المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أولا: في الاعتقاد - حقيقة الإيمان

[طارق عبد الحليم]

الفصل: ‌أولا: في الاعتقاد

وأما عند من بلغته الشرائع وطولب بها فتحقيق التوحيد يقتضي منه ترك أعمال الشرك بالكلية وإتيان ما اشترط من عمل لصحة الإسلام، وتحقيق هذا الإيمان بقدر عملي ولابد.

والله تعالى أعلم

الفصل الثالث

‌أولاً: في الاعتقاد

أثبتنا - بعون الله تعالى - فيما سبق أن الإيمان قول وعمل، وأنه يزيد وينقص، وأن له أصل واجب في حق من بلغته الشرائع وهو توحيد الله عز وجل مع ترك الشرك، وعمل ما هو لازم كشرط لصحة الإسلام، ونزيد الأمر بياناً بتفصيل المعنى الشرعي للإيمان، ببيان مركباته أو أجزائه، والتي لا يصح إيمان المرء إلا باجتماعها.

يقول ابن حزم: "ليس بعض الإيمان إيماناً أصلاً، بل الإيمان متركب من أشياء إذا اجتمعت صارت إيماناً"(1) ، وذلك في معرض مناقشته لمن اكتفى بتصديق القلب أو بالتصديق والإقرار اللفظي دون العمل، فقوله ذلك إنما هو جار في ما يثبت به أصل الإيمان. وهي ثلاثة معان لازمة من بعضها.

1 – العلم:

وهو "معرفة المعلوم على ما هو به" كما في "العدة في أصول الفقه" لأبي يعلي جـ1 صـ76، أي أن يعرف المرء القضية التي هي موضوع إيمانه تمام المعرفة.. هذا عامة.

(1)"الملل والنحل" لابن حزم جـ3 ص215.

ص: 49

وبالنسبة للإسلام فيجب أن يعرف المرء ربه سبحانه، بمعرفة صفات ربوبيته اللازمة لكماله، وحقوق ألوهيته التي لا تصرف لغيره بشكل من الأشكال، وما يتبع ذلك من إثبات الرسل والوحي وغير ذلك مما تجب معرفته من أصول عقيدة التوحيد، والتي لا يثبت التوحيد بدونها، ولا يسع المسلم جهلها، وإلا ما كان مسلماً، فإن الاعتقاد فرع من المعرفة، وكيف يؤمن المرء بقضية لا يعرفها، أو لا يعرف الضروريات من أصولها؟! (1) ، وقد أثبت الجهمية الإيمان بمجرد المعرفة فقط (2) .

(1) يراجع بحثنا عن [عارض "الجهل" في الشريعة "الجواب المفيد في حكم جاهل التوحيد"] ، وحدود ما يجب أن يعرف هو كما قلنا ما لا يسع المسلم جهله ليصير مسلماً وذلك في التوحيد، أما في الأصول الاعتقادية أو الأصول القطعية التي يجب فيها البلاغ والتي تخفى على العامة كذلك، فهي ليست محل قضيتنا ولا هي داخلة في حدود المعرفة المطلوبة لأصل الإيمان.

(2)

وقد اقترفت الجهمية عن أهل السنة في مقصودهم بالمعرفة، فبينما ذكر أهل السنة أن المعرفة - بمعنى العلم أو الإعلام بالموضوع - لا يستلزم التصديق أو التكذيب، وإنما إن كان العلم بمعنى تحقق المعرفة بالشئ على ما هو عليه في الحقيقة فإنه متضمن للتصديق بطريق اللزوم، ولا محالة ولا يتصور مع هذه الحالة - وهي تحقق العلم النفسي بالموضوع على حقيقته - أن يصير معها تكذيب في النفس - وإن أمكن التكذيب في الظاهر باللسان جحوداً - بينما أثبت الجهمية إمكان تحقق العلم النفسي بالشئ على ما هو عليه في حقيقته ثم تكذيبه في نفس الأمر تكذيباً نفسياً. وهو ما لا يمكن تصوره أو إمكان حدوثه كما قرر هذا الإمام ابن تيمية عن أهل السنة والجماعة. راجع "الرسالة التسعينية" بالفتاوى الكبرى جـ 5 ص 163.

ص: 50

يقول ابن حزم: "ذهب قوم إلى أن الإيمان إنما هو معرفة الله تعالى بالقلب فقط، وإن أظهر اليهودية أو النصرانية وسائر أنواع الكفر بلسانه وعبادته. فإذا عرف الله تعالى بقلبه فهو مسلم من أهل الجنة"(1) .

وهذا القدر وحده لا يكفي لإثبات الإيمان – حتى دون إظهار الكفر باللسان – وإلا كان إبليس مؤمناً، فقد قال الله تعالى على لسانه:(قال أنظرني إلى يوم يبعثون)(2) .

وقال تعالى حاكياً عن إبليس: (إني أخاف الله رب العالمين)(3) .

وهذا القدر لا خلاف فيه بين أهل السُّنَّة (4) .

2-

التصديق:

(1)"الملل والنحل" لابن حزم جـ3 ص 188.

(2)

الأعراف 14.

(3)

الحشر 16.

(4)

قد تجد في بعض كتب الأصول أن المعرفة ليست بشرط عند أهل السنة وأنها شرط عند المعتزلة، فنقول إن المقصود من المعرفة في اصطلاحهم (التي ليست بشرط عند أهل السنة) هي معرفة دليل التوحيد وليس موضوعه، فنحن نقول إن معرفة موضوع التوحيد شرط ولا يعذر جاهله، وليس معرفة دليله، ونسوق من كلامهم ما يدل على اختلاف قصدنا بلفظ المعرفة عن مرادهم به في هذا الموضع، يقول صاحب "فيض الباري" في تحقيق المعرفة:"فالمشهور عن الأئمة الأربعة رحمهم الله أنها - أي المعرفة - ليست بشرط بخلاف المعتزلة فإنها شرط عندهم. ومعناه عندهم أن يكون عنده من الدلائل على التوحيد والرسالة ما يوجب اليقين.." اهـ جـ1 ص 53. وهذا يوضح معنى ما قلناه من أن المقصود بالمعرفة التي ليست بشرط عند أهل السنة هي معرفة دلائل التوحيد وليس موضوعه بلا خلاف. ويراجع كذلك في هذا المعنى ما قاله ابن القيم في مدارج السالكين جـ3 ص 486.

ص: 51

فقد دخلت الشبهة على كثير من "دعاة الإسلام" اليوم بأن الإيمان هو التصديق، ثم جعلوا معنى التصديق مجرد نسبة الصدق إلى الخبر أو المخبر به، بمعنى أنه إذا جاءك من يخبرك خبراً فسمعته ثم قلت إنه صادق في هذا الخبر فهذا هو التصديق، وطردوا هذا المعنى في المفهوم الشرعي للتصديق، فاعتقدوا أن من نسب الصدق إلى محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: إنه رسول الله فعلاً وأنا مصدق بأنه جاء من عند الله تعالى بالقرآن، كان آتياً بالتصديق الشرعي الذي هو مرادف للإيمان عندهم.

والحق أن الأدلة من الكتاب والسُّنَّة قد دلت على جهمية خلاف ذلك مطلقاً، وإنما قد دخلت عليهم الشبهة التي دخلت على جهمية المرجئة، فمجرد هذا التصديق لا يثبت به إسلام. وسنسوق الأدلة من الكتاب والسُّنَّة على ما نقول ثم نبين بعدها معنى التصديق الشرعي المراد إن شاء الله تعالى:

(أ) قال تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً)(1) .

