الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: في تأويل النصوص الواردة في العقائد
النصوص في العقائد على ضربين:
الأول: ما ورد في عقيدة كُلِّف الناس باعتقادها.
والثاني: بخلافه.
فالأول هو: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والقدر. والنصوص على ذلك من الكتاب والسنة كثيرة شهيرة.
والمقصود من هذا الإيمان هو تحقيق ما أنشئ الإنسان هذه النشأة في الدنيا لأجله، وهو الابتلاء؛ {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة}
والهلاك هو العصيان، والحياة هي الطاعة. وبتفاوت الهلاك والحياة يتفاوت العصيان والطاعة، ولا يتصور عصيان وطاعة إلا ممن
علم الأمر والنهي؛ ولا يتصور العلم بأمره ونهيه إلا بعد الإيمان بأنه موجود حي -كما هو واضح- وبأنه قادر، إذ لا يعلم استحقاقه الطاعة إلا بذلك، وبأنه عالم، إذ لا تنبعث النفس على الطاعة وتنزجر عن المعصية إلا بذلك، وبأنه حكيم، إذ لا يعلم صحة النبوة ويوثق بالجزاء إلا بذلك.
وبأن الملائكة حق؛ لأنهم الوسائط بين الله وأنبيائه، والمبلغون لكتبه، فلا يعلم صحة الأمر والنهي، وأنه من عند الله إلا بعد الإيمان بهم.
وبأن كتب الله حق؛ لأنها هي الجامعة للأمر والنهي، فلا يعلم صحة ذلك إلا بالإيمان بها.
وبأن الأنبياء حق؛ لأنهم المبلغون للأمر والنهي، فلا يعلم صحة ذلك إلا بالإيمان بهم.
وثمّ تفاصيل ترجع إلى ما ذكر، كالإيمان بعصمة الملائكة المبلغين، والأنبياء بعد البعثة؛ لأن حكمة الله عز وجل تقتضي ذلك، ولا يتم الوثوق بالأمر والنهي إلا بذلك.
وبالبعث بعد الموت؛ لأنه لا يوثق بالجزاء إلا بذلك.
وبالقدر؛ لأنه لا يسلم الإيمان بقدرة الله تعالى وعلمه وحكمته إلا به، وقد اشتهر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: "إذا سلّم القدرية
بالعلم حجوا". ولهذا القول غور أبعد مما فهموه منه، وقد لوحت إليه، وعسى أن ألم به في موضع آخر.
وعامة ما ذكر يمكن إدراكه بالعقل، ولا سيما بعد تنبيه الأنبياء. فآيات الآفاق والأنفس تدل على وجود الله، إذ لا بد للأثر من مؤثر، فأي أثر تحس به في الكون لا بد له من مؤثر. فإذا فرض مؤثر حادث كان هو أيضا محتاجا إلى آخر، وهكذا حتى ينتهي الفكر إلى مؤثر غني بنفسه هو الله عز وجل.
والآثار في الآفاق والأنفس تدل على حياة المؤثر الأعظم، وقدرته، وعلمه، وحكمته؛ وما تدل عليه الآثار من حكمته يوجب العلم بأنه لم ينشئ الناس هذه النشأة عبثا، ولا يدعهم سدًى وهملا، ولا يكلهم إلى عقولهم المحدودة المختلفة، بل لا بد أن يرشدهم؛ ولا توجد في الكون صورة للإرشاد إلا النبوة، وبذلك تثبت النبوة، والملائكة والكتب أيضا. وأما العلم بنبوة رجل معين فتعلم بالمعجزات، وبالعلم بطهارة سيرته وحرصه على العمل بما جاء به سرا وعلنا، وباستقراء ما جاء به، وظهور أن عامته مطابق للحق
والعدل والحكمة. ولا يخدش في ذلك الجهل بوجه الحكمة في بعض ذلك، فإن ذلك ضروري؛ لأن الدين من شرع الحكيم العليم الذي أحاط بكل شيء علما، وعقل المخلوق وعلمه محدود، وأنت ترى عقول الناس مختلفة، فكم من أمر يجزم كثير من الناس بأنه خلاف الحكمة، فيجيء من هو أعقل أو أعلم منهم فيبين لهم وجه الحكمة، وقد قال الله عز وجل {وفوق كل ذي علم عليم} .
وكثير من الأحكام يحصل المقصود بالعمل بها، ولا يحتاج إلى العلم بوجه حكمتها، وقد يكون العلم بوجه الحكمة يفتقر إلى صرف مدة طويلة من العمر.
ومثل ذلك مثل الطبيب والمريض؛ فإن الطبيب يعلم من طبائع الأمراض والأدوية ما لا يعلمه المريض، ومن ذلك ما لا يدرك إلا بعد صرف مدة طويلة في التعلم، وقد يكون المريض ضعيف الفهم لا يتهيأ له معرفة ذلك ولو أتعب نفسه فيه؛ ففي مثل هذا ليس على الطبيب إلا إعطاء المريض الدواء المناسب، وليس عليه أن يشرح له حقيقة المرض، وأسبابه، وسبب تأثير الدواء؛ لأن هذا يطول ويتعب في غير فائدة، وبحسبِ المريض أن يعلم أن الذي أعطاه الدواء طبيب ناصح، والعلم بذلك لا يحتاج إلى استقراء مستغرق.
ولو قال المريض: لا آخذ الدواء حتى تشرح لي حقيقة المرض وأسبابه وحقيقة الدواء وتأثيره، لَعُدَّ أحمق الناس! ولطرده الطبيب
قائلا له: أنا أعالجك رحمة وشفقة، وقد قام عندك من الدلائل ما يكفي في علمك أني طبيب ناصح، وتعلم أن معرفة ما تريد أن أعرفك به يفتقر إلى علوم ليست عندك، ولعل فهمك لا يبلغها، واشتغالي بذلك إضاعة لوقتي ووقتك فيما لا حاجة إليه، وصرف الوقت في مداواة العُقل أولى بي من التحامق مع الحمقى!
هذا كله مع أن الطبيب بشر يجوز عليه الغش والخطأ.
وبالجملة؛ فالعلم بنبوة النبي له طرق بعضها أكمل من بعض، ولست الآن في صدد الاستيفاء.
والمقصود: أن الإيمان بما ذكر هو الذي يتوقف عليه معرفة الأمر والنهي. وقد بقي معنى مهم، وهو الإيمان بالوحدانية، فالوحدانية في الربوبية قد تكلم فيها أهل الكلام، ولا حاجة للإطالة فيها، وأما وحدانية الألوهية، فقد حققتها في رسالة العبادة، والحمد لله.
واعلم أن هذه الأمور الضرورية في الإيمان معلومة في الدين بالضرورة، فمن أراد أن يتأول بعض نصوصها تأويلا ينافي ما علم بالضرورة فلا نزاع في كفره.