الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أو قوله تعالى: "إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم"(1) ، إلى غير ذلك من الآيات التي تحمل نفس هذا المعنى من رحمة الله عز وجل ومغفرته.
هذه هي النقاط الثلاث التي يدور حولها فكر الإرجاء – قديماً وحديثاً – والتي تأثر بها بعض "دعاة الإسلام" تأثراً شديداً دون علم بالأصول التي ينحدر منها هذا الفكر.
وسنحاول – إن شاء الله تعالى – فيما يأتي – أن نرد على هذه الشبهات – الثانية والثالثة – بعد أن بينا مذهب أهل السُّنَّة والجماعة في الأول وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وحقيقة الإيمان ومقام التصديق فيه. والله أعلم.
الفصل الثاني
أحاديث الشفاعة وحقيقة الشهادتين
وردت في السُّنَّة الشريفة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفيد أن من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، وما يجري مجراها في المعنى، فتعلق بها المرجئة، وأجروها على ظواهرها، واعتبروا أن من تلفظ بالشهادتين فهو المسلم عند الله عز وجل، وهو الذي يحق له دخول الجنة بإذن الله. ومن هذه الأحاديث:
(1)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه" رواه البخاري.
(2)
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من عمل" رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري.
(1) الزمر 53.
(3)
عن عبادة بن الصامت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرم الله عليه النار". رواه مسلم والترمذي.
(4)
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل قال: "يا معاذ بن جبل. قال: لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثاً، قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار.." رواه البخاري ومسلم.
وغير ذلك من الأحاديث التي ذكر فيها نطق الشهادتين، وجعلها شرطاً لدخول الجنة، وترتيب النجاة على قولها أو شهادتها دون غيرها.
وقد اتفق أهل السُّنَّة والجماعة بلا خلاف بينهم على صرف هذه الأحاديث عن ظاهرها وتأويلها بوجه من الوجوه وعدم اعتبار عموميتها، ومن أقوالهم في ذلك:
يقول الإمام الشاطبي في شرح الطريقة التي يجب أن تتخذ منهجاً ومسلكاً لفهم الكتاب والسُّنَّة:
"
…
وللسنة هنا مدخل، لأنها مبينة للكتاب، فلا تقع في التفسير إلا على وفقه، وبحسب المعرفة بالتقديم والتأخير يحصل بيان الناسخ من المنسوخ في الحديث، كما يتبين ذلك في القرآن أيضاً. ويقع في الأحاديث أشياء تقررت قبل تقرير كثير من المشروعات، فيأتي فيها إطلاقات أو عمومات ربما أوهمت ففهم منها ما لا يفهم منها لو وردت بعد تقرير تلك المشروعات، كحديث:"من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة" أو حديث: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صادقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار"، وفي المعنى أحاديث كثيرة وقع من أجلها الخلاف بين الأمة فيمن عصى الله من أهل الشهادتين.
فذهبت المرجئة إلى القول بمقتضى هذه الظواهر على الإطلاق، وكان ما عارضها مؤولا عند هؤلاء. وذهب أهل السُّنَّة والجماعة إلى خلاف ما قالوه، حسبما هو مذكور في كتبهم وتأولوا هذه الظواهر.
ومن جملة ذلك أن طائفة من السلف قالوا إن هذه الأحاديث منزلة على الحالة الأولى للمسلمين وذلك قبل أن تنزل الفرائض والأمر والنهي، ومعلوم أن من مات في ذلك الوقت ولم يصل أو لم يصم مثلاً وفعل ما هو محرم في الشرع لا حرج عليه، لأنه لم يكلف بشئ من ذلك بعد، فلم يضيع من أمر إسلامه شيئاً، كما أن من مات والخمر في جوفه قبل أن تحرم فلا حرج عليه، لقوله تعالى:(ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح..) الآية، وكذلك من مات قبل أن تحول القبلة نحو الكعبة لا حرج عليه في صلاته إلى بيت المقدس، لقوله تعالى:(وما كان الله ليضيع إيمانكم..) ، وإلى أشياء من هذا القبيل فيها بيان لما نحن فيه، وتصريح بأن اعتبار الترتيب في النزول مفيد في فهم الكتاب والسُّنَّة" (1) .