قال ابن عباس: "يقينهم في قلوبهم"(2) أي قد حدث التصديق القلبي بالفعل، إلا أن ذلك لم يثبت لهم إيماناً، بل حتى لم يمنعهم من التكذيب الصريح باللسان رغم التصديق القلبي التام.

وقد كان فرعون وجنوده يعلمون تماماً أن هذه الآيات من عند الله تعالى: قال تعالى على لسان موسى: (قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر)(3) .

وقال تعالى عن اليهود: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)(4) .

(ب) يقول الإمام ابن القيم في "زاد المعاد" في معرض حديثه عن وفد نجران:

(1) النمل 14.

(2)

الطبري جـ19 ص140.

(3)

الإسراء 102.

(4)

البقرة 146.

ص: 52

"

فلما وجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نجران جلس أبو حارثة على بغلة له موجهاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى جنبه أخ له يقال له كرز بن علقمة يسايره، إذ عثرت بغلة أبو حارثة فقال له كرز: تعس الأبعد – يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم – فقال له حارثة: بل أنت تعست فقال: ولم يا أخي؟ فقال: والله إنه النبي الأمي الذي كنا ننتظره، فقال له كرز فما يمنعك من اتباعه وأنت تعلم هذا؟ فقال: ما صنع بنا هؤلاء القوم، شرفونا، وتولونا، وأكرمونا، وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى! فأضمر عليها منه أخوه كرز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك" (1) .

ثم يقول في فقه القصة: "ومن تأمل ما في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وأنه صادق فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام، علم أن الإسلام أمر وراء ذلك، وأنه ليس هو المعرفة فقط ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفة والإقرار والتزام طاعته ودينه ظاهراً وباطناً"(2) .

(جـ) ومن أخبار هرقل قيصر الروم:

روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يذهب بصحيفتي هذه إلى قيصر وله الجنة؟

(1)"زاد المعاد" لابن القيم جـ3 ص 38.

(2)

السابق جـ3 ص 42.

ص: 53

فقال رجل من القوم: وإن لم يقبل، فوافق قيصر وهو يأتي بيت المقدس فرمى بالكتاب على البساط وتنحى، فنادى قيصر: من صاحب الكتاب وهو آمن؟ قال: أنا، قال: فإذا قدمت فأتني، فلما قدم أتاه فأمر قيصر بأبواب قصره فأغلقت ثم أمر منادياً ينادي أن قيصر قد اتبع محمداً وترك النصرانية، فأقبل جنده وقد تسلحوا، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قد ترى إني أخاف على مملكتي، ثم أمر مناديهفنادى: ألا إن قيصر قد رضي عنكم، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني مسلم، وبعث إليه بدنانير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذب عدو الله ليس بمسلم وهو على نصرانيته" (1) .

(د) وجاء في حديث لقاء أبي سفيان مع هرقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"إن يك ما تقوله حقاً فإنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أك أظنه منكم، ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عند قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي.."(2) .

(هـ) وعن صفوان بن عسال قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي، فقال له صاحبه لا تقل نبي فإن له أربعة أعين. فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألاه عن تسع آيات بينات فقال لهم:"لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس ولا تقذفوا المحصنة ولا تولوا يوم الزحف وعليكم خاصة يهود ألا تعدوا في السبت، فقبلوا يديه ورجليه وقالوا: نشهد أنك نبي، قال: فما يمنعكم أن تتبعوني؟ قالا: إن داود دعا ألا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود "(3) .

3 -

الالتزام:

(أو الإقرار أو الطاعة والانقياد) .

(1) رواه أبو حاتم وابن حبان.

(2)

رواه البخاري في صحيحه باب بدء نزول الوحي.

(3)

رواه النسائي والترمذي وصححه.

ص: 54

وهو يمثل العنصر الثالث الضروري لأصل الإيمان أو الحد الأدنى من الإسلام الذي ينجو به صاحبه من الخلود في النار، فيسلم المرء لله سبحانه وينقاد لرسوله وشريعته، فلا يرد منها شيئاً مهما كان بعد قبوله التزام الأحكام.

نقل الشوكاني في نيل الأوطار ما قاله الحافظ في الفتح في باب قتل من أبى من قبول الفرائض:

"وفيه منع قتل من قال لا إله إلا الله ولو لم يزد عليها وهو كذلك، لكن هل يصير بمجرد ذلك مسلماً؟ الراجح لا، بل يجب الكف عن قتله حتى يختبر فإن شهد بالرسالة والتزم أحكام الإسلام حكم بإسلامه"(1) .

ويقول صاحب معارج القبول: "ومن هنا يتبين لك أن من قال من أهل السُّنَّة في الإيمان: هو التصديق على ظاهر اللغة أنهم إنما عنوا التصديق الإذعاني المستلزم للانقياد ظاهراً وباطناً بلا شك، ولم يعنوا مجرد التصديق، فإن إبليس لم يكذب في أمر الله تعالى له بالسجود، وإنما أبى عن الانقياد كفراً واستكباراً"(2) .

وقد فصل الإمام ابن تيمية القول في هذه النقطة تفصيلاً لا مزيد عليه نقتطف منه ما يلي:

قال في معرض حديثه عن الفارق بين الإيمان والتصديق الذي هو نسبة الصدق إلى الخبر:

"وذلك أن الإيمان يفارق التصديق: أي لفظاً ومعنى".

ثم يبين أحد الفروق اللفظية بينهما وهو أن التصديق إنما ينطبق على الحقائق أو الأخبار المحسوسة أما الإيمان فإنما يستعمل فيما هو وراء الغيب من أخبار فيقول:

"والفرق الثاني: ما تقدم من أن الإيمان لا يستعمل في جميع الأخبار، بل في الإخبار عن الأمور الغائبة ونحوها مما يدخلها الريب، فإذا أقر بها المستمع قيل: آمن، بخلاف لفظ التصديق فإنه عام متناول لجميع الأخبار".

ثم يبين بعدها الفارق في المعنى بينهما فيقول:

(1)"نيل الأوطار" للشوكاني في جـ 8 ص 12.

(2)

"معارج القبول" لحافظ حكمي جـ 2 ص 23.

ص: 55

"وأما المعنى فإن الإيمان مأخوذ من الأمن الذي هو الطمأنينة، كما أن لفظ الإقرار مأخوذ من قريقر، وهو قريب من آمن يأمن، لكن الصادق يطمئن إلى خبره والكاذب بخلاف ذلك، كما يقال: الصدق طمأنينة والكذب ريبة، فالمؤمن دخل في الأمن كما أن المقر دخل في الإقرار، ولفظ الإقرار يتضمن الالتزام، ثم إنه على وجهين:

(أحدهما) : الإخبار: وهو من هذا الوجه كلفظ التصديق والشهادة ونحوهما

وهذا معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار.

و (الثاني) : إنشاء الالتزام: كما في قوله تعالى: (أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا، قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) وليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد فإنه سبحانه قال: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة

الآية) فهذا الالتزام للإيمان والنصر للرسول.

