المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الخطأ في فهم معنى الكفر العملي - حقيقة الإيمان

[طارق عبد الحليم]

الفصل: ‌ الخطأ في فهم معنى الكفر العملي

ثم يفسر بعدها ما أردناه فيقول: "والمقصود هنا أن من قال من السلف الإيمان قول وعمل، أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، ومن أراد الاعتقاد رأى أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك فزاد الإعتقاد بالقلب، ومن قال قول وعمل ونية، قال: "القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يفهم منه النية فزاد ذلك، ومن زاد اتباع السُّنَّة فلأن ذلك لا يكون محبوباً لله إلا باتباع السُّنَّة، وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل، إنما أرادوا ما كان مشروعاً من الأقوال والأعمال، ولكن كان مقصودهم الرد على المرجئة الذين جعلوه قولاً فقط، فقالوا بل هو قول وعمل، والذين جعلوه أربعة فسروا مرادهم كما سئل سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو، فقال: قول وعمل ونية وسُنة، الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سُنة فهو بدعة" (1) .

ثم إن الشبهة قد دخلت على من دخلت عليه - قديماً وحديثاً - في هذا الباب من أمرين رئيسيين:

أولهما:‌

‌ الخطأ في فهم معنى الكفر العملي

.

الثاني: الخلط فيما هو لازم لإجراء الحكم في الظاهر وما هو من أحكام الآخرة.

فنقول وبالله تعالى التوفيق:

أولاً: الخطأ في فهم معنى الكفر العملي:

فقد جرى هؤلاء في فهم الكفر العملي على أنه كفر لا يخرج من الملة مطلقاً، واعتقدوا أن كل عمل مكفر بالجوارح هو كفر عملي لا يخرج من الملة لوقوعه بالجوارح وعدم دخول الاعتقاد فيه - ولا ندري كيف ظنوا أن ارتكاب أي عمل مكفِّر لا يلازمه سقوط الاعتقاد؟! فيكون كل كفر عملي عندهم كفراً أصغر لا ينقل عن الملة!!.

والمقصود بالكفر العملي أنه المعاصي التي أطلق عليها الشارع اسم الكفر، ولكن لم يمكن اطلاق الكفر الأكبر عليها لوجود أدلة أخرى من الشريعة تدل على أنها ليست منه.

(1)"الإيمان" لابن تيمية ص146 وبعدها.

ص: 40

يقول صاحب كتاب "أعلام السُّنَّة المنشورة لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة":

"هو كل معصية أطلق عليها الشارع اسم الكفر مع بقاء اسم الإيمان على عامله، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، فأطلق صلى الله عليه وسلم على قتال المسلمين بعضهم بعضاً أنه كفر، وسمى من يفعل ذلك كافراً، مع قول الله تعالى: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما

إلى قوله تعالى: (إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم) . فأثبت الله تعالى لهم الإيمان وأخوة الإيمان ولم ينف عنهم شيئاً من ذلك.

ص: 41

وقال تعالى في آية القصاص: (فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) ، فأثبت تعالى له أخوة الإسلام ولم ينفها عنه، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن والتوبة معروضة بعد"، وزاد في رواية:"ولا يقتل وهو مؤمن - وفي رواية ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم" الحديث في الصحيحين مع حديث أبي ذر، فيهما أيضاً قال صلى الله عليه وسلم:"ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق ثلاثاً، ثم قال في الرابعة: "على رغم أنف أبي ذر"، فهذا يدل على أنه لم ينف عن الزاني والسارق والشارب والقاتل مطلق الإيمان بالكلية مع التوحيد، فإنه لو أراد ذلك لم يخبر بأنه من مات على لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن فعل تلك المعاصي (1)

(1) نريد أن ننبه هنا إلى أنه أثبت دخول الجنة ونفى الكفر عن الموحد الفاعل للمعاصي، أما ترك الفرائض فذلك مقام آخر، وله منزلة أخرى فقد توجب الفريضة التي تركها عليه الكفر الأكبر وقد لا توجب، ومن سوى بين فعل المعصية وترك الفريضة فهو من المرجئة، كما سبق أن نقلنا عن ابن رجب قوله:"قال ابن عيينة: المرجئة سموا ترك الفرائض ذنباً بمنزلة ركوب المحارم وليس سواء لأن ركوب المحارم متعمداً من غير استحلال معصية، وترك الفرائض من غير عذر أو جهل كفر". راجع جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 41 كما قال ابن تيمية في نفس المعنى: "قاعدة في أن جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه، وأن جنس ترك المأمور به أعظم من جنس فعل المنهي عنه، وأن مثوبة بني آدم على أداء الواجبات أعظم من مثوبتهم على ترك المحرمات، وأن عقوبتهم على ترك الواجبات أعظم من عقوبتهم على فعل المحرمات

" مجموعة الفتاوى جـ2 ص85 وقد استدل ابن تيمية على ذلك باثنين وعشرين دليلاً فارجع إليه.