ويقول الحافظ المنذري في كتابه "الترغيب والترهيب":
"وقد ذهب طوائف من أساطين أهل العلم إلى أن مثل هذه الإطلاقات التي وردت فيمن قال: "لا إله إلا الله دخل الجنة أو حرم الله عليه النار" ونحو ذلك، إنما كان في ابتداء الإسلام، حين كانت الدعوة إلى مجرد الإقرار بالتوحيد، فلما فرضت الفرائض، وحدت الحدود نسخ ذلك، والدلائل على هذا كثيرة متظاهرة. وإلى هذا القول ذهب الضحاك والزهري وسفيان الثوري وغيرهم، وقال طائفة أخرى: لا احتياج إلى ادعاء النسخ في ذلك، فإن كل ما هو من أركان الدين وفرائض الإسلام هو من لوازم الإقرار بالشهادتين.."(2) .
كما ذكر ابن رجب الحنبلي في كتابه "تحقيق كلمة الإخلاص" بعض آراء السلف في صرف هذه الأحاديث عن ظاهرها وفهمها وتفسيرها:
(1)"الموافقات" للشاطبي جـ3 ص 408 وبعدها من كتاب: الأدلة الشرعية، الدليل الأول المسألة الحادية عشرة.
(2)
"الترغيب والترهيب" للمنذري جـ2 ص 413.
"وقد ذهب طائفة إلى أن هذه الأحاديث المذكورة أولاً وما في معناها كانت قبل نزول الفرائض والحدود ومنهم الزهري والثوري وغيرهما. وهذا بعيد جداً، فإن كثيراً منها نزل بالمدينة بعد نزول الفرائض والحدود، وفي بعضها أنه كان في غزوة تبوك وهي في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهؤلاء منهم من يقول إنها منسوخة.
ومنهم من يقول هي محكمة ولكن ضم إليها شرائط، ويلتفت هذا إلى أن الزيادة على النص هل هي نسخ أم لا؟ والخلاف في ذلك بين الأصوليين مشهور.
وقالت طائفة: تلك النصوص المطلقة قد جاءت مقيدة في أحاديث أخرى، ففي بعضها:"من قال لا إله إلا الله مخلصاً"، وفي بعضها:"مستيقناً"، بعضها:"يصدق لسانه"، وفي بعضها:"يقولها حقاً من قلبه"، وفي بعضها: و"قد ذل بها لسانه واطمأن بها قلبه"(1) اهـ.
ثم ذكر ابن رجب بعد ذلك أقوالاً تفيد أنها مقيدة بشرائط لابد من تحققها، قال:
"وقال الحسن للفرزدق وهو يدفن امرأته: ما أعددت لهذا اليوم؟ قال شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة.
قال الحسن: نعم العدة لكن لـ (لا إله إلا الله) شرائط، فإياك وقذف المحصنة.
وقيل للحسن: إن ناساً يقولون من قال لا إله إلا الله دخل الجنة؟ فقال: من قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة.
وقال وهب بن منبه لمن سأله: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ فقال: بلى. ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك.. كما في الصحيحين عن أبي أيوب أن رجلاً قال يا رسول الله: أخبرني بعمل يُدخلني الجنة؟ فقال: تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم
…
كما دل قوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) .
(1)"تحقيق كلمة الإخلاص" ابن رجب الحنبلي ص 19.
على أن الاخوة في الدين لا تثبت إلا بأداء الفرائض مع التوحيد، فإن التوبة من الشرك لا تحصل إلا بالتوحيد" (1) .