وكذلك لفظ الإيمان فيه إخبار وإنشاء والتزام، بخلاف لفظ التصديق المجرد فمن أخبر الرجل بخبر لا يتضمن طمأنينة إلى المخبر، لا يقال فيه آمن له بخلاف الخبر الذي يتضمن طمأنينة إلى المخبر، والمخبر قد يتضمن خبره طاعة المستمع له، وقد لا يتضمن إلا مجرد الطمأنينة إلى صدقه، فإذا تضمن طاعة المستمع لم يكن مؤمناً للمخبر إلا بالتزام طاعته مع تصديقه، بل قد استعمل لفظ الكفر المقابل للإيمان. في نفس الامتناع عن الطاعة والانقياد، فقياس ذلك أن يستعمل لفظ الإيمان كما استعمل لفظ الإقرار في نفس التزام الطاعة والانقياد" (1) .

وقد تكلم في هذا الباب صاحب "فيض الباري" فقال:

(1) مجموعة فتاوى ابن تيمية جـ 7 ص 530 وبعدها، ويراجع "الإيمان" ص248 وبعدها في الفرق بين الإيمان والتصديق.

ص: 56

"واختلف في الإقرار، فقالت المرجئة: إن الإقرار ليس بشطر ولا شرط للإيمان، فالتصديق وحده يكفي عندهم للنجاة، حتى اشتهر القول عنهم بأنه لا تضر مع الإيمان معصية، وعلى خلافهم الكرامية فإنهم زعموا أن الإقرار باللسان يكفي للنجاة (1) سواء وجد التصديق أم لا، فكأنهما على طرفي نقيض، وعندنا – أي أهل السُّنَّة – لابد من الإقرار أيضاً إما شطراً أو شرطاً

" (2) .

ثم يورد إشكالاً على من قال: إن الإيمان التصديق، وأنه لابد من عدم وجود المناقض – حتى لو وجد التصديق القلبي – ليثبت التوحيد فيقول:

"وههنا إشكال يرد على الفقهاء والمتكلمين وهو أن بعض أفعال الكفر قد توجد من المصدق كالسجود للصنم والاستخفاف بالمصحف، فإن قلنا إنه كافر، ناقض قولنا أن الإيمان هو التصديق، ومعلوم أنه بهذه الأفعال لم ينسلخ عن التصديق فكيف يحكم عليه بالكفر؟ وإن قلنا إنه مسلم فذلك خلاف الإجماع، وأجاب عنه الكستلي تبعاً للجرجاني أنه كافر قضاء، ومسلم ديانة، وهذا الجواب باطل مما لا يصغى إليه فإنه كافر ديانة وقضاء قطعاً.

فالحق في الجواب ما ذكره ابن الهمام رحمه الله تعالى وحاصله أن بعض الأفعال تقوم مقام الجحود نحو العلائم المختصة بالكفر وإنما يجب في الإيمان التبرؤ عن مثلها أيضاً كما يجب التبرؤ عن نفس الكفر، ولذا قال تعالى:(لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) في جواب قولهم: (إنما كنا نخوض ونلعب) ولم يقل إنكم كذبتم في قولكم، بل أخبرهم بأنهم بهذا اللعب والخوض اللذين من أخص علائم الكفر خلعوا ربقة الإسلام عن أعناقهم، وخرجوا عن حماه إلى الكفر.

(1) وقد خالف صاحب فيض الباري الإمام ابن تيمية في مفهومه لمذهب الكرامية وحقيقته، راجع الإيمان الأوسط ص 18.

(2)

"فيض الباري شرح صحيح البخاري" جـ1 ص 49.

ص: 57

فدل على أن مثل تلك الأفعال إذا توجد في رجل يحكم عليه بالكفر ولا ينظر إلى تصديقه في قلبه ولا يلتفت إلى أنها كانت منه خوضاً وهزأ فقط أو كانت عقيدة.

ومن ههنا تسمعهم يقولون إن التأويل في ضروريات الدين غير مقبول، وذلك لأن التأويل فيها يساوق الجحود، وبالجملة: إن التصديق المجامع مع أخص أفعال الكفر لم يعتبره الشرع تصديقاً، فمن أتى بالأفعال المذكورة فكأنه فاقد للتصديق عنده. وأوضحه الجصاص فراجعه" (1) .

ثم يقرر هذا الإمام المحور الذي يدور عليه الإيمان بعدها فيقول:

"وإذ قد علمت أن التصديق والتسليم والمعرفة واليقين كلها يجامع الجحود فلا بد من تفسير يتميز به الكفر من الإيمان

" (2) وبعد أن نقل ما ذكرناه من قبل من أحاديث أبي سفيان وهرقل وغيرها في إثبات أن التصديق مخالف للإيمان يقول:

"فأقول إن الجزء الذي يمتاز به الإيمان عن الكفر هو التزام الطاعة مع الردع والتبري عن دين سواه، فإذا التزم الطاعة فقد خرج عن ضلالة الكفر ودخل في هدى الإسلام"(3) .

(1)"فيض الباري على صحيح البخاري" للإمام الكشميري جـ1 ص 50. وهذا الإمام رحمه الله تعالى من أئمة الحنفية الذين قيل عنهم أنهم "مرجئة أهل السنة" رغم اعتراضه على هذه النسبة كما أوضح في كتابه السابق ص 54 – فانظر إليه كيف يعتبر الإقرار شرطاً أو شطراً في الإسلام وكيف يخرج التصديق المجامع لفعل من أفعال الكفر عن كونه تصديقاً معتبراً شرعاً، ويجعل صاحبه كافراً رغم تصديقه؟! فكيف بمن يعتبر أن مجرد التصديق حتى مع إتيان أعمال الكفر هو تصديق معتبر شرعاً، ويضمن السلامة لصاحبه في الآخرة؟! أليس هذا هو الأولى بأن يكون من غلاة المرجئة كما حكى عنهم أصحاب كتب الفرق؟ ثم يزعم زاعم أن هذا هو قول أهل السنة! فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

(2)

السابق جـ1 ص 50، 51.

(3)

السابق جـ1 ص 50، 51.

ص: 58

ثم يستطرد فيشرح بعدها مباشرة أن اصطلاح الإقرار في أقوال الفقهاء لا بد وأن يكون هو بمعنى التزام الطاعة وليس بمعنى مجرد التلفظ بالشهادتين – أي الإقرار القولي – وإلا بقى الأشكال السابق ذكره وارداً عليهم، فيقول: "وحينئذ ينبغي أن يراد من الإقرار في قول الفقهاء الإقرار بالتزام الطاعة. وإن كان المراد منه الإقرار بالشهادتين كما هو المشهور، بقى الإشكال) (1) .

ويقول ابن رجب: (

إن من أقر بالشهادتين صار مسلماً حكماً، فإذا دخل في الإسلام بذلك، ألزم بالقيام ببقية خصال الإسلام) (2) .

ولا يخفى ما في تعبيره بكلمة حكماً من معنى أنه لا يلزم من ذلك أنه مسلم على الحقيقة، وإنما يعتبر مسلماً حكماً بإقراره بالشهادتين، طالما لم يأتي بالمناقض افتراضاً أنه ملتزم بأحكام الشريعة.

وبعد.. فإن الالتزام المقصود إنما ينقسم إلى قسمين حسب ما قررنا من مفاهيم، فهناك قدر من الالتزام لازم للدخول – أو للبقاء – في الإسلام، وبين الالتزام الذي هو بمعنى الفعل للأحكام نفسها عامة فهما قسمين:

1-

التزام قبول الإسلام: (وهو يعني قبول الشرائع جملة، وقبول الانقياد لها عملاً) وهذا القدر من الالتزام المنجي لصاحبه من الخلود في النار إنما يجب فيه الالتزام بترك أعمال الشرك ابتداءً، وإما للبقاء في الإسلام، - وذلك بعد أن يستمر فترة من الزمن تبلغه الشرائع تفصيلاً – فيجب فيه أداء الأعمال المشروطة لصحة الإسلام من أعمال الجوارح، وأن يحقق جنس الأعمال عامة ليثبت توحيده.

