النساء من التفريق بين الشرك بالله وبين غيره من الذنوب، وإن عظمت، فالشرك بالله جنس وحده من الذنوب، أخبر الله تعالى أنه لا يغفره، وإنما لحقه اسم الكبائر لأنه رأسها من حيث عظم الفعل لا لمساواته.

(2)

السابق جـ5 ص 40.

(3)

السابق جـ5 ص 41.

ص: 134

(6)

وقال آخرون: كل ما أوعد الله أهله بالنار فهو كبيرة، وكل ذنب فيه حد فهو كبيرة.

ومن ذلك ما روى عن ابن عباس قال: كل ذنب ختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب، من الكبائر، وممن قال ذلك سعيد بن جبير والحسن البصري ومجاهد والضحاك.

وروى الطبري بسنده عن الضحاك قال: الكبائر كل موجبة

أوجب الله لأهلها النار، وكل عمل يقام به الحد فهو من الكبائر" (1) .

ثم إن هذه الأقوال المختلفة فيما بينها في تحديد الكبائر هي من قبيل الاختلاف بالتنوع لا بالتضاد (2)

(1)"الطبري" جـ5 ص 42، ويرجع إلى "ابن كثير" جـ1 ص 233 وبعدها، في أقوال عن الكبائر وأنواعها، كذلك يرجع إلى مقدمة "الزواجر" للهيثمي ففيها بحث تفصيلي في هذا الأمر، أي كون الكبائر تنحصر أم لا تنحصر؟ وكذلك "مدارج السالكين" جـ1 ص 320 وبعدها.

(2)

وقد نبه الإمام ابن تيمية على هذا الاختلاف الذي نجده بين أقوال السلف في بعض الموضوعات وأن الاختلاف ينقسم إلى نوعين، تنوع وتضاد، وأن اختلافهم في ذلك هو من القسم الأول، يقول: "

وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وذلك صنفان: أحدهما: أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى - إلى أن قال -:

الصنف الثاني: أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه" "مقدمة في أصول التفسير" ص 8: 11 ط السلفية.

ثم ذكر أمثلة كثيرة على هذا الاختلاف المتنوع، والكلام هنا على هذا القسم، ويراجع أيضاً "اقتضاء الصراط المستقيم" لابن تيمية صـ37 وبعدها في نفس المعنى.

ص: 135

، فإن كل قول منها ينبه على نوع أو أنواع يمكن أن تكون من الكبائر المقصودة لله سبحانه، وذلك لأن لفظ كبيرة هو من قبيل اللفظ المبهم الذي ليس له موضوع خاص في اللغة أو الشرع.

يقول ابن القيم في المدارج: "وأما الكبائر فاختلف السلف فيها اختلافاً لا يرجع إلى تباين واستفسار وأقوالهم متقاربة"(1) .

ويقول الغزالي في "الإحياء": ".. وذلك لأن الكبير والصغير من المضافات، وما من ذنب إلا وهو كبير بالإضافة إلى ما دونه، وصغير بالإضافة إلى ما فوقه، فالمضاجعة مع الأجنبية كبيرة بالإضافة إلى النظرة، صغيرة بالإضافة إلى الزنا. وقطع يد المسلم كبيرة بالإضافة إلى ضربه، صغيرة بالإضافة إلى قتله. نعم للإنسان أن يطلق على ما توعد بالنار على فعله خاصة اسم الكبيرة، ونعني بوصفه بالكبيرة أن العقوبة بالنار عظيمة. وله أن يطلق على ما أوجب الحد عليه مصيراً إلى أن ما عجل عليه في الدنيا عقوبة واجبة عظيماً. وله أن يطلق على ما ورد في نص الكتاب النهي عنه: فيقول: تخصيصه بالذكر في القرآن يدل على عظمه، ثم يكون عظيماً وكبيرة لا محالة بالإضافة، إذ منصوصات القرآن أيضاً تتفاوت درجاتها".

ثم يقول: "فهذه الإطلاقات لا حرج فيها، وما نقل من ألفاظ الصحابة يتردد بين هذه الجهات ولا يبعد تنزيلها على شئ من هذه الاحتمالات. نعم من المهمات أن تعلم معنى قول الله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلوات كفارات لما بينهن إلا الكبائر" فإن هذا إثبات حكم الكبائر"(2) .

ثم نقول في الفرق بين الصغيرة والكبيرة، أن المعاصي تنقسم من ناحية النظر إليها من وجهين:

1-

المعصية من حيث هي في ذاتها، وإن فعلها الإنسان مرة واحدة.

2-

المعصية من جهة تكرار فعلها والعلم بجرمها.

(1)"مدارج السالكين" جـ1 ص 320.

(2)

"إحياء علوم الدين" للغزالي جـ11 ص 98 2ط. الشعب.

ص: 136

فمن المعاصي ما هي كبيرة في ذاتها ولو فعلها الإنسان مرة واحدة، كقتل النفس، والزنا وماهي صغيرة في ذاتها - عند فعلها مرة واحدة - مثل النظر إلى ما لا يحل النظر إليه.

أما من جهة تكرار المعصية، فإنها وإن كانت في أصلها صغيرة، فإن تكرارها والإقامة على فعلها يجعلها كبيرة من الكبائر، لأن ذلك يوحي بالاستهانة بالدين وعدم الاكتراث به، وهذا أقل مرتبتة أن يكون كبيرة.

يقول صاحب المنار: ".. وقال بعضهم كإمام الحرمين والغزالي واستحسنه الرازي أنها - أي الكبيرة - كل ما يشعر بالاستهانة بالدين وعدم الاكتراث به، وهو قول مقبول قريب من المعقول"(1) .

فالكبائر هنا تكون: "بحسب قصد فاعلها، وشعوره عند اقترافها، وعقبه، لا في ذاتها وحسب ضررها"(2) كما يقول صاحب المنار.

فالصغيرة إذن في ذاتها تنقلب إلى كبيرة بالتكرار الذي يشعر بالاستهانة وعدم الاكتراث.

وهو معنى ما أوردناه عن ابن عباس فيما رواه الطبري أنه قال: "لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار"(3) ، فاللمم من الذنوب لا يكون لملماً إلا إن لم يتكرر، فإن معناه هو ما يلم بالإنسان بصورة عارضة لا إصرار فيها ولا مداومة.