ص: 42

، فلن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، وإنما أراد بذلك نقص الإيمان ونفي كماله" (1) إلا أن صاحب الكتاب نفسه قد بين بعد ذلك مباشرة أن هناك من أعمال الجوارح ما يوجب الكفر على صاحبه بمجرده إجماعاً، كالساجد للصنم، مثلاً، رغم أنه كفر بالعمل لا بالاعتقاد يقول:

"س: وإذا قيل لنا هل السجود للصنم والاستهانة بالكتاب وسب الرسول صلى الله عليه وسلم والهزل بالدين ونحو ذلك، هذا كله من الكفر العملي فيما يظهر فلم كان مخرجاً من الدين وقد عرفتم الكفر الأصغر بالعملي؟ "

ج: اعلم أن هذه الأربعة وما شاكلها ليس هي من الكفر العملي إلا من جهة كونها واقعة بعمل الجوارح فيما يظهر منها، ولكنها لا تقع إلا مع ذهاب عمل القلب من نيته وإخلاصه ومحبته وانقياده لا يبقى معها شئ من ذلك، فهي وإن كانت عملية في الظاهر فإنها مستلزمة للكفر الاعتقادي ولابد، ولم تكن هذه لتقع إلا من منافق مارق أو معاند مارد. وهل حمل المنافقين في غزوة تبوك على أن (قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا) إلا ذلك مع قولهم لما سئلوا (إنما كنا نخوض ونلعب) قال الله تعالى:(قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) . ونحن لم نُعرِّف الكفر الأصغر بالعملي مطلقاً بل بالعملي المحض الذي لم يستلزم الاعتقاد ولم يناقض قول القلب وعمله" (2) .

فتبين من هذا أن هناك ما يثبت كونه كفراً أكبر ناقل عن الملة، وهو من أعمال الجوارح، فلا يصح عندئذ أن يطلق عليه أنه كفر عملي بمعنى أنه كفر أصغر، لمجرد أنه قد أتى بالجوارح، حتى لا يختلط أمره بأفعال المعاصي التي يطلق عليها اسم الكفر - وهي من الكفر الأصغر - فيظن أن هذا من ذاك.

(1)"أعلام السنة المنشورة" المطبوع تحت اسم 200 سؤال وجواب في العقيدة لحافظ حكمي ص75.

(2)

"أعلام السنة المنشورة" ص76.

ص: 43

ومن ههنا وقعت الشبهة التي جعلت من أخطأ في فهم هذه التفرقة يجعل كل ما هو من أعمال الجوارح كفراً أصغر بدعوى أنه عملي، وحتى إن ثبت له أن ذلك من الكفر الأكبر، عاد فقال - نظراً لوجود هذه الشبهة عنده -: لكنه من أعمال الجوارح فهو كفر عملي، فهو إذن كفر أصغر لا ينقل عن الملة؟ فسبحان الله العظيم (1) .

ثانياً: الخلط فيما هو لازم لإجراء الحكم في الدنيا على ظاهر الأمر، وما هو من أحكام الآخرة:

فإن القاعدة أن إجراء الحكم في الدنيا يجرى على ظاهر الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة بن زيد المتفق على صحته: "أفلا شققت عن قلبه"، وفي الصحيحين:"إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم".

وهي قاعدة مقررة في الأصول، وهي عمدة الشريعة وعليها تقوم الأحكام كلها كما يقول الشاطبي (2) :

"ومن هنا جعلت الأعمال الظاهرة في الشرع دليلاً على ما في الباطن، فإن كان الظاهر منخرماً حكم على الباطن بذلك، أو مستقيماً حكم على الباطن بذلك أيضاً، وهو أصل عام في الفقه وفي سائر أحكام العاديات والتجربيات بل الالتفات إليها من هذا الوجه نافع في جملة الشريعة جداً والأدلة على صحته كثيرة جداً.

وكفى بذلك عمدة أنه الحاكم بإيمان المؤمن وكفر الكافر وطاعة المطيع وعصيان العاصي، وعدالة العدل وجرحة المجرح، وبذلك تنعقد العقود وترتبط المواثيق إلى غير ذلك من الأمور، بل هو كلية التشريع وعمدة التكليف بالنسبة إلى إقامة حدود الشعائر الإسلامية الخاصة والعامة" اهـ.

(1) راجع كتاب "كفاية الأخيار"جـ2ص200 وبعدها في إثبات أن الكفر يثبت إما بقول أو عمل أو اعتقاد.

(2)

"الموافقات" جـ1 كتاب الأحكام القسم الثاني المسألة العاشرة ص233.