2 -

التزام التنفيذ للشرائع: وهو الذي يتضمن تنفيذ الأوامر الشرعية كلها بعمل الطاعات واجتناب المعاصي، وهي الأعمال الداخلة في الإيمان الواجب واستكمال الإيمان.

(1) السابق جـ1 ص 51.

(2)

"جامع العلوم والحكم" لابن رجب ص 23.

ص: 59

وهو مقتضى ما قررناه سابقاً، وبهذا التفريق بين معاني الالتزام يتضح الفرق بين أهل السُّنَّة والجماعة وبين كل من المرجئة والخوارج (1) .

وقد كان من أهم ما نشأ عن الخلط في هذا المفهوم للإيمان، وعلاقته بالقدر المنجي من الخلود في النار، واعتبار المرجئة - ومن دخلت عليهم شبهاتهم - أنه التصديق القلبي فقط، أن خلط الناس في مفهوم "الاعتقاد" وجعلوه مرادفاً لأصل الإيمان، وأن من سلم اعتقاده فهو الناج المحقق لما ينجيه من الخلود في النار.

(1) وقد عد ابن تيمية من فرق المرجئة في كتاب الإيمان: الفرقة السادسة، التي تقول:"إن الإيمان هو المعرفة بالله وبرسله وفرائضه المجمع عليها والخضوع له بجميع ذلك والإقرار باللسان" مجموع الفتاوى جـ7 ص545.

وقريب من قول هؤلاء ما ذكر عن الفرقة العاشرة من المرجئة قال: "يزعمون أن الإيمان ترك ما عظم من الكبائر وهو اسم لخصال إذا تركها أو ترك خصلة منها كان كافراً، فتلك الخصلة التي يكفر بتركها إيمان، وكل طاعة إذا تركها التارك لم يجمع المسلمون على تكفيره بتلك الطاعة شريعة من شرائع الإيمان، تاركها إن كانت فريضة يوصف بالفسق، فيقال له إنه يفسق ولا يسمى بالفسق ولا يقال فاسق وليست تخرج الكبائر من الإيمان إذا لم تكن كفراً، وتارك الفرائض مثل الصلاة والصيام والحج على الجحود بها، والرد لها والاستخفاف بها كافر بالله، وإنما كفر للاستخفاف والرد والجحود، وإن تركها غير مستحل لتركها متشاغلاً مسوفاً يقول: الساعة أصلي. وإذا فرغت من لهوى وعملى فليس بكافر، وإن كان يصلي يوماً ووقتاً من الأوقات، ولكن نفسقه.." السابق جـ7 ص 647 فما أشبه اليوم بالبارحة، وما أشبه هؤلاء بمن يقول عمن يفعل فعلاً مكفراً أنه يفعل الكفر ولا نقول عنه كافراً!.

ص: 60

والحق في ذلك أن لفظ الاعتقاد إنما هو بمعنى "ما يجب أن يعقد عليه القلب" من معان، فخرج بذلك منه كل الأعمال سواء الأعمال التركية - أي ترك أعمال الشرك - كالسجود لصنم والدعاء لغير الله - دعاء عبادة ومسألة - أو الأعمال الفعلية المشترطة لصحة الإسلام - على اختلاف فيها - وصار هو بمعني قول القلب وعمله. فالقدر المنجي من الخلود في النار إذن - حسب ما قررنا قبل ذلك - هو:

الاعتقاد: وهو ما يجب أن يعقد عليه القلب من معان خاصة بالربوبية والألوهية، وبرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وما يتضمنها من أوامر ونواهي - عند من بلغته الأوامر والنواهي تفصيلاً - معرفة وتصديقاً وإقراراً قلبياً (أو التزاماً بها) وهذا معنى قول القلب وعمله (1) .

العمل: وهو ترك أعمال الشرك الأكبر كلها كالسجود للصنم أو دعاء غير الله تعالى وإتيان الأعمال المشروطة لصحة الإسلام كما أوضحنا من قبل - على خلاف فيها - لمن بلغته الشرائع، تحقيقاً لإتيان جنس العمل اللازم لصحة الإيمان إجماعاً.

ثم إن هؤلاء قد قالوا - من غير دليل معتبر - أن المسلم مهما أتى من عمل من الأعمال لا يكفر بذلك طالما أن اعتقاده صحيح فيه، وطردوا ذلك المعنى في جميع الأعمال فلم يفرقوا بين أعمال الكفر وأعمال المعاصي، وجعلوا فساد الاعتقاد شرطاً في كفر من عمل أي عمل من أعمال الجوارح أياً كان هذا العمل، والحق أن هذه المسألة لها تفصيل.

فإنه يجب أن نفرق بين الأعمال التي يكفر فاعلها، وبين أعمال المعصية عامة.

(1) والكفر من باب الاعتقاد يكون إما بسقوط قول القلب أي تصديقه، ويكون من المكذب وهو كفر التكذيب، أو بسقوط عمل القلب أي انقياده والتزامه ومحبته كمن أنزل الله تعالى فيهم (لا تعتذروا..) الآية، وجهمية المرجئة قد قصروا الكفر على سقوط قول القلب فانتبه.

ص: 61

فإن الإتيان بعمل من أعمال الكفر الصراح المخرج من الملة (1) يعني بالضرورة فساد الاعتقاد القلبي ولاشك حتى دون أن يصرح بذلك أو حتى دون أن يقصد إليه، وهذا مقتضى ما ظهر من اعتبار الشريعة للتلازم بين الظاهر والباطن.

يقول ابن تيمية:

"

وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كُفْر كَفَر بذلك، وإن لم يقصد أن يكون كافراً إذ لا يقصد أحد الكفر إلا ما شاء الله" (2) .

ثم أوضح الأمر بعدها فقال:

"قال سبحانه: (من كفر بالله من بعد إيمانه - إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان - ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) .

ومعلوم أنه لم يرد بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط، لأن ذلك لا يكره الرجل عليه، وهو قد استثنى من أكره ولم يرد من قال واعتقد، لأنه استثنى المكره، وهو لا يكره على القصد والقول، وإنما يكره على القول فقط، فعلم أنه أراد من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم، وأنه كافر بذلك إلا من أكره وهو مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدراً من المكرهين، فإنه كافر أيضاً، فصار من تكلم بالكفر كافراً إلا من أكره فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان.

وقال تعالى في حق المستهزئين: (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) فبين أنهم كفار بالقول مع أنهم لم يعتقدوا صحته وهذا باب واسع" (3) .

(1) في حالة ثبوت عدم وجود أي عوارض كالإكراه مثلاً والتي يتغير حكم المكلف تبعاً لها. يراجع بحثنا التالي عن عارض [الجهل] في كتاب "الجواب المفيد في حكم تارك التوحيد".

(2)

"الصارم المسلول" لابن تيمية ص 178 وما بعدها.

(3)

السابق ص 524.

ص: 62

ثم يقول: "واعلم أن الإيمان وإن قيل هو التصديق فالقلب يصدق بالحق والقول يصدق في القول، والعمل يصدق القول (1) والتكذيب بالقول مستلزم للتكذيب بالقلب، ورافع للتصديق الذي كان في القلب، إذ أعمال الجوارح يؤثر في القلب، كما أن أعمال القلب يؤثر في الجوارح، فإنما قام به كفر تعدى حكمه إلى الآخر"(2) .