يقول القرطبي: "وقيل" اللمم هو أن يأتي بذنب لم يكن له بعادة، قاله نفطويه..

وقال الزجاج: "أصل اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان المرة بعد المرة ولا يتعمق فيه ولا يقيم عليه"(4) .

يقول ابن القيم" "وههنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أن "الكبيرة" قد يقترن بها - من الحياء، والخوف، والاستعظام لها - ما يلحقها بالصغائر. وقد يقترن بالصغيرة - من قلة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها - ما يلحقها بالكبائر، بل يجعلها في أعلى رتبها" (5) .

(1) تفسير "المنار" جـ5 ص 41.

(2)

تفسير "المنار" جـ5 ص 42.

(3)

رواه "ابن كثير" في تفسيره بسنده عن الطبري وابن أبي حاتم جـ2 ص 247.

(4)

"القرطبي" جـ17 ص 108.

(5)

"مدارج السالكين" جـ1 ص 328.

ص: 137

وأما عن تكفير هذه الذنوب كلها - صغائر أو كبائر - فقد قال صلى الله عليه وسلم:

"اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن"(1) .

فاتباع السيئة الحسنة يمحها، كما قال صلى الله عليه وسلم، والتوبة مشروعة لكل ذنب، ولذلك تفصيل واسع ليس هذا محله، وسننقل هنا طرقاً مما ذكره ابن تيمية عن مكفرات الذنوب قال:

"على أن عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب:

أحدها: التوبة.

الثاني: الاستغفار.

الثالث: الحسنات الماحية.

الرابع: دعاء المؤمنين للمؤمن مثل صلاتهم على جنازته.

الخامس: ما يعمل للميت من أعمال البر كالصدقة ونحوها.

السادس: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره.

السابع: المصائب التي يكفر الله بها الخطايا في الدنيا.

الثامن: ما يحصل في القبر من الفتنة والضغطة والروعة.

التاسع: أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها.

العاشر: رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد" (2) .

وبهذا البيان الواضح، رد الإمام ابن تيمية عن شبهتهم الداحضة في أن الإيمان المركب يزول كلية بزوال جزء من أجزائه، والتي بنوا عليها قولهم في كفر مرتكب المعصية، وزوال اسم الإيمان عنهم، وثبوت الكفر عليه، أما عن بقية شبهاتهم وأداتهم فسنشرع بعون الله تعالى في تفنيدها في الفصلين الباقيين، والله الموفق.

بهذا النظر نكون قد نقضنا القاعدة الأساسية التي بنى عليها الخوارج قولهم، وهي تساوي الذنوب كلها، وأنها كلها داخلة في مسمى الكفر، وأي معصية كفر، سواء أصر عليها أو لم يصر - على اختلاف بينهم في ذلك كما سبق أن قلنا، وأوضحنا بآيات الكتاب والأحاديث الشريفة وأقوال السلف والعلماء المعتد بأقوالهم المذهب الصحيح في ذلك، والحمد لله تعالى.

(1) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

(2)

"الإيمان الأوسط" لابن تيمية ص 29 إلى ص 43 بتصرف.

ص: 138

وبقى بعد ذلك أن نفند ما أوردوه من مزاعم، كأدلة لهم على قولهم المنقوض، فنرد على هذه الأدلة إلى موقعها من الفهم السليم، والمنهج القويم، وهو موضوع الفصل التالي إن شاء الله تعالى.

الفصل الثالث

نقض أدلة الخوارج

(1)

الشبهة الأولى:

وهو قولهم أن صاحب الكبيرة كافر.

وقد رددنا في الفصل الثاني من هذا الباب على هذا الزعم، وبينا أن صاحب الكبيرة من الذنوب – دون الشرك – وهو من الموحدين المعرضين للعقاب بالنار دون الخلود فيها. والدليل على عدم كفره كثير، منه ما أورده ابن حزم في "الملل والنحل" واقتطفنا منه مايلى:

قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف، وأداء إليه بإحسان، ذلك تخفيف من ربكم ورحمة، فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم)(1) .

فابتدأ الله عز وجل بخطاب أهل الإيمان، من كان فيهم من قاتل أو مقتول، ونص تعالى على أن القاتل عمداً وولى المقتول أخوان، فقال تعالى:(فمن عفي له من أخيه شئ) .

فصح أن القاتل عمداً مؤمن بنص القرآن وحكم له بأخوة الإيمان ولا يكون بين الكافر والمؤمن أخوة.

2-

قال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى حتى تفئ إلى أمر الله. فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين، إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون)(2) .

(1)"البقرة"178.

(2)

"الحجرات" 9-10.

ص: 139

فهذه الآية رافعة للشك جملة في قوله تعالى: إن الطائفة الباغية على الطائفة الأخرى من المؤمنين المأمور سائر المؤمنين بقتالهم حتى تفئ إلى أمر الله، أخوة للمؤمنين المقاتلين، وهذا أمر لا يضل عنه إلا ضال، ولا يقول أحد أن الله تعالى جعلهم إخواناً إذا تابوا، لأن نص الآية أنهم أخوان حال البغي وقبل الفيء إلى الحق، فقد أمرهم سبحانه بالإصلاح بين المتقاتلين في أول الآية، ثم ذكر في آخرها قوله:(فأصلحوا بين أخويكم) فهم إخوة حال البغي أو القتال.

3-

قال تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين)(1) .

فهذه الآية نص جلي على أن الزاني والزانية ليسا مشركين، لأن الله تعالى فرق بينهما فرقاً لا يحتمل البتة أن يكون على سبيل التأكيد، بل على أنهما صفتان مختلفتان، وهذا المذهب في النظر وهو أن يقال أن ذلك توكيداً لا محل له، فإن الله سبحانه لا يضع لفظاً في القرآن إلا وله فائدة واحدة، وقواعد البلاغة تقتضي عدم الإطالة، والقرآن رأس البلاغة، ولا يصح في عقل مسلم أن يتوهم أن الله سبحانه قد استعمل لفظاً لا فائدة منه إلا التكرار، فهذا مناف لقواعد البلاغة العربية، وقد جروا هذا المجرى في فهم قوله تعالى:(وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) فجعلوها كلها مترادفة، وهذا لا يأتي في كلام العربي العادي أبداً، بل في الركيك من القول أن يتكرر اللفظ مترادفاً بهذا الشكل، وحاشا القرآن أن يكون كذلك.