كما أخذ الإمام الآجري بقول من قال من السلف أن هذه الأحاديث قبل نزول الفرائض فقال:
"فإن احتج محتج بالأحاديث التي رويت: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة"، قيل له: هذه كانت قبل نزول الفرائض على ما تقدم ذكرنا له، وهذا قول علماء المسلمين ممن نعتهم الله عز وجل بالعلم، وكانوا أئمة يقتدى بهم سوى المرجئة الذين خرجوا عن جملة ما عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان. وقول الأئمة والذين لا يستوحش من ذكرهم في كل بلد"(2) .
وما أوردناه من أقوال العلماء من أهل السُّنَّة والجماعة إنما هو دليل على أنهم - بإجماع - صرفوها عن ظاهرها وأولوها بوجه من وجوه التأويل، وإن اختلفوا في السبب الذي صرفت عن ظاهرها لأجله.
وإن هذا الأمر لهو المنزلق الوعر الذي انزلقت فيه أقوال الكثير من "دعاة الإسلام"، فظنوا أن مجرد نطق الشهادتين - بمعنى التلفظ بهما - هو مدار النجاة من الخلود في النار في الآخرة، ودخلت عليهم الشبهة التي دخلت على مرجئة العصر القديم من هذا الباب، باب الأحاديث التي أطلق فيها هذا القول السابق.
وقد رأينا أن أهل السُّنَّة قد اتفقوا على تأويلها - خلافاً للمرجئة - وإن اختلفوا في السبب.
والحق أن ما ذكره ابن رجب وغيره عن الطائفة التي ذكرت أن هذا القول هو حق قبل نزول الفرائض قد جانبها الصواب في هذا، فإن من هذه الأحاديث ما ورد من طريق أبي هريرة رضي الله عنه، ومعلوم أنه أسلم مؤخراً في المدينة في السنة السابعة للهجرة بعد نزول كثير من الفرائض، ومنها ما جاء في حين غزوة تبوك، فثبت بهذا أن هذا الاعتراض غير وارد.
(1) السابق ص 20.
(2)
"الشريعة" للآجرى ص 102.
والأمر أهون من ذلك - بإذن الله - إذا أخذنا في اعتبارنا أمرين في غاية الأهمية لإدراك المعنى الصحيح المقصود من هذه الأحاديث الشريفة، فإنها كلها حق والحمد لله، ولكن عدم فهمها على وجهها الصحيح أو الاستدلال بها في غير موضعها لهو ضرب من تلبيس الحق بالباطل فنعوذ بالله من ذلك.
والأمران هما:
(أ) النظر في مجموع الروايات الأخرى التي وردت فيها أحاديث الشفاعة نفسها لتشرح بعضها البعض وتفيد في تقرير معنى الشهادتين المعتبر شرعاً عند الله عز وجل.
(ب) اعتبار حقيقة الشهادتين التي رتب عليها الشارع دخول الجنة بقولها.
وسننظر في كلا الأمرين بشيء من التفصيل إن شاء الله تعالى.
(أ) النظر في مجموع الروايات:
إذا تتبعنا الأحاديث التي رتب فيها الشارع دخول الجنة أو التحريم على النار على قول لا إله إلا الله، وجدنا أنه قد رتب ذلك على هذا القول تارة، وعلى التوحيد تارة، وعلى انتفاء الشرك تارة في روايات الحديث المختلفة. ومثال ذلك:
1 -
حديث بني الإسلام على خمس: قد ورد بأربع روايات:
الرواية الأولى: حدثنا عبيد الله بن معاذ ثنا أبي ثنا عاصم وهو ابن محمد ابن زيد بن عبد الله بن عمرو عن أبيه قال: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان رواه مسلم.
الرواية الثانية: عن ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بُني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج البيت" رواه مسلم.
الرواية الثالثة: حدثنا سهل بن عثمان العسكري ثنا يحيى بن زكريا ثنا سعد بن طارق قال حدثني سعد بن عبيدة السُّلمى عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بني الإسلام على خمس: أن يعبد الله ويكفر بما دونه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان"(1) رواه مسلم.