ص: 44

وعلى هذا الأصل الكلي بنى العلماء والفقهاء قولهم في مسألة الإيمان، فأثبتوا ما هو لازم للحكم بظاهر الإسلام في الدنيا وجعلوه هو الإقرار باللسان افتراضاً منهم أن الناطق بالشهادتين مدرك لمدلولهما، ملتزم بالطاعة في الفروع عامة، تارك لأعمال الشرك جملة، فاعل لما هو مشترط لصحة الإسلام من أعمال بعد الدخول فيه بالشهادتين. فإذا ظهر منه بعدها خلاف ذلك من إتيان فعل من أفعال الشرك، أو ترك عمل من الأعمال المشترطة لصحة الإسلام حكم بكفره إما كفراً أصليا أو كفر ردة على خلاف بينهم في ذلك.

يقول ابن حجر العسقلاني في الفتح: "أما بالنظر إلى ما عندنا، فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا ولم يحكم بكفره إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود للصنم"(1)

(1) الفتح ج1 ص 46، وقد قال الحافظ قبلها:"والمعتزلة قالوا هو العمل والنطق والاعتقاد والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطاً في صحته والسلف جعلوها شرطاً في كماله" اهـ. ولا يشتبه عليك هذا القول فتقول: إن الحافظ يقول إن السلف جعلوا الأعمال شرطاً في كمال الإيمان؟ فنقول لك. إنه قد سبق أن نقلنا قول ابن تيمية وصاحب المعارج من أن المعتبر شرطاً في الكمال هو أكثر الأعمال وليس كلها، وعبارة الحافظ ليس فيها أن السلف اعتبروا كل الأعمال وإنما لفظه "السلف جعلوها شرطاً في الكمال" أي اعتبروا "الأعمال".

وهو لفظ عام يحتمل التخصيص فيجمع بينه وبين قول غيره حسب ما قررنا من قبل من أنه لا داعي لافتراض التضارب بين الأئمة والعلماء طالما أن هناك وجه مستقيم للجمع بين أقوالهم خاصة فيما يتصل بالعقيدة، ويكون مقصود الحافظ هنا هو أن السلف جعلوا أعمال الطاعات وترك المعاصي شرطاً في كمال الإيمان لا كل الأعمال مطلقاً، وهكذا عند كل من تكلم عن "الأعمال" وكونها شرط في كمال الإيمان بصفة عامة، فانتبه لهذا. راجع كلام ابن تيمية وحافظ حكمى ص20 وكلام ابن رجب هامش ص 22.

ص: 45

كذلك فيمن هو تارك للأعمال جملة، فإن كان كافراً كفراً باطناً - إلا أن ذلك مما يصعب إثباته في الظاهر - فلا ينبنى حكم عليه، ويكون مسلماً في أحكام الدنيا، حتى يثبت كفره بعمل من أعمال الشرك أو بترك عمل يوجب عليه الكفر بذاته.

يقول ابن تيمية: "وهذه المسألة لها طرفان "

أحدهما: في إثبات الكفر الظاهر.

الثاني: في إثبات الكفر الباطن".

ثم يقول بعدها:

"وبيان هذا الموضع مما يزيل الشبهة، فإن كثيراً من الفقهاء يظن أن من قيل هو كافر فإنه يجب أن تجرى عليه أحكام المرتد ردة ظاهرة، فلا يرث، ولا يورث ولا يناكح حتى أجروا هذه الأحكام على من كفروه بالتأويل من أهل البدع، وليس الأمر كذلك فإنه قد ثبت أن الناس كانوا ثلاثة أصناف: مؤمن وكافر مظهر للكفر ومنافق مظهر للإسلام مبطن للكفر، وكان في المنافقين من يعلمه الناس بعلامات ودلالات، بل من لا يشكون في نفاقه - كابن أبي وأمثاله - ومع هذا فلما مات هؤلاء ورثهم ورثتهم المسلمون، وكان إذا مات لهم ميت آتوهم ميراثه وكانت تعصم دماؤهم حتى تقوم السُّنَّة الشرعية على أحدهم بما يوجب عقوبته"(1) .

فانظر رحمك الله إلى هذه المعاني المفيدة والتي يثبت فيها مايلي:

أولاً: أن ترك الأعمال جملة يثبت الكفر الباطن ولاشك (2) وإن كان من الصعب إثبات ذلك على أحد من الناس، فلا ينبنى عليه حكم في الظاهر.

ثانياً: أن حد ذلك هو ارتكاب ما يوجب العقوبة بحكم الردة عليه إن ظهر منه ما يدل على الكفر الأكبر بدلالة قاطعة، كارتكاب عمل من أعمال الشرك، أو ترك عمل من الأعمال المشترطة لصحة الإسلام على خلاف فيها كما سبق.