ولا سبيل إلى القول أنه إذا لم يتب كل منهما صار كافراً، لأنه صح أنه ذنب دون الشرك فهو معاقب عليه لا محالة في الآخرة – إن لم يتب منه – ولم يقم عليه الحد في الدنيا كما هو مقتضى حديث عبادة بن الصامت السابق ذكره.

(1)"النور"3.

ص: 140

4-

ثم نقول لمن قال بكفر مرتكب الكبيرة: إن الله سبحانه أمر بقتل المشركين جملة، ولم يستثن منهم أحداً إلا كتابياً يقدم الجزية مع الصغار، أو رسولا حتى يؤدي رسالته، ويرجع إلى مأمنه، أو مستجيراً حتى يسمع كلام الله تعالى، ثم يبلغ مأمنه، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل من بدل دينه، فنسأل من قال إن مرتكب الكبيرة كافر مفارق لملة الإسلام بالكلية إذا كان الزاني والسارق وشارب الخمر والقاذف والفار من الزحف وآكل مال اليتيم قد خرج من الإسلام أيقتلونه كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا يقتلونه، فيخالفون الله تعالى ورسوله؟

ومن قولهم كلهم – خوارجهم ومعتزليهم – أنهم لا يقتلونه، وأن في بعض ذلك حدود معروفة من قطع يد أو جلد مائة أو ثمانين، وفي بعضها أدب فقط، وأنه لا يحل الدم بشئ من ذلك

وهذا انقطاع ظاهر وبطلان لقولهم جملة (1) .

(ب) الشبهة الثانية:

وهي استدلالهم بقول الله تعالى في بعض مواضع من القرآن الكريم من أن معصية الله تدخل نار جهنم خالداً فيها، فيكون بذلك كافراً، كما ورد في آية النساء، والجن، والبقرة، السابق ذكرهم في الفصل الأول من هذا الباب (2) .

فحسب الفهم السليم الجامع للأدلة فقد قررنا انقسام المعصية إلى شرك، وما دون الشرك.

(1) الأدلة السابقة كلها من "الفصل في الملل والنحل" لابن حزم جـ3 ص 235 وبعدها.

(2)

وهي قوله تعالى في "النساء": "ومن يعص الله ورسوله ويتعدى حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين" 14، وفي "الجن":"ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً" 23، وفي "البقرة":"بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدين"81.

ص: 141

وأن الخلود في النار الناشئ عن الكفر لا يكون إلا بارتكاب عمل من أعمال الشرك، أما بقية الذنوب فهي لا توجب الخلود في النار بالتالي – وهي الصغائر والكبائر – وتكون المعصية المذكورة في الآيات هي المعصية بمعنى المحادة والكفر، وليست بمعنى الذنب الذي هو دون الشرك، وهذا هو فهم جمهور السلف الذي يجمع الأطراف المستدل بها في الموضوع.

يقول الطبري في آية النساء: فإن قال قائل: أو يخلد في النار عصى الله ورسوله في قسمة المواريث؟ قيل: نعم، إذا جمع إلى معصيتهما في ذلك شكاً في أن الله فرض عليه ما فرض على عباده في هاتين الآيتين، أو علم ذلك فحاد الله ورسوله في أمرهما.

وفي إشكالهم هذه الآية فهو من أهل الخلود في النار، لأنه باستنكاره حكم الله في تلك يصير بالله كافراً ومن ملة الإسلام خارجاً (1) .

ويقول القرطبي: ".. والعصيان إن أريد به الكفر فالخلود على بابه، وإن أريد به الكبائر وتجاوز أوامر الله تعالى فالخلود مستعار لمدة ما، كما تقول: خلد الله ملكه، وقال زهير: "ولا خالداً إلا الجبال الرواسيا" (2) .

فيصح في اللغة استعمال كلمة الخلود للتعبير عن طول المدة دون ظاهر اللفظ الذي هو عدم الخروج مطلقاً، والقرآن عربي نزل بلسان عربي مبين فيصح – بل يجب – فهمه بأسلوب خطاب العرب، لا حسب ظواهر دلالة اللغة، لما يحدث ذلك من تناقض في المفاهيم الشرعية وتضارب في آياته لا داعي له.

أما عن آية البقرة: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) : فقد كان إجماع السلف على أنها في المشرك، فالسيئة هنا هي الشرك، وبهذا القول قال أبو وائل ومجاهد وقتادة والسدىوعطاء وابن جريج والربيع، ونقله الطبري وابن كثير والقرطبي وغيرهم. أما إحاطة الخطيئة فهي الذنوب الجمة التي يفعلها المشرك في حياته فتصبح محيطة به لا مهرب له منها.

(1)"الطبري" جـ4 ص 291.

(2)

"القرطبي" جـ5 ص 82.

ص: 142

قال الطبري: "فتأويل الآية إذا: من أشرك بالله، واقترف ذنوباً جمة فمات عليها قبل الإنابة والتوبة، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون أبداً"(1) .

ونقل هذا القول عن ابن عباس وقتادة والأعمش كذلك.

وقال القرطبي: "قوله تعالى (سيئة) السيئة الشرك،

وكذا قال الحسن وقتادة، قالا: والخطيئة الكبيرة. ولما قال تعالى: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) دل على أن المعلق على شرطين لا يتم بأقلهما، ومثله قوله تعالى:(إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا)، وقوله عليه السلام لسفيان بن عبد الله الثقفي وقد قال له: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك قال:"قل آمنت بالله ثم استقم"(2) . فدل ذلك على أن ارتكاب المعاصي دون الشرك لا يلزم منها الخلود في النار الناشئ عن الكفر.