ونخلص من هذا إذن إلى أنه من زعم أنه معتقد اعتقاداً صحيحاً وهو يعمل عملاً من أعمال الكفر الأكبر، فهذا لا يصح أن يعتبر مسلماً بأي حال من الأحوال بل هو كافر رغم زعمه صحة الاعتقاد، لأن اعتقاده القلبي يكون قد سقط ولا محالة (3) لإتيانه ما يضاده مضادة كاملة وإن لم يصرح بذلك.

ومن قال إنه يعتبر مسلماً لصحة اعتقاده فهو من المرجئة الذين يجعلون الإيمان هو مجرد عقد القلب دون الأعمال.

أما عن أعمال المعاصي كلها فالشأن فيها أن لا يكفر فاعلها إلا إن كان مستحلاً لها، وفي هذا المقام نُقلت أقوال الفقهاء كلهم عن أن مرتكب أي عمل - ويقصدون به من أعمال المعاصي لا الكفر - لا يكفر إلا إن كان مستحلاً له فهو إن كان معتقداً للتحريم آتياً للمعصية بدافع الشهوة فهذا هو المسلم العاصي خلافاً للخوارج الذين كفروا بالمعصية مطلقاً.

(1) المراد بالتكذيب بالقول هنا ما يدل على التكذيب، ولا يلزم التصريح بالقول بالتكذيب، فالتكذيب بالقول لا يستلزم القول بالتكذيب كأنه يقول:"أنا مكذب بالرسول مثلاً" فهذا كفره من نوع آخر، والشاهد على ذلك هو استشهاده بقصة المستهزئين بقولهم (إنما كنا نخوض ونلعب) وهم لم يقولوا قولاً فيه التصريح بالتكذيب بل كفرهم من باب سقوط عمل القلب من محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وتوقيره والانقياد لدينه فانتبه لهذا.

(2)

"الصارم المسلول" لابن تيمية صـ524.

(3)

كما سبق أن ذكرنا أن كفره إما بسقوط قول القلب أي تصديقه فيكون كافراً كفر تكذيب، أو سقوط عمل لب بسقوط التزامه التزام الطاعة وانقياده ومحبته وتوقيره.

ص: 63

فالمرجئة: جعلوا فساد الاعتقاد القلبي - ودليله عندهم هو التصريح بالتكذيب فقط - هو السبب الوحيد للكفر ولم يعتبروا أن هناك عمل من الأعمال قد يكون مكفراً بذاته بمجرد فعله لدلالته على سقوط الاعتقاد القلبي.

والخوارج: جعلوا جميع الأعمال من المعاصي والمكفرات دلالة على سقوط الاعتقاد القلبي فكفروا فاعلها. فكانوا مع المرجئة على طرفي نقيض.

وأهل السُّنَّة والجماعة: فرقوا بين أعمال المعصية. وأعمال الكفر فشرطوا فساد الاعتقاد أو استحلال المعصية لكفر فاعلها، واعتبروا فاعل الكفر كافراً بذلك، لدلالته على سقوط الاعتقاد القلبي.

كما أن بهذا التفريق الصحيح يتضح معنى قول السلف عند ذكرهم أي عمل من أعمال المعصية - أنه إذا فعلها عاصياً لم يكفر طالما هو معتقد لحرمتها، وإن فعلها جحوداً كفر بذلك، فهذا في الأعمال التي يؤخذ من ظاهرها المعصية كالزنا. وقد سقط من دخلت عليهم شبه المرجئة مرة أخرى في هذا المقام، فاعتقدوا أن الجحود هو التكذيب، فهذا المعنى يتساوق مع ما ذهبوا إليه من معان في الإيمان والتصديق والإقرار وغير ذلك.

ومما يدل على أن الجحود بمعنى التكذيب ليس هو المخرج من الملة فقط، بل إما لتكذيب ما يجب التصديق به، أو قول ما يجب عدم قوله، أو عمل ما لا يجب عمله من الكفر، ما قاله ابن حزم:"بل الجحد لشئ مما صح البرهان أنه لا إيمان إلا بتصديقه، كفر، والنطق بشئ من كل ما قام البرهان أن النطق به كُفر، كفر، والعمل بشئ مما قام البرهان بأنه كُفر، كَفر"(1) .

(1)"الملل والنحل" لابن حزم جـ3 ص213.

ص: 64

ويقول كذلك: "وقد قال عز وجل: (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سوَّل لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما أنزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم) فجعلهم تعالى مرتدين كفاراً بعد علمهم بالحق وبعد أن تبين لهم الهدى بقولهم للكفار ما قالوا فقط.

وأخبرنا تعالى أنه يعرف إسرارهم ولم يقل تعالى إنها جحد أو تصديق بل قد صح أن في سرهم التصديق لأن الهدى قد تبين لهم ومن تبين له شئ فلا يمكن البتة أن يجحده بقلبه أصلاً.

وأخبرنا تعالى أنه قد أحبط أعمالهم باتباعهم ما أسخطه وكراهيتهم رضوانه.

وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) .

فهذا نص جلي وخطاب للمؤمنين بأن إيمانهم يبطل جملة وأعمالهم تحبط برفع أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم دون جحد كان منهم أصلا ولو كان منهم جحد لشعروا له، والله تعالى أخبرنا بأن ذلك يكون وهم لا يشعرون، فصح أن من أعمال الجسد ما يكون كفراً مبطلاً لإيمان فاعله جملة ومنه ما لا يكون كفراً. لكن على ما حكم الله تعالى به في كل ذلك ولا مزيد" (1) .

والجحود لغة: الإنكار بعد العلم (2) . وهذا المعنى يتضمن شكلاً آخر للجحود وهو التغيير لما ثبت بعد العلم بحقيقته.

قال تعالى: (قال نكّروا لها عرشها) قال القرطبي: أي غيروه.

فالتنكير أو الإنكار تغيير للشئ بعد العلم به، فيكون للجحود - إذن - معنيان شرعيان في القرآن الكريم:

(1)"الملل والنحل" لابن حزم جـ4 ص220.

(2)

مختار الصحاح 108.

ص: 65

أولاً: معنى التكذيب وهو يقابل الاعتقاد القلبي، وهو ما صدر من فرعون وملئ الذين قال الله تعالى فيهم:(وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً) وهذا المعنى يتضمن التغيير بالفعل، فهم قد غيروا ما ثبت عندهم بيقين في قلوبهم فغيروه بألسنتهم وأنكروه أي جحدوه.

ثانياً: معنى التغيير الصريح: هو ارتكاب عمل مكفر مغيراً بذلك ما ثبت عنده أنه من عند الله عز وجل مع التصديق به - وهو المعنى الذي حكم الله تعالى به بالكفر على اليهود في آية المائدة: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)(1) .

فإن من المعلوم في سبب نزول الآية أن اليهود إنما غيروا الحكم الذي في التوراة دون حذفه منها، ودون اعتقاد أن هناك حكم جديد مستأنف نزل من عند الله تعالى، وإنما هم غيروه مع إثبات الحكم الأصلي، وكان ذلك لمجرد اشتداد الأمر عليهم، وعدم قدرتهم على تنفيذه لفسقهم. يقول الطبري في تفسير قوله تعالى:(وكيف يحكِّمونك وعندهم التوراة) .