ونخلص مما تقدم إلى:

1 -

أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي.

(1)"الإيمان الأوسط" ص159.

(2)

كما ذكرنا من قبل.

ص: 46

2 -

أن الزيادة والنقص التي تطرأ على الإيمان إنما هي في استكمال درجاته، وإنما للإيمان أصل أو حد أدنى ينجو به صاحبه من الخلود في النار، وهو توحيد الله عز وجل ومقتضياته من ترك الشرك وإتيان الأعمال المشترطة لصحة الإسلام - على خلاف فيها - عند من بلغته الشرائع.

3 -

إن لزوم جنس الأعمال - أعمال الجوارح - لتحقيق القدر المنجي من الخلود في النار هو ما تقتضيه قاعدة تلازم الظاهر والباطن المعتبرة أصلاً من الأصول الكلية في الشريعة، فإنه من المحال أن يتحقق بالقلب أصل الإيمان، ثم لا يدفع هذا الإيمان صاحبه إلى إتيان أي عمل من أعمال الجوارح بأية صورة من الصور طوال حياته، وهو ما عبر عنه ابن تيمية بما معناه أن وجود الإرادة الجازمة مع القدرة التامة، يمتنع معه ترك جميع الأعمال وإلا لم يصح التوحيد أصلا.

4 -

وأن فرع هذه المسألة هو إثبات الأعمال المعينة في المباني الأربعة، التي تشترط لصحة الإسلام - على خلاف فيها - كما ذكرنا من قبل.

وقبل أن نختم هذا الفصل نعود فنؤكد مرة أخرى على معان محددة خوفاً من اختلاطها في الأذهان وهي:

أولاً: أن لزوم جنس الأعمال الواجبة لتحقيق أصل الإيمان في القلب، إنما هو دلالة على تحقيق هذا الحد الأدنى من الإيمان الذي ينجو به صاحبه من الخلود في النار، وعدم هذه الأعمال بالكلية إنما هو كذلك دلالة على سقوط هذا القدر من الإيمان من القلب لتلازم الظاهر والباطن كما ذكرنا.

ص: 47

فالأعمال بذاتها لا تدخل في أصل الدين، وإنما هي مطلوبة بجنسها لتحقيق أصل الدين ولتكون دلالة عليه، فإن أصل الإيمان محله في القلب كما ذكر ابن تيمية في "الإيمان"(1) ، وإنما عدم هذه الأعمال الواجبة بالكلية دلالة على سقوط هذا الإيمان من القلب، تماماً كما اعتبرنا أن سب الرسول صلى الله عليه وسلم كفراً لدلالته على سقوط عقد القلب، بينما هو في ذاته عمل من الأعمال (2) ، فالأمر في ذلك أمر دلالة تدل على الكفر الأكبر أو على سقوط عقد القلب وانتفاء الإيمان بالكلية منه، فيجب التفريق بين أصل الإيمان بذاته وبين ما يدل على سقوطه بترك جملة الأعمال بالكلية حتى لا يظن الظان أن ذلك يعنى دخول الأعمال بنفسها في أصل الدين، وهو المذهب الذي سيأتي رده وإبطاله في معرض مناقشة الخوارج إن شاء الله تعالى.

ثانياً: أن هذه القضية لا تظهر إلا في حق من بلغتهم الشرائع، وطولبوا بها بالفعل، ولا تعارض بينها وبين إثبات أصل الدين الذي نزلت به الرسل جميعاً (3) والذي يخلو بذاته من الأعمال المطلوب فعلها. فإن هذا الأصل قد يتحقق عند من لم تبلغه شرائع عملية، كما يتحقق عند من مات قبل نزول هذه الشرائع، وفي هذه الحالة يكون إيمان هؤلاء - الذين لم يطالبوا بشرائع عملية لعدم وصولها إليهم أو موتهم قبل نزولها - قول وعمل كذلك، وعملهم هو ترك أعمال الشرك بالكلية مع ولائهم لله سبحانه وللمؤمنين.

(1) راجع كتاب الإيمان لابن تيمية ص308 طبعة المكتب الإسلامي.

(2)

راجع الصارم المسلول لابن تيمية.

(3)

وأصل الدين هو توحيد الله عز وجل بشقيه، الربوبية والألوهية أو العبادة، وهو بذاته يقتضي التحاكم إلى الله ورسوله والولاء لله ورسوله والتوجه بالنسك والشعائر لله تعالى وحده، وهذا الأمر يتحقق حتى قبل نزول أية شرائع عملية يكلف بها المؤمنون كما كان حادثاً في العصر المكي مثلاً.. وتفصيل ذلك في كتابنا الأول عن "التوحيد" فارجع إليه.

ص: 48