أما عن قوله تعالى في النساء أن جزاء القاتل المتعمد هو نار جهنم خالداً فيها، فإن هذا يجب أن يجمع مع قوله تعالى:(وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) ، فصح أن القتال يكون بين مؤمنين دون كفر أي منهم، كما أن الآية لم تنص على كفر القاتل العمد، وإنما هي نص في دخول النار خالداً فيها، وهذا تقرير من الله سبحانه وتعالى على استحقاقه لذلك، وإن لم يكن فيه إثبات الوقوع ذلك، لإمكان تخلف الوعيد حسب قاعدة أهل السُّنَّة في ذلك، من أن تخلف الوعيد من القادر صفة كمال له بعكس تخلف الوعد منه. هذا وجه، والوجه الآخر أنه يصح أن يكون الخلود هنا بمعنى طول المكث أو الأمد الطويل كما سبق أن نقلنا عن القرطبي، وإنما أخذنا بهذا الوجه وأجرينا هذا المفهوم على الآية، حتى لا ندفع أحاديث كثيرة ثبتت من قبل من عدم كفر مرتكب المعصية دون الشرك عامة.

(1)"الطبري" جـ1 ص 386.

(2)

"القرطبي" جـ2 ص 14.

ص: 143

منها ما رواه الطبري عن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نشك في قاتل النفس، وآكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرحم حتى نزلت:(إن الله لا يغفر أن يشرك به) فأمسكنا عن الشهادة (1) .

فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهموا أن الشرك هو خلاف هذه الأمور كلها، ولا يقال المقصود هو القتل الخطأ – ليس العمد – لأن الخطأ مرفوع أصلاً عن المكلفين بشرط التوبة بعد العلم بالخطأ.

قال تعالى: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم، كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم) .

قال القرطبي: "أي خطيئة من غير قصد"(2) .

فالخطأ والعمد في هذا يستويان أن من تاب رفعت عنه عقوبة الآخرة، فلا موجب إذن لتخصيص أحدهما في قول عمر دون الآخر.

(أ) وقد نقل الطبري هذا المعنى عن أبي مجاز وأبي صالح.

قال: حدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا ابن عليه، عن سليمان التيمي عن أبي مجاز في قوله:(ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم) قال: هو جزاؤه، وإن شاء تجاوز عنه.

وعن أبي صالح قال: جزاؤه جهنم إن جازاه (3) .

وقيل بشرط التوبة والندم، فهو معفو عنه، ونقل هذا عن مجاهد وغيره.

وقد ورد عن ابن عباس آثار تدل على أنه لا توبة للقاتل، إلا أن ذلك كان فتوى منه لرجل بعينه خوفاً من قتله لآخر، كما ورد في القرطبي، قال:

أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: ألمن قتل مؤمناً متعمداً توبة؟

قال: لا، إلا النار.

(1)"الطبري" جـ5 ص 126.

(2)

"القرطبي" جـ6 ص 435.

(3)

"الطبري" جـ5 ص 217 وبعدها.

ص: 144

قال: فلما ذهب قال جلساؤه: أهكذا كنت تفتينا؟ ، كنت تفتينا أن لمن قتل توبة مقبولة. قال: إني لأحسبه رجلاً مغضباً يريد أن يقتل مؤمناً. قال فبعثوا في إثره فوجدوه كذلك"، وهذا مذهب أهل السُّنَّة وهو الصحيح. وأن هذه الآية مخصوصة ودليل التخصيص آيات وأخبار"(1) .

فهذه الآية نزلت في مقيس بن ضبابة وهو قد قتل مؤمناً متعمداً ثم ارتد بعدها كافراً.

(ب) وقد ورد الحديث الشريف عن عبادة بن الصامت يثبت أن الزنى والسرقة وقتل النفس هي غير الشرك بالله.

قال: "تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له".

ولا يقال هنا: إن الذنوب الواردة هي من الشرك، وهي بيان له بعد ذكره لأن معنى هذا أن قوله:(من أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له) يعني أن من أشرك بالله فقتل ردة كعقوبة في الدنيا كان ذلك كفارة له عن الشرك، وهذا خلاف المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن قتل المشرك ردة في الدنيا لا يغني عن تخليده في النار أبداً.

كما نقل عن ابن عباس أن قوله (متعمداً) يعني مستحلاً للقتل فهذا يؤول إلى الكفر.

(ج) قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه، المفارق للجماعة"(2) .

فهذا نص في أن قاتل النفس ليس كتارك دينه بل هو بمنزلة الزاني المحصن، وإحلال الدم لا يستلزم الكفر بل يكون في حد فقط كما هو معلوم.

(1)"القرطبي" جـ5 ص 333.

(2)

متفق عليه.

ص: 145

وقد جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث "ثلاث" مختلفة وليس واحدة عامة وبيان لها، ثم إن العام يرد أولاً ثم يخصص منه بعدها بأن يذكر (تارك دينه) أولاً. فثبت أن تارك دينه ليس كقاتل النفس ولا الزاني المحصن.

(د) أن الله سبحانه وتعالى قد توعد قاتل النفس المتعمد بالعذاب العظيم، فقال تعالى:(.. وأعد له عذاباً عظيماً) والله سبحانه قد توعد المؤمنين العصاة "بالعذاب العظيم"، بينما توعد الكفار والمنافقين بالعذاب "المهين" في عامة آيات القرآن الكريم.

ففي حق الكفار والمنافقين:

قال تعالى: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله واعتدنا للكافرين عذاباً مهينا)(1) .

وقال تعالى: (فباءو بغضب على غضب، وللكافرين عذاب مهين)(2) .

وقال تعالى: (إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً، ولهم عذاب مهين)(3) .

وقال تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين)(4) .

وقال تعالى: (وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين)(5) .

وقال تعالى: (وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين)(6) .

وقال تعالى: (اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين)(7) .

وقال تعالى: (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين)(8) .

2-

وفي حق المؤمنين العصاة:

وقال تعالى: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم)(9) .

وقال تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم)(10) .

وقال تعالى: (ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم)(11) .

(1)"النساء"37.

(2)

"البقرة"90.

(3)

"آل عمران"178.

(4)

"الحج"57.

(5)

"الجاثية"9.

(6)

"المجادلة"5.

(7)

"المجادلة"16.

(8)

"النساء"14.

(9)

"الأنفال"68.

(10)

"النور"14.

(11)

"المائدة" 33، وهي في المحارب.

ص: 146

وقال تعالى: (ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم)(1) .