"وعندهم التوراة التي أنزلتها على موسى، والتي يقرون بها، وأنها حق، وأنها كتابي الذي أنزلته على نبي، وأن ما فيه من حكم فمن حكمي. يعلمون ذلك لا يتناكرونه ولا يتدامغونه. ويعلمون أن حكمي فيها على الزاني المحصن الرجم، وهم مع علمهم بذلك ويتولون. يقول: يتركون الحكم به بعد العلم بحكمي فيه جراءة عليَّ وعصياناً لي"(2) .

والحق أن هذا القول في المسألة لا يحتمل المكابرة، فليس في منطوق العبارات ولا في مفهومها أي إشارة إلى ما يزعمون أنه "الحق الإلهي" الذي بمقتضاه يغيِّر بعض النصارى واليهود الأحكام لما يعتقدون في أحبارهم أن الوحي لا يزال ينزل عليهم ليغيروا ما عندهم بإرادة الله. هذا شئ وما ورد عن كفر من غيَّر الشرائع مع إقرارها شئ آخر.

(1) المائدة 44.

(2)

الطبري جـ6 ص 247.

ص: 66

ويؤكد ذلك ما رواه الطبري بسنده عن السدِّى: "كان بنو إسرائيل أنزل الله عليهم: إذا زنى منكم أحد فارجموه، فلم يزالوا بذلك حتى زنى رجل من خيارهم، فلما اجتمعت بنو إسرائيل يرجمونه، قام الخيار والأشراف فمنعوه، ثم زنى رجل من الضعفاء، فاجتمعوا ليرجموه، فاجتمعت الضعفاء فقالوا لا ترجموه حتى تأتوا بصاحبكم فترجموهما جميعاً، فقالت بنو إسرائيل: إن هذا الأمر قد اشتد علينا.. فتركوا الرجم وجعلوا مكانه أربعين جلدة.."(1) .

فأين بربك "الحق الإلهي" الذي يزعم بعض الناس أن اليهود وقد غيَّروا حكم التوراة في الزنا بمقتضاه؟ إنه من الواضح أنهم لم يعتقدوا تبديل الحكم من عند الله تعالى، وإنما هي صورة أخرى من الكفر يعرضها الله تعالى على عباده رمزاً لمن يبدل الشرع ويغيِّره - فيكون بذلك جاحداً له بالفعل - ويعبد الناس لشرع جديد مستأنف مستعيضاً به عن شرع الله المحكم كما فعلت اليهود.

أما عن قوله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله..)(2) الآية.

فإنه لا يلزم منها صورة واحدة، هي صورة من يمحو من كتاب الله حكماً ليثبت حكماً آخر ينسبه لله تعالى، وإنما هي تحتمل كذلك معنى كل من يكتب كتاباً في الدين ويجعله تفسيراً لآيات الله الثابتة عنده، فينسبه بذلك لله تعالى برغم ثبوت الحكم لله عنده، وإنما كتب هو تفسيره من هواه، وبهذا اعترض صاحب المنار على السيوطي في تفسيره أن هذه الآية فيمن يمحو حكماً ويثبت آخر فقط. يقول صاحب المنار:

"إنما الآية وعيد على من لبَّسوا على الناس بالكتابة وتأليف الكتب الدينية وإيهام العامة أن كل ما كتبوه فيها مأخوذ من كتاب الله.."(3) .

أما عن قول الجلال السيوطي في تفسيره: "إنهم كانوا يكتبون الأحكام على خلاف ما هي عليه في الكتاب كآية الرجم ووصف النبي صلى الله عليه وسلم".

(1) الطبري جـ6 ص 235.

(2)

البقرة 79.

(3)

المنار جـ1 ص 360.

ص: 67

فهذا يجب أن لا يحمل على أنهم كانوا يثبتون هذه الأحكام الجديدة في التوراة نفسها، والدليل على هذا مشهور مستفيض مما ورد في أسباب نزول آية المائدة من أنهم أتوا الرسول صلى الله عليه وسلم بالتوراة ليتلوها عليه، فوضع أحدهم إصبعه على موضع آية الرجم فيها ليكتمها عنه. أخرج الشيخان واللفظ للبخاري:".. فقال لليهود ما تصنعون بهما؟ قالوا نسخم وجوههما ونخزيهما، قال: (فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) ، فجاؤا فقال لرجل منهم ممن يرضون: اقرأ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه، قال ارفع يدك، فرفع فإذا آية الرجم تلوح قال: يا محمد فيها آية الرجم ولكننا نتكاتمه بيننا فأمر بهما فرجما".

كما أنه قد روى أنهم إنما قد نزعوا إلى الرسول صلوات الله عليه ليأخذوا حكمه ليكون لهم رخصة عند الله فعلم أنهم إنما لم يكونوا ينسبون حكمهم الجديد لله تعالى. روى الطبري: ".. قالوا سلوه لعلكم تجدون عنده رخصة"(1) .

وفيما أوردنا الكفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

ثانياً: الإصرار والرد:

الإصرار لغة: هو الإقامة على الشئ والمداومة عليه (2) .

وهو العزم بالقلب على الأمر، وترك الإقلاع عنه (3) .

وشرعاً: هو الإقامة على فعل الذنب أو المعصية مع العلم بأنها معصية دون الاستغفار أو التوبة (4) .

قال قتادة "الإصرار" الثبوت على المعاصي (5) .

فالإصرار إذن - كما يتضح من التعريفين اللغويين: له جانب ظاهري وجانب باطني ثم إن له وجهان قد يدل عليهما من الناحية الظاهرية التي هي التكرار للعمل بالذنب والمداومة عليه.

(1) الطبري جـ6 ص 242.

(2)

مختار الصحاح ص 384.

(3)

القرطبي جـ4 ص 211.

(4)

القرطبي جـ4 ص 211.

(5)

القرطبي جـ4 ص 98.

ص: 68

1 -

فإما أن يكون تكرار الفعل والمداومة عليه دلالة على استحلال القلب لهذه المعصية، ورد الشرع فيها وعزم القلب على عدم تركها أبداً، فيكون المصر في هذه الحالة - وهو الذي ظاهره التكرار - كافراً وهو قول الخوارج.

يقول ابن حزم: ".. وقالوا من كذب كذبة صغيرة أو عمل عملاً صغيراً فأصر على ذلك فهو كافر مشرك وكذلك في الكبائر"(1) .

وفي هذه الحالة لا يكون تكرار الفعل مجرداً من العمل الباطن للقلب، وإنما يكون مصحوباً بعقد القلب على استحلاله وإن لم يظهر من العاصي إلا تكرار فعل المعصية الذي اتخذه الخوارج دلالة على الاستحلال.

2 -

أن يكون تكرار الفعل والإقامة عليه دلالة على قوة الشهوة الدافعة للذنب مما يجعله مستمراً في فعله مقيماً عليه، بمعنى تكراره وإضافة ذنوب بعضها إلى بعض دون المساس بعقد القلب، ويخشى على صاحبه سوء العاقبة لاحتمال انتكاس القلب برد الشرع في أية لحظة.

وهذا ما ذهب إليه جمهور السلف من عدم تكفير المصر - بمعنى المداوم على العمل دون توبة أو استغفار - لعدم اعتبارهم تكرار الذنب دلالة على استحلال القلب. هذا في الظاهر، وأما في الباطن فإن ثبوت عقد القلب على عدم ترك المعصية وانعقاده على ذلك يكون مكفراً لصاحبه على الحقيقة، وإن لم يستدل بمجرد التكرار للذنب على ذلك المعنى.