الرواية الرابعة: حدثنا محمد بن عبد الله بن محمدالهمداني ثنا أبو خالد يعني سليمان بن حبان الأحمر عن أبى مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بنى الإسلام على خمسة: على أن يوحد الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان والحج، قال رجل: الحج وصيام رمضان. قال: لا صيام رمضان والحج، هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه مسلم.
كما جاء في معناها غير ذلك من الأحاديث ما يفيد أن الشهادتين تعنى ترك الشرك وعبادة الله وحده، وإنما التلفظ عنوان ذلك ودليله، منها:
"ما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة. قال: "تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان، قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا".
2-
حديث جبريل وله ثلاث روايات:
(1) 1، 2، 3، 4) رواها مسلم، راجع شرح النووي جـ 1 ص 176، ص 177 باب أركان الإسلام ودعائمه.
الرواية الأولى: ما رواه البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوماً بارزاً للناس إذ أتاه رجل يمشي فقال: يا رسول الله، ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ورسله ولقائه وتؤمن بالبعث الآخر. قال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان. قال: يا رسول الله، ما الإحسان؟ قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.. إلى أن قال: هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم".
الرواية الثانية: ما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوني فهابوه أن يسألوه فجاء رجل فجلس عند ركبتيه فقال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: لا تشرك بالله شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان. قال: صدقت. قال: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث وتؤمن بالقدر كله. قال: صدقت، قال: يا رسول الله، ما الإحسان؟ قال أن تخشى الله كأنك تراه فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: صدقت، قال: يا رسول الله، متى تقوم الساعة؟ قال ما المسئول عنها بأعلممن السائل، وسأحدثك عن أشراطها.. إلى أن قال: هذا جبريل أراد أن تعلموا إذ لم تسألوا".
الرواية الثالثة: ما رواه مسلم بسنده عن ابن عمر قال حدثني أبي عمر ابن الخطاب قال: "بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه، قال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال صدقت. قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه. إلى أن قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم".
3-
حديث وفد بني عبد القيس: وقد ورد برواتين عند مسلم:
الرواية الأولى: ما رواه مسلم بسنده عن ابن عباس قال: إن وفد عبد القيس أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"ممن القوم؟ فقالوا من ربيعة. فقال مرحباً بالوفد غير خزايا ولا ندامى، فقالوا: يا رسول الله إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل، نأخذ به ونأمر به من ورائنا وندخل به الجنة. فقال: آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا الخمس من المغنم، وأنهاكم عن أربع: عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت، فاحفظوهن وادعوا إليهن من وراءكم".
الرواية الثانية: ما رواه مسلم بسنده عن قتادة قال: حدثنا من لقى الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عبد القيس قال سعيد، وذكر قتادة أبا نفرة عن أبي سعيد الخدري في حديثه هذا أن ناساً من عبد القيس قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله إنا حي من ربيعة وبيننا وبينك كفار مضر، ولا نقدر عليك إلا في أشهر الحرم، فمرنا بأمر نأمر به من وراءنا وندخل به الجنة إذا نحن أخذنا به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان وأعطوا الخمس من المغنم وأنهاكم عن أربع: عن الدباء والحنتم والمزفت والنقير (1) ..".
4 -
حديث مبعث معاذ إلى اليمن: وورد بروايتين:
الرواية الأولى: ما رواه مسلم بسنده عن ابن عباس أن معاذاً قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة.. الحديث"(2) .
الرواية الثانية: ما رواه مسلم بسنده عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال: "إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم.. الحديث"(3) .
5 -
حديث أبي ذر الغفاري: وله ثلاث روايات:
(1) رواه مسلم راجع شرح النووي جـ1 ص 188 وبعدها والأربع المذكورة في الحديث هي أنواع من الأوعية التي ينتبذ فيها للاسكار.
(2)
و (3) راجع شرح النووي جـ1 ص 196، ص 198.