يقول الإمام ابن تيمية: " (ومن يهن الله فماله من مكرم) ، وذلك لأن الإهانة إذلال وتحقير وخزي، وذلك قدر زائد على ألم العذاب، فقد يعذب الرجل الكريم ولا يهان"(2) .

وقد يقرن بين العذاب المهين، والعذاب العظيم في بعض المواضع كما في آية الجاثية.

"وإذا علم من أياتنا شيئاً اتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين. من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم".

فيعلم من هذا أن العذاب العظيم من جنس العذاب المهين الذي هو للكافرين، وذلك غير أن يفرد العذاب العظيم وحده.

يقول ابن تيمية: "فلما قال في هذه الآية: (وأعد لهم عذاباً مهيناً) علم أنه من جنس العذاب الذي توعد به الكفار والمنافقين، ولما قال هناك:(ولهم عذاب عظيم) جاز أن يكون من جنس العذاب في قوله: (لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم) .

(1)"النحل"94.

(2)

"الصارم المسلول" لابن تيمية ص 53.

ص: 147

ومما بين الفرق أيضاً أنه سبحانه وتعالى قال هنا: (وأعد لهم عذاباً مهيناً) ، والعذاب إنما أعد للكافرين، فإن جهنم لهم خلقت، لأنهم لابد أن يدخلوها، وماهم منها بمخرجين، وأهل الكبائر من المؤمنين تجوز ألا يدخلوها إذا غفر الله لهم، وإذا دخلوها فإنهم يخرجون منها ولو بعد حين، قال سبحانه:(واتقوا النار التي أعدت للكافرين) ، فأمر سبحانه المؤمنين ألا يأكلوا الربا، وأن يتقوا الله، وأن يتقوا النار التي أعدت للكافرين، فعلم أنهم يخاف عليهم من دخول النار إذا أكلوا الربا وفعلوا المعاصي مع أنها معدة للكفار، لا لهم، وكذلك جاء في الحديث:"أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، وأما أقوام لهم ذنوب يصيبهم سفع من نار ثم يخرجهم الله منها"(1) . ولما توعد الله سبحانه قاتل النفس المتعمد بالعذاب العظيم دون المهين علم أنه داخل في عداد المؤمنين حتى بعد ارتكابه لهذه الكبيرة.

(ج) الشبهة الثالثة:

وهي الأحاديث التي ورد فيها اللعن على عمل من الأعمال، أو وصف فعل من الأفعال أنه كفر، أو وصف من يعمل عملاً معيناً أنه "ليس منا، وما شابه ذلك.

فنقول وبالله التوفيق:

- أما عن أحاديث اللعن:

فإن اللعن في اللغة هو الإبعاد من الرحمة.

وهو يرد بأحد معنيين:

1-

الدعاء: كما في الأحاديث الشريفة:

كقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من غير منار الأرض"(2) .

وقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله آكل الربا وموكله"(3) .

وقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الواشمة والمستوشمة"(4) .. الحديث.

وغير ذلك من الأحاديث التي يرد فيها اللعن بصيغة الدعاء على مرتكب الفعل بالإبعاد من رحمة الله، وهذا الدعاء لا يستلزم مطلق الإبعاد من الرحمة، وإنما يحصل بإبعاده من الرحمة وقتاً من الأوقات.

(1)"الصارم المسلول" ص 53-54.

(2)

رواه مسلم.

(3)

رواه مسلم.

(4)

متفق عليه.

ص: 148

2-

الخبر، كما يرد في الآيات القرآنية عامة، وهو على نوعين:

إما لعناً في الدنيا، أو في الدنيا والآخرة.

فمن لعنه الله تعالى في القرآن في الدنيا والآخرة فهو كافر لا محالة خالداً في جهنم ومن أهلها، وذلك كقوله تعالى:(إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً)(1) .

وقوله تعالى: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم" (2) .

أما من ذكر باللعنة في القرآن فقط - وليس في الدنيا والآخرة - فيصح أن يكون من المؤمنين الذين يبعدون عن رحمة الله في وقت من الأوقات، ويصح أن يكون من الكافرين.

كقوله تعالى في القاتل: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها، وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً)(3) فهذا من المؤمنين المبعدين عن رحمة الله تعالى لفترة من الفترات.

وقوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)(4) .

فهذه في الكافرين من اليهود، ثم يصدق القول فيها على من يفعل فعلهم كما فعلوه ويكون كافراً كما كفروا. وملخص القول:

(1)"الأحزاب"57.

(2)

"النور" 23 وهذه الآية قيل إنها نزلت في نساء النبي خاصة، وقاذفهن كافر بلا خلاف. روى ذلك عن ابن عباس وابن جبير والضحاك ورواية عن أحمد وغيرهم، وقيل إنها عامة لكنها تخص من قصد من قذف المؤمنة صدها عن الإيمان خوف العار، كما كان يفعل مشركي قريش في قذف المؤمنات اللواتي كن يهاجرن إلى المدينة فراراً بدينهن، وكلا القولين في الكافرين.

(3)

"النساء"93.

(4)

"البقرة"159.

ص: 149

أن اللعن من الله تعالى في القرآن يستحقه الكافر، ولكن ليس بإطلاق، فيصح أن يكون الملعون من الله كافراً إن لعنه الله في الدنيا والآخرة، أو يصح أن يكون عاصياً إن لعنه في الدنيا فقط، وقد يكون كافراً حسب فعلته. وهذا كله يأتي في صيغة الخبر.

بينما اللعن في السُّنَّة فيكون بصيغة الدعاء، وعامة الملعونين في الأحاديث غير مباحي الذم، ولا كافرين وإنما هم مبعدين من رحمة الله تعالى لوقت من الأوقات (1) .

- وأما عن الأحاديث التي ورد فيها إطلاق اسم الكفر على عمل من الأعمال، فإن النظر فيها من وجهين.

أولهما: أنه لما قررنا من قبل أركان التوحيد - من ربوبية وألوهية لله تعالى - وحددنا بذلك الأعمال التي تنقض التوحيد كلية لتعلقها بأصله، وكذلك من تقريرنا لقاعدة أن المعاصي منها الشرك ومنها ماهو دون ذلك من كبائر وصغائر.