والحق في هذه المسألة هو ما ذهب إليه جمهور السلف والأئمة، فإنه من المعلوم أن الشهوة الدافعة للمعصية أو النفرة من فعل الأمر قد تستمر في القلب فتبعده عن طاعة الله أو استغفاره رغم انقياده وإذعانه للأمر وحبه للعدول عن المعصية، فيظل مقيماً على الذنب مكرراً له دون توبة منه أو استغفار، وإن لم يعقد قلبه على عدم العدول عنه أبداً.

(1)"الملل والنحل" لابن حزم جـ4 ص 190.

ص: 69

يقول ابن تيمية: "وبهذا يظهر الفرق بين العاصي فإنه يعتقد وجوب ذلك الفعل عليه ويجب أن يفعله لكن الشهوة والنفرة منعته من الموافقة"(1) .

فلا دلالة للتكرار في حد ذاته - ظاهراً - على تغير عقد القلب الذي هو مناط الكفر في أعمال المعاصي - كما سبق أن قررنا في التفريق بين أعمال الكفر وأعمال المعصية - وأنه لابد من دلالة قطعية على سقوط عقد القلب أو فساد الاعتقاد لمرتكب المعصية ليثبت كفره، ومجرد التكرار لا يعتبر دلالة في ذاته على ذلك. من ناحية الظاهر.

فلهذه المسألة جانبان من النظر:

أولاً: في ظاهر الأمر: فإن الإصرار - الذي هو بمعنى تكرار الفعل وصورته الظاهرة الإقامة عليه - لا تعتبر دلالة بذاتها على تغير عقد القلب أو على استحلال المعصية الذي هو مناط الكفر في هذه الأعمال وإن خشى عليه ذلك في أية لحظة، وإنما تعتبر صغيرته - بتكرارها - كبيرة ينبه عليها ليقلع عنها.

ولا يصح الاحتجاج هنا بقاعدة تلازم الظاهر والباطن، بأن يقال: إنه طالما أن ظاهر الحال هو تكرار المعصية فهذا يدل على فساد الباطن وسقوط عقد القلب، فإننا نقول إنه إن كان الظاهر منحرفاً كان الباطن بحسبه، فإن كان ظاهر العمل معصية كان فاعلها فاسقاً باطناً، وإن كان الفعل كفراً كان الفاعل كافراً. ولا نقول إنه يستدل به على كفر دون أن يكون أصل الفعل مكفراً - إما بنص الشارع أو بما يقوم مقام النص من القواعد الثابتة القطعية - بمعنى أن الله سبحانه أطلق القول على مرتكب المعصية بأنه فاسق فيكون فاعلها فاسقاً، لأننا نجعل الظاهر دليلاً على الباطن، فلا يقول قائل إنه مؤمن كامل الإيمان بل يجب إثبات فسقه لما ظهر من حاله.

(1) الصارم المسلول ص 522.

ص: 70

وإن أطلق الله سبحانه اسم الكفر على عمل من الأعمال - سواء بالنص أو بما يقوم مقامه - كان فاعله كافراً لأننا نثبت التلازم بين الظاهر والباطن، أما أن تؤخذ قاعدة التلازم لإثبات قدر زائد عن مجرد الوصف الثابت شرعاً لمرتكب الفعل، ويستنتج منها شئ بدون دليل قطعي فهذا ما لا محل له، وهنا وقعت الخوارج في التكفير بالمعصية أو الإصرار.

ثانياً: على الحقيقة: فإن المقيم على الذنب المداوم عليه دون توبة له حالتان:

1-

إما أن يكون مصراً - أي مقيماً - بدافع الشهوة الجامحة للمعصية أو النفرة من فعل الأمر مع التزامه وانقياده قلبياً له، فهذا هو العاصي الذي تعتبر صغيرته كبيرة باعتبار إصراره عليها.

2-

أن يكون مصراً بمعنى أن ينعقد قلبه على عدم الترك للمعصية أبداً، فيكون معانداً لله سبحانه في أمره وهذا في حقيقته هو من سقط عقد قلبه، وذهب انقياده والتزامه وفسد اعتقاده، فهو كافر في الحقيقة عند الله عز وجل، وإن كنا لا نحكم بكفره ظاهراً حتى يأتي أمراً لا خلاف عليه في دلالته على الاستحلال كأن يعلن ذلك بنفسه، أو بما يدل عليه كأن يعلن أنه اتخذ هذا العمل أو هذا السبيل المغاير للشرع منهجاً ثابتاً لا يتغير وقاعدة لحياته، ودعا الناس إليه وأعلن محاسنه - حتى ولو لم يعلن استقباح الشرع في المقابل - فإن هذا دليل كافٍ على فساد اعتقاده واستحبابه لشرع غير شرع الله تعالى، فإن سبيله في فعل المعصية هكذا يكون كمن شرعها لتكون منهجاً وسُنة لا طارئ عارض يلم بالنفس فيدفعها للمخالفة ثم يذهب وإن تكرر مرات ومرات كما هو حال من أصر ولم يكفر.

فهذا الشأن دال على الكفر بالاستحلال، ولا سبيل إلى التأكد من كفر مرتكب المعصية المقيم عليها بغير هذا السبيل.

وقد قرر شارح الفقه الأكبر دلالة الاستحلال بما قلناه:

ص: 71

يقول: "إن استحلال المعصية صغيرة أو كبيرة كفر، إذا ثبت كونها معصية بدلالة قطعية وكذا الاستهانة بها كفر بأن يعدها هينة سهلة ويرتكبها من غير مبالاة بها ويجريها مجرى المباحات في ارتكابها"(1) .

ويقرر الإمام ابن القيم كفر من عزم بقلبه على المداومة وعدم الترك أبداً على الحقيقة لما سينشأ في قلبه من هذا من أحوال فيقول:

".. واعلم أن الإصرار على المعصية يوجب من خوف القلب من غير الله، ورجائه لغير الله، وحبه لغير الله، وذله لغير الله، وتوكله على غير الله، ما يصير به منغمساً في بحار الشرك. والحاكم في هذا ما يعلمه الإنسان من نفسه إن كان له عقل، فإن ذل المعصية لا بد أن يقوم بالقلب فيورثه خوفاً من غير الله، وذلك شرك ويورثه محبة لغير الله واستعانة بغيره في الأسباب التي توصله إلى فرضه. فيكون عمله لا بالله ولا لله. وهذا حقيقة الشرك.

نعم قد يكون معه توحيد أبي جهل، وعباد الأصنام. وهو توحيد الربوبية وهو الاعتراف بأنه لا خالق إلا الله ولو أنجى هذا التوحيد وحده، لأنجى عباد الأصنام، والشأن في توحيد الألوهية، الذي هو الفارق بين المشركين والموحدين" (2) .

ويقول ابن رجب في دلالة الاستحلال الظاهرة:

"قال تعالى (إنما النسئ زيادة في الكفر

) والمراد أنهم كانوا يقاتلون في الشهر الحرام عاماً فيحلونه بذلك ويمتنعون من القتال فيه عاماً فيحرمونه بذلك.

(1) شرح الفقه الأكبر ص 126.

(2)

مدارج السالكين ابن القيم جـ1 صـ 326.

ص: 72

وقال الله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم..) وهذه الآية نزلت بسبب قوم امتنعوا من تناول بعض الطيبات زهداً في الدنيا وتقشفاً. وبعضهم حرم ذلك على نفسه إما بيمين حلف بها أو بتحريمها على نفسه، وذلك كله لا يوجب تحريمه في نفس الأمر. وبعضهم امتنع منها من غير يمين أو تحريم على نفسه، فسمى الجميع تحريماً حيث قصر الامتناع منه إضراراً بالنفس وكفاً لها عن شهواتها.