الرواية الأولى: روى الإمام أحمد بسنده عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق، قال وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق، ثلاثاً، ثم قال في الرابعة: رغم أنف أبي ذر".
الرواية الثانية: ما رواه الإمام أحمد بسنده عن أبي ذر قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء ونحن ننظر إلى أُحد فقال يا أبا ذر، قلت: لبيك يا رسول الله. قال: ما أحب أن أُحداً ذاك عندي ذهباً أمسى ثالثة وعندي منه دينار إلا ديناراً لرصده - يعني لدين - إلا أن أقول في عباد الله هكذا وهكذا.. إلى أن قال: ذاك جبريل أتاني فقال: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة".
الرواية الثالثة: ما رواه البخاري ومسلم بسندهما عن أبي ذر قال: "خرجت ليلة من الليالي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده ليس معه إنسان، قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد. قال: فجعلت أمشي في ظل الفجر فالتفت فرآني، فقال: من هذا؟ ، فقلت: أبا ذر جعلني الله فداك. قال: يا أبا ذر تعال.. إلى أن قال: ذاك جبريل عرض لي من جانب الحرة، فقال: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة.
6-
أحاديث الشفاعة:
ما رواه مسلم: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله".
وما رواه مسلم: "من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله تعالى".
وما رواه بسنده عن ابن نمير: "من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار".
وما رواه أحمد بسنده عن أبي ذر حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يقول: يا عبدي ما عبدتني ورجوتني فإني غافر لك ما كان منك، يا عبدي إنك إن لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لقيتك بقرابها مغفرة".
وما رواه مسلم بسنده عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نفس تموت لا تشرك بالله شيئاً إلا حلت لها المغفرة إن شاء الله عذبها وإن شاء غفر لها".
وما رواه أبو يعلي بسنده عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع الحجاب، قيل: يا نبي الله وما الحجاب؟ قال: الإشراك بالله".
(7)
حديث معاذ وهو رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم: وله روايتان:
الرواية الأولى: ما رواه مسلم بسنده عن أنس بن مالك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن جبل رديفه على الرحل قال: "يا معاذ، قال: لبيك رسول الله وسعديك، قال: يا معاذ، قال: لبيك يارسول الله وسعديك، قال: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرم الله عليه النار. قال: يا رسول الله أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا، قال: إذاً يتكلوا، فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً".
الرواية الثانية: ما رواه مسلم بسنده عن معاذ بن جبل، قال: كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير، قال: فقال: "يامعاذ تدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله عز وجل أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً. قال: قلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ ، قال لا تبشرهم فيتكلوا"(1) .
(1) أما عن قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تبشرهم فيتكلوا" فإنه يخشى عليه الصلاة والسلام أن ينزلوها على غير وجهها، وذلك مشاهد فيمن لا علم له بالسنة والأحكام، فهو إنما يقتطع دليلاً من آية أو حديث فيقول به معرضاً عن القواعد الكلية وأصول الدين كلها، وقد ورد في الآثار ما يفيد النهي عن تحديث الناس بما لا تبلغه عقولهم في مواطن كثيرة، منها: ما ذكر أبو عمر بن عبد البر حافظ المغرب في كتابه: "جامع بيان العلم وفضله" عن ابن مسعود قال: "ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا يبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة". وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: "ما حدثت أحداً بشئ من العلم قط لم يبلغه علمه إلا كان ضلالاً عليه". وعن ابن عباس: "حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله".
ومن هنا يفهم منع الرسول صلى الله عليه وسلم معاذاً من ذكر الحديث خوفاً من تأويله على غير وجهه، ثم ذكره معاذ تأثماً من أن يكتم العلم الذي بلغه. وقد ورد عن عمر بن الخطاب في نفس المعنى من ضرورة فهم الآيات والأحاديث على وجهها ما ذكره الشاطبي في "الاعتصام" قال:"إنما هذا القرآن كلام فضعوه في مواضعه ولا تتبعوا به أهواءكم"، ويجرى معناه على الحديث الشريف كما هو واضح.