فإنه تبعاً لهذا النظر، فإن أي عمل ليس من هذه الأعمال الناقضة للتوحيد، أو الذي هو دون الشرك فيجب أن يكون من أعمال المعاصي، ويكون فاعله عاصياً ما لم يستحل، (بمعنى أن يرد بعد ثبوته لديه كما قررنا من قبل في مبحث الرد) ، فإن استحل كان كافراً كفراً أكبر ناقلاً عن الملة، وإن لم يستحل كان الكفر بمعنى المعصية المغلظة.

وعلى هذا جمهور أهل السُّنَّة في نظرهم لهذه الأحاديث.

(1) يراجع في المعنى السابق كله "الصارم المسلول" لابن تيمية ص 42 وبعدها.

ص: 150

الثاني: أن إطلاق لفظ الكفر في القرآن الكريم يختلف عن إطلاقه في السُّنَّة الشريفة، فهو في القرآن الكريم يأتي بمعنى الكفر الأكبر الناقل عن الملة، وذلك لأن الله تعالى ينبه في القرآن الكريم على أعلى درجات الكمال في الإيمان، وعلى أخس درجات الكفر والباطل، ليكون المؤمن حريصاً على اللحاق بهؤلاء، حريصاً كذلك على البعد عن أولئك الكفار، وقد تقررت القاعدة الأصولية بناء على استقراء النصوص القرآنية بهذا المعنى. فقال الشاطبي: "

فكان القرآن آتيا بالغايات تنصيصاً عليها، من حيث كان الحال والوقت يقتضي ذلك، ومنبهاً بها على ما هو دائر بين الطرفين.

وقد روى في هذا المعنى عن أبي بكر الصديق في وصيته لعمر بن الخطاب عند موته حين قال له: "ألم تر أنه نزلت آية الرخاء مع آية الشدة، وآية الشدة مع آية الرخاء، ليكون المؤمن راغباً راهباً، فلا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب رهبة يلقى فيها بيده إلى التهلكة، أو لم تر يا عمر أن الله ذكر أهل النار بسئ أعمالهم، لأنه رد عليهم ما كان لهم من حسن، فإذا ذكرتهم قلت: إني أخشى أن أكون منهم. وذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم، لأنه تجاوز لهم عما كان لهم من سئ، فإذا ذكرتهم قلت: إني مقصر، أين عملي من أعمالهم"(1) .

(1)"الموافقات" للشاطبي جـ 3 ص 140، المسألة في الأوامر والنواهي.

ص: 151

أما في السُّنَّة الشريفة فهي بيان للقرآن الكريم، وتفصيل لما فيه، فهي تحتوي على درجات الإيمان كلها، وكذلك مراتب الكفر كلها، فقد يأتي القول فيها عن الكفر ويراد به الكفر الأصغر وقد يراد به الأكبر. ودليل ذلك: ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يامعشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة منهن جزلة وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن.."(1) الحديث.

وقد ترجم البخاري لهذا الحديث تحت عنوان "كفر دون كفر" وعنى بذلك الكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة. ويقول النووي فيه: "وفيه إطلاق الكفر على غير الكفر بالله تعالى ككفر العشير والإحسان والنعمة والحق"(2) فقد جاء الكفر في الحديث بمعنى كفر العشير أي غمطه حقه.

والقاعدة في ذلك أن اللفظ يؤخذ على ظاهره ما لم تصرفه قرينة، فإن وجدت قرينة تدل على صرف لفظ الكفر في الحديث عن معناه الأصلي وهو الكفر الأكبر، أمكن المصير إلى أنه كفراً أصغر لثبوت إمكان ذلك في السُّنَّة الشريفة.

ومثال ذلك:

قوله صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"(3) .

وقوله صلى الله عليه وسلم: ".. لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"(4) .

فيجمع مع قوله تعالى: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا.." الآية. فيدل على أن مجرد الاقتتال لا يوجب الكفر، فيحمل اللفظ في الحديث على الكفر الأصغر أو المعصية المغلظة، وإنما يكون كفراً أكبر إن استحل المقاتل قتال المسلمين وقتلهم.

(1) رواه البخاري ومسلم واللفظ له، راجع شرح النووي جـ 2 ص 65.

(2)

مسلم شرح النووي جـ 2 ص 67.

(3)

رواه مسلم.

(4)

رواه مسلم.

ص: 152

وقوله صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"(1) فإنه يجب الجمع بينه وبين حديث آخر رواه مسلم وهو:

"من أتى عرافاً فسألة عن شئ فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً"(2) .

فهذا يعني عدم قبول ثواب الصلاة لمدة معينة، وهو لا يجوز قوله لغير المسلم، فصح أنه لم يكفر بذلك، أما إن اعتقد أن هذا الكاهن يعلم الغيب حقيقة، ويشارك في علم الله تعالى فيكون كفره كفراً أكبر.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم"(3) .

فيجمع مع قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة"(4) .

وعدم القبول لا يشترط منه عدم الصحة، ولذلك يقول الإمام أبو عمرو بن الصلاح:

"فصلاة الآبق صحيحة غير مقبولة، فعدم قبولها لهذا الحديث، وذلك لاقترانها بمعصية، وأما صحتها فلوجود شروطها وأركانها المستلزمة صحتها، ولا تناقض في ذلك، ويظهر أثر عدم القبول في سقوط الثواب، وأثر الصحة في سقوط القضاء، وفي أنه لا يعاقب عقوبة تارك الصلاة"(5) .

فقد قاسها بذلك على الصلاة في الدار المغصوبة، فهي صحيحة لا ثواب فيها، وقد حملها الإمام المازرى والقاضي عياض على المستحل للإباق فيكفر ولا تقبل صلاته.

(1) رواه الأربعة والحاكم.

(2)

رواه مسلم.

(3)

رواه مسلم.

(4)

رواه مسلم.

(5)

عن شرح النووي لمسلم جـ 2 ص 58.