ويقال في الأمثال: فلان لا يحلل ولا يحرم إذا كان لا يمتنع من فعل حرام ولا يقف عندما أبيح له، وإن كان يعتقد تحريم الحرام فيجعلون من فعل الحرام ولا يتحشى منه محللاً وإن كان لا يعتقد حله" (1) .

وأما عن قول الخوارج إن الإصرار على الذنب غير مكفر لصاحبه بشرط التوبة والاستغفار فهو كتحصيل حاصل، فإن من تاب واستغفر عاد كمن لا ذنب له، كما صح من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:"التائب من الذنب كمن لا ذنب له"(2) .

وصار تكرار المعصية ذنب جديد ومعصية عادية لا معنى للإصرار فيها، أي المداومة فيكون ترك الاستغفار أو التوبة لازم لمعنى الإصرار (3) كما نقلنا عن الطبري.

وقد قال القرطبي: "قال علماؤنا الاستغفار المطلوب هو الذي يحل عقد الإصرار، ويثبت معناه في الجنان، لا التلفظ باللسان، فأما من قال بلسانه أستغفر الله وقلبه مصر على معصية فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار وصغيرته لاحقة بالكبائر"(4) .

(1) جامع العلوم والحكم لابن رجب صـ 195.

(2)

رواه ابن ماجه والطبراني ورواته رواة الصحيح.

(3)

يفرق بين ترك التوبة أو الاستغفار وبين عقد القلب على عدم الإقلاع فهذا هو الكفر على الحقيقة، فانتبه.

(4)

القرطبي جـ 4 صـ 210.

ص: 73

هذا وجه وهناك وجه آخر هو حب الله ورسوله على غلبة الشهوة. والمتأمل في قوله تعالى: (ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين)(1) .

يرى أن الله سبحانه قد جعل من لم يصر على ذنبه بعد علمه به (2) ، واستغفر منه، في أعلى درجات الإيمان وأحسن أوصاف المؤمنين، فالقرآن "يأتي بالغايات تنصيصاً عليها" - كما سيأتي تفصيل ذلك في الباب الثالث - فيصف المؤمنين دائماً بأحسن صفاتهم المطلوبة فيرغب فيها أهل الحق ليسعون إليها، ويصف الكافرين بأبشع أوصافهم لينفر منها المؤمنين ويبتعدوا عنها (3) .

(1) آل عمران 135، 136.

(2)

وشرط العلم هنا قيل فيه تفاسير منها:

يعلمون: أي يذكرون ذنوبهم فيتوبون منها.

وقيل يعلمون: أني أعاقب على الإصرار.

وقيل يعلمون: أنهم إن تابوا تاب الله عليهم.

وقيل يعلمون: أن لهم رباً يغفر لهم. وقيل يعلمون: ما حرمت عليهم وغير ذلك، ولكن القول الأخير غير ظاهر لأنهم إن كانوا يجهلون حكم الحلال والحرام فهم معذورون لحين ورود الشرع بذلك لهم وبلوغ الحجة إليهم. فالأوامر والنواهي عموماً من الفروع. فيكون الأظهر هو أنهم يعلمون أن الله يعاقبهم على ذلك والله تعالى أعلم. راجع القرطبي جـ4 صـ 212.

(3)

راجع الباب الثالث من هذا الفصل الثالث.

ص: 74

فهذه الصفة التي وردت في الآية الكريمة ليست صفة المسلم العادي، وإنما هي صفة كمال الإيمان أي أن من أصر على الذنب - أي أقام عليه - ليس بالضرورة مشركاً بل يحتمل أن يكون كذلك إن انعقد قلبه على عدم الترك كما قلنا، أو أن يكون عاصياً لا يجعل له صفة الكمال في الإيمان لإقامته على الذنب فقط - دون عقد القلب - وترك التوبة منه، ولا يصح أن يفهم من الآية مفهوم مخالفتها بمعنى أن من لم يصر فهو المؤمن فيكون المصر كافراً! هكذا دون تفصيل، فهذا هو الفهم الناقص الذي لا يجمع بين أطراف الأدلة ولا يسير على منهج النظر الصائب، ولا يستلهم القواعد والأصول ومقتضياتها.

قبول الشرائع وردها بين الفرد والمجتمع:

قررنا فيما سبق أن مناط الكفر في أعمال المعاصي هو سقوط عقد القلب أو استحلال المعصية. والاستحلال أمر قلبي لابد من دلالة قطعية عليه ليمكن الحكم بكفر مرتكبها.

وإن إقدام الفرد على معصية الله تعالى ومداومته عليها يعتبر إصراراً منه عليها وكبيرة من الكبائر – كما اعتبرها الإمام ابن حجر الهيثمي في الزواجر، الكبيرة الرابعة والثلاثون – وكما تبين من قبل لا يعتبر دلالة على رد الشرع أو الأمر والنهي بظاهره إلا إن أخذ صورة الدوام والعرف المتبع، وأصبح مبدأ ثابتاً يدعو إليه ويستحسنه مع علمه لمخالفته لأمر الله تعالى

فبهذه الضوابط يعتبر ظاهر فعله كفراً هذا بالنسبة للفرد، أما المجتمعات فتختلف الدلالات بالنسبة لها.

فإن الفقهاء قد وضعوا شروطاً محددة واعتبروا أوضاعاً معينة ظاهرة هي التي تفرق بين دار الإسلام ودار الكفر، فمتى تحققت هذه الشروط اعتبرت هذه المجتمعات بحسبها.

ص: 75

وإن تواضع مجتمع ما بأفراده وهيئاته على إقرار معصية من المعاصي بحيث تصير غير منكرة بينهم، بل هي المتعارف عليها المعمول بها، المستنكر خلافها (1) ، فهذا ولاشك يحمل دلالة على رد الشرع وعدم الانقياد له من المجتمع جملة، وإن لم يلزم من ذلك اعتبار أفراده خارجين عن الإسلام فرداً فرداً.

والحق أنه ليس هناك مجتمع يعلن الإسلام – ولو باللسان – ثم يعلن إنكار للرسالة أو جحود الشرائع جملة، وإنما هو الوقوع في أعمال الكفر مع الإقامة على تصديق الرسالة والاعتراف بربوبية الله تعالى.

وقد ذكر الفقهاء الدلالة التي يعتبر فيها المجتمع منخلعاً عن الإسلام ويتحول إلى دار كفر بعد أن كان دار إسلام، فأجمعوا على أنها الحكم بغير ما أنزل الله، والتحاكم إلى غير شريعته، وارتفاع لواء شرع غير شرعه تجرى على أساسه جميع معاملات هذا المجتمع (2) ، فهذه دلالة قطعية على رد هذا المجتمع للشريعة جملة، وخروجه عن الإسلام كلية، وإن كان هذا لا يعني كفر أفراده فرداً فرداً.

(1) ومثال ذلك الأعمال التي يقرها ويتواضع على فعلها والإقامة عليها ويجريها مجرى المباحات بل والمستحبات في التعامل كمصافحة الرجال للنساء، والتي أصبحت تعتبر فرضاً واجباً على كل رجل يقابل امرأة أجنبية، ويستنكر غيره عليه سوء أدبه إن لم يصافحها وإخجاله إياها بترك مصافحتها، فهذا إجراء للمصافحة المحرمة على أنها فرض واجب بذم تاركه وقس على ذلك كثير من العادات الجاهلية.

(2)

راجع بالتفصيل بدائع الصنائع للكاساني جـ 9 كتاب السير صـ 4374.

ص: 76