وفي هذا القدر الذي رويناه من روايات متعددة لأحاديث مشتركة الكفاية للتدلل على أن ما قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "من قال لا إله إلا الله" أنه هو الذي، "يعبد الله ولا يشرك به شيئاً" وهو الذي، "يوحد الله ويكفر بما دونه"، فهي كلها مترادفة وليست رواية منها أحق بالقبول من الأخرى، خاصة ويجمعها كلها وجه واحد وينتظم منها معنى واحد وهو أن القول هنا ليس هو مجرد التلفظ بل هو القيام بمدلولها من عبادة الله وترك الشرك، أي توحيد الله والكفر بما دونه كما قال تعالى:(فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفسام لها)(1) .
فإن من تلفظ بالشهادتين بلسانه دون أن يترك الشرك فهو لم يقلها بالمعنى الشرعي ولم يدخل الإسلام بعد.
ومن نطق بهما وهو لم يوحد الله، أو هو قائم على عبادة غيره، فهو كمن لم ينطق، بل هو باق على أصل الشرك لم يزل عنه.
فالمراد إذن بالشهادتين - بنص الأحاديث وظاهرها - هو ترك الشرك والتبري عن دين الكفر، فمن ظل على دين الكفر، أو كان على عمل من أعمال الشرك الأكبر. فهذا لم يأت بالشهادة التي تنجي صاحبها من الخلود في النار.
(1) البقرة 256.
وقد اعتبر الفقهاء نطق الشهادتين عنواناً ودلالة على الدخول في الإسلام (1) في ظاهر الأمر ليمكن إجراء الأحكام على أساسها في الدنيا بشرط عدم التلبس في الشرك. فهذا هو المناط الحقيقي للإسلام، والشهادتين إنما هما دلالة عليه وهو معنى ما سبق أن نقلناه عن الحافظ في الفتح، قال:
"فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا ولم يحكم عليه بكفر إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود للصنم"(2) .
فالإقرار هنا في أحكام الدنيا إنما هو معتبر بالنطق بالشهادتين على اعتبار تحقق الإسلام فعلا بترك الشرك وعبادة الله وحده، وعليه تجرى الأحكام الظاهرة، إلا في حالة التحقق من عدم التبرى من الكفر أو بالإقامة على الشرك بفعل عمل من أعماله. فهنا لا يحكم بالإسلام بالنطق بالشهادتين لعدم اعتبار دلالتها على الإسلام في حالة الاقتران بالكفر، وهو عين ما صرح به الحافظ.
(ب) اعتبار حقيقة الشهادتين:
فإن الله سبحانه وتعالى عندما يرتب حكماً شرعياً على أي قول، فهو إنما يرتبه على القول التام المقترن بالنية والمقصد، المتضمن لمدلوله ومقتضاه، لا على مجرد التلفظ الذي لا يحمل معنى، وإلا كان المنافقون مسلمين بنطقهم للشهادتين وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام.
(1) أي هي دلالة على الإسلام في الحالات التي تدل عليه فيها – والتي تكون عنواناً على ترك الشرك وعبادة الله وحده – وإلا فكما سبق أن قلنا أن هناك حالات لا تكون الشهادة فيها معتبرة كدليل على الإسلام، كاليهود الموحدين الذين أقروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولكن قالوا للعرب خاصة، فهؤلاء لابد وأن يقروا بأنه بعث للعالم أجمع، أو كمن كفر بجحد نبي أو فريضة أو نحوها. فيجب أن يقر بما جحده علاوة على الشهادتين حتى يحكم له بالإسلام. راجع هامش ص 2 الباب الأول والفصل الثاني من هذا الكتاب.
(2)
فتح الباري جـ1 ص 46.
قال تعالى: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله، والله يعلم إنك لرسوله، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون)(1) .