ص: 153

وقد ذهب بعض السلف والأئمة إلى اعتبار لفظ الكفر في الأحاديث بمعنى الكفر الأصغر مطلقاً وذلك بعد الاستقراء التام للشريعة، وكذلك جواز وروده بهذا المعنى، ولا فارق في النتيجة بين ذلك وبين القاعدة التي قررناها أولاً من افتراض اللفظ على ظاهره إلى أن تثبت قرينة. وإنما الخلاف في المسلك، وبالاستقراء وجد أن كل ما ورد في السُّنَّة هو من هذا القبيل بالفعل، فلا خلاف إذن، وذلك من جنس قول ابن عباس في العموم أنه "لا عام في القرآن إلا وخصص"، فأخذه بعض الفقهاء والأصوليين مطلقاً واعتبروا دلالة العام أصلاً ظنية لوقوع تخصيصها قطعاً، ومنهم من تركها على عمومها حتى يثبت التخصيص بدليل. ولا فرق في النتيجة إن شاء الله تعالى.

وقد قال صاحب "فتح المجيد" أنه يصار إلى التوقف في دلالة الكفر هنا، فلا يقال كفراً أصغر أو أكبر مبالغة في الوعيد، قال:

"وهل الكفر في هذا الموضع كفر دون كفر فلا ينقل عن الملة؟ أم يتوقف فيه فلا يقال يخرج من الملة ولا يخرج؟ وهذا أشهر الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى"(1) .

وقد دأب كثير من السلف على التوقف عن الحكم بأن هذا كفراً مخرج من الملة أم لا، حتى لا تفقد هذه النصوص خطورتها الواجبة لها، كما روى ذلك عن سفيان بن عيينة، يقول صاحب "فتح المجيد" عند شرح حديث" "ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، ومصدق بالسحر، وقاطع الرحم":

(1)"فتح المجيد" ص 296.

ص: 154

"هذا من نصوص الوعيد التي كره السلف تأويلها، وقالوا أمروها كما جاءت ومن تأولها فهو على خطر من القول على الله بلا علم. وأحسن ما يقال أن كل عمل دون الشرك والكفر المخرج من ملة الإسلام فإنه يرجع إلى المشيئة فإن عذبه فقد استوجب العذاب، وإن غفر له فبفضله ورحمته"(1)، وذكر النووي في شرحه لمسلم:"وذهب الزهري إلى أن هذا الحديث وما أشبهه يؤمن بها ويمر على ما جاءت، ولا يخاض في معناها، وإنا لا نعلم معناها، وقال أمروها كما أمرها من قبلكم.. إلى قوله: والصحيح في معنى الحديث ما قدمناه أولا. "(2) .

- وأما عن الأحاديث التي ورد فيها نفي الإيمان أو "ليس منا" أو ما شابه ذلك. فهي خاضعة للقواعد المقررة من قبل، من زيادة الإيمان ونقصه، ومن تقسيم المعاصي إلى شرك وما دون الشرك مما هو صغيرة وكبيرة.

فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"(3) .

محمول على أنه لا يصبح مؤمناً مكتمل الإيمان لتركه خصلة منه، كما هو معلوم من أن مجرد محبة الأذى أو إرادته للمسلم ليس شركاً، بل هو معصية تنقص من الإيمان الواجب له.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن"(4) .

فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إقامة حد السرقة كالقطع، وحد الزنى، كالجلد، كما هو في القرآن الكريم، فعلم قطعاً أن ذلك ليس شركاً لما هو معلوم من أن عقوبة الردة القتل.

(1)"فتح المجيد" ص 296.

(2)

مسلم بشرح النووي جـ 2 ص 42.

(3)

رواه مسلم، راجع شرح النووي جـ 2 ص 16.

(4)

رواه مسلم.

ص: 155

فكان نفي الإيمان هنا بمعنى نفي كماله، قال النووي في شرحه على الحديث:"فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه: لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشئ ويراد نفي كماله ومختاره، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الآخرة. وإنما تأولناه على ما ذكرناه لحديث أبي ذر وغيره: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق"، وحديث عبادة بن الصامت الصحيح المشهور أنهم بايعوه صلى الله عليه وسلم على أن لا يسرقوا ولا يزنوا، ولا يعصوا، إلى آخره.. إلى قوله.

فهذا الحديثان مع نظائرهما في الصحيح مع قول الله عز وجل: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ، مع إجماع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك، لا يكفرون بذلك بل هم مؤمنون ناقصوا الإيمان" (1) .

- وأما عن الأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا"(2) .

أو قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من ضرب الخدود أو شق الجيوب أو دعا بدعوى الجاهلية"(3) .

أو قوله صلى الله عليه وسلم: "من حمل علينا السلاح فليس منا"(4) .

فكلها - كما سبق أن قررنا - محمولة على أنها في المستحل إن أخذناها على أنها تعني الكفر أو أنها تعني ليس على هدينا أو سيرتنا، وعلى ذلك كثير من أهل العلم، وقد نقلنا أن من السلف من كره هذا القول، وقد قال ابن عيينة فيه: بئس هذا القول - أي صرف الحديث عن ظاهره - ليكون أبلغ في الزجر.

خاتمة

وبعد:

فإن الأمر سهل ميسور، لمن يسره الله له.

(1) راجع "مسلم بشرح النووي" جـ 2 ص 41.

(2)

رواه مسلم.

(3)

رواه مسلم.

(4)

رواه مسلم.

ص: 156

فالإسلام قد نزل إلى أمة أمية جد قليلة الحظ - إن لم تكن معدومة - من الفلسفة والمنطق وغيرهما من العلوم العقلية البشرية التي ضررها أكثر من نفعها، ولم يكن الجدل العقلي معروفاً لديهم، إلا السوفسطائية المحطمة للحقائق، الملبسة الحق بالباطل، والمزينة الباطل بالحق، فاستنقذ الإسلام هذه الفطر من ركام الجاهلية التي كانت ترون عليها، وصحح مسار الفكر فيها، وكان النبع الصافي والمورد الوحيد لتصوراتهم وفهمهم هو القرآن الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الفهم المستقيم المبني على الفطرة السليمة.

فلما كان عصر الفتوحات، وانتقلت وسائل العلم الغريبة عن القرآن ومنهجه - كالفلسفة - وكثير الجدل وبدأ النزاع والاختلاف وظهر علم الكلام، انحرفت الفطر، ونشأت الفرق التي فرقت دين الله بآرائها وأفكارها ومناهجها السقيمة الغريبة عن منهج القرآن في تناول الأمور.

وما كان دين الله في نفوس المؤمنين الأوائل بهذا الشكل المنحرف، بل كان الإسلام واضحاً في أذهانهم وقلوبهم، بحس سليم وفهم مستقيم المسلم من غيره دون الحاجة إلى مراجعة المراجع وتسطير الصفحات. فيصيبون حيث يخطأ الآخرون.

ص: 157

ولهذا كان لابد لنا من الرجوع إلى النبع الصافي نستلهم منه مفهوماتنا وتصوراتنا، ناهجين في ذلك منهج سلفنا الصالح، الذين قطعوا هذا الطريق كله قبلنا، فأناروه لنا، وبينوا منهج الفكر السليم، وتناول النصوص الشرعية وعلاقتها باللغة العربية، واستنبطوا القواعد الأصولية، والمناهج العقلية التي تجمع هذا كله لتكون دليلاً لمن يأتي من بعدهم ليسير على دربهم، فإن فعلنا وسلكنا طريقهم فلا حاجة بنا إلى الجدل والتركيبات العقلية السقيمة، الدخيلة على الإسلام، والتي لم يدفعنا لها إلا ما كان من أخطاء جمة في فهم الدين على حقيقته، مما استلزم التحليل والتدقيق حتى تتضح كل الجزئيات التي ما كانت لتخفى على أحد لولا انتكاس الفطر واختلاط المورد الصافي بغيره.

اللهم إنا نسألك علماً نافعاً وقلباً خاشعاً، ولساناً ضارعاً.

اللهم تقبل حسناتنا، وتجاوز عن سيئاتنا واهدنا سواء السبيل.

وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مراجع البحث

1 -

القرآن الكريم.

2 -

صحيح البخاري.

3 -

صحيح مسلم.

4 -

سنن الترمذي.

5 -

تفسير الطبري ط الحلبي

6 -

تفسير القرطبي ط دار الكتب العربي

7 -

تفسير ابن كثير ط. الشعب

8 -

تفسير المنار محمد رشيد رضا ط. مكتبة القاهرة

9 -

فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني ط. المكتبة السلفية

10-

فيض الباري شرح صحيح البخاري للكشميري ط. دار المعرفة

11-

شرح صحيح مسلم للنووي ط. المطبعة المصرية

12-

الترغيب والترهيب للمنذري ط. دار إحياء التراث العربي

13-

مختار الحسن والصحيح عبد البديع صقر ط. المكتب الإسلامي

14-

زاد المعاد ابن القيم ط. دار الفكر

15-

مدارج السالكين ابن القيم ط. دار الكتاب العربي

16-

إعلام الموقعين ابن القيم ط. دار الجيل

17-

كتاب الصلاة ابن القيم ط. المطبعة السلفية

18-

مجموعة الفتاوى ابن تيمية ط. دار ابن تيمية

ص: 158

19-

الصارم المسلول على شاتم الرسول ابن تيمية ط. دار الفكر

20-

الإيمان ابن تيمية ط. السُّنَّة المحمدية

21-

اقتضاء الصراط المستقيم ابن تيمية ط. السُّنَّة المحمدية

22-

مقدمة في أصول التفسير ابن تيمية ط. المكتبة السلفية

23-

الموافقات في أصول الشريعة الشاطبي ط. دار المعرفة

24-

الاعتصام الشاطبي ط. دار المعرفة

25-

تهذيب الفروق والقواعد السنية (هامش الفروق للقرافي) محمد بن حسين المالكي ط. دار المعرفة

26-

الفصل في الملل والأهواء والنحل ابن حزم ط. مكتبة المثنى بغداد

27 الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض ط. الحلبي

28-

شرح السُّنَّة للبغوي ط. المكتب الإسلامي

29-

معالم السنن للخطابي ط. السُّنَّة المحمدية

30-

الفرق بين الفرق للبغدادي ط. دار الكتب العلمية

31-

شرح الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة النعمان ملا علي القاري ط. دار الكتب العلمية

32-

جامع العلوم والحكم ابن رجب الحنبلي ط. الحلبي

33-

نيل الأوطار للشوكاني ط. دار الجيل

34-

فتح المجيد شرح كتاب التوحيد عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ط. دار إحياء التراث العربي

35-

المغني ابن قدامة المقدسي ط. مكتبة الرياض

36-

الزواجر عن اقتراف الكبائر ابن حجر الهيتمي ط. الشعب

37-

إحياء علوم الدين الغزالي ط. الشعب

38-

كتاب الإيمان أبوبكر ابن أبي شيبة ط. المدني

39-

كتاب الإيمان للقاسم بن سلام ط. المدني

40-

شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ط. زكريا علي يوسف

41-

معارج القبول حافظ حكمي ط. المكتبة السلفية

42-

أعلام السُّنَّة المنشورة حافظ حكمي ط. المركز العربي للنشر

43-

مقالات الإسلاميين للأشعري ط. دار النهضة الحديث

44-

الشريعة للآجرى ط. السُّنَّة المحمدية

45-

أسباب النزول للواحدي ط. الحلبي

46-

تاريخ الإسلام السياسي حسن إبراهيم حسن ط. مكتبة النهضة الحديثة

47-

البيان والتبيين الجاحظ ط. الشركة اللبنانية للكتاب

48-

مختار الصحاح ط. الحلبي

ص: 159

49-

كلمة الإخلاص وتحقيق معناها ابن رجب الحنبلي ط. دار الفتح

50-

بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاسائي ط. زكريا علي يوسف

51-

المسودة في أصول الفقة ابن تيمية ط. المدني

52-

منهاج السُّنَّة النبوية ابن تيمية ط. دار الكتب العلمية

فهرس الموضوعات

المقدمة

الباب الأول

الفصل الأول ـ: الإسلام والإيمان

...

الفصل الثاني: الإيمان قول وعمل

الفصل الثالث:

أولاً: الاعتقاد

ثانياً: الإصرار والرد

الباب الثاني:

الفصل الأول: مجمل أقوال المرجئة

الفصل الثاني: أحاديث الشفاعة وحقيقة الشهادتين

...

الفصل الثالث: ردود على الشبهات

الباب الثالث:

الفصل الأول: مجمل أقوال الخوارج

...

الفصل الثاني: بحث في أقسام المعاصي

...

الفصل الثالث: نقض أدلة الخوارج

خاتمة

مراجع

فهرس الموضوعات

ص: 160