والمنافقون إنما ثبت لهم عقد الإسلام ظاهراً فقط، بقولهم الشهادة والتزامهم الشرائع، وإنما يعرف نفاقهم من قرائن تظهر منهم تدل على فساد دينهم، وإن لم تصل إلى حد الكفر الصراح في مدلولها أو ثبوتها عليهم، وإلا فإن دلت عليه أو ثبتت أقيم عليهم حكم الردة.
(1) سورة "المنافقون" آية 1، فالمنافق إن أبطن النفاق ظل باقياً على الحكم له بالإسلام، وإن أظهر الكفر فهو كافر لا محالة، وإنما كف عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعتبارات أخرى من المآلات كقوله عليه الصلاة والسلام:"لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه". راجع "زاد المعاد" جـ3 ص 8، وكما قال ابن القيم:"ومنها تركه قتل المنافقين وقد بلغه عنهم الكفر الصريح فاحتج به من قال لا يقتل الزنديق – إلى قوله – والجواب الصحيح إذاً أنه كان في ترك قتلهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم مصلحة تتضمن تأليف القلوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع كلمة الناس عليه، وكان في قتلهم تنفير والإسلام بعد في غربة ورسول الله صلى الله عليه وسلم أحرص شئ على تأليف الناس وأترك شئ لما ينفرهم عن الدخول في طاعته، وهذا أمر كان يختص بحال بحياته صلى الله عليه وسلم". "زاد المعاد" جـ 3 ص 16.
فيفهم من هذا أن الأمر احتمل مصلحة كبرى تقابلها مصلحة صغرى، وإزالة مفسدة صغرى قد ينشأ عنها مفسدة كبرى، فكان لابد من ترجيح جلب المصلحة الكبرى ودرء المفسدة الكبرى، حسب قواعد الأصول. أما بالنسبة لنا فإن "الاعتراض على الظواهر غير مسموع" كما يقول الشاطبي في الموافقات جـ4 ص 423 أحكام السؤال والجواب، فكل يعامل بما ظهر منه.
يقول ابن القيم: "فإن هذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار، فلابد من قول القلب وقول اللسان.
وقول القلب يتضمن من معرفتها والتصديق بها، ومعرفة حقيقة ما تضمنته من النفي والإثبات، ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله، المختصة به، التي يستحيل ثبوتها لغيره، وقيام هذا المعنى بالقلب علماً ومعرفة ويقيناً وحالاً ما يوجب تحريم قائلها على النار. وكل قول رتب الشارع ما رتب عليه من الثواب، فإنما هو القول التام" (1) .
وهذا المعنى إنما يأتي من أن الألفاظ لا تراد لذواتها وإنما تراد لمعانيها، يقول الإمام ابن القيم مدللاً على هذا المعنى في كلام بليغ:
"الألفاظ موضوعة للدلالة على ما في النفس":
إن الله تعالى وضع الألفاظ بين عباده تعريفاً ودلالة على ما في نفوسهم، فإذا أراد أحدهم من الآخر شيئاً عرفه بمراده وما في نفسه بلفظه، ورتب على تلك الإرادات والمقاصد أحكامها بواسطة الألفاظ، ولم يرتب تلك الأحكام على مجرد ما في النفوس من غير دلالة فعل أو قول، ولا على مجرد ألفاظ مع العلم بأن المتكلم بها لم يرد معانيه ولم يحط بها علماً، بل تجاوز للأمة عما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل به أو تكلم به، وتجاوز لها عما تكلمت به مخطئة، أو ناسية، أو مكرهة، أو غير عالمة به إذا لم تكن مريدة لمعنى ما تكلمت به، أو قاصدة إليه، فإذا اجتمع القصد والدلالة القولية أو الفعلية ترتب الحكم. هذه قاعدة الشريعة.. الخ" (2) .
(1)"مدارج السالكين" جـ1 ص 331.
(2)
"إعلام الموقعين" جـ3 ص 105.